ﰡ
شرح الكلمات:
طسم: هذه إحدى الحروف المقطعة تكتب طسم وتقرأ: طا، سينْ، ميمْ.
تلك: أي الآيات المؤلفة من مثل هذه الحروف هي آيات القرآن الكريم.
نتلو عليك: أي نقرأ عليك قاصين شيئاً من نبأ موسى وفرعون أي من خبرهما.
لقوم يؤمنون: أي لأجل المؤمنين ليزدادوا إيماناً ويوقنوا بالنصر وحسن العاقبة.
علا في الأرض: أي تكبر وظلم فادعى الربوبية وظلم بني إسرائيل ظلماً فظيعاً.
شيعاً: أي طوائف بعضهم عدوّ لبعض من باب فرّق تسدْ.
ويستحيي نساءهم: أي يبقي على النساء لا يذبح البنات لأنه لا يخاف منهن ويذبح الأولاد لخوفه مستقبلا على ملكه منهم.
ونريد أن نمن: أي ننعم على الذين استضعفوا فنجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين.
ما كانوا يحذرون: من المولود الذي يولد في بني إسرائيل ويذهب بملكهم.
معنى الآيات:
﴿طسم﴾ : هذا اللفظ الله أعلم بمراده منه، وقد أفاد فائدتين عظيمتين الأولى هي إعجاز القرآن الموجب للإيمان به وبمنزلة من أنزل عليه القرآن وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك أن هذا القرآن الذي أعجز العرب أن يأتوا بسورة مثله قد تألف من مثل هذه الحروف المقطعة فدل ذلك على أنه كلام الله ووحيه.
والثانية أنه لما خاف المشركون من تأثير القرآن على نفوس السامعين له وأمروا باجتناب سماعه واستعملوا وسائل شتى لمنع الناس في مكة من سماعه كانت هذه الحروف تضطرهم إلى السماع لغرابتها عندهم فإذا قرأ القارئ طسم وجد أحدهم نفسه مضطراً إلى السماع، فإذا ألقى سمعه نفذ القرآن إلى قلبه فاهتدى به إن شاء الله تعالى له الهداية كما حصل لكثيرين منهم.
وقوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ أي هذه آيات الكتاب المبين أي القرآن المبين
وقوله ﴿إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ هذا تعليل لعلو فرعون وطغيانه فذكر أن سبب ذلك الذي يرتكبه من السياسة العمياء الظالمة أنه ﴿مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ أي في الأرض بارتكاب الجرائم العظام التي لا توصف.
وقوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾ أي ﴿نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ﴾ أي من بعض خبرهما أنا نريد أي أردنا أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض أرض مصر وهم بنو إسرائيل، نمُنُّ عليهم بإيمانهم وتخليصهم من حكم فرعون وتسلطه ونجعلهم قادة في الخير ﴿وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ لحكم البلاد وسياستها بعد إهلاك فرعون وجنوده وهو معنى قوله:
٢- وقارون أيضا حيث ذكر خبره في آخر هذه السورة.
٣- اللام في (القوم) للتعليل أي: نتلو عليك لأجل قوم يؤمنون.
٤- وحسبه أن ادعى الألوهية والربوبية وأنه ابن الشمس.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير إعجاز القرآن الذي هو آية أنه كتاب الله حقاًَ.
٢- تقرير النبوة المحمدية بهذا الوحي الإلهي.
٣- التحذير من الظلم والاستطالة على الناس والفساد في الأرض.
٤- المؤمنون هم الذين ينتفعون بما يتلى عليهم لحياة قلوبهم.
٥- تقرير قاعدة لا حذر مع القدر.
٦- تحريم تحديد النسل بإلزام المواطن بأن لا يزيد على عدد معين من الأطفال.
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (٨) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى
٢- قرأ الجمهور (ونري) بنون العظمة والتكلم، وقرأ بعضٌ (ويرى) بياء الغيبة أي: ويرى فرعون وجنوده.
٣- الجنود: جمع جند، والجند لفظ دال على جمع ولا واحد له ومعناه: الجماعة من الناس تجتمع على أمر تتبعه.
شرح الكلمات:
وأوحينا إلى أم موسى: أعلمناها أن ترضع ولدها الرضعات الأولى التي لا بد منها ثم تضعه في تابوت ثم تلقيه في اليم.
في اليم: أي في البحر وهو نهر النيل.
ولا تخافي ولا تحزني: أي لا تخافي أن يهلك ولا تحزني على فراقه، إنا رادوه إليك.
فالتقطه آل فرعون: أي أعوانه ورجاله.
ليكون لهم عدواً وحزناً: أي في عاقبة الأمر، فاللام للعاقبة والصيرورة.
قرة عين لي ولك: أي تقر به عيني وعينك فنفرح به ونسر.
وأصبح فؤاد أم موسى فارغا: أي من كل شيء إلا منه عليه السلام أي لا تفكر في شيء إلا فيه.
إن كادت لتبدي به: أي قاربت بأن تصرخ بأنه ولدها وتظهر ذلك.
وقالت لأخته قصيه: أي اتبعي أثره حتى تعرفي أين هو.
فبصرت به عن جنب: أي لاحظته وهي مختفية تتبعه من مكان بعيد.
معنى الآيات:
هذه بداية قصة موسى مع فرعون وهو طفل رضيع إلى نهاية هلاك فرعون في ظرف طويل بلغ عشرات السنين. بدأ تعالى بقوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى (١) ﴾ أي أعلمناها من طريق الإلقاء في القلب ﴿أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ﴾ آل فرعون الذين يقتلون مواليد بني إسرائيل الذكور في هذه السنة ﴿فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ أي بعد أن تجعليه في تابوت أي صندوق
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ أي آثمين بالكفر والظلم ولذا يكون موسى لهم عدواً وحزناً. وقوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ﴾ قالت هذا حين همَّ فرعون بقتله لما نتف موسى لحيته وهو رضيع تعلق به فأخذ شعرات من لحيته فتشاءم فرعون وأمر بقتله فاعتذرت آسية له فقالت هو ﴿قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ﴾ فقال فرعون قرة عين لك أما أنا فلا وقولها ﴿عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا﴾ في حياتنا بالخدمة ونحوها ﴿أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً﴾ وذلك بالتبني وهذا الذي حصل، فكان موسى إلى الثلاثين من عمره يعرف بابن فرعون وقوله ﴿وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ أي بما سيكون من أمره وأن هلاك فرعون وجنوده سيكون على يده.
وقوله تعالى: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً﴾ أي من أي شيء إلا من موسى وذلك بعد أن ألقته في اليم.
وقوله ﴿إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾ أي لتصرخ بأنه ولدها وتظهر ذلك من شدة الحزن لكن الله تعالى ربط على قلبها فصبرت لتكون بذلك من المؤمنين بوعد الله تعالى لها بأن يرده إليها ويجعله من المرسلين.
وقوله تعالى: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ (٤) ﴾ أي تتبعي أثره وذلك عندما ألقته في اليم وقوله
أستغفر الله لذنبي كله
قبّلتُ إنساناً بغير حِلّه
مثل الغزال ناعما في دلّهِ
فانتصف الليل ولم أصله
فقلت لها: قاتلك الله ما أفصحك! فقالت: أو يعدّ هذا فصاحة مع قوله تعالى: ﴿وأوحينا إلى أم موسى﴾ إلى ﴿إنا رادوه إليك﴾ أي: جمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.
٢- هذه اللام تسمى لام العاقبة والصيرورة على حد قول الشاعر:
وللمنايا تُربي كل مرضعة
ودورنا لخراب الدهر نبنيها
٣- الحزن: محرّك الوسط كالحزن بإسكانها وضم الحاء مثل الرَشَد والرُشْد والعَدَم والعُدْم والسَقَم والسُقْم لغات.
٤- اسمها مريم بنت عمران فاتحدت معها مريم أم عيسى في اسمها واسم أبيها عليهم السلام وقيل اسمها كندم في رواية مرفوعة ضعيفة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان تدبير الله تعالى لأولياء وصالحي عباده وتجلى ذلك في الوحي إلى أم موسى بإرضاعه وإلقائه في البحر
والتقاط آل فرعون له ليتربى في بيت الملك عزيزاً مكرماً.
٢- بيان سوء الخطيئة وآثارها السيئة وعواقبها المدمرة وتجلى ذلك فيما حل بفرعون وهامان وجنودهما.
٣- فضيلة الرجاء تجلت في قول آسية "قرة عين لي ولك" فقال فرعون: أما لي فلا. فكان موسى قرة عين لآسية ولم
يكن لفرعون.
٤- بيان عاطفة الأمومة حيث أصبح فؤاد أم موسى فارغا إلا من موسى.
٥- بيان عناية الله بأوليائه حيث ربط على قلب أم موسى فصبرت ولم تبده لهم وتقول هو ولدي ليمضي وعد الله
تعالى كما أخبرها. والحمد له رب العالمين.
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ
شرح الكلمات:
وحرمنا عليه المراضع: أي منعناه من قبول ثدي أية مرضعة.
من قبل: أي من قبل رده إلى أمه.
فقالت هل أدلكم على: أي قالت أخت موسى.
أهل بيت يكفلونه لكم: يضمونه إليهم، يرضعونه ويربونه لكم.
وهم له ناصحون: أي لموسى ناصحون، فلما قالوا لها إذاً كنت أنت تعريفينه، قالت لا، إنما أعني أنهم ناصحون للملك لا للولد.
فرددناه إلى أمه: أي رددنا موسى إلى أمه أي قبلوا اقتراح أخته.
ولتعلم أن وعد الله حق: إذ أوحى إليها أنه راده إليها وجاعله من المرسلين.
ولكن أكثرهم لا يعلمون: أي أكثر الناس لا يعلمون وعد الله لأم موسى ولا يعلمون أن الفتاة أخته وأن أمها أمه.
ولما بلغ أشده واستوى: أي ثلاثين سنة من عمره فانتهى شبابه وكمل عقله.
آتيناه حكما وعلما: أي وهبناه الحكمة من القول والعمل والعلم بالدين الإسلامي الذي كان عليه بنو إسرائيل وهذا قبل أن ينبأ ويرسل.
ودخل المدينة: مدينة فرعون وهي مُنْفُ بعد أن غاب عنها مدة.
على حين غفلة من أهلها: لأن الوقت كان وقت القيلولة.
هذا من شيعته: أي على دينه الإسلامي.
وهذا من عدوه: على دين فرعون والأقباط.
هذا من عمل الشيطان: أي هذا الفعل من عمل الشيطان لأنه المهيج غضبي.
إنه عدو مضل مبين: أي الشيطان عدو لابن آدم مضل له عن الهدى، مبين ظاهر الإضلال.
ما زال السياق في قصص موسى مع فرعون: إنه بعد أن التقط آل فرعون موسى من النيل وهو رضيع قدموا له المراضع فرفضهن مرضعة بعد أخرى، فاحتار آل فرعون لحبهم لموسى لأن الله تعالى ألقى عليه محبة منه فما رآه أحد إلا أحبه وهذا معنى قوله تعالى في الآية (١٢) ﴿وَحَرَّمْنَا (١) عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ﴾ أي قبل رده إلى أمه. وقوله: ﴿فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ هذه أخته وقد أمرتها أمها أن تقص آثار موسى وتتبع أخباره فلما علمت أن أخاها لم يقبل المراضع وأن القصر في قلق من جراء عدم رضاع موسى تقدمت وقالت ما أخبر الله تعالى به عنها في قوله: ﴿فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ﴾ ويرضعونه ويحفظونه حتى تنتهي مدة رضاعته ﴿وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (٢) ﴾ وهنا ارتابوا في أمرها واستنطقوها واتهموها بأنها تعرفه فقالت: لا أعرفه، إنما عنيت ﴿وهم له ناصحون﴾ أن أهل هذا البيت ناصحون للملك وهنا استجابوا لها فأتت به أمه فما إن رآها حتى رمى نفسه عليها وأخذ ثديها يمتصه فقالوا لها: ما سر قبوله هذه المرأة فأجابت: بأنها طيبة الريح طيبة اللبن فأذنوا لها في إرضاعه في بيتها فعادت به وهو معنى قوله تعالى ﴿فَرَدَدْنَاهُ (٣) إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ﴾ أي تفرح وتسر ولا تحزن على فراقه، ﴿وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ﴾ إذ وعدها بأنه راده إليها. وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ أي لكن أكثر الناس لا يعلمون أنها أمه ولا أن الله وعدها بأن يرده إليها. وقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ﴾ أي موسى ﴿أَشُدَّهُ (٤) ﴾ أي اكتمال شبابه وهو ثلاثين سنة. ﴿آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾ أي حكمة وهي الإصابة في الأمور ﴿وَعِلْماً﴾ فقهاً في الدين الإسلامي الذي كان عليه بنو إسرائيل. وقوله تعالى ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ أي كما جزينا (٥) أم موسى وولدها موسى نجزي المحسنين وقوله
جالت لتصرعني فقلت لها اقصري
إني امرؤ صرعي عليك حرام
والمراضع: جمع مرضع بدون تاء إذ ليس في الذكور من يرضع فيفرق بينهما بالتاء.
٢- الجملة في محل نصب حالية.
٣- الفاء للعطف التفريع، إذ قوله تعالى: (فرددناه إلى أمه) متفرع من قوله (هل أدلكم على أهل بيت) إلى قوله (ناصحون).
٤- قال مالك وربيعة شيخه: الأشد: الحلم لقوله تعالى: (حتى إذا بلغوا النكاح) وهو أول الأشد وأقصاه أربع وثلاثون سنة. واستوى: أي: بلغ أربعين سنة.
٥- جزاها على استسلامها لأمر ربها وصبرها على فراق ولدها إذ ألقته في اليم وعلى تصديقها بوعد ربها، ومما جزاها به رده ولدها إليها مصحوبا بالتحف والطرف وهي آمنة ووهب ولدها الحكمة والعلم والنبوة.
وقوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ أي دعا موسى ربه معترفا بخطئه أوَّلاً فقال: ﴿رَبِّ﴾ أي يا رب ﴿إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ أي بقتلي القبطي ﴿فَاغْفِرْ لِي﴾ هذا الخطأ، فاستجاب الله تعالى وغفر له، إنه تعالى هو الغفور لذنوب عباده التأئبين له الرحيم بهم فلا يعذبهم بذنب تابوا منه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان حسن تدبير الله تعالى في منع موسى من سائر المرضعات حتى يرده إلى أمه.
٢- بيان حسن رد الفتاة على التهمة التي وجهت إليها وذلك من ولاية الله لها وتوفيقه.
٣- تقرير أن وعد الله حق، وأنه تعالى لا يخلف الوعد ولا الميعاد.
٤- بيان إنعام الله على موسى بالحكمة والعلم قبل النبوة والرسالة.
٥- مشروعية إغاثة الملهوف ونصرة (٢) المظلوم.
٦- وجوب التوبة بعد الوقوع في الزلل، وأول التوبة الاعتراف بالذنب.
٢- لأن نصر المظلوم دِين في الملل كلها وفرض في جميع الشرائع.
﴿ وحرمنا عليه المراضع ﴾ : أي معناه من قبول ثدي أيَّة مرضعة.
﴿ من قبل ﴾ : أي من قبل رده إلى أمه.
﴿ فقالت هل أدلكم على ﴾ : أي قالت أخت موسى.
﴿ أهل بيت يكفلونه لكم ﴾ : يضمونه إليهم، يرضعونه ويربونه لكم.
﴿ وهم له ناصحون ﴾ : أي لموسى ناصحون، فلما قالوا لها إذاً كنت أنت تعرفينه، قالت لا، إنما أعني أنهم ناصحون للملك لا للولد.
المعنى :
ما زال السياق في قصص موسى مع فرعون : إنه بعد أن التقط آل فرعون موسى من النيل وهو رضيع قدموا له المراضع فرفضهن مرضعة بعد أخرى، فاحْتار آل فرعون لحبهم لموسى لأن الله تعالى ألقى عليه محبة منه فما رآه أحد إلا أحبه وهذا معنى قوله تعالى في الآية ( ١٢ ) ﴿ وحرمنا عليه المراضع من قبل ﴾ أي قبل رده إلى أمه. وقوله :﴿ فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ﴾ هذه أخته وقد أمرتها أمها أن تقص آثار موسى وتتبع أخباره فلما علمت أن أخاها لم يقبل المراضع وأن القصر في قلق من جراء عدم رضاع موسى تقدمت وقالت ما أخبر الله تعالى به عنها في قوله :﴿ فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم ﴾ ويرضعونه ويحفظونه حتى تنتهي مدة رضاعته ﴿ وهم له ناصحون ﴾ وهنا ارتابوا في أمرها واستنطقوها واتهموها بأنها تعرفه فقالت : لا أعرفه، إنما عنيت ﴿ وهم له ناصحون ﴾ أن أهل هذا البيت ناصحون للملك وهنا استجابوا لها.
﴿ فرددناه إلى أمه ﴾ : أي رددنا موسى إلى أمه أي قبلوا اقتراح أخته.
﴿ ولتعلم أن وعد الله حق ﴾ : إذ أوحى إليها أنه راده إليها وجاعله من المرسلين.
﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ : أي أكثر الناس لا يعلمون وعد الله لأم موسى ولا يعلمون أن الفتاة أخته وأن أمها أمه.
المعنى :
فأتت به أمه فما إن رآها حتى رمى نفسه عليها وأخذ ثديها يمتصه فقالوا لها : ما سر قبوله هذه المرأة فأجابت : بأنها طيبة الريح طيبة اللبن فأذنوا لها في إرضاعه في بيتها فعادت به وهو معنى قوله تعالى ﴿ فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ﴾ أي تفرح وتسر ولا تحزن على فراقه، ﴿ ولتعلم أن وعد الله حق ﴾ إذ وعدها بأنه راده إليها.
وقوله تعالى :﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ أي ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنها أمه ولا أن الله وعدها بأن يرده إليها.
الهداية :
من الهداية :
- بيان حسن تدبير الله تعالى في منع موسى من سائر المرضعات حتى يرده إلى أمه.
- بيان حسن رد الفتاة على التهمة التي وجهت إليها وذلك من ولاية الله وتوفيقه.
- تقرير أن وعد الله حق، وأنه تعالى لا يخلف الوعد ولا الميعاد.
﴿ ولما بلغ أشده واستوى ﴾ : أي ثلاثين سنة من عمره فانتهى شبابه وكمل عقله.
﴿ آتيناه حكماً وعلماً ﴾ : أي وهبناه الحكمة من القول والعمل والعلم بالدين الإِسلامي الذي كان عليه بنو إسرائيل وهذا قبل أن ينبأ ويرسل.
المعنى :
وقوله تعالى :﴿ ولما بلغ ﴾ أي موسى ﴿ أشده ﴾ أي اكتمال شبابه وهو ثلاثين سنة. ﴿ آتيناه حكماً وعلماً ﴾ أي حكمة وهي الإِصابة في الأمور ﴿ وعلماً ﴾ فقهاً في الدين الإِسلامي الذي كان عليه بنو إِسرائيل. وقوله تعالى ﴿ وكذلك نجزي المحسنين ﴾ أي كما جزينا أم موسى وولدها موسى نجزي المحسنين
الهداية :
من الهداية :
- بيان إِنعام الله على موسى بالحكمة والعلم قبل النبوة والرسالة.
﴿ ودخل المدينة ﴾ : مدينة فرعون وهي مُنْفُ بعد أن غاب عنها مدة.
﴿ على حين غفلة من أهلها ﴾ : لأن الوقت كان وقت القيلولة.
﴿ هذا من شيعته ﴾ : أي على دينه الإِسلامي.
﴿ وهذا من عدوه ﴾ : على دين فرعون والأقباط.
﴿ فوكزه موسى فقضى عليه ﴾ : أي ضربه بجمع كفه فقضى عليه أي قتله.
﴿ هذا من عمل الشيطان ﴾ : أي هذا الفعل من عمل الشيطان لأنه المهيج غضبي.
﴿ أنه عدو مضل مبين ﴾ : أي الشيطان عدو لابن آدم مضل له عن الهدى، مبين ظاهر الإِضلال.
المعنى :
وقوله تعالى :﴿ ودخل المدينة ﴾ أي موسى دخل مدينة مُنْفُ التي هي مدينة فرعون وكان غائباً فترة. ﴿ على حين غفلة من أهلها ﴾ لأن الوقت كان وقت القيلولة. ﴿ فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته ﴾ على دين موسى وبني إسرائيل وهو الإِسلام ﴿ وهذا من عدوه ﴾ لأنه على دين فرعون والأقابط وهو الكفر. ﴿ فاستغاثه الذي من شيعته ﴾ أي طلب غوثه على الذي من عدوه ﴿ فوكزه موسى ﴾ أي ضربه بجمع كفه ﴿ فقضى عليه ﴾ أي فقتله ودفنه في الرمال. وقوله تعالى :﴿ قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ﴾ أي هذا قول موسى عليه السلام اعترف بأن ضربه القبطي كان من تهيج الشيطان لغضبه فقال :﴿ هذا من عمل الشيطان إنه عدو ﴾ للإنسان ﴿ مضل ﴾ له عن طريق الخير والهدى ﴿ مبين ﴾ أي ظاهر العداوة للإِنسان والإِضلال.
الهداية :
من الهداية :
- مشروعية إِغاثة الملهوف ونصرة المظلوم.
وقوله تعالى :﴿ قال رب إِني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم ﴾ أي دعا موسى ربه معترفاً بخطئه أولاً فقال :﴿ رب ﴾ أي يا رب ﴿ إني ظلمت نفسي ﴾ أي بقتلي القبطي ﴿ فاغفر لي ﴾ هذا الخطأ، فاستجاب الله تعالى وغفر له، إنه تعالى هو الغفور لذنوب عباده التائبين له الرحيم بهم فلا يعذبهم بذنب تابوا منه.
من الهداية :
- وجوب التوبة بعد الوقوع في الزلل، وأول التوبة الاعتراف بالذنب
شرح الكلمات:
بما أنعمت علي: بإنعامك علي بمغفرة ذنبي.
فلن أكون ظهيرا للمجرمين: أي معيناً لأهل الإجرام.
خائفا يترقب: ماذا يحدث من خير أو غيره بعد القتل.
استنصره بالأمس: أي طلب نصرته فنصره.
يستصرخه: أي يستغيث به على قبطي آخر.
إنك لغوي مبي: أي لذو غواية وضلال ظاهر.
أن يبطش بالذي هو عدو لهما: أي أن يأخذ الذي هو عدو لموسى والقبطي معاً.
إن تريد إلا أن تكون جباراً: أي ما تريد إلا أن تكون جباراً تضرب وتقتل ولا تبالي بالعواقب.
من المصلحين: أي الذين يصلحون بين الناس إذا اختلفوا أو تخاصموا.
إن الملأ يأتمرون بك: أي يتشاورون ويطلب بعضهم أمر بعض ليقتلوك.
فاخرج إني لك من الناصحين: أي اخرج من هذه البلاد إلى أخرى.
فخرج منها خائفا يترقب: خائف من القتل يترقب ما يحدث له.
معنى الآيات:
لقد تقدم في الآية قبل هذه أن موسى عليه السلام قد قتل قبطيا بطريق الخطأ وأنه اعترف لربه تعالى بخطإه واستغفره، وأن الله تعالى غفر له وأعلمه بذلك بما شاء (١) من وسائط. ولما علم موسى بمغفرة الله تعالى له عاهده بأن لا يكون ﴿ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ﴾ مستقبلاً ومن ذلك أن يعتزل فرعون وملائه لأنهم ظالمون مجرمون فقال:
﴿رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾ أي بمغفرتك لي خطإي (٢) وذلك بالنظر إلى إنعامك علي بالمغفرة أعاهدك أن لا أكون ﴿ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (٣) ﴾ هذا ما دلت عليه الآية (١٧) أي الأولى في هذا السياق وهي قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ﴾ وقوله تعالى: ﴿فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ﴾ أي فأصبح موسى في مدينة (منف) عاصمة المملكة الفرعونية ﴿خَائِفاً﴾ مما قد يترتب على قتله القبطي ﴿يَتَرَقَّبُ﴾ الأحداث ماذا تسفر عنه؟ ﴿فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ﴾ وهو الإسرائيلي الذي طلب نصرته أمس ﴿يَسْتَصْرِخُهُ﴾ أي يستغيثه بأعلى صوته فنظر إليه موسى وأقبل عليه ليخلصه قائلاً: ﴿إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ﴾ أي لذو غواية بينة والغواية الفساد في الخلق والدين لأنك أمس قاتلت واليوم تقاتل أيضا. ﴿فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ﴾ أي موسى ﴿بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا﴾ وهو القبطي قال الإسرائيلي {أَتُرِيدُ
٢- إن قتل موسى للقبطي كان قطعا خطأ، روى مسلم عن سالم بن عبد الله أنه قال: يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم للكبيرة لما سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (إن الفتنة تجيء من ها هنا وأومأ بيده نحو المشرق – من حيث يطلع قرنا الشيطان وأنتم بعضكم يضرب رقاب بعض، وإنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ فقال الله عز وجل: (وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا).
٣- قال ابن عباس: لم يستثن فابتلي من ثاني يوم. هذا إن قلنا: إن كلامه كان خبراً لا دُعاءً إذ الدعاء لا يجوز الاستثناء فيه لا يقال: ارحمني إن شئت.
﴿رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ أي من فرعون وملائه أولاً ومن كل ظالم ثانياً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- شكر النعم، فموسى لما غفر الله له شكره بأن تعهد له أن لا يقف إلى جنب مجرم (٢) أبداً.
٢- سوء صحبة الأحمق الغوي فإن الإسرائيلي لغوايته وحمقه هو الذي سبب متاعب موسى.
٣- لزوم إبلاغ الدولة عن أهل الفساد والشر في البلاد لحمايتها.
٤- وجوب النصح وبذل النصيحة فمؤمن آل فرعون يعلم سلامة موسى من العيب ومن الجريمة فتعين له أن
ينصح موسى بمغادرة البلاد لينجو إن شاء الله وليس هذا من باب خيانة البلاد والدولة، لأن موسى من أهل الكمال وما حدث عنه كان من باب الخطأ فرفده ومد إليه اليد إنقاذاً من موت متعين.
٢- روي عن عطاء، قيل له: إن أخاً لي يأخذ بقلمه وإنما يحسب ما يدخل وما يخرج وله عيال ولو ترك ذلك لاحتاج وأدان فقال: من الرأس؟ قال: خالد بن عبد الله القسري: قال: أما تقرأ ما قال العبد الصالح: (رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين) وقال عطاء: فلا يحل لأحد أن يعين ظالما ولا يكتب له ولا يصحبه، وأنه إن فعل شيئاً من ذلك فقد صار معينا للظالمين، وفي الحديث: "ينادي مناد يوم القيامة: أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة حتى من لاق لهم دواة أو برى لهم قلما فيجمعون في تابوت من حديد فيرمى بهم في جهنم" لاق الدواة: أصلحها.
فدعاه واستجاب له ولله الحمد والمنة.
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا
شرح الكلمات:
ولما توجه تلقاء مدين: أقبل بوجهه جهة مدين التي هي مدينة شعيب.
عسى ربي أن يهديني سواء السبيل: أرجو ربي أن يهديني وسط الطريق حتى لا أضل فأهلك فاستجاب الله له وهداه إلى سواء السبيل ووصل مدين.
ولما ورد ماء مدين: انتهى إلى بئر يسقى منها أهل مدين.
يسقون: أي مواشيهم من بقر وإبل وغنم.
تذودان: أي أغنامهما منعا لهما من الماء حتى تخلو الساحة لهما خوف الاختلاط بالرجال الأجانب لغير ضرورة.
قال ما خطبكما: قال موسى للمرأتين اللتين تذودان ما خطبكما أي ما شأنكما.
ثم تولى إلى الظل: أي بعد أن سقى لهما رجع إلى ظل الشجرة التي كان جالساً تحتها.
لما أنزلت علي من خير فقير: أي من طعام (١) محتاج إليه لشدة جوعه عليه السلام.
تمشي على استحياء: أي واضعة كم درعها على وجهها حياء منه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في شأن موسى عليه السلام بعد حادثة القتل والنصح له بمغادرة بلاد مصر إلى بلاد (٢) مدين مدينة شعيب عليه السلام قال تعالى مخبرا عنه: ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ﴾ أي ولما توجه موسى عملا بنصيحة مؤمن آل فرعون تلقاء مدين أي نحوها وجهتها ولم يكن له علم بالطريق الصحراوي والمسافة مسيرة ثمانية أيام قال: ﴿عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي (٣) سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ أي ترجَّى ربه سبحانه وتعالى أن يهديه الطريق السوي حتى لا يضل فيهلك، واستجاب الله له فهداه الطريق حتى وصل إلى بلاد مدين وقوله تعالى في الآية الثانية من هذا السياق (٢٣) ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ يَسْقُونَ﴾ أي وحين (٤) ورد ماء مدين وهو بئر يسقي منها الناس مواشيهم ﴿وَجَدَ عَلَيْهِ﴾ أي على الماء ﴿أُمَّةً مِنَ النَّاسِ﴾ أي جماعة كبيرة يسقون أنعامهم ومواشيهم ﴿وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ﴾ وهما بنتا شعيب عليه السلام ﴿تَذُودَانِ﴾ أي تمنعان ماشيتهما من الاختلاط بمواشي الناس. فسألهما لا تطفلاً وإنما حالهما دعاه إلى سؤالهما لأنه رأى الناس يسقون مواشيهم ويصدرون فوجاً بعد فوج والمرأتان قائمتان على ماشيتهما تذودانها عن الحوض حتى لا تختلط ولا تشرب فسألهما لذلك قائلاً: ﴿مَا خَطْبُكُمَا﴾ أي ما شأنكما فأجابتاه قائلتين: ﴿لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ﴾ لضعفنا وعدم رغبتنا في الاختلاط بالرجال ﴿وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ لا يقوى على سقي هذه الماشية بنفسه فنحن نسقيها ولكن بعد ما يصدر الرعاء ويبقى في الحوض ماء
٢- لأن بها العبد الصالح شعيب، وقيل: لأجل النسب الذي بينه وبينهم لأن مدين من ولد إبراهيم، وموسى ومن ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
٣- روي أن الله تعالى بعث إليه ملكاً راكباً فرسا فقال: اتبعني فاتبعه فهداه إلى الطريق وكان ملك مدين لغير فرعون.
٤- أي: بلغها ووصل إليها ومنه قول زهير:
فلما وردن الماء زرقاً جمامه
وضعن عصي الحاضر المتخيّم
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب حسن الظن بالله تعالى وقوة الرجاء فيه عز وجل والتوكل عليه.
٢- بيان فضل الحياء وشرف المؤمنات اللائي يتعففن عن الاختلاط بالرجال.
٣- بيان مروءة موسى في سقيه للمرأتين.
٤- فضل الدعاء وسؤال الله تعالى ما العبد في حاجة إليه.
٥- ستر الوجه عن الأجانب سنة المؤمنات من عهد قديم وليس كما يقول المبطلون هو عادة جاهلية، فبنتا
شعيب نشأتا في دار النبوة والطهر والعفاف وغطت إحداهما وجهها عن موسى حياءً وتقوى.
فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا
٢- لفظ الخير يطلق عدة إطلاقات فقد أطلق على الطعام كما هنا وأطلق على العبادة كما في قوله: (فعل الخيرات) وعلى القوة في قوله (أهم خير أم قوم تبع) وعلى المال في قوله (وإنه لحبّ الخير لشديد).
٣- السلفع من النساء: الجريئة على الرجال.
شرح الكلمات:
وقص عليه القصص: أخبره بشأنه كله من قتله القبطي وطلب السلطة له ونصح المؤمن له بمغادرة البلاد ووصوله إلى ماء مدين.
لا تخف نجوت من القوم الظالمين: أي من فرعون وملئه إذ لا سلطان لهم على بلاد مدين.
يا أبت استأجره: أي اتخذه أجيراً يرعى لنا الغنم بدلنا.
القوي الأمين: ذكرت له كفاءته وهي القوة البدنية والأمانة.
على أن تأجرني ثماني حجج: أي ثماني سنوات إذ الحجة عام والجمع حجج.
فإن أتممت عشراً فمن عندك: أي جعلت الثمانية عشراً فرغبت عشراً فهذا من كرمك.
قال ستجدني إن شاء الله من الصالحين: أي الذين يوفون ولا ينقضون ولا ينقصون.
ذلك بيني وبينك: أنا أفي بشرطي وأنت تفي بشرطك.
أيما الأجلين قضيت: أي الأجلين الثمانية أو العشرة أتممت.
فلا عدوان علي: وذلك بطلب الزيادة فوق الثمانية أو فوق العشرة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ما تم بين موسى وابنتي شعيب من السقي لهما ومجيء إحداهما تبلغه رسالة والدها ومشيه معها وقوله تعالى ﴿فَلَمَّا جَاءَهُ﴾ أي جاء موسى شعيباً ﴿وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ (١) ﴾ أي أخبره بشأنه كله من قتله القبطبي خطأ وطلب السلطات له ونصح مؤمن آل فرعون له بالخروج من البلاد، ووصوله إلى ماء مدين قال له شعيب عندئد ﴿لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ يعني فرعون وحكومته وهذا ما يعرف الآن باللجوء السياسي فأمنه على نفسه لأن فرعون لا سلطان له على (٢) هذه البلاد.
وقال له شعيب: اجلس تعش معنا فقال موسى أخاف أن يكون عوضاً عما سقيت لابنتيك ما شيتهما وإني لمن أهل بيت لا يطلبون على عمل الخير عوضاً فقال له شعيب لا ليس هذا بأجر على سقيك وإنما عادتنا أن نقري الضيف ونطعم الطعام فأكل ولم ير بذلك بأسا. وقوله تعالى ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ يروى أنها لما قالت ﴿إِنَّ خَيْرَ (٣) مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ أثارت حفيظته بهذه الكلمة فسألها: كيف علمت ذلك فذكرت له عن القوة في سقيه (٤) لهما وعن الأمانة في عض بصره عن النظر إليها، فصدقها شعيب وقال لموسى: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ﴾ أي أزوجك ﴿إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ﴾ (٥) ﴿عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ (٦) حِجَجٍ﴾ أي سنين جمع حجة وهي (٧) السنة وقوله ﴿فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ﴾ أي إحسانا منك وكرما، ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ﴾ بطلب العشرة
٢- إذ السلطان للكنعانيين وهم أهل بأس وشدة ونجدة.
٣- الجملة تعليلية لجملة الإشارة عليه بالاستئجار.
٤- قال بعض أهل العلم: وضفته بالقوة لأنه زاحم الرعاء وغلبهم وهم يزدحمون على الماء حتى سقى، وقيل كانت على البئر صخرة لا يرفعها إلا العدد من الناس فرفعها موسى وحده.
٥- الإشارة إلى المرأتين اللتين سقى لهما سواء كانتا حاضرتين في المجلس أو ذهن موسى.
٦- هذا جمع عقد النكاح مع عقد الإجارة. والمشهور من عند الفقهاء أن الشرط المقارن لعقد النكاح إن كان مما ينافي عقد النكاح فهو باطل ويفسخ النكاح قبل البناء ويثبت بعده ويلغى الشرط المنافي للنكاح، وأما الشرط غير المنافي للنكاح فهو جائز ولا حرج فيه لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح: "أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج".
٧- مشتقة من اسم الحج، لأن الحج يقع كل سنة، وموسم الحج يقع في آخر شهر من السنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تجلى كرم شعيب ومروءةه وشهامته في تطمين موسى وإكرامه وإيوائه.
٢- بيان أن الكفاءة شرط في العمل ولا أفضل من القوة وهي القدرة البدنية والعلمية والأمانة.
٣- مشروعية عرض الرجل ابنته على من يرى صدقه وأمانته ليزوجه بها.
٤- مشروعية إشهاد الله تعالى على العقود بمثل ﴿وَاللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾.
٥- فضيلة موسى عليه السلام بإيجار نفسه على شبع بطنه وإحصان فرجه.
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا
٢- اكتفى شعيب وموسى بإشهاد الله تعالى فهل يصح في الإسلام بدون إشهاد؟ الجمهور على عدم صحته بل لا بد من الإشهاد عليه وهو كذلك.
شرح الكلمات:
قضى موسى الأجل: أتم المدة المتفق عليها وهي ثمان أو عشر سنوات.
آنس: أبصر.
أوجذوة من النار: عود غليظ في رأسه نار.
لعلكم تصطلون: أي تستدفئون.
نودي: أي ناداه الله تعالى بقوله يا موسى إني أنا الله رب العالمين.
في البقعة المباركة: قطعة الأرض التي عليها الشجرة الكائنة بشاطئ الوادي.
تهتز كأنها جان: تضطرب وتتحرك بسرعة كأنها حية من حيات البيوت.
ولى مدبراً ولم يعقب: رجع هارباً ولم يعقب لخوفه وفزعه منها.
اسلك يدك في جيبك: أدخلها في جيب قميصك.
من غير سوء: أي عيب كبرص ونحوه.
واضمم إليك جناحك من الرهب: اضمم يدك بأن تضعها على صدرك ليذهب روعك.
فذانك برهانان: أي آيتان من ربك على صدق رسالتك.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصص موسى وهو في طريقه بتدبير الله تعالى إلى مصر، إنه لما
وقال له بعد أن رجع ﴿اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ أي أدخل يدك في جيب قميصك وهو الشق الذي يدخل معه الرأس في الثوب ليلبس وقوله ﴿تَخْرُجْ﴾ أي اليد ﴿بَيْضَاءَ﴾ كالنور ﴿مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ أي برص أو نحوه ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾ أي يدك مع العضد إلى صدرك ﴿مِنَ الرَّهْبِ (٥) ﴾ أي الخوف فإن يذهب عنك بحيث تعود يدك عادية لا نور فيها كما كانت من قبل إدخالها في جيبك أولا.
ثم قال تعالى له: ﴿فَذَانِكَ (٦) ﴾ أي العصا واليد البيضاء. ﴿بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ﴾ أي آيتان
٢- الجذوة مثلثة الجيم ضماً وفتحاً وكسراً: الجمرة الملتهبة، والجمع جذاً مثلثة الجيم أيضا.
٣- (من) ابتدائية وكذا من الشجرة إذ من الشجرة بدل اشتمال من قوله (من شاطئ الوادي) وشاطئ الوادي وشطه جانبه، والجمع: شطآن وشواطئ.
٤- (الأيمن) أي: عن يمين موسى، والبعقة والجمع بقع: المكان من الأرض وإن فتحت باؤها جمعت على بقاع كجفنة وجفان وأما بالضم فهي كغرفة وغرف، و (من الشجرة) أي: من ناحيتها، وهل الشجرة من سمر أو عليق: (عوسج) الله أعلم.
٥- قرأ الجمهور: (الرهب) بفتح الراء والهاء وقرأ بعضٌ بضم الراء وسكون الهاء: (الرُّهب) وقرأ عاصم بفتح الراء وسكون الهاء (الرَّهب).
٦- (فذانك) بتخفيف النون لغة قريش وبتشديدها مع مدها وتخفيفها مع مدها (فذانيك) لغة هذيل.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- الأنبياء أوفياء فموسى قضى أوفى الأجلين وأتمها وهو العشر.
٢- مشروعية السفر بالأهل وقد يحصل للمرء أنه يضل الطريق أو يحتاج إلى شيء ويصبر.
٣- فضل تلك البقعة التي كلم الله تعالى فيها موسى عليه السلام وهي من جبل الطور.
٤- مشروعية حمل العصا لا سيما للمسافر وراعي ماشية أو سائقها.
٥- مشروعية التدريب على السلاح قبل استعماله.
٦- لا يلام على الخوف الطبيعي.
٧- آية العصا واليد.
٨- من خاف، وضع يده على صدره زال خوفه إن شاء الله تعالى.
٩- التنديد بالفسق وأهله.
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقَالَ
شرح الكلمات:
إني قتلت منهم نفسا: أي نفس القبطي الذي قتله خطأ قبل هجرته من مصر.
أفصح مني لسان: اي أبين مني قولا.
ردءاً: أي معيناً لي.
سنشد عضدك بأخيك: أي ندعمك به ونقويك بأخيك هارون.
ونجعل لكما سلطاناً: أي حجة قوية يكون لكما بها الغلب.
فلا يصلون إليكما: أي بسوء.
بآياتنا: أي اذهبا بآياتنا.
فلما جاءهم موسى بآياتنا: أي العصا واليد وغيرهما من الآيات التسع.
بيناتٍ: أي واضحات.
سحر مفترى: أي مختلق مكذوب.
عاقبة الدار: أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة.
إنه لا يفلح الظالمون: أي المشركون الكافرون.
معنى الآيات:
لما كلف الله تعالى موسى بالذهاب إلى فرعون وحمله رسالته إليه قال موسى كالمشترط لنفسه ﴿قََالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً﴾ يريد نفس القبطي الذي قتله خطأ أيام كان شاباً بمصر ﴿فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ﴾ أي يقتلوني به إن لم أبين لهم وأفهمهم حجتي ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً﴾ أي أبين مني قولاً وأكثر إفهاما لفرعون وملئه (فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً (١) } أي عونا ﴿يُصَدِّقُنِي﴾ أي (٢) يلخص قولي ويحرره لهم فيكون ذلك تصديقا منه لي، لا مجرد أني إذا قلت قال صدق موسى. وقوله ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ﴾ فيما جئتهم به. فأجابه الرب تعالى قائلا {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ
٢- قرأ نافع (يصدقني) بالجزم لأنه في جواب الطلب الذي هو: (فأرسله معي) وقرأ حفص بالرفع (يصدقني) على أن الجملة حال من الهاء في (أرسله).
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان أن القصاص كان معروفا معمولا به عند أقدم الأمم، وجاءت الحضارة الغربية فأنكرته فتجرأ الناس على
سفك الدماء وإزهاق الأرواح بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية ولذلك صح أن تسمى الخسارة البشرية بدل الحضارة الغربية.
٢- مشروعية طلب العون عند التكليف بما يشق ويصعب من المسؤولين المكلفين.
٣- مشروعية التلطف في خطاب الجبابرة وإلانة القول لهم، بل هو مشروع مع كل من يدعى إلى الحق من أجل
أن يتفهم القول ولا يفلق عليه بالإغلاظ له.
٢- هذا شأن المحجوج المغلوب إذا أعيته الحجة يفزع إلى التلفيق والاتهامات الباطلة دفعا للمعرة.
٣- كان مقتضى الكلام في سياق الحوار أن يقال: قال موسى بدون واو العطف إلا أنه خولف هنا وأتي بالواو: (وقال موسى) وهي قراءة الجمهور والمقصود منها هو ذكر التوازن بين حجة فرعون وحجة موسى ليظهر للسامع التفاوت بينهما بخلاف لو حذفت الواو كما قرأ ابن كثير فإنها مجرد حكاية قول موسى عليه السلام فليس فيها ما يلفت النظر.
٤- (عاقبة الدار) قد يفهم منها فرعون: ما ينتهي إليه الخصام مع موسى إذا كان لا يؤمن بالمعاد وإن كان يؤمن بالمعاد فالأمر واضح.
شرح الكلمات:
ما علمت لكم من إله غيري: أي ربا يطاع ويذل له ويعظم غيري لعنة الله عليه ما أكذبه.
يا هامان: أحد وزراء فرعون، لعله وزير الصناعة أو العمل والعمال.
فأوقد لي يا هامان على الطين: أي اطبخ لي الآجُرْ وهو اللبن المشوي.
فاجعل لي صرحا: أي بناء عاليا، قصراً أو غيره.
لعلي أطلع إلى إله موسى: أي أقف عليه وأنظر إليه.
فنبذناهم في اليم: أي طرحناهم في البحر غرقى هالكين.
وجعلناهم أئمة: أي رؤساء يقتدى بهم في الباطل.
يدعون إلى النار: أي إلى الكفر والشرك والمعاصي الموجبة للنار.
في هذه الدنيا لعنة: أي خزيا وبعداً عن الخير.
هم من المقبوحين: أي المبعدين من كل خير المشوَّهي الخلقة.
القرون الأولى: قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وغيرهم.
بصائر للناس: أي فيه من النور ما يهدي كما تهدي الأبصار.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ﴾ إن فرعون لما سمع كلام موسى عليه السلام المصدق بكلام هارون عليه السلام وكان الكلام في غاية اللين، مؤثراً خاف فرعون من الهزيمة، ناور وراوغ فقال في الحاضرين ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ (١) مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ أي كما ادعى موسى ولكن سأبحث وأتعرف على الحقيقة إن كان هناك إله آخر غيري، فنادى وزيره هامان وأمره أن يعد اللبن المشوي لأنه قوي ويقوم ببناء صرح عال يصل إلى عنان السماء ليبحث بنفسه عن إله موسى إن كان حسب دعواه وإني لأظن موسى كاذباً في دعوى وجود إله له ولكم غيري هذا معنى قوله تعالى في الآية الأولى (٣٨) ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي (٢) يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ (٣). يعني في ادعائه أن هناك إلهاً آخر غيري.
قوله تعالى: ﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ﴾ أي أرض مصر ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ (٤) ﴾ الذي يحق
٢- كنّى عن البناء بمقدماته، وفعلاً دارت رحى العمل على أشد ما تكون وفرعون يعلم أنه مجرد تمويه على العامة وشغل لأذهانهم عن معرفة الحق الذي دعا إليه موسى: وهل بنى الصرح؟ روي أنه قبل أن يتم سقط فقتل خلقا كثيراً من العمال والبنائين، ولعل في قوله تعالى: (وما كيد فرعون إلا في تباب) من سورة المؤمن، إشارة إلى سقوطه وهلاك القائمين ببنائه.
٣- نسب موسى إلى جماعة الكذب وهو يعلم أنه صادق تمويها على الرعية، ودفعاً للحق الذي بهره نوره فما أطاقه فهو يبحث عن المخرج.
٤- (بغير الحق) أي: الموجب لهم الاستكبار ولا يوجد حق يوجب الاستكبار قط.
وقوله تعالى: ﴿وَأَتْبَعْنَاهُمْ﴾ أي آل فرعون ﴿فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً﴾ انتهت بهم إلى الغرق الكامل والخسران التام، ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤) ﴾ أي المبعدين من رحمة الله الثاوين في جهنم ولبئس مثوى المتكبرين وقوله تعالى ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ أي التوراة وذلك بعد إهلاك الظالمين وقوله ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى﴾ أي قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم إبراهيم وقوله ﴿بَصَائِرَ﴾ أي الكتاب بما يحمل من الهدى والنور ﴿بَصَائِرَ﴾ أي ضياء للناس من بني إسرائيل يبصرون على ضوءه كل ما يحتاجون إليه في أمور دينهم ودنياهم ﴿وَهُدىً وَرَحْمَةً﴾ أي وبيانا لهم ورحمة لمن يعمل به منهم. وقوله ﴿لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ أي وجود الكتاب بصائر وهدى ورحمة بين أيديهم حال تدعوهم إلى أن يتذكّروا دائماً نعم الله عليهم فيشكرونه بالإيمان به وبرسله وبطاعته وطاعة رسله عليهم السلام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان أن فرعون كان على علم بأنه عبد مربوب لله وأن الله هو رب العالمين.
٢- تقرير صفة العلو والاستكبار لفرعون وأنه كان من العالين.
٣- بيان كيف تكون عاقبة الظلمة دماراً وفساداً.
٢- قيل من هلك مع فرعون من جند كانوا مليوناً وستمائة ألف.
٣- ناحية بحر القلزم في موضع منه يقال له بطن عُريرة.
٤- المشوّهي الخلقة المسودي الوجوه زرق العيون فما أقبحهم وما أقبح ما كانوا يصنعون!! يقال: قبحه وقبحه مشدداً ومخففاً أي: نحاه من كل خير، أو جعله قبيحا. قال الشاعر:
ألا قبّح الله البراجم كلها
وقبح يربوعاً وقبح دارما
٢- بيان إفضال الله تعالى على بني إسرائيل بإنزال التوراة فيهم كتاباً كله بصائر وهدى ورحمة.
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)
شرح الكلمات:
وما كنت بجانب الغربي: أي لم تكن يا رسولنا حاضراً بالجانب الغربي من موسى.
إذا قضينا إلى موسى الأمر: أي بالرسالة إلى فرعون وقومه.
وما كنت من الشاهدين: حتى تعلمه وتخبر به.
ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر: أي غير أننا أنشأنا بعد موسى أمما طالت أعمارهم فنسوا العهود وأندرست العلوم وانقطع الوحي فجئنا بك رسولاً وأوحينا إليك خبر موسى وغيره.
وما كنت ثاويا في أهل مدين: أي ولم تكن يا رسولنا مقيماً في أهل مدين فتعرف قصتهم.
ما أتاهم من نذير من قبلك: أي أهل مكة والعرب كافة.
ولولا أن تصيبهم مصيبة الخ: لعاجلناهم بالعقوبة ولما أرسلناك إليهم رسولا.
معنى الآيات:
بعد انتهاء قصص موسى مع فرعون وإنزال التوراة ﴿بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ وكان القصص كله شاهداً على نبوة الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاطب الله تعالى رسوله فقال: ﴿وَمَا كُنْتَ﴾ أي حاضراً ﴿بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ﴾ أي بالجبل الغربي من موسى ﴿إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ (١) ﴾ بإرساله رسولاً إلى فرعون وملئه ﴿وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ الحاضرين إذاً فكيف علمت هذا وتتحدث به لولا أنك رسول حق؟!
وقوله: ﴿وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا (٢) قُرُوناً﴾ أي أمما بعد موسى ﴿فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ﴾ أي طالت بهم الحياة وامتدت فنسوا العهود واندرست العلوم الشرعية وانقطع الوحي فجئنا بك رسولاً وأوحينا إليك خبر موسى وغيره وقوله: ﴿وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً﴾ أي مقيماً ﴿فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ فكيف عرفت حديثهم وعرفت إقامة موسى بينهم عشر سنين لولا أنك رسول حق يوحى إليك نبأ الأولين وهو معنى قوله تعالى ﴿وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ فأرسلناك رسولاً وأوحينا إليك أخبار الغابرين.
وقوله: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ﴾ أي جبل الطور ﴿إِذْ نَادَيْنَا﴾ موسى وأمرناه بما أمرناه وأخبرناه بما أخبرنا به، فيكف عرفت ذلك وأخبرت به لولا أنك رسول حق يوحى إليك. وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ (٣) رَبِّكَ﴾ أي أرسلنا رحمة من ربك للعالمين {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ
٢- (ولكنا أنشأنا) الخ وجه هذا الاستدراك أن المشركين لما تعجبوا من رسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين لم يسبقها رسالة إلى آبائهم فأعلمهم أن الله تعالى أرسل موسى بعد فترة من الرسل كذلك ولكن لطول الزمن ومضي القرون نسوا رسالة موسى عليه السلام حتى قالوا: ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة.
٣- أي: ما كان علمك بذلك لحضورك ولكن كان علمك رحمة من ربك فرحمة: منصوب في الآية على تقدير كون محذوف أي: كان علمك رحمة. ويصح النصب على المفعول المطلق أي: ولكن رحمناك رحمة فعلمناك ذلك بواسطة إيحائنا إليك.
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ (١) ﴾ أي عقوبة ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ أي من الشرك والمعاصي ﴿فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً﴾ أي هلا أرسلت إلينا رسولاً ﴿فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي لولا قولهم هذا لعاجلناهم (٢) بالعذاب ولما أرسلناك إليهم رسولاً إذاً فمالهم لا يؤمنون ويشكرون؟؟!
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير النبوة المحمدية بأقوى الأدلة العقلية.
٢- بعثة الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاءت في أوانها واشتداد الحاجة إليها.
٣- البعثة المحمدية كانت عبارة عن رحمة إلهية رحم الله بها العالمين.
٤- جواب ﴿لولا﴾ في قوله ﴿وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ﴾. محذوف وقد ذكرناه وهو لعاجلناهم بالعقوبة ولما أرسلناك إليهم ورسولا.
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١)
٢- في الآية معنى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا).
فلما جاء هم الحق من عندنا: أي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولا مبينا.
قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى: أي هلا أعطي مثل ما أعطي موسى من الآيات المعجزات من العصا واليد أو كتابا جملة واحدة كالتورة.
أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل: أي كيف يطالبونك بأن تؤتى مثل ما أوتي موسى وقد كفروا بما أوتي موسى من قبل لما أخبرهم اليهود أنهم يجدون نعت محمد في التوراة كفروا بهذا الخبر ولم يقبلوه.
وقالوا سحران تظاهرا: أي التوراة والقرآن كلاهما سحر ظاهر بعضهما بعضاً أي قواه.
فإن لم يستجيبوا لك: أي بالإتيان بالكتاب الذي هو أهدى من التوراة والقرآن.
فاعلم أنما يتبعون أهواءهم: في كفرهم ليس غير، فلا عقل ولا كتاب منير.
ومن أضل ممن اتبع هواه: أي لا أضل منه قط.
ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون: أي بأخبار الأولين وما أحللنا بهم من نقمتنا لما كذبوا رسلنا وأنكروا توحيدنا ﴿لعلهم يتذكرون﴾ أي يتعظون فيؤمنون ويوحدون.
معنى الآيات:
لما قرر تعالى نبوة رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأدلته التي لا أقوى منها ولا أوضح وبين حاجة العالم إليها لا سيما العرب وذكر أنه لولا كراهة وقولهم: ﴿لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ لما أرسل (١) إليهم رسوله. ذكر هنا ما واجه به المشركون تلك الرحمة المهداة فقال عنهم ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ (٢) الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا﴾ أي محمد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: ﴿لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى﴾ أي من الآيات كالعصا واليد البيضاء حتى نؤمن به ونصدق رسالته قال
٢- هذه الفاء هي الفصيحة أفصحت عن جواب طلب متقدم وهو قول المشركين. لولا أرسلت إلينا رسولاً أي: هلاّ أرسلت إلينا رسولاً مطالبين بذلك بإلحاح.
هذا معنى قوله تعالى ﴿أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ﴾ أي بكل منهما كافرون.
فكيف لا يخجلون اليوم ويطالبون محمداً أن يعطى مثل الذي أعطي موسى من الآيات يا للعجب أين يذهب بعقول المشركين؟!!
وقوله تعالى: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ أي قل يا رسولنا لهؤلاء المشركين الذين كفروا بالتوراة والقرآن ﴿فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ أنزله بعلمه يكون أكثر هداية من التوراة والقرآن.. أتبعه! ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في دعواكم بأن الفرقان والتوراة سحران تظاهرا.
وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ﴾ بالإتيان بكتاب من عند الله تعالى هو أهدى من الفرقان والتوراة ومن أين لهم بذلك.. إنه المستحيل! إذاً فاعلم أنهم إنما يتبعون أهواءهم فيما يقولون ويدعون فلا عقل ولا نقل عندهم ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ﴾ ؟! اللهم إنه لا أضل منه. والنتيجة أنه لا أضل من هؤلاء المشركين من قريش وقوله تعالى ﴿إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ (٣) الظَّالِمِينَ﴾ هذا بيان لسنة الله تعالى في الظالمين الذين أكثروا من الظلم وتوغلوا فيه عقيدة بالشرك وعملا بالمعاصي فإنه يحرمهم الهداية فلا يهتدون أبدا.
وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ (٤) وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ أي لقد وصلنا لهؤلاء المشركين
٢- قرأ نافع (ساحران تظاهرا) وقرأ حفص: (سحران) إخبار بالمصدر.
٣- المراد بالظالمين: الكاملون في الظلم وهو ظلم الأنفس وظلم الناس وظلم الشرك وهو أعظمها. (إن الشرك لظلم عظيم) وكذا إتيان الفواحش.
٤- التوصيل مبالغة في الوصل وهو: ضمّ شيء إلى شيء وربطه به، والقول القرآن ألفاظه وصل بعضها ببعض إذ نزل منجما كلما نزل آي وصل بالآخر حتى اكتمل، ووصلت معانيه بعضها ببعض بإحكام وإتقان لم يُعهد في كتاب غيره وصل وعده بوعيده وترغيبه بترهيبه.
﴿ فلما جاءهم الحق من عندنا ﴾ : أي محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً مبيناً.
﴿ قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى ﴾ : أي هلا أعطي مثل ما أعطي موسى من الآيات المعجزات من العصا واليد أو كتاباً جملة واحدة كالتوراة.
﴿ أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل ﴾ : أي كيف يطالبونك بأن تؤتي مثل ما أوتي موسى وقد كفروا بما أوتي موسى من قبل لما أخبرهم اليهود أنهم يجدون نعت محمد في التوراة كفروا بهذا الخبر ولم يقبلوه.
﴿ قالوا سحران تظاهرا ﴾ : أي التوراة والقرآن كلاهما سحر ظاهر بعضهما بعضاً أي قواه.
المعنى :
لما قرر تعالى نبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأدلته التي لا أقوى منها ولا أوضح وبين حاجة العالم إليهما لا سيما العرب وذكر أنه لولا كراهة قولهم :﴿ لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين ﴾ لما أرسل إليهم رسوله. ذكر هنا ما واجه به المشركون تلك الرحمة المهداة فقال عنهم ﴿ فلما جاءهم الحق من عندنا ﴾ أي محمد النبي صلى الله عليه وسلم قالوا :﴿ لولا أوتي مثل ما أوتي موسى ﴾ أي من الآيات كالعصا واليد البيضاء حتى نؤمن به ونصدق رسالته قال تعالى :﴿ أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل ؟ قالوا سحران تظاهرا ﴾. وقالوا :﴿ إنا بكل كافرون ﴾ وذلك أن قريشاً لما كثر المؤمنون وهالهم الموقف بعثوا إلى يهود المدينة يسألونهم بوصفهم أهل الكتاب الأول عن مدى صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما يقوله فأجابهم اليهود بأنهم يجدون نعوت النبي الأمي في التوراة وأنه رسول حق وليس بكذاب ولا دجال فما كان من المشركين من قريش إلا أن أعلنوا كفرهم بالتوراة وقالوا : التوراة والقرآن ﴿ سحران ﴾ تعاونا فلا تؤمن بهما ولا نصدق من جاء بهما وقرئ ﴿ ساحران ﴾ أي موسى ومحمد عليهما السلام فلا نؤمن بهما.
هذا معنى قوله تعالى ﴿ أولم يكفروا بما أوتى موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون ﴾ أي بكل منهما كافرون.
فكيف لا يخجلون اليوم ويطالبون محمداً أن يعطى مثل الذي أعطي موسى من الآيات يا للعجب أي يذهب بعقول المشركين ؟ ! !
الهداية :
- بيان تناقض المشركين وكل من يتبع الهوى ويترك الهدى الإِلهي.
وقوله تعالى :﴿ قل فأتوا بكتاب من عند الله ﴾ أي قل يا رسولنا لهؤلاء المشركين الذين كفروا بالتوراة والقرآن ﴿ فأتوا بكتاب من الله ﴾ أنزله بعلمه يكون أكثر هداية من التوراة والقرآن أتبعه ! ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ في دعواكم بأن الفرقان والتوراة سحران تظاهرا.
الهداية :
- بيان تحدي المشركين بالإِتيان بكتاب من عند الله وعجزهم عن ذلك فبان بذلك أنهم يتبعون أهواءهم وأنه لا أضل منهم اليوم.
﴿ فإن لم يستجيبوا لك ﴾ أي بالإِتيان بالكتاب الذي هو أهدى من التوراة والقرآن.
﴿ فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ﴾ : في كفرهم ليس غيرن فلا عقل ولا كتاب منير.
﴿ ومن أضل ممن اتبع هواه ﴾ : أي لا أضلُّ منه قط.
المعنى :
وقوله تعالى :﴿ فإن لم يستجيبوا لك ﴾ بالإِتيان بكتاب من عند الله تعالى هو أهدى من الفرقان والتوراة ومن أين لهم بذلك.. إنه المستحيل ! إذاً فاعلم أنهم إنما يتعبون أهواءهم فيما يقولون ويدعون فلا عقل ولا نقل عندهم ﴿ ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ﴾ ؟ ! اللهم إنه لا أضل منه. والنتيجة أنه لا أضل من هؤلاء المشركين من قريش وقوله تعالى ﴿ إن الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ هذا بيان لسنة الله تعالى في الظالمين الذين أكثروا من الظلم وتوغلوا فيه عقيدة بالشرك وعملاً بالمعاصي فإنه يحرمهم الهداية فلا يهتدون أبداً.
الهداية :
- بيان سنة الله في حرمان المتوغلين في الظلم من الهداية الإِلهية.
﴿ ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون ﴾ : أي بأخبار الأولين وما أحللنا بهم من نقمتنا لما كذبوا رسلنا وأنكروا توحيدنا ﴿ لعلهم يتذكرون ﴾ أي يتعظون فيؤمنون ويوحدون.
المعنى :
وقوله تعالى :﴿ ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون ﴾ أي لقد وصلنا أي لهؤلاء المشركين من قومك يا رسولنا أي وصلنا لهم القول بأخبار الماضين، وما أحللنا بهم من بأسنا ونقمنا وعظيم عقوباتنا لما كفروا كما كفر هؤلاء وكذبوا بما كذَّب به هؤلاء وصلنا لهم القول ميناً واضحاً موصولاً أوله بآخره وجاء أن يتذكروا فيذكروا فيؤمنوا ويوحدوا فينجوا من العذاب ويرحموا بدخول الجنة.
الهداية :
- بيان أن الله عز وجل وصل القول لأهل مكة مفصلاً مبيناً لهدايتهم فله الحمد وله المنة وعلى الكافرين اللعنة في جهنم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان تناقض المشركين وكل من يبتع الهوى ويترك الهدى الإلهي.
٢- بيان تحدي المشركين بالإتيان بكتاب من عند الله وعجزهم عن ذلك فبان بذلك أنهم يتبعون أهواءهم وأنه لا أضل منهم اليوم.
٣- بيان سنة الله في حرمان المتوغلين في الظلم من الهداية الإلهية.
٤- بيان أن الله عز وجل وصل القول لأهل مكة مفصلاً مبيناً لهدايتهم فله الحمد وله المنة وعلى الكافرين اللعنة في جهنم.
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (٥٥)
شرح الكلمات:
الذين آتيناهم الكتاب من قبله: أي التوراة والإنجيل من قبل القرآن الكريم.
وإذا يتلى عليهم: أي القرآن
إنا كنا من قبله مسلمين: أي منقادين لله مطيعن لأمره ونهيه.
ويدرءون بالحسنة السئية: أي يدفعون بالحسنة من القول أو الفعل السيئة منهما.
وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه: أي الكلام اللاغي الذي لا يقبل ولا يقر عليه لأنه لا يحقق درهماً للمعاش ولا حسنة للمعاد.
سلام عليكم: هذا سلام المتاركة أي قالوا قولا يسلمون به.
لا نبتغي الجاهلين: أي لا نطلب صحبة أهل الجهل لما فيها من الأذى.
معنى الآيات:
إن قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ﴾ يشمل أيضا اليهود والنصارى من أهل الكتاب إذ هم كالعرب فيما بين لهم من أخبار الماضين وفصل من أنباء إهلاك الأمم السابقة وما أنزل من بأساء وعذاب بالمكذبين، إذ الجميع مطالبون بالإيمان العمل الصالح والتخلي عن الشرك والكفر والمعاصي للنجاة والسعادة فذكر تعالى هنا أن فريقاً من أهل الكتاب يؤمنون بالنبي محمد لأنه الحق من ربهم. فقال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ (١) الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ أي القرآن ﴿قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ﴾ أي من قبل نزول (٢) القرآن ﴿مُسْلِمِينَ﴾ أي موحدين منقادين نعبد الله بما شرع على لسان موسى وعيسى عليهما السلام هذه الآية تعني مجموعة من آمن من أهل الكتاب على عهد رسول الله ونزول القرآن منهم عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وغيرهما. وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ (٣) مَرَّتَيْنِ﴾ أي مضاعفا لأنهم آمنوا برسولهم وعملوا بما جاء به من الحق وآمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما جاء به من الهدى وقوله ﴿وَيَدْرَأُونَ (٤) ﴾ أي يدفعون ﴿بِالْحَسَنَةِ﴾ وهي الصفح والعفو ﴿السَّيِّئَةَ﴾ وهي الأذى من سب وشتم. وقوله ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٥) ﴾ أي
٢- ومن قبل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذلك.
٣- ثبت في الصحيح "أن ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فآمن به واتبعه وصدّقه فله أجران وعبد مملوك أدى حق الله عز وجل وحق سيده فله أجران ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدّبها فأحسن أدبها ثم عتقها وتزوجها فله أجران" قال الشعبي: خذ هذا الحديث بغير شيء فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة.
٤- شاهده حديث معاذ: "اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن".
٥- هذا الإنفاق عام في المال والعلم والجاه إذ كل ذلك من رزق الله والكل ينفق منه في سبيل الله.
وقوله ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ أي إذا سمع أولئك المؤمنون من أهل الكتابين اللغو من سفهاء الناس أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه ولا إلى قائله وأجابو قائلين ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا﴾ أي نتائجها حيث نجزى بها ﴿وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ حيث تجزون بها ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾ أي اتركونا، إنا لا نبتغي (١) محبة الجاهلين، لما في ذلك من الأذى والضرر الناتج عن سلوك أهل الجهل بالله تعالى ومحابه ومكارهه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان فضل أهل الكتاب إذا آمنوا بالنبي الأمي وكتابه وأسلموا لله رب العالمين.
٢- فضيلة من يدرء بالحسنة السيئة، وينفق مما رزقه الله.
٣- فضيلة من يعرض عن اللغو وأهل الجهالات، ويقول ما يسلم به من القول، وهذه إحدى صفات عباد الرحمن ﴿وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما﴾ أي قولا يسلمون به. وهذا السلام ليس سلام تحية وإنما هو سلام متاركة.
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (٥٨) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ
شرح الكلمات:
إنك لاتهدي من أحببت: أي هدايته كأبي طالب بأن يسلم ويحسن إسلامه.
وقالوا: أي مشركوا قريش.
إن نتبع الهدى معك: أي إن نتبعك على ما جئت به وندعوا إليه وهو الإسلام.
نتخطف من أرضنا: أي تتجرأ علينا قبائل العرب ويأخذوننا.
يجبى إليه ثمرات كل شيء: أي يحمل ويساق إليه ثمارت كل شيء من كل ناحية.
رزقا من لدنا: أي رزقاً لكم من عندنا يا أهل الحرم بمكة.
بطرت معيشتها: أي كفرت نعمة الله عليها فأسرفت في الذنوب وطغت في المعاصي.
يبعث في أمها رسولا: أي في أعظم مدنها. وهي العاصمة.
إلا وأهلها ظالمون: بالتكذيب للرسول والإصرار على الشرك والمعاصي.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لا... بِالْمُهْتَدِينَ﴾ هذه الآية نزلت في شأن (١) أبي طالب عم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرغب في إسلامه لما له من سالفة في الوقوف إلى جنب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحيمه ويدافع عنه فلما حضرته الوفاة زاره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعرض عليه الشهادتين فكان يقول له: ياعم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله يوم القيامة وكان حوله عواده من كفار قريش، ومشايخها فكانوا ينهونه عن ذلك حتى قالوا له: أترغب عن دين آبائك؟ أترغب عن ملة عبد المطلب أبيك حتى قال هو على ملة عبد المطلب ومات. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأستغفرن لك مالم أُنْهَ عن ذلك فنهاه الله فلم يستغفر له بعد ونزلت هذه الآية كالعزاء له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال تعالى: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ هدايته يا نبينا ﴿وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ هدايته لعلمه أنه يطلب الهداية ولا يرغب عنها كما رغب عنها أبو طالب وأبو لهب وغيرهما،
وقوله تعالى: ﴿إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ هذا اعتذار اعتذر به بعض رجالات (١) قريش فقالوا نحن نعرف أن ما جئت به حق ولكننا نخشى إن آمنا بك واتبعناك يتألب علينا العرب ويرموننا عن قوس واحد ونصبح نتخطف من قبل المغيرين كما هو حاصل لغيرنا، وبذلك نحرم هذا الأمن والرخاء وتسوء أحوالنا، لهذا نعتذر عن متابعتك فيما جئت به وأنت تدعوا إليه من الكفر بآلهتنا وهدمها والتخلي عنها. فقال تعالى في الرد على هذا الاعتذار الساقط البارد ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ (٢) لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى (٣) إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا﴾ أي لم يوطئ لهم أرض بلد حرمناه فلا يسفك فيه دم، ولا يصاد فيه صيد، ولا يؤخذ فيه أحد بجريرة، أليس هذا كافياً في أن يعلموا أن الذي جعل لهم حرما آمنا قادر على أن يؤمنهم إذا آمنوا وأسلموا، ومن باب أولى. ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤) ﴾ فهذه علة إصرارهم على الشرك والكفر. إنها الجهل بالله تعالى وعظمته وعلمه وحكمته. ومعنى يجبى أو تجبى إليه ثمرات كل شيء أي يحمل إليه ويساق من أنحاء البلاد ثمرات كل شيء من أنواع الأرزاق وكان ذلك رزقا منه تعالى لأهل الحرم. أفلا يشكرون.
وقوله تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ﴾ أي وكثيرا من أهل القرى أهلكناهم ﴿بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا (٥) ﴾ لما بطروا عيشهم فلم يشكروا نعمة الله عليهم فأسرفوا في الظلم والمعاصي فأهلكناهم ﴿فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ﴾ أي ديارهم ﴿لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً﴾ (٦) كديار عاد وثمود والمؤتفكات. ﴿وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾ لها، فلم نورثها غيرهم وتركناها خاوية خالية لم تسكن. أما يذكرون هذا فيعلموا بذلك قدرتنا فيتقوا فينا ويتوكلوا علينا ويؤمنوا ويوحدوا ويستقيموا على منهج الحق الذي جئت يا رسولنا به.
وقوله: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ﴾ يا أيها الرسول ﴿مُهْلِكَ الْقُرَى﴾ أي أهل المدن والحواضر ﴿حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً﴾ كما بعثك في أم القرى مكة ﴿يَتْلُو (٧) عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ أي لم يكن
٢- الاستفهام للإنكار عليهم أن يكون الله تعالى لم يمّكن لهم حرماً آمناً.
٣- قرأ نافع تجبى بالتاء، وقرأ حفص بالياء، والجبي: الجمع، والجلب، ومنه جباية الزكاة أي جمع أموالها، وجابية الحوض ما يجمع فيها الماء من البئر.
٤- هذا الاستدراك لذكر علة تجاهلهم حماية الله تعالى لهم بتمكين الحرم لهم فهم فيه آمنون مطعمون ألا وهي الجهل فهو علتهم الحاملة لهم على الإصرار على الشرك.
٥- بطرت: جهلت شكر معيشتها.
٦ - (إلا قليلا) أي: كالمسافرين الذين يمرون بها وينزلون بها ساعا ويغادرون.
٧- الجملة في محل نصب صفة لـ (رسولا).
فللإهلاك شرطان:
الأول: أن يبعث الرسول يتلو آياته فيكذب ويكفر به وبما جاء به.
الثاني: أن يظلم أهل القرى ويعتدوا وذلك بإظهار الباطل والمنكر وإشاعة الشر والفساد في البلاد وهذا من عدل الله تعالى ورحمته بعباده إنه لأرحم بهم من أنفسهم، وكيف ومن أسمائه وصفاته الرحمن الرحيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير مبدأ لا هادي إلا الله. الهداية المنفية هي إنارة قلب العبد وتوفيق العبد للإيمان وعمل الصالحات، وترك الشرك والمعاصي. والهداية المثبة، يقول الله تعالى وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. تلك هداية الدعوة والوعظ والإرشاد، ومنه ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ أي يدعوهم إلى الهدى.
٢- مظاهر قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته فيما ألقاه في قلوب العرب المشركين الجاهليين من تعظيم الحرم وأهله ليهيء بذلك لسكان حرمه أمنا وعيشاً كما قال تعالى ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ قريش (٢-٤).
٣- من رحمة الله وعدله أن لا يهلك أمة من الأمم إلا إذا توفر لهلاكها شرطان:
١- أن يبعث فيهم رسولا يتلو عليهم آيات الله تحمل الهدى والنور.
٢- أن يظلم أهلها بالتكذيب للرسول والكفر بما جاء به والإصرار على الكفر والمعاصي.
٤- التاريخ يعيد نفسه كما يقولون فما اعتذر به المشركون عن قبول الإسلام بحجة تألب العرب عليهم وتعطيل تجارتهم يعتذر به اليوم كثير من المسؤولين فعطلوا الحدود وجاروا الغرب في فصل الدين عن الدولة وأباحوا كبائر الاثم كالربا وشرب الخمور وترك الصلاة حتى لا يقال عنهم إنهم رجعيون متزمتون فيمنعوهم المعونات ويحاصرونهم اقتصاديا.
شرح الكلمات:
وما أوتيتم من شيء: أي وما أعطاكم الله من مال أو متاع.
فمتاع الحياة الدنيا وزينتها: فهو ما تتمتعون به وتتزينون ثم يزول ويفنى.
وما عند الله خير وأبقى: أي وما عند الله من ثواب وهو الجنة خير وأبقى.
أفلا تعقلون: لأن من يؤثر القليل الفاني على الكثير الباقي لا عقل له.
وعداً حسنا: أي الجنة.
فهو لاقيه: أي مصيبه وحاصل عليه وظافر به لا محالة.
من المحضرين: أي في نار جهنم.
معنى الآيتين:
لقد سبق في هذا السياق أن المشركين اعتذروا عن الإسلام بعذر مادي بحت وهو وجود عداوة بينهم وبين سائر العرب. يترتب عليها حروب وتعطل التجارة إلى غير ذلك. فقوله تعالى هنا ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ (١) مِنْ شَيْءٍ (٢) فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ وهو خطاب لهم ولكل من يؤثر الحياة الدنيا على الآخرة فيستحل المحرمات ويعطل الأحكام ويضيع الفرائض والواجبات لتعارضها في نظره مع جمع المال والتمتع بالحياة الدنيا. وقوله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ أي من مال ومتاع وإن كثر ﴿فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي فهو متاع الحياة الدنيا ﴿وَزِينَتُهَا﴾ أي تتمتعون وتتزينون به أياماً أو أعواماً ثم ينفد ويزول، أو تموتون عنه وتتركونه ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ﴾
٢ - (من) بيانية فقوله: (من شيء) بيان لما في قوله: (وما أوتيتم) والمتاع ما يتمتع به زمنا ثم يزول، والزينة تطلق على ما يحسن الأجسام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- فائدة العقل أن يعقل صاحبه دون ما يضره، ويبعثه على ما ينفعه فإن لم يعقله دون ما يضره ولم يبعثه على ما ينفعه فلا وجود له، ووجوده كعدمه.
٢- بيان فضل الآخرة على الدنيا.
٣- وعد الله للمؤمن بالجنة خير مما يؤتاه من مال ومتاع وزينة في الحياة الدنيا.
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (٦٣)
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا
٢ - جملة (فهو لاقيه) معترضة بين طرفي المقابلة في المفاضلة.
شرح الكلمات:
ويوم يناديهم: أي الرب سبحانه وتعالى.
كنتم تزعمون: أي أنهم شركاء لي فعبدتموهم معي.
حق عليهم القول: أي بالعذاب في النار وهم أئمة الضلال.
أغويناهم: أي فغووا ولم نكرههم على الغي.
تبرأنا إليك: أي منهم ما كانوا يعبدوننا بل كانوا يعبدون أهواءهم.
وقيل ادعوا شركاءكم: نادوهم ليخلصوكم مما أنتم فيه.
لو أنهم كانوا يهتدون: أي لما رأوا العذاب ودّوا لو أنهم كانوا في الدنيا من المهتدين.
ويوم يناديهم: أي الله تبارك وتعالى.
فعميت عليهم الأنباء: أي فخفيت عليهم الأنباء التي يمكنهم أن يحتجوا بها.
فهم لا يتساءلون: أي انقطعوا عن الكلام.
فأما من تاب وآمن: أي آمن بالله ورسوله وتاب من الشرك.
وعمل صالحا: أدى الفرائض والواجبات.
فعسى أن يكون من المفلحين: أي الفائزين بالنجاة من النار ودخول الجنة، وعسى من الله تعالى لا تفيد مجرد الرجاء بل هي لتحقق الموعود به.
معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله واذكر يوم ينادي (١) ربك هؤلاء المشركين وقد ماتوا على شركهم فيقول لهم
قال تعالى: ﴿فَدَعَوْهُمْ﴾ بالفعل نادوا ﴿فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ﴾ إذ لا يقدر واحد من الإنس أو الجن أن يقول هذا كان يعبدني، بل كل معبود يتبرأ ممن عبده كما قالوا في الآية قبل ذي تبرأنا إليك أي منهم ما كانوا يعبدوننا بل كانوا يعبدون أهواءهم وقوله تعالى: ﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾ بأعينهم فاشتدت حسرتهم وودوا لو أنهم كانوا في الدنيا من المهتدين. وقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ﴾ أي ربهم قائلا: ﴿مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾ ؟ أخبرونا كيف كان موقفكم مع من أرسلنا إليكم؟ هل آمنتم بهم واتبعتموهم أم كذبتموهم وحاربتموهم قال تعالى: ﴿فَعَمِيَتْ (٥) عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ﴾ أي فخفيت عليهم الأخبار التي يمكنهم أن يحتجوا بها فلم يجدوا حجة واحدة ولذا ﴿فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُون﴾ أي لا يسأل بعضهم بعضاً لأنه سقط في أيديهم وعلموا أنهم صالوا الجحيم لا محالة. وقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ تَابَ (٦) ﴾ من هؤلاء المشركين اليوم من الشرك وآمن بالله ولقائه ورسوله وعمل صالحا فأدى الفرائض والواجبات ﴿فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ﴾ أي الفائزين بالنجاة من النار ودخول الجنة، فهذه دعوة سخية لكل مشرك وكافر وفاسق أن يتخلى عن الباطل المتلبس به ويؤمن الإيمان الصحيح ويعمل صالحا بأداء الفرائص فإنه ينجو من النار ويدخل الجنة دار الأبرار فهل من تائب؟!.
٢ - هذا النداء المراد به الاستعطاف والاسترحام.
٣ - أي: أضللناهم كما كنا ضالين، وذلك أنهم دعوهم إلى عبادتهم فعبدوهم، ولذا قال قتادة: هؤلاء هم الشياطين، وقيل: هم الرؤساء، والكل صحيح.
٤ - (تبرأنا) أي: تبرأ الشياطين والرؤساء ممن عبدوهم أو عبدوا غير الله بدعوتهم وتزينيهم، وأنكروا أنهم كانوا يعبدونهم.
٥ - خفيت الأنباء على جميع المسؤولين فسكتوا كلهم إذ لم يروا جوابا ينفع في هذا الموقف الرهيب.
٦ - هذه الفاء الفصيحة كأن سائلاً قال بعد أن عرف حال المشركين في النار: وما حال غيرهم يا ترى؟ فأجيب بأن من تاب من الشرك وعمل صالحا بأداء الفرائض ففلاحه العظيم واجب له متأكد.
من هداية الآيات:
١- التنديد بالشرك والمشركين.
٢- براءة الرؤساء في الضلال من المرؤوسين.
٣- التحذير من الغواية وهي الضلال، والانغماس في الذنوب والآثام.
٤- خذلان المعبودين عابديهم يوم القيامة وتبرؤهم منهم.
٥- باب التوبة مفتوح لكل عبد مهما كانت ذنوبه ولا يهلك على الله إلا هالك.
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠)
شرح الكلمات:
يخلق ما يشاء: أي من خلقه.
ويختار: أي من يشاء لنبوته وطاعته.
ما كان لهم: أي للمشركين.
الخيرة: أي الاختيار في شيء.
سبحان الله: أي تنزيها لله عن الشرك.
يعلم ما تكن صدورهم: أي ما تسر وتخفي من الكفر وغيره.
له الحمد في الأولى: أي في الدنيا لأنه مولى كل نعمة.
وفي الآخرة: أي في الجنة.
وله الحكم: أي القضاء النافذ.
وإليه ترجعون: بعد النشور وذلك يوم القيامة.
لقد تقدم في الآيات قبل هذه التنديد بالشرك وتوبيخ المشركين وتحديهم بدعاء شركائهم ليخلصوهم مما هم فيه من العذاب، وكان شركهم باختيارهم الخاص وإرادتهم الحرة إذ تبرأ منهم من اختاروهم آلهة مع الله فعبدوهم معه. وفي هذه الآية يكشف تعالى عن خطئهم في الاختيار، وذلك من وجهين: الأول أنه لا حق لهم في الاختيار. إذ الاختيار لخالق المخلوقات فيختار منها ما يشاء لنبوته أو طاعته أما الذي يُخْلَقُ ولا يَخْلُقُ فكيف يصح منه اختيار. والثاني بحكم أنهم مخلوقون مربوبون لله تعالى وهم يعلمون هذا إذ لو سألهم أحد: من خلقكم؟ لقالوا: الله؛ كان المفروض فيهم والمطلوب منهم أن يطلبوا من الله تعالى خالقهم أن يختار لهم ما يعبدون ويبين لهم كيف يعبدون، إذ هو مولاهم الحق ولا مولى لهم سواه أما أن يركبوا رؤوسهم ويختاروا بأنفسهم ما يعبدون فهذا ظلم منهم كبير استوجبوا به اللوم في الدنيا والعذاب في الآخرة. قال تعالى: (٦٨) ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾.. أي وربك يا محمد يخلق ما يشاء ممن يريد خلقهم ويختار (١) من يشاء لما يشاء ممن يشاء من عباده لما يشاء من كمال أو نقصان. أما عبيده فليس لهم حق الاختيار وإنما عليهم السمع والطاعة قال تعالى: ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (٢) ﴾ أي حق الاختيار بل الذي يختاره الله هو الذي يجب أن يختاره العبد. وقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو ويقول: "اللهم خرْ لي واختر لي" وكان يعلم أصحابه دعاء الاستخارة كما يعلمهم السورة من القرآن، ويحضهم على أن يختاروا في الأمر الواحد سبع مرات. وقوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ نزه تعالى نفسه عن شرك المشركين وباطل المبطلين وقوله ﴿وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ وهذا برهان أن الخيرة له (٣) وليس لغيره إذ الذي يعلم الظواهر والبواطن والبدايات والنهايات قبل البدء والمنتهى صاحب هذا العلم هو الذي يختار. أما الذي لا يعلم ما يكنه أخوه في صدره بل ولا ما يظهره آخر إلى جنبه أي لا يعلم عاقبته فكيف يصح منه الاختيار أو تكون له خيرة في شيء. وفوق ذلك أنه سبحانه وتعالى ﴿وَهُوَ اللهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ أي المعبود الذي لا معبود بحق سواه الذي له الحمد
٢ - جائز أن يكون (ما) موصولاً مفعولا به لفعل: يختار، والعائد محذوف أي: ويختار الذي لهم فيه خير، كما أن الخلق من خصائصه، إذ قال (وربك يخلق ما يشاء) فكذلك الاختيار له دون غيره، وجائر أن يكون الوقف التام على (ويختار)، وجملة (ما كان لهم الخيرة) مستأنفة لغرض تأكيد القصر على الله تعالى هو الخالق وحده وهو الذي يختار وحده وليس لأحد من الخلقِ الخلقُ والاختيار.
٣ - الخيرة: اسم مصدر الاختيار كالطيرة اسم مصدر التطير ولا نظير لهذه الصيغة في الأسماء (والطيرة والخيرة).
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير مبدأ "ليس من حق العبد أن يختار إلا ما اختاره الله له".
٢- تعين طلب الاختيار في الأمر كله من الله تعالى بقول العبد "اللهم خر لي واختر لي".
٣- تأكيد سنة الاستخارة وهي إذا همّ العبد بالأمر يصلي ركعتين في وقت لا تكره فيه صلاة النافلة، ثم يدعو بدعاء الاستخارة كما ورد في الصحيح وهو "اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي وفي عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي وفي عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به". ويسمي حاجته التي هم بها من سفر أو زواج أو بناء أو تجارة أو غراسة.
٤- تقرير التوحيد وإبطال التنديد.
٥- وجوب حمد الله وشكره على كل حال وذلك لتجدد النعمة في كل آن.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
شرح الكلمات:
أرأيتم: أي أخبروني
سرمداً: أي دائما، ليلاً واحداً متصلاً لا يعقبه نهار.
بضياء: أي ضوء كضوء النهار.
بليل تسكنون فيه: أي تنامون فتسكن جوارحكم فتستريح من تعب الحياة.
لتسكنوا فيه: أي في الليل.
ولتبتغوا من فضله: أي تطلبوا الرزق من فضل الله في النهار.
ولعلكم تشكرون: أي كي تشكروا ربكم بطاعته كالصلاة والصيام والصدقة.
ونزعنا من كل أمة شهيداًَ: أي أحضرنا من كل أمة من يشهد عليها وهو نبيها عليه السلام.
فقلنا هاتوا برهانكم: أي حججكم على صحة الشرك الذي أنذرتكم رسلنا عواقبه فما قبلتم النذارة ولا البشارة.
فعلموا أن الحق لله: أي تبين أن العبادة والدين الحق لله لا لسواه.
وضل عنهم ما كانوا يفترون: أي وغاب عنهم ما كانوا يكذبونه من الأقوال الباطلة التي كانوا يردون بها على الرسل عليهم السلام.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد وإبطال التنديد وهو حول أنداد لله تعالى من مخلوقاته فقال تعالى لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قل لهؤلاء المشركين الذين جعلوا لله أنداداً وهو
٢ - (سرمداً) أي: دائماً. قال طرفة بن العبد:
لعمرك ما أمري عليّ بغمّة
نهاري ولا ليلي عليّ بسرمد
٣ - أي: بنهار تبصرون فيه معايشكم ويصلح فيه ثماركم ونباتاتكم.
٤ - فيه تصريح بأن الليل بما يحصل فيه من سكون وراحة للأبدان والعقول من الهم والتفكير، والنهار بما يحصل فيه من عمل ونشاط للكسب وتحصيل الزرق نعمة الله على العباد اقتضتها رحمته بهم فله الحمد وله المنة.
٥ - أعيد هذا الموقف مرة أخرى ليذكر فيه حالاً لم تذكر في الأول وهي: إشهاد الأنبياء على أممهم، وفي هذا تقرير للنبوة المحمدية إذ هذه الآية كآية (وجئنا بك على هؤلاء شهيداً).
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- إشارة علمية إلى أن السماع يكون مع السكون وقلة الضجيج، وأن الإبصار يكون مع الضوء، ولا يتم مع
الظلام بحال من الأحوال.
٢- البرهنة القوية على وجوب توحيد الله إذ لا رب يدبر الكون سواه.
٣- كون النهار والليل ظرفان للسكون وطلب العيش هما من رحمة الله تعالى أمر يقتضي شكر الله تعالى بحمده والاعتراف بنعمته وطاعته بصرف النعمة فيما يرضيه ولا يسخطه.
٤- بيان أهوال القيامة، بذكر بعض المواقف الصعبة فيها.
٥- إذا كان يوم القيامة بطل كل كذب وقول ولم يبق إلا قول الحق والصدق.
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦)
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً
شرح الكلمات:
إن قارون كان من قوم موسى: أي ابن عم موسى عليه السلام.
فبغى عليهم: أي ظلمهم واستطال عليهم.
ما إن مفاتيحه لتنوء بالعصبة: أي أعطاه الله من المال ما يثقل عن الجماعة حمل مفاتح خزائنه.
لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين: أي لا تفرح فرح البطر والأشر.
وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة: أي اطلب في المال الذي أوتيته الدار الآخرة بفعل الخيرات.
على علم عندي: أي لعلم الله تعالى بأني أهل لذلك.
وأكثر جمعا: أي للمال.
ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون: أي لعلم الله تعالى بهم فيدخلون النار بدون حساب.
معنى الآيات:
هذا بداية (١) قصص قارون الباغي، وهو قارون ابن يصهر بن قاهَثْ بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام. فهو ابن عم موسى بن عمران وابن خالته أيضاً وكان يلقب المنور لحسن صورته، ونافق كما نافق السامري المطرود. قال تعالى في ذكر خبره ﴿إِنَّ قَارُونَ (٢) كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى﴾ أي إسرائيلي ابن عم موسى بن عمران الرسول. ﴿فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾ أي على بني إسرائيل أي ظلمهم وطغى عليهم، ولعل فرعون كان قد أسند إليه إمارة على بني إسرائيل فأطغته وملك أموالاً كثيرة ففرته وألهته. وقوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ (٣) بِالْعُصْبَةِ (٤) أُولِي الْقُوَّةِ﴾. وهذا الخبر الإلهي دليل على ما كان للطاغية
٢ - ومغزى هذا القصص أولا: تقرير النبوة المحمدية إذ مثل هذا لا يقصه غير من يوحى إليه بحال. ثانيا: تضمن القصص الرد على المعجبين بالمال ومتاع الحياة الدنيا وبيان نهايتهم المؤلمة، وثالثا: عرض مشابه لموقف أصحاب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أغنياء مكة وهم يتطاولون عليهم بالمال والجاه. كما كان قارون مع ضعفة بني إسرائيل وفي ذلك عظة للمؤمنين وذكرى للكافرين.
٣ - (ما عن مفاتحه) الأكثرون على أن (ما) موصول، وصلتها جملة: (إن مفاتيحه) وأنكر بعض أن تبتدئ الصلة بحرف إنّ فقالوا: (ما) موصوفة وما بعدها في محل الصفة، والمفاتيح: جمع مفتاح بكسر الميم: اسم آلة الفتح.
٤ - (تنوء) من ناء بالشيء ينوء ثقل عليه، والباء: في (بالعصبة) للمصاحبة، وليست للسببية، إذ هي كما في قول امرؤ القيس:
وأردف أعجازا وناء بكلكل.
والعصبة الجماعة من الخمسة إلى العشرة فأكثر.
مما تجمع الدهر كله رداءان تلوى فيهما وحنوط
٢ - الفساد في الأرض يكون بفعل المعاصي الجامعة لترك الفرائض وإتيان الكبائر.
٣ - وقال ابن زيد: لعلم الله تعالى بفضلي ورضاه عني أي: إني أوتيتها باستحقاقي.
٤ - أي: لا يسأل سؤال استعتاب ليتوب أما سؤال التقريع والتوبيخ فلا مانع منه، وذلك كقوله تعالى: (ولا يستعتبون) وقوله (وما هم بمعتبين).
٥ - (سيماهم) إنهم سود الوجوه زرق العيون.
٦ - المجرمون: هم الذين أجرموا على أنفسهم أي: خبّثوها بكثرة ما يرتكبون من الجرائم كالكفر والظلم وكبائر الذنوب، كالقتل ظلماً وأكل الربا وتعاطي الخمور والزنى.
من هداية الآيات:
١- المال والمنصب العالي عرضة لإفساد المرء إلا من رحم الله عز وجل وقليل ما هم.
٢- حرمة الفرح بالمال والإمارة إذا كان الفرح فرح بطر وفخر واعتزاز وكبر وخيلاء.
٣- من فضل الله على الأمة أن يوجد فيها عالمون ينصحون ويرشدون ويوجهون.
٤- من الحزم للمرء أن يطلب من المال والجاه والمنصب أعلى الدرجات في الجنة.
٥- حلّية الأكل من الطيب والشرب من الطيب واللبس والركوب والسكن من غير إسراف ولا خيلاء ولا كبر.
٦- العافية والمال وعز السلطان يصاب صاحبها بالاغترار إلا من رحم الله.
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (٨٢)
في زينته: أي لباس الأعياد والحفلات الرسمية.
يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون: أي تمنوا لو أعطوا من المال والزينة ما أعطي قارون.
إنه لذو حظ عظيم: أي إنه لذو بخت ونصيب وهبه الله إياه في كتاب المقادير.
وقال الذين أوتوا العلم: أي أعطوا العلم الديني بمعرفة الله والدار الآخرة وموجبات السعادة والشقاء.
ويلكم: أي حضر ويلكم وهلاككم بتمنيكم المال وزخرف الدنيا.
ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا: أي ما عند الله من جزاء للمؤمنين العاملين الصالحات وهو الجنة خير من حطام الدنيا الفاني.
ولا يلقاها إلا الصابرون: أي ولا يوفق لقول هذه الكلمة وهي ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً إلا الصابرون على الإيمان والتقوى.
فخسفنا به وبداره الأرض: أي أسخنا الأرض من تحته فساخت به وبداره وكل من كان معه فيها من أهل البغي والإجرام.
تمنوا مكانه بالأمس: أي الذين قالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون فالمراد من المكان المكانة وما عليه قارون من الإمارة والزينة والمال والجاه.
ويكأن الله يبسط: أي أعجبُ عالما أن الله يبسط الرزق لمن يشاء.
ويقدر: أي يضيّق.
ويكأنه لا يفلح الكافرون: أي أعجب عالماً أنه لا يفلح الكافرون أي أنهم لا يفوزون بالنجاة من النار ودخول الجنان كما يفوز المؤمنون.
ما زال السياق في قصص قارون الباغي قال تعالى ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ (١) ﴾ أي قارون في يوم عيد أو مناسبة خرج على قومه وهم يشاهدون موكبه ﴿فِي زِينَتِهِ﴾ الخاصة من الثياب والمراكب. قوله تعالى: ﴿قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ أي من قوم موسى وهم المفتونون بالدنيا وزخرفها من أهل الغفلة عن الآخرة وما أكثرهم اليوم وقبل وبعد اليوم قالوا ما أخبر الله به عنهم: ﴿يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ﴾ تمنوا أن يكون لهم مثل الذي أوتي قارون من المال والزينة ﴿إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ (٢) عَظِيمٍ﴾ أي بخت ونصيب ورزق ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ أي الشرعي (٣) الديني العالمون بالدنيا والآخرة، وأسباب السعادة والشقاء في كل منهما قالوا ما أخبر الله تعالى به عنهم في قوله: ﴿وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً﴾ ويحكم هلكتم إن كنتم تؤثرن هذا الفاني على الباقي ﴿ثَوَابُ اللهِ﴾ وهو الجنة خير من هذا الزخرف الفاني ﴿لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً﴾ ولازم ذلك أنه ترك الشرك والمعاصي، وقوله تعالى: ﴿وَلا يُلَقَّاهَا﴾ أي (٤) هذه الجملة من الكلام: ﴿ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ﴾ بربه ﴿وَعَمِلَ صَالِحاً﴾ في حياته بأداء الفرائض والنوافل وترك المحرمات والرذائل أي لا يلقى هذه الكلمة ﴿إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ من أهل الإيمان والتقوى هم الذين يلقنهم الله إياها فيقولونها الصفاء أرواحهم وزكاة أنفسهم وقوله تعالى في الآية (٨١) ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ (٥) وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾ يخبر تعالى أنه خسف بقارون وبداره الأرض انتقاما منه لكفره ونفاقه وبغيه وكبريائه. وقوله تعالى ﴿فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ﴾ أي جماعة ﴿يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ لما أراد الله خذلانه بخسف الأرض به وبداره ومن فيها من أعوانه الظلمة والمجرمين. ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ﴾ أي لنفسه فنجاها مما حل بها من الخسف في باطن الأرض التي ما زال يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وقوله تعالى: ﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ﴾ (٦) يخبر تعالى
٢ - الحظ: القسم الذي يعطاه المقسوم له.
٣ - في الآية دليل قوي على أن الجهل بالله وشرائعه ووعده ووعيده هو سبب كل شر وفساد في الأرض، وأن العلم بذلك هو سبيل الإصلاح في الأرض.
٤ - (يلقاها) الضمير عائد على ما دل عليه قولهم: (ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً) وهو هذه الموعظة، ولا يلهمها وتلقى في روعه وينطق بها إلا أهل الصبر على الطاعات وعن المعاصي فتصفو لذلك نفوسهم فيلهمون مثل هذه الموعظة.
٥ - الفاء هنا: للترتيب والتعقيب فقد خسف به يوم خروجه في زينته.
٦ - أي: تمنوا منزلته بين الناس، وهي منزلة المال والترف والجاه والرفعة ومعنى: مكانه: ما كان عليه من منزلة العلو والرفعة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان أن الفتنة أسرع إلى قلوب الماديين أبناء الدنيا والعياذ بالله تعالى.
٢- بيان موقف أهل العلم الديني وأنهم رشَّد أي حكماء يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
٣- بيان أن البغي يؤخذ به البغاة في الدنيا ويعذبون به في الآخرة.
٤- بيان أن وجود الإيمان خير من عدمه وإن قل وأن ذا الإيمان أقر على التوبة ممن لا إيمان له.
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤)
ولقد سقا نفسي وأبرأ سُقمها
قيل الفوارس ويك عنتر أقدم.
وذهب بعض إلى أن أصل ويك: ويلك اعلم أنه كذا فحذفت اللام والفعل، فصارت ويك.
٢ - أي: يضيق الرزق ولا يوسعه.
٣ - أي: لولا أن من الله فعافانا مما ابتلى قارون به من المال والظلم والطغيان لحل بنا ما حل به من الخسف والخسران.
تلك الدار الآخرة: أي الجنة، دار الأبرار.
لا يريدون علواً في الأرض: أي بغيا ولا استطالة على الناس.
ولا فساداً: أي ولا يريدون فساداً بعمل المعاصي.
والعاقبة: أي المحمودة في الدنيا والآخرة.
للمتقين: الذين يتقون مساخط الله فلا يعتقدون ولا يقولون ولا يعملون ما لا يرضى به الله تعالى.
من جاء بالحسنة: أي يوم القيامة والحسنة: أثر طاعة الله تعالى يجزى به المؤمن.
فله خير منها: أي تضاعف له عشرة أضعاف.
ومن جاء بالسيئة: السيئة أثر معصية الله تعالى يعاقب به العبد إذا لم يعف الله تعالى عنه.
معنى الآيات:
لقد تقدم في السياق أن ثواب الله وهو الجنة خير لمن آمن وعمل صالحاً فأشار إليه تعالى بقوله ﴿تِلْكَ (١) الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾ التي هي الجنة آخر دار يسكنها المتقون فلا يخرجون منها. نجعلها، هذا هو الخبر عن قوله تلك الدار الآخرة فأخبر تعالى أنه يجعلها مأوى ومسكناً للذين لا يريدون علوّاً (٢) في الأرض ولا فساداً، لا يريدون استطالة على الناس وتعاليا وتكبراً عليهم وبغيا، ولا فساداً بارتكاب المعاصي كالقتل والزنا والسرقة وشرب الخمر، وقوله تعالى: ﴿وَالْعَاقِبَةُ (٣) لِلْمُتَّقِينَ﴾ أي والعاقبة المحمودة في الدارين لأهل الإيمان والتقوى وهم المؤمنون الذين يتقون مساخط الله عز وجل، وذلك بفعل المأمورات واجتناب المنهيات. وقوله تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ﴾ أي يوم القيامة ﴿بِالْحَسَنَةِ﴾ وهي الطاعات لله ورسوله ﴿فَلَهُ﴾ جزاء مضاعفا الحسنة بعشر أمثالها وقد تُضاعف إلى أكثر بشرط أن لا تكون حسنة أعطيت له من حسنات ظالم في الدنيا فهذه لا تتضاعف. إذ تضاعف الحسنة التي باشرها، كما
٢ - روى سفيان بن عيينة أن عليا بن الحسين وهو راكب مرَّ على مساكين يأكلون كسرا لهم فسلم عليهم فدعوه إلى طعامهم فتلا هذه الآية: (تلك الدار الآخرة..) إلى (فساداَ) ثم نزل وأكل معهم.
٣ - الجملة تذييلية تقرر حقيقة أخرى وهي الإشارة بالتقوى والعاقبة المحمودة في الدارين لأهل التقوى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- حرمة التكبر والاستطالة على الناس، والعمل بالمعاصي، وأنه الفساد في الأرض.
٢- بيان فضل الله ورحمته وعدله بين عباده بمضاعفة الحسنات وعدم مضاعفة السيئات.
٣- العاقبة الحسنى وهي الجنة لأهل الإيمان والتقوى.
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ (٨٦
) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)
شرح الكلمات:
إن الذي فرض عليك القرآن: أي الله الذي أنزل عليك القرآن وفرض عليك قراءته والعمل بما فيه وتبليغه.
لرادك إلى معاد: أي لمرجعك إلى مكة فاتحاً إذ معاد الرجل بلده الذي يعود إليه.
إلا رحمة من ربك: لكن رحمة من الله وفضل أنزله عليك.
فلا تكونن ظهيراً: أي فمن شُكر هذه النعمة ألا تكون معينا للكافرين.
ولا يصدنك: أي لا يصرفنك عن العمل بآيات الله بعد أن شرفك الله بإنزالها عليك.
وادع إلى ربك: أي ادع الناس إلى الإيمان بالله وعبادته وترك الشرك به.
ولا تدع مع الله إلهاً آخر: أي لا تعبد مع الله إلهاً آخر بدعائه والذبح والنذر له.
كل شيء هالك: أي فان.
إلا وجهه: أي إلا الله سبحانه وتعالى فلا يهلك كما يهلك ما عداه.
معنى الآيات:
تقدم في السياق الكريم الدعوة إلى أصول الدين الثلاثة: التوحيد، والنبوة، والبعث والجزاء وهذه خاتمة ذلك في هذه السورة الكريمة فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي (١) فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ﴾ أي أنزله عليك وفرض عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه، ﴿لَرَادُّكَ﴾ أي لمرجعك (٢) ﴿إِلَى مَعَادٍ (٣) ﴾ وهو العودة إلى مكة بعد خروجك منها واشتياقك إلى العودة إليها وإلى الجنة بعد وفاتك لأنك دخلتها ليلة عُرج بك إلى السماء وفي هذا تقرير لنبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوحي إليه، وقوله تعالى: ﴿قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ فإنه تعليم له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يرد به على المشركين الذين اتهموه بأنه ضال في دعوته وخروجه عن دين آبائه وأجداده علَّمه أن يقول لهم ربي أعلم بمن جاء بالهدى وهو أنا، رسول الله، ومن هو في ضلال مبين وهو أنتم أيها المشركون. وقوله ﴿وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ﴾ أي وما كنت يا محمد تأمل أن ينزل عليك القرآن، وذلك قبل بعثته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقوله ﴿إِلَّا رَحْمَةً مِنْ (٤) رَبِّكَ﴾ أي لكن رحمة ربك عليك اقتضت إنزاله عليك لتكون رسول الله للعالمين، وهي نعمة كبيرة وإفضال عظيم فاشكره بما يلي:
(١) ﴿فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ﴾ أي عوناً لهم بحال من الأحوال.
٢ - مرجعك: اسم فاعل من أرجعه الرباعي فهو مرجع له.
٣ - وفسر المعاد بالجنة لأنه دخلها ليلة المعراج، وأخرج منها وبقيت نفسه ملتصقة بها فبشر بأن الله تعالى سيرده إليها.
٤ - الاستثناء منقطع لذا فسر بلكن.
وفي هذا تقرير للنبوة المحمدية.
(٣) ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ﴾ ادع الناس إلى توحيد ربك والعمل بشرعه.
(٤) ﴿وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ أي فتتبرّأ منهم ولا ترضى بشركهم وادعهم إلى خلافه وهو التوحيد.
(٥) ﴿وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ﴾ أي لا تعبد مع الله إلهاً آخر لا بالدعاء ولا بالنذر والذبح ولا بتقديم أي قربان أو طاعة لغير الله سبحانه وتعالى، وفي هذا تقرير للتوحيد وقوله ﴿لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ تقرير للتوحيد بإبطال أن يكون هناك إله مع الله.
وقوله ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ (١) ﴾ يخبر تعالى أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل ذاهب بلا مثوبة عليه. كما أن كل شيء سوى الله عز وجل فانٍ ولم يبق إلا الله سبحانه وتعالى كقوله ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ﴾ و ﴿لَهُ الْحُكْمُ﴾ أي القضاء العادل بين عباده وقوله ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي بعد الموت للحساب والجزاء يوم بعثكم وحشركم إليه عز وجل، وفي هذا تقرير للبعث والجزاء. والحمد لله أولاً وآخراً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- معجزة القرآن في وقوع الغيب بعد الإخبار به وذلك حيث عاد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مكة بعد الخروج منها.
٢- مشروعية الملاينة في الجدال والمناظرة أثناء الدعوة باستعمال أسلوب التشكيك.
٣- حرمة معاونة الكفار ومناصرتهم لا سيما ضد المؤمنين.
٤- وجوب الثبات والصبر على الدعوة حتى نجاحها ببلوغها الناس واستجابتهم لها.
٥- تقرير التوحيد والبعث والنبوة المحمدية.
٦- فناء كل شيء إلا الله تعالى إلا ما ورد الدليل بعدم فنائه وعُدَّ منه ثمانية نظّمها بعضهم بقوله:
هي العرش والكرسي نار وجنة
وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم
استغفر الله ذنباً لست مُحصيه
ربّ العباد إليه الوجه والعمل