ﰡ
مكية، إلا قوله: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ إلى قوله: ﴿لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ [الآية: ٥٢ إلى ٥٥]، وفيها آية نزلت بين مكة والمدينة بالجحفة وقت هجرة النبي - ﷺ -، وهي قوله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ [الآية: ٨٥]، وآيها: ثمان وثمانون آية، وحروفها: خمسة آلاف وثماني مئة حرف، وكلمها: ألف وأربع مئة وإحدى وأربعون كلمة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿طسم (١)﴾.[١] ﴿طسم﴾ تقدم الكلام عليه ومذاهب القراء فيه أول الشعراء.
...
﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢)﴾.
[٢] ﴿تِلْكَ﴾ أي: هذه ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ يعني: القرَآنُ مبينٌ للأحكام.
...
﴿نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣)﴾.
[٣] ﴿نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ﴾ نقص عليك شيئًا من خبرهما.
﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ يصدقون بأن ما تأتيهم به صدق.
...
﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤)﴾.
[٤] ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا﴾ استكبر وتجبر ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ أرضِ مصر.
﴿وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا﴾ فرقًا مختلفة في خدمته.
﴿يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ﴾ هم بنو إسرائيل، ثم فسر الاستضعاف فقال: ﴿يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ﴾ والسبب في ذلك: أن كاهنًا قال له: يولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكُك على يده، فطمع بجهله أن يرد القدر، وسُمي: هذا استضعافًا؛ لأنهم عجزوا وضعفوا عن دفعه عن أنفسهم.
﴿إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ فكذلك اجترأ على خلق كثير من أولاد الأنبياء كما تقدم في سورة البقرة لتخيل فاسد.
...
﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (٥)﴾.
[٥] ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ﴾ يعني: بني إسرائيل، يستضعفهم فرعون، ونحن نريد أن ننعم ونعظم المن عليهم، ولما كانت إرادة الله تعالى بالمنة عليهم بالنجاة وغيرها كائنة لا محالة،
﴿وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾ قادةً يقتدى بهم في الخير. وتقدم اختلاف القراء في (أَئِمَّةً) في سورة الأنبياء عند قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً﴾ [الآية: ٧٣].
﴿وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ أملاكَ فرعونَ والقبط.
...
﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (٦)﴾.
[٦] ﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ نوطِّنَ لهم في أرض مصر والشام، ونجعلها لهم مستقرًا.
﴿وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ﴾ من بني إسرائيل.
﴿مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ يَتَوَقَّون مما أخبرهم به الكاهن؛ أي: سيظهر للقبط ما كانوا يخافونه. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (وَيَرَى) بالياء وفتحها، وإمالة فتحة الراء بعدها، ورفع الأسماء الثلاثة فاعلين، وقرأ الباقون: بالنون وضمها وكسر الراء، ونصب الأسماء الثلاثة مفعولًا (١).
...
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧)﴾.
[٧] ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى﴾ يوخابد بنت لاوا، وحيَ إلهام لا نبوة.
﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ﴾ القتلَ ﴿فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ البحر، والمراد هنا: النيل.
﴿وَلَا تَخَافِي﴾ عليه الغرق ولا الضيعة ﴿وَلَا تَحْزَنِي﴾ على فراقه.
﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾ لتربيه ﴿وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ فجمع في (١) هذه الآية بين أمرين ونهيين، وخبرين وبشارتين، والفرق بين الخوف والحزن: أن الخوف غم يلحق لمتوقع، والحزن خوف يلحق لواقع، فخافت عليه، فوضعته في تابوت مطبق، ثم ألقته في النيل ليلًا (٢).
...
﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (٨)﴾.
[٨] وكان لفرعون إبنة يحبها، وبها برص، فوصفوا لها ريق حيوان شبه الإنسان يخرج من النيل يوم كذا عند طلوع الشمس، تلطخ به وجهها، فتبرأ، فأقبل التابوت على وجه الماء، فقال فرعون: عليَّ به.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٤٢٦).
﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا﴾ يقتل رجالهم.
﴿وَحَزَنًا﴾ يسبي (٢) نساءهم، واللام في (لِيَكُونَ) تشبه لام (كي)، وتسمى لام العاقبة، ولام الصيرورة؛ لأنهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدوًا وحزنًا، ولكن صار عاقبة أمرهم إلى ذلك. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (وحُزْنًا) بضم الحاء وسكون الزاي، والباقون: بفتحهما، لغتان (٣) بمعنى.
﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ في كل شيء؛ لأنهم قتلوا ألوفًا لأجله، ثم أخذوا موسى ليكبر وليفعل بهم ما كانوا يحذرون، ففتح التابوت، فوجدوا فيه طفلًا (٤) صغيرًا في مهده بين عينيه نور، وقد جعل الله رزقه في إبهامه يرضع منه لبنًا، ولعابه يسيل، وأقبلت بنت فرعون، فلما أخرجوه من التابوت، عمدت إلى مكان يسيل من ريقه، فلطخت به برصها، فبرأت، فقبلته وضمته إلى صدرها.
...
(٢) في "ش": "يستعبد".
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٩٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧١)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٤٢٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٧).
(٤) "طفلًا" ساقطة من "ش".
[٩] وأحبه فرعون وزوجته آسية بنت مزاحم وابنته حبًّا شديدًا، فقال الغواة من قوم فرعون: أيها الملك! إن ذلك المولود الذي تحذر منه من بني إسرائيل هو هذا، رمي به في البحر فرقًا، فاقتله، فهم فرعون بقتله، فثبطته عنه آسية، وكانت من خيار النساء من بنات الأنبياء من بني إسرائيل، وكانت أمًّا للمساكين، ترحمهم وتتصدق عليهم.
﴿وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ﴾ أي: هو قرة ﴿عَيْنٍ لِي وَلَكَ﴾ وقف ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب: (امْرَأَهْ) (قُرَّهْ) بالهاء فيهما (١).
﴿لَا تَقْتُلُوهُ﴾ قال - ﷺ -: "لو قالت يومئذ: قرةُ عين لي كما هو لك، لهداه الله كما هداها" (٢)، فاستوهبت آسية موسى من فرعون، فوهبها إياه، فتوسمت فيه النجابة.
فقالت: ﴿عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا﴾ في مهامنا ﴿أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ نتبناه.
﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ أن هلاكهم على يده، وسمته آسية موسى؛ لأن تابوته وجد بين الماء والشجر، والماء في لغتهم (مو)، والشجر (شا).
قال ابن عباس: "لو أن عدو الله قال في موسى كما قالت آسية: {عَسَى
(٢) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (١١٣٢٦)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (٩/ ٢٩٤٤).
...
﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا﴾ من كل شيء إلا من ذكر موسى وهمه؛ لأنها دهشت لما علمت أن فرعون قد التقطه، وكانت قد نسيت وعدَ الله بسلامته.
﴿إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾ أي: بأمر موسى، وتبوح بسرها.
﴿لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا﴾ أي: شددنا عليه بالصبر والعصمة.
﴿لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ المصدقين بوعد الله حين قال لها: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾ [القصص: ٧].
...
﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١١)﴾.
[١١] ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ﴾ مريم: ﴿قُصِّيهِ﴾ اتبعي أثره، وانظري فيه.
﴿فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ﴾ أي: بعد.
روي أنها كانت تمشي جانبًا، وتنظر إليه مزورة اختلاسًا، تُري أنها لا تنظره.
...
﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (١٢)﴾.
[١٢] وكان هَمُّ امرأةِ فرعون من الدنيا أن تجد له مرضعة، فكلما أتوه بمرضعة، لم يأخذ ثديها، فذلك قوله تعالى: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ﴾ جمع مرضعة؛ أي: منعناه عن شرب لبن غير أمه ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ أي: من قبل قَصِّها أثرَه.
﴿فَقَالَتْ﴾ أخته حين رأت ذلك:
﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ﴾ يضمونه ﴿لَكُمْ﴾، ويرضعونه، وهي امرأة قد قُتل ولدها، فأحبُّ شيء إليها أن تجد صغيرًا ترضعه.
﴿وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ والنصح: ضد الغش، وهو تصفية العمل من شوائب الفساد، فقال لها هامان: قد عرفت أهله؟ قالت: إنما قلت: هم للملك ناصحون، قالوا: نعم.
...
﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣)﴾.
[١٣] فجاءت بأمها وهو يصيح بعد أن مكث ثماني ليال لا يقبل ثديًا، وهم في طلب مرضعة له، فلما شم ريحها، قبل ثديها، فقال فرعون: من أنت حتى قبل ثديك؟ قالت: إني طيبة الريح، طيبة اللبن، لا أوتى بصبي
﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا﴾ برد موسى إليها ﴿وَلَا تَحْزَنَ﴾ بفراقه.
﴿وَلِتَعْلَمَ﴾ علمَ مشاهدة.
﴿أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾ الذي وعدها به ﴿حَقٌّ﴾ برده إليها.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ صحةَ ذلك، فمكث عندها إلى أن فطمته، وردَّته، فتبناه فرعون وآسية.
...
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤)﴾.
[١٤] ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ منتهى قوته، وهو ما فوق الثلاثين ﴿وَاسْتَوَى﴾ اعتدلت قوته، وبلغ أربعين سنة، وهو سن بعث الأنبياء.
﴿آتَيْنَاهُ﴾ قبل نبوته ﴿حُكْمًا﴾ حكمة وفقهًا ﴿وَعِلْمًا﴾ بمصالح الدارين، فكان يتكلم بالحق، وينكر عليهم قبل النبوة.
﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ على إحسانهم.
...
[١٥] ﴿وَدَخَلَ﴾ موسى ﴿الْمَدِينَةَ﴾ هي مدينة مَنْف من أرض مصر، وتقدم ذكرها في سورة يوسف، وهي مدينة فرعون موسى التي كان ينزلها، وفيها كانت الأنهار تجري تحت سريره. روي أن فرعون خاف من موسى، فأخرجه من مدينته، فغاب عنها سنتين، حتى كبر واشتد، فدخلها مستخفيًا ﴿عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ﴾ وقت غرة ﴿مِنْ أَهْلِهَا﴾ يوم عيد لهم، وهم مشغولون بلهوهم.
﴿فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ﴾ إسرائيليًّا وقبطيًّا ﴿يَقْتَتِلَانِ﴾ يختصمان.
﴿هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ﴾ أتباعه، روي أنه السامري ﴿وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ﴾ من القبط الذين هم على دين فرعون.
﴿فَاسْتَغَاثَهُ﴾ طلب منه الغوث ﴿الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ﴾ وهو الإسرائيلي.
﴿عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ﴾ وهو القبطي، وكان موسى قد أعطي شدة عظيمة.
﴿فَوَكَزَهُ مُوسَى﴾ بالعصا، ولم يتعمد قتله، بل أراد دفع ظلمه.
﴿فَقَضَى عَلَيْهِ﴾ فقتله، فندم، فدفنه في الرمل.
و ﴿قَالَ هَذَا﴾ القتل ﴿مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ أي: بسببه؛ لأنه هيج غضبي.
﴿إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾ ظاهر العداوة، وهذا كان قبل النبوة، وهو مقتضى التلاوة، والسورة تدل عليه.
[١٦] ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ بقتل القبطي من غير أمر.
﴿فَاغْفِرْ لِي﴾ ذنبي ﴿فَغَفَرَ لَهُ﴾ لاستغفاره.
﴿إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ﴾ لذنوب عباده ﴿الرَّحِيمُ﴾ بهم.
...
﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ﴾ أي: بإنعامك ﴿عَلَيَّ﴾ بالمغفرة والقوة والحكم، قسم محذوف الجواب، تقديره: أقسم بما أنعمت لأتوبنَّ، وتفسير الجواب.
﴿فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا﴾ عونًا ﴿لِلْمُجْرِمِينَ﴾ للكافرين، وهذا يدل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافرًا، قال ابن عباس: "لم يستثنِ، فابتُلي من الغد" (١).
...
﴿فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا﴾ على نفسه، ونصبُه على الحال.
﴿يَتَرَقَّبُ﴾ ينتظر المكروه بأن يستعاد.
﴿قَالَ لَهُ مُوسَى﴾ أي: قال للإسرائيلي:
﴿إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ﴾ ظاهر الغواية؛ لأنك تسببت لقتل رجل، وتقاتل آخر.
...
﴿فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩)﴾.
[١٩] وكان موسى قد غضب غضبًا شديدًا ﴿فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا﴾ قرأ أبو جعفر: (يَبْطُشَ) بضم الطاء، والباقون: بكسرها (٢)، وذلك أن موسى أدركته الرقة على الإسرائيلي، فمد يده ليبطش بالفرعوني، فظن الإسرائيلي أنه يقصد قتله؛ لمكان غضبه، وسمع قوله: ﴿إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ﴾.
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٧٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٢).
﴿وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ﴾ فلما قال ذلك، علموا حينئذ من قاتلُ الأول، فوصل ذلك إلى فرعون، فهمُّوا بقتل موسى.
...
﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠)﴾.
[٢٠] قلما أرسل فرعون الذباحين لقتله، أخذوا الطريق الأعظم.
﴿وَجَاءَ رَجُلٌ﴾ مؤمن، وكان ابنَ عم فرعون، واسمه خربيل، وقيل غيره، وهو مؤمن آل فرعون.
﴿مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ﴾ آخرها.
﴿يَسْعَى﴾ أي: يسرع في مشيه، فأخذ طريقا قريبًا حتى يسبق إلى موسى، فأخبره وأنذره حتى أخذ طريقًا آخر.
﴿قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ﴾ يعني: أشراف قوم فرعون ﴿يَأْتَمِرُونَ بِكَ﴾ أي: يتشاورون بسببك.
﴿لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ﴾ من المدينة ﴿إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ﴾ في الأمر بالخروج.
...
﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿فَخَرَجَ﴾ موسى ﴿مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ﴾ التعرُّضَ له في الطريق.
...
﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (٢٢)﴾.
[٢٢] وخرج موسى هاربًا بلا زاد ولا ظهر، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر والبقل حتى ترى خضرته في بطنه، وما وصل إلى مدين حتى وقع خفُّ قدميه.
﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ﴾ قصدها ماضيًا إليها، وهي قرية شعيب، سميت بمدين بن إبراهيم، وهي على بحر القلزم، وتقدم ذكرها في سورة الأعراف (١) وطه، وهي على مسيرة اثني عشر يومًا من مصر، وكان موسى لا يعرف طريقها، فلذلك.
﴿قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ قصدَ الطريق ووسطَه إليها، فبُعث إليه ملك، فدله على الطريق. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (رَبِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٢).
...
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٩٦)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٤٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٢).
[٢٣] ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ﴾ أي: وصل إليه وهو بئر كانوا يسقون منها مواشيهم ﴿وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً﴾ جماعة ﴿مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ﴾ مواشيهم.
﴿وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ﴾ من مكان أسفل منهم ﴿امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ﴾ تَكُفَّان غنمَهما عن الماء؛ لئلا تختلط بغنم القوم؛ لضعفها عن السقي معهم.
﴿قَالَ مَا خَطْبُكُمَا﴾ ما شأنكما لا تسقيان غنمكما مع الناس؟
﴿قَالَتَا لَا نَسْقِي﴾ غنمنا معهم؛ لعجزنا ﴿حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ﴾ حتى يصرفوا مواشيهم عن الماء؛ لأنا لا نستطيع أن نزاحم الرجال. قرأ أبو جعفر، وابن عامر، وأبو عمرو: (يَصْدُرَ) بفتح الياء وضم الدال على اللزوم؛ أي: يذهب الرعاء بمواشيهم عن الماء، والباقون: بضم الياء وكسر الدال (١)، فالمفعول محذوف؛ أي: يصدر الرعاء مواشيهم من الماء، وأشمَّ الصاد الزاي حمزة، والكسائي، وخلف، ورويس، والرعاء جمع راع؛ كتاجر وتجار.
﴿وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ لا يقدر على رعي الغنم، وهو شعيب، وهو نبي القوم، وكلهم يحسدونه على ما آتاه الله، قال لهما موسى: وهذا الماء لهم
...
﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤)﴾.
[٢٤] فسكت موسى -عليه السلام- حتى فرع الناس من سقي أغنامهم، فأطبقوا الحجر، وانصرفوا، فقام موسى، وقال للمرأتين: قرِّبا أغنامكما من الحوض، ثم إنه تقدم إلى البئر، وضرب الصخرة برجله، فدحاها أربعين ذراعًا على ضعفه من الجوع وسقوط خُفِّ قدمه.
﴿فَسَقَى لَهُمَا﴾ أغنامهما.
﴿ثُمَّ﴾ بعد فراغه ﴿تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ﴾ كان ظل شجرة، فجلس في ظلها من شدة الحر وهو جائع.
﴿فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ﴾ طعام قليل أو كثير.
﴿فَقِيرٌ﴾ محتاج.
...
﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥)﴾.
[٢٥] فانصرفت المرأتان إلى أبيهما شعيب، فأخبرتاه بما كان، فقال
﴿قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾ أجرَ سقيك، فقام موسى، ومرت المرأة بين يديه، فكشفت الريح عن ساقيها، فقال لها موسى: تأخري ورائي، ودليني على الطريق، فتأخرت، وكانت تقول: عن يمينك، وشمالك، وقدامك، حتى وقف على باب شعيب (١)، فلما ردت المرأة لأبيها، وأخبرته، فأذن له بالدخول، وشعيب يومئذ شيخ كبير، وقد كُفَّ بصره، فسلم موسى عليه، فرد عليه السلام، وعانقه، ثم أجلسه بين يديه، وكان قد هُيئ العشاء، فقال: اجلس يا شاب فتعش، فقال: معاذ الله، فقال شعيب: ألست جائعًا؟ قال: بلى، ولكن أخاف أن يكون عوضًا عما سقيت لهما، وإنا أهل بيت لا نطلب على عمل من أعمال الآخرة عوضًا من الدنيا، فقال شعيب: لا والله يا شاب، ولكنها عادتي وعادة آبائي، نَقْري الضيف، ونطعم الطعام، فأكل على اسم الله، فلما فرغ من أكله، حمد الله، وأثنى عليه بالجميل، ثم سأله شعيب عن حاله وقصته.
﴿فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ﴾ من حين مولده إلى حين جاءه.
﴿قَالَ﴾ له شعيب: ﴿لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ يعني: فرعون وقومه؛ لأنه لم يكن له سلطان على مدين.
...
[٢٦] ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ﴾ اتخذه أجيرًا يرعى غنمنا.
﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ﴾ على العمل ﴿الْأَمِينُ﴾ فقال لها أبوها: وما علمُك بقوته وأمانته؟ قالت: أما قوته، فإنه رفع الحجر من رأس البئر، لا يرفعه إلا عشرة، وأما أمانته، فإنه قال لي: امش خلفي حتى لا تصف الريح بدنك. قرأ أبو جعفر، وابن عامر: (يَا أَبَتَ) بفتح التاء حيث وقع على تقدير: يا أبتاه، ووقفوا (يَا أَبَهْ) بالهاء الساكنة، ووافقهما على الوقف ابن كثير، ويعقوب، وقرأ الباقون، ومنهم ابن كثير، ويعقوب: بكسر التاء لأن.... به، والجزم يحرك إلى الكسر (١).
...
﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧)﴾.
[٢٧] فرغب شعيب في تزويجه.
و ﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ﴾ واسمها صافوراء، وهي التي ذهبت إليه وطلبت استئجاره. قرأ ابن كثير: (هَاتينِّ) بالمد وتشديد النون (٢).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٩٣)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٥)، =
﴿فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا﴾ أي: خدمة عشر سنين ﴿فَمِنْ عِنْدِكَ﴾ تبرُّع لا إلزام مني.
﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ﴾ بإلزام أتم الأجلين.
﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ في حسن الصحبة والوفاء بما قلت. قرأ نافع، وأبو جعفر: (إِنِّيَ أُرِيدُ) (سَتَجِدُنِيَ) بفتح الياء فيهما، وقرأ الباقون: بإسكانهما فيهما (١).
...
﴿قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿قَالَ﴾ موسى: ﴿ذَلِكَ﴾ أي: هذا الشرط.
﴿بَيْنِي وَبَيْنَكَ﴾ لا تخرج عنه.
﴿أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ﴾ أي: أيَّ الأجلين، و (ما) صلة ﴿قَضَيْتُ﴾ أتممت، الثمانَ أو العشرَ ﴿فَلَا عُدْوَانَ﴾ فلا يُعتدى ﴿عَلَيَّ﴾ بطلب الزيادة على أحدهما.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٩٦)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٤٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٥ - ١٦).
والإجارة: بيعُ المنفعة بعِوَض، وهي -بكسر الهمزة-: مصدر أَجَره يأجُره أجرًا، وإجارة، فهو مأجور، واشتقاقها من الأجر، وهو العوض، ومنه سمي الثواب أجرًا، ومن شرط صحتها أن تكون المنفعة والعوض معلومين بالاتفاق، فإذا استأجر رجل رجلًا لعمل معين؛ كخياطة ثوب، أو بناء حائط، أو رعي غنم، ونحو ذلك بأجرة معلومة، صح بغير خلاف.
وتقدم ذكر الخلاف في منافع الحر، هل يجوز أن تكون صداقًا؟ في سورة النساء، وأما إجارة الملك في العقار ونحوه، فتصح مدة معلومة، وإن طالت، بالاتفاق، واختلفوا في إجارة الوقف، فقال أبو حنيفة: لا تزاد على ثلاث سنين، وقال مالك: تجوز سنتين، ولمن مرجعها له عشر سنين، وقال الشافعي وأحمد: تجوز مدة يمكن فيها بقاء العين غالبًا، وهي عند أبي حنيفة عقد جائز تنفسخ بموت أحد المتعاقدين إن عقدها لنفسه، وإن عقدها لغيره لا تنفسخ؛ كالوكيل والوصي ومتولي الوقف لبقاء المستحق عليه والمستحق، حتى لو مات المعقود له صارت عند مالك والشافعي وأحمد عقدًا لازمًا لا تنفسخ بالموت، والوارث قائم مقامه، وإذا كانت الأجرة مؤجلة، فمات المستأجر، فمذهب أحمد أن الأجرة على حكمها في التأجيل، وتقدم بها وارثه مؤجلة، وعند مالك والشافعي تحل الأجرة بالموت.
[٢٩] ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ﴾ المشروطَ بينهما؛ أي: أتمه، مكث بعد ذلك عند صهره عشرًا أخرى، فأقام عنده عشرين سنة، ثم قصد المسير إلى أهله، فبكى شعيب، وقال: يا موسى! كيف تخرج عني وقد ضعفتُ وكبرتُ؟! فقال له: قد طالت غيبتي عن أمي وخالتي وهارون أخي وأختي، فإنهم في مملكة فرعون، فقام شعيب، وبسط يديه، وقال: يا رب إبراهيمَ الخليل، وإسماعيلَ الصفي، وإسحاقَ الذبيح، ويعقوبَ الكظيم، ويوسفَ الصديق! رُدَّ قوتي وبصري، فأَمَّنَ موسى على دعائه، فرد الله عليه بصره وقوته، ثم أوصاه بابنته.
﴿وَسَارَ﴾ موسى ﴿بِأَهْلِهِ﴾ نحو مصر ﴿آنَسَ﴾ أبصر.
﴿مِنْ جَانِبِ الطُّورِ﴾ أي: من جهته ﴿نَارًا﴾ وكان في البرية في ليلة مظلمة، فضرب خيمته على الوادي، وأدخل أهله فيها، وهطلت السماء بالمطر والثلج، وكانت امرأته حاملًا، فأخذها الطلق، فأراد أن يقدح، فلم يظهر له نار، فاغتمَّ لذلك، فلما رأى النار من بعيد.
﴿قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا﴾ قرأ أبو جعفر: (لِأَهْلِهُ امْكُثُوا) بضم الهاء في الوصل (١).
﴿أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ﴾ قرأ عاصم: (جَذْوَةٍ) بفتح الجيم، وحمزة وخلف: بضمها، والباقون: بكسرها، وكلها لغات صحيحة (٢)، معناها: قطعة غليظة من حطب فيها نار لا لهبَ لها.
﴿لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ تستدفئون.
...
﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ﴾ من جانب.
﴿الْوَادِ الْأَيْمَنِ﴾ عن يمين موسى. قرأ يعقوب: (الْوَادِي) بإثبات الياء حالة الوقف.
﴿فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ﴾ وهي القطعة من الأرض بلا شجر، وبركتها؛
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٩٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧١ - ١٧٢)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٤٣٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٧ - ١٨).
﴿أَنْ﴾ يحتمل أن تكون مفسرة؛ لأن النداء قول، أو مخففة من الثقيلة؛ أي: نودي بأن.
﴿يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١).
...
﴿وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١)﴾.
[٣١] ﴿وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ﴾ فألقاها ﴿فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ﴾ تتحرك.
﴿كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾ وهي الحية الصغيرة من سرعة حركتها، وتقدم اختلاف القراء في (رَآهَا) في سورة الأنبياء.
﴿وَلَّى مُدْبِرًا﴾ هاربًا منها ﴿وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾ ولم يلتفت، فنودي:
﴿يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ﴾ عن المخاوف.
...
﴿اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (٣٢)﴾.
﴿تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ بَرَص، فخرجت لها شعاع كضوء الشمس.
﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾ أي: يدَك ﴿مِنَ الرَّهْبِ﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو، ويعقوب، وابن كثير: (الرَّهَبِ) بفتح الراء والهاء، ورواه حفص عن عاصم: بفتح الراء وإسكان الهاء، وقرأ الباقون: بضم الراء وإسكان الهاء، وكلها لغات بمعنى الخوف (١)، ومعنى الآية: إذا هالَكَ أمرُ يدك، وما تَرى من شعاعها، فأدخلْها في جيبك، تَعُدْ إلى حالتها الأولى.
﴿فَذَانِكَ﴾ إشارة إلى العصا واليد البيضاء. قرأ أبو عمرو، وابن كثير، ورويس: بتشديد النون والمد، وهي لغة قريش، والباقون: بالتخفيف (٢) ﴿بُرْهَانَانِ﴾ حجتان ومعجزتان.
﴿مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ وكانوا أحقاء بأن يرسل إليهم.
...
(٢) المصادر السابقة، إلا "تفسير البغوي".
[٣٣] ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ﴾ بها. قرأ يعقوب: (يَقتُلُوني) بإثبات الياء (١).
﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا﴾ فإنما قال ذلك؛ للعقدة التي كانت في لسانه من وضع الجمرة في فيه.
﴿فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا﴾ معينًا.
﴿يُصَدِّقُنِي﴾ بتلخيص الحق، وتقرير الحجة، لا أن يقول له: صدقت، أو للجماعة: صدقوه، يؤيد ذلك قوله قبل: ﴿هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا﴾ لأن ذلك يقدر عليه الفصيح وغيره.
﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ﴾ يعني: فرعون وقومه. قرأ حفص: (مَعِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٢)، وقرأ نافع (رِدًا) منون غير مهموز بوزن سِوًى طلبًا للخفة، وقرأ أبو جعفر: (رِدَا) بالألف من غير تنوين في الحالين، وقرأ
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢١).
﴿قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾ سنقويك بأخيك، والعضد: قوام اليد، وبشدتها تشتد، وهو ما بين المرفق والكتف، ويقال للضعيف: هو يد بلا عضد، وكان هارون يومئذ بمصر.
﴿وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا﴾ قوة بالعصا، وحجة.
(٢) المصادر السابقة.
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٩٦)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٤٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٢).
(٤) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٧٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٤٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٢ - ٢٣).
﴿أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ﴾ أي: لكما ولأتباعكما الغلبةُ على فرعون وقومه.
﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦)﴾.
[٣٦] ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ﴾ واضحات.
﴿قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى﴾ مختلق ﴿وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا﴾ الذي تدعونا إليه ﴿فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ﴾ كائنًا في أيامهم.
﴿وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧)﴾.
[٣٧] ﴿وَقَالَ مُوسَى﴾ قرأ ابن كثير: (قَالَ مُوسَى) بغير واو؛ كما هي في مصحف أهل مكة على الاستئناف، وقرأ الباقون: بالواو، وكذلك هي في مصاحفهم (١)؛ لأنه عطف جملة على جملة.
﴿رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ﴾ بالحق من المبطل.
﴿وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ﴾ أي: العقبى المحمودة في الدار الآخرة.
﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ نفى علمه بإله غيره دون وجوده؛ إذ لم يكن عنده ما يقتضي الجزم، ولذلك أمر ببناء الصرح؛ ليصعد إليه، ويطلع على الحال بقوله:
﴿فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ﴾ اجعله آجرًا، وهو أول من عمله.
﴿فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا﴾ قصرًا عاليًا.
﴿لَعَلِّي أَطَّلِعُ﴾ أصعد ﴿إِلَى إِلَهِ مُوسَى﴾ فأقتله.
﴿وَإِنِّي لأَظُنُّهُ﴾ أي: موسى في ادعائه إلهًا غيري.
﴿مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ يقول هذا جهلًا وتمويهًا على قومه. قرأ
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٩٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٦٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٤).
وكان من قصة الصرح: أن هامان جمع خمسين ألف بنَّاء وصانع، وأخذوا في ذلك، وأسسوا حتى بنوا الصرح، وارتفع في الهواء ارتفاعًا لم يبلغه أحد من الخلق، أراد الله أن يفتنهم فيه، واشتد ذلك على موسى وهارون؛ لأن بني إسرائيل كانوا معذبين في بنائه، فلما فرغوا منه، ارتقى فرعون فوقه، وأخذ سهمًا، فرمى به نحو السماء، فرد إليه وهو ملطخ دمًا، قال: قد قتلت إله موسى، ثم أمر الله جبريل -عليه السلام- أن يهدم الصرح، فجعل عاليه سافله، وهلك تحته ألف ألف رجل من عسكر فرعون، ولم يبق أحد ممن عمل فيه إلا هلك؛ ممن كان على دين فرعون (٢).
...
﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (٣٩)﴾.
[٣٩] ﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ بغير استحقاق.
﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ﴾ قرأ نافع، وحمزة، والكسائي،
(٢) رواه الطبري في "تفسيره" (١٩/ ٥٨١) عن السدي، وانظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٤٤١).
﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ﴾ البحر.
﴿فَانْظُرْ﴾ يا محمد.
﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ وحذِّرْ قومك من مثلها.
قال - ﷺ - حكاية عن الله تعالى: "الكبرياءُ ردائي، والعَظَمَةُ إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما، ألقيته في النار" (٢).
﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (٤١)﴾.
[٤١] ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً﴾ قدوة للضلال، ورؤساء ﴿يَدْعُونَ إِلَى﴾ عمل
(٢) رواه مسلم (٢٦٢٠)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الكبر، وابن ماجه (٤١٧٥)، كتاب: الزهد، باب: البراءة من الكبر والتواضع، وغيرهما، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، وهذا لفظ ابن ماجه.
﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ﴾ لا يُمنعون من العذاب.
...
﴿وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢)﴾.
[٤٢] ﴿وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً﴾ خزيًا وعذابًا.
﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ﴾ المشوَّهين بسواد الوجه وزرقة العيون.
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣)﴾.
[٤٣] ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ التوراة.
﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى﴾ يعني: قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم.
﴿بَصَائِرَ﴾ جمع بصيرة، وهي نور القلب؛ كالبصر نور العين ﴿لِلنَّاسِ﴾ فقط، ليبصروا ذلك الكتاب، ويهتدوا به ﴿وَهُدًى﴾ من الضلالة ﴿وَرَحْمَةً﴾ لمن آمن به.
﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ بما فيه من المواعظ.
***
[٤٤] ﴿وَمَا كُنْتَ﴾ يا محمد ﴿بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ﴾ أي: بجانب غروب الشمس من الطور، وهو الذي كان فيه الميقات؛ حيث ناجى موسى ربه.
﴿إِذْ قَضَيْنَا﴾ أي: عهدنا ﴿إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ﴾ بالرسالة إلى فرعون.
﴿وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ الحاضرين ذلك المقام، فتذكرَه من ذات نفسك.
﴿وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿وَلَكِنَّا﴾ أوحينا إليك ذلك، وأوحينا إليك أَنَّا.
﴿أَنْشَأْنَا﴾ بعد عهد الوحي إليه إلى عهدك ﴿قُرُونًا﴾ كثيرة.
﴿فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ﴾ أي: على آخرهم، وهو القرن الذي أنت فيه.
﴿الْعُمُرُ﴾ أي: أمد انقطاع الوحي، فجددنا بك العهد.
﴿وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا﴾ مقيمًا ﴿فِي أَهْلِ مَدْيَنَ﴾ كمقام موسى وشعيب.
﴿تَتْلُو عَلَيْهِمْ﴾ على أهل مكة ﴿آيَاتِنَا﴾ أي: لم تشاهد ما تقدمك، فتخبر به أهل مكة.
﴿وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ إليك بأخبار المتقدمين، فتتلوها عليهم.
***
[٤٦] ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ﴾ ناحية الجبل.
﴿إِذْ نَادَيْنَا﴾ ليلة المناجاة، والمعنى: لو لم نوح إليك هذا كله، ما علمت.
﴿وَلَكِنْ﴾ أعلمناك ﴿رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا﴾ هم أهل مكة.
﴿مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ لأن أهل مكة لم يجئهم نذير قبل محمد - ﷺ -، وكانوا في فترة بينه وبين عيسى عليه السلام، وهي مدة تقرب من ست مئة سنة.
﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ يتعظون.
﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)﴾.
[٤٧] ﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ﴾ عقوبة ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ من الكفر والمعاصي، وجواب (لولا) محذوف يقتضيه الكلام، تقديره: لعاجلناهم بما يستحقونه من العقوبة.
﴿فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا﴾ هَلَّا ﴿أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا﴾ ينذرنا.
﴿فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ المصدقين، فأرسلناك؛ لتزول حجتهم، وينقطع عذرهم ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: ١٦٥].
[٤٨] ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا﴾ يعني: القرآن، ومحمد - ﷺ -.
﴿قَالُوا﴾ كفار مكة: ﴿لَوْلَا أُوتِيَ﴾ هَلَّا أُعطي محمد.
﴿مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى﴾ من التوراة وغيرها من الآيات.
قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ﴾ أي: فقد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمد - ﷺ -.
﴿قَالُوا سِحْرَانِ﴾ أي: موسى ومحمد ﴿تَظَاهَرَا﴾ تعاونا، وهذا قول العرب، وقيل المراد: موسى وهارون، وهو قول من لم يؤمن بهما في زمانهما. قرأ الكوفيون: (سِحْرَانِ) بكسر السين وإسكان الحاء من غير ألف قبلها؛ أي: التوراة والقرآن، يعني: كل سحر يقوي الآخر، نسب التظاهر إلى السحرين على الاتساع، وقرأ الباقون: بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء، على المعنى الأول (١).
﴿وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ﴾ منهم من كتبهم ﴿كَافِرُونَ﴾ وكان العرب قد بَعثوا إلى رؤساء اليهود بالمدينة، فسألوهم عن محمد - ﷺ -، فأخبروهم أنه صادق، وأن نعته وصفته عندهم.
...
[٤٩] ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد: ﴿فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا﴾ يعني: التوراة والقرآن ﴿أَتَّبِعْهُ﴾ جواب ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في قولكم.
﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠)﴾.
[٥٠] ولما كان (فأتوا) أمرًا، والأمر يقتضي الإجابة، قال:
﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ﴾ دعاءك إلى الإتيان بكتاب.
﴿فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ في كفرهم.
﴿وَمَنْ﴾ استفهام نفي.
﴿أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾؟ المعنى: لا أحد أضل ممن اتبع هواه.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ أنفسَهم باتباع الهوى.
...
﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١)﴾.
[٥١] ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ﴾ أي: أنزل عليهم القرآن متواصلًا.
﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ الأدلة، فيؤمنون.
[٥٢] ونزل في علماء المؤمنين من أهل الكتاب: عبد الله بن سلام وأصحابه، مبتدأً ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ﴾ (١) الضمير للقرآن، وخبر (الذين): ﴿هُمْ بِهِ﴾ بمحمد - ﷺ - ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ لأنه مذكر في كتبهم.
...
﴿وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣)﴾.
[٥٣] ﴿وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ القرآن ﴿قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ﴾ أي: من قبل وجوده ونزوله ﴿مُسْلِمِينَ﴾ مؤمنين بمحمد - ﷺ -.
﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤)﴾.
[٥٤] ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ﴾ أي: يضعف لهم أجرهم ضعفين؛ لإيمانهم بالكتابين ﴿بِمَا صَبَرُوا﴾ على العمل بالشريعتين ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ ويدفعون بالطاعة المعصية المتقدمة ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ في الطاعة.
...
[٥٥] ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ﴾ القبيحَ من القول، واللغو من الكلام: ما هو ساقط العبرة، وهو الذي لا معنى له ﴿أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ وذلك أن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب، ويقولون: تبًّا لكم، تركتم دينكم، فيعرضون عنهم، ولا يردون عليهم.
﴿وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ فكلٌّ مطالب بعمله.
﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ سلام توديع ومتاركة، وليس هو سلام التحية؛ أي: لا نعارضكم في شيء ما؛ لأنا.
﴿لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ لا نطلب صحبتهم؛ لئلا نكون مثلهم، والجهل نقيصة، وهو معرفة الشيء على خلاف ما هو عليه، وهذا منسوخ بآية السيف.
﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦)﴾.
[٥٦] ولما حرص النبي - ﷺ - في إيمان أبي طالب، نزل قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ (١) هدايتَه ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ فيدخله في الإسلام.
...
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٥٧)﴾.
[٥٧] ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ أي: يأخذْنا العرب لقتلنا، والقائلون قريش، وسبب نزولها: أن الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إنا لنعلم أن الذي تقول حق، ولكنا إن اتبعناك على دينك، خفنا أن تخرجنا العرب من أرض مكة، والاختطاف: الانتزاع بسرعة، فنزل توبيخًا لهم:
﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ﴾ (١) نسكنهم ﴿حَرَمًا آمِنًا﴾ يأمنون فيه العدو والخسف مع كفرهم، فكيف لو أسلموا؟! إن العرب كانت تغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضًا، وأهل مكة آمِنون؛ حيث كانوا لحرمة الحرم.
﴿يُجْبَى﴾ يجمع، ويحمل ﴿إِلَيْهِ﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، ورويس عن يعقوب: (تُجْبَى) بالتاء على التأنيث؛ لأجل الثمرات، وقرأ الباقون: بالياء
(١) انظر: "السنن الكبرى" للنسائي (١١٣٨٥)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٩٥).
﴿رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا﴾ ونصبه حال من (ثمرات).
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أن ما تقوله حق؛ لأنهم جهلة لا يتفطنون له.
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (٥٨)﴾.
[٥٨] ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ﴾ أهل ﴿قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾ والبطر: الطغيان في النعمة. قال -صلى الله عليه وسلم-: " [فاضوا] في البطر، فأكلوا رزق الله، وعبدوا الأصنام" (٢).
﴿فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي: يسكنها المارة والمسافرون ساعة أو يومًا.
﴿وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾ جميعَ المخلوقات.
...
(٢) ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/ ٤٤٨)، عن عطاء من قوله.
[٥٩] ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى﴾ في كل زمان.
﴿حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا﴾ أي: في أعظمها ﴿رَسُولًا﴾ ينذرهم؛ لأن الرسل إنما تبعث غالبًا إلى الأشراف، وهم غالبًا يسكنون المدن، وقيل: المراد بأم القرى هاهنا: مكة، وبالرسول: محمد - ﷺ -. قرأ حمزة، والكسائي: (إِمِّهَا) بكسر الهمزة حالة الوصل إتباعًا، وإذا ابتدأا، ضماها، وبه قرأ الباقون في الحالين (١).
﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ ترغيبًا وترهيبًا.
﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ أي: مشركون؛ أي: أهلكتهم بظلمهم.
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٦٠)﴾.
[٦٠] ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ من أسباب الدنيا ﴿فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا﴾ تتمتعون بها أيام حياتكم، ثم أنتم وهي إلى فناء.
﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ من الثواب ﴿خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ لأنه مستمر.
...
﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١)﴾.
[٦١] فبعد ذكر الحياة الدنيا، وما عند الله، وتفاوتهما، عَقَّبه بالفاء مدخلًا عليها همزة الاستفهام، فقال تعالى: ﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا﴾ هو الجنة.
﴿فَهُوَ لَاقِيهِ﴾ صائر إليه.
﴿كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ ويزول عن قريب.
﴿ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ في النار؟!
روي أنها نزلت في النبي - ﷺ - وأبي جهل، وقيل: نزلت في حمزة وعلي وأبي جهل، وقيل: في عمار والوليد بن المغيرة، وقيل: في المؤمن والكافر (٢). قرأ الكسائي، وقالون، وأبو جعفر بخلاف عنه: (ثُمَّ هْوَ) بإسكان الهاء تخفيفًا، والباقون: بضمها (٣).
(٢) انظر: "تفسير الطبري" (٢٠/ ٩٧)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٩٥).
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٧٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢)﴾.
[٦٢] ﴿وَيَوْمَ﴾: واذكر يوم.
﴿يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ أين هم شركائي في الدنيا؟
﴿قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (٦٣)﴾.
[٦٣] ﴿قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾ ثبت عليهم مقتضاه، وهو: ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [هود: ١١٩] وهم رؤوس الكفر:
﴿رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا﴾ أي: أضللناهم كما ضللنا، لم نُكرههم على الغي، إنما غووا باختيارهم، مع تسويلنا لهم.
﴿تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ﴾ منهم ومن كفرهم، فصرنا أعداء، وكذبوا علينا.
﴿مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾ إنما عبدوا أهواءهم.
...
(١) رواه ابن ماجه (٤١٠٥)، كتاب: الزهد، باب: الهم بالدنيا، وابن حبان في "صحيحه" (٦٨٠)، وغيرهما، عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه-.
[٦٤] ﴿وَقِيلَ﴾ لمن عبد غير الله توبيخًا وتهديدًا:
﴿ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ﴾ استعينوا بآلهتكم؛ لتخلصكم من العذاب.
﴿فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ﴾ لم يجيبوهم بنفع؛ لعجزهم.
﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾ لأربابهم ﴿لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ﴾ جوابه محذوف؛ أي: لما اتبعوهم في الدنيا، ولما رأوا العذاب في الأخرى.
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥)﴾.
[٦٥] ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ﴾ أي: يسأل الله الكفارَ.
﴿فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾ الذين دعوهم إلى الله، وهذا النداء كالأول، ويحتمل أن يكون كل منهما بواسطة من الملائكة، ويحتمل غير ذلك.
﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (٦٦)﴾.
[٦٦] ﴿فَعَمِيَتْ﴾ خفيت ﴿عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ﴾ الأخبار.
﴿يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ﴾ لا يسأل بعضهم بعضًا عن خبر.
***
[٦٧] ﴿فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ﴾ الناجين، و (عَسَى) حرف تَرَجٍّ، وهو من الله واجب.
...
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨)﴾
[٦٨] ولما قال المشركون: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١] يعني: الوليد بن المغيرة، أو عروة بن مسعود الثقفي، نزل جوابًا لهم: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ (١) لا مانع له.
﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ أي: ليس لهم الاختيار في شيء، ثم نزه نفسه تعالى فقال: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ به.
﴿وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (٦٩)﴾.
[٦٩] ﴿وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ﴾ تخفي.
﴿صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ يُظْهِرون.
[٧٠] ﴿وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ﴾ أي: هو مستحقُّه.
﴿فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ﴾ يحمده أولياؤه في الدارين.
﴿وَلَهُ الْحُكْمُ﴾ فصلُ القضاء بين الخلائق.
﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ بالنشور. قرأ يعقوب: (تَرْجِعُونَ) بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون: بضم التاء وفتح الجيم (١).
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (٧١)﴾.
[٧١] ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ﴾ أخبروني يا أهل مكة.
﴿إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا﴾ دائمًا.
﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ لا نهار معه.
﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ﴾ بنهار تطلبون فيه المعيشة.
﴿أَفَلَا تَسْمَعُونَ﴾ سماعَ فهم وقبول، وقرن بالضياء السمع؛ لأن السمع [يدرك] للأبصار البصر. قرأ قنبل عن ابن كثير: (بِضِئَاءٍ) بهمزتين، والباقون: بفتح الياء والهمز بعدها (٢)، واختلاف القراء في (أَرَأَيْتُمْ)
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٣٠)، و"الغيث" للصفاقسي =
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٧٢)﴾.
[٧٢] ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ لا ليل فيه.
﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ﴾ استراحةً عن متاعب الأشغال.
﴿أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ قدرةَ الله، فتوحدون؟! وقرن بسكون الليل البصر؛ لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما لا تبصر أنت من السكون.
﴿وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣)﴾.
[٧٣] ﴿وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ﴾ أي: في الليل.
﴿وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ بالنهار.
﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ نعمَ الله سبحانه.
[٧٤] ﴿وَيَوْمَ﴾ أي: واذكر يومَ.
﴿يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ وكرر هذا المعنى إبلاغًا وتحذيرًا، وهذا النداء هو ظهور كل ما وعد الرحمن على ألسنة المرسلين؛ من وجوب الرحمة لقوم، والعذاب لآخرين، ومن خضوع كل جبار، وذلة الكل لعزة رب العالمين، فيتوجه حينئذ توبيخ الكفار، فيقول الله لهم على معنى التوبيخ: ﴿أَيْنَ شُرَكَائِيَ﴾؟!
﴿وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥)﴾.
[٧٥] ﴿وَنَزَعْنَا﴾ أخرجنا في ذلك اليوم ﴿مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾ أي: شاهدًا، وهو رسولها، وفي هذا الموضع حذف يدل عليه الظاهر، تقديره: ليشهد الشهيد على الأمة بخيرها وشرها.
﴿فَقُلْنَا﴾ للأمم على جهة استبراء الحجة والإعذار في المحاورة: ﴿هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ حجتكم بأن لله شريكًا، فيسقط حينئذ في أيديهم.
﴿فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ﴾ في الإلهية، لا شريك له.
قال ابن عطية: ومن هذه الآية انتزع قول القاضي عند إرادة الحكم: أبقيَتْ لك حجة؟ (١)
﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦)﴾.
[٧٦] ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى﴾ هو اسم أعجمي؛ كهارون، فلذلك لم ينصرف، وهو ابن عم موسى على الأشهر؛ لأنه يصهر بن فاهث بن لاوى بن يعقوب، وموسى بن عمران بن فاهث، وفد من بني إسرائيل بإجماع، وآمن بموسى، واتبعه، وكان يلقب: المنور؛ لحسن صوته، وكان يقرأ التوراة من قلبه، وكان عاملًا لفرعون.
﴿فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾ ترفع وجاوز الحد على بني إسرائيل، بظلمه وكفره وكثرة ماله، وخالف موسى، وكَذَّبه.
﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ﴾ الأموالَ المدخرة ﴿مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ﴾ (ما) موصولة، و (مفاتحه) جمع مفتاح -بالكسر-، وهو الذي يُفتح به الباب.
﴿لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾ أي: تُثقلهم، وتميل بهم إذا حملوها، وكان فقرًا جدًّا، فتعلم صنعة الكيمياء من كلثوم أخت موسى، وكانت تعرف ذلك، فرزق مالًا عظيما يُضرب به المثل على طول الدهر، وكان مفاتيح كنوزه تحمل على أربعين بغلًا، وقيل غير ذلك.
﴿إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ﴾ متعلق بقوله ﴿فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾ والمراد بقومه: المؤمنون منهم ﴿لَا تَفْرَحْ﴾ بحطام الدنيا.
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧)﴾.
[٧٧] ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾ اطلبْ فيما أعطاك الله من الأموال والنعمة الجنةَ، وهو أن تشكره على نعمه، وتنفقَ المال في رضاه.
﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ هو أن تأخذ ما يكفيك.
﴿وَأَحْسِنْ﴾ إلى عباد الله ﴿كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ فيما أنعم عليك ﴿وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ﴾ لا تعصِ؛ لأن من عصى الله، فقد طلب الفساد في الأرض.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ لسوء أفعالهم.
﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨)﴾.
[٧٨] ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ﴾ أي المال.
﴿عَلَى عِلْمٍ﴾ من ﴿عِنْدِي﴾ أي: علم الله فيَّ خيرًا، فرآني أهلًا لذلك، ففضلني بالمال عليكم. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (عِنْدِيَ) بفتح
﴿مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا﴾ للمال، وهذا توبيخ له؛ لأنه كان قد علم حال من تقدمه وهلاكه، فلم ينزجر.
﴿وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ لعلمه بهم، بل يدخلون النار بغير حساب ولا سؤال.
﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩)﴾.
[٧٩] ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ﴾ في زينته على بغلة شهباء عليها سرج ذهب، ومعه أربعة آلاف فارس (٢) ﴿فِي زِينَتِهِ﴾ عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر، وعن يمينه ثلاث مئة غلام، وعن يساره ثلاث مئة جارية، عليهم الحلي والديباج (٣) ﴿قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ﴾ من المال ﴿إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ جَدٌّ وبَخْتٌ عظيم من الدنيا.
(٢) "فارس" ساقطة من "ش".
(٣) انظر: "الكشاف" للزمخشري (٣/ ٤٣٦)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (٧/ ١٢٩).
[٨٠] ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ وهم أحبار بني إسرائيل الزاهدون في الدنيا لغابطي قارون: ﴿وَيْلَكُمْ﴾ وأصل وَيْل: الدعاء بالهلاك، ثم استعمل في الزجر.
﴿ثَوَابُ اللَّهِ﴾ في الآخرة ﴿خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ﴾ صَدَّق بتوحيد الله.
﴿وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ مما أُوتي قارون في الدنيا.
﴿وَلَا يُلَقَّاهَا﴾ أي: يوفق هذه الكلمة التي قالها العلماء، وقيل: لا يرزق الأعمال الصالحة.
﴿إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ على طاعة الله.
﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (٨١)﴾.
[٨١] وسبب هلاك قارون: أنه بغى على موسى، وكان أول طغيانه: أن أوحي إلى موسى: أنْ مُرْ بني إسرائيل أن يعلقوا أرديتهم خيوطًا أربعة خضرًا على لون السماء يذكرون إذا رأوها أن كلامي نزل منها، قال موسى: ألا نأمرهم بجعلها كلها خضرًا؛ فإنهم يحقرون هذه الخيوط؟ فقال: يا موسى! إن من أمري ليس بصغير وإن هم لم يطيعوني في الصغير، لم يطيعوني في الكبير، فأمرهم، ففعلوا، وامتنع قارون، ولما عبروا البحر، جعل موسى الجودة والقربان في هارون، فقال: يا موسى! تذهب بالرسالة، وهارون
﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ﴾ الممتنعين مما حل به.
روي أنه خُسف به إلى الأرض السفلى، ولما خسفت به، قال بنو إسرائيل: إنما دعا عليه ليستبد بأمواله، فدعا موسى، فخسف بجميع أمواله (٢).
﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (٨٢)﴾.
[٨٢] ﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ﴾ أي: صار أولئك الذين تمنوا ما رزق من المال والزينة.
﴿بِالْأَمْسِ﴾ أي: بالوقت القريب منهم، استعاره هنا؛ لأن أمس عبارة عن اليوم الذي قبل يومك، يتندمون.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٤٥٦ - ٤٥٧).
﴿لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا﴾ فلم يعطنا ما تمنينا.
﴿لَخَسَفَ بِنَا﴾ لتوليده فينا ما ولده فيه، فخسف به لأجله.
﴿وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ لنعمة الله؛ كقارون. (وَيْكَأَنَّ) كتبت موصولة كلمة واحدة في جميع المصاحف، وكذلك (وَيْكَأَنَّهُ) لكثرة الاستعمال، لأن أصلها: (وَيْ) تعجب و (ما) متصلة بـ (أن) عند البصريين، ولذلك فتحت الهمزة، فصار معناها الندامة، والتنبيه على الخطأ، وعند الكوفيين أن (وَيْكَ) ويلك، ومعناها: ألم تر، واختلف في الوقف عليهما، فوقف أبو عمرو: (وَيْك) على الكاف مقطوعة من الهمزة، وإذا ابتدأ، ابتدأ بالهمزة (أَنَّ)، و (أَنَّهُ)، ووقف الكسائي (وَيْ) على الياء مقطوعة من الكاف، وإذا ابتدأ، ابتدأ بالكاف (كَأَنَّ) و (كَأَنَّهُ)، ووقف الباقون (وَيْكَأَنَّ) (وَيْكَأَنَّهُ) موصولة اتباعًا للمصحف، وهذا هو الأولى والمختار في مذاهب الجميع؛ اقتداء بالجمهور، وأخذًا بالقياس الصحيح (١)، وقرأ يعقوب، وحفص عن عاصم: (لَخَسَفَ) بفتح الخاء والسين، الفاعل الله تعالى، وقرأ الباقون: بضم الخاء وكسر السين مجهولًا (٢).
...
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٩٥)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٤٥٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٤٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٣٤).
[٨٣] ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾ أي: الجنة.
﴿نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا﴾ بَغْيًا.
﴿فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا﴾ عَمَلًا بالمعاصي ﴿وَالْعَاقِبَةُ﴾ المحمودة ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾.
عن علي رضي الله عنه: أنها نزلت في أهل التواضع من الولاة وأهل القدوة (١).
﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤)﴾.
[٨٤] ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ﴾ أي: بعمل صالح.
﴿فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾ أي: من ثوابها الموازي لهما.
﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أخبر تعالى أن السيئة لا يُضاعف جزاؤها؛ فضلًا منه ورحمة.
﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٨٥)﴾.
[٨٥] ولما خرج رسول الله - ﷺ - من الغار مهاجرًا إلى المدينة، سار في
﴿قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ أي: هو أعلم بالفريقين، فيجازي كلًّا بعمله. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (رَبِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٢).
﴿وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (٨٦)﴾.
[٨٦] ﴿وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ﴾ أي: يوحى إليك القرآن.
﴿إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ نصب على أنه استثناء منقطع؛ أي: لكن رحمة من ربك، فأعطاك القرآن.
﴿فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا﴾ مُعينًا ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ عبادتهم.
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٧٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٤٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٤).
[٨٧] ﴿وَلَا يَصُدُّنَّكَ﴾ لا يصرفُنَّكَ.
﴿عَنْ آيَاتِ اللَّهِ﴾ عن قراءتها، والعمل بها.
﴿بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ﴾ أي: بعد وقت إنزالها إليك، و (إذ) تضاف إلى الزمان؛ كحينئذ. قرأ يعقوب: (يَصُدُّنْكَ) مجزوم النون، والباقون: بفتحها مشددة (١).
﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ﴾ إلى توحيده ﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ الخطاب الظاهر للنبي - ﷺ -، والمراد: أهل دينه، وجميع الآية يتضمن المهادنة والموادعة، وهذا كله منسوخ بآية السيف، وسبب هذه الآية: ما كانت قريش تدعو رسول الله - ﷺ - من تعظيم أوثانهم، وعند ذلك ألقى الشيطان في أمنيته أمرَ الغرانيق كما تقدم في سورة الحج.
...
﴿وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)﴾.
[٨٨] ﴿وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ نهي عما هم بسبيله، فهم المراد، وإن عري اللفظ عن ذكرهم.
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ أي: إلا هو.
﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ إخبار بالحشر والعودة من القبور. قرأ يعقوب: (تَرْجِعُونَ) بفتح التاء وكسر الجيم حيث وقع؛ من رجوع الآخرة، وقرأ الباقون: بضم التاء وفتح الجيم (١)، قال ابن عطية: وقرأ أبو عمرو بالوجهين (٢)، والله أعلم.
(٢) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٤/ ٣٠٤).