تفسير سورة سورة المدثر من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن
المعروف بـفتح البيان
.
لمؤلفه
صديق حسن خان
.
المتوفي سنة 1307 هـ
سورة المدثر
هي خمس أو ست وخمسون آية وهي مكيّة في قول الجميع. قال ابن عباس نزلت بمكة. وعن ابن الزبير مثله.
ﰡ
(يا أيها المدثر) أي يا أيها الذي قد تدثر بثيابه، أي تغشى بها من الرعب الذي حصل له من رؤية الملك عند نزول الوحي، وأصله المتدثر فأدغمت التاء في الدال لتجانسهما، وقد قرأ الجمهور بالإدغام، وقرأ أبيّ على الأصل، والدثار هو ما يلبس فوق الشعار، والشعار هو الذي يلي الجسد، وفي الحديث الأنصار شعار، والناس دثار، وسيف داثر بعيد العهد بالصقال، ومنه قيل للمنزل الدارس داثر لذهاب أعلامه، وقال عكرمة المعنى يا أيها المدثر بالنبوة وأثقالها، قال ابن العربي وهذا مجاز بعيد لأنه لم يكن نبياً إذ ذاك.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبد الله أن أبا سلمة بن عبد الرحمن قال إن أول ما نزل من القرآن (يا أيها المدثر) فقال له يحيى بن أبي كثير يقولون إن أول ما نزل من القرآن (اقرأ باسم ربك الذي خلق) فقال أبو سلمة سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل ما قلت فقال جابر لا أحدثنك إلا ما حدثنا رسول الله ﷺ قال " جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً،
401
ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاًً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاًً فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجئثت منه رعباً فرجعت فقلت دثروني فنزلت (يا أيها المدثر) إلى قوله (والرجز فاهجر) (١) " وعن ابن عباس قال دثر هذا الأمر فقم به، وعنه قال المدثر النائم، وسيأتي في سورة اقرأ ما يدل على أنها أول سورة أنزلت، والجمع ممكن.
قال الخطيب اختلف في أول ما نزل من القرآن اختلافاً طويلاً، وتحقيق المعتمد منه وطريق الجمع بين الأحاديث المتناقضة فيه أن أول ما نزل على الإطلاق (اقرأ باسم ربك) إلى (ما لم يعلم)، وأول ما نزل بعد فترة الوحي يا أيها المدثر إلى فاهجر، وفي صدر حاشية سليمان الجمل استيفاء الكلام على ترتيب القرآن نزولاً نقلاً عن الخازن فراجعه إن شئت.
_________
(١) رواه البخاري ٨/ ٥٢٠ ومسلم ١/ ١٤٤ وأحمد في " المسند " ٣/ ٣٠٦ والطبري ٢٩/ ١٤٣ والواحدي في " أسباب النزول " ٣٣٣ وأورده السيوطي في " الدر " ٦/ ٢٨٠ وزاد نسبته للطيالسي، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن الضريس، وابن المنذر، وابن مردويه، وابن الأنباري في " المصاحف " عن جابر رضي الله عنه.
402
(قم فأنذر) أي انهض فخوف أهل مكة وحذرهم العذاب إن لم يسلموا، أو قم من مضجعك واترك الدثر بالثياب واشتغل بهذا المنصب الذي نصبك الله له وهو الإنذار، أو قم قيام عزم وتصميم، وقيل الإنذار هنا هو إعلامهم بنبوته، وقيل إعلامهم بالتوحيد، وقال الفراء المعنى قم فصل وأمر بالصلاة.
(وربك فكبر) أي واختص سيدك ومالكك ومصلح أمورك بالتكبير، وهو وصفه سبحانه بالكبرياء والعظمة عقداً وقولاً، وأنه أكبر من أن يكون له شريك كما يعتقده الكفار، وأعظم من أن تكون له صاحبة أو ولد، قال ابن العربي المراد به تكبير التقديس والتنزيه لخلع الأضداد والأنداد والأصنام، ولا
402
تتخذ ولياً غيره، ولا تعبد سواه، ولا ترى لغيره فعلاً إلا له ولا نعمة إلا منه.
قال الزجاج إن الفاء في (فكبر) دخلت على معنى الجزاء كما دخلت في قوله فأنذر، وقال ابن جني هو كقولك زيداً فاضرب أي زيداً اضرب فالفاء زائدة وعبارة الكرخي دخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل وأياماً كان فلا تدع تكبيره.
403
(وثيابك فطهر) المراد بها الثياب الملبوسة على ما هو المعنى اللغوي، أمره الله سبحانه بتطهير ثيابه وحفظها عن النجاسات وإزالة ما وقع فيها منها، وقال مجاهد وابن زيد وأبو رزين أي عملك فأصلح وقال قتادة نفسك فطهر من الذنب، والثياب عبارة عن النفس، وقال سعيد بن جبير قلبك فطهر، وقال الحسن والقرطبي أخلاقك فطهر، لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه.
وقال الزجاج المعنى وثيابك فقصر، لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسات إذا انجر على الأرض، وبه قال طاوس، وذلك لأن العرب كانت عادتهم تطويل الثياب وجر الذيول ولا يؤمن معه إصابة النجاسة، وفي الثوب الطويل من الخيلاء والكبر والفخر ما ليس في الثوب القصير، فنهى عن تطويل الثوب وأمر بتقصيره لذلك.
وقال أبيّ ابن كعب معناه لا تلبسها على غدر ولا على ظلم ولا على إثم، البسها وأنت بر طاهر، وقال ابن عباس أي لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب باطل، وعنه قال فطهر من الإثم قال وهي في كلام العرب نقي الثياب، وعنه قال من الغدر لا تكن غداراً، وفي لفظ لا تلبسها على غدرة، والأول أولى لأنه المعنى الحقيقي، وليس في استعمال الثياب مجاز عن غيرها لعلاقة مع قرينة ما يدل على أنه المراد عند الإطلاق، وليس في مثل هذا الأصل أعني الحمل على الحقيقة عند الإطلاق خلاف.
403
وفي الآية دليل على وجوب طهارة الثياب في الصلاة.
قال الرازي إذا حملنا التطهير على حقيقته ففي الآية ثلاث احتمالات (الأول) قال الشافعي المقصود من الآية الإعلام بأن الصلاة لا تجوز إلا في ثياب طاهرة من الأنجاس (وثانيها) قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم كان المشركون لا يصونون ثيابهم عن النجاسات فأمره الله أن يصون ثيابه عنها (وثالثها) روي أنهم ألقوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قذراً فقيل له وثيابك فطهر عن تلك النجاسات والقاذورات.
404
(والرجز فاهجر) الرجز معناه في اللغة العذاب، وفيه لغتان كسر الراء وضمها وهما قراءتان سبعيتان، والزاي منقلبة عن السين، والعرب تعاقب بين السين والزاي ومعناهما واحد، وإنما سمي الشرك وعبادة الأوثان رجزاً لأنها سبب الرجز، وقال مجاهد وعكرمة الرجز الأوثان كما في قوله:
(فاجتنبوا الرجس من الأوثان) وبه قال ابن زيد، وقال إبراهيم النخعي الرجز المأثم، والهجر الترك، وقال قتادة الرجز أساف ونائلة، وهما صنمان كانا عند البيت، وقال أبو العالية والربيع والكسائي الرجز بالضم الوثن، وبالكسر العذاب، وقال السدي الرجز بضم الراء الوعيد والأول أولى، وقال ابن عباس الرجز الأصنام.
(ولا تمنن تستكثر) قرىء لا تمن بالإدغام، وقرأ الجمهور بفك الإدغام، وتستكثر بالرفع على أنه حال أي ولا تمنن حال كونك مستكثراً وقيل على حذف " أن " والأصل ولا تمنن أن تستكثر، فلما حذفت رفع، قال الكسائي فإذا حذف " أن " رفع الفعل، وقرىء تستكثر بالنصب على تقدير " أن " وبقاء عملها، ويؤيدها قراءة ابن مسعود أن تستكثر بزيادة أن، وقرىء بالجزم على أنه بدل من تمنن كما في قوله (يَلْقَ أَثَامًا (٦٨) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ) أو الجزم لإجراء الوصل مجرى الوقف.
404
وقد أعترض على قراءة الجزم لأن قوله تستكثر لا يصح أن يكون بدلاً من تمنن، لأن المن غير الاستكثار، ولا يصح أن يكون جواباً للنهي، والمن الإنعام وبابه رد.
واختلف السلف في معنى الآية فقيل المعنى لا تنعم بشيء مستكثراً أي طالباً للكثرة، كارهاً أن ينقص المال بسبب العطاء فيكون الاستكثار هنا عبارة عن طلب العوض كيف كان، وقيل المعنى لا تمنن على ربك بما تتحمله من أعباء الرسالة والنبوة كالذي يستكثر ما يتحمله بسبب الغير، وقيل لا تعط عطية تلتمس فيها أكثر منها قاله عكرمة وقتادة، وقال ابن عباس لا تعط تلتمس بها أفضل منها وعنه قال لا تعط الرجل عطاء رجاء أن يعطيك أكثر منه، قال الضحاك هذا حرمه الله على رسوله لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجل الأخلاق، وأباحه لأمته، وقال مجاهد لا تضعف أن تستكثر من الخير من قولك حبل متين إذا كان ضعيفاً، وقال الربيع ابن أنس لا يعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير.
وقال ابن كيسان لا تستكثر عملاً فتراه من نفسك إنما عملك منة من الله عليك إذ جعل لك سبيلاً إلى عبادته، وقيل لا تمنن بالنبوة والقرآن على الناس فتأخذ منهم أجراً تستكثره، وقال محمد بن كعب لا تعط مالك مصانعة وقال زيد بن أسلم إذا أعطيت عطية فأعطها لربك.
405
(ولربك فاصبر) على طاعته وفرائضه، والمعنى لأجل ربك وثوابه، وقال مقاتل ومجاهد اصبر على الأذى والتكذيب، وقال ابن زيد حملت أمراً عظيماً فحاربتك العرب والعجم فاصبر عليه لله، وقيل اصبر تحت موارد القضاء لله، وقيل فاصبر على البلوى وقيل على الأوامر والنواهي.
(فإذا نقر في الناقور) فاعول من النقر كأنه من شأنه أن ينقر فيه
405
للتصويت، والنقر في كلام العرب الصوت ويقولون نقر باسم الرجل إذا دعاه، والمراد هنا النفخ في الصور، والمراد النفخة الثانية وقيل الأولى، وقد تقدم الكلام على هذا في سورة الأنعام وسورة النحل، والفاء للسببية كأنه قيل اصبر على أذاهم فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أمرهم.
قال ابن عباس: الناقور الصور أي القرن الذي هو مستطيل وفيه ثقب بعدد الأرواح كلها وتجمع الأرواح في تلك الثقب، فيخرج من كل ثقبة روح إلى الجسد الذي نزعت منه فيعود الجسد حياً بإذن الله تعالى كما مر غير مرة، والعامل في " إذا " ما دل عليه قوله الآتي
406
(فذلك يومئذ) الخ فإن معناه عسر الأمر عليهم، وقيل العامل فيه ما دل عليه قوله (فذلك) لأنه إشارة إلى النقر أي وقت النقر وهو النفخة يوم القيامة (يومئذ) بدل مما قبله وهو اسم الإشارة، وبنى يوم لإضافته إلى غير متمكن وهو إذ وتنوينها عوض عن الجملة أي يوم إذ نفخ في الصور، وخبر ذلك (يوم عسير) أي شديد.
(على الكافرين غير يسير) تأكيد العسر عليهم لأن كونه غير يسير قد فهم من قوله (يوم عسير) وفيه إيذان بأنه يسير على المؤمنين، وقال الرازي: يحتمل أنه عسير على المؤمنين والكافرين إلا أنه على الكافرين أشد. أهـ وما قاله الرازي يفهمه التقييد بالجار والمجرور إن جعل متعلقاً بيسير، وإن كان مضافاً إليه لأنه قد أجازه بعضهم كما ذكره السمين.
(ذرني ومن خلقت وحيداً) أي دعني واتركني وهي كلمة تهديد ووعيد، والمعنى دعني والذي خلقته حال كونه وحيداً في بطن أمه لا مال ولا ولد، هذا على أن وحيداً منتصب على الحال من الموصول أو من الضمير العائد المحذوف، ويجوز أن يكون حالاً من الياء في ذرني أي دعني وحدي معه
406
فإني أكفيك في الانتقام منه، والأول أولى، قال المفسرون وهو الوليد بن المغيرة وبه قال ابن عباس، قال مقاتل خل بيني وبينه فأنا أنفرد بهلكته، وإنما خص بالذكر لمزيد كفره وعظيم جحوده لنعم الله عليه.
وقيل أراد بالوحيد الذي لا يُعرف أبوه وكان يقال في الوليد أنه دعي، وعن ابن عباس قال " إن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوكه فإنك أتيت محمداً لتعرض لما قبله، قال قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له وأنك كاره له، قال وماذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه هذا الذي يقول شيئاًً من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه، قال فدعني حتى أفكر فلما فكر قال هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره، فنزلت (ذرني ومن خلقت وحيداً) " أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل وقد أخرجه عبد الرزاق عن عكرمة مرسلاً وكذا غير واحد (١).
_________
(١) رواه بهذا اللفظ الواحدي في " أسباب النزول " ٣٣٠ من رواية عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن عكرمة عن ابن عباس، وسنده صحيح. ورواه الحاكم به وقال:
زاد المسير ٨/ ٤٠٣.
407
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (١٢) وَبَنِينَ شُهُودًا (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١)
408
(وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا) أي كثيراً أو يمد بالزيادة والنماء شيئاًً بعد شيء، قال الزجاج مال غير منقطع عنه وقد كان الوليد بن المغيرة مشهوراً بكثرة المال على اختلاف أنواعه كالزرع والضرع والتجارة، قيل كان يحصل له من غلة أمواله ألف ألف دينار، وقيل أربعة آلاف دينار، وقيل ألف دينار قاله ابن عباس وعن عمر بن الخطاب أنه سئل عن هذه الآية فقال غلة شهر بشهر قيل كان له بستان بالطائف لا ينقطع ثماره شتاء ولا صيفاً، وكان له عبيد وجوار كثيرة.
(وبنين شهوداً) أي وجعلت له بنين حضوراً بمكة معه لا يسافرون ولا يحتاجون إلى التفرق في طلب الرزق لكثرة مال أبيهم، قال الضحاك كانوا سبعة ولدوا بمكة وخمسة ولدوا بالطائف، وقال سعيد بن جبير كانوا ثلاثة عشر ولداً، وقال مقاتل كانوا سبعة كلهم رجال أسلم منهم ثلاثة خالد وهشام والوليد بن الوليد، وقيل عمارة وفيه نظر لأن ابن حجر قال في الإصابة إن عمارة مات كافراً، وقيل معنى شهوداً أنه إذا ذكر ذكروا معه وقيل كانوا يشهدون ما كان يشهده من المحافل والمجامع، ويقومون بما كان يباشره.
(ومهدت له تمهيداً) أي بسطت له في العيش الرغيد وطول العمر، والجاه العريض والرياسة في قريش حتى كان يدعى ريحانة قريش، وهو الكمال عند أهل الدنيا، والتمهيد عند العرب التوطئة ومنه مهد الصبي، وأصله التسوية والتهيئة ويتجوز به عن بسط المال والجاه وهو المراد هنا، وقال مجاهد إنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش.
(ثم يطمع أن أزيد) أي يطمع بعد هذا كله في الزيادة لكثرة حرصه وشدة طمعه مع كفرانه بالنعم وإشراكه بالله، قال الحسن ثم يطمع أن أدخله الجنة. وكان يقول إن كان محمد صادقاً فما خلقت الجنة إلا لي. فردعه الله سبحانه وزجره فقال
(كلا) أي لست أزيده بل أنقصه فقد ورد أنه بعد نزول هذه الآية ما زال في نقصان ماله وولده حتى هلك فقيراً.
ثم علل ذلك على وجه الاستئناف التحقيقي بقوله (إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا) أي معانداً لها كافراً بما أنزلناه منها على رسولنا، فإن معاندة آيات النعم مع وضوحها وكفرانها مع شيوعها مما يوجب الحرمان بالكلية، وإنما أوتي ما أوتي استدراجاً، يقال عند يعند بالكسر إذا خالف الحق ورده وهو يعرفه فهو عنيد وعاند، والعاند الذي يجوز عن الطريق ويعدل عن القصد، قال أبو صالح: عنيداً معناه مباعداً، وقال قتادة: جاحداً وقال مقاتل: معرضاً وقال ابن عباس: جحوداً.
(سأرهقه صعوداً) أي سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة فيها وهو مثل لما يلقاه من العذاب الصعب الذي لا يطاق، وقيل المعنى إنه يكلف أن يصعد جبلاً من نار، والإرهاق في كلام العرب أن يحمل الإنسان الشيء الثقيل، قال أبو سعيد الخدري في قوله صعوداً هو جبل في النار يكلفون أن يصعدوا فيه، فكلما وضعوا أيديهم عليه ذابت فإذا رفعوها عادت كما كانت، وعنه عن النبي ﷺ " قال الصعود جبل في النار يصعد فيه الكافر سبعين خريفاً ثم يهوي، وهو كذلك فيه أبداً " أخرجه أحمد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي، قال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة عن دراج. قال ابن كثير وفيه غرابة ونكارة انتهى. وقد أخرجه جماعة من قول أبي سعيد (١).
_________
(١) هذا الحديث ذكره المؤلف ملفقاً من حديثين، الأول رواه ابن جرير الطبري من رواية شريك بن عبد الله بن أبي شريك النخعي عن عمارة بن القعقاع عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري،
-[٤١٠]-
ورواه ابن أبي حاتم من رواية شريك عن عمار الدهني عن عطية به، بلفظ " (سأرهقه صعوداً) " قال: " هو جبل من نار يكلَّف أن يصعده، فإذا وضع يده ذابت، وإذا رفعها عادت، فإذا وضع رجله ذابت، وإذا رفعها عادت ". وعطية العوفي ضعيف. والحديث الثاني رواه أحمد من حديث ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري، والطبري عن عمرو بن الحارث عن دراج به، بلفظ " الصُّعود: جبل من نار، يصعد فيه الكافر سبعين خريفاً، ثم يهوي به كذلك منه أبدا " ودراج عن شيخه أبي الهيثم ضعيفان. وقال ابن كثير بعد ما ذكر حديث أحمد والطبري (وهو الرواية الثانية): وفيه غرابة ونكارة.
409
وقال ابن عباس صعوداً صخرة في جهنم يسحب عليها الكافر على وجهه. وعنه قال جبل في النار.
وجملة
410
(إِنَّهُ فَكَّرَ) تعليل لما تقدم من الوعيد أي أنه فكر في شأن النبي ﷺ وما أنزل عليه من القرآن (وقدر) أي هيأ الكلام في نفسه، والعرب تقول هيأت الشيء إذا قدرته وقدرت الشيء إذا هيأته، وذلك أنه لا سمع القرآن لم يزل يتفكر ماذا يقول فيه وقدر في نفسه ما يقول فذمه الله وقال
(فقتل) أي لعن وعذب (كيف قدر) أي على أي حال قدر ما قدر من الكلام كما يقال في الكلام لأضربنه كيف صنع أي على أيّ حال كانت منه، وقيل المعنى قهر وغلب كيف قدر، وقال الزهري عذب، وهو من باب الدعاء عليه.
والتكرير في قوله
(ثم قتل كيف قدر) للمبالغة والتأكيد، وقيل فقتل في الدنيا ثم قتل فيما بعد الموت في البرزخ والقيامة، و (ثم) يشعر بأن الدعاء الثاني أبلغ من الأول فهي للتفاوت في الرتبة وقيل بل للتراخي في الزمان أيضاًً.
(ثم نظر) بأي شيء يدفع القرآن ويقدح فيه، فالنظر بمعنى التأمل وعلى هذا فتتكرر هذه الجملة مع قوله أنه فكر وقدر أو فكر في القرآن وتدبر ما هو.
410
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (٢٧) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠)
411
(ثم عبس) أي قطب وجهه لما لم يجف مطعناً يطعن به في القرآن، والعبس مصدر عبس مخففاً يعبس عبساً وعبوساً إذا قطب وقيل عبس في وجوه المؤمنين، وقيل عبس في وجه النبي صلى الله عليه وسلم.
(وبسر) أي كلح وجهه وتغير، وقيل إن ظهور العبس في الوجه يكون بعد المحاورة وظهور البسور في الوجه قبلها، والعرب تقول وجه باسر إذا تغير واسود، وقال الراغب: البسر استعمال الشر قبل أوانه نحو بسر الرجل حاجته أي طلبها في غير أوانها قال ومنه قوله عبس وبسر أي أظهر العبوس قبل أوانه وقبل وقته، وأهل اليمن يقولون بسر المركب وأبسر أي وقف لا يتقدم ولا يتأخر، وقد أبسرنا أي صرنا إلى البسور.
(ثم أدبر واستكبر) أي أعرض عن الحق وذهب إلى أهله وتعظم عن أن يؤمن
(فقال) عقب ما جره إليه طبعه الخبيث من الكفر القائم به (إن هذا إلا سحر يؤثر) أي يأثره عن غيره ويرويه عن السحرة كمسيلمة وأهل بابل، والسحر إظهار الباطل في صورة الحق أو الخديعة على ما تقدم بيانه في سورة البقرة، يقال أثرت الحديث تأثره إذا ذكرته عن غيرك أي أمور تخييلية لا حقائق لها وهي لدقتها بحيث تخفي أسبابها شؤون تمويهية.
(إن هذا إلا قول البشر) يعني أنه كلام الإنس، وليس بكلام الله، وهو تأكيد لما قبله وقد تقدم أن الوليد بن المغيرة إنما قال هذا القول إرضاء لقومه بعد اعترافه أن له لحلاوة وأن عليه لطلاوة إلى آخر كلامه.
ولما قال هذا القول الذي حكاه الله عنه قال الله عز وجل
(سأصليه سقر) أي سأدخله النار، وسقر من أسماء النار ومن دركات جهنم ولم
411
تتصرف للتعريف والتأنيث، قال السمين هذا بدل من قوله سأرهقه صعوداً قاله الزمخشري، فإن كان المراد بالصعود المشقة فالبدل واضح، وإن كان المراد صخرة في جهنم كما جاء في بعض التفاسير فيعسر البدل ويكون فيه شبه من بدل الاشتمال لأن جهنم مشتملة على تلك الصخرة.
ثم بالغ في وصف النار وشدة أمرها فقال
412
(وما أدراك ما سقر) أي وما أعلمك أي شيء هي، والعرب تقول وما أدراك ما كذا إذا أرادوا المبالغة في أمره وتعظيم شأنه وتهويل خطبه، و (ما) الأولى مبتدأ وجملة (ما سقر) خبر المبتدأ ثم فسر حالها فقال:
(لا تبقي ولا تذر) والجملة مستأنفة لبيان حال سقر والكشف عن وصفها، وقيل هي في محل نصب على الحال والعامل فيها معنى التعظيم لأن قوله وما أدراك ما سقر يدل على التعظيم فكأنه قال استعظموا سقر في هذه الحال، والأول أولى ومفعول الفعلين محذوف قال السدي لا تبقي لهم لحماً ولا تذر لهم عظماً، وقال عطاء لا تبقي من فيها حياً ولا تذره ميتاً، وقيل هما لفظان بمعنى واحد كررا للتأكيد كقولك صدر عني وأعرض عني، وقال ابن عباس لا تبقي منهم شيئاًً وإذا بدلوا خلقاً آخر لم تذر أن تعاودهم سبيل العذاب الأول.
(لواحة للبشر) قرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وقيل على أنه نعت لسقر والأول أولى، وقرىء بالنصب على الحال أو الاختصاص للتهويل يقال لاح يلوح أي ظهر، والمعنى أنها تظهر للبشر، قال الحسن تلوح لهم جهنم حتى يرونها عياناً كقوله (وبرزت الجحيم لمن يرى) وقيل معنى لواحة للبشر مغيرة لهم ومسودة قال مجاهد والعرب تقول لاحه الحر والبرد والحزن والسقم إذا غيره وهذا أرجح من الأول، وإليه ذهب جمهور المفسرين.
وقال الأخفش المعنى: أنها معطشة للبشر قال ابن عباس: تلوح الجلد فتحرقه وتغير لونه فيصير أسود من الليل، وعنه قال لواحة محرقة والمراد بالبشر
412
إما جلدة الإنسان الظاهرة كما قاله الأكثر أو المراد به أهل النار من الإنس كما قال الأخفش.
413
(عليها تسعة عشر) قال المفسرون يقول سبحانه على النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها، وقيل تسعة عشر صنفاً من أصناف الملائكة، وقيل تسعة عشر صفاً من صفوفهم وقيل تسعة عشر نقيباً مع كل نقيب جماعة من الملائكة والأول أولى، قال الثعلبي ولا ينكر هذا فإذا كان ملك واحد يقبض أرواح الخلائق كان أحرى أن يكونوا تسعة عشر على عذاب بعض الخلق، قرأ الجمهور عشر بفتح الشين وقرىء بإسكانها.
عن البراء " أن رهطاً من اليهود سألوا بعض أصحاب النبي ﷺ عن خزنة جهنم فقال: الله ورسوله أعلم فجاء جبريل فأخبر النبي ﷺ فنزل عليه ساعتئذ (عليها تسعة عشر) رواه البيهقي في البعث وابن أبي حاتم وابن مردويه ".
وقال الكرخي وخص هذا العدد بالذكر لكونه موافقاً لعدد أسباب فساد النفس الإنسانية وهي القوى الإنسانية والطبيعية إذ القوى الإنسانية اثنتا عشرة الخمسة الظاهرة والخمسة الباطنة والشهوة والغضب، والقوى الطبيعية سبعة الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة والمجموع تسعة عشر انتهى.
قلت: وهذا ليس بتفسير للآية، بل الحكمة المودعة في هذا العدد مفوضة إلى علم الله تعالى، قال الرازي وتخصيص هذا العدد لحكمة اختص الله بها.
ولما نزل هذا قال أبو جهل أما لمحمد من الأعوان إلا تسعة عشر، يخوفكم محمد بتسعة عشر وأنتم الدهم، أفيعجز كل مائة رجل منكم أن يبطشوا بواحد منهم ثم يخرجوا من النار، فقال أبو الأشد: وهو رجل من بني جمح يا معشر قريش إذا كان يوم القيامة فأنا أمشي بين أيديكم فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر، ونمضى ندخل الجنة فأنزل الله سبحانه:
413
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (٣١) كَلَّا وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥)
414
(وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ) يعني ما جعلنا المدبرين لأمر النار القائمين بعذاب من فيها (إلا ملائكة) فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم، فكيف تتعاطون أيها الكافرون مغالبتهم.
قال ابن عباس لما سمع أبو جهل (عليها تسعة عشر) قال لقريش ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر وأنتم الدهم أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم، أخرجه ابن جرير وابن مردويه، قيل جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المخلوقين من الجن والإنس فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرقة والرأفة، وقيل لأنهم أقوم خلق الله بحقه والغضب له وأشدهم بأساً وأقواهم بطشاً.
(وما جعلنا عدتهم إلا فتنة) أي سبب ضلالة (للذين كفروا) أي للذين استقلوا، عددهم، والمعنى ما جعلنا عددهم هذا العدد المذكور في القرآن إلا ضلالة ومحنة لهم حتى قالوا ليتضاعف عذابهم ويكثر غضب الله عليهم، وقيل المعنى إلا عذاباً كما في قوله (يوم هم على النار يفتنون) أي يعذبون.
قال ابن عباس في الآية. قال أبو الأشد خلوا بيني وبين خزنة جهنم أنا أكفيكم مؤونتهم قال وحدثت أن النبي ﷺ وصف خزان جهنم فقال " كأن أعينهم البرق وكأن أفواههم الصياصي يجرون أشعارهم، لهم مثل
414
قوة الثقلين يقبل أحدهم بالأمة من الناس يسوقهم، على رقبته جبل حتى يرمي بهم في النار فيرمي بالجبل عليهم " أخرجه ابن مردويه.
(ليستيقن الذين أوتوا الكتاب) المراد بهم اليهود والنصارى لموافقة ما نزل من القرآن بأن عدة خزنة جهنم تسعة عشر لما عندهم قاله الضحاك وقتادة ومجاهد وغيرهم، والمعنى أن الله سبحانه جعل عدة خزنة جهنم هذه العدة ليحصل اليقين لليهود والنصارى بنبوة محمد ﷺ لموافقة ما في القرآن لما في كتبهم.
(ويزداد الذين آمنوا) من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وقيل أراد المؤمنين من أمة محمد ﷺ (إيماناً) أي ليزدادوا يقيناً إلى يقينهم لما رأوا من موافقة أهل الكتاب لهم.
وجملة (ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون) مقررة لما تقدم من الإستيقان وازدياد الإيمان، والمعنى نفي الارتياب عنهم في الدين أو في أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر، ولا ارتياب في الحقيقة من المؤمنين ولكنه من باب التعريض لغيرهم ممن في قلبه شك من المنافقين.
(وليقول الذين في قلوبهم مرض) المراد بأهل المرض المنافقون، والسورة وإن كانت مكية ولم يكن إذ ذاك نفاق فهو إخبار بما سيكون في المدينة فهو معجزة له ﷺ حيث أخبر وهو بمكة عما سيكون بالمدينة بعد الهجرة، أو المراد بالمرض مجرد حصول الشك والريب وهو كائن في الكفار، قال الحسين بن الفضل السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق؛ فالمرض في هذه الآية الخلاف.
والمراد بقوله (والكافرون) كفار مكة من العرب وغيرهم (ماذا) مجموع الكلمتين اسم استفهام فـ (ذا) ملغاة أي أيّ شيء (أراد الله بهذا) العدد المستغرب استغراب المثل (مثلاً) تسير به الركبان سيرها بالأمثال، قال الليث المثل الحديث ومنه قوله (مثل الجنة التي وعد المتقون) أي حديثها والخبر عنها.
415
(كذلك) أي مثل ذلك الإضلال المتقدم ذكره وهو قوله (وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا) (يضل الله من يشاء) من عباده (ويهدي من يشاء) منهم والمعنى مثل ذلك الإضلال للكافرين والهداية للمؤمنين يضل الله من يشاء الإضلال ويهدي من يشاء هدايته، وهو الذي علم منه اختيار الإهتداء، وفيه دليل على خلق الأفعال، وقيل المعنى كذلك يضل الله عن الجنة من يشأ ويهدي إليها من يشاء.
(وما يعلم جنود ربك) أي ما يعلم عدد خلقه ومقدار جموعه من الملائكة وغيرهم (إلا هو) وحده لا يقدر على علم ذلك أحد، قال عطاء يعني من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار لا يعلم عدتهم إلا الله وحده، والمعنى أن خزنة النار وإن كانوا تسعة عشر فلهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه.
عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ حدثهم عن ليلة أسرى به قال " فصعدت أنا وجبريل إلى السماء الدنيا فإذا أنا بملك يقال له إسماعيل وهو صاحب سماء الدنيا وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف، وتلا هذه الآية " أخرجه الطبراني في الأوسط وأبو الشيخ.
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ " أطَّت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أصبع إلا عليه ملك ساجد "، أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة قال الترمذي حسن غريب ويروى عن أبي ذر موقوفاً.
ثم رجع سبحانه إلى ذكر سقر فقال (وما هي إلا ذكرى للبشر) أي وما سقر وما ذكر من عدد خزنتها إلا تذكرة وموعظة للعالم يتذكرون بها ويعلمون كمال قدرته تعالى، وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار، وقيل ما هي الدلائل والحجج والقرآن إلا تذكرة للبشر، وقال الزجاج: نار الدنيا تذكرة لنار الآخرة وهو بعيد، وقيل الضمير في (وما هي) يرجع إلى الجنود.
416
ثم ردع سبحانه المكذبين وزجرهم فقال
417
(كلا والقمر) قال الفراء (كلا) صلة للقسم والتقدير أي والقمر، وقيل المعنى حقاً والقمر.
قال الكرخي (كلا) استفتاح بمعنى ألا بفتح الهمزة وتخفيف اللام المفيدة للتنبيه على تحقق ما بعدها، وقال النضر بن شميل حرف جواب بمعنى أي ونعم، وهو مذهب البصريين، وجعلها، الزمخشري في الآية للإنكار أو الردع قال الكافيجي: ولا منافاة بينه وبين كلام البصريين فإن مدار كلامهم على ما يتبادر من ظاهر القول، ومدار كلامه على أساس البلاغة والإعجاز وهو أحسن.
قال ابن جرير الطبري رَدّ زَعْم مَنْ زَعَمَ أنه يقاوم خزنة جهنم أي ليس الأمر كما يقول، ثم أقسم على ذلك بالقمر وبما بعده وهذا هو الظاهر من معنى الآية.
(والليل إذ أدبر) أي ولى، قرأ الجمهور إذا بزيادة الألف ودبر بزنة ضرب على أنه ظرف لما يستقبل من الزمان، وقرىء إذ أدبر بزنة أكرم ظرف لما مضى من الزمان ودبر وأدبر لغتان كما يقال أقبل الزمان وقبل الزمان، ويقال دبر الليل وأدبر الليل إذا تولى ذاهباً، عن مجاهد قال سألت ابن عباس عن قوله إذا دبر فسكت عني حتى إذا كان من آخر الليل وسمع الأذان ناداني يا مجاهد هذا حين دبر الليل، وعن ابن عباس قال دبوره ظلامه.
(والصبح إذا أسفر) أي أضاء وتبين وظهر
(إنها لإحدى الكبر) قرأ الجمهور لإحدي بالهمزة وقرىء لحدى بدونها وهذا جواب القسم، والضمير راجع إلى سقر أي أن سقر لإحدى الدواهي أو البلايا الكبر، والكبر جمع كبرى وقال مقاتل إن الكبر اسم من أسماء النار، وقيل إنها تكذيبهم لمحمد ﷺ لإحدى الكبر، وقيل إن قيام الساعة لإحدى الكبر، والأول أولى، وقال الكلبي أراد بالكبر دركات جهنم وأبوابها.
417
نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (٤٥)
418
(نذيراً للبشر) حال من ضمير في (إنها) قاله الزجاج وروي عنه وعن الكسائي وأبي علي الفارسي أنه حال من قوله (قم فأنذر) أي قم يا محمد فأنذر حال كونك نذيراً للبشر، وقال الفراء هو مصدر بمعنى الإنذار منصوب بفعل مقدر، وقيل إنه منتصب على التمييز لإحدى لتضمنها معنى التعظيم، كأنه قيل أعظم الكبر إنذاراً، وقيل التقدير لأجل إنذاراً للبشر، وقيل غير ذلك.
قرأ الجمهور بالنصب، وقرىء بالرفع أي هي نذير أو هو نذير، وقد اختلف النذير فقال الحسن هي النار وقيل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقال أبو رزين المعنى أنا نذير لكم منها وقيل القرآن نذير للبشر لما تضمنه من الوعد والوعيد.
(لمن شاء منكم) بدل من قوله للبشر (أن يتقدم) يسبق إلى الطاعة (أو يتأخر) يتخلف عنها، والمعنى أن الإنذار قد حصل لكل من آمن وكفر، وقيل فاعل المشيئة هو الله سبحانه أي لمن شاء الله أن يتقدم منكم بالإيمان أو يتأخر بالكفر والأول أولى، وقال السدي لمن شاء أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها أو يتأخر إلى الجنة، وقال ابن عباس من شاء اتبع طاعة الله ومن شاء تأخر عنها قال الحسن هذا وعد وتهديد وإن خرج مخرج الخبر كقوله تعالى (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).
(كل نفس بما كسبت رهينة) أي مأخوذة بعملها مرتهنة به إما خلصها
418
وإما أوبقها والرهينة اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم، وليست صفة ولو كانت صفة لقيل رهين لأن فعيلاً يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمعنى كل نفس رهينة بكسبها غير مفكوكة، كافرة كانت أو مؤمنة، عاصية أو غير عاصية
419
(إلا أصحاب اليمين) فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم بل يفكون بما أحسنوا من أعمالهم، والاستثناء متصل لأن المستثنى هو المؤمنون الخالصون من الذنوب.
وقوله رهينة أي على الدوام بالنسبة للكفار، وعلى وجه الانقطاع بالنسبة لعصاة المؤمنين، واختلف في تعيينهم فقيل هم الملائكة وقيل المؤمنون وقيل أولاد المسلمين وأطفالهم، وقيل الذين كانوا عن يمين آدم وقيل أصحاب الحق، وقيل هم المعتمدون على الفضل دون العمل، وقيل هم الذين اختارهم الله لخدمته، وقال ابن عباس: هم المسلمون، وقال علي: هم أطفال المسلمين، قيل هو أشبه بالصواب لأن الأطفال لم يكتسبوا إثماً يرتهنون به.
(في جنات) هو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم في جنات لا يكتنه وصفها. والجملة استئناف جواباً عن سؤال نشأ مما قبله أو حال من أصحاب اليمين أو من فاعل قوله (يتساءلون) ويجوز أن يكون ظرفاً له، ويتساءلون أي يسألون غيرهم نحو دعيته وتداعيته، فعلى الوجه الأول يكون
(عن المجرمين) متعلقاً بيتساءلون أي يسأل بعضهم بعضاً عن، أحوالهم، وعلى الوجه الثاني تكون عن زائدة أي يسألون المجرمين، ثم المراد بهم الكافرون.
وهذا التساؤل فيما بينهم قبل أن يروا المجرمين فلما يرونهم يسألونهم ويقولون في سؤالهم
(ما سلككم في سقر) أي ما أدخلكم فيها تقول سلكت الخيط في كذا إذا أدخلته فيه، قال الكلبي يسأل الرجل من أهل الجنة الرجل من أهل النار باسمه فيقول له يا فلان ما سلكك في النار، وقيل إن الملائكة
419
يسألون الملائكة عن أقربائهم فتسأل الملائكة المشركين يقولون لهم (ما سلككم في سقر) قال الفراء في هذا ما يقوي أن أصحاب اليمين هم الولدان لأنهم لا يعرفون الذنوب، وهذا سؤال توبيخ وتقريع.
ثم ذكر سبحانه ما أجاب به أهل النار فقال
420
(قالوا لم نك من المصلين) أي من المؤمنين الذين يصلون لله في الدنيا ولم نعتقد فرضيتها (١)
_________
(١) الآية صريحة في أنهم تركو الصلاة فاستحقوا سقر، أما قوله: ولم نعتقد فرضيتها فليس في الآية.
(ولم نك نطعم المسكين) أي لم نتصدق على المساكين، وقيل وهذان محمولان على الصلاة الواجبة والصدقة لأنه لا تعذيب على غير الواجب، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالشرعيات والفروع، فقول صاحب الكشاف يحتمل أن يدخل بعضهم النار بمجموع ذلك وهو ترك الصلاة وترك الإطعام والخوض في الباطل مع الخائضين والتكذيب بيوم القيامة، وبعضهم بمجرد ترك الصلاة أو ترك الطعام تخيل منه كما قال صاحب الانتصاف أن تارك الصلاة يخلد في النار.
(وكنا نخوض مع الخائضين) أي نخالط أهل الباطل في باطلهم، قال قتادة كلما غوى غاو غوينا معه، وقال السدي كنا نكذب مع المكذبين، وقال ابن زيد نخوض مع الخائضين في أمر محمد ﷺ وهو قولهم كاذب ساحر مجنون شاعر، وعبارة الخطيب أي نشرع في الباطل مع الخائضين فنقول في القرآن إنه سحر وشعر وكهانة وغير ذلك من الأباطيل، لا نتورع عن شيء من ذلك ولا نقف مع صريح عقل، ولا نرجع إلى صحيح نقل، فمن هذا يحذر الذين يبادرون بالجواب في كل ما يسألون عنه من أنواع العلم من غير تثبت.
420
وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦)
421
(وكنا نكذب بيوم الدين) أي بيوم الجزاء والحساب آخره لتعظيمه وهذا تخصيص بعد تعميم، لأن الخوض في الباطل عام شامل لتكذيب يوم الدين وغيره أي وكنا بعد ذلك كله مكذبين بيوم القيامة، والصحيح أن الآية في الكفار أي لم نكن من أهل الصلاة وكذلك البقية، ولا تصح منه هذه الطاعات وإنما يتأسفون على فوات ما ينفع، ذكره سليمان الجمل.
(حتى أتانا اليقين) وهو الموت كما في قوله (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) وبه قال ابن عباس، وهذا غاية في الأمور الأربعة.
(فما تنفعهم شفاعة الشافعين) أي شفاعة الملائكة والنبيين كما تنفع الصالحين، والمعنى لا شفاعة لهم، قال الحفناوي فالنفي مسلط على المقيد وقيده وليس المراد أن ثم شفاعة غير نافعة كما يتوهم من ظاهر اللفظ من حيث أن الغالب في النفي إذا دخل على مقيد بقيد أن يتسلط على القيد فقط، وفيه دليل على ثبوت الشفاعة للمؤمنين، وفي الحديث أن من أمتي من يدخل الجنة بشفاعته أكثر من ربيعة ومضر، قال ابن مسعود تشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون وجميع المؤمنين فلا يبقى في النار إلا أربعة ثم تلا (قالوا لم نك من المصلين) الآيات، وقال عمران بن حصين الشفاعة نافعة لكل أحد دون هؤلاء الذين تسمعون.
(فما لهم عن التذكرة معرضين) التذكرة التذكير بمواعظ القرآن،
421
والفاء لترتيب إنكار إعراضهم عن التذكرة على ما قبله من موجبات الإقبال عليها، وانتصاب معرضين على الحال من الضمير في متعلق الجار والمجرور أي أيّ شيء حصل لهم حال كونهم معرضين عن القرآن الذي هو مشتمل على التذكرة الكبرى، والموعظة العظمى.
ثم شبههم في نفورهم عن القرآن بالحمر فقال
422
(كأنهم حمر مستنفرة) أي نافرة يقال نفر واستنفر مثل عجب واستعجب، والمراد الحمر الوحشية، والجملة حال من الضمير في معرضين على التداخل، قرىء في السبع بكسر الفاء بمعنى نافرة وقرىء بفتحها أي منفرة مذعورة، واختار هذا أبو حاتم وأبو عبيد قال في الكشاف المستنفرة الشديدة النفار كأنها تطلب النفار من نفوسها في جمعها له وحملها عليه.
(فرت من قسورة) حال بتقدير قد أي قد فرت من رماة يرمونها، والقسور الرامي وجمعه قسورة قاله سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة وابن كيسان، وقيل هو الأسد قاله عطاء والكلبي، قال ابن عرفة هو من القسر وهو القهر لأنه يقهر السباع، وقيل القسورة أصوات الناس وقيل القسورة بلسان العرب الأسد، وبلسان الحبشة جماعة الرماة ولا واحد له من لفظه، وقال ابن الأعرابي: القسورة أول الليل أي فرت من ظلمة الليل، وبه قال عكرمة، والأول أولى، وكل شديد عند العرب فهو قسورة، قال أبو موسى الأشعري: القسورة الرماة رجال القسى، وقال ابن عباس: القسورة الرجال الرماة القنص، وقيل هي حبال الصيادين.
وعن أبي حمزة قال قلت لابن عباس القسورة الأسد، فقال ما أعلمه بلغة أحد من العرب الأسد، هم عصبة الرجال، وعن ابن عباس قال هو ركز الناس يعني أصواتهم شبههم في إعراضهم عن القرآن واستماع الذكر بحمر جدت في نفارها.
(بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفاً منشرة) عطف على مقدر
422
يقتضيه المقام كأنه قيل لا يكتفون بتلك التذكرة بل يريد الخ فهو اضراب انتقالي عن محذوف هو جواب الاستفهام السابق كأنه قيل فلا جواب لهم عن هذا السؤال أي لا سبب لهم في الإعراض بل يريد الخ.
قال المفسرون إن كفار قريش قالوا لمحمد ﷺ ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك لرسول الله، والصحف الكتب واحدتها صحيفة والمنشرة المنشورة المبسوطة المفتوحة أي غير مطوية أي طرية لم تطو، بل تأتينا وقت كتابتها، وهذا من زيادة تعنتهم، ومثل هذه الآية قوله سبحانه (حتى تنزل علينا كتاباً نقرأه) قرأ الجمهور منشرة بالتشديد، وقرأ سعيد بن جبير بالتخفيف وقرأ الجمهور أيضاًً بضم الحاء من صحف وقرأ سعيد بإسكانها.
ثم ردعهم الله سبحانه عن هذه المقالة وزجرهم فقال
423
(كلا بل لا يخافون الآخرة) يعني عذابها لأنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات، وهذا إضراب انتقالي لبيان سبب هذا التعنت والاقتراح، وقيل كلا بمعنى حقاً.
ثم كرر الردع والزجر لهم فقال
(كلا إنه تذكرة) أو بمعنى " ألا " الاستفتاحية أو حقاً أن القرآن تذكرة بليغة كافية، والمعنى أنه يتذكر به ويتعظ بمواعظه، أو إنكار لأن يتذكروا بها، قاله القاضي كالكشاف.
(فمن شاء ذكره) أي فمن شاء " أن يذكره ولا ينساه فعل واتعظ فإن نفع ذلك عائد إليه.
ثم رد سبحانه المشيئة إلى نفسه فقال
(وما يذكرون إلا أن يشاء الله) قرأ الجمهور يذكرون بالياء التحتية، وقرأ نافع ويعقوب بالفوقية وهما سبعيتان، واتفقوا على التخفيف والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، قال مقاتل إلا أن يشاء الله لهم الهدى، وقال في الكشاف يعني إلا أن يقسرهم على الذكر قال الإمام إنه تعالى نفى الذكر مطلقاً واستثنى منه حال المشيئة المطلقة، فيلزم أنه متى حصلت المشيئة يحصل الذكر، فحيث لم يحصل الذكر علمنا أنه
423
لم تحصل المشيئة، وتخصيص المشيئة بالمشيئة القسرية ترك للظاهر، وقال وهو تصريح بأن فعل العبد بمشيئة الله تعالى ذكره الكرخي.
(هو أهل التقوى) أي هو الحقيق بأن يتقيه المتقون بترك معاصيه والعمل بطاعاته (وأهل المغفرة) أي هو الحقيق بأن يغفر للمؤمنين ما فرط منهم من الذنوب، والحقيق بأن يقبل توبة التائبين من العصاة فيغفر ذنوبهم.
عن أنس " أن رسول الله ﷺ قرأ هذه الآية فقال: قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله فمن اتقاني فلم يجعل معي إلهاً فأنا أهل أن أغفر له " أخرجه أحمد والدارمي والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي وصححه وابن مردويه، وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس مرفوعاً نحوه (١).
_________
(١) رواه أحمد في " المسند " والترمذي ٢/ ١٦٨ والحاكم ٢/ ٥٠٨، وابن ماجة، والدارمي، والطبراني في " الأوسط " وابن عدي، وأبو يعلى. والبزار، كلهم من رواية سهيل بن أبي حزم القُطَعي عن ثابت بن أنس، وهو ضعيف كما قال الحافظ ابن حجر في " التقريب " قال الترمذي: حديث حسن غريب، وسهيل ليس بالقوي في الحديث، وقد تفرد سهيل بهذا الحديث عن ثابت. قال الحافظ ابن حجر في " تخريج الكشاف " ١٨٠: ورواه الحكيم الترمذي في السابع والسبعين بعد المائة بلفظ؛ " قال: هو أهل أن يتقى، فمن اتقى فهو أهل أن يغفر له " وله شاهد من رواية عبد الله قال: سمعت ثلاثة نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبا هريرة، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم يقولون: سئل رسول الله صلى الله عليه. وسلم عن قوله تعالى... فذكره.
424
تعليق هام للناشر:
إبراز حقيقة قرآنية
هذه سورة " المدثر " وهي مكية من أوائل ما نزل من القرآن، وقد ختمها بقوله:
١ - (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ).. الخ كما ختم سورة (اقرأ) وهي أول سورة نزلت بقوله:
٢ - (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا (١) بِالنَّاصِيَةِ (١٥) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ).
كما نزلت سورة بأسرها تقول:
٣ - (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (٢) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ).
كذلك جاء في سورة المزمل وهي كذلك من أوائل ما نزل:
٤ - وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (١١) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (١٢) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا) (٢).
إذا تأملت هذه الآيات وكلها سب وتسفيه وتهديد للمشركين وزعمائهم، مع ملاحظة أنها من أوائل ما نزل، برزت لك حقيقة قرآنية عجيبة، هي أن القرآن يدعو إلى مواجهة خصومه بكل شدة وعنف، فلا هوادة ولا خنوع،
_________
(١) السفع: الجذب بقوة واللطم بشدة، والناصية شعر الجبهة.
(٢) أولي النعمة الذين يتمتعون بنعم الله وهم الأغنياء والزعماء. والأنكال: الأغلال والقيود. والكثيب تل الرمل، والمهيل الرخو المتداعي للتبعثر.
425
مهما كانت الظروف، فهذه الآيات صرخ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الأيام الأولى ولم يكن معة من يغني عنه فتيلاً، في الوقت الذي تمالأ عليه الشرك وأهله لمحوه من الوجود.
ولم أر من المفسرين للقرآن من أدرك هذه النقطة غير صاحب التفسير الحديث حيث يقول تعليقاً على آيات سورة اقرأ (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ): والتهديد والتحدي والإنذار والتنديد بالطاغية قوي كل القوة عنيف كل العنف.
وتبدو روعة هذه القوة حينما يلاحظ أن النبي عليه السلام لم يكن قد آمن به من يستطيع له نصراً ويقف إلى جانبه، وأن المتصدي له زعيم معتد بقوته وماله وجاهه وناديه.
وإذ يتصور المرء النبي صلى الله عليه وسلم، يصرخ بملء فيه صرخته المدوية " كلا، كلا " ثم يقذف بكلمات التنديد والتهديد والتحدي والإنذار القرآنية النارية غير مبال بالزعامة وقوتها، وهو من دون نصير من الناس، يدرك من دون ريب تلك الشجاعة التي كان يتحلى بها والتي استمدها من إيمان قوي عميق متول على مشاعره، جعله لا يرى إلا عظمة لله ولا قوة إلا لله ولا سلطاناً إلا لله، وجعله يرى كل ما عداه أضعف من أن يخشى، وأعجز من أن يستطيع له نفعاً أو ضراً، أو يقف أمام دين الله ويحول دون الدعوة إليه. ويدرك بهذا ما تحلى به من عظمة الخلق وقوة الجنان وعمق اليقين.
ويتبادر من عنف الآيات وقوتها القارعة أن الحكمة الربانية اقتضت أن يكون الرد على أول متصد للنبي صلى الله عليه وسلم، من الزعماء الأقوياء بهذا الأسلوب لتثبيت النبي وأصحابه القلائل الذين آمنوا به ومواجهة الزعيم القوي بقوة وعنف يصدمانه على غير توقع.
ولا شك في أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد تلا الآيات على أصحابه، فقوت من روحهم وزادتهم إيماناً، ووصلت إلى صاحبها وناديه فصعقهم بعنفها وجعلتهم يشعرون بالقوة الروحية التي يستمد منها النبي،
426
وازداد النبي بهذا وذاك قوة وعزماً على الاستمرار في مهمته، غير مبال بالزعيم القوي وناديه.
وقد روى الطبري أن الذي عنته الآيات هو عمرو بن هشام المخزومي الذي عرف في التاريخ الإسلامي بأبي جهل وكان من كبار الزعماء وأشد أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، ورسالته والمؤلبين عليه. " وقد روي أنه لما تصدى للنبي صلى الله عليه وسلم، انتهره وأغلظ له وتوعده، وأنه قال: علام يتوعدني محمد وأنا أكثر أهل الوادي نادياً؟ وأنه قال: لئن رأيته يصلي ثانية لأطأن عنقه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم، استمر على الصلاة في فناء الكعبة فرآه أبو جهل ولكنه لم يلبث أن نكص على عقبيه رافعاً يديه كأنما يقي بهما نفسه فقيل له ما لك؟ فقال إن بيني وبينه خندقاً من نار، وقد اسود ما بيني وبينه من الكتائب ".
على أن جملة (فليدع ناديه) تسوغ القول إن أبا جهل لم يكن وحيداً في موقفه من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما تدل عليه الآيات التي نزلت بعد هذه الآيات في مناسبات عديدة مبكرة.
وليس بعيداً أن يكون تعبير " ناديه " قد عنى دار الندوة التي كان يجتمع فيها أهل الحل والعقد في مكة الذين هم رؤساء الأسر القرشية البارزة، وقد كانت هذه الدار قرب الكعبة. فإذا صح هذا فإن من السائغ أن يقال إن السلطات الرسمية قد رأت في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، علناً بصلاة جديدة لا عهد للناس بها وفي دعوته الناس جهاراً إلى دين يخالف ما عليه الناس بدعة، ورأت وجوب الوقوف في وجهها، وأنها عمدت إلى أعضائها بتنفيذ ذلك، أو أن هذا العضو كان أشد حماساً ضدها من غيره فكان هو المتصدي اهـ.
ومنطق القوة هذا يذكرنا بموقف لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في بدء توليه الخلافة فقد ارتد كثير من العرب بعد موت النبي صلى
427
الله عليه وسلم، وكان هناك جيش أعده النبي قبل وفاته، فرأى بعض الصحابة أن لا يمضي هذا الجيش إلى وجهته، وأن يبقى لتأديب أهل الردة، ولكن الخليفة الراشد أبى، وأصر على أن يمضي الجيش الذي أمر به النبي إلى وجهته، فكانت النتيجة أن أهل الردة اضطربوا وقالوا لولا أن الخليفة أعد لنا قوة كبرى ما سمح لهذا الجيش أن يذهب إلى غيرنا - وكان النصر حليف المؤمنين.
...
وهناك نكتة أخرى وهي أن القرآن كان حريصاً على مواجهة المشركين ومصارحتهم وإعلانهم بأوصافهم كما في الآيات السابقة ولم يسمح بأدنى تردد أو كتمان أو إخفاء مراعاة للظروف، مع أن هناك آية تقول (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) وهذه الآية نزلت في قصة زيد وزينب، وخلاصتها أن العرب كانت من عادتها التبني، وهو أن يتخذ الرجل ولداً من غيره يتبناه، فإذا كبر الولد وتزوج لا يجوز للرجل الذي تبناه أن يتزوج امرأته إذا طلقها وجاء الإسلام بإبطال هذه العادة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم، قد تبنى زيداً في صغره فلما كبر تزوج زيد بزينب بنت جحش وهي من الأشراف وهو دونها في الشرف، فلم يستقم الحال بينهما فطلقها زيد، فجاء القرآن يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يتزوج بزينب ليكون هو أول من يبطل هذه العادة، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم، تردد بعض الشيء في التنفيذ لما فيه من إتاحة الفرصة للمنافقين أن يلمزوه صلى الله عليه وسلم، ويقولوا إن محمداً تزوج حليلة ولده، وما هو بولده.
فأنت ترى أنه صلى الله عليه وسلم، قد يخفي بعض الأمور الفرعية إلى حين مراعاة للظروف، أما الشرك وهدمه من جذوره، وهي وظيفة الرسل الأصلية، فكان يؤدي دوره فيه بكل صراحة ووضوح.
428
(علنية الدعوة في بدئها)
وهذه الآيات التي سبقت في صدر هذا التعليق تدل على خلاف ما روي بأن الدعوة النبوية قد بدأت سرية، وتدل بقوة على أنها بدأت علنية، وكل ما يمكن أن يقال إزاء ما ورد في الأحاديث التي تروي أقوال بعض أصحاب رسول الله مثل ما روي عن عمر في قصة إسلامه حيث سأل بعد إسلامه " أنحن على حق أم باطل؟ فقال له رسول الله: بل على حق، فقال ففيم التخفي إذا " هو أن النبي صلى الله عليه وسلم، حماية لأصحابه كان يلزم الحذر والتحفظ في الصلاة والاجتماع بهم، غير أن دعوته للناس كانت وظلت جهرة.
وهذا هو المعقول المتسق مع هدف الدعوة وإيمان النبي بالله ورسالته.
429
سورة القيامة
هي تسع وثلاثون أو أربعون آية وهي مكية بلا خلاف. وعن ابن عباس نزلت بمكة وعن ابن الزبير مثله.
431
بسم الله الرحمن الرحيم
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (١) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (٣) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (٥) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (٦) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧)
433