ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
- ١ - يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ- ٢ - قُمْ فَأَنذِرْ
- ٣ - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ
- ٤ - وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ
- ٥ - وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ
- ٦ - وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ
- ٧ - وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ
- ٨ - فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ
- ٩ - فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ
- ١٠ - عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ
روى البخاري، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي، هَبَطْتُ فَنُودِيتُ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي، فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ عَنْ شَمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ أَمَامِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ شَيْئًا، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عليَّ مَاءً بَارِدًا - قَالَ - فَدَثَّرُونِي وصبُّوا عليَّ مَاءً بَارِدًا، قَالَ، فَنَزَلَتْ: ﴿يَا أَيُّهَا المدثر * قُمْ فَأَنذِرْ * وربك فكبِّر﴾ (رواه البخاري). وعن أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يحدِّث عن فترة الوحي فقال في حديثه: "فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي إذْ سمعتُ صَوْتًا مِنَ السماء، فرفعت بصري قبَل السماء، فإذا الملك الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجَثَثْتُ مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ، فَجِئْتُ إِلَى أَهْلِي فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي. زَمِّلُونِي. فزملوني، فأنزل: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ - إِلَى - فَاهْجُرْ﴾، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَالرُّجْزُ: الْأَوْثَانُ، «ثُمَّ حَمِيَ الوحي وتتابع» (أخرجه البخاري ومسلم). وهذا السياق يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدْ نَزَلَ الْوَحْيُ قَبْلَ هَذَا لقوله: «فإذا الملك الذي كان بِحِرَاءٍ،» وَهُوَ جِبْرِيلُ حِينَ أَتَاهُ بِقَوْلِهِ: ﴿اِقْرَأْ باسْمِ رَبِّكَ الذي خلق﴾، ثُمَّ إِنَّهُ حَصَلَ بَعْدَ هَذَا فَتْرَةٌ ثُمَّ نزل الملك بعد هذا، كما قال الإمام أحمد، عن جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ عَنِّي فَتْرَةً، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري قبَل السماء فإذا الملك الذي جاءني قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجَثَثْتُ مِنْهُ فَرَقًا حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي، فَقُلْتُ لَهُمْ: زَمِّلُونِي. زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُونِي، فَأَنْزَلَ الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فكبِّر * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ وتتابع" (أخرجه أحمد والشيخان). وروى الطبراني، عن ابن عباس قال: إِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ صَنَعَ لِقُرَيْشٍ طَعَامًا فلما أكلوا منه قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَاحِرٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِسَاحِرٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَاهِنٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِكَاهِنٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: شَاعِرٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِشَاعِرٍ، وَقَالَ بعضهم: بل ساحر يُؤْثَرْ، فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنَّهُ سِحْرٌ يُؤْثَرُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحزن وقنّع رأسه وتدثر، فأنزل الله تعالى: {يِا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ *
فَإَنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوْبَ فاجر * لبست ولا من غدرة أتقنع.
وفي رواية عنه: فطهر من الذنوب، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ قَالَ: نَفْسَكَ لَيْسَ ثيابه، وفي رواية عنه: أي عملك فأصلح، وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ أَيْ طَهِّرْهَا مِنَ المعاصي، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ أَيِ اغْسِلْهَا بِالْمَاءِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ لَا يَتَطَهَّرُونَ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَتَطَهَّرَ وَأَنْ يُطَهِّرَ ثِيَابَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَدْ تَشْمَلُ الْآيَةُ جَمِيعَ ذَلِكَ مَعَ طَهَارَةِ القلب، فإن العرب تطلق الثياب عليه. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ وَقَلْبَكَ ونيتك فطهر.
وقوله تعالى: ﴿والرجز فاهجر﴾ قال ابن عباس: والرجز وهو الأصنام فاهجر (وهو قول مجاهد وعكرمة وقتادة والزهري وابن زيد أن الرجز يراد به الأوثان)، وقال الضحّاك ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾: أَيِ اتْرُكِ الْمَعْصِيَةَ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَلَا يَلْزَمُ تَلَبُّسُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين﴾. وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ﴾، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تعط العطية تلتمس أكثر منها، وقال الحسن البصري: لا تمتن بعملك على ربك تستكثره، واختاره ابن جرير، وقال مجاهد: لَا تَضْعُفْ أَنْ تَسْتَكْثِرَ مِنَ الْخَيْرِ، قَالَ: تَمْنُنُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَضْعُفُ، وَقَالَ ابْنُ زيد: لاتمنن بِالنُّبُوَّةِ عَلَى النَّاسِ تَسْتَكْثِرُهُمْ بِهَا تَأْخُذُ عَلَيْهِ عِوَضًا مِنَ الدُّنْيَا، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، وَالْأَظْهَرُ القول الأول، والله أعلم. وقوله تعالى: ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾ أَيِ اجْعَلْ صَبْرَكَ عَلَى أَذَاهُمْ لِوَجْهِ رَبِّكَ عزَّ وجلَّ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ إبراهيم النخعي: اصبر عطيتك لله عزَّ وجلَّ. وقوله تَعَالَى: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ﴾ قَالَ ابْنُ عباس ومجاهد: ﴿النَّاقُورِ﴾ الصُّورِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهُوَ كَهَيْئَةِ الْقَرْنِ، وفي الْحَدِيثِ: «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخُ؟» فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا» (أخرجه أحمد وابن أبي حاتم)، وقوله تعالى: ﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾ أَيْ شَدِيدٌ، ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ﴾ أَيْ غَيْرُ سَهْلٍ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ (زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى)
- ١٢ - وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً
- ١٣ - وَبَنِينَ شُهُوداً
- ١٤ - وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً
- ١٥ - ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ
- ١٦ - كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا
- ١٧ - سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا
- ١٨ - إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ
- ١٩ - فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ
- ٢٠ - ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ
- ٢١ - ثُمَّ نَظَرَ
- ٢٢ - ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ
- ٢٣ - ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ
- ٢٤ - فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ
- ٢٥ - إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ
- ٢٦ - سَأُصْلِيهِ سَقَرَ
- ٢٧ - وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ
- ٢٨ - لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ
- ٢٩ - لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ
- ٣٠ - عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ
يَقُولُ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لِهَذَا الْخَبِيثِ، الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِنِعَمِ الدُّنْيَا، فَكَفَرَ بِأَنْعُمِ اللَّهِ وَبَدَّلَهَا كُفْرًا، وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها، وَقَدْ عَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِ نِعَمَهُ حَيْثُ قَالَ تعالى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً﴾ أَيْ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ وَحْدَهُ لَا مَالَ لَهُ وَلَا ولد، ثم رزقه الله تعالى: ﴿مَالاً مَّمْدُوداً﴾
أَيْ وَاسِعًا كَثِيرًا، قِيلَ: أَلْفُ دِينَارٍ، وَقِيلَ: مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَقِيلَ أَرْضًا يستغلها، وقيل غير ذلك، وجعل له ﴿بنين شُهُوداً﴾ قال مجاهد: لايغيبون، أي حضوراً عنده لا يسافرون، وَهُمْ قُعُودٌ عِنْدَ أَبِيهِمْ يَتَمَتَّعُ بِهِمْ وَيَتَمَلَّى بهم، وكانوا فيما ذكره السدي ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: كَانُوا عَشْرَةً، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي النِّعْمَةِ، وَهُوَ إِقَامَتُهُمْ عِنْدَهُ، ﴿وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً﴾ أَيْ مَكَّنْتُهُ مِنْ صُنُوفِ الْمَالِ وَالْأَثَاثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ﴿ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً﴾ أَيْ مُعَانِدًا وَهُوَ الْكُفْرُ عَلَى نِعَمِهِ بَعْدَ العلم. قال الله تعالى: ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً﴾. روى ابن أبي حاتم، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً﴾ قَالَ: «هُوَ جَبَلٌ فِي النَّارِ مِنْ نَارٍ يُكَلَّفُ أَنْ يَصْعَدَهُ، فَإِذَا وَضَعَ يَدَهُ ذَابَتْ، وَإِذَا رَفَعَهَا عَادَتْ» (رواه ابن أبي حاتم والبزار وابن جرير)، وقال ابن عباس ﴿صَعُوداً﴾ صخرة في جهنم يُسْحَبُ عَلَيْهَا الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: ﴿صَعُوداً﴾: صَخْرَةً مَلْسَاءَ فِي جَهَنَّمَ يُكَلَّفُ أَنْ يَصْعَدَهَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً﴾ أَيْ مَشَقَّةً مِنَ الْعَذَابِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: عَذَابًا لَا رَاحَةَ فيه، واختاره ابن جرير، وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ﴾ أَيْ إِنَّمَا أَرْهَقْنَاهُ صُعُودًا لِبُعْدِهِ عَنِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ فَكَّرَ ﴿وَقَدَّرَ﴾ أَيْ تَرَوَّى مَاذَا يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْقُرْآنِ فَفَكَّرَ مَاذَا يَخْتَلِقُ مِنَ الْمَقَالِ ﴿وَقَدَّرَ﴾ أَيْ تَرَوَّى ﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ دُعَاءٌ عَلَيْهِ ﴿ثُمَّ نَظَرَ﴾ أَيْ أَعَادَ النَّظْرَةَ وَالتَّرَوِّيَ ﴿ثُمَّ عَبَسَ﴾ أَيْ قَبَضَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَقَطَّبَ ﴿وَبَسَرَ﴾ أَيْ كَلَحَ زكره، ومنه قول توبة بن حمير:
وَقَدْ رَابَنِي مِنْهَا صُدُودٌ رَأَيْتُهُ * وَإِعْرَاضُهَا عَنْ حاجتي وبُسُورها.
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ﴾ أَيْ صُرِفَ عَنِ الْحَقِّ، وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى مُسْتَكْبِرًا عَنِ الِانْقِيَادِ لِلْقُرْآنِ ﴿فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ أَيْ هَذَا سحر ينقله محمد عن غيره ممن قَبْلَهُ وَيَحْكِيهِ عَنْهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنْ هَذَا
وقوله تعالى: ﴿لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ لِلْجِلْدِ، وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ: تَلْفَحُ الْجِلْدَ لَفْحَةً فَتَدَعُهُ أَسْوَدَ من الليل، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَحْرِقُ بَشْرَةَ الْإِنْسَانِ، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ أَيْ مِنْ مُقَدِّمِي الزَّبَانِيَةِ، عظيم خلقهم، غليظ خُلُقهم، روى ابن أبي حاتم، عن البراء في قوله تعالى: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ قَالَ: إِنَّ رَهْطًا مِنَ الْيَهُودِ سَأَلُوا رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ، فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَأَخْبَرَ
- ٣٢ - كَلاَّ وَالْقَمَرِ
- ٣٣ - وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ
- ٣٤ - وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ
- ٣٥ - إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ
- ٣٦ - نَذِيراً لِّلْبَشَرِ
- ٣٧ - لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَمَآ جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النَّارِ﴾ أَيْ خُزَّانُهَا ﴿إِلاَّ مَلاَئِكَةً﴾ أَيْ زَبَانِيَةً غِلَاظًا شِدَادًا، وَذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ حِينَ ذَكَرَ عَدَدَ الْخَزَنَةِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَمَا يَسْتَطِيعُ كُلُّ عَشْرَةٍ مِنْكُمْ لِوَاحِدٍ منهم فتغلبونهم، فقال الله تَعَالَى: ﴿وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً﴾ أَيْ شَدِيدِي الْخَلْقِ لَا يُقَاوَمُونَ وَلَا يُغَالَبُونَ، وَقَدْ قيل: إن (أبا الأشدين) قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اكْفُونِي مِنْهُمُ اثْنَيْنِ، وَأَنَا أَكْفِيكُمْ مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ إِعْجَابًا مِنْهُ بنفسه، وكان قد بلغ من القوة فبما يَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَانَ يَقِفُ عَلَى جِلْدِ الْبَقَرَةِ، ويجاذبه عشرة لينزعوه مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ، فَيَتَمَزَّقُ الْجِلْدُ، وَلَا يَتَزَحْزَحُ عَنْهُ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَهُوَ الَّذِي دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُصَارَعَتِهِ، وَقَالَ: إِنْ صَرَعْتَنِي آمَنْتُ بِكَ، فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِرَارًا فَلَمْ يُؤْمِنْ (نَسَبَ ابْنُ إِسْحَاقَ خَبَرَ الْمُصَارَعَةِ إِلَى رُكَانَةَ بن عبد يزيد، قال ابن كثير وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ مَا ذَكَرَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ)، وقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ أَيْ إِنَّمَا ذَكَرْنَا عِدَّتَهُمْ أَنَّهُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ اخْتِبَارًا مِنَّا لِلنَّاسِ، ﴿لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾ أَيْ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا الرَّسُولَ حَقٌّ، فَإِنَّهُ نَطَقَ بِمُطَابَقَةِ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ المنزلة على الأنبياء قبله، وقوله تعالى: ﴿وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً﴾ أَيْ إِلَى إِيمَانِهِمْ بما يشهدون من صدق أخبار نبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ﴿وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ أَيْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، ﴿وَالْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً﴾؟
وروى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتِ السَّمَاءُ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ، لَوْ عَلِمْتُمْ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ، وَلَخَرَجْتُمْ إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى» فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي شَجَرَةٌ تعضد (أخرجه أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غريب)، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ مَوْضِعُ قَدَمٍ وَلَا شِبْرٍ وَلَا كَفٍّ، إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ مَلَكٌ رَاكِعٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَالُوا جَمِيعًا سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ إِلَّا أَنَّا لَمْ نُشْرِكْ بِكَ شَيْئًا» (أخرجه الحافظ الطبراني). وعن ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ
مِنَ السَّمَاوَاتِ سَمَاءً مَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ جبهة ملك أو قدماه قائم، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون﴾ (أخرجه مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ). وروى محمد بن نصر، عن عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ أَرْطَاةَ وَهُوَ يَخْطُبُنَا عَلَى مِنْبَرِ الْمَدَائِنِ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلَائِكَةً ترعد فرائضهم مِنْ خِيفَتِهِ، مَا مِنْهُمْ مَلَكٌ تَقْطُرُ مِنْهُ دَمْعَةٌ مِنْ عَيْنِهِ إِلَّا وَقَعَتْ عَلَى مَلَكٍ يُصَلِّي، وَإِنَّ مِنْهُمْ مَلَائِكَةً سُجُودًا مُنْذُ خَلَقَ السماوات والأرض لم يرفعوا رؤوسهم وَلَا يَرْفَعُونَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا رَفَعُوا رؤوسهم نَظَرُوا إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ قَالُواْ: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك" (أخرجه محمد بن نصر، قال ابن كثير: إسناده لا بأس به). وقوله تعالى: ﴿وَمَا هِيَ إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ﴾ أَيِ النَّارُ الَّتِي وُصِفَتْ ﴿إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ﴾، ثم قال تعالى: ﴿كَلاَّ وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ﴾ أَيْ وَلَّى ﴿وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ﴾ أَيْ أَشْرَقَ ﴿إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ﴾ أَيِ الْعَظَائِمِ يَعْنِي النَّارَ، قَالَهُ ابْنُ عباس ومجاهد، ﴿نَذِيراً لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ﴾ أَيْ لِمَنْ شَاءَ أَنْ يَقْبَلَ النِّذَارَةَ وَيَهْتَدِيَ لِلْحَقِّ، أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنْهَا وَيُوَلِّيَ ويردها.
- ٣٩ - إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ
- ٤٠ - فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ
- ٤١ - عَنِ الْمُجْرِمِينَ
- ٤٢ - مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ
- ٤٣ - قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ
- ٤٤ - وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ
- ٤٥ - وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ
- ٤٦ - وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ
- ٤٧ - حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ
- ٤٨ - فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ
- ٤٩ - فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ
- ٥٠ - كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ
- ٥١ - فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ
- ٥٢ - بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً
- ٥٣ - كَلاَّ بَل لاَّ يخافون
- ٥٤ - كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ
- ٥٥ - فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ
- ٥٦ - وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا أَنَّ ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ أَيْ معتقلة بعملها يوم القيامة ﴿إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ﴾ فَإِنَّهُمْ ﴿فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ﴾ أَيْ يَسْأَلُونَ الْمُجْرِمِينَ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ، وَأُولَئِكَ فِي الدِّرْكَاتِ قَائِلِينَ لَهُمْ ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلِّين * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾ أَيْ مَا عندنا رَبَّنَا وَلَا أَحْسَنَّا إِلَى خَلْقِهِ مِنْ جِنْسِنَا، ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ﴾ أَيْ نَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا نَعْلَمُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كُلَّمَا غَوِيَ غاوٍ غَوَيْنَا مَعَهُ، ﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾ يعني الموت كقوله تعالى: ﴿واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين﴾، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا هُوَ - يَعْنِي عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ - فَقَدْ جاءه اليقين مِن رَّبِّهِ» قال تَعَالَى: ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾ أَيْ مَنْ كان متصفاً بمثل هذه الصِّفَاتِ، فَإِنَّهُ لَا تَنْفَعُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفَاعَةُ شافع فيه، لأن الشفاعة إنما تنجح إِذَا كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا، فَأَمَّا مَنْ وَافَى الله كافراً، فإن لَهُ النَّارُ لَا مَحَالَةَ خَالِدًا فِيهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ أي فما لهؤلاء الكفرة الذين قبلك عما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ وَتُذَكِّرُهُمْ بِهِ مُعْرِضِينَ ﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ﴾ أَيْ كَأَنَّهُمْ فِي نِفَارِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ، حُمُرٌ مِنْ حُمُرِ الْوَحْشِ إِذَا فَرَّتْ مِمَّنْ يُرِيدُ صَيْدَهَا من أسد (قاله أبو هريرة وابن عباس وزيد بن أسلم، وهو قول الجمهور) وقوله تعالى: ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً﴾ أَيْ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ من هؤلاء المشركين أَن يُنَزَّلَ عليه كتاب كما أنزل اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ مجاهد وغيره كقوله تَعَالَى: ﴿وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى يؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رسل الله﴾، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ قَتَادَةَ: يُرِيدُونَ أَنْ يُؤْتُوا براءة بغير عمل، فقوله تعالى: ﴿كَلاَّ بَلْ لاَّ يَخَافُونَ الْآخِرَةَ﴾ أَيْ إِنَّمَا أَفْسَدَهُمْ عَدَمُ إِيمَانِهِمْ بِهَا وَتَكْذِيبُهُمْ بِوُقُوعِهَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ﴾ أَيْ حَقًّا أَنَّ الْقُرْآنَ تَذْكِرَةٌ، ﴿فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ﴾ كَقَوْلِهِ: ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾، وقوله تعالى: ﴿هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾ أَيْ هُوَ أَهْلٌ أَنْ يُخَافَ مِنْهُ، وَهُوَ أَهْلٌ أَنْ يغفر ذنب من تاب إليه وأناب. عن أنَس ابن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم الْآيَةَ ﴿هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾ وَقَالَ: «قَالَ رَبُّكُمْ أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى فَلَا يُجْعَلْ مَعِي إِلَهٌ، فَمَنِ اتَّقَى أَنْ يَجْعَلَ مَعِي إِلَهًا كَانَ أَهْلًا أَنْ أَغْفِرَ لَهُ» (رواه التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ الحباب).