تفسير سورة القصص

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة القصص من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة القصص مكية
قيل إلا قوله :﴿ الذين آتيناهم الكتاب ﴾ إلى قوله :﴿ الجاهلين ﴾
وهي ثمان وثمانون آية وتسع ركوعات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ طسم تِلْكَ ﴾ إشارة إلى السورة
﴿ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴾ القرآن أو اللوح المحفوظ
﴿ نَتْلُو ﴾ : نقرأ بلسان جبريل أو ننزل ﴿ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ ﴾ مفعول نتلوا ومن للتبعيض ﴿ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ ﴾ محقين ﴿ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ لأنهم المنتفعون به
﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ ﴾ استئناف يبين بعض النبأ ﴿ عَلَا فِي الْأَرْضِ ﴾ استكبر في أرض مصر ﴿ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ﴾ أصنافا يصرف كل صنف فيما يريد ﴿ يَسْتَضْعِفُ ﴾ حال من فاعل جعل ﴿ طَائِفَةً مِّنْهُمْ ﴾ يعني : بني إسرائيل ﴿ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ ﴾ بدل من يستضعف ﴿ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ ﴾ يخليهن أحياء للخدمة ﴿ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾
﴿ وَنُرِيدُ ﴾ حكاية حال ماضية ﴿ أَن نَّمُنَّ ﴾ نتفضل ﴿ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ﴾ بإنقاذهم من بأسه، والجملة عطف على ﴿ إن فرعون ﴾ أو حال من مفعول يستضعف ﴿ وأن نمن ﴾ مستقبل وإرادة الله إذا تعلقت بشيء في زمان مترقب وجب أن لا يتوقف عن ذلك الزمان ﴿ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ﴾ قادة في الخير أو ملوكا ﴿ وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ : لما كان في تحت يد فرعون وقومه،
﴿ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾ : نسلطهم في أرض مصر والشام ﴿ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم ﴾ من بني إسرائيل متعلق بنرى ﴿ مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ من ذهاب ملكهم في يد مولود من بني إسرائيل فإن القبط قد سمعوا ذلك من بني إسرائيل فيما كانوا يدرسونه من قول إبراهيم الخليل عليه السلام
﴿ وَأَوْحَيْنَا١ ألهمنا٢ ﴿ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ﴾ ما دامت غير خائفة عليه ﴿ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ ﴾ من أن يحس فرعون به ﴿ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ٣ بحر نيل ﴿ وَلَا تَخَافِي ﴾ عليه فعلينا حفظه ﴿ وَلَا تَحْزَنِي ﴾ في هجره ﴿ إِنَّا رَادُّوهُ٤ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ﴾ فإن أمه جعلته في تابوت، وسيرته في النيل فوقع التابوت في نهر كان يجري منه إلى بيت فرعون فأخذه أهل داره ﴿ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ﴾ اللام لام العاقبة ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾ مذنبين فعاقبهم الله بأن ربي عدوهم على أيديهم، أو خاطئين في الأفكار فأخطئوا في تربية عدوهم
١ ألهمنا: أي هذا وحي إلهام لا وحي نبوة قال قتادة: قذفنا في قلبها، وأم موسى يوحانذ بنت لاوى بن يعقوب هذا ما قاله محيي السنة، وفي الفتح وقد أجمع العلماء على أنها لم تكن نبية وإنما كان إرسال الملك إليها عند من قال به على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص والأعمى كما في الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما، وقد سلمت على عمران بن حصين الملائكة كما في الحديث الثابت الصحيح فلم يكن بذلك نبيا /١٢..
٢ أي: ألهمناها الذي صنعت قاله ابن عباس / ١٢ فتح..
٣ يعني اجعليه في تابوت كما مر في سورة طه / ١٢ وجيز..
٤ وهذا كما قيل يمكن تحمل الفراق حين رجاء التلاق /١٢ وجيز..
﴿ وَقَالَتِ امْرَأَتُ١ فِرْعَوْنَ ﴾ لفرعون حين فتحت التابوت ورأت٢ فيه غلاما بهيا ﴿ قُرَّتُ ﴾ أي : هو قرة ﴿ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ﴾ فأجابها أما لك فنعم، وأما لي فلا فكان كذلك ﴿ لَا تَقْتُلُوهُ٣ فإنه جاء من أرض أخرى، وهو أكبر٤ من ابن سنة ﴿ عَسَى أَن يَنفَعَنَا ﴾ فإن آثار اليمن تظهر منه ﴿ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ﴾ نتبناه فليس لها ولد منه ﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ من كلام الله أي : التقطوا، وقيل : كذا وكذا أو الحال أنهم لا يشعرون ما أراد الله منه بالتقاطهم إياه وقيل : من كلام امرأة فرعون والضمير للناس، أي : نتخذه ولدا والناس لا يشعرون أنه ولد غيرنا
١ وقد هم مع أعوانه بقلته، وهي آسية بنت مزاحم وكانت من خيار النساء وبنات الأنبياء، وقيل: كانت من بني إسرائيل، وقيل: كانت عمة موسى حكاه السهيلي /١٢ فتح..
٢ ألقى الله حبه على قلب آسية /١٢ وجيز..
٣ قيل: إنها قالت لا تقتلوه فإن الله أتى به من أرض بعيدة، وليس من بني إسرائيل ثم عللت ما قالته بالترجي منها الحصول النفع منه لهم أو التبني له فقالت: ﴿عسى أن ينفعنا﴾ الآية /١٢ فتح..
٤ وفرعون لا يخاف إلا من أبناء تلك السنة /١٢ وجيز..
﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ١ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا٢ خاليا من كل شيء كالمجنون في غم ولدها٣ ﴿ إِن كَادَتْ ﴾ إنها كادت ﴿ لَتُبْدِي بِهِ ﴾ أي : من شدة الحزن كادت تظهر أن لها ولدا ذهب به الماء ﴿ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ﴾ بالصبر جوابه ما يدل عليه ما قبله ﴿ لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ٤ من المصدقين بوعد الله حين ألهمها بأنا رادوه إليك وهو علة الربط قيل : معناه أصبح فؤادها خاليا من الغم لسماعها أن فرعون تبناه وكادت من الفرح تظهر حاله
١ لما عملت بالتقاطه /١٢..
٢ من كل شيء إلا من أمر موسى كأنها لم تهتم بشيء سواه، قاله المفسرون /١٢ فتح..
٣ حين سمعت أن لودها التقطه آل فرعون /١٢ وجيز..
٤ قال يوسف بن الحسين: أمرت أم موسى شيئين وبشرت عن شيئين وبشرت بشيئين فلم ينفعها الكل حتى تولى الله حياطتها فربط على قلبها /١٢ فتح..
﴿ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ ﴾ أخت موسى مريم١ ﴿ قُصِّيهِ ﴾ اتبعي أثره وتتبعي خبره ﴿ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ ﴾ عن بعد ﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ أنها أخته
١ وقال الضحاك: إن اسمها كائمة، وقال السهلي: كلثوم ذكره الماوردي /١٢ فتح..
﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ ﴾ تحريما قدريا، يعني منعناه من أن يرتضع من المرضعات ﴿ مِن قَبْلُ١ من قبل تتبعها ﴿ فَقَالَتْ٢ أخته :﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ ﴾ يضمنونه ويرضعونه، لكم : لأجلكم ﴿ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴾ لا يقصرون في خدمته قيل لما قالت ذلك القول أخذوها، وقالوا : عرفت هذا الولد فدلينا، فقالت : لا أعرفه وإنما أردت أنهم للملك ناصحون لا للولد حتى استدللتم على أبي أعرفه فخلوها فأتت بأمها فالتقم ثديها فقالوا : من أنت منه، فقالت : إني امرأة طيبة النشر لا أوتى بصبي إلا قبلني فأعطوه إياها مع أجر وعطاء جزيل فذهبت به إلى بيتها شاكرة
١ أي: قبل رده إلى أمه، أي: منعناه من قبول ثدي مرضعة غير أمه فلم يقبل ثدي واحدة من المراضع المحضرة /١٢ جلالين، وكانت امرأة فرعون طلبت لموسى المرضعات ليرضعنه فلم يرضع من واحدة منهن /١٢..
٢ لما رأت حنوهم عليه وامتناعه من الرضاع /١٢..
﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا ﴾ برؤيته ﴿ وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ ﴾ علم مشاهدة ﴿ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ ﴾ في رده إليها وجعله من المرسلين ﴿ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ١ غرضنا في رده إليها، أو لا يعلمون أن وعدنا رده إليها أو أن وعده حق.
١ بهذا الوعد ولا بأن هذه أخته وهذه أمه فمكث عندها إلى أن فطمته وأجرى عليها أجرتها لكل يوم دينار وأخذتها لأنها مال حربي فأتت به فرعون فتربى عنده كما قال تعالى حكاية عنه في سورة الشعراء: ﴿ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين﴾ [الشعراء: ١٨] /١٢ جلالين..
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ﴾ منتهى قوته وهو ما فوق الثلاثين ﴿ وَاسْتَوَى١ اعتدل عقله ﴿ آتَيْنَاهُ حُكْمًا ﴾ نبوة ﴿ وَعِلْمًا ﴾ بالدين أو حكمة وفهما قبل النبوة ﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ مثل ذلك الجزاء نجزيهم
١ أي: بلغ أربعين سنة كذا روى ابن أبي حاتم، وابن جرير عن مجاهد أن بلوغ الأشد في ثلاث وثلاثين والاستواء في أربعين، وعن ابن عباس أن الأشد ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين، والاستواء ما بين الثلاثين إلى الأربعين، والتحقيق أن أصل معناه القوة، وهي تختلف باختلاف الأوقات والأعصار، ولذا وقع له تفاسير مختلفة في كتب اللغة، والتفسير بحسب القرائن /١٢ كمالين حاشية جلالين..
﴿ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ ﴾ مدينة بأرض مصر وهذه الجملة ذكر سبب وصوله إلى النبوة وقصته على الوجه الأول الذي فسرنا الحكم بالنبوة، فإنها كانت قبل بعثته ﴿ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا ﴾ كان وقت القيلولة وقيل بين العشائين ﴿ فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ ﴾ من بني إسرائيل ﴿ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ ﴾ من القبط والإشارة على الحكاية ﴿ فَاسْتَغَاثَهُ ﴾ طلب أن يغيثه بالعون ﴿ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ﴾ لما كان فيه معنى طلب العون عدى بعلى ﴿ فَوَكَزَهُ ﴾ هو الضرب بجمع الكف أو الدفع بأطراف الأصابع ﴿ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ﴾ فقتله ﴿ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ﴾ لأنه لم يؤمر بقتل الكفار ﴿ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ﴾
﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ﴾ بقتله ﴿ فَاغْفِرْ لِي ﴾ ذنبي ﴿ فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾
﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ ﴾ بحق إنعامك ﴿ عَلَيَّ ﴾ اعصمني ﴿ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا ﴾ معينا ﴿ لِّلْمُجْرِمِينَ ﴾ لمن أدت مظاهرته إلى جرم أو معناه أقسم بإنعامك علي وجوابه محذوف، أي : لأتوبنّ، وعن ابن عباس لم يستثن، فابتلى به مرة أخرى، أي : لم يقل فلن أكون إن شاء الله
﴿ فَأَصْبَحَ ﴾ موسى ﴿ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ١ ينتظر٢ سوء ﴿ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ ﴾ ذاك الإسرائيلي ﴿ يَسْتَصْرِخُهُ٣ يستغيثه ﴿ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ ﴾ فإنك تسببت لقتل، ثم تدعوني إلى آخر
١ أو يترقب الأخبار هل وقفوا على ما كان منه، قيل: يترقب نصرة ربه /١٢ وجيز..
٢ لحوق طالب أو غوث الله إياه /١٢..
٣ يستغيث به على قبطي آخر من الصراخ والمعنى يطلب منه أن يزيل صراخه /كمالين ١٢..
﴿ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ ﴾ موسى ﴿ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا ﴾ بالقبطي ﴿ قَال ﴾ الإسرائيلي :﴿ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ ﴾ لما سمى الإسرائيلي غويّا ظن أن البطش عليه ﴿ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ بين الناس فلما سمع القبطي هذا الكلام منه راح إلى باب فرعون، وأخبره فأمر بقتل موسى وأخذ جنوده الطرق لأخذه
﴿ وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ﴾ من آخرها ﴿ يَسْعَى ﴾ يسرع صفة لرجل ﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأ ﴾ فرعون وأشرافه ﴿ يَأْتَمِرُونَ ﴾ يتشاورون ﴿ بِكَ ﴾ بسببك ﴿ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ ﴾ من البلد ﴿ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ لك بيان لا صله مقدم
﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا ﴾ من المدينة ﴿ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ﴾ لحوق شر ﴿ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ من شرهم.
﴿ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء١ قبالة ﴿ مَدْيَنَ ﴾ قرية شعيب، ولم تكن تحت سلطان فرعون ﴿ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ ﴾ قصد الطريق، وكان لا يعرف الطريق إلى مدين فتوكل وتوجه
١ جهتها وهي قرية شعيب مسيرة ثمانية أيام من مصر سميت بمدين بن إبراهيم، ولم يكن يعرف طريقها قال: ﴿عسى ربي أن يهديني سواء السبيل﴾ فأرسل الله إليه ملكا بيده عنزة فانطلق به إليها /١٢ جلالين..
﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ ﴾ وصل إلى بئر لهم ﴿ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً ﴾ جماعة ﴿ مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ﴾ مواشيهم ﴿ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ﴾ في مكان أسفل من مكانهم ﴿ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ ﴾ تمنعان غنمهما عن الماء انتظارا لخلو شفير البئر ﴿ قَالَ ﴾ موسى :﴿ مَا خَطْبُكُمَا ﴾ ما شأنكما تذودان ؟ ﴿ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ ﴾ يصرف ﴿ الرِّعَاء ﴾ مواشيهم ﴿ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾ لا يستطيع الخروج للسقي، ونحن ضعفاء لا نقدر على مزاحمة الرجال
﴿ فَسَقَى ﴾ مواشيهما ﴿ لَهُمَا ﴾ رحمة عليهما عن عمر :( لما فرغ١ الناس جعلوا صخرة لا يستطيع رفعها إلا عشرة على رأس البئر فرفع موسى الحجر وحده ثم لم يستق إلا ذنوبا واحدا ودعا بالبركة وروى غنمهما ﴿ ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ ﴾ ظل شجرة ﴿ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ ﴾ طعام ﴿ فَقِيرٌ ﴾ محتاج سأل ربه أن يرزقه شيئا ليأكل فإنه من الجوع في غاية ( وما ) موصوفة وتنكير خير للشيوع أي : قليل أو كثير، وتعدية فقير باللام لأنه ضمن معنى طالب وسائل
١ قوله ﴿عن عمر﴾ إلخ رواه أبو بكر بن أبي شيبة، وقال الشيخ ابن كثير: إن إسناده صحيح /١٢ وجيز..
﴿ فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء ﴾ مستحيية متسترة بكم١ درعها ﴿ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ ﴾ فإنهما لما رجعتا سأل أبوهما عن سرعتهما اليوم في السقي فقصتا، فبعث إحداهما لتدعوه ﴿ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ﴾ جزاء سقيك ﴿ فَلَمَّا جَاءهُ ﴾ موسى ﴿ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ ﴾ أخبره بأمر الذي أخرجه من أرضه ﴿ قَالَ لَا تَخَفْ٢ نَجَوْتَ٣ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ فرعون وقومه
١ أي: واضعة كم درعها على وجهها حياء منه كذا أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عمر وفيه مشروعة ستر الوجه للحرة، وأنه لا باس بكلامها مع الرجال /١٢ كمالين..
٢ قيل: قرب إليه طعاما فقال موسى: إنا من أهل بيت لا نبيع ديننا على ملء الأرض ذهبا فأجابه شعيب: ليس هذا عوض السقي، ولكن عادتي وعادة آبائي قرى الضيف فأكلا عليهما الصلاة والسلام /١٢ وجيز..
٣ لأن فرعون لا سلطان له على مدين، وفيه دليل على جواز العمل بخبر الواحد، ولو عبدا أو أنثى، وعلى المشي مع الأجنبية مع ذلك الاحتياط والتورع وللرازي في هذا الموضع إشكالات باردة [هذه الكلمة ترد كثيرا في تعليقات الشارح] جدا لا تستحق أن تذكر في تفسير كلام الله عز وجل، والجواب عليها يظهر للمقصر فضلا عن الكامل، وأشف ما جاء به أن موسى كيف أجاب الدعوة المعللة بالجزاء لما فعله من السقي ويجاب عنه بأنه ابتع سنة الله في إجابة دعوة نبي من الأنبياء، ولم تكن تلك الإجابة لأجل أخذ الأجر على هذا العمل، وفي الكشاف إن طلب الأجرة لشدة الفاقة لا يكره، ويشهد لصحته ﴿لو شئت لاتخذت عليه أجرا﴾ [الكهف: ٧٧] /١٢ فتح..
﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ﴾ لرعي الغنم ﴿ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ وهو كذلك علمت قوته من قلع الحجر، وأمانته من أنه أمرها بأن تكون خلفه في الطريق كيلا يراها، واختلف في أنهما ابنتا شعيب أو ابن أخيه أو رجل مؤمن من قومه١( * )
١ الراجح بعد التحقيق أنه ليس بشعيب النبي، وإليه جنح ابن كثير، والذي يحمل على هذا الترجيح أن هذا الرجل شيخ كبير، وشعيب شهد مهلك قومه المكذبين له، ولم يبق معه إلا المؤمنون به، فلو كان هو شعيب النبي بين بقية قومه المؤمنين، ما سقوا قبل بنتي نبيهم الشيخ الكبير، فليس هذا سلوك قوم مؤمنين، يضاف إلى هذا أن شعيبا قال لقومه كما حكى الله عنه: ﴿وما قوم لوط منكم ببعيد﴾، ولوط عليه السلام كان في عهد الخليل إبراهيم، وبين إبراهيم وموسى مفاوز، فكيف يكون الشيخ الكبير هو شعيب النبي ؟!.
﴿ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ١ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ﴾ من أجرته إذا كنت له أجيرا، فقوله :﴿ ثَمَانِيَ حِجَجٍ ﴾ ظرفه، أو من أجرته كذا إذا أثبته إياه، فثماني حجج ثاني مفعوليه، أي : رعية ثماني حجج ﴿ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا ﴾ عمل عشر حجج ﴿ فَمِنْ عِندِكَ ﴾ فإتمامه من عندك تفضلا وتبرعا، ويمكن أن يكون مثل هذا النكاح جائزا في شرعهم، ويمكن أن يكون هذا استدعاء العقد لا نفسه ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ﴾ بالإلزام إتمام العشر ﴿ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ في حسن الصحبة، والوفاء بالقول
١ فيه مشروعية عرض ولي المرأة لها على الرجل وهذه سنة ثابتة في الإسلام كما ثبت من عرض عمر لابنته حفصة على أبي بكر وعثمان والقصة معروفة، وغير ذلك ومما وقع في أيام الصحابة، وأيام النبوة /١٢ فتح..
﴿ قَالَ ﴾ موسى :﴿ ذَلِكَ ﴾ الذي عاهدتني فيه ﴿ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ﴾ قائم لا نخرج عما شرطنا ﴿ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ ﴾ الأقصر والأطول ﴿ قَضَيْتُ ﴾ ما زائدة ﴿ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ ﴾ لا يعتدي علي في طلب الزيادة عليه، ولي الخيار مطلقا ﴿ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ ﴾ من المشارطة، ﴿ وَكِيلٌ ﴾ شاهد.
﴿ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ١ في الحديث قضى أطولهما ﴿ وَسَارَ بِأَهْلِه ﴾ بامرأته بنته الصغرى وقيل الكبرى ﴿ آنَسَ ﴾ أبصر ﴿ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا ﴾ وكان في البرية في ليلة مظلمة شديدة البرد ﴿ قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا ﴾ لعل معها غيرها أو عظمها لأنها ابنة نبي ﴿ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ ﴾ من الطريق فإنه أخطأ الطريق ﴿ أَوْ جَذْوَةٍ ﴾ عود غليظ ﴿ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ تستدفئون بها من البرد
١ روي البخاري عن ابن عباس أنه قضى أطولها /١٢ وجيز..
﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ ﴾ جانب ﴿ الْوَادِي١ الْأَيْمَنِ ﴾ عن يمين موسى ﴿ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ ﴾ متصل بالشاطئ، أو صلة لنودي ﴿ مِنَ الشَّجَرَةِ٢ بدل اشتمال من شاطئ فإنها نابتة على الشاطئ ﴿ أَن يَا مُوسَى ﴾ أن مفسرة ﴿ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ٣ أي : الذي يكلمك رب العالمين
١ صفة لشاطئ أو الوادي على معنى اليمن والبركة وبركتها لما خصت به من آيات الله وأنواره تكليمه لموسى، ولما خلق فيها من الأرزاق والثمار الطيبة /١٢ وجيز..
٢ قيل: هي عناب /١٢ وجيز..
٣ وقد حكى الله تعالى في كل سورة من مثل طه والنمل بعض ما اشتمل عليه النداء /١٢ وجيز..
﴿ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ﴾ عطف على أن يا موسى ﴿ فَلَمَّا رَآهَا ﴾ أي : فألقاها وصارت ثعبانا فلما رآها ﴿ تَهْتَزّ ﴾ تتحرك بسرعة ﴿ كَأَنَّهَا جَانٌّ ﴾، حية صغيرة من سرعة حركتها١ ﴿ وَلَّى مُدْبِرًا ﴾ منهزما من الخوف ﴿ وَلَمْ يُعَقِّبْ ﴾ لم يرجع ﴿ يَا مُوسَى ﴾ أي : نودي يا موسى ﴿ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ﴾ فرجع ووقف في مكانه الأول
١ وإن كانت هي في نفسها عظمية الجثة /١٢ وجيز..
﴿ اسْلُكْ ﴾ أدخل ﴿ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء ﴾ كأنها قطعة قمر ﴿ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ﴾ كبرص ﴿ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ﴾ أمر أن يضم إليه يده إذا خاف من شيء، وعن ابن عباس وغيره إذا خاف أحد ووضع يده على فؤاده يخفّ ويزول خوفه فمن الرهب أي : من أجله أو معناه تجلد ولا ترتعد من الخوف، والطائر ينشر جناحيه حين خوفه ويضم حين اطمئنانه ﴿ فَذَانِكَ ﴾ العصا واليد ﴿ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ ﴾ معجزتان ﴿ إِلَى فِرْعَوْنَ ﴾ أي : مرسلا بهما إليه ﴿ وَمَلَئهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾
﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ١ بها
١ ولم يتم أمر الرسالة / ١٢ وجيز..
﴿ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا ﴾ وقد مر أن له نوع لكنة ﴿ فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا ﴾ معينا ﴿ يُصَدِّقُنِي ﴾ بإتمام الحجة ورفع الشبهة ويصدقني بالجزم جواب، وبالرفع صفة ردءا، وعن مقاتل أرسله يصدقني فرعون لأن خبر الاثنين أوقع ﴿ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ﴾
﴿ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ ﴾ نقويك ﴿ بِأَخِيكَ ﴾ فإن اليد تشتد بشدة العضد وجملة البدن تقوى بشدة١ اليد ﴿ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا ﴾ حجة وبرهانا ﴿ فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ﴾ لا سبيل لهم إلى الوصول إلى أذاكم ﴿ بِآيَاتِنَا ﴾ بسبب إبلاغكما آيات الله، وقيل متعلق بنجعل ﴿ أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ﴾ وقيل : بآياتنا متعلق بالغالبون على أن يكون اللام فيه للتعريف لا بمعنى الذي
١ على مزاولة الأمور، فهو مجاز مرسل من باب إطلاق السبب على المسبب بمرتبتين /١٢ وجيز..
﴿ فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى ﴾ على الله ﴿ وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا ﴾ الذي يدعونا إليه أو السحر ﴿ فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ﴾ في أيامهم
﴿ وَقَالَ مُوسَى ﴾ بعد أن كذبوه ﴿ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ ﴾ فيعلم حقيقتي وبطلانكم ﴿ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ﴾ النصرة والعاقبة المحمودة في الدنيا ﴿ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ أظهر عند الرعية أن وجود إله غيره غير معلوم، وأنه يستطيع أن يحقق ذلك، فلذلك أمر ببناء صرح وقال :﴿ فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ ﴾ أطبخ لي الأجر ﴿ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا ﴾ بناء مشرفا عاليا ﴿ لَّعَلِّي أَطَّلِعُ١ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ﴾ كأنه ظن بجهله أنه لو كان لكان جسما في السماء يمكن الصعود إليه ﴿ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ ﴾ أي : موسى ﴿ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ في أن لكم إلها غيري وهو رسوله
١ كأنه سمع من موسى أن الله في السماء هذا ما في الوجيز ونقل شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام عن الإمام أبي الحسن الأشعري أنه قال في كتابه (اختلاف المصلين ومقالات الإسلاميين): كذب فرعون موسى في قوله إن الله فوق السماوات. انتهى. وفي كتاب العلو للذهبي يعني: أظن موسى كاذبا في أن إلهه في السماء، ولو لم يكن موسى عليه السلام يدعوه إلى أنه في السماء لما قال هذا، إذ لو كان موسى قال له إن الإله الذي أدعوك إليه ليس في السماء لكان هذا القول من فرعون عبثا وكان بناء القصر جنونا انتهى، وقال العلامة الحافظ ابن قيم في القصيدة النونية:
هذا وسابع عشرها إخبــــاره سبحانه في محكم القرآن
عن عبده موسى الكليم وحربه فرعون ذي التكذيب والطغيان
تكذيبه موسى الكليم بقولـــــــه الله ربي في السماء بنان
ومن المصائب قولهم إن اعتقا د الفوق من فرعون ذي الكفران
فإذا اعتقدتم ذا فأشياع لـــــــه أنتم وذا من أعظم البهـــــــتان
فاسمع إذا من ذا الذي أولى بفر عون المعطل جاحد الرحمـــن
وانظر إلى ما جاء في القصص التي تحكى مقال إمامهم ببيـــــــان
والله قد جعل الضلالة قــــــدوة بأئمة تدعو إلى النيـــــــران
فإمام كل معطل في نفيـــــــه فرعون مع نمرود مع هامان
طلب الصعود إلى السماء مكذبا موسى ورام الصرح بالبنيان
بل قال موسى كاذب في زعمه فوق السماء الرب ذو السلطان
فابنوا لي الصرح الرفيع لعلني أرقى إليه بحيلة الإنســــان
وأظن موسى كاذبا في قوله الله فوق العرش ذو سلطان
وكــــــذاك كذبه بأن إلهه نداه بالتكليم دون عيان
هو أنكر التكليم والفوقية الـ عليا كقول الجهم ذي صفوان
فمن ذا الذي أولى بفرعون إذا منا ومنكم بعد ذا التبيان
يا قومنا والله إن لقولنا *** إلفا تدل عليه بل إلفان
عقلا ونقلا مع صريح الفطرة الأولي وذوق حلاوة القرآن
كل يدل بأنه سبحانه فوق السماء مبائن الأكلوان
أترون أنا تاركوا ذا كله لجعاجع التعطيل والهذيان
انتهى. وقال شيخ الإسلام: ولا ريب أن قول هؤلاء يعني منكري الفوقية والتكليم يُئوّل إلى قول فرعون وإن كانوا يفهمون ذلك فإن فرعون كذب موسى في ما أخبره به من أن ربه هو الأعلى وأنه كلمه كما قال تعالى: ﴿وقال فرعون يا هامان ابن لي صارحا﴾ إلى ﴿وإني لأظنه كاذبا﴾ وهو قد كذب موسى في أن الله كلمه/ ١٢..

﴿ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ بغير استحقاق ﴿ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ﴾ اعتقدوا أنه لا قيامة ولا معاد
﴿ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ ﴾ ألقيناهم ﴿ فِي الْيَمِّ ﴾ ككف رماد ﴿ فَانظُرْ ﴾ يا محمد ﴿ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ فحذر قومك عن مثلها
﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً ﴾ قدوة وسادة للضلال ﴿ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ﴾ إلى موجباتها من الكفر والمعاصي ﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ ﴾ بدفع العذاب
﴿ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ﴾ يلعنهم الرسل والمؤمنون ﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ ﴾ سود الوجوه زرق العيون.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ١ التوراة ﴿ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى ﴾ قوم فرعون ونوح وعاد وثمود وغيرهم ﴿ بَصَائِرَ لِلنَّاسِ ﴾ من عمى القلب والغي، نصب على الحال من الكتاب ﴿ وَهُدًى ﴾ إلى الطريق المستقيم ﴿ وَرَحْمَةً ﴾ لو علموا به نالوا رحمة الله ﴿ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ ليكونوا على حال يرجى منهم التذكر
١ التوراة وهو أول كتاب فيه الفرائض والأحكام /١٢ وجيز..
﴿ وَمَا كُنتَ ﴾ يا محمد ﴿ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ ﴾ حاضرا في جانب الغربي من الجبل الذي كلم الله موسى من الشجرة التي هي شرقية ﴿ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ ﴾ فوضنا إليه أمر الرسالة ﴿ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ لذلك حتى تعرف هذه القصة وترى هذه الأحوال فما هو إلا من إعلام الله ووحيه، فكيف يرتاب أحد في نبوتك
﴿ وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا ﴾ خلقنا أمما بعد موسى ﴿ فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ﴾ فخربوا الشرائع، وكذبوا الرسل وأفسدوا، ونسوا عهودهم فلذلك كذبوك وإن كانت دلائل نبوتك ظاهرة ﴿ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا ﴾ مقيما ﴿ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ﴾ هم شعيب١( * ) والمؤمنون به ﴿ تَتْلُو عَلَيْهِمْ ﴾ تقرأها عليهم تعلما منهم ﴿ آيَاتِنَا ﴾ التي فيها قصتهم فتحكي ما رأيت، وتعلمت قال بعض المفسرين معناه : ما كنت فيهم رسولا تتلوا عليهم آياتنا فتقص ما قد رأيت منهم ﴿ وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴾ إليك أخبارهم بوحينا
١ في القطع بأنه شعيب النبي نظر، وانظر التعليق السابق..
﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا١ موسى وأعطيناه التوراة، وقلنا له خذ الكتاب بقوة، وعن بعض السلف معناه إذ نادينا أمتك في أصلاب آبائهم حين سألني موسى رؤيتك، وقلت له إنك لن تصل إلى ذلك لكن إن شئت أسمعتك صوت أمته ﴿ وَلَكِن ﴾ علمناك وأوحينا إليك ﴿ رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ عليك وعلى أمتك ﴿ لِتُنذِرَ قَوْمًا ﴾ متعلق بما قدرناه عاملا في رحمته ﴿ مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ ﴾ فإنهم في فترة بينك وبين عيسى ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ لكي يتعظوا
١ أعلم أنه تعالى وصف نفسه بالمناداة، والمناجاة في قوله: وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا} [مريم: ٥٢] وقوله: ﴿ويوم يناديهم﴾ [القصص: ٦٢] وقوله ﴿وناداهما ربهما﴾ [الأعراف: ٢٢] ووصف عباده بالمناداة والمناجاة فقال: إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} [الحجرات: ٤]، وقال: ﴿وإذا ناجيتم الرسول﴾ [المجادلة: ١٢]، وقال: و﴿إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان﴾ [المجادلة: ٩]، وليس المناداة كالمناداة، ولا المناجاة كالمناجاة ولا بد من إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي مماثلته لخلقه، فمن قال: ليس له نداء ولا نادى، ولا ناجى كان معطلا جاحدا ممثلا به بالمعدومات والجمادات، ومن قال: له نداء كنداء المخلوقات كان مشبها ممثلا له بالحيوانات، بل لابد من إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل ولله المثل الأعلى، وقال العلامة ابن القيم رحمه الله في القصيدة النونية:
والله قد نادى الكليم وقبله سمع الندا في الجنة الأبوان
وأتى النداء في تسع آيات له *** وصفا فرجعها من القرآن
واذكر حديثا في صحيح محمد ذاك البخاري العظيم الشأن
فيه نداء الله يوم معادنا بالصوت يبلغ قاصيا والدّان
وفي صحيح البخاري عن جابر عن عبد الله بن أنس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان) وعن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان) عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله: يا آدم فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار) انتهى. وقال شيخ الإسلام في بعض رسائله: وهو سبحانه نادى موسى بصوت سمعه موسى، فإنه قد أخبر أنه نادى موسى في غير موضع من القرآن والنداء لا يكون إلا صوتا باتفاق أهل اللغة انتهى، وقال الحافظ ابن قيم في القصيدة المذكورة:
أيصح في عقل وفي نقل نداء *** ليس مسموعا لنا كأذان
أم جمع العقلاء والعلماء من *** أهل اللسان وأهل كل لسان
إن الندا الصوت الرفيع وضده فهو النجاء كلاهما صوتان
والله موصوف بذاك حقيقة هذا الحديث ومحكم القرآن
انتهى. .

﴿ وَلَوْلَا ﴾ هي امتناعية ﴿ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا ﴾ الفاء للعطف على تصيبهم ﴿ رَبَّنَا لَوْلَا ﴾ هلا ﴿ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ ﴾ الفاء جواب لولا الثانية ﴿ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ وجواب لولا الأولى محذوف، أي : لما أرسلناك وحاصل الآية لولا قولهم ربنا هلا أرسلت رسولا نؤمن به ويعلمنا الدين، إذا عاقبناهم بسبب ما كسبت أيديهم من المعاصي لما أرسلناك فإرسالك لئلا يكون لهم حجة علينا إن عذبناهم يعني هم مستحقون للعقاب لكن تأخيره وإرسالك لقطع الحجة
﴿ فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا ﴾ أي : محمد عليه السلام ﴿ قَالُوا ﴾ عنادا ﴿ لَوْلَا ﴾ هلا ﴿ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى ﴾ من اليد والعصا وغيرهما ﴿ أَوَلَمْ يَكْفُرُوا ﴾ أي : ألم يؤت موسى ما أوتي وألم يكفروا أي أبناء جنسهم، وهم كفرة زمان موسى ﴿ بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا ﴾ في موسى وهارون ﴿ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ﴾ تعاونا واتفقا، وقراءة ( سحران ) في معنى ذوا سحر أو سموهما سحران للمبالغة ﴿ وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ ﴾ منهما ﴿ كَافِرُونَ ﴾ أو معناه يطلب قريش منك مثل معجزات موسى، أو لم يكفروا بمعجزاته وقالوا فيكما يا محمد وموسى ساحران كل يصدق الآخر، ويعاونه أو القرآن والتوراة سحران كل يصدق الآخر، وقالوا : نحن بكل منهما كافرون
﴿ قُلْ ﴾ يا محمد ﴿ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا ﴾ من التوراة والقرآن ﴿ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أنا ساحران وهذا إلزامهم وتبكيتهم
﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ ﴾ دعائك إلى الإتيان بكتاب أهدى ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ ﴾ لأنهم ما رجعوا بعد ما ألزمتهم بالحجة عن العناد ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ ﴾ استفهام إنكار ﴿ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ﴾ حال التوكيد وقيل للتقييد فإن هوى النفس قد يكون من الله ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ المتبعين للهوى.
﴿ وَلَقَدْ١ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ ﴾ أي : القرآن أتاهم متتابعا متواصلا قصصا للأمم الخالية ونصائح ووعدا ووعيدا أو نزل عليهم نزولا متصلا بعضه ببعض ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ لكي يتعظوا
١ ولما ذكر دلائل صحة نبوته، وكررها بطرق مختلفة لئلا يبقى لهم شبهة وأنزل عليهم آيات بينات بين سبب تواصلها وتواليها فقال: ﴿ولقد وصلنا لهو القول﴾ الآية /١٢..
﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ ﴾ من قبل القرآن ﴿ هُم ﴾ لا قريش ﴿ بِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾ نزلت في مؤمني أهل الكتاب أو في وفد جاءوا من عند النجاشي من الحبشة، ﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ﴾ الآية [ المائدة : ٨٣ ]،
﴿ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ﴾ لأنا نعلم قبل ذلك محمدا والقرآن لأن وصفهما مذكور في كتابنا
﴿ أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ١ مرة على إيمانهم بكتابهم ومرة على إيمانهم بالقرآن، وإن كانوا مؤمنين به من قبل ﴿ بِمَا صَبَرُوا ﴾ بسبب صبرهم وثباتهم على اتباع الحق أولا وآخرا ﴿ وَيَدْرَءُونَ ﴾ يدفعون ﴿ بِالْحَسَنَةِ ﴾ بالطاعة ﴿ السَّيِّئَةَ٢ المعصية، أو لا يقابلون الأذى بمثله يل يعفون، بل يجاوزون بالإحساس ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ في الخير
١ أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بالكتاب الأول والآخر ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده) /١٢ فتح..
٢ كما قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (أتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن) / ١٢ وجيز. [حسن، وانظر صحيح الجامع (٩٧)]..
﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْو ﴾ القبيح من القول كشتمهم ﴿ أَعْرَضُوا عَنْهُ ﴾ تكرما ﴿ وَقَالُوا ﴾ للاغين ﴿ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ﴾ المراد سلام المتاركة والتوديع ﴿ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ لا نريد صحبتهم وطريقتهم وذلك حين كان المشركون يسبون مؤمني أهل الكتاب قائلين تبا لكم تركتم دين آبائكم
﴿ إِنَّكَ١ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ٢ نزلت حين عرض رسول الله – صلى الله عليه وسلم- الإيمان على أبي طالب في حين موته فأبى ورد ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ بالمستعدين لذلك.
١ ولما بين أنه فصل القول لقريش لكن سبقت السعادة لغيرهم أعقبه بقوله ﴿إنك لا تهدي من أحببت﴾ الآية /١٢ وجيز..
٢ قد أجمع أهل الدين على أنها نزلت في أبي طالب وحديثه مسطور في الصحيحين /١٢ وجيز..
﴿ وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ ﴾ نؤمن بك ﴿ نُتَخَطَّفْ مِنْ١ أَرْضِنَا ﴾ نخرج من بلادنا، نزلت في قوم قالوا : نحن نعلم صدقك لكنا إن اتبعناك خفنا أن يخرجنا العرب من أرضنا مكة لإجماعهم على خلافنا فرد الله قولهم بقوله ﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ ﴾ أو لم نجعل مكانهم ﴿ حَرَمًا آمِنًا ﴾ مع كفرهم، فكيف نعرضهم للتخوف والتخطف إذا كانوا موحدين ! يعني : هم كاذبون في عذرهم ﴿ يُجْبَى ﴾ يجمع ويحمل ﴿ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ أي : ثمرات كثيرة٢ ﴿ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا ﴾ مصدر من معنى يجبي ؛ لأنه في معنى يرزق أو مفعول له أو حال بمعنى مرزوقا من ثمرات وجاز لتخصصها بالإضافة ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ جهلة، ولذلك قالوا ما قالوا.
١ كما يتخطف العصافير من أوكارها، لمخافة كافة العرب لأنا نصير قليلا من غير نصير والاختطاف الانتزاع بسرعة /١٢ وجيز..
٢ أي: ثمرات كثيرة من أنواع متباينة من ثمرات البلاد الحارة والباردة ففيه الفواكه مع أنه واد غير ذي زرع وفي فعل المضارع إشارة إلى أن هذا يبقى مستمرا /١٢..
ثم بين أنهم أحقاء بأن يخافوا بأس الله لا العرب، فقال :﴿ وَكَمْ١ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ ﴾ أي : من أهلها ﴿ بَطِرَتْ ﴾ طغت وأشرت تلك القرية ﴿ مَعِيشَتَهَا ﴾ أي : في معيشتها منصوب بنزع الخافض أو مفعول بطرت بتضمين كفرت يقال : بطر فلان نعمة الله أي : استخفها وكفرها ﴿ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ ﴾ خاوية ﴿ لَمْ تُسْكَن ﴾ من السكنى ﴿ مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ أي : إلا سكنى قليلا إذ لا يسكنها إلا المسافر حين العبور ﴿ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ﴾ إذ لم يبق أحد منهم يرثهم
١ ولما ذكر تأمينهم وإنجائهم وتمكينهم مع أنهم قائلون معترفون بضعفهم أتبعه بما وقع من إهلاك قرى أقوياء يخاف الناس من سطوتهم فالأول ترغيب والثاني ترهيب فقال: ﴿وكم أهلكنا من قرية﴾ الآية /١٢ وجيز..
﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى ﴾ أي : ما جرت عادة الله على إهلاكها ﴿ حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا ﴾ أصلها وأعظمها فإنما الأشراف فيها ﴿ رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ﴾ فإن أنكروا نزل عليهم العذاب ﴿ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾ بتكذيب الرسول وارتكاب المعاصي وعن بعض المفسرين معناه ما كان في حكمنا وقضائنا أن نهلك القرى ونخرب الدنيا حتى نبعث في أم القرى ( مكة ) رسولا إلخ
﴿ وَمَا أُوتِيتُم١ مِّن شَيْءٍ ﴾ قليل أو كثير من أسباب الدنيا ﴿ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا ﴾ ما هو إلا تمتع وزينة أياما قلائل ﴿ وَمَا عِندَ اللَّهِ ﴾ الجنة ونعيمها ﴿ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ٢ فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير.
١ ولما اعتلوا في الوقف عن الإيمان بالخوف والتخطف والخوف، إما على الأنفس أو على ما في أيديهم من الدنيا وذكرهم نعمته في الأمن وخوفهم سطوته وهم في مسكنهم وقتهم إشارة إلى أنهم فوتوا بعدم الإيمان ما هو أغلى وأعلى وأفضل وأولى فقال: ﴿وما أوتيتم﴾ الآية /١٢ وجيز..
٢ ما لم يرجح الآخرة على الدنيا فليس بعاقل قال الشافعي: من وصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف إلى المشتغلين بطاعة الله /١٢ فتح..
﴿ أَفَمَن١ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا ﴾ حسن الوعد بحسن الموعود كالجنة ﴿ فَهُوَ لَاقِيهِ ﴾ مدركه ﴿ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ الذي هو مشروب بأنواع الغصص ﴿ ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ للحساب والعذاب وهذه الآية كالنتيجة لما قبلها، ولذلك رتب عليها بالفاء نزلت في النبي عليه السلام وأبي جهل أو في علي وحمزة وأبي جهل
١ ولما بين التفاوت البين بين المتاعين شرع يبين تفاوت المنتفعين بهما فقال: ﴿أفمن وعدناه﴾ الآية /١٢ وجيز..
﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ ﴾ أي : اذكروا يوم ينادي المشركين ﴿ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ أي : تزعمونهم شركائي بحذف المفعولين
﴿ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ﴾ وجب عليهم العذاب، أي : شياطينهم وسادتهم في الضلال خوفا من أن يقول السفلة لا ذنب إنما الذنب لسادتنا ﴿ رَبَّنَا هَؤُلَاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا ﴾ أي : أغويناهم ﴿ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ﴾ أي : أغويناهم فغووا غيّا مثل ما غوينا هي خبر هؤلاء والذين مع صلته صفته أو الموصول خبره وهذه مستأنفة ﴿ تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ ﴾ منهم ﴿ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ﴾ فإنهم يعبدون أهواءهم فنحن وهم سواء في الغواية شهدوا على أنفسهم بالغواية والإغواء ثم تبرءوا من عبادتهم، قال تعالى :﴿ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ﴾ الآية [ البقرة : ١٦٦ ]،
﴿ وَقِيلَ ادْعُوا١ شُرَكَاءكُمْ ﴾ لتخلصكم عن العذاب ﴿ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ﴾ لعجزهم ﴿ وَرَأَوُا الْعَذَابَ ﴾ لهم ولأربابهم ﴿ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ﴾ جواب لو محذوف، أي ما رأوا العذاب أو لو للتمني فهو على الحكاية كأقسم ليضربن أو على تأويل رأوا متمنين هدايتهم
١ لما سألوا وأجابوا بغير جوابه سألوا ثانيا وأضاف الشركاء إليهم لمزيد نكالهم ووبالهم فقال ادعوهم لأن يخلصوكم عما هم فيه تهكما بهم ﴿فدعوهم﴾ لحماقتهم وسخافة عقولهم ﴿فلم يستجيبوا لهم﴾ الآية /١٢ وجيز..
﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ سأل أولا عن إشراكهم ثم عن تكذيبهم رسلهم
﴿ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ ﴾ صارت الأنباء كالعمى عليهم لا تهتدي إليهم وفيه مبالغة ليس في عموا عن الأنباء وهذا كما يقول الكافر في قبره هاه هاه لا أدري١( * ) قال مجاهد : معناه فخفيت عليهم الحجج ﴿ فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ ﴾ لا يسأل بعضهم عن بعض لفرط حيرة كل منهم
١ هو حديث البراء بن عازب الطويل في عذاب القبر ونعيمه، أخرجه أحمد وغيره بسند صحيح..
﴿ فَأَمَّا مَن تَابَ ﴾ من الشرك ﴿ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ﴾ أي من جمع بين الإيمان والعمل الصالح فليطمع في الفلاح وليكن بين الخوف والرجاء وعسى من الكرام تحقيق
﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ ﴾ لا معقب ولا منازع لحكمه ﴿ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَة ﴾ أي : التخير يعني ليس لأحد أن يختار عليه أو ليس لهم اختيار أصلا بل هم عاجزون تحت١ قدره قيل : ما موصولة مفعول يختار والعائد محذوف أي يختار الذي كان لهم فيه صلاحهم ﴿ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ عن إشراكهم نقل أنها نزلت حين قالوا :( لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) [ الزخرف : ٣١ ]،
١ والصحيح أن ما نافية كما نقله ابن أبي حاتم عن ابن عباس فإن المقام في بيان انفراده بالخلق والاختيار، ولهذا عقبه بقوله: ﴿سبحان الله﴾ قال الله تعالى: ﴿وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم﴾ [الأحزاب: ٣٦] /١٢ وجيز.
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح تعليم الاستخارة وكيفية صلاتها ودعائها فلا نطول بذكرها /١٢ فتح..

﴿ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ ﴾ تستر ﴿ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾
﴿ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى ﴾ الدنيا ﴿ وَالْآخِرَةِ ﴾ فإنه مولى النعم في الدارين ﴿ وَلَهُ الْحُكْمُ ﴾ فصل القضاء بين الخلق ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ بالنشور
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ١ أخبروني ﴿ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا ﴾ دائما ﴿ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ لا نهار معه ﴿ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ ﴾ سماع فهم
١ ولما ذكر أن لله العلم العام التام وليس له شريك وهو الموصوف بجميع الصفات الحسنى، وهو الحاكم يرجع إليه الأمر، وشرع يثبت المدعى بحجة ثابتة مفحمة فقال: ﴿قل أرأيتم﴾ الآية /١٢ وجيز..
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا ﴾ هو من السرد، والميم مزيدة ﴿ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾، لا ليل معه، ﴿ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ﴾، استراحة عن المتاعب وصف الليل دون النهار، لأن النهار مستغن عن الوصف، ﴿ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ ختم الأولى بقوله أفلا تسمعون، والثانية بأفلا تبصرون لمناسبة قوة السامعة بالليل، وقوة الباصرة بالنهار
﴿ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ﴾ في الليل ﴿ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ﴾ بالنهار بأنواع المكاسب ﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ ولكي تشكروا نعمه
﴿ وَيَوْمَ١ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ٢ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ التكرار للتقريع بعد التقريع
١ ولما أثبت أن له القدرة والحكمة والإحسان وأفحمهم وفهمهم نبه على عجزهم عن البرهان مرة بعد أخرى لكي يرجعوا إلى الحق ويذعنوا فقال: ﴿ويوم يناديهم﴾ /١٢ وجيز..
٢ وتكرار ذلك كمن أورد مدعي الخصم وأبطله ثم بعد الإبطال أعاد المدعي ليقرعه ويقر بالإبطال /١٢ وجيز..
﴿ وَنَزَعْنَا ﴾ أخرجنا ﴿ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ﴾ نبيهم يشهد عليهم بما كانوا عليه ﴿ فَقُلْنَا ﴾ للأمم ﴿ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ﴾ على صحة ما كنتم تدعونه ﴿ فَعَلِمُوا ﴾ حينئذ ﴿ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ ﴾ ولرسله لا لهم ﴿ وَضَلَّ عَنْهُم ﴾ غاب غيبة الضائع ﴿ مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ من الباطل.
﴿ إِنَّ قَارُونَ١ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى٢ ابن عمه آمن به ثم نافق ﴿ فَبَغَى ﴾ تكبر ﴿ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ٣ جمع مفتح وهو ما يفتح به ﴿ لَتَنُوءُ ﴾ تثقل ﴿ بِالْعُصْبَةِ ﴾ الجماعة الكثيرة ﴿ أُولِي الْقُوَّة ﴾ ما الموصولة مع صلته التي هي أن واسمها وخبرها ثاني مفعولي ﴿ آتينا ﴾ ﴿ إِذْ قَالَ ﴾ ظرف لتنوء ﴿ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ﴾ بدنياك، فإن الفرح بها مدة قصيرة وهو يورث غمّا سرمدا ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ الأشرين البطرين بالدنيا
١ ولما صاغ تلك السورة من قصص موسى عليه السلام فصل حكايته في أول السورة مع جنايته، ولما أتمها بين فائدتها ثم شرع في حكاية أخرى منه مع أحد من أقاربه كما وقع لمحمد صلى الله عليه وسلم حذو النعل بالنعل فقال: ﴿إن قارون﴾ [القصص: ٧٦] /١٢ وجيز..
٢ من بني إسرائيل بلا خلاف واختلف في قرابته فعن ابن عباس أنه ابن عم موسى، وكان يسمى المنور لحسن صورته كان أحفظ بني إسرائيل للتوراة وأقرأهم لكنه نافق كما نافق السامري حسدا /١٢ وجيز..
٣ قال الواحدي: إن المفاتح الخزائن في قول أكثر المفسرين كقوله: ﴿وعنده مفاتح الغيب﴾ [الأنعام: ٥٩] قال: هو اختيار الزجاج قال: الأشبه في التفسير أن مفاتحه خزائن ماله وقال آخرون: هي جمع مفتاح، وهو ما يفتح به الباب، فهذا قول قتادة ومجاهد وعن خيثمة قال: كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود الإبل كل مفتاح مثل الإصبع كل مفتاح على خزائنه على حدة فإذا ركب حملت المفاتيح على سبعين بغلا أغر محجل، وعنه قال: وجدت في الإنجيل أن بغال مفاتيح خزائن قارون غير محجلة قال الشوكاني: لم أجد في الإنجيل هذا الذي ذكره خيثمة /١٢ فتح..
﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ ﴾ من المال ﴿ الدَّارَ الْآخِرَةَ ﴾ بأن تصرفه في مرضاة الله ﴿ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ فإن نصيب كل أحد ليس إلا ما يأكل ويلبس، أو النصيب ما ينفعك مالا وما هو إلا أعمال الخير، قيل النصيب الكفن ﴿ وَأَحْسِن ﴾ إلى الناس ﴿ كَمَا١ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ قيل : أحسن بالشكر كما أحسن الله بالإنعام إليك ﴿ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ ﴾ الظلم والكبر والمعاصي ﴿ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِين ﴾
١ لا يلزم أن تكون المشابهة من كل جهة /١٢ وجيز..
﴿ قَالَ١ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى٢ عِلْمٍ عِندِي ﴾ أي : أعطاني على علم وفضل عندي أستحقه لذلك، ولولا معرفته بفضلي ورضاه ما أعطاني وهو كان أقرأ بني إسرائيل وأحفظهم بالتوراة، قيل ( عندي ) خبر محذوف أي هذا في اعتقادي وظني وقيل : متعلق بأوتيت٣ كقولك جاز ذلك عندي ﴿ أَوَلَمْ٤ يَعْلَمْ ﴾ عطف على محذوف أي : ألم يقرأ ولم يعلم ﴿ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ﴾ للمال، فلا تدل كثرة الدنيا على أن صاحبها يستحق رضى الله ﴿ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾، أي : لا يسأل الله أو الملائكة المجرمين عن ذنوبهم، بل يدخلهم النار بلا سؤال وحساب وهذا في موطن خاص أو هو سؤال علم، بل هو سؤال توبيخ
١ قارون جواب النصح /١٢ وجيز..
٢ قيل أراد علم الكيمياء أي الإكسير المزيل لعيوب حدثت لبعض الفلزات من معادنه /١٢ وجيز. ورد بعض المفسرين بأن علم الكيمياء في نفسه علم باطل لأن قلب الأعيان لا يقدر عليها أحد إلا الله أقول: ليس هو من باب التقليب، وهو علم حق ومن ظن ذلك فمن جهله بحقيقة ذلك العلم هذا ما في المنهية، وقال الخطابي: تحت حديث (لعن الله الواشمات) إنما نهي عن ذلك لما فيه من الغش والخداع، ولو رخص في ذلك لاتخذه الناس وسيلة إلى أنواع الفساد، ولعله قد يدخل في معناه صنعة الكيمياء فإن من تعاطاه إنما يروم أن يلحق الصنعة بالخلقة، وكذلك كل مصنوع يشبه بمطبوع، وهو باب عظيم من الفساد انتهى، وقد صنف شيخ الإسلام في إبطال الكيمياء سماه (إبطال الكيمياء وتحريمها ولو صحت) وكذلك تلميذه شمس الدين ابن القيام صنف كتابا سماه (بطلان الكيمياء من أربعين وجها) وهو مجلدا /١٢..
٣ والأظهر أن (عندي) صفة علم/ ١٢وجيز..
٤ ابتداء كلام من الله /١٢..
﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ١ من مراكب وملابس وخدم وحشم ﴿ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا ﴾ أي : المؤمنون الراغبون في الدنيا ﴿ يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ من الدنيا
١ في بيان زينته ذكر أشياء الله أعلم بصحتها منها أنه خرج في تسعين ألفا عليهم المعصفرات، والحلي راكبين وراجلين هذا ما في الوجيز، وفي الفتح عن أوس بن أوس الثقفي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خرج على قومه في أربعة آلاف بغل) أخرجه ابن مردويه، وقد روى عن جماعة من التابعين أقوال في بيان ما خرج به على قومه من الزينة ولا يصح منها شيء مرفوعا بل هي من أخبار أهل الكتاب كما عرفناك غير مرة، ولا أدري كيف إسناد هذا الحديث الذي رفعه ابن مردويه فمن ظفر بكتابه فلينظر فيه /١٢..
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾ أي : الأحبار لمن تمنى ويلكم ﴿ وَيْلَكُمْ ﴾ دعاء بالهلاك مستعمل في الزجر ﴿ ثَوَابُ اللَّهِ ﴾ في الآخرة ﴿ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ﴾ مما أوتي قارون ﴿ وَلَا يُلَقَّاهَا ﴾ الثواب والتأنيث لأنه بمعنى المثوبة أو الجنة ﴿ إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾ على حكم الله، وهو من تتمة النصيحة أو المعنى ما يلقى هذه الكلمة التي تكلم بها العلماء إلا الصابرون فعلى هذا من كلام الله منقطع عن الأول
﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ ﴾ نقل١ أنه كان يؤذي موسى كل وقت فأعطى يوما مالا لامرأة لتنسبه إلى الزنا فلما كان يوم العيد في محضر الخلق رمته بنفسها فناشدها موسى أن تصدق، فقالت : أعطاني قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي فدعا عليه موسى فأوحى الله إليه جعلنا الأرض مطيعة لك فأمرها تأخذه٢( * ) فأخذته وإنه ليتجلجل فيها إلى يوم القيامة ﴿ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ ﴾ أعوان ﴿ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ ﴾ من الممتنعين من عذاب الله، أو من المنتصرين بنفسه
١ أخرجه ابن أبي شيبة والحاكم، وصححه وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس /١٢ فتح..
٢ بالأصل (يأخذه)..
﴿ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ ﴾ منزلته ﴿ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ ﴾ مركب من ( وي ) وهي كلمة تندم و( كأن ) أو ويل بمعنى ويلك وأن الله منصوب بمقدر وهو أعلم ﴿ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ﴾ بمقتضى إرادته لا لكرامة وفضل ﴿ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بنا ﴾ لأنا وددنا أن نكون مثله ﴿ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ لنعمه أو بالله ورسله.
﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ ﴾ في تلك الإشارة تعظيم للآخرة أي : التي سمعت بذكرها، وبلغك وصفها ﴿ نَجْعَلُهَا ﴾ إما خبر تلك والدار صفته أو الدار خبره وهو استئناف ﴿ لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ ﴾ تكبرا أو استكبارا عن الإيمان ﴿ وَلَا فَسَادًا١ عملا بالمعاصي أو دعوة الخلق إلى الشرك ﴿ وَالْعَاقِبَةُ ﴾ الحسنى ﴿ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ عن معاصيه
١ إعادة (لا) دالة على أن كلا من العلو والفساد مقصود لا جمعهما، والويل للجامع كقارون، ولم يعلق الموعد بترك العلو والفساد ولكن بترك إرادتهما نحو: ﴿ولا تركنوا إلى الذين ظلموا﴾ [هود: ١١٣] قرأها فضيل فقال: ذهبت الأماني ولا يبعد أن يراد لا يراد أن يكون جبارا مسلطا على العباد، ولا يريد الفساد في البلاد، وقوله في الأرض مشعر بما قلنا فلا يتخذ عباد الله خولا ولا مال الله دولا. همته ونيته إعلاء الدين وإصلاح المسلمين /١٢ وجيز..
﴿ ١مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ﴾ من وضع الظاهر موضع المضمر لزيادة تبغيض السيئة إلى قلوب السامعين ﴿ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ أي : إلا مثله فحذف المثل للمبالغة٢
١ ولما حصل التمييز بين أهل الآخرة وأرباب الدنيا فكأن قائلا قال: ما حال من أحسن وما حال من أساء ؟ فقال: ﴿من جاء بالحسنة﴾ الآية /١٢ وجيز..
٢ كأنه لا يصل إليه إلا هذه السيئة بعينها التي أعد لنفسه والشخص إذا خرج من جلباب البدن الكثيف وإن كان كافرا يعرف بعقله ويبين بين مساواة الجزاء، وزيادته ونقصه، ولما ذكر أن العاقبة للمتقين وأعقبه بقوله: ﴿من جاء بالحسنة فله خير منها﴾ توجه الفهم إلى حال إمام المتقين وسيد المحسنين باليقين فقال: ﴿إن الذي فرض﴾ الآية /١٢ وجيز..
﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ﴾ أي : تلاوته وتبليغه ﴿ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ﴾ وأي معاد، وهو معاد ليس لغيرك مختص بك وهو المقام١ المحمود أو إلى مكة، فقيل : نزلت حين المهاجرة في طريق المدينة، وعن بعض المفسرين : إن ابن عباس فسره مرة بالموت٢ ومرة بالعود إلى مكة، ومراده بالثاني أيضا الموت، لأن ابن عباس يرى فتح مكة من علامات قرب موته، وكأن التفسيرين واحد ﴿ قُل٣ يا محمد لمن ينسبك إلى الضلال ﴿ رَّبِّي أَعْلَمُ ﴾ يعلم ﴿ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ فمن جاء مفعول لفعل دال عليه أعلم
١ كما رواه البخاري والنسائي عنه /١٢..
٢ كما روى السدي وغيره بطرق متعددة عنه /١٢..
٣ ولما كان المشركون يقولون: لو كان محمد على حق وهدى لما رضي ربه بأن يكون مخرجا من بيته وغربيته وكربته، قال: ﴿قل﴾ يا محمد ﴿ربي أعلم﴾ الآية /١٢ وجيز..
﴿ وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ ﴾ ما كنت تظن وتأمل الوحي والنبوة قبل ذلك ﴿ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ لكن ألقي إليك لرحمة من ربك وقيل : الاستثناء متصل محمول على المعنى كأنه قال : ما ألقي إليك الكتاب لأمر إلا لرحمة ﴿ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ ﴾ فخالفهم ونابذهم، نقل أنه نزل حين دعى إلى دين آبائه
﴿ وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ ﴾ العمل بالقرآن ﴿ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ ﴾ إلى معرفته وطاعته ﴿ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ حقيقة الخطاب لأهل دينه
﴿ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ١ إلا ذاته المقدس عن الفناء أو معناه إلا ما أريد به وجهه، أي : كل عمل لم يرد به وجه الله فهو باطل فان ﴿ لَهُ الْحُكْمُ ﴾ القضاء النافذ ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾، للجزاء.
والحمد لله رب العالمين
١ في البخاري يقال: إلا وجهه إلا ملكه ويقال: إلا ما أريد به وجه الله، وفي المعالم قال أبو العالية: ما أريد به وجهه /١٢..
Icon