ﰡ
من نبأ : من خبر عجيب.
وفيها نقصّ عليك بعض أخبار موسى وفرعون بالحقّ ليعتبر المؤمنون بما فيه.
إن فرعون تعاظَمَ في نفسه، وجاوز الحدّ في ظلمه، واستكبر في مصر، وفرّق أهلها فجعلهم فِرقاً وطوائف، يصطفي بعضهم ويسخّر البعض الآخر. لقد كان يستضعف بني إسرائيل، فيذبح الذكور من أولادهم ويستبقي الإناث، ﴿ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين ﴾.
وأراد الله أن يتفضّل على الذين استضعفهم فرعونُ في الأرضِ، وأن يمكّن لهم سلطانَهم.
هامان : وزير فرعون.
ويثبتَ لفرعون ووزيره هامان وجنودهما ما كانوا يخشونه من ذَهاب مُلكهم على يد مولود من بني إسرائيل.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :﴿ ويرى فرعونَ وهامان ﴾ بالياء وفرعون مرفوع وهامان كذلك، وقرأ الباقون :﴿ ويُري فرعونَ وهامانَ ﴾ بضم النون ونصب فرعون وهامان.
اليمّ : البحر والمراد هنا نهر النيل.
ولما وُلد موسى في أثناء تلك المحنة ألهمنا أمه أن تُرضعه وتخفيَه ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وقلنا لها : إن خِفتِ عليه فألقيه في النيل، في صندوق، ولا تخافي عليه ولا تحزني، فنحن سنردّه إليك، وسيكون من الأنبياء المرسلين.
فالتقطه آل فرعون وجاؤوا به إلى سيّدتهم، امرأة فرعون، فأحبّته تلك المرأة وقالت لزوجها : لا تذبحْه، بل اتركه ليكون لنا مصدر سرور وفرح. كانوا لا يدرون أنه سيكون لهم عدواً وسببَ حزنٍ كبير، بإبطال دينهم وزوال مُلكهم على يديه.. إن فرعون ووزيره هامان وجنودهما كانوا مجرمين.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :﴿ حُزنا ﴾ بضم الحاء وسكون الزاي، والباقون ﴿ وحَزنا ﴾ بفتح الحاء والزاي وهما لغتان.
﴿ وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ بما قدّر الله في شأنه.
وإن كادت لتبدي به : كادت تذهب إلى آل فرعون وتعرّف نفسها بأنها أمه.
ولولا أن ربطنا على قلبها : لولا أن ثبتناها وجعلناها تصبر.
وأصبح فؤادُ أم موسى فارغاً من العقلِ خوفاً على ابنها لوقوعه في يد فرعون، حتى إنها كادت تذهبُ الى آل فرعون وتعرِّف نفسَها بأنها أمه، لولا أن ثبّتها الله بالصبر.
فبصرت به عن جُنب : فأبصرته عن بعد وكأنها لا تريد أن تتبع أثره وهم لا يشعرون : لا يدرون أنها أخته.
وقالت لأخته : اقتفي أثر أخيك، وتتبعي خبره عن بعدٍ وهم لا يشعرون بك.
ولم يقبل موسى أن يرضع من أي امرأة، فقال أخته لآل فرعون : هل أدلكم على امرأة ترضعه وتقوم بأمره وتنصح في خدمته ؟ ووافقوا.
استوى : اعتدل وكمل عقله.
حُكما : حكمة.
فلما بلغ موسى رشده واكتمل نموه، واستوى جسما وعقلاً آتيناه حكمة ومعرفة وعلما، وكذلك نكافئ كل محسن.
على حين غفلة : في وقت لا يتوقعون دخوله.
من شيعته : من بني قومه.
من عدوه : من الأقباط.
فاستغاثه : طلب العون منه.
فوكزه : ضربه بجمع يده.
فقضى عليه : فقتله.
ودخل موسى المدينةَ على حين غفلةٍ في وقت ليس من المعتاد الدخولُ فيه، فوجد رجلين يقتتلان : أحدهما من بني دينه، والآخر من الأقباط. وحين استغاث به الذي من جماعته، ضرب موسى القبطيَّ بجُمعِ يده فقضى عليه من غير قصد، فقال : هذا من عملِ الشيطان، إنه عدوٌّ مضلٌّ ظاهر العداوة.
ظهيرا : معينا.
قال موسى : يا رب، بحقّ إنعامك عليّ بالحكمة والعلم وَفِّقْني للخير والصواب، ولن أكون بعدَ هذا معيناً للمجرمين.
استنصره : طلب نصره
يستصرخه : يطلب الإغاثة بصوت مرتفع.
لغويٌّ مبين : ضال كبير.
وأصبح في مصر خائفاً يترصد وقوع القصاص به. فإذا صاحبُه الذي استنجد به بالأمس يستغيث به ثانية، فقال له موسى : إنك شرير ضالّ.
ودفعته الغيرة عليه حتى هم أن يبطِش به فقال له الرجل : يا موسى، أتريد أن تقتلني كما قتلتَ نفساً بالأمس ؟ أتريد أن تكون طاغية في الأرض من الجبابرة السفاكين لا الخيّرين ! !
يسعى : يسرع.
الملأ : أشراف القوم ووجوههم.
يأتمرون بك : يتشاورون في أمرك.
وجاء رجلٌ من شِيعته من أقصى المدينة مسرعاً، فقال : يا موسى إن زعماء القوم يتشاورون في أمرك ليقتلوك، اخرج من مصر إني لك من الناصحين.
فخرج منها موسى وهو خائف يترقب أن يلحقه أحدٌ منهم، ضارعا الى الله أن ينجيه من الظالمين.
سواء السبيل : أوسط الطرق وأسهلها.
ولما توجه الى « مدين » لعله يجد فيها مأمناً، سأل ربه أن يهديه طريقَ الخير والنجاة.
أُمة : جماعة.
تذودان : تمنعان غنمهما عن الماء خوفاً من السقاة الأقوياء.
ما خطبكما : ما شأنكما.
حتى يصدر الرِعاء : حتى يسقي الرعيان وينصرفون. الرعاء والرعاة والرعيان بمعنى واحد.
وهناك في مَدْيَنَ وجد ماءً، وكان عليه جماعة كبيرة يسقون مواشيهم ووجد امرأتين في ناحيةٍ تمنعان أغنامهما أن ترد الماء، فسألهما عن شأنهما، ولماذا لا ترِدان الماء ؟ قالتا : لا نستطيع أن نسقي حتى ينصرف الرعاة، وأبونا شيخ كبير.
قراءات :
قرأ أبو عمرو وابن عامر :﴿ حتى يصدرُ الرعاء ﴾ بفتح الياء وضم الدال، والباقون :﴿ حتى يصدر ﴾ بضم الياء وكسر الدال.
فتولى موسى سقي غنمهما ثم انصرف الى الظل، وسأل ربه أن يسوق إليه رزقاً من خيره لأنه لا يملك شيئا.
ليجزيك : ليعطيك أجرَ ما سقيت لنا.
وقصّ عليه القصص : أخبره بخبره وقصته.
وبعد برهة جاءت إحدى الفتاتين تسير في حياء، وقالت له : إن أبي يدعوك ليعطيَك أجْرَ ما سقيتَ لنا. فلما ذهب معها الى أبيها وقص عليه قصة خروجه من مصر، قال له الشيخ : لا تخفْ، نجوتَ الآن من القوم الظالمين.
على أن تأجُرني ثماني حجج : على أن تكون عندي أجيرا مدة ثمان سنين، فإن أتممت عشرا فمن عندك، فإن زدت وبقيت عندي مدة عشر سنين فهذا من فضلك.
وما أريد أن أشقّ عليك : لا أريد أن أدخل عليك مشقة.
فعرض عليه أبوهما أن يزوّجه واحدة من ابنتيه على أن يؤجِّره نفسَه مدةَ ثماني سنين، فإن أتمها عشراً كان ذلك من فضله.
فقبل موسى الشرط، وعاهده على الوفاء به.
فلا عدوان عليّ : لا حرج علي.
والله على ما نقول وكيل : شهيد.
وقال : أي مدة من المدّتين أقضيها في العمل أكون وفيتك عهدك فلا أطالب بزيادة عليها، والله شاهد على ما نقول.
لم يُذكر اسم الشيخ الكبير هذا في القرآن، ويقال إنه ابن أخِ شُعيب النبي، إذ أن موسى لم يدرك النبي شعيبا على الصحيح.
آنس : أبصر.
جذوة : جمرة ملتهبة.
تصطلون : تستدفئون.
فلما أتم موسى المدة التي اتفق عليها مع عمه حنّ إلى وطنه، فاستأذن بالرحيل وسار بزوجته وما معه من الغنم التي حصل عليها من صهره عائدا الى مصر. وكان الجو باردا، وقد أظلم الليل، فضلّ موسى الطريق. وبينما هو كذلك رأى ناراً من ناحية جبل الطور، فقال لزوجته : امكثي، اني رأيت ناراً، لعلّي آتيك منها بخبر عن الطريق، أو آتيك بشيء من النار تستدفئين بها.
قراءات :
﴿ جذوة ﴾ مثلثة الجيم وقرئ بها جميعا.
فلما وصل الى المكان الذي رأى فيه النار، سمع مناديا من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة يقول له : يا موسى، إني أنا الله ربّ العالمين.
ولم يعقّب : لم يرجع.
ألقِ عصاك. فألقاها موسى. فلما رآها تهتز كأنها حيّة هرب منها ولم يرجع إليها. فناداه ربّه : أقدم يا موسى ولا تخفْ، إنك من الآمنين.
الرهب : المخافة، الخوف.
أدخِل يدك في جيبك تخرج بيضاءَ من غير مرض ولا عيب ( وكان موسى أسمر اللون ) هاتان معجزتان من الله تواجه بهما فرعونَ وقومه.
ولما اعترى موسى الخوفُ من العصا وأخذته الدهشةُ من شعاعِ يده أمره ربه أن يضع يدَه على صدره ليزول ما به من الخوف، فقال :
﴿ واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب ﴾ قال ابن عباس : كل خائف إذا وضع يده على صدره زال خوفه.
قراءات :
قرأ حفص :﴿ من الرَهْب ﴾ بفتح الراء وسكون الهاء، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو :﴿ من الرَهَب ﴾ بفتح الراء والهاء، وقرأ حفص :﴿ من الرَّهْب ﴾ بفتح الراء وسكون الهاء، والباقون :﴿ من الرُهْب ﴾ بضم الراء وسكون الهاء.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو :﴿ فذانّك ﴾ بتشديد النون، والباقون :﴿ فذانِك ﴾ بكسر النون دون تشديد
يصدقني : يوضح ما أقوله، ويجادل عني المشركين.
إن أخي هارون أفصحُ مني لساناً فأرسلْه معي معينا يُصدِّقني بحجتي ويجادل عني، لأنني أخاف أن يكذّبوني.
قراءات :
قرأ نافع :﴿ رِدا ﴾ بكسر الراء وفتح الدال بغير همز، والباقون :﴿ ردءا ﴾ بكسر الراء وسكون الدال بعدها همزة.
وقرأ عاصم وحمزة :﴿ يصدقُني ﴾ بضم القاف، والباقون :﴿ يصدقني ﴾ بسكون القاف.
ونجعل لكما سلطانا : قوة وغلبة.
هذا كما أن لساني لا يطاوعني عند المجادلة. قال الله : سنُعينك ونقوّيك بأخيك هارون، ونجعل لكما قوةً وحجة دافعة فلا يصلون إليكما.... اذهبا بآياتنا إليهم، فأنتما ومن اتبعكما الغالبون.
قراءات :
قرأ ابن كثير :﴿ قال موسى ﴾ والباقون :﴿ وقال موسى ﴾ بالواو. وقرأ حمزة والكسائي :﴿ ومن يكون له عاقبة الدار ﴾ بالياء، والباقون :﴿ ومن تكون ﴾ بالتاء.
صرحا : قصرا عاليا.
اطّلع : أصعد وأتطلع من فوقه.
وقال فرعون عندما عجز عن محاجّة موسى : يا أيها القوم،
ما علمت لكم إلهاً غيري كما يدّعي موسى، فاعملْ يا هامان لي بناءً عالياً أصعد وأرى إله موسى ﴿ وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين ﴾.
قراءات :
قرأ نافع وحمزة والكسائي :﴿ لا يَرجِعون ﴾ بفتح الياء وكسر الجيم، والباقون :﴿ لا يُرجَعون ﴾ بضم الياء وفتح الجيم.
فأخذْنا فرعونَ وجنوده فألقيناهم في البحر حين تعقبوا موسى ومن معه حتى يمنعوهم من الخروج من مصر.... فانظر يا محمد، كيف كانت عاقبة الظالمين.
وجعلناهم دعاةً يدعُون إلى الكفر الذي يؤدي الى النار. ﴿ وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ ﴾.
من المقبوحين : المخزيين المهلكين.
وجعلنا اللعنة تتبعهم في هذه الدنيا، وهم يوم القيامة من المهلكين.
بصائر : أنوارا تهدي قلوبهم.
ولقد أنزلْنا التوراةَ على موسى بعد ما أهلكنا الأممَ التي سبقتْهم من الكافرين نوراً للناس ينصرون به الحق، وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون.
قضينا : عهِدنا إليه وكلفناه أمرنا ونهينا.
وما كنتَ يا محمد، حاضراً بجانب الوادي الغربي الذي وقع فيه الميقاتُ وأعطى الله فيه ألواحَ التوراة إلى موسى حين عهد إليه أمر النبوة، فكيف يكذّب قومُك برسالتك وأنت تتلو عليهم أنباء السابقين ! ؟
ثاويا : مقيما.
لقد كان ذلك منذ قرونٍ طويلةِ انقطعت فيها الرسالاتُ وطال الزمن فأتينا بك لقومك لتنذرَهم برسالتك، وما كنتَ مقيماً في « مدين » حتى تخبرَ أهلَ مكة بأنبائهم، ولكنّا أرسلناك وأخبرناك بقصصهم وأخبارهم.
قراءات :
قرأ أهل الكوفة :﴿ سِحران ﴾ بغير ألف يعني القرآن والتوراة، والباقون :﴿ ساحران ﴾ يعني موسى ومحمد، عليهما الصلاة والسلام.
قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }.
ومن أضلُّ ممن اتبعَ هواه بغيرِ هدى من الله ! إن الله لا يهدي الذين يظلمون أنفسهَم بالتمادي في اتباع الهوى.
وقال بعض المفسرين : إنهم نصارى من أهل نَجران.
والحق أن بعض أهلِ الكتاب من النصارى يؤمنون بهذا القرآن،
ويقولون : إنه الحقُّ من ربنا، بشّرنا الله به من قبلِ أن ينزل القرآن.
هؤلاء يعطيهم اللهُ أجرهم مرتَين نتيجةَ صبرهم على أذى الناس، وإيمانِهم، وإيثارهم العملَ الصالح، وأنهم يقابلون السيئة بالعفو والإحسان، وينفقون في سبيل الله مما أعطاهم من أموال وخيرات.
لا نبتغي الجاهلين : لا نطلب صحبتهم.
وإذا سمعوا الباطل من الجاهلين انصرفوا عنهم، وقالوا : لنا أعمالُنا ولكم أعمالكم، سلام عليكم لا نريد مصاحبة الجاهلين.
ومعنى الآية : إنك لا تستطيع هداية من أحببتَ من قومك أو غيرهم ؛ وإنما عليك البلاغ، واللهُ يهدي من يشاء، وله الحكمة بالبالغة في ذلك. وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين.
يُجبى إليه : يجلب إليه.
ثم أخبر سبحانه عن اعتذار كفار قريش في عدم اتّباع الهدى، فقال :
﴿ وقالوا إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ ﴾ : وقال مشركو مكة إننا نخشى إن اتبعناك على دينك وخالفنا من حولنا من العرب أن يقصدونا بالأذى، ويُجلونا عن ديارنا، ويغلبونا على سلطاننا.
وقد رد الله عليهم مقالتهم، فقال :﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ :
إن ما اعتذرتم به غيرُ صحيح، فقد كنتم آمنين في حرمي، تأكلون رزقي، وتعبدون غيري، أفتخافون إذا عبدتموني وآمنتم بي ؟ وقد تفضّل عليكم ربكم وأطعمكم من كل الثمرات التي تُجلَب من فِجاج الأرض. ولكن أكثرهم جهلةٌ لا يعلمون ما فيه خيرهم وسعادتهم.
قراءات :
قرأ الجمهور :﴿ يُجبى ﴾ بالياء، وقرأ نافع :﴿ تُجبى ﴾ بالتاء.
وكثير من القرى أثرى أهلُها فبطِروا وأفسدوا في الأرض فخرّب الله ديارهم وأصبحت خاوية لم يسكنها أحدٌ بعدهم إلا فترات عابرةً للمارين بها، وورثها الله جل جلاله. ومثلُه قوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [ هود : ١١٧ ].
ثم أخبر سبحانه عن عدله وأنه لا يُهلك أحدا إلا بعد الإنذار وقيام الحجّة بإرسال الرسل، فقال :﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾ :
ليست سنّة الله وعدله أن يُهلك القرى حتى يبعثَ في كُبراها رسولاً يتلو عليهم الآياتِ ويدعوهم الى الله، ولا يمكن أن نهلك القرى والمدنَ إلا إذا استمر أهلها على الظلم والفساد والاعتداء.
قراءات :
قرأ أبو عمرو :﴿ يعقلون ﴾ بالياء، والباقون :﴿ تعقلون ﴾ بالتاء.
هل يستوي المؤمن الذي وعدَه الله السعادةَ والنصر ثم يوم القيامة يدخله الجنة، مع الكافر الذي أعطاه الله الرزقَ الكثير وتمتّع في حياته ثم هو يوم القيامة من المحضَرين للحساب والجزاء، الهالكين في النار ! ! إنهما لا يستويان.
القول : العذاب.
أغويناهم : أضللناهم، الغواية : الضلال والفعل غوى يغَوى غياً وغواية فهو غاو. وفي سورة النجم ﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غوى ﴾.
فيجيبه قادةُ الكفر ودعاة الضلال الذين ثَبَتَ عليهم العذابُ قائلين : يا ربنا، هؤلاء الذين أضللناهم، إنما أغويناهم باختيارهم كما غوينا نحن. لقد دعوناهم إلى ما نحن عليه فضلّوا مثلنا باختيارهم، وإننا نبرأ إليك منهم فما كانوا يعبدوننا في الحقيقة، وإنما كانوا يعبدون أهواءهم.
الأنباء : الحجج والأعذار.
هل آمنتم بهم. فلا يستطيعون أن يقولوا شيئا، وغابت عنهم الحُجج ولم يجدوا معذرة، ولا يسأل بعضهم بعضا من الدَّهَش والخوف.
﴿ فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين ﴾.
وأما من تاب من الشِرك، وآمن إيمانا صادقا وعمل الأعمال الصالحة فإنهم يكونون عند الله من الفائزين برضوان الله وبالنعيم الدائم.
وربك يخلق ما يشاء ويختار ما يريد، ليس لأحدٍ الخيارُ في شيء، تنزه تعالى عما يشركون.
يعلنون : يظهرون.
وربك يعلم ما تخفي صدورهم وما به يجهرون.
وهو الله لا إله يُعبد ويرجى إلا هو، له الحمد في الدنيا من عباده على إنعامه وهدايته، وفي الآخرة على عدله ومثوبته. وهو وحده صاحب الحكم والفضل، وإليه المرجع والمصير.
سرمدا : دائما.
في هذه الآية الكريمة تنبيهٌ للناس الى حقيقةٍ يجب أن يعوها، وهي أن الله تعالى لو خلق الأرضَ بحيث يكون ليلُها دائماً أو نهارُها دائما لكان في ذلك حَرَجٌ على الخلق ولتَعَذّرت الحياة عليها.
سرمدا : دائما.
في هذه الآية الكريمة تنبيهٌ للناس الى حقيقةٍ يجب أن يعوها، وهي أن الله تعالى لو خلق الأرضَ بحيث يكون ليلُها دائماً أو نهارُها دائما لكان في ذلك حَرَجٌ على الخلق ولتَعَذّرت الحياة عليها.
وما أقسى الحياةَ لو كانت عملاً بلا راحة.... لذلك يجب أن نشكره تعالى على هذه النعم الجزيلة.
الكنوز : جمع كنز : وهو المال المدفون في باطن الأرض والمراد به هنا المال المدخَر.
مفاتحه : جمع مفتح : ومفاتيح جمع مفتاح والمعنى واحد، وهو المفتاح المعروف لفتح الأبواب.
لَتنوء بالعصبة أولي القوة : يعني أن مفاتيح خزائنه من الكثرة بحيث يثقل حملها على الجماعة الأقوياء.
لا تفرح : لا تبطَر وتتمسك بالدنيا.
كان قارون من قوم موسى، ويقول بعض المفسرين إنه تكبّر على قومه غروراً بنفسه وماله، حيث أعطاه الله من الأموال قدراً كبيرا، بلغت مفاتيحُ خزائنها من الكثرة بحيث يثقل حملُها على الجماعة الأقوياء من الرجال. وحين اغترّ وكفر بنعمة الله عليه نصحه قومه قائلين : لا تغترّ بمالك ولا يفتنك الفرح به عن شكر الله، إن الله
لا يرضى عن المغرورين المفتونين.
وقد أورد القرآن هذه القصة حتى يعتبر قومُ سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، إذ أنهم اغترّوا بأموالهم، فبيّن لهم أن أموالهم بجانب مال قارون ليست شيئاً مذكورا.
١ - ﴿ وابتغ فِيمَآ آتَاكَ الله الدار الآخرة ﴾ : اجعلْ نصيباً منه في سبيل الله والعملِ للدار الآخرة.
٢ - ﴿ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا ﴾ : لا تمنع نفسك نصيبها من التمتع بالحلال في الدنيا. كما في الحديث الشريف :« إن لربك عليك حقاً، ولنفسِك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا »
٣ - ﴿ وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ ﴾ : أحسنْ الى عباد الله كما أحسن الله إليك بنعمته، فأيمنْ خلْقه بمالك، وطلاقة وجهك، وحسن لقائهم.
٤ - ﴿ وَلاَ تَبْغِ الفساد فِي الأرض إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين ﴾ : لا تفسد في الأرض متجاوزا حدود الله، إن الله سبحانه لا يرضى عن ذلك.
قال قارون وقد نسي فضلَ الله عليه : إنما أوتيتُ هذا المالَ بعلمٍ خُصصت به.
ألم يعلم هذا المغرور أن الله قد أهلكَ من أهلِ القرون الأولى من هم أشدّ منه قوة وأكثر جمعا ؟ إنه عليم بالمجرمين، في غير حاجة لأن يسألهم ماذا يعملون.
وقال الذين رزقَهم اللهُ العلم النافع : ويلكم، ثوابُ الله خيرٌ من هذا لمن آمن وعمل الأعمال الصالحة.
فخسفنا به الأرض فابتلعته هو وداره بما فيها من أموال وزينة، فلم يكن له أنصار يمنعونه من عذاب الله، وما أغنى عنه مالُه ولا خدَمه ولا استطاع أن ينصر نفسه.
ويقدر : يضيّق، يقلل.
ولما شاهد قوم قارون ما نزل به من العذاب، صار ذلك زاجراً لهم عن حب الدنيا وداعيا الى الرضا بقضاء الله وبما قسمه لهم. وصاروا يرددون عباراتِ التحسّر والندم، ويقولون : إن الله يوسع الرزق على من يشاء من عباده المؤمنين وغير المؤمنين، ويقتر ويضيّق على من يشاء منهم.
﴿ لولا أَن مَّنَّ الله عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ﴾ : لولا لَطَفَ الله بنا لخسَف بنا الأرض. ثم زادوا ما سبق توكيدا بقولهم :« وَيكأنه لا يفلِح الكافرون »، إن الكافرين بنعمة الله لا يفلحون.
قراءات :
قرأ يعقوب وحفص :﴿ لخسف بنا ﴾ بفتح الخاء والسين، والباقون :﴿ لخسف بنا ﴾ بضم الخاء وكسر السين.
وفي الحديث الصحيح :« لا يدخل الجنةَ من كان في قبله مثقالُ ذرة من كِبر، فقال رجل : إن الرجل يحبّ أن يكون ثوبُه حسناً وفعله حسنا فقال عليه الصلاة والسلام : إن الله جميلٌ يحب الجَمال، الكِبر بطر الحق، وغمط الناس » رواه مسلم وأبو داود.
لرادّك الى معاد : لمعيدك إلى بلدك.
إن الله الذي أنزل عليك القرآن وفرض عليك تلاوته والعملَ بما فيه، لمعيدُك الى الأرض التي اعتدتها، وهي مكة ؛ أو إن المعادَ يوم القيامة، فقل ربي أعلم بمن جاء بالهدى وما يستحقه من الثواب والنصر والتمكين في الأرض، وبمن هو في ضلال مبين، وما يستحقه من القهر والإذلال والعذاب المهين.
ما كنت أيها الرسول، تأمل أن ينزَّلَ عليك القرآن، لكن الله أنزله عليك من عنده رحمةً بك وبأمتك، فاذكر هذه النعمة، وثابر على تبليغ الرسالة، ولا تكن أنت ومن اتبعك عوناً للكافرين.
إذ أُنزلتْ إليك، وادعُ الناس الى عبادة ربك وتوحيده، ولا تكوننّ من المشركين.
وجهه : ذاته.
له الحكم : له القضاء.
ولا تعبد مع الله إلهاً غيره، فإنه لا إله إلا هو، كل شيء فانٍ إلا ذاتُه فإنها أزليّة أبدية، له الحكمُ المطلَق النافذ وإليه تردّون يوم القيامة.
وهكذا تختم هذه السورة الكريمة بتقرير قاعدة الدعوة الى وحدانية الله سبحانه، تفرده بالألوهية والبقاء والحكم والقضاء، ليمض أصحاب الدعوات في طريقهم على هدى، وعلى ثقة وعلى طمأنينة وفي يقين.