ﰡ
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (١) ما أفاض به على موسى من نعمه في الصغر من إنجائه من الهلاك بعد وضعه في التابوت وإلقائه في النيل، وإنجائه من الذبح الذي عم بني إسرائيل.. أردفه بذكر ما أنعم به عليه في كبره من إيتائه العلم والحكمة، ثم إرساله رسولًا ونبيًا إلى بني إسرائيل والمصريين، ثم ذكر ما حصل منه من قتل المصري الذي اختصم مع اليهودي بوكزه بجُمْع يده، وكان ذلك سببًا في موته، ثم طلبه المغفرة من ربه على ما فعل، ثم تصميمه وعزمه أن لا يناصر غويًا مجرمًا، ثم أعقب ذلك بذكر خصام آخر بين ذلك اليهودي وقبطي آخر، وقد هم موسى اغاثته أيضًا فقال له المصري: أتريد الإصلاح في الأرض، أم تريد أن تكون من الجبارين المفسدين.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿طسم (١)﴾ يشير (٢) إلى القسم بطاء طَوله تعالى، وطاء طهارة قلب حبيبه - ﷺ - عن محبة غيره، وطاء طهارة أسرار موحديه عن شهود سواه، وبسين سرِّه مع محبيه، وبميم مننه على كافة مخلوقاته بالقيام بكفاياتهم على قدر حاجاتهم، كذا في "التأويلات النجمية"، وقد تقدم (٣) قولنا: إن أحق الآراء وأجدرها بالقبول في معنى هذه الحروف المقطعة أنها حروف يُراد بها التنبيه كما يراد مثل ذلك من معنى "يا" في النداء، و"ألا" في الاستفتاح، ونحوهما، ويُنطق بها بأسمائها هكذا (طا، سين، ميم) وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: ﴿طسم (١)﴾ طاء طَوله وقدرته، وسين سنائه ورفعته، وميم ملكه.
٢ - ﴿تِلْكَ﴾؛ أي: هذه السورة ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾؛ أي: آيات مخصوصة من القرآن الظاهر إعجازه، فاسم الإشارة إلى آيات هذه السورة، فالإشارة لمحقق
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
والخلاصة (٢): أي هذه آيات الكتاب الكريم الذي أنزلته إليك أيها الرسول واضحًا جليًا، كاشفًا لأمور الدين وأخبار الأولين، لم تتقوَّله، ولم تتخرَّصه، كما زعم المشركون المنكرون له ولرسالة مَنْ أوحي إليه.
٣ - ثم ذكر ها هو الدليل على أنه وحي يوحى، وليس هو من وضع البشر فقال: ﴿نَتْلُو عَلَيْكَ﴾؛ أي: نقرأ عليك يا محمد بواسطة جبريل ﴿مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ﴾؛ أي: بعض خبر موسى وفرعون، حال كون ذلك الخبر متلبسًا ﴿بِالْحَقِّ﴾ والصدق الذي لا كذب فيه، فهو حال من النبأ أو حالة كوننا متلبسين بالحق، فهو حال من فاعل ﴿نَتْلُو﴾، ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: لأجل قوم يصدقون بك وبالقرآن، وتخصيصهم بذلك مع عموم الدعوة والبيان للكل؛ لأنهم المنتفعون به.
والمعنى (٣): أي نتلو عليك بعض أخبار موسى ومحاجته لفرعون وغلبته إياه بالحجة، وأخبار فرعون وجبروته وطغيانه، وكيف قابل الحق بالباطل، ولم تُجْدِ معه البراهين الساطعة والمعجزات الواضحة، فأخذناه أخذ عزيز مقتدر، فكانت عاقبته الدمار والوبال، وأُغرق هوهومن معه من جنده أجمعين، نتلوها عليك تلاوة على وجه الحق، كأنك شاهد حوادثها، مبصر وقائعها، تصف ما ترى وتُبصر عيانًا لقوم يصدقون بك وبكتابك، لتطمئن به قلوبهم، وتثلج به صدورهم، ويعلموا أنه الحق من ربهم، وأن سنته فيمن خالفك وعاداك من المشركين هي
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
وإنما جعل التلاوة للمؤمنين فقط، وهو يُتلى على الناس أجمعين لبيان أنه لا يعتبر بها إلا من كان له قلب واع، وأُذن سامعة تذكَّر وتتعظ بآياته، أما من أعرض عنه وأبى واستكبر، وقال: إن هذا إلا سحر يؤثر.. فلا تفيده الآيات والنذر، ولا يلقي له بالًا، ولا يعي ما فيه من حكمة، ولا ما يسوقه من عبرة، فهو على نحو ماحكى الله عنهم: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾.
٤ - ثم فصل هذا المجمل، ووضحه بقوله: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ فهو (١) استئناف بياني لذلك النبأ كأن سائلًا قال: وكيف نبأهما؟ فقال: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ وتصديره بحرف التأكيد للاعتناء بتحقيق مضمون ما بعده؛ أي: إن فرعون اللعين تجبَّر وطغى في أرض مصر، وقهر أهل مملكته، وجاوز الغاية في الظلم والعدوان، وساس البلاد سياسة غاشمة.
ومما مكن له في ذلك ما بيَّنه الله سبحانه بقوله: ﴿وَجَعَلَ﴾ فرعون ﴿أَهْلَهَا﴾؛ أي: أهل أرض مصر؛ أي: أهل مملكته ﴿شِيَعًا﴾؛ أي: فرقًا يشيعونه ويتبعونه ويطيعونه في كل ما يريد من الشر والفساد، أو جعلهم أصنافًا في استخدامه، يستعمل كل صنف في عمل من بناء وحرث وحفر وغير ذلك من الاْعمال الشاقة، ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية.
والمعنى (٢): أي وفرَّقهم فرقًا مختلفة، وأحزابًا متعددة، وأغرى بينهم العداوة والبغضاء كيلا يتفقوا على أمر، ولا يُجمعوا على رأي، ويشتغل بعضهم بالكيد لبعض، وبذا يلين له قيادهم، ولا يصعب عليه خضوعهم واستسلامهم، وتلك هي سياسة الدول الكبرى في العصر الحاضر بل وفي الصغرى، كما تفعله الحُبُوشُ بين شعوب الأرمية الإِسلامية استئمارًا لم يُسمع قط في العالم قديمًا
(٢) المراغي.
وَالظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوْسِ فَإنْ تَجِدْ | ذَا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لاَ يَظْلِمُ |
قال ابن عباس (٢): إن بني إسرائيل لما كثروا بمصر استطالوا على الناس، وعملوا المعاصي، ولم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر، فسلط الله عليهم القبط، فاستضعفوهم إلى أن أنجاهم الله على يد نبيه موسى - عليه السلام -؛ أي: يجعل جماعة منهم أذلاء مقهورين يسومهم الخسف، ويعاملهم بالعسف.
ثم فسر هذا الاستضعاف بقوله: ﴿يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ﴾ كثيرًا صغارًا، وأصل الذبح شق حلق الحيوان، والتشديد للتكثير؛ أي: يقتل أبناء تلك الطائفة كثيرًا، بعضهم إثر بعض، حتى قتل تسعين ألفًا من أبناء بني إسرائيل صغارًا، وقرأ الجمهور ﴿يذبِّح﴾ مضعفًا، وأبو حيوة وابن محيصن بفتح الياء وسكون الذال.
﴿وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ﴾؛ أي: يترك بناتهم أحياء لأجل الاستخدام، وذلك لأن الأنبياء الذين كانوا قبل موسى عليه السلام بشروا بمجيء موسى عليه السلام، وفرعون كان قد سمع ذلك، فلهذا كان يذبح أبناء بني إسرائيل عند الولادة، وهذا
(٢) المراح.
وجملة قوله: ﴿يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ﴾ (١) بدل من جملة ﴿يَسْتَضْعِفُ﴾، ويجوز أن تكون مستأنفة للبيان، أو حالًا، والمعنى (٢): أي يذبح أبناءهم حين الولادة، وقد وكَّل بذلك عيونًا تتجسس، فكلما ولدت امرأة من بني إسرائيل ذكرًا ذبحوه، ويستبقي إناثهم؛ لأنه يتوجس خيفة من الذكران الذي يتمرسون الصناعات، وبأيديهم زمام المال، فإذا طال بهم الأمد استولوا على المرافق العامة، وغلبوا المصريين عليها، والغلب الاقتصادي في بلد ما أشد وقعًا وأعظم أثرًا في أهلها من الغلب الاستئماري، ومن ثم لم يشأ أن يقتل النساء.
وروى السدي (٣): أن فرعون رأى في منامه أن نارًا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتعلت على بيوت مصر فأحرقت القبط، وتركت بني إسرائيل، فسأل علماء قومه فأخبره الكهنة أنه سيخرج من هذا البلد رجل يكون هلاك مصر على يديه، فأخذ يفعل ما قص علينا الكتاب الكريم.
قال الزجاج: والعجب من حمق فرعون! فإن الكاهن الذي أخبره بذلك إن كان صادقًا عنده فما ينفع القتل؟ وإن كان كاذبًا فلا فائدة فيه اهـ.
ولا يعنينا من أمر هذه الرواية شيء، فسواء صحت أو لم تصح، فإن السر المعقول ما قصصناه عليك أولًا.
ثم علل اجتراحه لتلك الجرائم وإزهاقه للأرواح البريئة بقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾؛ أي: إن فرعون (٤) كان من الراسخين في التجبر والإفساد بقتل خلق كثير من المعصومين، ومن ثم سوَّلت له نفسه الخبيثة أن يفعل ما فعل من تلك الفظائع، وقتل سلائل الأنبياء بلا جريمة ارتكبوها، ولا ذنب جنوه. وقد كانت هناك وسائل عديدة ليصل بها إلى اتقاء شرور اليهود بحسب ما يزعم، وكان
(٢) المراغي.
(٣) المراح.
(٤) المراغي.
٥ - ثم ذكر سبحانه ما أكرم به هذه الأمة المستضعفة، وما أتاح لها من السلطان المديني والدنيوي فتأسست لهم دولة عظيمة في بلاد الشام وصاروا يتصرفون في أرض مصر كما شاؤوا فقال: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: وأردنا أن نتفضل بإحساننا برسال موسى عليه السلام على من استضعفهم فرعون، وأذلهم، وهم بنو إسرائيل، وننجيهم من باسه، ونريهم في أنفسهم وفي أعدائهم فوق ما يحبون، وأكثر مما يؤملون بخلاصهم من فرعون، وإغراقه.
وقوله: ﴿وَنُرِيدُ﴾ معطوف على جملة قوله: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا﴾ وإن كانت الجملة المعطوف عليها اسمية؛ لأن بينهما تناسبًا من حيث إنَّ كل واحدة منهما وقع بيانًا وتفسيرًا لنبأ موسى وفرعون، ويجوز أن تكون حالًا من فاعل يستضعف، بتقدير مبتدأ؛ أي: ونحن نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض، والأول أولى، والتعبير (١) في قوله: ﴿وَنُرِيدُ﴾ بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية، واستحضار صورتها.
﴿وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾ أي: قادة في الخير، ودعاة إليه، وولاة على الناس، وملوكًا فيهم، بعد أن كانوا أتباعًا مسخرين لآخرين، وفي "كشف الإسرار": أي أنبياء، وكان بين موسى وعيسى عليهما السلام ألف نبي من بني إسرائيل.
﴿وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ لملك فرعون ومساكن القبط، وأملاكهم، فيكون ملك فرعون فيهم، ويسكنون في مساكنه، ومساكن قومه، وينتفعون بأملاكه وأملاكهم، وأخر الوراثة عن الإمامة مع تقدمها عليها زمانًا، لانحطاط رتبتها عنها.
٦ - ونمكن لهم في الأرض؛ أي: ونسلطهم على أرض مصر والشام، يتصرفون فيهما كيف ما شاؤوا، بتأييدهم بكليم الله، ثم بالأنبياء من بعده، وأصل (٢)
(٢) روح البيان.
﴿وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ﴾ رؤية بصرية، وقرأ الجمهور (٢): ﴿ونُري﴾ بالنون المضمومة وكسر الراء مضارع أرى الرباعي، وبنصب ما بعده على أن الفاعل هو الله سبحانه، وقرأ عبد الله وحمزة والكسائي والأعمش وخلف: ﴿ويرى﴾ بفتح الياء والراء مضارع رأى الثلاثي، والفاعل فرعون، وما بعده، والقراءة الأولى ألصق بالسياق؛ لأن قبلها نريد، ونجعل ونمكن بالنون، وأجاز الفراء: ﴿ويري﴾ فرعون بضم الياء التحتية وكسر الراء؛ أي: ويُري الله فرعون.
﴿وَهَامَانَ﴾ وزير فرعون وأحد رجاله، وذُكر لنباهته في قومه، ومحله من الكفر، ألا ترى إلى قوله: ﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا﴾، ﴿وَجُنُودَهُمَا﴾ أي: عساكرهما، وإضافة الجنود إليهما إما للتغليب، أو أنه كان لهامان جنود مخصوصة به، وإن كان وزيرًا، أو لأن جند السلطان جند لوزيره اهـ "شهاب".
﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من أولئك المستضعفين ﴿مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾؛ أي: ما كان فرعون وهامان وجنودهما يخافونه من المستضعفين، ويجتهدون في دفعه، من ذهاب ملكهم، وهلاكهم على يد مولود من بني إسرائيل، والموصول هو المفعول الثاني على القراءة الأولى، والمفعول الأول على القراءة الثانية، والمعنى: أن الله يريهم، أو يرونهم الذي كانوا يحذرون منه ويجتهدون في دفعه، من ذهاب ملكهم، وهلاكهم على يد المولود من بني إسرائيل المستضعفين.
والخلاصة (٣): أي ونري أولئك الأقوياء والأعداء الألداء على أيدي بني
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
وخلاصة ما سلف:
١ - أن فرعون علا في الأرض.
٢ - استضعف حزبًا من أحزاب مصر.
٣ - قتل الأبناء.
٤ - استحيا النساء.
٥ - أنه كان من المفسدين.
وقد قابل سبحانه هذه الخمسة بخمسة سثلها تكرمة لبني إسرائيل:
١ - أنه مَنَّ عليهم بإنقاذهم من بطش فرعون وجبروته.
٢ - أنه جعلهم أئمة مقدَّمين في الدارين.
٣ - أنه ورَّثهم أرض الشام.
٤ - أنه مكَّن لهم في أرض الشام ومصر.
٥ - أنه أرى فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يحذرون، من ذهاب ملكهم على أيديهم.
هذان عظمة وضعف يعقب أحدهما الآخر، كما يعقب الليل النهار، سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلًا: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ انظر
٧ - ولما ذكر الله سبحانه أنه سين على بني إسرائيل الذين استُضعفوا في الأرض.. أردف ذلك تفصيل بعض نعمه عليهم فقال: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى﴾ أي: ألهمنا أم موسى - يوحانذ بنت لاوي بن يعقوب - وفي "القرطبي": قال الثعلبي: كان اسم أم موسى لوخا بنت هاند بن لاوي بن يعقوب اهـ.
وقذفنا في قلبها ﴿أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾؛ أي: أرضعيه ما أمكتك إخفاؤه عن عدوه وعدوك، وذلك أن أم موسى حبلت بموسى، فلم يظهر بها أثر الحبل من نشوء البطن، وتغير اللون، وظهور اللبن، وذلك شيء ستره الله لما أراد أن يمن به على بني إسرائيل، حتى ولدت موسى ليلة لا رقيب عليها ولا قابلة، ولم يطَّلع عليها أحد من القوابل الموكَّلة من جهة فرعون بحبالى بني إسرائيل، ولا من غيرهن إلا أخته مريم، فأوحى إليها أن أرضعيه، قيل: أرضعته ثمانية أشهر، وقيل: أربعة أشهر، وقيل ثلاثة، وكانت ترضعه وهو لا يبكي ولا يتحرك في حجرها.
وليس الوحي الذي أوحى الله إليها هو الوحي الذي يوحى إلى الرسل، بل إيحاء الله تعالى إليها إلهام، وقذف في القلب، قاله ابن عباس وقتادة، أو منام قاله قوم، أو إرسال ملك قاله قطرب وقوم، وهذا هو الظاهر لقوله تعالى: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾، وأجمعوا على أنها لم تكن نبية، فإن كان الوحي بإرسال ملك كما هو الظاهر، فهو كإرساله للأقرع والأبرص والأعمى، كما في الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما.
وقد سلَّمت على عمران بن حصين الملائكة، كما في الحديث الثابت في الصحيح، فلم يكن بذلك نبيًا، والظاهر أن هذا الإيحاء هو بعد الولادة، فيكون
﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ﴾؛ أي: على موسى من جواسيس فرعون ونقبائه، الذين يقتلون أولاد بني إسرائيل اتباعًا لأمره، أو من الجيران أن ينمُّوا عليه إذا سمعوا صوته ﴿فَأَلْقِيهِ﴾؛ أي: فألقي موسى ﴿فِي الْيَمِّ﴾ أي: في بحر النيل؛ أي: فاطرحيه في التابوت، والتابوت في البحر، وقد تقدم بيان الكيفية التي ألقته في اليم عليها في سورة طه، ﴿وَلَا تَخَافِي﴾؛ أي: من غرقه وضياعه، ومن التقاطه فيُقتل ﴿وَلَا تَحْزَنِي﴾ لفراقه إياك.
رُوي: أن دارها كانت على الشاطىء، فاتخذت تابوتًا مطليًا بالقار، ومهَّدت فيه مهدًا، وألقته في النيل، وليس هناك من دليل على الزمن الذي قضته بين الولادة والإلقاء في اليم.
ثم وعدها سبحانه بما يسلِّيها، ويطمئن قلبها، ويملؤه غبطة وسرورًا، وهو رده إليها، وجعله رسولًا نبيًا، فقال: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ﴾؛ أي: رادو ولدك ﴿إِلَيْكِ﴾ عن قريب، لتكوني أنت المرضعة له، ﴿وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ إلى فرعون وقومه؛ أي: وباعثوه رسولًا إلى هذا الطاغية، وجاعلو هلاكه ونجاة بني إسرائيل مما هم فيه من البلاء على يديه.
وهذه الآية هي من معجزات الإيجاز، لأنها اشتملت على أمرين: ﴿أَرْضِعِيهِ﴾ ﴿أَلْقِيهِ﴾، ونهيين ﴿وَلَا تَخَافِي﴾ ﴿وَلَا تَحْزَنِي﴾ وخبرين، ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾ ﴿وَجَاعِلُوهُ﴾ وبشارتين في ضمن الخبرين، وهما الرد والجعل من المرسلين، حُكي عن الأصمعي قال: سمعت أعرابية تُنشد:
أَسْتَغْفِرُ اللهَ لِذَنْبِي كُلِّهِ | قَبَّلْتُ إِنْسَانًا بِغَيْرِ حِلِّهِ |
مِثْلُ الْغَزَالِ نَاعِمًا فِيْ دَلِّهِ | فَانْتَصَفَ اللَّيْلُ وَلَمْ أُصلِّهِ |
فإن قلت: ما فائدة وحي الله تعالى إلى أم موسى بإرضاعه مع أنها ترضعه طبعًا وإن لم تؤمر بذلك؟
قلت: أمرها بإرضاعه ليألف لبنها فلا يقبل ثدي غيرها بعد وقوعه في يد فرعون، فلو لم يأمرها به ربما كانت تسترضع له مرضعة فيفوت المقصود.
فإن قلت: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَخَافِي﴾ هو معطوف على جواب الشرط، فيلزم عليه التناقض بين إثبات الخوف في قوله: ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ﴾ وبين نفيه في قوله: ﴿وَلَا تَخَافِي﴾ لأن التركيب يكون حينئذٍ هكذا: فإذا خفت عليه فلا تخافي، وذلك تناقض؟
قلت: لا يلزم التناقض؛ لأن معناه إذا خفت عليه القتل فألقيه في اليم، ولا تخافي عليه الغرق.
فإن قلت: ما الفرق بين الخوف والحزن حتى عطف أحدهما على الآخر في الآية؟
قلت: الخوف كم يصيب الإنسان لأمر يتوقعه في المستقبل، والحزن غم يصيبه لأمر وقع ومضى.
فصل في ذكرِ القصة في ذلك
٨ - قال ابن عباس (١) - رضي الله عنهما -: إن أم موسى لما تقاربت ولادتها بأن أحست بالطلق أرسلت إلى قابلة، وكانت مصافية لأم موسى، وقالت لها:
قال الزجاج (١): كان فرعون من أهل فارس من اصطخر اهـ؛ أي: فأخذ موسى أهل فرعون - يعني جواريه - من بين الماء والشجر يوم الاثنين صبيحة الليل الذي ألقي فيه التابوت، أخذ اللقطة التي يُعنى بها، وتصان عن الضياع.
روي أن الموج أقبل به يرفعه مرة، ويخفضه أخرى، حتى أدخله بين الأشجار عند بيت فرعون، فخرج جواري امرأته إلى الشط فوجدن التابوت فأدخلنه إليها، وظنن أن فيه مالًا، فلما فتحنه وجدن فيه غلامًا، فوقعت عليها رحمته فأحبته حبًا شديدًا، ولما أخبرت فرعون به أراد أن يذبحه، إذ قال: إني أخات أن يكون هذا من بني إسرائيل، وأن يكون هلاكنا على يديه، فلم تزل تكلمه حتى تركه لها.
ثم ذكر سبحانه أن العاقبة كانت ضد ما قصدت، فقال: ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ﴾
وهذا (٣): مثل ما تقول لآخر تؤنبه على فعل كان قد فعله، وهو يظن نفسه محسنًا فيه، وأدى الأمر إلى مساءة وضر قد لحقه: فعلت هذا لضر نفسك، وهو قد كان حين الفعل راجيًا نفعه، غير أن العاقبة جاءت بخلاف ما كان يرجو، وكقولهم: اشترى فلان بضاعة كذا ليخسر، مع أن الحامل له على الشراء الاسترباح، وهذا جار على سنن العرب في كلامهم، فيذكرون الحال بالمآل، قال شاعرهم:
وَللْمَنَايَا تُرَبِّيْ كُلُّ مُرْضِعَةٍ | وَدُوْرُنَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ نَبْنِيْهَا |
فَلِلْمَوْتِ تَغْذُوْ الْوَالِدَاتُ سِخَالَهَا | كَمَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ تُبْنَى المَسَاكنُ |
لِدُوْا لِلْمَوْتِ وَابْنُوْا لِلْخَرَابِ | فَكُلُّكُمُ يَصِيْرُ إِلَى التُّرَابِ |
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
قلت: ويحتمل كون الكلام هنا على حذف، بدليل ما سيأتي، فتكون اللام على معناها الأصلي، أعني لام كي، فلا مجاز، والتقدير: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم ولدًا وقرة عين، فصار لهم عدوًا وحزنًا، ومعنى عداوته إياهم: مخالفته لهم في دينهم، وحملهم على الحق، وحزنهم بزوال ملكهم على يديه، بالغرق بعد أن يظهر فيهم الآيات، ولم يستجيبوا لدعوته، فحلت بهم القوارع، كما هي سنة الله تعالى في خلقه المكذبين للرسل.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَحَزَنًا﴾ بفتح الحاء والزاي، وهي لغة قريش، وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وابن سعدان: بضم الحاء وإسكان الزاي، واختار القراءة الأولى أبو عبيدة وأبو حاتم، وهما لغتان، كالعدم والعُدْم، والرشد والرُشْدِ، والسَّقَم والسُّقْم.
ثم بيَّن أن القتل الذي يفعله فرعون وهامان وجنودهما لبني إسرائيل حمق وطيش، فقال: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ تعليل لما قبله، أو اعتراض لقصد التأكيد لاعتراضه بين المعطوف الذي هو: ﴿وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ﴾ وبين المعطوف عليه الذي هو: ﴿فَالْتَقَطَهُ﴾؛ أي: كانوا (٣) خاطئين فيما كانوا عليه من الكفر والظلم، فعاقبهم الله تعالى بأن رُبّي عدوهم، ومن هو سبب هلاكهم على يديه، أو كانوا خاطئين في كل ما يأتون، وما يذرون، فليس ببدع
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراح.
وأُضيف الجند هنا وفيما قبل إلى فرعون وهامان (١)، وإن كان هامان لا جنود له؛ لأن أمر الجنود لا يستقيم إلا بالملك والوزير، إذ بالوزير تحصل الأموال، وبالملك وقهره يتوصل إلى تحصيلها، ولا يكون قوام الجند إلا بالأموال.
وقرىء ﴿خاطيين﴾ بغير همز، فاحتمل أن يكون أصله الهمز وحذفت، وهو الظاهر، وقيل: من خطأ يخطو؛ أي: خاطين الصواب.
٩ - ولما التقطوه همُّوا بقتله، وخافوا أن يكون المولود الذي يحذرون زوال ملكهم على يديه، فألقى الله محبته في قلب آسية امرأة فرعون ﴿وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ﴾ حين رآه فرعون وهم بقتله، وهي آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد، الذي كان فرعون مصر في زمن يوسف الصديق عليه السلام، وقيل: كانت من بني إسرائيل من سبط يوسف عليه السلام.
أي: قالت لفرعون حين أخرجته من التابوت، وهمَّ فرعون بقتله لقول الكهنة، كما سيأتي: ﴿قُرَّتُ عَيْنٍ﴾؛ أي: لذة عين، ومسرة قلب؛ أي: هذا الغلام قرة عين ﴿لِي وَلَكَ﴾ يا فرعون ﴿لَا تَقْتُلُوهُ﴾؛ أي: لا تقتلوا يا فرعون هذا الغلام، خاطبته بلفظ الجمع تعظيمًا له، ليساعدها فيما تريده.
قال ابن عباس: لما قالت آسية ذلك، قال فرعون: يكون لك، وأما أنا فلا حاجة لي فيه، وروي أنه لو قال: لي، كما هو لك لهداه الله كما هداها.
قال ابن إسحاق: إن الله تعالى ألقى محبته عليه السلام في قلبها، لأنه كان في وجهه ملاحة، فكل من رآه أحبه، ولأنها حين فتحت التابوت رأت النور، ولأنها لما فتحته رأته يمتص أصبعه، ولأن ابنة فرعون لما لطخت برصها بريقه زال.
وقوله: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ...﴾ الآية، اعتراض وقع بين المعطوفين لتأكيد خطاهم، كما مر آنفًا، وما أحسن نظم هذا الكلام عند أصحاب المعاني والبيان، وقيل (٢): هذا ابتداء كلام من الله تعالى؛ أي: وهم لا يشعرون أن هلاكهم على يديه وبسببه، وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك ومقاتل، وقال ابن عباس: أي: وهم لا يشعرون إلى ماذا يصير أمر موسى عليه السلام. وقال آخرون: هذا من تمام كلام امرأة فرعون، أي: بنو إسرائيل وأهل مصر لا يشعرون أنا التقطناه، وأنه ليس منا، وهذا بعيد، كما قاله الشوكاني.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: لو أن عدو الله قال في موسى كما قالت آسية: عسى أن ينفعنا لنفعه الله، ولكنه أبى للشقاء الذي كتبه الله عليه، روي أنه قالت الغواة من قوم فرعون: إن نظن إلا أنَّ هذا هو الذي يحذر منه، رُمي في البحر خوفًا منك فاقتله، فهمّ فرعون بقتله، فقالت آسية: إنه ليس من أولاد بني إسرائيل، فقيل لها: وما يدريك؟ فقالت: إن نساء بني إسرائيل يشفقن على أولادهن، ويكتمنهم مخافة أن تقتلهم، فكيف يُظنُّ بالوالدة أنها تُلقي الولد بيدها في البحر؛ أو قالت: إن هذا كبير، ومولود قبل هذه المدة التي أُخبرت لك، فاستوهبته لما رأت عليه من دلائل النجاة، فتركه، وسمَّته آسية موسى؛ لأن تابوته وُجد بين الماء والشجر، والماء في لغتهم: مو، والشجر: شا.
(٢) المراح.
أي: صار فؤاد أم موسى صفرًا من العقل، وخاليًا من اللهم لما غشيها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوع موسى في يد فرعون، دل عليه الربط الآتي، فإنه تعالى قال في وقعة بدر: ﴿وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ﴾ إشارة إلى نحو قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فإنه لم تكن أفئدتهم هواء؛ أي: خالية فارغة عن العقل والفهم لفرط الحيرة.
وقيل معناه (٢): ناسيًا للوحي الذي أوحى الله - عز وجل - إليها حين أمرها أن تُلقيه في اليم، ولا تخاف ولا تحزن، والعهد الذي عهد إليها أن يرده إليها، ويجعله من المرسلين، فجاءها الشيطان، وقال: كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجره وثوابه، وتولَّيتَ أنت قتله، وألقيته في البحر وأغرقته، ولما أتاها الخبر بأن فرعون أصابه في النيل قالت: إنه قد وقع في يد عدوه الذي فررت منه، فأنساها عظم البلاء ما كان من عهد الله إليها، والمعنى الأول أولى، وقال أبو عبيدة: فارغًا من الحزن إذ لم يُغرق، وهذا فيه بُعدٌ، وتُبْعِدُهُ القراءات الشواذُّ التي في اللفظة.
(٢) الخازن.
وقرأ ابن عباس: ﴿قرعًا﴾ بالقاف المفتوحة والراء المهملة المكسورة والعين المهملة، من قرع رأسه إذا انحسر شعره، كأنه خلا من كلا شيء إلا من ذكر موسى، وقيل: ﴿قرعًا﴾ من القارعة، وهي الهم العظيم، وقرأ بعض الصحابة ﴿فزغًا﴾ بالفاء المكسورة والزاي الساكنة والغين المنقوطة، ومعناه ذاهبًا هدرًا تالفًا من الهم والحزن، وقرأ الخليل بن أحمد ﴿فُرُغًا﴾ بضم الفاء والراء.
﴿إِنْ﴾؛ أي: إنها، فإن شأنية ﴿كَادَتْ﴾؛ أي: قاربت (٢) من ضعف البشرية وفرط الاضطراب ﴿لَتُبْدِي بِهِ﴾؛ أي: لتظهر بموسى، وأنه ابنُها، وتُفشي سرها، وأنها ألقته في النيل، قال في "كشف الأسرار": الباء زائدة؛ أي: تُبديه، أو المفعول مقدر؛ أي: تُبدي القول به؛ أي: بسبب موسى.
﴿لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا﴾ أي: شددنا عليه بالصبر والثبات بتذكير ما سبق من الوعد، وهو رده إليها، وجعله من المرسلين، ﴿لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: من المصدقين بما وعدها الله بقوله: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾ ولم يقل من المؤمنات تغليبًا للذكور، وفيه إشارة إلى أن الإيمان من مواهب الحق، إذ المبني على الموهبة وهو الوحي أولًا، ثم الربط بالتذكير ثانيًا موهبة، وجواب لولا محذوف، تقديره: لولا أن ربطنا على قلبها لأبدت به، واللام في قوله: ﴿لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ متعلق بربطنا، وهذا شبيه بقوله: ﴿وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾.
والمعنى: أي أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها شُعاعًا لما دهمها من الجزع والحزن، وتوقع الهلاك الذي لا مندوحة منه جريًا على عادته مع أنداده ولداته، ولولا أن عصمناها، وثبتنا قلبها لأعلنت أمرها، وأظهرت أنه
(٢) روح البيان.
١١ - ثم أخبر عن فعلها في تعرف خبره، بعد أن أخبر عن كتمها إياه بقوله: ﴿وَقَالَتْ﴾ أم موسى ﴿لِأُخْتِهِ﴾؛ أي: لأخت موسى عليه السلام الشقيقة؛ أي: وقالت لابنتها، وكانت كبيرة تعي ما يُقال لها، ولم يقُل لبنتها للتصريح بمدار المحبة، وهو الأخوة، إذ به يحصل امتثال الأمر، واسم أخته مريم بنت عمران، وافق اسم مريم أم عيسى، واسم زوجها غالب بن يوشا.
وقال الضحاك: اسمها كلثمة، وقال السهيلي: اسمها كلثوم، وهي شقيقته وأمهما يوحانذ، وأبوهما عمران، وهو غير عمران أبي مريم أم عيسى؛ لأن بين عمرانين ألف سنة وثمان مئة سنة اهـ. شيخنا.
قال بعضهم: والأصح أن اسمها كلثوم، لا مريم، لما روى الزبير بن بكار: أن رسول الله - ﷺ - دخل على خديجة رضي الله عنها، وهي مريضة، فقال لها: "يا خديجة، أشعرت أن زوجتي معك في الجنة مريم بنت عمران، وكلثوم أخت موسى، وهي التي علَّمت ابن عمها قارون الكيمياء، وآسية امرأة فرعون" فقالت: آلله أخبرك بهذا يا رسول الله؟ فقال: "نعم"، فقالت: بالرفاء والبنين، وأطعم رسول الله - ﷺ - خديجة من عنب الجنة، وقولها: بالرفاء والبنين أعرست؛ أي: اتخذت العروس حال كونك متلبسًا بالالتئام والاتفاق؛ أي: بالملاءمة والموافقة بينكما، وهو دعاء يدعى به في الجاهلية لمن تزوج، ولعل هذا قبل ورود النهي عن ذلك، كذا في إنسان العيون.
وفيه أن (١) هؤلاء النسوة حماهن الله تعالى عن أن يطأهن أحد، فقد ذُكر أن آسية لما ذُكرت لفرعون أحب أن يتزوجها، فتزوجها على كره منها ومن أبيها، مع بذله لها الأموال الكثيرة، فلما زُفَّت له وهمَّ بها أخذه الله تعالى عنها، وكان ذلك حاله معها، وكان قد رضي عنها بالنظر إليها، وأما مريم، فقيل: إنها تزوجت
﴿قُصِّيهِ﴾؛ أي: اتَّبعي أثر موسى وتتبعي خبره، وفتشي نبأه، وانظري أين وقع حتى تعرفي خبره. وقوله: ﴿فَبَصُرَتْ بِهِ﴾ معطوف على محذوف، تقديره: فاتَّبعته أخته، فبصرت به؛ أي: أبصرته.
﴿عَنْ جُنُبٍ﴾ أي: عن بُعد، ولا توهم أنها تراه ﴿وَهُمْ﴾؛ أي: والحال أن آل فرعون ﴿لَا يَشْعُرُونَ﴾؛ أي: لا يعلمون أنها تقصه، وتتعرف حاله، أو أنها أخته.
والمعنى: أي قالت أم موسى لأخته مريم: تتبعي أثره، وتسمعي خبره، وانظري أين وقع، وإلى من صار، فتتبعته فأبصرته من مكان بعيد اختفاء من الناس، والحال أنهم لا يشعرون أنها تقصه، وتتعرف حاله، وأنها أخته، وتطلبه وتبصره.
وقرأ الجمهور (١): ﴿عَنْ جُنُبٍ﴾ بضمتين، وقرأ قتادة والحسن والأعرج وزيد بن علي: ﴿جنب﴾ بفتح وسكون، وعن قتادة بفتحهما أيضًا، وعن الحسن بضم الجيم وإسكان النون، وقرأ النعمان بن سالم عن جانب، والجُنُب والجانب والجنابة والجناد بمعنى واحد، وقال قتادة: معنى عن جنب أنها تنظر إليه كأنها لا تريده، وقرأ الجمهور: ﴿فَبَصُرَتْ﴾ بفتح الباء وضم الصاد، وقرأ قتادة: ﴿فبصَرت﴾ بفتح الصاد، وعيسى: بكسرها.
١٢ - ثم شرع سبحانه يذكر أسباب رده إليها فقال: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ﴾ التحريم هنا بمعنى المنع، كما في قوله تعالى: ﴿فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ﴾ لأنه لا معنى للتحريم على صبي غير مكلف؛ أي (٢): منعنا موسى أن يرضع من
(٢) روح البيان.
أي (١): منعنا موسى أن يرتضع من المرضعات التي أحضرها فرعون من قبل مجيء أمه، قال الضحاك: كانت أمه قد أرضعته ثلاثة أشهر حتى عرف ريحها، وروي (٢) أن موسى مكث ثمان ليال لا يقبل ثديًا وهو يصيح، فقالوا لأخت موسى بعد نظرها له، وقربها منه: هل عندك مرضعة تدلينا عليها، لعله يقبل ثديها.
﴿فَقَالَتْ﴾؛ أي: أخت موسى لآل فرعون، عند عدم قبوله ثدي أحد من المرضعات ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ﴾ أي: يربونه ﴿لَكُمْ﴾ ويضمنون رضاعه، ويقومون بجميع مصالحه ﴿وَهُمْ﴾؛ أي: والحال أن أهل ذلك البيت ﴿لَهُ﴾ أي: لهذا الغلام ﴿نَاصِحُونَ﴾؛ أي: حافظون يبذلون النصح في أمره، ولا يقصرون في إرضاعه وتربيته.
قال السدي: لما قالت مريم ذلك أخذوها، وقالوا: إنك قد عرفت هذا الغلام، فدلينا على أهله، فقالت: ما أعرفه، روي أنهم قالوا لها: من يكفل؟ قالت: أمي، قالوا: ألأمك لبن؟ قالت: نعم لبن هارون، وكان هارون وُلد في سنة لا يقتل فيها صبي، فقالوا صدقت.
روي (٣): أن هامان لما سمعها قال: إنها لتعرفه وأهله، خذوها حتى تخبر من له؟ فقالت: إنما أردت وهم للملك ناصحون، تعني أرجعت الضمير إلى الملك، لا إلى موسى، تخلصًا من يده، فقال هامان: دعوها لقد صدقت، فأمرها فرعون بأن تأتي بمن يكفله، فأتت بأمه، وموسى على يد فرعون يبكي،
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
١٣ - وقد جاء في الأثر: "مثل الذي يعمل الخير ويحتسب كمثل أم ترضع ولدها وتأخذ أجرها"، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله: ﴿فَرَدَدْنَاهُ﴾؛ أي: فرددنا موسى، وصرفناه ﴿إِلَى أُمِّهِ﴾ ووالدته ﴿كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا﴾ وتطيب نفسها بوصول ولدها إليها، وتربيتها له في بيتها، ﴿وَلَا تَحْزَنَ﴾ على موسى بفراقه ﴿وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾؛ أي: أن جميع ما وعده من رده إليها، وجعله من المرسلين ﴿حَقٌّ﴾ ثابت لا خلف فيه بمشاهدة بعضه، وقياس بعضه عليه.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ﴾؛ أي: أكثر آل فرعون ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ بذلك، بل كانوا في غفلة عن القدر وسر القضاء، أو أكثر الناس لا يعلمون أن المقصود الأصلي من رده إليها علمها بأن وعد الله حق، لا خُلف فيه بمشاهدة بعضه، وقياس بعضه عليه، فهذا هو الغرض المديني، وما سواه من قرة العين، وذهاب الحزن تبع، فمكث موسى عند أمه إلى أن فطمته، وأمر فرعون بإجراء أجرتها لكل يوم دينار، فأتت به فرعون، واستمر عنده، يأكل من مأكوله، ويشرب من مائه، ويلبس من ملبوسه إلى أن كمل.
١٤ - ﴿وَلَمَّا بَلَغَ﴾ موسى ﴿أَشُدَّهُ﴾؛ أي: كمال قوته الجسمانية، وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة، وهو (١) مفرد على بناء الجمع، كما سبق في سورة
والمراد بالهجرة خروجه إلى مدين، وبالمراجعة رجوعه منها اهـ "شهاب"، وكان عمره عند رجوعه من مدين أربعين سنة؛ لأنه أقام في مصر ثلاثين سنة ثم ذهب إلى مدين، وأقام فيها عشر سنين، ووقعة قتل القبطي كانت قبل ذهابه إلى مدين فهو السبب فيه.
﴿وَكَذَلِكَ﴾ أي: كما جزينا موسى وأمه ﴿نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ على إحسانهم؛ أي: وكما جزينا موسى على طاعته إيانا، وصبره على أمرنا بالحكم والعلم، وجزينا أمه على استسلامها أمرنا، حين ألقت ولدها في البحر تصديقًا لوعدنا؛ أي: كما جزيناها برد ولدها إليها، وجعله من المرسلين، نجزي كل من أحسن من عبادنا، وأطاع أمرنا، وانتهى عما نهيناه عنه، على إحسانه أيًا كان، والمراد العموم، وفي الآية تنبيه على أنهما كانا محسنين في عملهما، متَّقين في عنفوان عمرهما، فمن أدخل نفسه في زمرة أهل الإحسان جازاه الله بأحسن الجزاء.
حكي (٢): أن امرأة كانت تتعشى، فسألها سائل، فقامت ووضعت في فمه لقمة، ثم وضعت ولدها في موضع، فاختلسه الذئب، فقالت: يا رب ولدي، فأخذ آخذ عنق الذئب، واستخرج الولد من فيه بغير أذًى، وقال لها: هذه اللقمة بتلك اللقمة التي وضعتها في فم السائل.
١٥ - وبعد أن أخبر بتهيئته للنبوة، ذكر ما كان السبب في هجرته إلى مدين،
(٢) روح البيان.
قيل: إن موسى عليه السلام لما بلغ أشده، وآتاه العلم في دينه ودين آبائه علم أن فرعون وقومه على الباطل، فتكلم بالحق، وعاب دينهم، واشتهر ذلك منه، حتى آل الأمر إلى أن خافوه وخافهم، وكان له من بني إسرائيل شيعة يقتدون به، ويسمعون منه، وبلغ في الخوف بحيث ما كان يدخل مدينة فرعون إلا خائفًا فدخلها يومًا ﴿عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا﴾؛ أي: حال كونه مستخفيًا، في وقت غفلة كائنة من أهل المدينة؛ أي: وقت غفلتهم من دخوله؛ أي: دخلها في وقت لا يُعتاد دخولها.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: دخلها في الظهيرة عند المقيل، وقد خلت الطرق؛ أي: دخلها وقت كونهم قائلين غافلين، مشغولين بنوم القيلولة، ﴿فَوَجَدَ فِيهَا﴾؛ أي: في المدينة بعد دخولها ﴿رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ﴾ ويتضاربان، ويلازمان مقدمات القتل من الضرب والقتل.
﴿هَذَا﴾ أي: أحدهما ﴿مِنْ شِيعَتِهِ﴾؛ أي: من شايعه وتابعه في دينه، وهم بنو إسرائيل، قيل: هو السامري ﴿وَهَذَا﴾ أي: الآخر ﴿مِنْ عَدُوِّه﴾؛ أي: من المعادين له على دينه، وهم قوم فرعون.
﴿فَاسْتَغَاثَهُ﴾؛ أي: طلب من موسى أن ينصره ويعينه ﴿الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ﴾؛
(٢) البحر المحيط.
هَذَا ابْنُ عَمِّي فِيْ دِمَشْقَ خَلِيْفَةٌ | لَوْ شِئْتُ سَاقَكُمُ إِلَيَّ قَطِيْنَا |
وقرأ أبو طالب القارىء (١): ﴿على حين﴾ بنصب نون حين، ووجهه أنه أجرى المصدر مجرى الفعل، كأنه قال: على حين غفل أهلها، فبناه كما بناه حين أضيف إلى الجملة المصدرة بفعل ماض كقوله:
عَلَى حِيْنَ عَاتَبْتُ الْمَشِيْبَ عَلَى الصِّبَا
وهذا توجيه فيه شذوذ
وقرأ ثعيم بن ميسرة ﴿يقتلان﴾ بإدغام التاء في التاء، ونقل فتحها إلى القاف، وقرأ الجمهور: ﴿فاستغاثه﴾؛ أي: طلب غوثه، ونصره على القبطي، وقرأ سيبويه وابن مقسم والزعفراني بالعين المهملة والنون بدل الثاء؛ أي: طلب الإعانة على القبطي، قال أبو القاسم يوسف بن علي بن جبارة: والاختيار قراءة ابن مقسم؛ لأن الإعانة أولى في هذا الباب، وقال ابن عطية: ذكرها الأخفش، وهي تصحيف لا قراءة. انتهى.
وليست تصحيفًا فقد نقلها ابن خالويه عن سيبويه، وابن جبارة عن ابن
وقرأ عبد الله (٢): ﴿فلكزه﴾ باللام بدل الواو، وعنه ﴿فنكزه﴾ بالنون، والظاهر أن فاعل ﴿فَقَضَى عَلَيْهِ﴾ ضمير عائد على موسى، وقيل: يعود على الله؛ أي: فقضى الله عليه بالموت، ويحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من وكزه؛ أي: فقضى الوكز عليه، وكان موسى لم يتعمد قتله بل قصد دفعه، فندم على قتله.
﴿قَالَ هَذَا﴾ القتل ﴿مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ وإنما أضاف العمل إلى الشيطان، لأنه كان بإغوائه ووسوسته، وإنما قال بهذا القول مع أن المقتول كافر حقيق بالقتل؛ لأنه لم يكن حنيئذٍ مأمورًا بقتل الكفار، أو لأنه كان مأمونًا عندهم فلم يكن له اغتيالهم، ولا يقدح ذلك في عصمته، لكونه خطأ، وإنما عده من عمل الشيطان، وسماه ظلمًا، واستغفر منه جريًا على سنن المقربين في استعظام ما فرط منهم، ولو كان من محقرات الصغائر، أو كان هذا قَبْلَ النبوة.
وقيل (٣): إن هذا إشارة إلى عمل المقتول لا إلى عمل نفسه، والمعنى إن عمل هذا المقتول من عمل الشيطان، والمراد بيان كونه مخالفًا لأمر الله تعالى، مستحقًا للقتل، وقيل: هذا إشارة إلى المقتول، يعني أنه من جُنْدِ الشيطان وحزبه، ثم وصف الشيطان بقوله: ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن الشيطان ﴿عَدُوٌّ﴾ لابن آدم ﴿مُضِلٌّ﴾ له عن طريق الحق والاعتدال ﴿مُبِينٌ﴾؛ أي: ظاهر العداوة والإضلال.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الخازن.
ثم لم يزل موسى عليه السلام يعدد ذلك على نفسه، مع علمه بأنه قد غُفر له، حتى إنه يوم القيامة يقول عند طلب الناس الشفاعة منه: إني قتلت نفسًا لم أؤمر بقتلها، كما ثبت ذلك في حديث الشفاعة الصحيح، وإنما عده ذنبًا وقال: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي﴾ مع كون المقتول كافرًا من اْجل أنه لا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر بالقتل.
ثم ذكر أنه أجاب دعاءه وغفر له، فقال: ﴿فَغَفَرَ لَهُ﴾ ربه؛ أي: فعفا عن ذنبه، ولم يعاقبه عليه. ثم ذكر ما هو كالعلة لما قبله. فقال: ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿هُوَ الْغَفُورُ﴾ (٣) بإزالة الزلل ﴿الرَّحِيمُ﴾ بإزالة الخجل؛ أي: إنه تعالى هو الستار لذنوب من أناب إليه، المتفضل عليه بالعفو عنها، الرحيم له بأن لا يعاقبه بعد أن أخلص توبته، ورجع عن حوبته.
وفي "الشوكاني": ووجه استغفاره (٤): أنه لم يكن لنبي أن يقتل حتى يؤمر، وقيل: إنه طلب المغفرة من تركه للأولى، كما هو سنة المرسلين، أو أراد: إني ظلمت نفسي بقتل هذا الكافر؛ لأن فرعون لو عرف ذلك لقتلني به، والمعنى (٥) عليه: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ بقتل القبطي من غير أمر، فإن فرعون إذا عرف ذلك قتلني به، ﴿فَاغْفِرْ لِي﴾ أي: فاستره علي، ولا توصل خبره إلى فرعون،
(٢) الخازن.
(٣) النسفي.
(٤) الشوكاني.
(٥) المراح.
وقيل: إن هذا كان قبل النبوة، وقيل: كان ذلك قبل بلوغه سن التكليف، وإنه كان إذ ذاك في اثنتي عشرة سنة، وكل هذه التأويلات البعيدة محافظة على ما تقرر من عصمة الأنبياء، ولا شك أنهم معصومون من الكبائر، والقتل الواقع منه لم يكن عن عمد فليس بكبيرة؛ لأن الوكزة في الغالب لا تقتل.
وفي "فتح الرحمن" (١): إن قلت: كيف جعل موسى قتله القبطي الكافر من عمل الشيطان، وسماه ظلمًا لنفسه، واستغفر منه؟
قلت: أما جعله ذلك من عمل الشيطان، فلكونه كان الأولى له تأخير قتله إلى زمن آخر، فلما عجله ترك الأولى المندوب إليه، فجعله من عمل الشيطان، ولم يكن قصد موسى قتل القبطي، إنما كان يريد دفع أذاه عن الإسرائيلي بدليل أنه لم يضربه بشيء يقتل، وإنما ضربه بجمع يده، بلكمة كانت هي القاضية، فلذلك ندم على فعله، واستغفر ربه؛ لأن في قتل القبطي فتنة، والشيطان تفرحه الفتنة، فلذلك نسبه إلى الشيطان.
وأما تسميته ظلمًا فمن حيث إنه حرم نفسه الثواب بترك المندوب، أو من حيث أنه قال ذلك على سبيل الانقطاع إلى الله، والاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه، وإن لم يكن ثمة ذنب، وأما استغفاره من ذلك فمعناه اغفر لي ترك ذلك المندوب انتهى.
١٧ - ثم ذكر أنه شكر ربه على هذه النعمة التي أنعم بها عليه، فقال: ﴿قَالَ﴾ موسى يا ﴿رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾ إما قسم محذوف الجواب، و ﴿ما﴾ إما مصدرية أو موصولة؛ أي: أقسم عليك بإنعامك علي بالمغفرة لأتوبن ﴿فَلَنْ أَكُونَ﴾ بعد
وإما استعطاف؛ أي: بحق إحسانك علي اعصمني، فلن أكون معينًا لمن تؤدي معاونته إلى الجرم. والجرم فعل يوجب قطيعة فاعله، وأصله القطع، قال ابن عطاء: العارف بنعم الله من لا يوافق من خالف ولي نعمته، والعارف بالمنعم من لا يخالفه في حال من الأحوال انتهى.
وأراد (٢) بمظاهرة المجرمين، إما صحبة فرعون، وانتظامه في جماعته، وتكثير سواده، حيث كان يركب بمركبه كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون، واما مظاهرة من أدَّت مظاهرته إلى الجرم والإثم، كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلى قتل الذي لم يحل له قتله، وقيل: أراد إني وإن أسأت في هذا القتل الذي لم أُومر به فلا أترك نصرة المسلمين على المجرمين، فعلى هذا كان الإسرائيلي مؤمنًا، ونصرة المؤمن واجبة في جميع الشرائع. وقيل في بعض الروايات: إن ذلك الإسرائيلي كان كافرًا، وإنما قيل له إنه من شيعته؛ لأنه كان إسرائيليًا، ولم يرد الموافقة في الدين فعلى هذا ندم؛ لأنه أعان كافرًا على كافر، فقال: لا أكون بعد هذا ظهيرًا للكافرين، وقيل ليس هذا خبرًا بل هو دعاء؛ أي: فلا تجعلني يا رب ظهيرًا للمجرمين، كما تدل عليه قراءة عبد الله، وقال النحاس: إن جعله من باب الخبر أَوْفَى، وأشبه بنسق الكلام اهـ.
ثم إن (٣) هذا الدعاء، وهو قوله: ﴿رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾ إلخ حسن إذا وقع
(٢) القرطبي.
(٣) روح البيان.
١٨ - ﴿فَأَصْبَحَ﴾ موسى؛ أي: دخل في الصباح، فأصبح إما تامة؛ أي: دخل في الصباح حالة كونه ﴿فِي الْمَدِينَةِ﴾ التي قتل فيها القبطي، وفي هذا إشارة إلى أن دخول المدينة والقتل كانا بين العشاءين، حين اشتغل الناس بأنفسهم، كما ذهب إليه البعض، حال كونه ﴿خَائِفًا﴾ على نفسه من آل فرعون أن يقتلوه بسبب القبطي ﴿يَتَرَقَّبُ﴾؛ أي: يتوقع المكروه، وينتظر متى يؤخذ به. وهو الاستفادة منه، والترقب: انتظار المكروه، أو ينتظر الأخبار، وما يقال فيه، وقال ابن عطاء (١): خائفًا على نفسه، يترقب نصرة ربه، وفيه دليل على أنه لا بأس بالخوف من دون الله، بخلاف ما يقوله بعض الناس: إنه لا يسوغ الخوف من دون الله تعالى.
وإما ناقصة، والمعنى عليه؛ أي: فصار موسى عليه السلام في تلك المدينة التي قتل فيها القبطي خائفًا من جنايته التي جناها، بقتله النفس التي قتلها، وصار يتجسس الأخبار، وشأن عما يتحدث به الناس من أمره وأمر القبطي، وما هم بالغوه به، وداخلته الهواجس خيفة أن يقتلوه به ﴿فَإِذَا﴾ للمفاجأة؛ أي: فإذا الإسرائيلي ﴿الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ﴾؛ إي: طلب من موسى النصرة قبل هذا اليوم على دفع القبطي المقتول ﴿يَسْتَصْرِخُهُ﴾؛ أي: يستغيثه من بعد؛ أي: يستغيث موسى بعالي الصوت من بعيد من الصراخ، وهو الصوت أو شديده كما في "القاموس".
والمعنى: إن الإسرائيلي الذي خلَّصه موسى بالأمس يستغيث به الآن ثانيًا من قبطي آخر، فـ ﴿قَالَ لَهُ﴾ أي: لذلك الإسرائيلي المستغيث ثانيًا على قبطي آخر؛ أي: قال له ﴿مُوسَى إِنَّكَ﴾ أيها المستغيث ﴿لَغَوِيٌّ﴾؛ أي: لذو غواية وضلال، وهو فعيل بمعنى المناوي، ﴿مُبِينٌ﴾ أي: بيِّن الغواية والضلالة لا شك
١٩ - ثم دنا منهما ﴿فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ﴾ موسى ﴿أَنْ يَبْطِشَ﴾ ويأخذ ﴿بـ﴾ الشدة والعنف القبطي ﴿الَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا﴾؛ أي: عدو لموسى والإسرائيلي، إذ لم يكن على دينهما، ولأن القبط كانوا أعداء بني إسرائيل على الإطلاق، وقرأ الجمهور ﴿يَبْطِشَ﴾ بكسر الطاء، والحسن وأبو جعفر بضمها.
﴿قَالَ﴾ ذلك الإسرائيلي ظانًا أن موسى يريد أن يبطش به بناء على أنه خاطبه بقوله: إنك لغوي مبين، ورأى غضبه عليه، فلما سمع القبطي ذلك.. أفشاه، ولم يكن قد علم أحد من أصحاب فرعون أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس، حتى أفشى عليه الإسرائيلي، هكذا قال جمهور المفسرين.
أو قال له القبطي منكرًا: أتريد أن تفعل معي كما فعلت بالأمس، وتقتلني كما قتلت من قتلت، وكان قد عرف ذلك من حديث المصريين عنه. أو من هذا الإسرائيلي وهذا هو الظاهر.
﴿يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ﴾ يعني القبطي المقتول. ﴿إِنْ تُرِيدُ﴾؛ أي: ما تريد يا موسى ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا﴾؛ أي: قاهرًا عاليًا ﴿فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: في أرض مصر، تضرب وتقتل دون أن تنظر في العواقب، والجبار هو الذي يفعل ما يريده من الضرب والقتل، ولا ينظر في العواقب، ﴿وَمَا تُرِيدُ﴾ يا موسى ﴿أَنْ تَكُونَ﴾ في الأرض ﴿مِنَ الْمُصْلِحِينَ﴾ بين الناس بالقول والفعل، فتدفع التخاصم بالحسن، أو من المتورعين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ولما قال هذا انتشر الحديث، وارتقى إلى فرعون وملئه، وظهر أن القتل الواقع في الأمس صدر من موسى، حيث لم يطلع على ذلك إلا ذلك الإسرائيلي، فهموا بقتل موسى، فخرج مؤمن من آل فرعون وهو ابن عم موسى ليخبر موسى. كما قال: ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ...﴾ الآية.
﴿طسم (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤)﴾.
﴿طسم (١)﴾ إن قلنا إنه علم للسورة فهو خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه السورة طسم؛ أي: مسماة بهذا اللفظ، أو مبتدأ خبره محذوف، تقديره: طسم هذا محله، أو مفعول لفعل محذوف أو لاسم فعل محذوف، فهو مثل أسماء التراجم، وإن قلنا فيه: الله أعلم بمراده به، فلا يحكم عليه بالإعراب، ولا بالبناء؛ لأن الإعراب والبناء فرعان عن إدراك المعنى، وعلى إعرابه، فالجملة مستأنفة. ﴿تِلْكَ﴾ مبتدأ، ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ﴾ خبر ومضاف إليه، ﴿الْمُبِينِ﴾: صفة لـ ﴿الْكِتَابِ﴾، والجملة مستأنفة، ﴿نَتْلُو﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ﴿عَلَيْكَ﴾: متعلق به، ﴿مِنْ نَبَإِ مُوسَى﴾ مُوسَى: جار ومجرور ومضاف إليه، ﴿وَفِرْعَوْنَ﴾: معطوف على موسى، وهما ممنوعان من الصرف للعلمية والعجمة، الجار والمجرور صفة لمفعول محذوف، تقديره: نتلو عليك شيئًا كائنًا من نبأ موسى وفرعون، ويجوز أن تكون من زائدة على رأي الأخفش أي: نتلو عليك نبأ موسى وفرعون والأول أولى؛ لأنه لا ضرورة إلى زيادتها، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لبيان آيات الكتاب المبين، ﴿بِالْحَقِّ﴾: إما حال من فاعل ﴿نَتْلُو﴾؛ أي: نتلو عليك حال كوننا متلبسين بالحق والصدق، أو من مفعوله؛ أي: حال كونه؛ أي: الخير متلبسًا بالحق اهـ. شيخنا ﴿لِقَوْمٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿نَتْلُو﴾، فهو بمثابة التعليل؛ أي: لأجل قوم، وجملة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ صفة لـ ﴿قَوْمٍ﴾، ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ﴾: ناصب واسمه، ﴿عَلَا﴾: فعل ماض وفاعل مستتر ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلق به والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾. وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لبيان نبأ فرعون، لا محل لها من الإعراب، ﴿وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعولان في محل الرفع معطوف على جملة ﴿عَلَا﴾. ﴿يَسْتَضْعِفُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على فرعون، ﴿طَائِفَةً﴾: مفعول
﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (٦)﴾
﴿وَنُرِيدُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، والجله الفعلية معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾، على كونها مسوقة لبيان نبأ موسى وفرعون، أو في على النصب حال من ﴿طَائِفَةً﴾ لتخصصه بالصفة؛ أي: يستضعف طائفة منهم حالة كوننا نريد المن عليهم. ﴿أن﴾: حرف نصب، ﴿نَمُنَّ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، منصوب بـ ﴿أن﴾، ﴿عَلَى الَّذِينَ﴾: متعلق بـ ﴿نَمُنَّ﴾، وجملة ﴿نَمُنَّ﴾ مع أن المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿نُرِيدُ﴾؛ أي: ونريد المن على الذين استضعفوا في الأرض، ﴿اسْتُضْعِفُوا﴾: فعل ونائب فاعل صلة الموصول، ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلق به. ﴿وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعولان معطوف على ﴿نَمُنَّ﴾ على كونها منصوبًا بأن المصدرية، ﴿وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعولان معطوف على ﴿نَمُنَّ﴾ أيضًا، ﴿وَنُمَكِّنَ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر معطوف على ﴿نَمُنَّ﴾، ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به، ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلق به أيضًا، أو حال من ضمير ﴿لَهُمْ﴾. ﴿وَنُرِيَ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر معطوف على ﴿نَمُنَّ﴾ أيضًا، وهو من رأى البصرية تعدى بالهمزة إلى مفعولين،
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧)﴾.
﴿وَأَوْحَيْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ على كونها مسوقة لبيان نبأ موسى وفرعون، ﴿إِلَى أُمِّ مُوسَى﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بأوحينا ﴿أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾: أن مفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول دون حروفه، ﴿أَرْضِعِيهِ﴾: فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة مفسرة لـ ﴿أَوْحَيْنَا﴾ لا محل لها من الإعراب، ويجوز أن تكون ﴿أَن﴾: مصدرية، وهي مع مدخولها في تأويل مصدر مجرور بالباء المحذوفة، تقديره: وأوحينا إلى أم موسى بإرضاعك إياه، والجار المحذوف متعلق بـ ﴿أَوْحَيْنَا﴾. ﴿فَإِذَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿إذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿خِفْتِ﴾: فعل وفاعل، ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها، والظرف متعلق بالجواب، ﴿فَأَلْقِيهِ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إِذَا﴾ وجوبًا، ﴿ألقيه﴾: فعل أمر وفاعل ومفعول به، ﴿فِي الْيَمِّ﴾: متعلق بـ ﴿أَلْقِيهِ﴾، والجملة الفعلية جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ من فعل شرطها وجوابها معطوفة على جملة ﴿أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ على كونها مفسرة لـ ﴿أوحينا﴾، ﴿وَلَا تَخَافِي﴾: جازم وفعل مجزوم وفاعل معطوف على ﴿أَلْقِيهِ﴾، ﴿وَلَا تَحْزَنِي﴾: معطوف على [أَلْقِيهِ] أيضًا، ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿رَادُّوهُ﴾: خبره مرفوع بالواو، ﴿إِلَيْكِ﴾: متعلق بـ ﴿رَادُّوهُ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل النهي المذكور قبله، ﴿وَجَاعِلُوهُ﴾: معطوف على ﴿رَادُّوهُ﴾، وهو اسم فاعل أضيف إلى مفعوله الأول، ﴿مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ في محل نصب مفعوله الثاني.
﴿فَالْتَقَطَهُ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف، تقديره: فأرضعته وألقته، فالتقطه آل فرعون، ﴿الْتَقَطَهُ﴾: فعل ومفعول، ﴿آلُ فِرْعَوْنَ﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، ويجوز أن تكون الفاء فصيحة، ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ﴾: اللام، حرف جر وتعليل، أو لام العاقبة، ﴿يَكُونَ﴾: فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد اللام، واسمها ضمير يعود على موسي، ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿عَدُوًّا﴾؛ أو حال منه، ﴿عَدُوًّا﴾: خبر ﴿يَكُونَ﴾، ﴿وَحَزَنًا﴾: معطوف عليه، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لكونه عدوًا لهم وحزنًا، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿الْتَقَطَ﴾. ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ﴾: ناصب واسمه، ﴿وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا﴾: معطوفان على فرعون، ﴿كَانُوا خَاطِئِينَ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾. وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، أو جملة معترضة لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين المعطوف عليه، وهو ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ﴾، والمعطوف وهو ﴿وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ﴾. ﴿وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، معطوف على ﴿فَالْتَقَطَهُ﴾، ﴿قُرَّتُ عَيْنٍ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو قرة عين، ﴿لِي﴾: صفة لـ ﴿قُرَّتُ﴾، ﴿وَلَكَ﴾: معطوف على ﴿لِي﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَتِ﴾، ﴿لَا﴾: ناهية جازمة، ﴿تَقْتُلُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به مجزوم بلا الناهية، والجملة في محل النصب مقول ﴿وَقَالَتِ﴾، ﴿عَسَى﴾: فعل ماض من أفعال الرجاء تعمل عمل كان، واسمها ضمير يعود على موسى، ﴿أَنْ يَنْفَعَنَا﴾: ناصب وفعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة في تأويل مصدر منصوب على كونه خبر ﴿عَسَى﴾، ولكنه على تأويل اسم فاعل، أو على تقدير مضاف، والتقدير عسى هذا الغلام نافعًا لنا، أو ذا نفع لنا، وجملة ﴿عَسَى﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَتِ﴾، ﴿أَوْ﴾: حرف عطف وتفصيل، ﴿نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، ومفعولان، معطوف على ﴿يَنْفَعَنَا﴾، ﴿وَهُمْ﴾
﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
﴿وَأَصْبَحَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿أَصْبَحَ﴾: فعل ماض ناقص، ﴿فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى﴾ اسمها ومضاف إليه، ﴿فَارِغًا﴾: خبرها، والجملة مستأنفة، ﴿إِنْ﴾ مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، ﴿كَادَتْ﴾: فعل ناقص من أفعال المقاربة، واسمها ضمير يعود على ﴿أُمِّ مُوسَى﴾، ﴿لَتُبْدِي﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿تُبْدِي﴾: فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير يعود على ﴿أُمِّ مُوسَى﴾، ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿تُبْدِي﴾؛ أي: لتبدي القول به، أو ﴿الباء﴾ زائدة؛ أي: لتبديه، وجملة ﴿تبدي﴾ في محل النصب خبر ﴿كاد﴾ وجملة ﴿كاد﴾ في حل الرفع خبر ﴿إِنْ﴾ المخففة، وجملة ﴿إن﴾ المخففة مستأنفة. ﴿لَوْلَا﴾: حرف امتناع لوجود، ﴿أَنْ﴾: حرف نصب وصدر، ﴿رَبَطْنَا﴾: فعل ماض وفاعل في محل النصب بـ ﴿أن﴾ المصدرية، ﴿عَلَى قَلْبِهَا﴾: متعلق بـ ﴿رَبَطْنَا﴾، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف وجوبًا، تقديره: لولا ربطنا على قلبها موجود، وجواب ﴿لَوْلَا﴾ محذوف، تقديره: لأبدت به، وجملة ﴿لَوْلَا﴾ مستأنفة. ﴿لِتَكُونَ﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿تكون﴾: فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، واسمها ضمير يعود على أم موسى، ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: خبر ﴿تَكُونَ﴾، وجملة ﴿تَكُونَ﴾ في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لكونها من المؤمنين، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿رَبَطْنَا﴾.
﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (١٢)﴾.
﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
﴿فَرَدَدْنَاهُ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿رَدَدْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على محذوف، تقديره: فأذنوا لها في إرضاعه فرددناه، ﴿إِلَى أُمِّهِ﴾: جار
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥)﴾.
﴿وَلَمَّا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَمَّا﴾ ﴿وَاسْتَوَى﴾: فعل ماض وفاعل مستتر معطوف على ﴿بَلَغَ﴾، ﴿آتَيْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، ﴿حُكْمًا﴾ مفعول ثان، ﴿وَعِلْمًا﴾: معطوف على ﴿حُكْمًا﴾، والجملة جواب ﴿لَمَّا﴾، وجملة ﴿لَمَّا﴾ مستأنفة. ﴿وَكَذَلِكَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿وَكَذَلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف، ﴿نَجْزِي﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾ مفعول به، والتقدير: ونجزي المحسنين جميعًا جزاء مثل
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (١٧)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على موسى، والجملة مستأنفة،
﴿فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨)﴾.
﴿فَأَصْبَحَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿أصبح﴾: فعل ماض تام بمعنى دخل في الصباح، وفاعله ضمير يعود على موسى، ﴿فِي الْمَدِينَةِ﴾: متعلق بـ ﴿أصبح﴾، أو حال من الفاعل، ﴿خَائِفًا﴾: حال من فاعل أصبح، ﴿يَتَرَقَّبُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على موسى، والجملة الفعلية حال ثانية، أو ثالثة، أو حال من
﴿فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة، ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿أن﴾: زائدة لاطراد زيادتها بعد ﴿لما﴾ كما هنا. وقيل لو مسبوقة بقسم كقوله:
فَأُقْسِمُ أَنْ لَوِ الْتَقَيْنَا وَأَنْتُمُ | لَكَانَ لَكُمْ يَوْمٌ مِنَ الشَّرِّ مُظْلِمُ |
التصريف ومفردات اللغة
﴿نَتْلُو عَلَيْكَ﴾؛ أي: ننزل عليك، والتلاوة: الإتيان بالثاني بعد الأول في القراءة؛ أي: نقرأ قراءة متتابعة بواسطة جبريل، يعني يقرأ عليك جبريل بأمرنا،
﴿عَلَا﴾؛ أي: تجبر واستكبر، ﴿شِيَعًا﴾؛ أي: فرقًا يستخدم كل صنف في عمل من بناء وحفر وحرث، إلى نحو ذلك من الأعمال الشاقة، وهو جمع شيعة بالكسر، وهو مَنْ يتقوَّى بهم الإنسان، وينتشرون عنه، لأن الشياع الانتشار والتقوية، يقال: شاع الحديث؛ أي: كثر وقوي. وشاع القوم انتشروا وكثروا.
وفي "القاموس": و"التاج": وغيرهما من كتب اللغة: شيعة الرجل أتباعه وأنصاره، والجمع شيع وأشياع، والشيعة الفرقة، وتقع على الواحد والاثنين، والجمع مذكرًا ومؤنثًا، وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى عليًا وأهل بيته، حتى صار لهم اسمًا خاصًا، والواحد شيعي. وقال الزمخشري: ﴿شِيَعًا﴾ فرقًا يشيعونه على ما يريد ويطيعونه، لا يملك أحد منهم أن يلوي عنقه. قال في "كشف الأسرار": كان القبط إحدى الشيع، وهم شيعة الكرامة.
﴿يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ﴾ والاستضعاف جعلهم ضعفاء مقهورين، والطائفة هنا هم بنو إسرائيل، ﴿يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ﴾ وأصل الذبح شق حلق الحيوان، والتشديد هنا للتكثير، والمعنى: يقتل بعضهم إثر بعض، حتى قتل تسعين ألفًا من أبناء بني إسرائيل صغارًا.
﴿وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ﴾ والاستحياء الاستبقاء؛ أي: يتركهن أحياء للخدمة لقول بعض الكهنة له: إن مولودًا يُولد في بني إسرائيل يكون سبب زوال ملكك، ﴿وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾ جمع إمام، وهو من يقتدى به في الدين، أو في الدنيا، ﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ يقال: مكَّن له إذا جعل له مكانًا موطَّأ ممهدًا يجلس عليه، والمراد هنا نسلطهم على أرض مصر والشام، يتصرفون فيهما كيف يشاؤون. اهـ "أبو السعود".
﴿وَهَامَانَ﴾ وزير فرعون المذكور هنا، وهامان عدو اليهود، وزير إحشو يروش الفارسي، ذُكر في سفر استير من كتب العهد القديم، ﴿مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ والحذر الاحتراز عن مخيف كما في "المفردات"؛ أي: ما كانوا
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى﴾ وأصل الوحي الإشارة السريعة، ويقع على كل تنبيه خفي، والإيحاء إعلام في خفاء، قال الإِمام الراغب: يقال: للكلمة الإلهية التي تُلْقى إلى أنبيائه وحي، وذلك:
١ - إما برسول مشاهد يرى ذاته ويسمع كلامه، كتبليغ جبريل للنبي - ﷺ - في صورة معينة.
٢ - وإما بسماع كلام من غير معاينة كسماع موسى عليه السلام كلام الله تعالى.
٣ - وإما بإلقاء في الروع، كما ذكر - ﷺ -: "إن روح القدس نفث في روعي".
٤ - وإما بإلهام، كقوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى﴾.
٥ - وإما بتسخير نحو قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾.
٦ - وإما بالمنام كقوله - ﷺ -: "انقطع الوحي وبقيت المبشرات رؤيا المؤمن" انتهى بإجمال، فالمراد هنا وحي الإلهام، كما ذكره الراغب، فجملة أقسام الوحي ستة. فافهم.
﴿فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾؛ أي: في بحر النيل، ﴿وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي﴾ والفرق بين الخوف والحزن: أن الخوف غم يلحق الإنسان بسبب توقع مكروه يحدث في المستقبل، والحزن - بفتحتين وبضم فسكون - كالرَّشَدِ والرُّشْدِ، والسَّقَمِ والسُّقْمِ، غم يلحق الإنسان بسبب مكروه قد حصل.
﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ﴾ والالتقاط إصابة الشيء وأخذه فجأة، من غير طلب له، ومنه اللقطة، وهو مال بلا حافظ، ثم يُعرف مالكه، واللقيط هو طفل لم يعرف نسبه، يطرح في الطريق أو غيره، خوفًا من الفقر أو الزنى، ويجب أخذه
﴿خَاطِئِينَ﴾ والمراد من الخطأ هنا الخطأ في الرأي، وهو ضد الصواب والمراد به الشرك والعصيان لله، والخطأ مقصورًا العدول عن الجهة، والخاطىء من يأتي بالخطأ، وهو يعلم أنه خطأ، وهو الخطأ التام المأخوذ به الإنسان. يقال: خطىء الرجل إذا ضل في دينه وفعله، والمخطىء من يأتي به، وهو لا يعلم؛ أي: يريد ما يحسن فعله، ولكن يقع منه بخلاف ما يريد، يقال: أخطأ الرجل في كلامه وأمره إذا زل وهفا.
﴿قُرَّتُ عَيْنٍ لِي﴾ يقال: قرَّت به العين إذا فرحت به وسرت، ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا﴾ والفؤاد القلب، لكن يقال له فؤاد إذا اعتُبر فيه معنى التفؤد؛ أي: التحرق والتوقد، كما في "المفردات" و"القاموس"، كما مر في مبحث التفسير بأبسط مما هنا، ﴿فَارِغًا﴾؛ أي: خاليًا من العقل، لما دهمها من الخوف والحيرة، حين سمعت بوقوعه في يد عدوه، نحو ما جاء في قوله: ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾؛ أي: خلاء لا عقول بها، والفراغ خلاف الشغل.
﴿لَتُبْدِي بِهِ﴾ يقال: بدا الشيء بُدُوًا وبَدْوًا ظهر ظهورًا بيِّنًا، وأبداه أظهره إظهارًا بينًا، والإبداء إظهار الشيء، ﴿لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا﴾ والربط الشد وهو العقد القوي، والربط على القلب سنده، والمراد هنا تثبيته، ﴿قُصِّيهِ﴾؛ أي: اقتفى أثره، وتبعي خبره، أمر من قص أثره قصًا وقصصًا من باب شد.
﴿فَبَصُرَتْ بِهِ﴾؛ أي: أبصرته، ﴿عَنْ جُنُبٍ﴾؛ أي: عن بعد، يقال: جنبته وأجنبته ذهبت عن ناحيته وجنبه، ومنه الجنب لبعده عن الصلاة ومس المصحف ونحوهما، والجار الجنب؛ أي: البعيد، ويقال: الجار الجنب أيضًا للقريب اللاصق بك إلى جنبك.
﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ﴾ التحريم هنا بمعنى المنع، لأنه لا معنى للتحريم
﴿يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ﴾؛ أي: يضمنون رضاعه والقيام بشؤونه، والكفالة الضمان والعيالة، يقال: كفل به كفالة وهو كفيل إذا تقبل به، وضمنه وكفله فهو كافل إذا عاله، ﴿وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ والنصح ضد الغش، وهو تصفية العمل من شوائب الفساد، وفي "المفردات": النصح تحري فعل أو قول فيه صلاح صاحبه. انتهى، والمراد أنهم يفعلون ما ينفعه في غذائه وتربيته، ولا يقصرون في خدمته.
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ واحدة الأشد شدة، كانعم ونعمة، وقيل: مفرد على وزن الجمع، كما مر، والشدة القوة والجلادة، وبلوغ الأشد استكمال القوة الجسمانية، وانتهاء النمو المعتد به، ﴿وَاسْتَوَى﴾ والاستواء اعتدال العقل وكماله، ويختلف ذلك باختلاف الأقاليم والأزمان والأحوال.
﴿حُكْمًا﴾ والحكم الحكمة، ﴿عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ﴾؛ أي: في وقت لا يتوقعون دخولها فيه ﴿مِنْ شِيعَتِهِ﴾؛ أي: ممن شايعه وتابعه في الدين، وهم بنو إسرائيل، ﴿مِنْ عَدُوِّهِ﴾؛ أي: من مخالفيه في الدين، وهم القبط، والعدو يُطلق على الواحد والجمع، ﴿فَاسْتَغَاثَهُ﴾؛ أي: طلب غوثه ونصره.
﴿فَوَكَزَهُ﴾؛ أي: فضربه بجمع يده؛ أي: بيده مجموعة الأصابع، والوكز - كالوعد -: الدفع والطعن والضرب بجمع الكف، وهو بالضم والكسر حين يقبضها، وقال أبو حيان: والوكز الضرب باليد مجموعة كعقد ثلاثة وسبعين. اهـ.
﴿يَتَرَقَّبُ﴾؛ أي: ينتظر ما يناله من أذى، وفي "المفردات": ترقب احترز راقبًا؛ أي: حافظ، وذلك إما لمراعاة رقبة المحفوظ، وإما لرفعه رقبته، ﴿اسْتَنْصَرَهُ﴾؛ أي: طلب نصرته ومعونته، ﴿يَسْتَصْرِخُهُ﴾؛ أي: يطلب الاستغاثة برفع الصوت، ﴿لَغَوِيٌّ﴾؛ أي: ضال من غوى يغوي كرمى يرمي، وغواية كعداوة.
﴿يَبْطِشَ﴾؛ أي: يأخذ بصولة وسطوة، ﴿جَبَّارًا﴾ والجبار هو الذي يفعل ما يفعل من غير نظر في العواقب، وقيل: هو الذي يتعاظم ولا يتواضع لأمر الله تعالى، ﴿مِنَ الْمُصْلِحِينَ﴾؛ أي: ممن يبغون الإصلاح بين الناس ويدفعون التخاصم بالحسن.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإشارة بالبعيد عن القريب في قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ تنزيلًا لبعد مرتبته في الكمال منزلة بعده الحسي.
ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ﴾ لاستحضار تلك الصورة في الذهن.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ حيث شبه التسليط بالتمكين بجامع استحقاق التصرف في كل، فاستعار له اسمه، فاشتق من التمكين - بمعنى التسليط - نمكن، بمعنى نسلط على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: نوع عجيب من الإطناب في قوله: ﴿وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي﴾ وهو من أجمل الإطناب، وهو أن يذكر الشيء فيؤتي فيه بمعان متداخلة، إلا أن كل معنى مختص بخصيصة ليست للآخر، فقد قلنا في باب اللغة: إن الخوف هو غم يصيب الإنسان لأمر يُتوقع نزوله في المستقبل، وأما الحزن فهو غم يصيبه لأمر وقع فعلًا ومضى، فنُهيت عنهما جميعًا.
ومنها: إيثار الجملة الاسمية على الفعلية في قوله: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ ولم يقل سنرده ونجعله رسولًا، وذلك للاعتناء بالبشارة، لأن الجملة الاسمية تفيد الثبوت والاستمرار.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا﴾ فإن ذلك كناية عن فقدان العقل، وطيش اللب، والمعنى: أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طاش صوابها، وطار عقلها لما انتابها من فرط الجزع والدهش.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا﴾ شبه ما قذف الله في قلبها من الصبر بربط الشيء المنفلت خشية الضياع، واستعار لفظ الربط للصبر.
ومنها: الاستعارة أو المجاز المرسل في قوله: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ﴾ لأن من حرم عليه شيء فقد منعه، لأن الصبي ليس من أهل التكليف.
ومنها: صيغة التعظيم في قوله: ﴿لَا تَقْتُلُوهُ﴾ تخاطب فرعون، ولم تقل: لا تقتله، تعظيمًا له، ليساعدها على ما تريده من ترك قتله.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿يَكْفُلُونَهُ﴾ لأنه كناية عن إرضاعه والقيام بتربيته.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾.
ومنها: الإشارة على الحكاية في قوله: ﴿هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ﴾ وإلا فهو والذي
ومنها: الكناية في قوله: ﴿فَقَضَى عَلَيْهِ﴾ لأنه كناية عن الموت، والقضاء في الأصل فصل الأمر.
ومنها: توسيط في قوله: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ لإبانة ما بينهما من المخالفة، من حيث أنه مناجاة ودعاء، بخلاف الأول كما مر.
ومنها: صيغة المبالغة في قوله: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ﴾.
ومنها: الطباق المعنوي بين ﴿جَبَّارًا﴾ ﴿وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ﴾ لأن الجبار المفسد المخرب المكثر للقتل، ففيه طباق في المعنى.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (٣٢) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤)﴾.
التفسير وأوجه القراءة
٢٠ - ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ﴾ قيل: المراد (١) بهذا الرجل حزقيل، هو مؤمن آل فرعون،
وجملة قوله: ﴿يَسْعَى﴾؛ أي: يُسرع في مشيه من طريق أقرب من طريقهم، حتى وصل إلى موسى عليه السلام، صفة لرجل، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال؛ لأن لفظ رجل وإن كان نكرة فقد تخصص بقوله: ﴿مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ﴾. ويجوز أن يتعلق ﴿مِنْ أَقْصَى﴾ بـ ﴿جَاءَ﴾، أو صفة لرجل، أي: جاء إلى موسى مسرعًا فوصل إليه.
فـ ﴿قَالَ﴾ الرجل ﴿يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ﴾؛ أي: إن أشراف قوم فرعون ﴿يَأْتَمِرُونَ﴾ ويتشاورون ﴿بِكَ﴾؛ أي: بسببك، وإنما سمي (١) التشاور ائتمارًا لأن كلا من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر ﴿لِيَقْتُلُوكَ﴾؛ أي: يأمر بعضهم بعضًا بقتلك، فاتفقوا على أن يحتالوا فيك ليهلكوك، ﴿فَاخْرُجْ﴾ من هذه المدينة ﴿إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ﴾ في أمري إياك بالخروج، ومن المشفقين عليك، واللام في قوله: ﴿لَكَ﴾ للبيان، كأنه قيل: لك أقول هذه النصيحة، وليس صلة للناصحين، لأن معمول الصلة لا يتقدم على الموصول، وهو اللام في الناصح، وقيل: يجوز، لأنه يتوسع في الظروف ما لا يتوسع في غيرها.
٢١ - ﴿فَخَرَجَ﴾ موسى عليه السلام ﴿مِنْهَا﴾؛ أي: من المدينة حالة كونه ﴿خَائِفًا﴾ على نفسه من آل فرعون ﴿يَتَرَقَّبُ﴾؛ أي: يتوقع لحوق الطالبين والتعرض له في الطريق، ويكثر الالتفات، وينظر هل يلحقه أحد يطلبه.
﴿قَالَ﴾ عند ذلك يا ﴿رَبِّ نَجِّنِي﴾؛ أي: خلصني ﴿مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ وادفع
قال بعضهم: إن الله سبحانه إذا أراد بعبده أن يكون له فردًا أوقعه في واقعة شنيعة، ليفر من دون الله إلى الله، فلما ذر إليه خائفًا من الامتحان وجد جمال الرحمن، وعلم أن جميع ما جرى عليه واسطة الوصول إلى المراد، نسأل الله الوصول إليه وهو خير مسؤول، وقصد الذهاب إلى مدين، لأنها ليست تحت سلطنة فرعون، ولأنه وقع في نفسه أن بينه وبين أهل مدين قرابة، لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم عليه السلام، وهو من ذرية إبراهيم أيضًا.
٢٢ - ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ﴾؛ أي: جعل وجهه نحو مدين، قاصدًا لها؛ أي: سلك في الطريق الذي تلقاء مدين، وينتهي إليها، و ﴿تِلْقَاءَ﴾ تفعال بمعنى حذاء ومقابل، وأصله من اللقاء كما سيأتي في مبحث اللغة إن شاء الله تعالى، ومدين قرية شعيب عليه السلام على بحر القلزم، سميت باسم مدين بن إبراهيم عليه السلام من امرأته قنطور، كان اتخذها لنفسه مسكنًا فنسبت إليه، ولم تكن في ملك فرعون، وكان بينها وبين مصر مسيرة ثمانية أيام، كما بين الكوفة والبصرة، وكان هناك ثلاث طرق فأخذ موسى أوسطها، وأخذ طالبوه في الآخرين، وقالوا: المريب لا يأخذ أعظم الطرق، ولا يسلك إلا بنياتها، فبقي في الطريق ثماني ليال وهو حافٍ، لا يطعم إلا ورق الشجر.
والمعنى: ولما جعل موسى وجهه نحو مدين، وصار متوجهًا إلى جانبها ﴿قَالَ﴾ موسى توكلًا على الله وحسن ظن به، وكان لا يعرف الطرق، ﴿عَسَى رَبِّي﴾؛ أي: أرجو ربي ﴿أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: الطريق الوسط المستقيم الذي يرميني إلى مدين، وكان لمدين ثلاث طرق فأخذ موسى الطريق الوسطى، وجاء الطلاب عقيبه، فقالوا: إن الفار لا يأخذ الطريق الوسط خوفًا على نفسه، بل الطرفين فشرعوا في الآخرين فلم يجدوه.
فائدة: قوله: ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ...﴾ الآية. قاله هنا بتقديم ﴿رَجُلٌ﴾ على ﴿مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ﴾، وعكس في سورة يس حيث قال: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ...﴾ الآية، قيل موافقة هنا لقوله قبل فوجد فيها رجلين يقتتلان، واهتمامًا ثَمَّ بتقديم ﴿مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ﴾، لما روي أن الرجل حزقيل، وقيل: حبيب، كان يعبد الله في جبل فلما سمع خبر الرسل سعى مستعجلًا. اهـ من "فتح الرحمن".
وحاصل معنى الآيات: ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠)﴾؛ أي: وجاء (١) رجل مؤمن من آل فرعون، يُخفي إيمانه عن فرعون وآله لأسباب، هو بها عليم، يُسرع للحاق بموسى، إشفاقًا وخوفًا عليه أن يصيبه مكروه من فرعون وآله، وقال: يا موسى إن الملك وبطانته وأشراف دولته يدبرون لك المكايد، وينصبون لك الحبائل، يريدون أن يقتلوك، فالبدار البدار، والهرب الهرب، قبل أن يقبضوا عليك، وينفذوا ما دبروه، ويقتلوك فأخرج من المدينة مسرعًا، وإني لك لناصح أمين.
فانتصح بنصحه، وتقبل قوله: ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا﴾؛ أي: فخرج من مدينة فرعون خائفًا، يترقب لحوق الطالبين، ويلتفت يمينًا وشمالًا، وينظر أيتبعه أحد أم لا؟ ثم لجأ إلى الله تعالى، علمًا منه أن لا ملجأ إلا إليه.
﴿قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: قال: رب نجني من هؤلاء الذين من دأبهم الظلم والعسف، ووضع الأمور في غير مواضعها، فيقتلون من لا يستحق القتل، ومن لا يُجرم إلى أحد، فاستجاب الله دعاءه، ووفقه إلى سلوك الطريق الأعظم نحو مدين.
٢٣ - ثم ذكر سبحانه ما جرى له حين وصوله إلى مدين من الأحداث، فقال: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ﴾؛ أي: ولما وصل موسى وجاء ﴿مَاءَ مَدْيَنَ﴾ وهو (١) بئر على طرف المدينة على ثلاثة أميال منها أو أقل كانوا يسقون منها، قال (٢) ابن عباس - رضي الله عنهما -: ورد موسى عليه السلام ماء مدين وإنه ليتراءى خضرة البقل في بطنه من الهزال، ﴿وَجَدَ عَلَيْهِ﴾؛ أي: على جانب البئر وفوق شفيرها ﴿أُمَّةً﴾؛ أي: جماعة كثيرة ﴿مِنَ النَّاسِ﴾؛ أي: من أهل مدين ﴿يَسْقُونَ﴾ مواشيهم من مائها، قيل: كانوا أربعين رجلًا.
﴿وَوَجَدَ﴾ موسى ﴿مِنْ دُونِهِمُ﴾؛ أي: من دون الناس الذين يسقون، أي: في مكان أسفل منهم ﴿امْرَأَتَيْنِ﴾ صفورياء وليا، ابنتا يثرون، ويثرون هو شعيب. قاله السهيلي في "كتاب التعريف"، ﴿تَذُودَانِ﴾؛ أي (٣): تحبسان وتمنعان أغنامهما عن المتقدم إلى الماء حتى يفرغ الناس، وتخلو لهما البئر. وقيل: تكفان أغنامهما عن أن تختلط بأغنام الناس، وقيل تمنعان أغنامهما عن أن تَنِدَّ، وتذهب، والقول الأول أولى لما بعده، وقوله: ﴿قَالَ﴾ موسى للمرأتين ﴿مَا خَطْبُكُمَا﴾؛ أي: ما شأنكما لا تسقيان مواشيكما مع الناس، والخطب (٤) الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب؛ أي: ما شأنكما فيما أنتما عليه من التأخر والذود، ولم لا تباشران
(٢) روح البيان.
(٣) الخازن.
(٤) روح البيان.
قال بعضهم: كيف استجاز موسى أن يكلم امرأتين أجنبيتين؟.
والجواب: كان آمنًا على نفسه معصومًا من الفتنة، فلأجل علمه بالعصمة كلمهما، كما يقال: كان للرسول - ﷺ - التزوج بامرأة من غير شهود، لأن الشهود لصيانة العقد عن التجاحد، وقد عُصم الرسول من أن يجحد نكاحًا، أو يُجحد نكاحه، دون غيره من أفراد أمته.
وقرأ شَبَمْرٌ (١): ﴿خِطبكما﴾ بكسر الخاء؛ أي: من زوجكما، ولم لا يسقي هو، وهذه القراءة نادرة، ﴿قَالَتَا﴾؛ أي: البنتان ﴿لَا نَسْقِي﴾، أي: لا نقدر أن نسقي أغنامنا ﴿حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ﴾؛ أي: حتى يصرف الرعاء مواشيهم عن الماء.
والمعنى (٢): عادتنا أن لا نسقي مواشينا حتى يصرف الرعاء مواشيهم بعد ريها، ويرجعوا، عجزًا عن مساجلتهم وحذرًا من مخالطة الرجال، فإذا انصرفوا سقينا من فضل مواشيهم، وحذف مفعول السقي والذود والإصدار، لما أن الغرض هو بيان تلك الأفعال أنفسها، إذ هي التي دعت موسى إلى ما صنع في حقهما من المعروف، فإنه عليه السلام إنما رحمهما لكونهما على الذياد والعجز والعفة، وكونهم على السقي غير مبالين بهما، وما رحمهما لكون مذودهما غنمًا ومستقيهم إبلًا مثلًا.
وقرأ ابن مصرف (٣): ﴿لَا نَسْقِي﴾ بضم النون، وقرأ أبو جعفر وشيبة والحسن وقتادة وأبو عمر وابن عامر: ﴿يُصْدِرَ﴾ بفتح الياء وضم الدال؛ أي: يصدرون بأغنامهم، وقرأ باقي السبعة والأعرج وطلحة والأعمش وابن أبي إسحاق وعيسى: بضم الياء وكسر الدال؛ أي: يصدرون أغنامهم.
وقرأ الجمهور (٤): ﴿الرِّعَاءُ﴾ بكسر الراء جمع تكسير، قال الزمخشري: وأما
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
(٤) البحر المحيط.
وقولهما: ﴿وَأَبُونَا﴾ وهو شعيب عليه السلام ﴿شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ السن، أو القدر والشرف، لا يستطيع أن يخرج، فيرسلنا للرعي والسقي اضطرارًا، اعتذار إلى موسى عن مباشرتهما السقي بأنفسهما، وتنبيه على أن أباهما لا يقدر على السقي لشيخوخته وكبره، واستعطاف لموسى في إعانتهما.
٢٤ - ﴿فَسَقَى لَهُمَا﴾ ماشيتهما رحمة عليهما، وطلبًا لوجه الله تعالى، قيل: عمد موسى إلى بئر على رأسه صخرة، لا يرفعها إلا عشرة رجال، فنحاها بنفسه، واستقى الماء من ذلك البئر، روي (١) أن الرجال كانوا يضعون على رأس البئر حجرًا لا يرفعه إلا سبعة رجال، أو عشرة أو أربعون، فرفعه وحده، مع ما كان به من الوصب والجوع وجراحة القدم، ولعله زاحمهم في السقي لهما فوضعوا الحجر على البئر لتعجيزه عن ذلك، وهو الذي يقتضيه سوق النظم الكريم.
﴿ثُمَّ﴾ بعد فراغه من السقي ﴿تَوَلَّى﴾؛ أي: أعرض وانصرف موسى ﴿إِلَى الظِّلِّ﴾؛ أي: ظلُّ سَمْرةٍ هناك، فجلس فيه ليستريح من حر الشمس، وهو جائع لم يذق طعامًا سبعة أيام، والظل هو المكان الذي لم يقع عليه شعاع الشمس ﴿فَقَالَ﴾ يا ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ﴾؛ أي: إلى ما تنزله إلى من خير، واللام بمعني إلى متعلق بـ ﴿فَقِيرٌ﴾؛ و ﴿أَنْزَلْتَ﴾ بمعنى المضارع، ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ بيان لـ ﴿ما﴾ ﴿فَقِيرٌ﴾ خبر ﴿إن﴾، والمعنى: يا إلهي إني محتاج فقير إلى ما تنزله إلى من خزائن جودك ورزقك أي رزق كان، ولو شق تمرة.
ويحتمل أن يريد (١): رب إني بسبب ما أنزلت إلى من خير الدين، وهو النجاة من الظالمين، صرت فقيرًا في الدنيا، وذلك لأن موسى كان عند فرعون في ثروة وملك، فقال ذلك رضًا بهذا البدل المديني، وفرحًا به، وشكرًا له.
ولما كان موسى عليه السلام جائعًا سأل من الله ما يأكل، ولم يسأل من الناس ففطنت الجاريتان، فلما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس، وأغنامهما قفلت، قال لهما: ما أعجلكما؟ قالتا: وجدنا رجلًا صالحًا رحمنا فسقى لنا، ثم تولى إلى الظل فقال: رب إلخ، فقال أبوهما: هذا رجل جائع، فقال لإحداهما: اذهبي فادعيه لنا.
٢٥ - ﴿فَجَاءَتْهُ﴾؛ أي: فجاءت موسى ﴿إِحْدَاهُمَا﴾؛ أي: إحدى البنتين، عقيب ما رجعتا إلى أبيهما، وهي الكبرى عند الأكثرين، واسمها صفورياء أو صفوراء، فإن قلت: كيف جاز لشعيب إرسال ابنته لطلب أجنبي؟ قلت: لأنه لم يكن له من الرجال من يقوم بأمره، ولأنه ثبت عنده صلاح موسى وعفته، بقرينة الحال، وبنور الوحي.
وقرأ ابن محيصن (٢): ﴿فجاءته احداهما﴾ بحذف همزة إحداهما تخفيفًا، على غير قياس، مثل ويل أمه، في ويل أمه، ويا بافلان، والقياس أن يُجعل بين وبين، ذكره أبو حيان.
حالة كونها ﴿تَمْشِي﴾ حال من فاعل جاءته ﴿عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾؛ أي: على ما
(٢) البحر المحيط.
والجمهور على أن الداعي أباهما، هو شعيب عليه السلام، وهما ابنتاه (٢)، وقال الحسن: هما ابنتا أخي شعيب، وهو مروان، وأن شعيبًا كان قد مات، وقال أبو عبيدة: هارون، وقيل: هو رجل صالح ليس من شعيب يُنسب، وقيل: كان عمهما صاحب الغنم، وهو المزوج، عبَّرت عنه بالأب، إذ كان بمثابته، والأول أرجح، وهو ظاهر النظم القرآني.
﴿قَالَتْ﴾ استئناف بياني، كأنه قيل: ماذا قالت له لما جاءته؟ ﴿إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ﴾؛ أي: ليكافئك ﴿أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾؛ أي: جزاء سقيك لنا.
فإن قلت: إن موسى (٣) لم يسق لابنتي شعيب طلبًا للأجر، فكيف أجاب دعوة شعيب في قول ابنته له: ﴿إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾؟
قلت: يجوز أن يكون أجاب دعوته لوجه الله تعالى، على وجه البر والمعروف لا طلبًا للأجر، وإن سمي في الدعوة أجرًا. اهـ "فتح الرحمن"، ولأنه (٤) كان بين الجبال خائفًا مستوحشًا فأجابها.
فانطلقا وهي أمامه، فألزقت الريح ثوبها بجسدها، فوصفته أو كشفته عن ساقيها، فقال لها: امشي خلفي، وانعتي إليَّ الطريق، فتأخرت، وكانت تقول: عن يمينك وشمالك وقدامك، حتى أتيا دار شعيب، فبادرت المرأة إلى أبيها فأخبرته، فأذن له في الدخول، وشعيب يومئذٍ شيخ كبير، وقد كُفَّ بصره، فسلَّم موسى فرد عليه السلام وعانقه، ثم أجلسه بين يديه، وقدَّم إليه طعامًا فامتنع منه،
(٢) البحر المحيط.
(٣) فتح الرحمن.
(٤) روح البيان.
والمعنى (١): أي فجاءته إحدى المرأتين تمشي، وهي حيية، قد سترت وجهها بثوبها، قائلة: إن أبي يدعوك ليكافئك على ما صنعت من الإحسان، وأسديت إلينا من المعروف بسقي غنمنا، قال عمرو بن ميمون: ولم تكن سلفعًا من النساء - جريئة على الرجال - خرَّاجة ولَّاجة، وقد أسندت إلى أبيها وعللتها بالجزاء، حتى لا يتوهم من كلامها شيء من الريبة، كما أن في كلامها دلالة على كمال العقل، والحياء والعفة كما لا يخفى.
ولما قدمت هذه المرأة إلى موسى أجابها تبركًا بالشيخ وزيارة له، لا طمعًا في الأجر، ﴿فَلَمَّا جَاءَهُ﴾؛ أي: فلما جاء موسى هذا الشيخ ﴿وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ﴾؛ أي: وحدثه حديثه مع فرعون وآله، في كفرهم وطغيانهم وإذلالهم للعباد، وتآمرهم على قتله، وهربه منهم بعد الذي علمه.
والقصص مصدر، سمي به المفعول كالعلل؛ أي: المقصوص، يعني: أخبره بجميع ما اتفق له، من عند قتله القبطي إلى عند وصوله إلى ماء مدين، ﴿قَالَ﴾ شعيب ﴿لَا تَخَفْ﴾ من حولهم وطولهم، إنك قد ﴿نَجَوْتَ مِنَ﴾ سطوة أولئك ﴿الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: من فرعون وقومه، فإنه لا سلطان لهم بأرضنا، ولسنا في مملكتهم، أو المعنى: قَبِل الله دعاءك في قولك: ﴿نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.
وفيه (٢): إشارة إلى أن مَنْ وقع في الخوف يقال له: ﴿لَا تَخَفْ﴾ كما أن من وقع في الأمن يقال له: خف، وقال أويس القرني - رحمه الله تعالى -: كن في
(٢) روح البيان.
ثم إن موسى قد تربى عند فرعون بالنعمة الظاهرة، ولما هاجر إلى الله، وقاسى مشاق السفر والغربة عوَّضه الله عند شعيب النعمة الظاهرة والباطنة، وقد قيل:
سَافِرْ تَجِدْ عِوَضًا عَمَّن تُفَارِقُهُ | وَانْصَبْ فَإِنَّ اكْتِسَابَ الْمَجْدِ فِيْ النَّصَبِ |
فَالأُسْدُ لَوْلَا فِرَاقُ الْخِيْسِ مَا افْتَرَسَتْ | وَالسَّهْمُ لَوْلَا فِرَاقُ الْقَوْسِ لَمْ يُصِبِ |
بِلَادُ اللهِ وَاسِعَةٌ فَضَاءً | وَرِزْقُ اللهِ فِيْ الدُّنْيَا فَسِيْحُ |
فَقُلْ لِلْقَاعِدِيْنَ عَلَى هَوَانٍ | إِذَا ضَاقَتْ بِكُمْ أَرْضٌ فَسِيْحُوْا |
٢٦ - ولما أمَّنه وطمأنه على نفسه دار الحديث، وكان ذا شجون و ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا﴾؛ أي: قالت واحدة من البنتين، وهي الكبرى التي استدعته إلى أبيها، وهي التي تزوجها موسى ﴿يَا أَبَتِ﴾؛ أي: يا أبي ويا والدي ﴿اسْتَأْجِرْهُ﴾ لنا؛ أي: اتخذ موسى أجيرًا لرعي الغنم، والقيام بأمرها.
وفيه (١): دليل على أن الإجارة كانت عندهم مشروعة، وقد اتفق على جوازها ومشروعيتها جميع علماء الإِسلام إلا الأصم، فإنه من سماع أدلتها أصم.
وجملة قوله: ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ تعليل لما وقع منها من الإرشاد لأبيها إلى استئجار موسى؛ أي: إنه حقيق باستئجارك له، لكونه جامعًا
ورُوي: أن أباها قال لها: ما رأيت من قوته وأمانته، فأخبرته بالأمر الذي كان، قالت: أما قوته فإنه قلب الحجر وحده، وكان لا يقلبه إلا النفر، وأما أمانته، فإنه قال: امشي خلفي وأرشديني الطريق، لأني امرؤ من عنصر إبراهيم، لا يحل لي منك ما حرمه الله تعالى.
فخصَّت (١) هاتين الخصلتين بالذكر، لأنها كانت تحتاج إليهما في ذلك الوقت، أما القوة فلسقي الماء، وأما الأمانة فلحفظ البصر، وصيانة النفس عنها، كما قال يوسف عليه السلام: ﴿إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ لأن الحفظ والعلم كان محتاجًا إليهما، أما الحفظ فلأجل ما في خزانة الملك، وأما العلم فلمعرفة ضبط الدخل والخرج، واللام في القوي الأمين للجنس، لا للعهد، فيكون موسى مندرجًا تحته، ولا يخفى أن مقالها من جوامع الكلم والحكمة البالغة، لأنه متى اجتمعت هاتان الصفتان: الأمانة والكفاية في القائم بأداء أمر من الأمور تكلل عمله بالظفر، وكفل له أسباب النُّجْح، وقيل القوي في دينه، الأمين في جوارحه.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أفرس الناس ثلاثة: بنت شعيب، وصاحب يوسف في قوله: ﴿عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾، وأبو بكر في عمر.
٢٧ - قال المفسرون: فرغب فيه شعيب فـ ﴿قَالَ﴾ له ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ﴾؛ أي: أزوجك يا موسى ﴿إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ﴾؛ أي: الحاضرتين أمامك، فانظر من يقع اختيارك عليها منهما، وفيه مشروعية عرض وليِّ المرأة لها على الرجل، وهذه سنة ثابتة في الإِسلام، كما ثبت من عرض عمر لابنته حفصة على أبي بكر وعثمان. والقصة معروفة.
﴿عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي﴾ نفسك أو على أن تكون أجيرًا لي ﴿ثَمَانِيَ حِجَجٍ﴾؛ أي: ثماني سنوات ترعى لي فيها غنمي؛ أي: حال كونك مشروطًا عليك أن تكون لي
﴿فَإِنْ أَتْمَمْتَ﴾ الثاني السنين التي شرطتها عليك، فجعلتها ﴿عَشْرًا فـ﴾ إحسان ﴿مِنْ عِنْدِكَ﴾؛ أي: فإتمامها من عندك تفضلًا، لا من عندي إلزامًا عليك، ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ﴾؛ أي: وما أحب أن أشاقك بمناقشة، أو مراعاة أوقات، ولا إتمام عشر، ولا غير ذلك.
ثم رغبه في قبول الإجارة فقال: وإنك ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ في حسن الصحبة، والوفاء بالعهد ولين الجانب؛ أي: ممن تحسن صحبتهم، ويوفون بما تريد من خير لك ولنا، وقيل (٢): أراد بالصلاح على العموم، فيدخل صلاح المعاملة في تلك الإجارة تحت الآية دخولًا أوليًا.
ومراده بالاستثناء (٣): التبرك به، وتفويض الأمر إلى توفيقه، لا تعليق صلاحه بمشيئته تعالى، وقرأ ورش أحمد بن موسى عن أبي عمرو: ﴿أنكحك احْدَى﴾ بحذف الهمزة، ذكره أبو حيان.
واعلم: أن قوله: ﴿عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ﴾ شرط، وليس بصداق، لقوله: تأجرني نفسك، دون تأجرها نفسك. ويجوز أن يكون النكاح جائزًا في تلك الشريعة بشرط أن يكون منعقد العمل في المدة المعلومة لولي المرأة، كما. يجوز في شريعتنا، بشرط رعي غنمها في مدة معلومة.
واعلم: أن المهر لا بد وأن يكون مالًا متقومًا؛ أي: في شريعتنا لقوله تعالى: ﴿أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ﴾ وأن يكون مسلمًا إلى المرأة لقوله تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ﴾ فلو تزوجها على تعليم القرآن، أو خدمته لها سنة يصح النكاح، ولكن يصار إلى مهر المثل، لعدم تقويم التعليم والخدمة، هذا إن كان الزوج
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
واعلم: أن في فرار موسى من فرعون إلى شعيب إشارة إلى أنه ينبغي لطالب الحق أن يسافر من مقام النفس الأمارة إلى عالم القلب، ويفر من سوء قرين، كفرعون إلى خير قرين كشعيب، ويخدم المرشد بالصدق والثبات.
تنبيه: قوله تعالى: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ قاله هنا (١) بلفظ الصالحين، وفي الصافات بلفظ ﴿الصَّابِرِينَ﴾ حيث قال: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ لأن ما هنا من كلام شعيب، وهو المناسب للمعنى هنا، إذ المعنى ستجدني من الصالحين في حسن العشرة والوفاء بالعهد، وما هناك من كلام إسماعيل، وهو المناسب للمعنى، ثم إذ المعنى ستجدني من الصابرين على الذبح.
٢٨ - ثم ذكر جواب موسى بقوله: ﴿قَالَ﴾ موسى عليه السلام لشعيب ﴿ذَلِكَ﴾ الذي قلته وعاهدتني فيه، وشارطتني عليه قائم وثابت ﴿بَيْنِي وَبَيْنَكَ﴾ جميعًا، لا أنا أخرج عما شرطت عليَّ، ولا أنت تخرج عما شرطت على نفسك، ﴿أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ﴾ الثمانية الأعوام والعشرة الأعوام، فأي شرطية (٢)، منصوبة بـ ﴿قَضَيْتُ﴾، وما زائدة مؤكدة لإبهام أي في شياعها، والأجل مدة الشيء.
والمعنى: أي الأجلين أكثرهما أو أقصرهما ﴿قَضَيْتُ﴾ وأتممت ووفيتك بأداء الخدمة فيه، وجواب الشرط قوله: ﴿فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ﴾؛ أي: لا تعدي علي، ولا تجاوز بطلب الزيادة، فكما لا أطالب بالزيادة على العشر لا أطالب بالزيادة
(٢) روح البيان.
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَى مَا نَقُولُ﴾ من الشروط الجارية بيننا ﴿وَكِيلٌ﴾؛ أي: شاهد وحفيظ، فلا سبيل لأحد منا إلى الخروج عنه أصلًا. فجمع شعيب المؤمنين من أهل مدين، وزوجه ابنته صفورياء، ودخل موسى البيت، وأقام يرعى غنم شعيب عشر سنين، كما في "فتح الرحمن".
وقرأ الحسن والعباس عن أبي عمرو (١): ﴿أيما﴾ بحذف الياء الثانية، كما قال الشاعر:
تَنَظَّرْتُ نَصْرًا وَالسِّمَاكَيْنِ أَيَمَا | عَلَيَّ مِنَ الْغَيْثِ اسْتَهَلَّتْ مَوَاطِرُهْ |
قال الزمخشري: فإن قلت: ما الفرق بين موقع المزيدة في القراءتين؟
قلت: وقعت في المستفيضة مؤكدة لإبهام أي زائدة في شياعها، وفي الشاذة تأكيدًا للقضاء، كأنه قال: أي الأجلين صممت على قضائه، وجرَّدتُ عزيمتي له، وقرأ أبو حيوة وابن قطيب: ﴿فلا عدوان﴾ بكسر العين.
قال أبو حيان (٢): وظاهر قوله: ﴿أَنْ أُنْكِحَكَ﴾ أن الإنكاح إلى الولي، لا حق للمرأة فيه، خلافًا لأبي حنيفة في بعض صوره، بأن تكون بالغة عالمة بمصالح نفسها، فإنها تعقد على نفسها بمحضر من الشهود.
وفيه دليل على عرض الولي وليته على الزوج، وقد فعل ذلك عمر، كما مر، ودليل على تزويج ابنته البكر من غير استئمار، وبه قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: إذا بلغت البكر فلا تزوج إلا برضاها، قيل: وفيه دليل على قول من قال: لا ينعقد النكاح إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج، وبه قال ربيعة والشافعي
(٢) البحر المحيط.
رُوي (١): أنه لما أتم العقد قال شعيب لموسى: ادخل ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصي، وكانت عنده عصيُّ الأنبياء، فأخذ عصًا هبط بها آدم من الجنة، ولم يزل الأنبياء يتوارثونها حتى وصلت إلى شعيب، فمسَّها وكان مكفوفًا، فلم يرضها له خوفًا من أن لا يكون أهلًا لها، وقال: غيرها، فما وقع في يده إلا هي سبع مرات، فعلِمَ أن لموسى شأنًا، وحين خرج للرعي قال له شعيب: إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ عن يمينك، فإن الكلأ وإن كان بها أكثر إلا أن فيها تنينًا - التنين بوزن السكيت: الحية العظيمة، كما في "القاموس" - أخشى منه عليك وعلى الغنم، فأخذت الغنم ذات اليمين، ولم يقدر على كفها، ومشى على أثرها، فإذا عشب وريف لم يُرَ مثله فنام، فإذا بالتنين قد أقبل، فحاربته العصا حتى قتلته، وعادت إلى جنب موسى دامية، فلما أبصرها دامية والتنين مقتولًا.. سُرَّ، ولما رجع إلى شعيب أخبره بالشأن، ففرح شعيب، وعلم أن لموسى والعصا شأنًا، وقال: إني وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كل أدرع، ودرعاء - أبلق وبلقاء - والدرع البياض في صدور الشاء ونحورها، فأوحى الله سبحانه إليه في المنام: أن اضرب بعصاك الماء الذي هو في مستقى الأغنام، ففعل ثم سقى فما أخطأت واحدة إلا وضعت أدرع ودرعاء، فعلم شعيب أن ذلك رزق ساقه الله تعالى إلى موسى وامرأته، فوفى له بالشرط، وسلَّم إليه الأغنام، قال أبو الليث: مثل هذا الشرط في شريعتنا غير واجب، إلا أن الوعد من الأنبياء واجب، فوفاه بوعده. انتهى.
﴿وَسَارَ﴾ موسى وذهب بإذن شعيب نحو مصر، لصلة رحمه وزيارة أمه وأخيه وأخته، حالة كونه متلبسًا ﴿بِأَهْلِهِ﴾؛ أي: بزوجته صفورياء وولده منها - فإنها ولدت منه قبل السير - والخادم، وفيه دليل على أن الرجل يذهب بأهله حيث شاء، وكان في البرية والليلة مظلمة باردة، فضرب خيمته على الوادي، وأدخل أهله فيها، وأوى أغنامه حولهم، وقد كان ساقها معه، وكانت امرأته حاملًا، فأخذها الطلق فأراد أن يقدح، فلم يظهر له نار فاغتم لذلك، فحينئذٍ ﴿آنَسَ﴾ وأبصر ﴿مِنْ جَانِبِ﴾ جبل ﴿الطُّورِ نَارًا﴾؛ أي: من الجهة التي تلي جبل الطور على يسار الطريق نارًا مضيئة، قال بعضهم: أبصر نارًا دالة على الأنوار، لأنه رأى النور على هيئة النار، لكون مطلبه النار، والإنسان يميل إلى الأشياء المعهودة المأنوسة، ولا تخلو النار من الاستئناس خاصة في الشتاء، وكان شتاء، تجلِّى الحق بالنور في لباس النار على حسب إرادة موسى، وهذه سنته تعالى، ألا ترى إلى جبريل أنه عَلِمَ أن النبي عليه السلام أحب دحية، فكان أكثر مجيئه إليه في صورة دحية.
فلما آنس نارًا ﴿قَالَ﴾ موسى ﴿لِأَهْلِهِ امْكُثُوا﴾ هاهنا، واثبتوا فيه، وانتظروني حتى أرجع إليكم فـ ﴿إِنِّي آنَسْتُ﴾ وأبصرت ﴿نَارًا﴾ مضيئة من جانب الطور، فـ ﴿لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا﴾؛ أي: من عند النار ﴿بِخَبَرٍ﴾ الطريق إلى مصر، وقد كان
وقرأ حمزة (١): ﴿لأهله امكثوا﴾ في الوصل بضم الهاء، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ﴿إني﴾ بفتح الياء، وقرأ الجمهور (٢): ﴿جذوة﴾ بكسر الجيم، وقرأ حمزة ويحيى بن وثاب والأعمش وطلحة وأبو حيوة: بضمها، وقرأ عاصم والسلمي وذر بن حبيش: بفتحها.
ومعنى الآية (٣): أي فلما وفي موسى الأجل الذي اتفق عليه مع حميه تحمَّل بأهله، وما كان معه من الغنم التي وهبها له صهره، وسلك بهم الطريق في ليلة مطيرة وظلمة باردة، ونزل منزلًا، فجعل كلما أورى زنده لا يضيء شيئًا، فعجب لذلك، وبينا هو كذلك رأى نارًا تضىء عن بُعد، فقال لأهله: انتظروا قليلًا إني أبصرت نارًا، لعلي آتيكم منها بخبر الطريق، وكانوا قد ضلوا عنه، أو آتيكم بقطعة من الحطب فيها نار، لتستدفئوا بها من البرد، وكان الوقت شتاء، فترك موسى أهله في المنزل الذي أنزلهم فيه، وذهب إلى النار التي أبصرها.
٣٠ - ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا﴾؛ أي: أتى النار التي أبصرها وجاءها ﴿نُودِيَ﴾ موسى ﴿مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ﴾؛ أي: من طرف الوادي وجانبه، وقوله: ﴿الْأَيْمَنِ﴾ صفة للشاطىء، وهو إما من اليُمْنِ بمعنى البركة، لكونه مباركًا فيه على موسى، أو من اليمين المقابل لليسار بالنسبة إلى موسى؛ أي: من الطرف الذي يلي يمينه دون يساره؛ أي: أتاه النداء من الطرف الأيمن من الوادي.
وقوله: ﴿فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ﴾ متعلق بنودي؛ أي: نودي موسى في البقعة المباركة على موسى، والبقعة قطعة من الأرض لا شجر فيها، كما سيأتي في مباحث اللغة، وُصفت بكونها مباركة، لأنه حصل فيها ابتداء الرسالة، وتكليم الله
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
وقرأ الجمهور (١): ﴿فِي الْبُقْعَةِ﴾ بضم الباء، وقرأ أبو سلمة والأشهب العقيلي ومسلمة: بفتحها، وهي لغة حكاها أبو زيد، قال: سمعت العرب تقول هذه بقعة طيِّبة بفتح الباء.
وقوله: ﴿مِنَ الشَّجَرَةِ﴾ بدل اشتمال من شاطىء الواد، لأنها كانت ثابتة على الشاطىء، وبقيت إلى عهد هذه الأمة، كما في "كشف الأسرار"، وكانت (٢) عُنَّابًا أو سمرة أو سدرة أو زيتونًا أو عوسجًا، والعوسج إذا عظم يقال له الغرقد، بالغين المعجمة. وفي الحديث: "إنها شجرة اليهود ولا تنطق" يعني إذا نزل عيسى وقتل اليهود فلا يختفي منهم أحد تحت شجرة إلا نطقت، وقالت: يا مسلم هذا يهودي فاقتله إلا الغرقد، فإنه من شجرهم فلا ينطق، كما في "التعريف والأعلام" للإمام السهيلي.
﴿أَنْ﴾ مفسرة بمعنى أي، ﴿يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: أنا الله الذي ناديتك ودعوتك باسمك، وأنا رب الخلائق أجمعين، وهذا أول كلامه لموسى، وهو وإن خالف لفظًا لما في طه والنمل لكنه موافق له في المعنى المقصود، ويجوز (٣) أن تكون أن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن، وجملة النداء مفسرة له. والأول أولى.
وقرأ الجمهور بكسرة همزة ﴿إني﴾ على إضمار القول، أو على تضمين النداء، معناه: وقُرىء بالفتح فهي معمولة لفعل مضمر، تقديره: أي يا موسى اعلم أني أنا الله رب العالمين.
ومعنى الآية: أي فلما جاء إلى النار التي أبصرها من جانب الطور ناداه ربه من جانب الوادي الأيمن؛ أي: عن يمين موسى في البقعة المباركة من ناحية
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
٣١ - ثم أمره الله سبحانه أن يُلقي عصاه لديه آية على نبوته، فقال: ﴿وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ﴾ معطوف على ﴿أَنْ يَا مُوسَى﴾، وكلاهما مفسِّر لـ ﴿نُودِيَ﴾، أي: ونودي أن ألق واطرح من يدك عصاك، فألقاها فصارت حية فاهتزت.
﴿فَلَمَّا رَآهَا﴾؛ أي: فلما رأى موسى عصاه حية ﴿تَهْتَزُّ﴾؛ أي: تتحرك تحركًا شديدًا حالة كونها ﴿كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾؛ أي: حية صغيرة في سرعة الحركة، مع عظم جسمها، أو في الهيئة والجثة، فإنها إنما كانت ثعبانًا عند فرعون، والجان حية كحلاء العين لا تؤذي، كثيرة في الدور، ﴿وَلَّى﴾؛ أي: أعرض عنها حالة كونه ﴿مُدْبِرًا﴾؛ أي: منهزمًا وهاربًا من الخوف.
﴿وَ﴾ حالة كونه ﴿لَمْ يُعَقِّبْ﴾ ولم يرجع إليها، ولم يلتفت، فنودي ﴿يَا مُوسَى أَقْبِلْ﴾ إليها وارجع ﴿وَلَا تَخَفْ﴾ منها ﴿إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ﴾ من شرها، فإني لا يخاف لدي المرسلون، فأخذها موسى فإذا هي عصا كما كانت.
فإن قلت (١): ما الفائدة في إلقائها؟
فلتُ: أن يألفها ولا يخافها عند فرعون إذا ناظره بقلب العصا وغيره من المعجزات، كما في "الأسئلة المقحمة"، وقيل: المعنى أقبل إليَّ يا موسى ولا تخف مما تهرب منه، فإنك آمن من أن ينالك سوء، إنما هي عصاك، أردنا أن نريك فيها آية كبرى، لتكون عونك لدى الطاغية الجبار فرعون ملك مصر.
وفيه (٢): إشارة إلى إلقاء كل متوكأ، غير الله، فمن اتكأ على الله أمن، ومن اتكأ على غيره وقع في الخوف، ريقال: شتَّان ما بين نبينا محمد - ﷺ - وبين موسى عليه السلام، موسى رجع من سماع الخطاب، وأتى بثعبان سلَّطه على عدوه، ونبينا عليه السلام أُسري به إلى محل الدنو فأوحي إليه ما أوحي، ورجع وأتى
(٢) روح البيان.
٣٢ - ثم أراه آية أخرى زيادة في طمأنينته، وأمره بقوله: ﴿اسْلُكْ يَدَكَ﴾؛ أي (١): ادخل كفك اليمين ﴿فِي جَيْبِكَ﴾؛ أي: في طرق قميصك وأخرجها ﴿تَخْرُجْ﴾ تلك اليد إذا أخرجتها حالة كونها ﴿بَيْضَاءَ﴾ لها ضوء كضوء الشمس ﴿مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ وعيب كالبرص، وقيل (٢): المعنى ﴿اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ﴾؛ أي: أدخلها في مِدْرعتك، وهي ثوب من صوف يُلبس بدل القميص، ولا يكون له كم بل ينتهي كمه عند المرفقين، ثم أخرجها ﴿تَخْرُجْ بَيْضَاءَ﴾؛ أي: حال كونها مضيئة مشرقة لها شعاع كشعاع الشمس ﴿مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ وعيب منفَّر كالبرص ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾ أي: وأدخل الكف اليمين التي حصل فيها البياض في جيبك. ﴿مِنَ الرَّهْبِ﴾ أي: لأجل إزالة الرهب والخوف والفزع الحاصل لك من بياضها فتعود إلى حالها، فيزول عنك الفزع الذي حصل لك منها، فعلى هذا المعنى فلا يكون تكرارًا مع ما قبله، فالإدخال الأول لطلب بياضها، والثاني لإزالة بياضها.
وقيل: معنى ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾؛ أي: اضمم يديك المبسوطتين، تتقي بها الحية، كالخائف الفزع بإدخال اليمنى تحت عضد اليسرى، وبالعكس، أو بإدخالهما في الجيب، فيكون تكريرًا لـ ﴿اسْلُكْ يَدَكَ﴾ هو لغرض آخر، وهو أن يكون ذلك في وجه العدو إظهار جرأة، ومبدأ لظهور معجزة، ويجوز أن يكون المراد بالضم التجلد، والثبات عند انقلاب العصا حية، استعارة من حال الطائر، فإنه إذا خاف نشر جناحيه، وإذا أمن واطمأن ضمهما إليه، فعلى هذا يكون تتميمًا لمعنى ﴿إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ﴾، لا تكريرًا لـ ﴿اسْلُكْ يَدَكَ﴾، ﴿مِنَ الرَّهْبِ﴾؛ أي: من أجل الرهب؛ أي: إذا عراك الخوف فافعل ذلك تجلدًا، أو ضبطًا لنفسك.
وعبارة المراغي هنا (٣): ولما اعترى موسى الخوف من العصا تارة، ومن
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
وعبارة أبي حيان: ومعنى قوله: ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾ وقوله: ﴿اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ﴾ على أحد التفسيرين واحد، ولكن خولف بين العبارتين، وإنما كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين، وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء، وفي الثاني إخفاء الرهب.
فإن قلت: قد جعل الجناح - وهو اليد في أحد الموضعين - مضمومًا، وفي الآخر مضمومًا إليه، وذلك قوله هنا: ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾ وفي طه: ﴿وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ﴾ فما التوفيق بينهما؟.
قلت: المراد بالجناح المضموم هو اليد اليمنى، وبالمضموم إليه اليد اليسرى، وكل واحد من يمنى اليدين ويسراهما جناح.
وقرأ الحرميان نافع وابن كثير وأبو عمرو (١): ﴿من الرَهَب﴾ بفتح الراء والهاء، وحفص: بفتح الراء وسكون الهاء، وباقي السبعة: بضم الراء وإسكان الهاء، وقرأ قتادة والحسن وعيسى والجحدري بضمهما، وقال بعض أهل المعاني: الرَّهْبُ الكُمُّ، بلغة حمير وبني حنيفة، قال الأصمعي: سمعت أعرابيًا يقول لآخر: أعطني ما في رهبك، فسألته عن الرهب، فقال: الكم، فعلى هذا يكون معناه: أضمم إليك يدك، وأخرجها من الكم، ذكره الشوكاني.
والإشارة في قوله (٢): ﴿فَذَانِكَ﴾ إلى العصا واليد، وهما مؤنثان، ولكن ذكِّرا لتذكير الخبر، كما أنه قد يؤنث المذكر لتأنيث الخبر، كقراءة من قرأ {ثم
(٢) روح البيان.
ومعنى ﴿فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ...﴾ إلخ؛ أي: فما (١) تقدم من جعل العصا حية تسعى، وخروج اليد بيضاء من غير سوء، بعد وضع اليد في الجيب، دليلان واضحان على قدرة ربك، وصحة نبوة من جريا على يده، أرسلناهما إلى فرعون وملئه.
ثم أظهر العلة له في إظهار الآيات لهم بقوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾؛ أي: خارجين عن طاعة الله سبحانه، مخالفين لأمره منكرين لكل دين جاء به الرسل، فكانوا جديرين بأن نرسلك إليهم بهاتين المعجزتين الباهرتين.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (٢): ﴿فذانك﴾ بتشديد النون، وباقي السبعة: بتخفيفها، وقرأ ابن مسعود وعيسى وأبو نوفل وابن هرمز وشبل: ﴿فذانيك﴾ بياء بعد النون المكسورة، وهي لغة هذيل، وقيل: بل لغة تميم، ورواها شبل عن ابن كثير، وعنه أيضًا: ﴿فذانيك﴾ على لغة من فتح نون التثنية، نحو قوله:
عَلَى أَحْوَذِيَّيْنَ اسْتَقَلَّتْ عَشِيَّةً | فَمَا هِيَ إِلَّا لَمْحَةٌ وَتَغِيْبُ |
ولما سمع موسى قول الله سبحانه ﴿فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ طلب منه سبحانه أن يقوي قلبه
٣٣ - فـ ﴿قال﴾؛ أي: موسى يا ﴿رَبِّ﴾؛ أي:
(٢) البحر المحيط.
٣٤ - ﴿وَأَخِي هَارُونُ﴾ بن عمران ﴿هُوَ أَفْصَحُ﴾ وأبين ﴿مِنِّي لِسَانًا﴾؛ أي: كلامًا، وكان في لسان موسى عقدة من قبل الجمرة التي تناولها، وأدخلها فاه، تمنعه عن إعطاء البيان حقه، ولذلك قال فرعون ولا يكاد يبين ﴿فَأَرْسِلْهُ﴾؛ أي: فأرسل أخي هارون إلى فرعون وقومه ﴿مَعِيَ﴾ حال كونه ﴿رِدْءًا﴾؛ أي: معينًا ﴿يُصَدِّقُنِي﴾ بالرفع إما صفة لـ ﴿رِدْءًا﴾؛ أي (١): معينًا مصدقًا لي بتلخيص الحق، وتقرير الحجة وتوضيحها وتزييف الشبهة وإبطالها، لا بأن يقول له: صدقت، أو للقوم: صدِّقوه، يؤيد ذلك المعنى قوله: ﴿هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا﴾ لأن ذلك يقدر عليه الفصيح وغيره، كما في "فتح الرحمن"، أو حال من مفعول ﴿أرسله﴾، أو مستأنف، وبالجزم على جواب الأمر.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿رِدْءًا﴾ بالهمز، وأبو جعفر ونافع والمدنيَّان بحذف الهمزة، ونقل حركتها إلى الدال، والمشهور عن أبي جعفر بالنقل، ولا همز ولا تنوين، ووجهه: أنه أجرى الوصل مجرى الوقف، وقرأ عاصم وحمزة: ﴿يصدقني﴾ بضم القال، فيحتمل الأوجه الثلاثة السابقة، وقرأ باقي السبعة: بالإسكان، وقرأ أُبيُّ وزيد بن علي: ﴿يصدقوني﴾ والضمير لفرعون وقومه، قال ابن خالويه: هذا شاهد لمن جزم، لأنه لو كان رفعًا لقال: يصدقونني. انتهى، والمعنى في يصدقوني: أرجو تصديقهم إياي.
﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ﴾ ـي إذا لم يكن معي هارون، لعدم انطلاق لساني بالمحاجة؛ أي: أخاف أن يردوا كلامي، ولا يقبلوا مني دعوتي، ولساني لا يطاوعني عند المحاجة.
ومعنى الآية: أي قال موسى: يا رب إني قتلت من قوم فرعون نفسًا،
(٢) البحر المحيط.
الإعراب
﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١)﴾.
﴿وَجَاءَ رَجُلٌ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على محذوف معلوم من السياق، تقديره: فذهب القبطي الذي سمع ما قاله الإسرائيلي، وقد علم أن موسى هو قاتل القبطي الأول إلى فرعون، وأخبره بجلية الأمر، فغضب فرعون، فأمر بقتل موسى، وإلقاء القبض عليه، وجاء رجل إلى موسى بطريق أقرب من طريقهم. ﴿مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿جَاءَ﴾، أو صفة لـ ﴿رَجُلٌ﴾، وجملة ﴿يَسْعَى﴾ صفة لـ ﴿رَجُلٌ﴾، أو حال منه، إن قلنا إن الجار والمجرور فيما قبله صفة لـ ﴿رَجُلٌ﴾، لتخصصه بالصفة حينئذٍ ﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿رَجُلٌ﴾، والجملة معطوفة بعاطف مقدر على جملة ﴿جَاءَ﴾، ﴿يَا مُوسَى﴾: منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿إِنَّ الْمَلَأَ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿يَأْتَمِرُونَ﴾ خبر ﴿إنَّ﴾، و ﴿بِكَ﴾ متعلق بـ ﴿يَأْتَمِرُونَ﴾؛ أي: يتشاورون فيك، من الائتمار بمعنى التشاور، وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿لِيَقْتُلُوكَ﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿يقتلوك﴾: فعل وفاعل ومفعول به منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لقتلهم إياك، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يَأْتَمِرُونَ﴾. ﴿فَاخْرُجْ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما قلت لك، وأردت بيان ما
﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (٢٢)﴾.
﴿وَلَمَّا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لمّا﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿تَوَجَّهَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿مُوسَى﴾، والجملة فعل شرط للما، لا محل لها من الإعراب، ﴿تِلْقَاءَ مَدْيَنَ﴾: ظرف مكان ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَوَجَّهَ﴾، و ﴿مَدْيَنَ﴾: ممنوع الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿مُوسَى﴾، والجملة جواب ﴿لَمَّا﴾، وجملة ﴿لَمَّا﴾ مستأنفة، ﴿عَسَى﴾: فعل ماض جامد من أفعال الرجاء، ﴿رَبِّي﴾: اسمها، ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿يَهْدِيَنِي﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر ونون وقاية، ومفعول به، ﴿سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾: منصوب بنزع الخافض، أو مفعول ثان على
﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣)﴾.
﴿وَلَمَّا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لَمَّا﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿وَرَدَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿مُوسَى﴾، ﴿مَاءَ مَدْيَنَ﴾: مفعول به، ومضاف إليه، مجرور بالفتحة، لأنه اسم لا ينصرف، والمانع له من الصرف العلمية والتأنيث المعنوي، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، ﴿وَجَدَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر، ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿وَجَدَ﴾؛ لأن وجد هنا بمعنى لقي، يتعدى لمفعول واحد، ﴿أُمَّةً﴾: مفعول به لـ ﴿وَجَدَ﴾، ﴿مِنَ النَّاسِ﴾: صفة لـ ﴿أُمَّةً﴾، وجملة ﴿يَسْقُونَ﴾ صفة ثانية لـ ﴿أُمَّةً﴾، وجملة ﴿وَجَدَ﴾ جواب ﴿لَمَّا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَمَّا﴾ معطوفة على جملة ﴿لَمَّا﴾ الأولى. ﴿وَوَجَدَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف على جملة ﴿وَجَدَ﴾ الأولى، ﴿مِنْ دُونِهِمُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿وَجَدَ﴾؛ أي: في مكان أسفل منهم، ﴿امْرَأَتَيْنِ﴾ مفعول به، وجملة ﴿تَذُودَانِ﴾ صفة لـ ﴿امْرَأَتَيْنِ﴾، ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف بعاطف مقدر على ﴿وَجَدَ﴾ الثاني؛ أي: فقال لهما، ﴿مَا﴾: اسم استفهام للاستفهام الاستخباري، في محل الرفع مبتدأ، ﴿خَطْبُكُمَا﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿قَالَتَا﴾ ﴿قال﴾: فعل ماض، و ﴿التاء﴾ علامة تأنيث الفاعل، وحركت بالفتح لمناسبة ألف التثنية، والألف فاعل، والجملة مستأنفة، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿نَسْقِي﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَتَا﴾، ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية، ﴿يُصْدِرَ﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد ﴿حَتَّى﴾، بمعنى إلى، ﴿الرِّعَاءُ﴾: فاعل مرفوع، والجملة في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾
﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤)﴾.
﴿فَسَقَى﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع، ﴿سقى﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿مُوسَى﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿قَالَتَا﴾، ﴿لَهُمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿سقى﴾، ومفعول السقي محذوف؛ أي: فسقى غنمهما لأجلهما، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب، ﴿تَوَلَّى﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف على ﴿سقى﴾، ﴿إِلَى الظِّلِّ﴾: متعلق بـ ﴿تَوَلَّى﴾. ﴿فَقَالَ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة، ﴿قال﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿مُوسَى﴾، معطوف على ﴿تَوَلَّى﴾. ﴿رَبِّ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه، ﴿لِمَا﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر، ﴿ما﴾: اسم موصول، أو موصوفة في محل الجر باللام، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿فَقِيرٌ﴾، ﴿أَنْزَلْتَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: لما أنزلته، ﴿إِلَيَّ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَنْزَلْتَ﴾، ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾: حال من ﴿ما﴾، أو من العائد المحذوف، ﴿فَقِيرٌ﴾: خبر ﴿إن﴾، وعدي ﴿فَقِيرٌ﴾ باللام، لأنه ضمن معنى سائل، أو طالب، وإلا فهو يتعدى بإلى، و ﴿أَنْزَلْتَ﴾ بمعنى المضارع، والتقدير: يا رب إني فقير؛ أي: سائل وطالب لما تنزله إلى، حال كونه من خير ورزق.
﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥)﴾.
﴿فَجَاءَتْهُ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة على محذوف يفهم من سياق الكلام، تقديره: فرجعتا إلى أبيهما، في زمن أقل مما يرجعان إليه في العادة، فسألهما عن سبب
﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦)﴾.
﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على شعيب، والجملة مستأنفة، ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه، ﴿أُرِيدُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قال﴾، ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿أُنْكِحَكَ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول أول، ﴿إِحْدَى﴾: مفعول ثان، والجملة الفعلية مع ﴿أَنْ﴾ المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، والتقدير: إني أريد إنكاحي إياك إحدى ابنتي، ﴿إِحْدَى﴾ مضاف، ﴿ابْنَتَيَّ﴾: مضاف إليه مجرور بالياء المدغمة في ياء المتكلم، لأنه من المثنى. ﴿ابْنَتَيَّ﴾ مضاف، وياء المتكلم في محل الجر مضاف إليه، ﴿هَاتَيْنِ﴾: صفة لـ ﴿ابْنَتَيَّ﴾، والإشارة لتمييزهما من بين بقية أخواتهما، فقد كان له - كما يروى - سبع بنات، ﴿عَلَى﴾: حرف جر، ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿تَأْجُرَنِي﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أن﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾، والنون للوقاية، والياء ضمير المتكلم في محل النصب مفعول أول، والثاني محذوف، تقديره: نفسك، ﴿ثَمَانِيَ حِجَجٍ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق
﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨)﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ما﴾: نافية، ﴿أُرِيدُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، والجملة معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الشرطية، ﴿أَنْ أَشُقَّ﴾: ناصب وفعل منصوب، وفاعل مستتر، في تأويل مصدر على المفعولية، والتقدير: وما أريد إدخال المشقة عليك، ﴿عَلَيْكَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَشُقَّ﴾، ﴿سَتَجِدُنِي﴾ ﴿السين﴾: حرف استقبال لتأكيد الاستقبال، ﴿تجدني﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر، ونون وقاية، ومفعول به، معطوف على ما قبله، ﴿إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم على كونه فعل شرط لها، والجواب محذوف، تقديره: إن شاء الله تجدني صالحًا، والجملة معترضة جيء بها للتبرك، ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾: متعلق بـ ﴿تجدني﴾، أو حال من الياء في ﴿تجدني﴾، أو مفعول ثان لوجد. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿مُوسَى﴾، والجملة مستأنفة، ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ، ﴿بَيْنِي وَبَيْنَكَ﴾: ظرف متعلق بمحذوف، خبر المبتدأ، تقديره:
﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف معلوم من السياق، تقديره: فتم العقد على النكاح والإجارة، ومارس موسى العمل المشروط عليه في الأجل المضروب، ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، ﴿وَسَارَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف على ﴿قَضَى﴾، ﴿بِأَهْلِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿سار﴾، أو حال من فاعل ﴿سار﴾؛ أي: متلبسًا بأهله، ﴿آنَسَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿مُوسَى﴾، والجملة جواب ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لما﴾ معطوفة على تلك المحذوفة، ﴿مِنْ جَانِبِ الطُّورِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿آنَسَ﴾، أو حال من ﴿نَارًا﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، ﴿نَارًا﴾: مفعول به. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف بعاطف مقدر على ﴿آنَسَ﴾، ﴿لِأَهْلِهِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿قال﴾؛
﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٣٠)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف يقتضيه المقام، تقديره: فسار إليها، ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿أَتَاهَا﴾: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾، ﴿نُودِيَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعل مستتر يعود على ﴿مُوسَى﴾، والجملة جواب ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لما﴾ معطوفة على تلك المحذوفة. ﴿مِنْ شَاطِئِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿نُودِيَ﴾، ﴿شَاطِئِ﴾: مضاف، ﴿الْوَادِ﴾: مضاف إليه مجرور بكسرة مقدرة على الياء المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين، وحُذفت في الخط تبعًا للفظ في الرسم العثماني، ﴿الْأَيْمَنِ﴾: صفة لـ ﴿شَاطِئِ﴾، ﴿فِي الْبُقْعَةِ﴾: حال من ﴿شَاطِئِ﴾، ﴿الْمُبَارَكَةِ﴾: صفة لـ ﴿الْبُقْعَةِ﴾، ﴿مِنَ الشَّجَرَةِ﴾: بدل من قوله: ﴿مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ﴾ بدل اشتمال، لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطىء؛ أي: أتاه النداء من شاطىء الوادي من قبل الشجرة، ﴿أَنْ﴾: مفسرة بمعنى أي، لأن النداء قول، والتقدير: أي يا موسى، وأجاز أبو البقاء وغيره أن تكون مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف يفسره جملة النداء؛ أي: نودي بأنه؛ أي: الشأن، ﴿يَا مُوسَى﴾: منادى
﴿وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١)﴾.
﴿وَأَنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، و ﴿أن﴾: مفسرة معطوفة على ﴿أَنْ يَا مُوسَى﴾، ﴿أَلْقِ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على ﴿مُوسَى﴾، ﴿عَصَاكَ﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿أَنْ يَا مُوسَى﴾ على كونها مفسرة للنداء. ﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف يقتضيه السياق، تقديره: فألقاها فصارت ثعبانًا، فلما رآها تهتز إلخ، ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿رَآهَا﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿مُوسَى﴾ ومفعول به، لأن رأى هنا بصرية، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لما﴾، لا محل لها من الإعراب، ﴿تَهْتَزُّ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على العصا، والجملة في محل النصب حال من مفعول ﴿رَآهَا﴾، ﴿كَأَنَّهَا﴾: ناصب واسمه، ﴿جَانٌّ﴾: خبره، وجملة ﴿كأن﴾ في محل النصب حال من فاعل ﴿تَهْتَزُّ﴾، ﴿وَلَّى﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿مُوسَى﴾، ﴿مُدْبِرًا﴾: حال من فاعل ﴿وَلَّى﴾، وجملة ﴿وَلَّى﴾: جواب ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لما﴾ معطوفة على تلك الجملة المحذوفة. ﴿وَلَمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لم﴾: حرف جزم، ﴿يُعَقِّبْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَلَّى﴾، ﴿يَا مُوسَى﴾: منادى مفرد العلم، وجملة النداء معمول لمحذوف، تقديره: فنودي يا موسى، ﴿أَقْبِلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر، والجملة الفعلية جواب النداء لا محل لها من الإعراب، ﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾: ناهية جازمة، ﴿تَخَفْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَقْبِلْ﴾، ﴿إِنَّكَ﴾: ناصب واسمه، ﴿مِنَ الْآمِنِينَ﴾: جار ومجرور خبر ﴿إن﴾،
﴿اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (٣٢)﴾.
﴿اسْلُكْ يَدَكَ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على قوله: ﴿أَلْقِ عَصَاكَ﴾ بعاطف مقدر؛ لأنه من جملة ما نودي به، ﴿فِي جَيْبِكَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿اسْلُكْ﴾، ﴿تَخْرُجْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على اليد، مجزوم بالطلب السابق، ﴿بَيْضَاءَ﴾: حال من فاعل ﴿تَخْرُجْ﴾، ﴿مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿بَيْضَاءَ﴾، أو صفة له. ﴿وَاضْمُمْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر معطوف على ﴿اسْلُكْ﴾، ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق به. ﴿جَنَاحَكَ﴾: مفعول به، ﴿مِنَ الرَّهْبِ﴾: متعلق بـ ﴿اضمم﴾ على سبيل التعليل له؛ أي: من أجل الرهب، وقيل: بـ ﴿وَلَّى﴾؛ أي: هرب من الفزع، وقيل: بـ ﴿مُدْبِرًا﴾، وقيل: بمحذوف؛ أي: يسكن من الرهب. ﴿فَذَانِكَ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره إذا امتثلت ما أمرناك به، وأردت بيان حكمته فأقول لك ذانك إلخ. ﴿ذانك﴾: اسم إشارة، يشار به إلى المثنى المذكر القريب، في محل الرفع مبتدأ، مبني على الألف لكونه على صورة المثنى، أو مبني على الكسر، و ﴿الكاف﴾: حرف دال على الخطاب، ﴿بُرْهَانَانِ﴾: خبر مرفوع بالألف، ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿بُرْهَانَانِ﴾؛ أي: مرسلان من ربك، ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ﴾: متعلق بمرسلان، ﴿وَمَلَئِهِ﴾: معطوف على ﴿فِرْعَوْنَ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿إِنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، ﴿كَانُوا قَوْمًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، ﴿فَاسِقِينَ﴾ صفة ﴿قَوْمًا﴾، وجملة ﴿كان﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل إرسال البرهانين.
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿مُوسَى﴾، والجملة مستأنفة،
﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤)﴾.
﴿وَأَخِي﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿أخي﴾: مبتدأ ومضاف إليه، ﴿هَارُونُ﴾: بدل عنه، أو عطف بيان له، ﴿هُوَ﴾: مبتدأ ثان، ﴿أَفْصَحُ﴾: خبر له، ﴿مِنِّي﴾: متعلق بـ ﴿أَفْصَحُ﴾، ﴿لِسَانًا﴾: تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل، وجملة المبتدأ الثاني مع خبره خبر للمبتدأ الأول. وجملة الأول معطوفة على جملة ﴿إن﴾. ﴿فَأَرْسِلْهُ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة تفريعية، ﴿أرسله﴾: فعل دعاء، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، ﴿مَعِيَ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿أرسله﴾، والجملة الفعلية معطوفة مفرعة على جملة قوله: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا﴾، ﴿رِدْءًا﴾: حال من مفعول ﴿أرسله﴾؛ أي: حالة كونه عونًا لي على تبليغ الرسالة، ﴿يُصَدِّقُنِي﴾: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم على قراءة الرفع، أو مجزوم بالطلب السابق على قراءة الجزم، وفاعله ضمير مستتر يعود على ﴿أخي﴾، والنون للوقاية، والياء مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَجَاءَ رَجُلٌ﴾ اسمه حزقيل، وقيل: شمعون، وقيل: سمعان، وهو الذي ذكر في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ...﴾ إلخ. ﴿مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ﴾؛ أي: أبعدها مكانًا، يقال: قصوت عنه وأقصيت: أبعدت، والقصي البعيد، ﴿يَسْعَى﴾؛ أي: يسرع في مشيه.
﴿إِنَّ الْمَلَأَ﴾ الملأ أشرات الدولة ووجوهها، ﴿يَأْتَمِرُونَ﴾؛ أي: يتشاورون من الائتمار، وهو التشاور، يقال: الرجلان يتآمران ويأتمران بمعنى واحد، لأن كل واحد فيهما يأمر صاحبه بشيء، أو يشير عليه بأمر. وقيل: معناه يأمر بعضهم بعضًا بقتلك، ولعل هذا أوضح. وقد أورد صاحب "التاج" المعنيين، قال: "ائتمروا وتآمروا: تشاوروا، وائتمروا بفلان هموا به، وأمر بعضهم بعضًا بقتله، وقال الأزهري: ائتمر القوم وتآمروا إذا أمر بعضهم بعضًا، كما قال: ﴿وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾ " وقال النمر بن تولب:
أرَى النَّاسَ قَدْ أَحْدَثُوْا شِيْمَةً | وَفِيْ كُلِّ حَادِثَةٍ يُؤْتَمَرْ |
﴿مَاءَ مَدْيَنَ﴾ والمراد بماء مدين البئر التي كانوا يستقون منها، ومدين بلدة على بحر القلزم، محاذية لتبوك، فيها البئر التي استقى منها موسى عليه السلام، ﴿تَذُودَانِ﴾؛ أي: تطردان أغنامهما عن الماء خوفًا من السقاة الأقوياء، ومنه قول الشاعر:
لَقَدْ سَلَبَتْ عَصَاكَ بَنُوْ تَمِيْمٍ | فَمَا تَدْرِيْ بِأَيِّ عَصَا تَذُوْدُ |
﴿حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ﴾ الصدر عن الشيء الرجوع عنه، يقال في فعله: صدر من باب ضرب ونصر ودخل، والصدر بفتحتين اسم مصدر منه، ويتعدى بنفسه، فيقال صدره غيره؛ أي: رجَّعه وردَّه، ويُستعمل رباعيًا، فيقال: أصدره غيره. اهـ. من "القاموس" و"المختار".
والرعاء جمع راع على غير قياس؛ لأن فاعلًا - الوصف المعتل اللام، كقاض - قياسه فُعَلَةٌ، كقضاة ورُماة، خلافًا للزمخشري في قوله: إنه جمع راع على فعال قياس، كصيام وقيام، قال ابن مالك:
فِيْ نحْوِ رَامٍ ذُوْ اطِّرَادِ فُعَلَهُ
١ - اسم أو صفة ليست عينهما ياء، على وزن فعل أو فعلة، فالاسم ككعب وكعاب، وثوب وثياب، ونار ونيار، وقصعة وقصاع، وجنة وجنان، والصفة كصعب وصعبة وصعاب، وضخم وضخمة وضخام، وندر مجيئه من معتل العين كضيعة وضياع، وضيف وضياف.
٢ - اسم صحيح اللام غير مضاعف، على وزن فعل أو فعلة، كجمل وجمال، وجبل وجبال، ورقبة ورقاب، وثمرة وثمار.
٣ - اسم على وزن فعل كذئب وذئاب، وظل وظلال، وبئر وبئار.
٤ - اسم على وزن فعل ليست عينه واوًا، ولا لامه ياءً، كرمح ورماح، ودهن ودهان، وأما الدِّهان في قوله تعالى: ﴿فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ﴾ فسيأتي أنه اسم مفرد، ومعناه الجلد الأحمر.
٥ - صفة صحيحة اللام على وزن فعل أو فعيلة، ككريم وكريمة وكرام، ومريض ومريضة ومراض، وطويل وطويلة وطوال.
٦ - صفة على وزن فعلان، أو فعل أو فعلانة أو فُعلانة، كعطشان وعطشى وعطاش، وريان وريا ورواء، وندمان وندمى وندام، وخمصان وخمصانة وخماص.
وما جُمع على فعال من غير ما ذكر فهو على غير القياس، وذلك كراع وراعية ورعاء، وقائم وقائمة وقيام، وصائم وصائمة وصيام، وأعجف وعجفاء وعجاف، وخير وخيار، وجيد وجياد، وجواد وجياد، وأبطح وبطاح، وقلوص وقلاص، وأنثى وإناث، ونطفة ونطاف، وفصيل وفصال، وسبع وسباع، وضبع وضباع، ونُفَسَا ونفَاس، وعُشراء وعشار، هذا ولا ندري كيف ندَّ هذا عن الزمخشري، فقال في كشافه: وأما الرعاء بالكسر فقياس كصيام وقيام.
والرَّعْي - بالفتح - في الأصل: حفظ الحيوان، إما بغذائه الحافظ لحياته، أو بذبِّ العدو عنه، والرِعْيُ - بالكسر -: ما يرعاه، والمرعى: موضع الشرعي،
﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ والخير يكون بمعنى الطعام، كما في الآية، ويمعنى المال، كما في قوله تعالى: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ وبمعنى القوة، كما في قوله: ﴿أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ﴾، وبمعنى العبادة، كما في قوله: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ﴾، ﴿ثُمَّ تَوَلَّى﴾؛ أي: جعل ظهره يلي ما كان يليه وجهه.
﴿عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾ الاستحياء والحياء: الحشمة، والانقباض، والانزواء، قال في "المصباح": يقال: استحيت بياء واحدة وبياءين، ويتعدى بنفسه وبالحرف فيقال: استحييته واستحيت منه.
﴿وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ﴾ القصص بفتحتين مصدر بمعنى المقصوص، وقد سُمِّي به فيما بعْدُ المقصوص، يقال: قصَّ عليه الخبر حدَّثه به، ومصدره قصص بفتحتين، أما القصص بكسر القاف فهو جمع قصة، ﴿حِجَجٍ﴾ جمع حجة بكسر الحاء، وهي السنة.
﴿أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ﴾؛ أي: أن أُدخل عليك مشقة، واشتقاق المشقة من الشق، فإن ما يصعب عليك يشق اعتقادك في إطاقته، ويوزع رأيك في مزاولته.
﴿الْأَجَلَيْنِ﴾؛ أي: الأطول أو الأقرب، ﴿مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا﴾ والطور اسم جبل مخصوص، والنار يقال: للَّهب الذي يبدو للحاسة، وللحرارة المجردة، ولنار جهنم، ﴿امْكُثُوا﴾ المكث ثبات مع انتظار؛ أي: قفوا مكانكم واثبتوا فيه، ﴿أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ﴾ والجذوة عود غليظ، مهواء كانت في رأسه نار أو لا، وفي "المفردات": الجذوة التي يبقى من الحطب بعد الالتهاب.
﴿مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ﴾ والشاطىء الجانب، وهو شفير الوادي، وكذلك الشط والسيف والساحل، كلها بمعنى واحد. والوادي في الأصل الموضع الذي
﴿فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ﴾ والبقعة قطعة من الأرض لا شجر فيها، وُصفت بكونها مباركة، لأنه حصل فيها ابتداء الرسالة وتكليم الله إياه.
﴿كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾ الجانُّ الحية الصغيرة التي توجد في كثير من الدور ولا تؤذي، ﴿اسْلُكْ يَدَكَ﴾ من سلك الشيء إذا أنفذه فيه، وفي "المصباح": السلك بالفتح والسلوك كل منهما مصدر لسلك الشيء في الشيء، إذا أنفذه فيه، فإنه من بابي قعد ونصر. اهـ. ﴿فِي جَيْبِكَ﴾ والجيب الفتحة في القميص ونحوه من حيث يخرج الرأس.
﴿جَنَاحَكَ﴾ جناح الإنسان عضده، ويقال: اليد كلها جناح، ﴿مِنَ الرَّهْبِ﴾ الرهب مخافة مع تحزن واضطراب؛ أي: من أجل الرهب، ﴿بُرْهَانَانِ﴾ تثنية برهان، والبرهان فعلان، من قولهم: أبره الرجل إذا جاء بالبرهان، أو من قولهم: بره الرجل إذا ابيض، ويقال: برهاء وبرهة للمرأة البيضاء، ونظيره تسمية الحجة سلطانًا من السليط، وهو الزيت لإنارتها، وقيل: هو فعلال، لقولهم: برهن.
وقال الزمخشري: فإن قلت: لِمَ سُمِّيت الحجة برهانًا؟
قلت: لبياضها وإنارتها، من قولهم للمرأة البيضاء: برهرهة، بتكرير العين واللام معًا، وهذا تعليل لطيف لا يُحسِّن استنباطه غير هذا الإِمام، ومعنى ذلك أن النون في البرهان زائدة، يقولون: أَبْرَهَ الرجل إذا جاء بالبرهان، وفي معاجم اللغة: وأبره أتى بالبرهان، أو بالعجائب، وغلب الناس، وهذا هو قول الزمخشري، والمحققين، وزعم صاحب "القاموس" في أحد قوليه أن النون أصلية، قال: وبرهن عليه أقام البرهان، والبرهان بالضم الحجة فتدبر.
﴿هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا﴾ من الفصاحة، والفصاحة لغة الخلوص، يقال: فصح اللبن، وأفصح، فهو فصيح؛ أي: خلص من الرغوة، ومنه فصح الرجل جادت لغته، وأفصح تكلم بالعربية، وقيل: الفصيح الذي ينطق، والأعجم الذي
﴿رِدْءًا﴾ والردء المعين من أردأته على عدوه إذا أعنته، يقال: فلان ردء فلان إذا كان ينصره ويشد ظهره، ومنه قول الشاعر:
ألم تر أن أصرم كان ردئي | وخير الناس في قل ومال |
فائدة: قال بعضهم في قوله: ﴿هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا﴾ مقام الفصاحة هو مقام الصحو والتمكين، الذي يقدر صاحبه على أن يُخبر عن الحق وأسراره بعبارة لا تكون ثقيلة في موازين العلم، وهذا حال نبينا - ﷺ - حيث قال: "أنا أفصح العرب، وبُعثت بجوامع الكلم" اهـ "الروح".
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنوعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التأكيد بإن واللام في قوله إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك مطابقة لمقتضى الحال.
ومنها: إضافة الصفة إلى الموصوف في قوله: ﴿سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾؛ أي: السبيل الوسط.
ومنها: تنكير أمة في قوله: ﴿وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ﴾ للدلالة على الكثرة.
ومنها: كثرة الإيجاز في هذه الآيات، أعني قوله: {أُمَّةً مِنَ النَّاسِ
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ فقد أرادتا أن تقولا له: إننا امرأتان ضعيفتان مستورتان، لا نقدر على مزاحمة الرجال، وما لنا رجل يقوم بذلك، وأبونا شيخ طاعن في السن، فقد أضعفه الكبر وأعياه، فلا مندوحة لنا عن ترك السقيا، وإرجائها إلى أن يقضي الناس أوطارهم من الماء، وبذلك طابق جوابهما سؤاله، لأنه سألهما عن علة الذود، فقالتا ما قالتاه.
ومنها: الاستعطاف والترحم في قوله: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِير﴾ وفيه أيضًا التعبير بالماضي عن المضارع في قوله: ﴿لِمَا أَنْزَلْتَ﴾؛ أي: إلى ما تنزله إلي.
ومنها: الإشارة في قوله: ﴿عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾ فقد أشار بلمح خاطف يشبه لمح الطرف، وبلغة هي لغة النظر إلى وصف جمالها الرائع الفتان باستحياء، لأن الخفر من صفات الحسان، ولأن التهادي في المشي من أبرز سماتهن.
قال الأعشى:
كَأنَّ مِشْيَتَهَا مِنْ بَيْتِ جَارَتهَا | مَرُّ السَّحَابَةِ لَا رَيْثٌ وَلَا عَجَلُ |
ومنها: الإتيان بالكلام الجامع المانع الحكيم في قوله: ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان في القائم بأمرك والمتعهد لشؤونك، وهما الكفاية والأمانة فقد فرغ بالك، وتم أمرك، وسهل
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾ حذف وجه الشبه فأصبح مجملًا.
ومنها: الطباق بين ﴿يُصَدِّقُنِي﴾ و ﴿يُكَذِّبُونِ﴾.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ﴾ كنى عن اليد بالجناح، لأنها للإنسان كالجناح للطائر.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (٥٥)﴾.
قوله تعالى: ﴿قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما قال لموسى: ﴿فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ﴾ علم (١) أنه سيذهب بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه، وحينئذٍ طلب منه أن يؤتيه ما يقوي به قلبه، ويزيل خوفه من فرعون، لأنه إنما خرج من ديار مصر فرارًا منه، وهربًا من سطوته، فيُرسل معه أخاه هارون وزيرًا.. فأجابه إلى ما طلب، وأرسله هو وهارون إلى فرعون وملئه، ومعهما المعجزات الباهرة، والأدلة الساطعة فلما عاينوا ذلك، وأيقنوا صدقه لجؤوا إلى العناد والمكابرة، فقالوا: ما هذا إلا سحر مفتعل، وما رأينا أحدًا من آبائنا على هذا الدين، فقال لهم موسى: ربي أعلم بالمهتدي منا ومنكم، وسيفصل بيني وبينكم، ويجعل النصر والتأييد للصالحين من عباده.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنه (٢) لما رغب موسى فرعون وقومه في التوحيد، والنظر في الكون تارة، ورهَّبهم من عذاب الله، وشديد نكاله تارة أخرى.. أجابه فرعون بتلك المقالة التي تدل على الجهل المطبق، ونقصان العقل، وأنه بلغ غاية لا حد لها في الإنكار، وأنه لا مطمع في إيمانه لعتوه وطغيانه، واستكباره في الأرض، حتى قال ما قال. ومن ثم كانت عاقبته في الدنيا الهلاك بالغرق هو وجنوده، واللعن من الله والناس، وفي الآخرة الطرد من رحمة الله، ثم أخبر سبحانه أنه آتى موسى التوراة وجعلها نورًا للناس يهتدون بها، وتكون لهم تذكرة من عقاب الله وشديد عذابه.
قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بيَّن فيما سلف أنه أرسل موسى، بعد أن أهلك القرون الأولى، ودرست الشرائع، واحتيج إلى نبي يُرشد الناس إلى ما فيه صلاحهم، في معاشهم ومعادهم.. أردف ذلك ببيان الحاجة
(٢) المراغي.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما (١) بين فيما سلف أنه إنما أرسل رسوله قطعًا لمعذرتهم، حتى لا يقولوا حين نزول بأسنا بهم: هلا أرسلت إلينا رسولًا فنتبعه.. أردفه ببيان أنه حين مجيء الرسول، وإنزال القرآن عليه جحدوا به، وكذبوا رسالته، ولم يعتدوا بكتابه، وطلبوا مجيء معجزات كمعجزات موسى، من مجيء التوراة جملة، وقلب العصا، وإخراج اليد بيضاء من غير سوء، وقد كفر المعاندون من قبلهم بما جاء به موسى من المعجزات، وقالوا: ما هي إلا سحر مفترى، وما في إلا أساطير الأولين، وإن موسى ومحمد ساحران، تعاونا على الخداع والتضليل، وإنا لكافرون بكل منهما.
ثم أمر رسوله أن يقول لهم: إن إستطعتم أن تأتوا بكتاب خير من كتابيهما، موصل إلى الحق، هاد إلى سبيل الرشد فافعلوا، فإن لم تستطيعوا ذلك فأنتم متبعون للهوى، سالكون سبيل الضلال، ولا أضل من يسلك هذه السبيل، ثم ذكر أنه ما أنزل الكتاب منجمًا على هذا النهج إلا ليكون فيه عبرة وذكرى لهم، بين آن وآخر، لعلهم يرتدعون عن غيِّهم، ويثوبون إلى رشدهم.
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه (٢) لما أثبت أن القرآن وحي من عند الله، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. أكد هذا بأن أثبت أن أهل الكتاب آمنوا به حين رأوا الأدلة تتظاهر على صدقه، وموافقته لما في كتبهم من وصف، فأجدر بمن لا كتاب لهم من قبله أن يؤمنوا به.
(٢) المراغي.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه ابن جرير والطبراني عن رفاعة القرظي قال: نزلت ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ﴾ في عشرة أنفار أنا أحدهم. وأخرج ابن جرير عن علي بن رفاعة قال: خرج عشرة رهط عن أهل الكتاب، منهم رفاعة - يعني أباه - إلى النبي - ﷺ - فآمنوا، فأوذوا فنزلت: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ الآية، وأخرج عن قتادة قال: كنا نحدث أنها نزلت في أناس من أهل الكتاب، كانوا على الحق حتى بعث الله سبحانه محمدًا فآمنوا، منهم عثمان، وعبد الله بن سلام.
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ...﴾ الآية، قال (٢) سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي إلى النبي - ﷺ -، فلما قدموا عليه قرأ عليهم ﴿يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢)﴾ حتى ختمها، فجعلوا يبكون، وأسلموا.
وأخرج (٣) الطبراني في "الأوسط" بسند فيه من لا يُعرف عن ابن عباس: أن أربعين من أصحاب النجاشي قدموا على النبي - ﷺ -، فشهدوا معه أحدًا، فكانت فيهم جراحات، ولم يقتل منهم أحد، فلما رأوا ما بالمؤمنين من الحاجة، قالوا: يا رسول الله إنا أهل ميسرة، فأذن لنا نجيء بأموالنا، نواسي بها المسلمين، فأنزل الله فيهم ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ...﴾ الآيات. فلما نزلت قالوا: يا معشر المسلمين أما من آمن منا بكتابكم فله أجران، ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم، فأنزل الله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ...﴾ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: لما نزلت ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا﴾ فخرج مؤمنوا أهل الكتاب على أصحاب النبي - ﷺ - فقالوا: لنا أجران،
(٢) المراغي.
(٣) لباب النقول في سورة الحديد.
التفسير وأوجه القراءة
٣٥ - فأجاب الله سبحانه موسى إلى ما طلب من إرسال هارون معه، حيث ﴿قَالَ﴾ سبحانه ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ﴾؛ أي: سنقوي ظهرك ﴿بِأَخِيكَ﴾ هارون، ونعينك به على أمرك، فشد العضد كناية عن التقوية، والعضد (١) ما بين المرفق والكتف، وهي قوام اليد، وبشدتها تشتد؛ أي: سنقويك به، لأن الإنسان يقوى بأخيه، كقوة اليد بعضدها، وكان هارون يومئذٍ بمصر، ويقال في دعاء الخير: شد الله عضدك، وفي الشر: فت الله في عضدك.
وقرأ الجمهور ﴿عَضُدَكَ﴾ بفتح العين وضم الضاد، وقرأ زيد (٢) بن علي والحسن: ﴿عُضُدك﴾ بضمتين، وعن الحسن: بضم العين وإسكان الضاد، وعن بعضهم: بفتح العين وكسر الضاد، وقرأ عيسى بن عمر: بفتحهما، ويقال: فيه عضد بفتح العين وسكون الضاد، ولا أعلم أحدًا قرأ به.
﴿وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا﴾؛ أي: حجة وبرهانًا، أو تسلطًا على فرعون وقومه، وغلبة عليهم؛ أي (٣): نجعل لكما غلبة بالحجة في الحال، وغلبة في المملكة في ثاني الحال، ﴿فَلَا يَصِلُونَ﴾؛ أي: فلا يصل فرعون وقومه ﴿إِلَيْكُمَا﴾ بالقتل والأذى، ولا يقدرون على غلبتكما بالحجة.
﴿بِآيَاتِنَا﴾؛ أي: بسبب آياتنا التي تظهر على أيدكما، فالآية التي هي قلب العصا حية، تمنع من وصول ضرر فرعون وقومه إلى موسى وهارون عليهما السلام، لأنهم إذا علموا أنه متى ألقاها صارت حية عظيمة، وإن أراد إرسالها إليهم أهلكتهم.. زجرهم ذلك عن الإقدام عليهما بسوء، فصارت مانعة من وصولهم
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراح.
والمعنى عليه: أي سنقويك ونعينك بأخيك، ونجعل لكما تسلطًا عظيمًا، وغلبة على عدوكما، فلا يصلون إليكما بوسيلة من وسائل الغلب، بسبب كون آياتنا معكما، وهي العصا واليد، أو بـ ﴿الْغَالِبُونَ﴾ من قوله ﴿أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ﴾ أي أنتما ومن تبعكما الغالبون لفرعون وقومه، بسبب آياتنا وحججنا وسلطاننا الذي نجعله لكما، وفي هذا دليل على أن فرعون لم يصل إلى السحرة بشيء مما هددهم به، لأنهم من أكبر الأتباع الباذلين أنفسهم في سبيل الله سبحانه.
وقال أبو السعود: في سورة طه جمعهما في صيغة أمر الحاضر، مع أن هارون لم يكن حاضرًا مجلس المناجاة، بل كان في ذلك الوقت بمصر للتغليب، فغلَّب الحاضر على غيره، وتقدم هناك أن الله في ذلك الوقت أرسل جبريل بالرسالة لهارون، وهو بمصر. اهـ.
وقال أبو حيان (١): قوله: ﴿بِآيَاتِنَا﴾ يحتمل أن يتعلق بقوله: ﴿وَنَجْعَلُ﴾، أو بـ ﴿يصلون﴾، أو بـ ﴿الغالبون﴾، وإن كان موصولًا، على مذهب من يجوز عنده أن يتقدم الظرف والجار والمجرور على صلة أل؛ لأنهم يتوسعون فيهما أو بفعل محذوف؛ أي: اذهبا بآياتنا كما عُلِّق في تسع آيات بـ ﴿اذهب﴾، أو تمتنعان منهم بآياتنا، وهذه أعاريب منقولة انتهى.
وقال الأخفش وابن جرير: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: أنتما ومن اتبعكما الغالبون بآياتنا.
٣٦ - ثم أبان ما صدر من فرعون عقب مجيء موسى إليه فقال: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ﴾؛ أي: فلما جاء فرعون وقومه ﴿مُوسَى﴾ عليه السلام حال كونه متلبسًا ﴿بِآيَاتِنَا﴾ ومعجزاتنا، حالة كونها ﴿بَيِّنَاتٍ﴾؛ أي: واضحات الدلالة على صحة رسالته منه تعالى، والمراد (٢) بالآيات المعجزات حاضرة كانت كالعصا واليد، أو
(٢) روح البيان.
﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال فرعون وقومه: ﴿مَا هَذَا﴾؛ أي: ما هذا الذي جئت به يا موسى ﴿إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى﴾؛ أي: سحر مختلق مكذوب، اختلقته من قبل نفسك، لم يُفعل قبل هذا مثله، وذلك لأن النفس خُلقت من أسفل عالم الملكوت متنكسة، والقلب خلق من وسط عالم الملكوت، متوجهًا إلى الله سبحانه، فما كذب الفؤاد ما رأى، وما صدقت النفس ما رأت، فيرى القلب إذا كان سليمًا من الأمراض والعلل الحق حقًا، والباطل باطلًا، والنفس ترى الحق باطلًا والباطل حقًا، ولهذا كان من دعائه - ﷺ -: "اللهم أرنا الحق حقًا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه". وكان - ﷺ - مقصوده في ذلك سلامة القلب من الأمراض والعلل، وهلاك النفس، وقمع هواها، وكسر سلطانها، كذا في "التأويلات النجمية".
﴿وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا﴾ السحر الذي جئت به، أو بهذا الذي جئت به من دعوى النبوة والرسالة ﴿فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ﴾؛ أي: واقعًا في أيامهم وكائنًا، أو المعنى: ﴿وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا﴾ الذي تدعونا إليه من التوحيد، والذي تدَّعيه من الرسالة عن الله تعالى واقعًا ﴿فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ﴾ وقد كذبوا، فإنهم سمعوا ذلك على أيام يوسف عليه السلام.
٣٧ - ﴿وَقَالَ﴾ لهم ﴿مُوسَى﴾ عليه السلام، قرىء بالواو وبدونها، على كونها واقعة في جواب سؤال مقدر ﴿رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ﴾ يريد نفسه، فيعلم أني محق، وأنتم مبطلون، وإنما جاء بهذه العبارة لئلا يصرح لهم بما يريده، قبل أن يوضح لهم الحجة. والله أعلم.
﴿وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ﴾؛ أي: عاقبة دار الدنيا، وهي الجنة، لأنها خلقت ممرًا إلى الآخرة ومزرعة لها، والمقصود منها بالذات هو الثواب، وأما العقاب فمن نتائج أعمال العصاة وسيآتهم، فالعاقبة المطلقة الأصلية للدنيا هي
﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن الشأن والحال ﴿لَا يُفْلِحُ﴾ ولا يظفر ﴿الظَّالِمُونَ﴾ لأنفسهم بإهلاكها في الكفر والتكذيب؛ أي: لا يفوزون بمطلوب، ولا ينجون من محذور، ومن المحذور العذاب الدنيوي، ففيه إشارة إلى نجاة المؤمن وهلاك الكافر، وإلى أن الواجب على كل نفس السعي في نجاتها، ولو هلك غيرها لا يضرها.
وقرأ الجمهور: ﴿وَقَالَ مُوسَى﴾ بالواو، وقرأ مجاهد وابن كثير وابن محيصن: ﴿قال موسى﴾ بلا واو، وكذلك هو في مصاحف أهل مكة، ومناسبة (١) قراءة الجمهور: أنه لما جاءهم بالبينات قالوا: كيت وكيت، وقال موسى: كيت وكيت، فيتميز الناظر فصل ما بين القولين، وفساد أحدهما، إذ قد تقابلا، فيعلم يقينًا أن قول موسى هو الحق والهدى، ومناسبة قراءة ابن كثير (٢): أنه إذا كانت الجملة الثانية كالمتصلة بالأولى، لكونها جوابًا لسؤال اقتضته الأولى، تنزل الأولى منزلة السؤال، فتفصل الثانية عنها، كما يفصل الجواب عن السؤال. اهـ. "زاده"، كأنه قيل هنا: ماذا قال موسى في جوابهم: فقال: قال موسى ربي أعلم.. إلخ.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف والمفضل (٣): ﴿ومن يكون له عاقبة الدار﴾ بالتحتية، على أن اسم يكون عاقبة الدار، والتذكير لوقوع الفصل، ولأنه تأنيث مجازي. وقرأ الباقون: ﴿تكون﴾ بالفوقية، وهي أوضح من القراءة الأولى.
وعبارة النسفي هنا: أي ربي أعلم منكم بحال من أَهّله الله سبحانه للفلاح الأعظم، حيث جعله نبيًا وبعثه بالهدى، ووعده حسن العقبى، ولو كان كما تزعمون ساحرًا مفتريًا لما أَهَّلَهُ لذلك، لأنه غني حكيم، لا يرسل الكاذبين، ولا
(٢) زادة.
(٣) زاد المسير.
وفي هذا الأسلوب من أدب الخطاب في الحجاج والمناظرة ما لا يخفى (١)، فهو لم يؤكد أن خصمه في ضلال، كما لم ينسبه إلى نفسه بل ردده بينهما، وهو يعلم أنه لأيهما، وعلى هذا النحو جاء الخطاب من النبي - ﷺ - للمشركين بقوله: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.
ثم علل هذا بأن سنة الله قد جرت بأن المخذول هو الكاذب، فقال: ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾؛ أي: إنه لا ينجح الكافرون، ولا يدركون طلبتهم، وفي هذا إيماء إلى أنهم لا يظفرون بالفوز والنجاة، بل يحصلون على ضد ذلك، ولله در القائل من بحر الطويل:
فَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالْحَيَاةُ مَرِيْرَةٌ | وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالأَنَامُ غِضَابُ |
وَلَيْتَ الَّذِيْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ | وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْعَالَمِيْنَ خَرَابُ |
٣٨ - ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ﴾ بعدما جمع السحرة وتصدى للمعارضة ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ﴾ والأشراف؛ أي: يا أيها القوم ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ﴾ في أي زمن ﴿مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾؛ أي: إلهًا غيري، كما يدَّعي موسى، والأمر محتمل أن يكون، وسأحقق ذلك لكم، وهذا الكلام ظاهره الإنصاف، ليتوصل بذلك إلى قبولهم ما يقول لهم بعد ذلك في شأن الإله، وتسليمهم إياه اعتمادًا على ما رأوا من عظيم نصفته في القول؛ أي: ليس لكم إله غيري في الأرض.
(٢) فتح الرحمن.
وخلاصة مقاله (١): لا علم لي برب غيري فتعبدوه، وتصدقوا قول موسى فيما جاءكم به، من أن لكم وله ربًا غيري، ومعبودًا سواي، ونحو الآية قوله: ﴿فَحَشَرَ فَنَادَى (٢٣) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (٢٥)﴾ وقوله: ﴿قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩)﴾.
قال الرازي: ليس مراده من ادعاء الألوهية أنه خالق السموات والأرض، والبحار والجبال، وخالق الناس، فإن العلم بامتناع ذلك واضح لكل ذي عقل، بل مراده بذلك وجوب عبادته فهو ينفي وجود الإله، ويقول لا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا مليكهم، وينقادوا لأمره. اهـ بتصرف.
ثم خاطب وزيره هامان، آمرًا له على سبيل التهكم أمام موسى، ليشكك قومه في صدق مقالته، فقال: ﴿فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ﴾ وهو التراب والماء المختلط؛ أي: أوقد النار على الطين بعد اتخاذه لبنًا، حتى يصير آجرًا، ولم يقل فرعون: اطبخ لي الآجر، لأنه أول من عمل الآجر، ولذلك أمره باتخاذه على وجه يتضمن تعليم الصنعة.
﴿فَاجْعَلْ لِي﴾ من ذلك الطين الذي توقد عليه حتى يصير آجرًا ﴿صَرْحًا﴾؛ أي: قصرًا عاليًا مشرفًا كالمنارة ﴿لَعَلِّي﴾ أصعد إليه و ﴿أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى﴾ وانظر إليه واقفًا عليه؛ أي: فاصنع لي آجرًا، واجعل لي منه قصرًا شامخًا، وبناء عاليًا، أصعد وأرتقي إلى إله موسى، الذي يعبده في السماء، ويدَّعي أنه يؤيده وينصره، وهو الذي أرسله إلينا. وبمعنى الآية قوله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي
وإنما (١) حذف هنا ﴿أَتَاهُمْ كَبُرَ وَقَالَ فِرْعَوْنُ﴾ وذكره في غافر، لأن ما هنا تقدَّمه ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ من غير ذكر أرض، ولا غيرها، فناسبه الحذف، وما هناك تقدمه ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ فناسبه مقابلته بالسماء في قوله: ﴿لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (٣٦) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ﴾.
ثم زاد قومه شكًا في صدقه بقوله: ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ﴾؛ أي: أظن موسى ﴿مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ في ادعائه أن له إلهًا غيري، وأنه رسوله. قاله تلبيسًا وتمويهًا على قومه، لا تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾؛ أي: وإني لأظنه كاذبًا فيما يدعي من أن له معبودًا في السماء، ينصره ويؤيده، وأنه هو الذي أرسله.
قال في "الأسئلة المقحمة": ولا يُظن بأن فرعون كان شاكًا في عدم استحقاقه لدعوى الإلهية في نفسه، إذ كان يعلم حال نفسه من كونها أهل الحاجات ومحل الآفات، ولكن كان معاندًا في دعواه، مجاحدًا من غير اعتقاد له في نفسه بالإلهية.
وإنما قال هنا (٢): ﴿لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ وقال في غافر: ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا﴾ موافقة للفاصلة هنا، وعلى الأصل بلا معارض ثَمَّ.
واعلم (٣): أن فرعون أوهم قومه أن إله موسى يمكن الوصول إليه والقدرة عليه، وهو عالم متيقن أن ذلك لا يمكن له، وقومه لغباوتهم وجهلهم، وإفراط عمايتهم يمكن ذلك عندهم، ونفس إقليم مصر يقضي لأهله تصديقهم بالمستحيلات، وتأثرهم بالموهمات والخيالات، ولا يُشك أنه كان من قوم فرعون من يعتقد أنه مبطل في دعواه، ولكن يوافقه مخافة سطوه، واعتدائه، كما
(٢) فتح الرحمن.
(٣) البحر المحيط.
ولا يدل الأمر ببناء الصرح على أنه بني، وقد اختُلف في ذلك، فقيل: بناه، وذُكر من وصفه بما الله أعلم به، وقيل: لم يبن. قال أهل السير: لما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح جمع هامان العمال والفعلة، حتى اجتمع عنده خمسون ألف بنَّاء، سوى الأتباع والأجراء، وطبخ الآجر والجص، ونجر الخشب وضرب المسامير، وأمر بالبناء، فبثوه ورفعوه وشيدوه، حتى ارتفع ارتفاعًا لم يبلغه بنيان أحد من الخلق، واشتد ذلك على موسى وهارون، لأن بني إسرائيل كانوا معذبين في بنائه، وأراد الله أن يفتنهم فيه، فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه، وأمر بنشَّابة فرمى بها نحو السماء فرُدَّت إليه، وهي ملطخة دمًا، فقال قد قتلت إله موسى، وكان فرعون يقصده راكبًا على البراذين، فبعث الله جبريل عند غروب الشمس فضربه بجناحيه، فقطعه ثلاث قطع، فوقعت قطعة منه على عسكره، فقتلت منهم ألف ألف رجل، ووقعت قطعة منه في البحر، وقطعة في المغرب، فلم يبق أحد عمل فيه شيئًا إلا هلك إلا من آمن بموسى.
قال أبو الليث: كان بلاط القصر خبث القوارير، وكان الرجل لا يستطيع القيام عليه من طوله، مخافة أن ينسفه الريح، وكان طوله خمسة آلاف ذراع، وعرضه ثلاثة آلاف ذراع.
كلمة غريبة: وكتب بهلول على حائط من حيطان قصر عظيم بناه الخليفة هارون الرشيد: يا هارون رفعت الطين ووضعت الدين، رفعت الجص ووضعت النص، إن كان من مالك فقد أسرفت، إن الله لا يحب المسرفين، وإن كان من مال غيرك فقد ظلمت، إن الله لا يحب الظالمين.
٣٩ - ثم ذكر سبحانه ما هو السبب في العناد والجحود، فقال: ﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ﴾؛ أي: فرعون ﴿وَجُنُودُهُ﴾؛ أي: جموعه القبط؛ أي: تعظموا عن الإيمان، ولم ينقادوا للحق ﴿فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: في أرض مصر وما يليها، ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾؛ أي: حالة كونهم متلبسين بغير الحق؛ أي: بالباطل والكفر، أو استكبروا بغير
﴿وَظَنُّوا﴾؛ أي: وظن فرعون وجنوده ﴿أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ﴾؛ أي: لا يردون بالبعث للجزاء.
وقرأ حمزة والكسائي ونافع وعلي وخلف ويعقوب (٢): ﴿لا يرجعون﴾ مبنيًا للفاعل، والجمهور: مبنيًا للمفعول، والمعنى؛ أي: ورأى هو وجنوده كل من سواهم في أرض مصر حقيرًا، عتوًا منهم على ربهم، وحسبوا أنهم بعد مماتهم لا يُبعثون، ولا يُثابون، ولا يعاقبون. ومن ثم ركبوا أهواءهم، ولم يعلموا أن الله لهم بالمرصاد، وأنه مجازيهم على خبيث أعمالهم وسيء أقوالهم.
٤٠ - ثم أخبر بما نالهم من عقاب الدنيا بعد أن توعدهم بعقاب الآخرة، فقال: ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ﴾؛ أي: أخذنا فرعون وجموعه عقيب ما بلغوا من الكفر والعتو أقصى الغايات.
ونظيره (٣): قوله: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾؛ أي: فجمعنا فرعون وجنوده من القبط، ﴿فَنَبَذْنَاهُمْ﴾؛ أي: فطرحناهم، وألقيناهم ﴿فِي الْيَمِّ﴾؛ أي: في بحر القلزم، وقيل: هو بحر سمي إسافًا من وراء مصر، حكاه ابن عساكر؛ أي: عاقبناهم بالإغراق فيه، وفيه تعظيم شأن الآخذ، وتحقير شأن المأخوذين، حيث إنهم مع كثرتهم، كحصيات تؤخذ بالكف، وتُطرح في البحر.
(٢) البحر المحيط.
(٣) البيضاوي.
وفي هذا (١): ما لا يخفى من الدلالة على عظم شأن الخالق وكبريائه وسلطانه، وشديد احتقاره لفرعون وقومه، واستقلاله لهم، وإن كانوا عددًا كثيرًا وجمًّا غفيرًا، فما مثلهم إلا مثل حصيات صغار قذفها الرامي من يده في البحر.
ثم أمر رسوله - ﷺ - وقومه بالنظر والاعتبار، والتأمل في العواقب، ليعلموا أن هذه سنة الله في كل مكذب برسله، حيث قال: ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: فانظر أيها المعتبر بالآيات كيف كان أمر هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، وكفروا بربهم، وردوا على رسوله نصيحته، ألم نهلكهم، ونورث ديارهم وأموالهم أولياءنا، ونخوِّلهم ما كان لهم من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم، بعد أن كانوا مستضعفين، تُقتَّل أبناؤهم، وتُستحيا نساؤهم، وإنا بك وبمن آمن بك فاعلون، فمخوِّلوك واياهم ديار من كذبك وردَّ عليك ما أتيتهم به من الحق وأموالهم، بعد أن تستأصلوهم قتلًا بالسيف، سنة الله سبحانه في الذين خلوا من قبله.
٤١ - ثم ذكر ما يوجب سوء عاقبتهم وعذابهم في النار، فقال: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ﴾؛ أي: صيَّرنا فرعون وقومه في عهدهم ﴿أَئِمَّةً﴾؛ أي (٢): رؤساء، وقرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير أيمة بإبدال الهمزة الثانية ياء، ﴿يَدْعُونَ﴾ الناس ﴿إِلَى النَّارِ﴾؛ أي: إلى ما يؤدي إليها من الكفر والمعاصي؛ أي: جعلناهم قدوة يقتدي بهم أهل الضلال والفساد، فيكون عليهم وزرهم، ووزر من تبعهم، فكأنهم بإصرارهم على الكفر والتمادي فيه يدعون أتباعهم إلى النار؛ لأنهم اقتدوا بهم، وسلكوا طريقتهم تقليدًا لهم.
(٢) روح البيان.
ثم ذكر أنه لا نصير لهم، ولا شفيع في ذلك اليوم، فقال: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ﴾ بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه؛ أي: ويوم القيامة لا يجدون نصيرًا، يدفع عنهم عذاب الله سبحانه إذا حاق بهم، وقد كانوا في الدنيا يتناصرون، فكان لهم مطمع في النصرة يومئذٍ بحسب ما يعرفون.
٤٢ - ثم ذكر ما هو كالفذلكة لما تقدم، وبيَّن سوء حالهم في الدارين فقال: ﴿وَأَتْبَعْنَاهُمْ﴾؛ أي: ألحقناهم ﴿فِي هَذِهِ الدُّنْيَا﴾ وألزمناهم ﴿لَعْنَةً﴾؛ أي: طردًا وإبعادًا من الرحمة، أو لعنًا من اللاعنين، لا تزال تلعنهم الملائكة والمؤمنون، خلفًا عن سلف، أو أمرنا العباد بلعنهم، فكل من ذكرهم لعنهم، والأول أولى، ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ﴾؛ أي: من المطرودين المبعدين. وقيل: من المهلكين الممقوتين، وقال ابن عباس (٢): من المشوَّهين بسواد الوجوه، وزرقة العيون.
و ﴿يَوْمَ﴾ متعلق بـ ﴿الْمَقْبُوحِينَ﴾ على أن اللام معرفة لا موصولة، يقال: قبح الله فلانًا قبحًا وقبوحًا؛ أي: أبعد من كل خير، فهو مقبوح، كما في "القاموس" وغيره. وعليه بني الراغب، حيث قال في "المفردات": ﴿مِنَ الْمَقْبُوحِينَ﴾؛ أي: من الموسومين بحالة منكرة، كسواد الوجوه وزرقة العين، وسحبهم بالأغلال
(٢) الخازن.
والمعنى (١): أي وألزمنا فرعون وقومه في هذه الدنيا خزيًا وغضبًا منا عليهم، ومن ثم قضينا عليهم بالهلاك والبوار، وسوء الأحدوثة، ونحن متبعوهم لعنة أخرى يوم القيامة، فمخزوهم الخزي الدائم، ومهينوهم الهوان اللازم، الذي لا فكاك عنه.
ودلت الآية (٢) على أن الاستكبار من قبائحهم المؤدية إلى هذه القباحة والطرد، قال عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه سبحانه: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما ألقيته في النار" وصف الحق سبحانه نفسه بالرداء والإزار، دون القميص والسراويل، لكونهما غير مخيطين، فبَعُدا عن التركيب الذي هو من أوصاف الجسمانيات.
واعلم: أن الكبر يتولد من الإعجاب، والإعجاب من الجهل بحقيقة المحاسن، والجهل رأس الانسلاخ من الإنسانية، ومن الكبر الامتناع من قبول الحق، ولذا عظَّم الله أمره، فقال: ﴿فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾، وأقبح كبر بين الناس ما كان معه بخل، ولذلك قال عليه السلام: "خصلتان لا تجتمعان في مؤمن البخل والكبر" ومن تكبر لرياسة نالها دل على دناءة عنصره، ومن تفكر في تركيب ذاته، فعرف مبدأه ومنتهاه وأوسطه عرف نقصه، ورفض كبره، ومن كان تكبره لغنية، فليعلم أن ذلك ظل زائل، وعارية مستردة.
٤٣ - ثم بيَّن سبحانه الحاجة التي دعت إلى إرسال موسى، ليكون كالتوطئة لبيان الحاجة الداعية إلى إنزال القرآن الكريم على رسوله - ﷺ - فقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أعطينا موسى الكتاب، وأنزلنا عليه التوراة،
(٢) روح البيان.
﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا﴾ في الدنيا بالعذاب ﴿الْقُرُونَ الْأُولَى﴾؛ أي: الأمم التي من قبل موسى وقومه، كقوم نوح وهود وصالح (١)، ودُرست معالم الشرائع وطُمست آثارها، واختلَّت نُظُم العالم، وفشا بينهم الشر والفساد، ورُفع الخير فاحتاج الناس إلى تشريع جديد، يُصلح ما فسد من عقائدهم وأفعالهم، بتقرير أصول في ذلك التشريع تبقى على وجه الدهور، وترتيب فروع تتبدل بتبدل العصور، واختلاف أحوال الناس حالة كون ذلك الكتاب، ﴿بَصَائِرَ لِلنَّاسِ﴾؛ أي: أنوارًا لقلوب بني إسرائيل، تبصر بها الحقائق وأصول الدين، وتميز بها بين الحق والباطل، حيث كانت عمياء عن الفهم والإدراك بالكلية، ﴿و﴾ حالة كونه ﴿هُدًى﴾ للناس؛ أي: هاديًا لهم إلى الشرائع والأحكام، التي هي سبيل الله سبحانه.
قال في "إنسان العيون" (٢): التوراة أول كتاب اشتمل على الأحكام والشرائع، بخلاف ما قبلها من الكتب، فإنها لم تشتمل على ذلك، وإنما كانت مشتملة على الإيمان بالله وحده، وتوحيده، ومن ثمة قيل لها: صحف، وإطلاق الكتب عليها مجاز.
﴿وَ﴾ حالة كونه ﴿رَحْمَةً﴾؛ أي: ذا رحمة لهم، حيث ينال من عمل به رحمة الله تعالى وجنته، ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾؛ أي: لكي يتذكروا، ويتعظوا بما فيه فيؤمنوا به، ويشكروه عليه، ولا يكفروه، ويجيبوا داعيه إلى ما فيه خير لهم.
قال أبو سعيد الخدري: قال النبي - ﷺ -: "ما أهلك الله قومًا ولا قرنًا ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء، ولا من الأرض منذ أنزل التوراة على موسى، غير القرية التي مُسخت قردة، ألم تر إلى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى﴾ ".
(٢) روح البيان.
ذكره بإنعامه عليه بذلك، وبما خصه من الغيوب التي كان لا يعلمها لا هو ولا قومه، فقال: ﴿وَمَا كُنْتَ﴾ يا محمد حاضرًا مع موسى ﴿بِجَانِبِ﴾ الجبل ﴿الْغَرْبِيِّ﴾ من موسى ﴿إِذْ قَضَيْنَا﴾ وأوحينا ﴿إِلَى مُوسَى﴾ في حال رجوعه من مدين إلى مصر ﴿الْأَمْرَ﴾ بالرسالة إلى فرعون وقومه؛ أي: ما كنت حاضرًا معه إذ ناديناه، وألزمناه بالذهاب إلى فرعون وقومه ﴿وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾؛ أي: من الحاضرين قصته مع شعيب، فتُخبره للناس على الوجه الذي أتيناك به في هذه الأساليب المعجزة.
وخلاصة ذلك (٢): إن إخبارك بالغيوب الماضية، التي لم تشهدها، وقد قصصتها كأنك سامع راء لها، وأنت أمي لا تقرأ ولا تكتب، وقد نشأت بين قوم أميين لا يعرفون شيئًا من ذلك، لهو من أعظم البراهين على نبوتك، وإن إخبارك بذلك إنما هو بوحي من الله سبحانه كما قال: ﴿لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾.
فإن قلت (٣): إن هذا الآية يُغني أولها، أعني قوله: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ﴾ عن آخرها، أعني قوله: ﴿وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ وأي فائدة في ذكر آخرها؟
(٢) المراغي.
(٣) فتح الرحمن بتصرف.
وقوله: ﴿بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ﴾ إما على (١) حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه؛ أي: وما كنت بجانب الجبل الغربي، أو بجانب المكان الغربي الذي وقع فيه مناجاة موسى مع ربه، أو من إضافة الموصوف إلى صفته كمسجد الجامع؛ أي: بالجانب الغربي، وعلى كلا التقديرين فجبل الطور غربي من موسى عليه السلام.
٤٥ - ﴿وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا﴾؛ أي: أوجدنا وخلقنا ﴿قُرُونًا﴾، كثيرة، وأممًا عديدة، بين زمانك يا محمد، وبين زمان موسى ﴿فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ﴾؛ أي: على أولئك القرون ﴿الْعُمُرُ﴾ والأمد والحياة والأجل، فلم يؤمنوا، فأهلكناهم قرنًا بعد قرن؛ أي (٢): طالت أعمارهم، وامتدت مهلتهم، وتمادت حياتهم، وفترت النبوة، واندرست العلوم، ووقع التحريف في كثير منها، فتغيرت الشرائع والأحكام، وعميت عليهم الأنباء، وكادت الأخبار تخفى، لا سيما على آخرهم، فاقتضى الحال التشريع الجديد، فأرسلناك مجددًا لتلك الأخبار، مبينًا ما وقع فيه التحريف، وأعطيناك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى، كأنه قال: وما كنت شاهدًا لموسى وما جرى عليه، ولكنا أوحيناه إليك، ليكون إخبارك عن قصته معجزة لك، وبرهانًا على صدقك، فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة، ودل به على المسبب الذي هو الوحي، اختصارًا.
وعبارة أبي حيان: فإن قلت: كيف يتصل قوله: ﴿وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا﴾ بهذا الكلام، ومن أي جهة يكون استدراكًا؟
قلت: اتصاله به وكونه استدراكًا من حيث إن معناه: ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحي إلى عهدك قرونًا كثيرة فتطاول على آخرهم، وهو القرن الذي أنت فيهم
(٢) النسفي.
وقد استُدل بهذا الكلام على أن الله سبحانه قد عهد إلى موسى عهودًا في محمد - ﷺ -، وفي الإيمان به، فلما طال عليهم العمر، ومضت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود، وتركوا الوفاء بها، وقوله: ﴿وَمَا كُنْتَ﴾ يا محمد ﴿ثَاوِيًا﴾؛ أي: مقيمًا ﴿فِي أَهْلِ مَدْيَنَ﴾؛ أي: مع موسى وشعيب والمؤمنين به، نفي لاحتمال كون معرفته للقصة بالسماع ممن شاهدها؛ أي: وما كنت مقيمًا بين أهل مدين، كما أقام موسى فيهم، حالة كونك ﴿تَتْلُو﴾ وتقرأ ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على أهل مدين ﴿آيَاتِنَا﴾ الناطقة بالقصة بطريق التعلم منهم، فتقرأ على أهل مكة خبرهم، وتقص عليهم من جهة نفسك، وإنما أتتك بطريق الوحي الإلهي، فإخبارك لأهل مكة إنما هو عن وحي، لا عن مشاهدة للمخبر عنه، كما قال تعالى: ﴿وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ إياك (١)، وموحين إليك تلك الآيات ونظائرها، لتتلوها على أهل مكة، فتكون آية على صدقك، ولولا ذلك لما علمتها أنت، ولم تخبرهم بها. قال الزجاج: المعنى: إنك لم تشاهد قصص الأنبياء، ولا تُليت عليك، ولكنا أوحيناها إليك، وقصصناها عليك.
٤٦ - ﴿وَمَا كُنْتَ﴾ يا محمد ﴿بِجَانِبِ الطُّور﴾؛ أي: بجانب الجبل المسمى بالطور ﴿إِذْ نَادَيْنَا﴾؛ أي: وقت ندائنا موسى ﴿إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، واستنبائنا إياه، وإرسالنا له إلى فرعون وقومه، والمراد (٢) جانب الطور الأيمن، كما قال: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ﴾ ولم يذكره هنا احترازًا عن إيهام الذم، فإنه - ﷺ - لم يزل بالجانب الأيمن من الأزل إلى الأبد، ففيه إكرام له، وحسن عبارة معه.
وقيل معناه: وما كنت بجانب الطور إذ نادينا موسى ليلة المناجاة والتكليم، لما أتى الميقات مع السبعين، لأخذ التوراة، إذ قلنا له: ﴿خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾.
(٢) روح البيان.
وقال ابن عباس: قال الله تعالى: "يا أمة محمد، فأجابوه من أصلاب الآباء والأرحام؛ أي: أرحام الأمهات، لبيك اللهم لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك، لا شريك لك، قال الله تعالى: يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي، وعفوي سبق عقابي، قد أعطيتكم قبل أن تسألوني، وقد أجبتكم قبل أن تدعوني، وقد غفرت لكم قبل أن تستغفروني، ومن جاءني يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبدي ورسولي دخل الجنة، وإن كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر".
وعلى ما قاله وهب يكون المنادى هو أمة محمد - ﷺ -، فيكون معنى الآية: وما كنتَ يا محمد بجانب الطور إذ كلَّمْنا موسى، فنادينا أمتك ﴿وَلَكِنْ﴾ أرسلناك بالقرآن العظيم الناطق بما ذكر ﴿رَحْمَةً﴾ عظيمة كائنة ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾؛ أي: لأجل رحمة كائنة منا لك، وللناس.
وقال الأخفش (٢): هو منصوب، يعني رحمة على المصدر؛ أي: رحمناك رحمة بإرسالك، والوحي إليك، وإطلاعك على الأخبار الغائبة عنك، وقال الزجاج: هو مفعول لأجله؛ أي: فعلنا ذلك بك لأجل الرحمة.
وقرأ الجمهور: ﴿رَحْمَةً﴾ بالنصب، فقُدِّر: ولكن جعلناك رحمة، وقُدِّر أعلمناك ونبأناك رحمة، وقرأ عيسى بن عمر وأبو حيوة: بالرفع، وقُدِّر: ولكن هو رحمة، أو أنت رحمة، و ﴿اللام﴾ في قوله: ﴿لِتُنْذِرَ﴾ وتخوِّف بأس الله وعذابه بالقرآن ﴿قَوْمًا﴾ هم أهل مكة (٣)، متعلقة بالفعل المعلل بالرحمة، وجملة ﴿مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ صفة ﴿قَوْمًا﴾؛ أي: لم يأتهم نذير ينذرهم من بأس
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
وتغيير الترتيب الوقوعي بين قضاء الأمر، والثواء في أهل مدين، والنداء، للتنبيه على أن كلًّا من ذلك برهان مستقل، على أن حكايته عليه السلام للقصة بطريق الوحي الإلهي، ولو ذكر أولًا نفي ثوائه - ﷺ - في أهل مدين، ثم نفي حضوره - ﷺ - عند قضاء الأمر، كما هو الموافق للترتيب الوقوعي، لربما توهم أن الكل دليل واحد كما في "الإرشاد".
ثم من التذكير تجديد العهد الأزلي، وذلك بكلمة الشهادة، وهي سبب النجاة في الدارين.
واعلم (١): أن الله سبحانه لما بيَّن قصة موسى عليه السلام لرسوله - ﷺ - جمع بين هذه الأحوال الثلاثة العظيمة، التي اتفقت لموسى، فالمراد بقوله: ﴿إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ﴾ هو إنزال التوراة عليه حتى تكامل دينه، واستقر شرعه.
والمراد بقوله: ﴿وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ﴾ أول أمر موسى، والمراد بقوله: ﴿إِذْ نَادَيْنَا﴾ ليلة المناجاة، فهذه أعظم أحوال موسى، ولما بيَّنها لرسوله، ولم يكن في هذه الأحوال حاضرًا بيَّن الله سبحانه أنه بعثه، وعرَّفه هذه الأحوال الدالة على نبوته - ﷺ -، ومعجزته، كأنه قال: في إخبارك عن هذه الأشياء، من غير حضور ولا مشاهدة دلالة ظاهرة على نبوتك.
وحاصل معنى الآية (٢): أي وما كنت بجانب جبل الطور ليلة المناجاة، وتكليم الله موسى حتى تُحدث أخبارها، وتفصِّل أحوالها، حديث الخبير العليم ببواطن أمورها وظواهرها، ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بتلك الأخبار، وبغيرها مما فيه صلاح البشر وسعادتهم، في معاشهم ومعادهم، لتنذر قومًا لم يأتهم قبلك
(٢) المراغي.
٤٧ - ثم ذكر الحكمة في إرسال الرسول - ﷺ -، إليهم وأن في ذاك قطعًا لمعذرتهم، حتى إذا جاءهم بأسنا لم يجدوا حجة، فقال: ﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ﴾؛ أي: أهل مكة، والمصيبة العقوبة ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾؛ أي: بما اقترفوا من الكفر والمعاصي، وأسند (١) التقديم إلى الأيدي، لأنها أقوى ما يُزاول به الأعمال، وأكثر ما يُستعان به في الأفعال.
﴿فَيَقُولُوا﴾ عند رؤية العذاب، عطف على ﴿تُصِيبَهُمْ﴾، داخل في حيِّز ﴿لَوْلَا﴾ الامتناعية، على أن مدار امتناع ما يُجاب به هو امتناعه، لا امتناع المعطوف عليه، وإنما ذُكر في حيِّزها للإيذان بأنه السبب الملجىء لهم إلى قولهم، وجواب ﴿لَوْلَا﴾ محذوف، تقديره: ولولا قولهم: ﴿رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ﴾ عند إصابة المصيبة إياهم، بسبب ما قدمت أيديهم في الدنيا موجود لما أرسلناك إليهم، أو لعاجلناهم بالعقوبة بسبب كفرهم، وكلمة ﴿لَوْلَا﴾ في قوله: ﴿رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا﴾ هي التحضيضية، بمعنى هلا، ﴿رَسُولًا﴾، مؤيدًا من عندك بالآيات، ﴿فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ﴾ الظاهرة على يده، وهو جواب ﴿لَوْلَا﴾ الثانية ﴿وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بها، وجواب ﴿لَوْلَا﴾ الأولى محذوف ثقة بدلالة الحال عليه.
والمعنى (٢): لولا قولهم هذا عند إصابة عقوبة جناياتهم التي قدموها ما أرسلناك، لكن لما كان قولهم ذلك محققًا لا محيد عنه، أرسلناك قطعًا لمعاذيرهم بالكلية، وإلزامًا للحجة عليهم.
وعبارة النسفي هنا: ﴿لَوْلَا﴾ الأولى امتناعية وجوابها محذوف، والثانية تحضيضية، والفاء الأولى للعطف، والثانية جواب لولا التحضيضية، لكونها في
(٢) روح البيان.
فإن قلت: كيف (١) استقام هذا المعنى، وقد جُعلت العقوبة هي السبب في الإرسال، لا القول، لدخول لولا الامتناعية عليها دونه؟.
قلت: القول هو المقصود بأن يكون سببًا للإرسال، ولكن العقوبة لما كانت سببًا للقول، وكان وجوده بوجودها جُعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال، فأُدخلت عليها لولا، وجيء بالقول معطوفًا عليها بالفاء المعطية معنى السببية، ويؤَوَّل معناها إلى قولك: ولولا قولهم هذا إذا أصابتهم مصيبة لما أرسلناك إليهم رسولًا.
وحاصل معنى الآية (٢): أي ولولا أن يقول هؤلاء الذين أرسلناك إليهم حين يحل بهم بأسنا، ويأتيهم عذابنا على كفرهم بربهم، واجتراحهم للمعاصي قبل أن نرسلك إليهم: ربنا هلا أرسلت إلينا رسولًا قبل أن يحل بنا سخطك، وينزل بنا عذابك، فنتبع أدلتك وآي كتابك التي تُنزلها عليه، ونكون من المؤمنين بألوهيتك، المصدقين برسولك.. لعاجلناهم العقوبة على شركهم، لكنا بعثناك إليهم نذيرًا ببأسنا، كما هو سنتنا في أمثالهم، كما جاء في الآية الكريمة ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾.
والخلاصة: أنا أزحنا العذر، وأكملنا البيان، فبعثناك أيها الرسول إليهم، وقد حكمنا بأنا لا نُعاقب عبدًا إلا بعد إكمال البيان، والحجة، وبعثة الرسل.
٤٨ - ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ﴾؛ أي: أهل مكة، وكفار العرب ﴿الْحَقُّ﴾؛ أي: القرآن،
(٢) المراغي.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: فلما جاءهم محمد - ﷺ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال كفار مكة تعنتًا واقتراحًا، قال بعضهم: قاله قريش بتعليم اليهود ﴿لَوْلَا﴾؛ أي: هلا ﴿أُوتِيَ﴾ محمد ﴿مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى﴾ من الكتاب جملة لا مفرقًا.
قال بعض العلماء (١): حجبوا بكفرهم عن رؤية كماليته - ﷺ -، وإلا لقالوا: لولا أوتي موسى مثل ما أوتي محمد من الكمالات؛ أي: فلما جاء محمد - ﷺ - هؤلاء القوم الذين لم يأتهم نذير من قبله بالكتاب الكريم، وهم أهل مكة، قالوا تمردًا وعنادًا وتماديًا في الغي والضلال: هلا أُعطي محمد مثل ما أعطي موسى من الكتاب المنزل جملة واحدة، ومن قلب العصا حية، ومن اليد البيضاء، وتظليل الغمام وغير ذلك.
ثم ذكر أن هذه شنشنة المعاندين في كل زمان لا يريدون بما يقولون إظهار الحق، بل يقصدون التمادي والإنكار، ألا ترى أن من أرسل إليهم موسى قالوا مثل هذه المقالة، كما أشار إلى ذلك بقوله: ﴿أَوَلَمْ يَكْفُرُوا﴾ الهمزة فيه للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيقولون ذلك، أعني قولهم: لولا أوتي مثل ما أوتي موسى؛ أي: أيقول كفار مكة ذلك ولم يكفروا ﴿بِمَا أُوتِيَ مُوسَى﴾ وأُعطي من الكتاب.
﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل هذا القول، كما كفروا بهذا القرآن، فإن كفار قريش كانوا منكرين لجميع النبوَّات، فلما طلبوا من محمد - ﷺ - معجزات موسى عليه السلام رد الله تعالى عليهم بذلك القول، لأنه لا غرض لهم من هذا الاقتراح إلا التعنت.
ثم بين سبحانه كيفية كفرهم فقال: ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال كفار مكة هما
﴿وَقَالُوا﴾؛ أي: كفار مكة ﴿إِنَّا بِكُلّ﴾؛ أي: بكل واحد من الكتابين ﴿كَافِرُونَ﴾؛ أي: منكرون، والمعنى: إنا بكل من السحرين، أو بكل من الساحرين كافرون، على اختلاف القراءة فيه.
وقرأ الجمهور وابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: ﴿ساحران﴾ بصيغة اسم الفاعل، وفيمن عنوا به ثلاثة أقوال (١):
أحدها: موسى ومحمد، قاله: ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير، فعلى هذا هو من قول مشركي العرب.
والثاني: موسى وهارون، قاله مجاهد، فعلى هذا هو من قول اليهود لهما في ابتداء الرسالة.
والثالث: محمد وعيسى، قاله قتادة. قال ابن كثير: وهذا فيه بُعدٌ، لأن عيسى لم يجر له ذكرها هنا، وعلى هذا هو من قول اليهود، الذين لم يؤمنوا بنبينا.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وعبد الله وزيد بن علي ﴿سِحْرَانِ﴾ بكسر السين وسكون الحاء. وفيه ثلاثة أقوال أيضًا:
أحدها: التوراة والقرآن، قاله ابن عباس والسدي.
والثاني: الإنجيل والقرآن، قاله قتادة.
والثالث: التوراة والإنجيل، قاله أبو مجلز وإسماعيل بن أبي خالد، ومعنى
وقرأ الجمهور (١): ﴿تَظَاهَرَا﴾ فعلًا ماضيًا على وزن تفاعل. وقرأ طلحة والأعمش: ﴿أظَّاهرا﴾ بهمزة الوصل، وشدِّ الظاء، وكذا هي في حرف عبد الله، وأصله تظاهرًا، فادغم التاء في الظاء فاجتلبت همزة الوصل، لأجل سكون التاء المدغمة، وقرأ محبوب عن الحسن ويحيى بن الحراث الذماري وأبو حيوة وأبو خلا عن اليزيدي: ﴿تظاهرًا﴾ بالتاء وتشديد الظاء، وقال ابن خالويه: وتشديده لحق؛ لأنه فعل ماض، وإنما يشدد في المضارع.
وقال بعضهم: المعنى (٢): أولم يكفر أبناء جنسهم في الرأي والمذهب وهم القبط، بما أوتي موسى من قبل القرآن، قالوا: إن موسى وهارون سحران؛ أي: ساحران تظاهرا، وقالوا: ﴿إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ﴾، يقول الفقير: إنه وإن صح إسناد الكفر إلى أبناء الجنس، من حيث إن ملل الكفر واحدة في الحقيقة، فكُفْر ملة واحدة بشيء في حكم كفر الملل الأخرى به، كما أسند أفعال الآباء إلى الأبناء من حيث رضاهم بما فعلوا لكن يلزم على هذا أن يخص ما أوتي موسى بما عدا الكتاب من الخوارق، فإن إيتاء الكتاب إنما كان بعد إهلاك القبط.
فالمعنى الأول هو الذي يستدعيه جزالة النظم الكريم، ويدل عليه صريحًا قوله تعالى: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ...﴾ الآية.
٤٩ - ثم أمر الله سبحانه رسوله - ﷺ - أن يتحدى قومه، بأن يأتوا بكتاب أهدى للبشر، وأصلح لحالهم في المعاش والمعاد من التوراة والقرآن، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء الكفار الذين يقولون هذا القول تعجيزًا لهم، وتوبيخًا ﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ﴾ سبحانه ﴿هُوَ﴾؛ أي: ذلك الكتاب ﴿أَهْدَى﴾؛ أي: أكثر هداية للبشر وأصلح لهم ﴿مِنْهُمَا﴾؛ أي: مما أوتياه من التوراة والقرآن؛ أي: إذا لم تؤمنوا بهذين الكتابين، وقلتم فيهما ما قلتم فأتوا بكتاب من عند الله هو أوضح
(٢) روح البيان.
﴿أَتَّبِعْهُ﴾ جواب الأمر؛ أي: فإن أتيتم بذلك الأهدى، وجئتم به فإني لأتركهما وأتبع ما تجيئون به، ومثل هذا الشرط يقوله من وضحت حجته وسنحت محجته؛ لأن الإتيان بما هو أهدى من الكتابين أمر بيِّن الاستحالة، فيوسع دائرة الكلام للتبكيت والإفحام والتعجيز المشوب بالتوبيخ.
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في أن التوراة والقرآن سحران مختلفان، وفي إيراد كلمة ﴿إِنْ﴾ مع امتناع صدقهم نوع تهكم بهم، وفيه أيضًا دليل على أن قراءة الكوفيين: ﴿سحران﴾ أقوى من قراءة الجمهور، لأنه رجع الكلام إلى الكتابين، لا إلى الرسولين، ومعنى ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾؛ أي: إن كنتم فيما وصفتم به الكتابين أو الرسولين صادقين جادين.
وقرأ زيد بن علي برفع (١): ﴿أتبعه﴾ على الاستئناف؛ أي: فأنا أتبعه، قال الفراء: إنه على هذه القراءة صفة للكتاب.
٥٠ - ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ﴾؛ أي: فإن لم يستجب لك يا محمد هؤلاء الكفرة دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى، ولن يستجيبوا، كقوله: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ فحذف المفعول به، وهو دعاؤك للعلم به، ولأن فعل الاستجابة يتعدى بنفسه إلى الدعاء، وباللام إلى الداعي، فإذا عدي إليه حذف الدعاء غالبًا. كقوله:
وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيْبُ إِلَى النِّدَا | فَلَمْ يَسْتَجِيْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيْبُ |
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه ﴿لَا يَهْدِي﴾ ولا يرشد إلى دينه ﴿الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى، والإعراض عن الآيات الهادية إلى الحق المبين.
وينبغي للعاقل أن يكون من أهل الهدى، لا من أهل الهوى، وإذا عرض له أمران فلم يدر أيهما أصوب فعليه بما يكرهه، لا بما يهواه، ففي حمل النفس على ما تكرهه مجاهدة، وأكثر الخير في الكراهية والعمل بما أشار إليه العقل السليم واللب الخالص.
والمعنى: أن الله سبحانه لا يوفِّق لإصابة الحق، واتباع سبيل الرشد من خالفوا أمره، وتركوا طاعته، وكذبوا رسله، وبدلوا عهده، واتبعوا هوى أنفسهم إيثارًا منهم لطاعة الشيطان على طاعة الرحمن.
٥١ - ولما أثبت نبوة محمد - ﷺ - بيَّن الحكمة في إنزال القرآن منجمًا، فقال: ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ﴾، قرأ الجمهور ﴿وَصَّلْنَا﴾ مشدد الصاد، والحسن وأبو المتوكل وابن يعمر: بتخفيفها، والضمير في ﴿لَهُمُ﴾ لقريش، والتوصيل مبالغة في الوصل، وحقيقة الوصل رفع الحائل بين الشيئين؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أكثرنا لقريش القول موصولًا بعضه ببعض، بأن أنزلنا عليهم القرآن آية بعد آية، وسورة بعد سورة، حسبما تقتضيه الحكمة، ليتصل التذكير، ويكون أدعى لهم؛ أي: أنزلنا القرآن يتبع بعضه بعضًا، ويُخبر عن الأمم الخالية كيف عذبوا ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ ويتعظون فيؤمنون.
٥٢ - ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ﴾ وأعطيناهم ﴿الْكِتَابَ﴾؛ أي: التوارة والإنجيل. والمراد بالكتاب الجنس الصادق بالكتابين، وهم مؤمنو أهل الكتاب، ﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾؛ أي: من قبل إيتاء القرآن، أو من قبل محمد - ﷺ -. والموصول مبتدأ خبره جملة قوله: ﴿هُمْ بِهِ﴾؛ أي: بالقرآن ﴿يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: يصدقون كونه من عند الله سبحانه؛ أي: الذين آمنوا بالتوراة والإنجيل من أهل الكتاب، ثم أدركوا محمدًا - ﷺ -، كعبد الله بن سلام وأضرابه، هم يؤمنون بالقرآن؛ لأنهم قد وجدوا في كتبهم البشرى به، وانطباق الأوصاف عليه. ونحو الآية قوله: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ﴾ وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾.
٥٣ - ثم بيَّن ما أوجب إيمانهم به بقوله: ﴿وَإِذَا يُتْلَى﴾ هذا القرآن ﴿عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ﴾؛ أي: صدَّقنا بأنه كلام الله سبحانه، وقالوا: ﴿إِنَّهُ الْحَقُّ﴾ الذي نزل ﴿مِنْ﴾ عند ﴿رَبِّنَا﴾ حقًا و ﴿إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ﴾؛ أي: من قبل نزوله وقراءته علينا ﴿مُسْلِمِينَ﴾؛ أي: مخلصين لله بالتوحيد، مؤمنين بمحمد - ﷺ -، أنه نبي حق؛ أي: وإذا تُلي هذا القرآن عليهم قالوا: صدقنا بأنه نزل من عند ربنا حقًا، وقد كنا مصدقين به قبل نزوله، لأنا وجدنا في كتبنا نعت محمد، ونعت كتابه. وفي هذا إيماء إلى أن إيمانهم به أمر متقادم العهد، لما شاهدوا ذكره في الكتب المتقدمة، وأنهم على دين الإسلام قبل نزول القرآن.
٥٤ - والإشارة بقوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ إلى الموصوفين بتلك الصفات، أي: أولئك
وفي "التأويلات النجمية" (١): على مخالفة هواهم، وموافقة أوامر الشرع ونواهيه، وفي الحديث: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، رجل كانت له جارية، فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم تزوجها فله أجره مرتين، وعبد أدى حق الله وحق مواليه، ورجل آمن بالكتاب الأول، ثم آمن بالقرآن، فله أجره مرتين" متفق عليه.
﴿وَيَدْرَءُونَ﴾؛ أي: يدفعون ﴿بـ﴾ ـالخصلة ﴿الْحَسَنَةِ﴾ وبالطاعة الخصلة ﴿السَّيِّئَةَ﴾؛ أي: القبيحة والمعصية، أو بالقول الحسن القول القبيح، أو بالاحتمال والصفح ما يلاقونه من الأذى. وقيل بالتوبة والاستغفار الذنوبَ. وقيل: بشهادة أن لا إله إلا الله الشركَ.
﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾؛ أي: وينفقدن مما أعطاهم الله من فضله من المال الحلال النفقات الواجبة لأهلهم، وذوي قرباهم، ويؤدون الزكاة المفروضة عليهم، ويساعدون البائسين وذوي الخصاصة المعوزين.
٥٥ - ثم مدحهم سبحانه بإعراضهم عن اللغو فقال: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ﴾؛ أي: ما لا ينفع في دين ودنيا ﴿أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾؛ أي: عن اللغو ﴿وَقَالُوا﴾ لِلَّاغين ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا﴾ من الحلم والصفح ونحوهما ﴿وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ من اللغو والسفاهة وغيرهما، فكل مطالب بعمله، فلا يلحقنا من ضرر كفركم شيء، ولا يلحقكم من نفع إيماننا شيء ﴿سَلَامٌ﴾ وأمنة منا، وبراءة من ضررنا عليكم، فلا نقابلكم بمثل ما فعلتم بنا، ولا نجازيكم عليه، لأن المراد بالسلام هنا سلام متاركة وإعراض عن
﴿لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾؛ أي: لا نطلب صحبتهم، ولا نريد مخالطتهم ومخاطبتهم، والتخلق بأخلاقهم، ولا نجازيهم بالباطل على باطلهم، فإن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب، ويقولون: تبًا لكم تركتم دينكم، فيُعرضون، ولا يردون عليهم، قال الزجاج: وهذا قبل الأمر بالقتال، وقال صاحب "الروح": وحكم الآية وإن كان منسوخًا بآية السيف إلا أنَّ فيها حثًا على مكارم الأخلاق.
وفي الحديث: "ثلاث من لم يكنَّ فيه فلا يعتد بعلمه، حلم يرد به جهل جاهل، وورع يحجز عن معاصي الله، وحسن خلق يعيش به في الناس". وما أحسن قول بعضهم:
إِذَا رَأَيْتَ أَثِيْمَا | كُنْ سَاتِرًا وَحَلِيْمَا |
يَا مَنْ يُقَبِّحُ لَغْوِيْ | لِمْ لَا تَمُرُّ كَرِيْمَا |
روى محمد بن إسحاق أنه قدم على رسول الله - ﷺ - وهو بمكة عشرون رجلًا أو يزيدون من نصارى الحبشة، حين بلغهم خبره، فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه، وكلموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مساءلته عما أرادوا دعاهم إلى الله، وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوه فاضت
واعلم: أن اللغو عند أهل المعرفة كل ما يشغلك عن العبادة وذكر الحق، وكل كلام بغير خطاب الحال والواقعة، وطلب ما سوى الله سبحانه وتعالى.
الإعراب
﴿قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (٣٥)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة، ﴿سَنَشُدّ﴾ ﴿السين﴾: حرف استقبال لتأكيد معنى الفعل، ﴿نشد﴾: فعل وفاعل مستتر، ﴿عَضُدَكَ﴾: مفعول به، ﴿بِأَخِيكَ﴾ متعلق بـ ﴿نشد﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَنَجْعَلُ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر معطوف على ﴿نشد﴾، ﴿لَكُمَا﴾ جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ ﴿جعل﴾، ﴿سُلْطَانًا﴾: مفعول أول له، ﴿فَلَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿لا﴾: نافية، ﴿يَصِلُونَ﴾: فعل وفاعل معطوت على ﴿نجعل﴾، ﴿إِلَيْكُمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَصِلُونَ﴾، ﴿بِآيَاتِنَا﴾: إما متعلق بـ ﴿نجعل﴾، أو بـ ﴿يَصِلُونَ﴾، أو بمحذوف، تقديره: اذهبا، أو بسلطاننا؛ أي: نسلطكما بآياتنا، أو بمحذوف حال، أو من لغو القسم، ولا أرى موجبًا لترجيح بعضهم على بعض. فاختر منها ما ترى ترجيحه. ﴿أَنْتُمَا﴾: مبتدأ، ﴿وَمَنِ﴾: اسم موصول في محل الرفع معطوف على ﴿أَنْتُمَا﴾، ﴿اتَّبَعَكُمَا﴾: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به صلة ﴿مَن﴾ الموصولة، ﴿الْغَالِبُونَ﴾: خبر ﴿أَنْتُمَا﴾ وما عطف عليه، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف معلوم من السياق، تقديره: فجاءهم موسى بآياتنا فلما جاءهم قال إلخ، ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿جَاءَهُمْ مُوسَى﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، ﴿بِآيَاتِنَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿جاء﴾، أو بمحذوف حال من ﴿مُوسَى﴾، ﴿بَيِّنَاتٍ﴾: حال من ﴿آياتنا﴾. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لما﴾ معطوفة على الجملة المحذوفة. ﴿مَا﴾ نافية، ﴿هَذَا﴾: مبتدأ، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿سِحْرٌ﴾: خبر المبتدأ، ﴿مُفْتَرًى﴾: صفة ﴿سِحْرٌ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ما﴾: نافية، ﴿سَمِعْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿بِهَذَا﴾ متعلق بـ ﴿سَمِعْنَا﴾، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية في قوله: ﴿مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ﴾، ﴿فِي آبَائِنَا﴾: جار ومجرور حال من ﴿هَذَا﴾؛ أي: حال كونه كائنًا في آبائنا، ﴿الْأَوَّلِينَ﴾ صفة لـ ﴿آبَائِنَا﴾. ﴿وَقَالَ مُوسَى﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿قَالُوا﴾، ﴿رَبِّي أَعْلَمُ﴾: مبتدأ وخبر، ﴿بِمَنْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مقول (قَالَ)، ﴿جَاءَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر، ﴿بِالْهُدَى﴾: متعلق بـ ﴿جَاءَ﴾، والجملة صلة ﴿من﴾ الموصولة، ﴿مِنْ عِنْدِهِ﴾: جار ومجرور حال من ﴿الهدى﴾، ﴿وَمَنْ﴾ اسم موصول في محل الجر معطوف على ﴿من﴾ الأولى، ﴿تَكُونُ﴾: فعل مضارع ناقص، ﴿لَهُ﴾: خبر مقدم لـ ﴿تَكُونُ﴾، ﴿عَاقِبَةُ الدَّارِ﴾: اسمها مؤخر، وجملة ﴿تَكُونُ﴾ صلة ﴿مَن﴾ الموصولة، ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، على كونها مقول ﴿قَالَ﴾.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى
﴿وَقَالَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة على محذوف، تقديره: وجمع فرعون السحرة وقال، ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ﴾: فعل وفاعل، معطوف على تلك الجملة المحذوفة، ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة، ﴿ها﴾: حرف تنبيه زائد، ﴿الْمَلَأُ﴾: بدل من ﴿أي﴾، أو عطف بيان منه، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿ما﴾: نافية، ﴿عَلِمْتُ﴾: فعل وفاعل، ﴿لَكُمْ﴾: حال من ﴿إِلَهٍ﴾، لأنه صفة نكرة قدمت عليها، ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿إِلَهٍ﴾: مفعول به، ﴿غَيْرِي﴾: صفة لـ ﴿إِلَهٍ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾: على كونها جواب النداء. ﴿فَأَوْقِدْ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿أوقد﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على ﴿هَامَانُ﴾. ﴿لِي﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿مَا عَلِمْتُ﴾، ﴿يَا هَامَانُ﴾: منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿فَاجْعَلْ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿اجعل﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر معطوف على ﴿أوقد﴾، ﴿عَلَى الطِّينِ﴾: متعلق بـ ﴿أَوْقِدْ﴾، ﴿لِي﴾: جار ومجرور في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿اجعل﴾، ﴿صَرْحًا﴾: مفعول أول له. ﴿لَعَلِّي﴾: ناصب واسمه، ﴿أَطَّلِعُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، والجملة في محل الرفع خبر ﴿لعل﴾، وجملة ﴿لعل﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿إِلَى إِلَهِ مُوسَى﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَطَّلِعُ﴾؛ ﴿وَإِنِّي﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إني﴾ ناصب واسمه، ﴿لَأَظُنُّهُ﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿أظنه﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر ومفعول أول، ﴿مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾: جار ومجرور في محل المفعول الثاني، وجملة ﴿أظن﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب معطوفة على جملة ﴿لعل﴾.
﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (٣٩) {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠)﴾.
﴿وَاسْتَكْبَرَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿استكبر﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود
﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢)﴾.
﴿وَجَعَلْنَاهُمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿جعلناهم أئمة﴾: فعل وفاعل ومفعولان، معطوف على ﴿نبذناهم﴾؛ ﴿يَدْعُونَ﴾: فعل وفاعل، ﴿إِلَى النَّارِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ ﴿أَئِمَّةً﴾، ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿يوم القيامة﴾: متعلق بـ ﴿يُنْصَرُونَ﴾، وجملة ﴿لَا يُنْصَرُونَ﴾ في محل النصب معطوفة على جملة ﴿يَدْعُونَ﴾. ﴿وَأَتْبَعْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، معطوف على قوله: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً﴾ ﴿فِي هَذِهِ﴾: جار ومجرور حال من
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لقد﴾ ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾: فعل وفاعل ومفعولان، لأن ﴿أتى﴾ هنا بمعنى أعطى يتعدى إلى مفعولين، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، ﴿مِنْ بَعْدِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿آتَيْنَا﴾، ﴿مَا﴾: مصدرية، ﴿أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، ﴿الْأُولَى﴾: صفة لـ ﴿الْقُرُونَ﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿مَا﴾ المصدرية، ﴿مَا﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من بعد إهلاكنا القرون الأولى، ﴿بَصَائِرَ﴾: حال من ﴿الْكِتَابَ﴾، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: ذا بصائر، أو جعله نفس البصائر مبالغة، أو مفعول لأجله، ﴿لَلنَاسِ﴾: جار ومجرور نعت لـ ﴿بصائر﴾، ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةً﴾: معطوفان على ﴿بَصَائِرَ﴾، ﴿لَعَلَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يَتَذَكَّرُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿لعل﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل الإيتاء.
﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤)﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿ما﴾: نافية، ﴿كُنْتَ﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿بِجَانِبِ﴾: جار ومجرور خبر كان، ﴿الْغَرْبِيِّ﴾: مضاف إليه، وهو على حذف
﴿وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦)﴾.
﴿وَلَكِنَّا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لكنا﴾: ناصب واسمه، ﴿أَنْشَأْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿قُرُونًا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿لكن﴾، وجملة ﴿لكن﴾ معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ﴾، ﴿فَتَطَاوَلَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿تطاول﴾: فعل ماض، ﴿عَلَيْهِمُ﴾: متعلق بـ ﴿تطاول﴾، ﴿الْعُمُرُ﴾: فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَنْشَأْنَا﴾. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ما﴾: نافية، ﴿كُنْتَ ثَاوِيًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، ﴿فِي أَهْلِ مَدْيَنَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿ثَاوِيًا﴾، و ﴿مَدْيَنَ﴾ ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي، والجملة معطوفة على جملة ﴿كان﴾ الأولى، ﴿تَتْلُو﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد، ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿تَتْلُو﴾، ﴿آيَاتِنَا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الضمير المستكن في ﴿ثَاوِيًا﴾، أو خبر ثان لـ ﴿كان﴾. ﴿وَلَكِنَّا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لكِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿كُنَّا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿مُرْسِلِينَ﴾: خبره، وجملة ﴿كان﴾ في محل الرفع خبر ﴿لكن﴾، وجملة ﴿لكن﴾ معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا﴾. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿كُنْتَ﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿بِجَانِبِ الطُّورِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه خبر ﴿كان﴾، وجملة
﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)﴾.
﴿وَلَوْلَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، أو عاطفة، ﴿لولا﴾: حرف امتناع لوجود، ﴿أَنْ﴾: حرف مصدر، ﴿تُصِيبَهُمْ﴾: فعل مضارع ومفعول به منصوب بـ ﴿أن﴾ المصدرية، ﴿مُصِيبَةٌ﴾: فاعل، والجملة الفعلية مع ﴿أَن﴾ المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف وجوبًا، تقديره: ولولا إصابة المصيبة إياهم موجود، وجواب ﴿لَوْلَا﴾ محذوف أيضًا، تقديره: لما أرسلناك رسولًا، وجملة ﴿لَوْلَا﴾ مع جوابها مستأنفة لا محل لها من الإعراب، أو معطوفة على ما قبلها، ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تُصِيبَهُمْ﴾، ﴿قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: بما قدمته أيديهم. ﴿فَيَقُولُوا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿يقولوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿تُصِيبَهُمْ﴾: منصوب بحذف النون، ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب
﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (٤٨)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف، تقديره: فجاءهم الحق من عندنا فلما جاءهم الحق، ﴿لمّا﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿جَاءَهُمُ الْحَقُّ﴾: فعل ومفعول وفاعل، ﴿مِنْ عِنْدِنَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿جاء﴾، أو حال من ﴿الْحَقُّ﴾، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لما﴾ معطوفة على تلك المحذوفة، ﴿لَوْلَا﴾: حرف تحضيض بمعنى هلا، ﴿أُوتِيَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير مستتر يعود علي محمد، ﴿مِثْلَ﴾: مفعول ثان لـ ﴿أُوتِيَ﴾، وهو مضاف، و ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الجر مضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿أُوتِيَ مُوسَى﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: مثل ما أوتيه موسى. ﴿أَوَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيقول أهل مكة ذلك، ﴿لم﴾: حرف جزم ونفي، ﴿يَكْفُرُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لم﴾،
﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿فَأْتُوا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا قلتم هذان سحران تظاهرا، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم فأقول لكم ائتوا، ﴿أئتوا﴾: فعل أمر وفاعل مبني على حذف النون، ﴿بِكِتَابٍ﴾ متعلق به، ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ ﴿كتاب﴾؛ أي: بكتاب كائن من عند الله تعالى، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿هُوَ أَهْدَى﴾: مبتدأ وخبر، ﴿مِنْهُمَا﴾: متعلق بـ ﴿أَهْدَى﴾، والجملة الاسمية في محل الجر صفة ثانية لـ ﴿كتاب﴾، ﴿أَتَّبِعْهُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، مجزوم بالطلب السابق، والجملة الفعلية جملة جوابية لا محل لها من الإعراب، ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بإن، الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿صَادِقِينَ﴾: خبر ﴿كان﴾، وجواب إن الشرطية معلوم مما قبلها،
﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿وَصَّلْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿لَهُمُ﴾: متعلق بـ ﴿وَصَّلْنَا﴾، ﴿الْقَوْلَ﴾: مفعول به، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة،
﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (٥٥)﴾.
﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿سَمِعُوا اللَّغْوَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾ على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، ﴿أَعْرَضُوا﴾: فعل وفاعل، ﴿عَنْهُ﴾: متعلق به، والجملة جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿يُؤْتَوْنَ﴾ على كونها خبر المبتدأ. ﴿وَقَالُوا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿أَعْرَضُوا﴾، ﴿لَنَا﴾: خبر مقدم، ﴿أَعْمَالُنَا﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾: خبر مقدم ومبتدأ مؤخر، معطوف على ما قبله، ﴿سَلَامٌ﴾: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة كونه في الأصل دعاء، أو وصفه بمحذوف، تقديره: منا، ﴿عَلَيْكُمْ﴾: خبره، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿نَبْتَغِي﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، ﴿الْجَاهِلِينَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ضمير المتكلمين في قوله: ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا﴾؛ أي: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، أو سلام منا عليكم، حالة كوننا لا نطلب صحبة الجاهلين ومعاشرتهم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ﴾ العضد ما بين المرفق والكتف، وفي "إعراب القرآن": العَضُد بفتح العين وضم الضاد، وبالضم وبالكسر: غليظ الذراع، وهو من المرفق إلى الكتف، جمعه أعضاد وأعضد، وهو قوام اليد، وبشدته تشتد اليد، والمراد بشد العضد التقوية والإعانة، ﴿سُلْطَانًا﴾ والسلطان: التسلط والغلبة، ﴿مُفْتَرًى﴾؛ أي: مختلق لم يفعل قبل هذا الوقت مثله، أو تعلمته ثم افتريته على الله، اهـ "أبو السعود".
﴿عَلَى الطِّينِ﴾ والطين هو التراب والماء المختلط؛ أي: أوقد لي على الطين
﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ﴾ والاستكبار إظهار الكبر باطلًا، بخلاف التكبر، فإنه أعم، والكبر ظن الإنسان أنه أكبر من غيره، ﴿لَا يُرْجَعُونَ﴾؛ أي: لا يُردون بالبعث للجزاء، من رُجع رجعًا، إذا رُد وصُرف، ﴿فَنَبَذْنَاهُمْ﴾؛ أي: فطرحناهم، قال الراغب: النبذ إلقاء الشيء وطرحه، لقلة الاعتداد به، ﴿أَئِمَّةً﴾؛ أي: قدوة يقتدي بهم أهل الضلال، فيكون عليهم وزرهم وزر من تبعهم، ﴿لَعْنَةً﴾؛ أي: طردًا من الرحمة.
﴿مِنَ الْمَقْبُوحِينَ﴾ جمع مقبوح، والمقبوح المطرود؛ أي: من المخزيين، يقال: قبَّحه الله إذا طرده ونحاه من كل خير، وفي "المصباح": قبح الشيء قبحًا فهو قبيح، من باب قرب، وهو خلاف حسن، ﴿هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ﴾؛ أي: من المبعدين عن الفوز، والتثقيل مبالغة، وقبَّح عليه فعله تقبيحًا، وقال أبو زيد: قبح الله فلانًا قُبْحًا وقُبوحًا: أبعده من كل خير، وقال أبو عمرو: قبحت وجهه بالتخفيف بمعنى قبَّحْتُ بالتشديد، ومثله قول الشاعر:
ألَا قَبَحَ الله الْبَرَاجِمَ كُلَّهَا | وَقَبَحَ يَرْبُوْعًا وَقَبَحَ دَارِمَا |
﴿بَصَائِرَ لِلنَّاسِ﴾ والبصائر جمع بصيرة، وهي نور القلب الذي به يُستبصر، كما أن البصر نور العين الذي به تبصر، والبصيرة العقل والفطنة والعبرة والشاهد والحجة، يقال: جوارحه بصيرة عليه؛ أي: شهود، وفراسة ذات بصيرة؛ أي: صادقة، والجمع بصائر، وقوله: ﴿بَصَائِرَ لِلنَّاسِ﴾؛ أي: أنوارًا لقلوبهم تبصر بها
﴿فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ﴾ والعُمْر والعُمُر بالفتح والضم وبضمتين: الحياة، قال الراغب: العمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة؛ أي: طال عليهم الحياة وتمادى الأمد، ﴿ثَاوِيًا﴾؛ أي: مقيمًا، يقال: ثوى يثوى - من باب ضرب - ثواءً وثويًا، فهو ثاو المكان وفيه وبه أقام، وثوى الرجل إذا مات. قال عُبيد بن الأبرص في مطلع معلَّقته:
آذَنَتْنَا بَبَيْنِهَا أَسْمَاءُ | رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثُّوَاءُ |
﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ﴾ والتوصيل مبالغة في الوصل، وحقيقة الوصل رفع الحائل بين الشيئين، والتوصيل ضم قطع الحبل بعضها إلى بعض، قال شاعرهم:
فَقُلْ لِبَنِيْ مَرْوَانَ مَا بَالُ ذِمَّتِيْ | بِحَبْلٍ ضَعِيْفٍ مَا يَزَالُ يُوَصَّلُ |
﴿اللَّغْوَ﴾ اللغو الساقط من الكلام، وكل ما حقه أن يُلغى ويُترك من العبث وسخف القول، ﴿لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ الابتغاء الطلب، والجهل معرفة الشىء على خلاف ما هو عليه؛ أي: لا نطلب صحبتهم ولا مخالطتهم.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾ على طريق إطلاق السبب وإرادة المسبب، بمرتبتين تتبع إحداهما ثانيتهما، فإن شدة العضد سبب مستلزم لشدة اليد، وشدة اليد مستلزمة لقوة الشخص في المرتبة الثانية،
ومنها: الإطناب البديع في قوله: ﴿فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ﴾ ولم يقل اطبخ لي الآجر، لأنه تركيبه مع سهولة لفظه ليس بفصيح، وذلك أمر يقرره الذوق وحده، فعبر عن الآجر بالوقود على الطين، فإن هذه العبارة أحسن مطابقة لفصاحة القرآن وعلو طبقته.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿بَصَائِرَ لِلنَّاسِ﴾؛ أي: أعطيناه التوراة كأنها أنوار لقلوب الناس، حُذف أداة الشبه ووجه الشبه، فأصبح بليغًا. قال في "حاشية البيضاوي": أي: مشبهًا بأنوار القلوب، من حيث إن القلوب لو كانت خالية عن أنوار التوراة وعلومها لكانت عمياء، لا تستبصر، ولا تعرف حقًا من باطل.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿أَنْشَأْنَا قُرُونًا﴾؛ أي: أهل قرون، لأن المراد به الأمم، لأنهم يُخلقون في تلك الأزمنة، فنُسبوا إلى القرون بطريق المجاز العقلي.
ومنها: جناس التحريف في قوله: ﴿وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ وهو ما يفوق فيه بين الكلمتين، أو بعضهما بضبط الشكل، مثاله في الشعر قول أبي العلاء المعري:
وَالْحُسْنُ يَظْهَرُ فِيْ شَيْئَيْنِ رَوْنَقُهُ | بَيْتٍ مِنَ الشِّعْرِ أوْ بَيْتِ مِنَ الشَّعْرِ |
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ فإن المراد بما كسبوا، وهو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، قال الزمخشري: ولما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدي جُعل كل عمل معبرًا عنه باجتراح الأيدي.
ومنها: التحضيض في قوله: ﴿لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى﴾؛ أي: هلا أوتي، فهي للتحضيض، وليست حرف امتناع لوجود.
ومنها: تكرار حرف الاستدراك بقوله: ﴿وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا﴾، وبقوله: ﴿وَلَكِنَّا كُنَّا﴾، وبقوله: ﴿وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾.
ومنها: تكرار لولا بقوله: ﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ﴾ وبقوله: ﴿لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا﴾ وبقوله: ﴿قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ﴾، ولكن الأولى حرف امتناع لوجود، والأخيرتان حرفا تحضيض.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا﴾.
ومنها: تكرار ﴿أُوتِيَ﴾ ثلاث مرات.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾.
ومنها: التعجيز في قوله: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ﴾ فالأمر خرج فيه عن حقيقته إلى معنى التعجيز.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (٥٨) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (٥٩) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ...﴾
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (٢) أن التمتع بزينة الدنيا وزخرفها دون طاعة الله وعظيم شكره على نعمه يكون وبالًا على الكافر يوم القيامة حين يحضر للعذاب.. أردف ذلك بيان ما يحصل في هذا اليوم من الإهانة والتقريع للمشركين، حين يسألهم سؤالات يحارون في الجواب عنها، ويشتد عليهم الخطب حين لا يجدون مخلصًا، ومعذرة تُبرِّر لهم ما كانوا يقترفون، فيسألهم أولًا عن الآلهة التي كانوا يعبدونها في الدنيا، من أصنام وأوثان، هل ينصرونهم أو ينتصرون، ثم يأمرهم بدعوتهم فلا يجدون منهم ردًا، ثم يسألهم عما أجابوا به الرسل حين دعوهم إلى الإيمان بربهم، فتخفى عليهم الحجج التي تُنجيهم من العذاب الذي لا مفر لهم منه، ولا يستطيع بعضهم أن يسأل بعضًا عما يلقنه من حجة لهول الموقف، واشتداد الخطب، ثم ذكر بعدئذٍ حال المؤمنين بربهم الذين عملوا صالح الأعمال، وبيَّن أنهم يلقون الفوز والظفر بالمراد فضلًا من ربهم ورحمة.
(٢) المراغي.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أنه المستحق للحمد على ما أولاه من النعم، وتفضل به من المنن.. أردف هذا تفصيل ما يجب أن يُحمد عليه منها، ولا يقدر عليه سواه.
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (٢) وبَّخ المشركين أولًا على فساد رأيهم في اتخاذ الشركاء لله، ثم ذكر التوحيد ودلائله.. عاد إلى تقريعهم وتبكيتهم ثانيًا، ببيان أن إشراكهم لم يكن عن دليل صحيح، بل كان عن محض الهوى، كما يُرشد إلى ذلك قوله: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾.
أسباب النزول
قوله تعالى ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (٣) مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة أتاه النبي - ﷺ -، وقال: "يا عماه قل: لا إله إلا الله، أشهد لك بها عند الله يوم القيامة"، فقال: لولا أن تعيِّرني قريش، يقولون: ما حمله على ذلك إلا
(٢) المراغي.
(٣) لباب النقول.
قوله: ﴿إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس: أن أناسًا من قريش قالوا للنبي - ﷺ -: إن نتبعك يخطفنا الناس، فنزلت هذه الآية. وأخرج النسائي عن ابن عباس أن الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف أتى النبي - ﷺ - فقال: نحن نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب، ونحن أكلة رأس - يريد أنا قليلو العدد - أن يتخطفونا، فنزل قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى...﴾ الآية.
قوله: ﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية في النبي - ﷺ -، وفي أبي جهل بن هشام. وأخرج عنه من وجه آخر أنها نزلت في حمزة وأبي جهل.
التفسير وأوجه القراءة
٥٦ - ﴿إِنَّكَ﴾ يا محمد ﴿لَا تَهْدِي﴾ هداية موصلة إلى المقصود لا محالة، ﴿مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ هدايته (١)، وقيل: أحببته لقرابته؛ أي: إنك يا محمد لا تستطيع هداية من أحببت من قومك، أو من غيرهم هداية موصلة إلى البغية، ولا تقدر أن تدخله في الإِسلام، وإن بذلت فيه غاية الطاقة، وسعيت كل السعي، ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ هدايته فيدخله في الإِسلام؛ أي: إن الله سبحانه يقذف في قلب من يشاء نور الهداية فينشرح صدره للإسلام، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة في ذلك، وإنما عليك البلاغ.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه ﴿أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾؛ أي: بالمستعدين للهداية من غيرهم، فلا يهدي إلا المستعد لها، فيُمْنَحونها، ومنهم الذين ذكرت أوصافهم من أهل الكتاب، دون من هم من أهل الغواية، كقومك وعشيرتك. وفي "الخازن": ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾؛ أي: بمن قدر له في الأزل أن يهتدي. اهـ.
وَدَعَوْتَنِيْ وَعَلِمْتُ أنَّكَ صَادِقٌ | وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ قَبْلُ أَمِيْنَا |
وَلَقْدَ عَلِمْتُ بِأن دِيْنَ مُحمدٍ | مِنْ خَيْرِ أدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِيْنَا |
لَوْلَا الْمَلاَمَةُ أَوْ حِذَارُ مَسَبَّةٍ | لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِيْنَا |
وبمعنى الآية قوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ وقوله: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣)﴾.
فإن قلت (١): إن بين هذه الآية وآية ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ تناقضًا فما وجه الجمع بينهما؟
قلت: يُجمع بينهما بأن المنفي هنا خلق الهداية التي هي عبارة عن تقليب القلب من الباطل - وهو ما سوى الله - إلى الحق، وهو الله سبحانه، فليس هذا من شأن غير الله سبحانه، والمثبت هناك الدلالة على الدين القويم، وهذا هو الذي كان من شأن النبي - ﷺ - وغيره من كل مرشد.
٥٧ - ثم أخبر سبحانه عن اعتذار بعض الكفار في عدم اتباعهم للهدى، فقال: ﴿وَقَالُوا﴾؛ أي: قال مشركو مكة ومن تابعهم ﴿إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ﴾ وندخل في
وقرأ الجمهور: ﴿نُتَخَطَّفْ﴾ بالجزم جوابا للشرط. وقرأ المنقري: بالرفع على الاستئناف، مثل قوله تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ﴾ برفع الكاف؛ أي: فهو يدرككم الموت، والمعنى؛ أي: وقال كفار مكة: لقد نعلم يا محمد أنك على الحق، وأنك ما كذبت كذبة قط فنتهمك اليوم، ولكنا نخاف ونخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى، وخالفنا العرب أن يتخطفونا؛ أي: أن يأخذونا ويسلبونا ويقتلونا، ويخرجونا من مكة والحرم لإجماعهم على خلافنا، وهم كثيرون، ونحن أكلة رأس؛ أي: قليلون، لا نستطيع مقاومتهم.
ثم رد الله ذلك عليهم ردًا مصدرًا باستفهام تقرير مضمن للتوبيخ، فقال: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا﴾ والهمزة فيه للاستفهام التقريري داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم نعصمهم ونجعل مكانهم حرمًا ذا أمن، لحرمة البيت الذي فيه، وذلك (١) أن العرب كانت في الجاهلية يغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضًا، وأهل مكة آمنون حيث كانوا لحرمة الحرم، ومن المعروف أنه كان يأمن فيه الظباء من الذئاب، والحمام من الحدأة.
ثم وصف هذا الحرم بقوله: ﴿يُجْبَى إِلَيْهِ﴾؛ أي: يُجلب إلى ذلك الحرم، ويُجمع إليه، ويُحمل من الشام ومصر والعراق ومن أوروبا وآسيا وأفريقيا وأمريكيا وغيرها برًا وبحرًا وجوًا ﴿ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ من أنواع الثمار والفواكه والحبوب؛ أي: يُحمل ويُجلب إليه أنواع الثمرات والفاكهات والخضروات والأبازير والبضاعات، من مشارق الأرض ومغاربها، برًا وبحرًا وجوًا، فلا ترى شرقي الفواكه ولا غربيَّها مجمعة إلا في مكة، لدعاء إبراهيم عليه السلام حيث
وقرأ الجمهور (٢): ﴿يُجْبَى﴾ بالتحتية اعتبارًا بتذكير كل شيء، ووجود الفاصل بين الفعل وثمرات، وأيضًا ليس تأنيث ثمرات بحقيقي، واختار قراءة الجمهور أبي عبيد لما ذكرنا، وقرأ نافع وجماعة عز يعقوب وأبو حاتم عز عاصم: ﴿تُجبى﴾ بالتاء الفوقية اعتبارًا بثمرات، وقرأ (٣) الجمهور أيضًا: ﴿ثَمَرات﴾ بفتحتين، وقرأ أبان بن تغلب: بضمتين، جمع ثُمُر بضمتين، وقرأ بعضهم: ﴿ثمرات﴾ بفتح الثاء لاسكان الميم، وانتصاب ﴿رِزْقًا﴾ على أنه مصدر مؤكد لمعنى يُجبى؛ لأن فيه معنى يرزق؛ أي: يرزقون رزقًا.
﴿مِنْ لَدُنَّا﴾؛ أي: من عندنا، لا أو عند المخلوقات، فإذا كان حالهم هذا، وهم عبدة الأصنام، فكيف يخافون التخطف إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة التوحيد، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ بأن ذلك الرزق هو أو عندنا، أي: أكثر أهل مكة جهلة، لا يتفطنون له ولا يتفكرون، ليعلموا ذلك لفرط جهلهم ومزيد غفلتهم، وعدًا تفكرهم في أمر معادهم ورشادهم، لكونهم ممن طبع الله على قلبه، وجعل على بصره غشاوة.
وحاصل المعنى: أي إن ما اعتذرتم به لا يصلح أو يكون عذرًا؛ لأنا جعلناكم في بلد أمين، وحرم معظَّم منذ وجد، فكيف يكون هذا الحرم آمنًا لكم حال كفركم وشرككم، ولا يكون أمنًا لكم وقد أسلمتم، واتبعتم الحق.
قال يحيى بن سلام: يقبل سبحانه: كنتم آمنين في حرمي، تأكلون رزقي، وتعبدون غيري، أفتخافون إذ عبدتموني، وآمنتم بي، وقد تفضل عليكم ربكم،
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
٥٨ - وقوله: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾؛ أي: وأهلكنا كثيرًا من أهل قرية بطرت وطغت، وكفرت في معشيتا، وأساءت في حقوق نعم الله عليها من الشكر، تخويف (١) لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم بإنعام الله عليهم فلم يشكروا النعمة، وقابلوها بالبطر فأُهلكوا، ورد لقولهم (٢): ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ...﴾ إلخ، فقد اعتقدوا أنهم ما داموا على دينهم فإنهم في أمن، وإن اتبعوا الرسول نزل بهم البلاء، فبيَّن الله لهم أو الأمر بالعكس، وهو إن تركوا دينهم وأسلموا أمنهم الله من عذاب الدنيا والآخرة، وإن داموا على دينهم، يؤمنهم الله أو عذاب الدارين، بدليل أنه أهلك كثيرًا أو القرى بأنواع العذاب لكفرهم.
وهذا هو الرد الثاني على شبهتهم، فإنه بعد أن بين ما خص به أهل مكة من النعم، أتبعه بما أنزله على الأمم الماضية، الذين كانوا في رغد أو العيش، فكذبوا الرسل، فازال عنهم تلك النعم، وأحل بهم النقم.
وفي أبي السعود: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ...﴾ إلخ، بيَّن الله (٣) بهذا أو الأمر بالعكس، وأنهم أحقاء بأن يخافوا بأس الله، ولا يغتروا بالأمن الحاصل لهم؛ أي: وكثيرًا من أهل القرى كان حالهم كحال هؤلاء في الأمن والمخصب، فبطروا وطغوا فدمرهم الله، وخرَّب ديارهم. اهـ.
قال عطاء: عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام. اهـ وإجمال
(٢) الفتوحات.
(٣) أبي السعود.
﴿فَتِلْكَ﴾ القرى التي تمرون عليها في أسفاركم إلى الشام، كديار ثمود وقوم شعيب، ﴿مَسَاكِنُهُمْ﴾؛ أي: مساكن الذين ظلموا - ومنازلهم قد خربت - باقية الآثار، تشاهدونها في ذهابكم وإيابكم، حالة كونها ﴿لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ أي: من بعد هلاكهم ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ من الزمن للمارة، فإنهم يلبثون فيها يومًا أو بعض يوم للاستراحة والعبرة، ويحتمل (١) أن شؤم معاصي المهلكين بقي أثره في ديارهم، فلم يبق أو يسكنها أو أعقابهم إلا قليلًا، إذ لا بركة في سُكنى الأرض الشؤم، وقال بعضهم: سكنها الهام والبوم، ولذا كان أو تسبيحها سبحان الحي الذي لا يموت، وقيل: لم يُعمر منها إلا أقلها، وأكثرها خراب.
﴿وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾ منهم لتلك المساكن؛ لأنهم، يتركوا وارثًا يرث منازلهم وأموالهم، ولم يخلفوا أحدًا يتصرف تصرفهم في ديارهم وسائر متصرفاتهم، وصار أمرها إلى الله تعالى؛ لأنه الباقي بعد فناء الخلق، والشيء إذا لم يبق له مالك معين قيل أنه ميراث الله؛ لأنه هو الباقي بعد خلقه. ونحو الآية قوله: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (١١٣)﴾.
٥٩ - ثم أخبر سبحانه عن عدله، وأنه لا يُهلك أحدًا إلا بعد الإنذار، وقيام الحجة بإرسال الرسل، فقال: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى﴾؛ أي: وما كانت عادة ربك يا محمد وسنته في كل زمان أن يُهلك أهل القرى قبل الإنذار ﴿حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا﴾؛ أي: في أصلها وكُبْراها التي تلك القرى سوادها وأتباعها، وخص الأصل والكبرى لكون أهلها أفطن وأشرف، والرسل إنما تبعث غالبًا إلى الأشراف، وهم غالبًا يسكنون المدن والقصبات - جمع قصبة - وهي العاصمة.
﴿رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ الناطقة بالحق، ويدعوهم إليه بالترغيب حينًا
والمعنى (١): أي وما صح ولا استقام أو يكون الله سبحانه مهلك القرى الكافرة حتى يبعث في أمها رسولًا، يُنذرهم ويتلو عليهم آيات الله، الناطقة بما أوجبه الله عليهم، وما أعده من الثواب للمطيع، والعقاب للعاصي، ومعنى أمها أكبرها وأعظمها، وخص الأعظم منها بالبعثة إليها؛ لأن فيها أشراف القيم، وأهل الفهم والرأي، وفيها الملوك والأكابر، فصارت بهذا الاعتبار كالأم لما حولها من القرى، وقال الحسن: أم القرى أولها.
وفي "التكملة": الأم هي مكة، والرسول محمد - ﷺ -، وذلك لأن الأرض دُحيت أو تحتها، فيكون المعنى: وما كان ربك يا محمد مهلك البلدان التي هي حوالي مكة في عصرك وزمانك حتى يبعث في أمها؛ في: في أم القرى التي هي مكة رسولًا، هو أنت.
﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى﴾ بالعقوبة بعد بعثنا في منها رسولًا يدعوهم إلى الحق، ويرشدهم إليه في حال أو الأحوال ﴿إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾؛ أي: إلا حال كون أهلها ظالمين بتكذيب رسولنا، والكفر بآياتنا، فالبعث غاية لعدم صحة الإهلاك بموجب السنة الإلهية، لا لعدم وقوعه حتى يلزم تحقق الإهلاك عقيب البعث، وهذه الجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى﴾ والاستثناء فيها مفرَّغ من أعم الإرواء، كما قدَّرنا.
ودلت الآية (٢): على أو الظلم سبب الهلاك، ولذا قيل: الظلم قاطع الحياة ومانع النبات، وكذا الكفران، يقال: النعم محتاجة إلى الأكفاء، كما تحتاج إليها الكرائم من النساء، وأهل البطر ليسوا من أكفاء النعم، كما أن الأراذل ليسوا أكفاء عقائل الحُرُم - جمع عقيلة - وعقيلة كل شيء أكرمه، وحرم الرجل أهله، فكما أن الكريمة أو النساء ليست بكفءٍ للرذيل من الرجال، فيفرَّق بينهما للحوق العار، فكذا النعمة تُسْلب من أهل البطر والكبر والغرور والكفران، وأما أهل
(٢) روح البيان.
فعلى (١) العاقل أن يعرف الله تعالى، ويعرف قدر النعمة، فيقيِّدها بالشكر، ولا يضع الكفر موضع الشكر، فإنه ظلم صريح يحصل منه الهلاك مطلقًا، إما للقلب بالإعراض عن الله تعالى ونسيان أن العطاء منه، وإما للقالب بالبطش الشديد، وكم رأينا في الدهر من أمثاله من خرب قلبه، ثم خرب داره، ووجد آخر الأمر بواوه، ولكن الإنسان من النسيان، لا يتذكر ولا يعتبر، بل يمضي على حاله من لغفلة، أيقظنا الله وإياكم من نوم الغفلة في كل لحظة، وشرفنا في جميع الساعات باليقظة الكاملة المحضة.
٦٠ - ﴿وَمَا﴾ مبتدأ متضمنة لمعنى الشرط لدخول الفاء في خبرها، بخلاف الثانية، ﴿أُوتِيتُمْ﴾ أي: أُعطيتم، والخطاب لكفار مكة كما في "الوسيط"، ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ من أسباب الدنيا ﴿فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا﴾، أي: فهو شيء شأنه أن يُتمتع ويُتزين به أيامًا قلائل، ثم أنتم وهو إلى فناء وزوال، سمي منافع الدنيا متاعًا؛ لأنها تفنى ولا تبقى كمتاع البيت.
أي (٢): وما أُعطيتم يا معشر قريش من أسباب الدنيا كالمال والخدم فهو شيء عادته أن يُنتفع به، ويُتزين به أيام حياتكم، وقُرىء: ﴿فمتاعًا الحياة الدنيا﴾ بنصب الكلمتين، الأولى على المصدرية، والثانية على الظرفية؛ أي: يتمتعون متاعًا في الحياة الدنيا.
﴿وَمَا﴾ موصولة؛ أي: والجزاء الذي ادُّخِر ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، وهو الثواب ﴿خَيْرٌ﴾ لكم في نفسه من ذلك؛ لأنه لذة خالصة من شوائب الألم، وبهجة كاملة عارية من مسة الهمم ﴿وَأَبْقَى﴾ لأنه أبدي، وهذا ينقضي بسرعة؛ أي: فمنافع الآخرة لمن آمن بالله وبرسوله أعظم وأدوم مما لكم في الدنيا، فتصيب كل أحد في الآخرة بالقياس إلى منافع الدنيا كلها، كالذرة بالقياس إلى البحر، فكيف
(٢) فتح الرحمن.
وقيل: ﴿مَا﴾ شرطية ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ بيان لها، وقوله: ﴿فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ خبر مبتدأ محذوف، والجملة جوابها، أي: فهو متاع الحياة الدنيا. والمهزة في قوله: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا تتفكرون فلا تعقلون أن الدنيا فانية، والآخرة باقية؛ أي: ألا تتفكرون فلا تعقلون هذا الأمر الواضح، فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، وتؤثرون الشقاوة الحاصلة من الكفر والمعاصي على السعادة المتولدة من الإيمان والطاعات.
وقرأ الجمهور (١): ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ بالتاء الفوقانية على خطابهم وتوبيخهم، في كونهم أهملوا العقل في العاقبة، ونسب هذه القراءة أبو علي في "الحجة" إلى أبي عمرو وحده، وفي "التحرير والتحبير" بين الياء والتاء عن أبي عمرو، وقرأ أبو عمرو: ﴿يعقلون﴾ بالياء إعراض عن خطابهم، وخطاب لغيرهم، كأنه قال انظروا إلى هؤلاء وسخافة عقولهم، وقراءة الجمهور أرجح لقوله: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ﴾.
ومعنى الآية (٢): أي وما أُعطيتم أيها الناس من شيء من الأموال والأولاد فإنما هو متاع، تتمتعون به في الحياة الدنيا، وتتزينون به فيها، وهو لا يُغني عنكم شيئًا عند ربكم، ولا يُجديكم شروى نقير لديه، وما عنده خير لأهل طاعته وولايته، لدوامه وبقائه، بخلاف ما عندكم، فإنه ينفد وينقطع بعد أمد قصير، ونحو الآية قوله: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾، وقوله: ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾، وقوله: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٧)﴾. وفي الحديث: "والله ما الحياة الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر ماذا يرجع إليه".
﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أي: أفلا عقول لكم أيها القوم، تتدبرون بها فتعوفوا الخير من الشر، وتختاروا لأنفسكم خير المنزلتين على شرهما، وتؤثروا الدائم الذي لا
(٢) المراغي.
قوله تعالى (١): ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا﴾ فإن قلت: لم قاله هنا بالواو وفي الشورى بالفاء، حيث قال: ﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾؟ قلت: لأن ما هنا لم يتعلق بما قبله كبير تعلق، فناسب الإتيان به بالواو المقتضية لمطلق الجمع، وما هناك متعلق بما قبله أشد تعلق، لأنه عقَّب مالهم من المخافة بما لهم من الأمنة، فناسب الإتيان به بالفاء المقتضية للتعقيب.
فإن قلت: قال هنا بزيادة ﴿وَزِينَتُهَا﴾ وفي الشورى بحذفه؟
قلت: لأن ما هنا لسبقه قصد ذكر جميع ما بُسط من رزق أعراض الدنيا، فذكر ﴿وَزِينَتُهَا﴾ مع المتاع، ليستوعب جميع ذلك، إذ المتاع ما لا بد منه في الحياة، من مأكول ومشروب وملبوس ومسكن ومنكوح، والزينة ما يتجمل به الإنسان، وحذفه في الشورى اختصارًا لعلمه من المذكور هنا.
٦١ - ثم أكد ترجيح ما عند الله على ما في الدنيا من زينة فقال: ﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ﴾ الهمزة فيه للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أمتاع الدنيا وزينتها كما عند الله، فمن وعدناه وعدًا حسنًا كمن متعناه متاع الحياة الدنيا.
وعبارة "أبي السعود" هنا: والفاء لترتيب إنكار التساوي بين أهل الدنيا وأهل الآخرة ما قبلها من ظهور التفاوت بين متاع الحياة الدنيا وبين ما عند الله. اهـ، و ﴿من﴾ (٢) موصولة مبتدأ؛ أي: فمن وعدناه على إيمانه وطاعته ﴿وَعْدًا حَسَنًا﴾ هو الجنة وما فيها من النعم التي لا تُحصى، فإن حسن الوعد بحسن الموعود به.
(٢) روح البيان.
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ للحساب أو النار والعذاب، معطوف (١) على قوله: ﴿مَتَّعْنَاهُ﴾ داخل معه في حيز الصلة، مؤكد لإنكار التشابه ومقرر له.
والمعنى: ثم هذا الذي متعناه هو يوم القيامة من المحضرين النار، وتخصيص المحضرين بالذين أُحضروا للعذاب اقتضاه المقام، والاستفهام للإنكار كما مر؛ أي: ليس حالهما سواء، فإن الموعود بالجنة لا بد أن يظفر بما وُعد به، مع أنه لا يفوته نصيبه من الدنيا، وهذا حال المؤمن، وأما حال الكافر فإنه لم يكن معه إلا مجرد التمتع بشيء من الدنيا، يستوي فيه هو والمؤمن، وينال كل واحد منهما حظه منه، وهو صائر إلى النار، فهل يستويان؟ لا.
وقرأ طلحة: ﴿أمن وعدناه﴾ بغير فاء، وقرأ الجمهور: ﴿ثم هو﴾ بضم الهاء، وقرأ الكسائي وقالون: بسكون الهاء إجراءً لثم مجرى الواو والفاء.
وعبارة البروسوي هنا قوله: ﴿ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ (٢) وثم للتراخي في الزمان؛ أي: لتراخي حال الإحضار عن حال التمتيع، أو في الرتبة. ومعنى الفاء في ﴿أَفَمَنْ﴾ ترتيب إنكار التشابه بين أهل الدنيا وأهل الآخرة، على ما قبلها من ظهور التفاوت بين متاع الحياة الدنيا وبين ما عند الله؛ أي: أبعد هذا التفاوت الظاهر يسوى بين الفريقين؛ أي: لا يسوَّى بينهما، فليس من أكرم بالوعد الأعلى ووجدان المولى، وهو المؤمن، كمن أُهين بالوعيد والوقوع في الجحيم في العقبى، وهو الكافر، وذلك بإزاء شهوة ساعة وجدها في الدنيا،
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): أي أفمن وعدناه من خلقنا على طاعته إيانا بالجنة وجزيل نعيمها، مما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر، فآمن بما وعدناه وأطاعنا، فاستحق أن ننجز له وعدنا، فهو لاقيه حتمًا وصائر إليه، كمن متعناه الحياة الدنيا، ونسي العمل بما وعدنا به أهل الطاعة، وآثر لذة عاجلة على لذة آجلة لا تنفد، ثم هو يوم القيامة إذا ورد على الله كان من المحضرين لعذابه وأليم عقابه؟
وهذه الآية تبين حال كل كافر متمتع في الدنيا بالعافية والغنى، وله في الآخرة النار، وحال كل مؤمن صبر على بلاء الدنيا ثقة بوعد الله، وله في الآخرة الجنة، وخلاصة ذلك: أفمن سمع كتاب الله فصدق به، وآمن بما وعده الله فيه، كمن متعناه متاع الحياة الدنيا، وقد كفر بالله وآياته، ثم هو يوم القيامة من المحضرين لعذابه، الجواب الذي لا ثاني له أنهما لا يستويان في نظر العقل الراجح.
وتلخيص المعنى: أنهم لما قالوا: تركنا الدين للدنيا.. قيل لهم: لو لم يحصل عقب دنياكم مضرة العقاب لكان العقل يقضي بترجيح منافع الآخرة على منافع الدنيا، فكيف وبعد هذه اللذة فيها يحصل العقاب الدائم، وجاء الكلام بأسلوب الاستفهام ليكون أبلغ في الاعتراف بالترجيح.
٦٢ - قوله: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ﴾ إما معطوف على يوم القيامة، أو منصوب باذكر المقدر، والمراد به يوم القيامة، والضمير للكفار؛ أي: واذكر يا محمد لقومك قصة يوم ينادي الكفار ربهم، وهو عليهم غضبان ﴿فَيَقُولُ﴾ تفسير للنداء؛ أي (٢): فيقول الله سبحانه لهم توبيخًا وتقريعًا: ﴿أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ أنهم ينصرونكم ويشفعون لكم، ومفعولا ﴿تَزْعُمُونَ﴾ محذوفان؛ أي: تزعمونهم شركائي، لدلالة الكلام عليهما؛ أي: أين الذين عبدتموهم من دوني، وأثبتم لهم شركة معي في استحقاق العبادة، وتزعمون في الدنيا أنهم يشفعون لكم في
(٢) المراح.
والمعنى (١): أي واذكر أيها الرسول لقومك يوم ينادي رب العزة هؤلاء الذين يضلون الناس، ويصدون عن سبيل الله، فيقول لهم: أين شركائي من الملائكة والجن والكواكب والأصنام، الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم لي شركاء؟ ليخلصوكم من هذا الذي نزل بكم من العذاب، وهذا السؤال للإهانة والتحقير، لأنهم عرفوا بطلان ما كانوا يفعلون، ونحو الآية قوله: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)﴾.
قال في "كشف الأسرار": وسؤالهم عن ذلك ضرب من ضروب العذاب، لأنه لا جواب لهم إلا ما فيه فضيحتهم، واعترافهم بجهل أنفسهم.
٦٣ - ثم ذكر جواب هؤلاء الرؤساء الدعاة إلى الضلال، فقال: ﴿قَالَ﴾ (٢) استئناف مبني على حكاية السؤال، كأنه قيل: فماذا صدر عنهم حينئذ فقيل: قال: ﴿الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾ في الأزل بأن يكونوا من أهل النار، يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ...﴾ الآية، كما في "التأويلات النجمية".
وقال بعض أهل التفسير: معنى ﴿حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾ ثبت مقتضاه، وتحقق مؤداه، وهو قوله: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ وغيره من آيات الوعيد، والمراد بهم شركاؤهم من الشياطين، أو رؤساؤهم الذين اتخذوهم أربابًا من دون الله، بأن أطاعوهم في كل ما أمروهم به ونهوهم عنه.
وتخصيصهم بهذا الحكم مع شموله للأتباع أيضًا، لأصالتهم في الكفر، واستحقاق العذاب، ومسارعتهم إلى الجواب مع كون السؤال للعبدة، لتفطنهم أن السؤال عنهم لاستحقارهم وتوبيخهم بالإضلال، وجزمهم بأن العبدة سيقولون هؤلاء أضلونا ﴿رَبَّنَا﴾؛ أي: يا مالك أمرنا ﴿هَؤُلَاءِ﴾ الأتباع والعبدى، مبتدأ
(٢) روح البيان.
والمعنى: هؤلاء أتباعنا آثروا الكفر على الإيمان، كما آثرناه نحن، ونحن كنا السبب في كفرهم فقبلوا منا، وهو استئناف (١) للدلالة على أنهم غووا باختيارهم، وأنهم لم يفعلوا لهم إلا وسوسة وتسويلًا، وهذا هو الجواب في (٢) الحقيقة، وما قبله تمهيد له؛ أي: ما أكرهناهم على الغي، وإنما أغوينا بما قضيت لنا ولهم الغواية والضلالة، يعنون (٣) أنا لم نغو إلا باختيارنا، فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم؛ لأن إغوائنا لهم لم يكن إلا وسوسة وتسويلًا، فلا فرق إذًا بين غيِّنا وغيِّهم، وإن كان تسويلنا داعيًا لهم إلى الكفر، فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل، وما بعث إليهم من الرسل، وأنزل عليهم من الكتب، وهو كقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ﴾ إلى قوله: ﴿وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ﴾.
ولم يقولوا: أغويناهم كما أغويتنا، كما قال إبليس: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ﴾ تأدبًا مع الرب سبحانه، وقرأ (٤) أبان عن عاصم وبعض الشاميين: ﴿كَمَا غَوَيْنَا﴾ كسر الواو، قال ابن خالويه، وليس ذلك مختارًا؛ لأن كلام العرب غويت من الضلالة، وغويت من البشم.
﴿تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ﴾ يا رب منهم، ومما اختاروه من الكفر والمعاصي هوًى منهم، وهو تقرير لما قبله، ولذا لم يُعطف عليه، قوله: ﴿مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾ إيانا مفعول ﴿يَعْبُدُونَ﴾؛ أي: ما كانوا يعبدوننا، وإنما كانوا يعبدون أهواءهم،
(٢) روح البيان.
(٣) النسفي.
(٤) البحر المحيط.
وحاصل معنى الآية: أي قال رؤساء الضلال والدعاة إلى الكفر - الذين حق عليهم غضب الله، ولزمهم الوعيد بقوله: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ فدخلوا النار -: ربنا هؤلاء الأتباع الذين أضللناهم أغويناهم باختيارهم، كما غوينا نحن كذلك، ولم يكن منا لهم إلا الوسوسة والتسويل، لا القسر والإلجاء، فهم كانوا مختارين حين أقدموا على تلك العقائد وهذه الأعمال.
وخلاصة ذلك: أن تبعة غيِّهم واقعة عليهم، لا علينا، إذ لم نلجئهم إلى ذلك، بل كان منا مجرد الوسوسة فحسب، فإن كان تسويلنا لهم داعيًا إلى الكفر فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان، بما وضع من الأدلة العقلية، وبعث إليهم من الرسل، وأنزل إليهم من الكتب المشحونة بالوعد والوعيد، والمواعظ والزواجر، وناهيك بذلك صارفًا عن الكفر داعيًا إلى الإيمان.
ثم زاد الجملة الأولى توكيدًا بقوله: ﴿تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ﴾ منهم، ومما اختاروه من الكفر والمعاصي، اتباعًا لهوى أنفسهم، فلا لوم علينا في الحقيقة بسببهم، ونحو الآية ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (١٦٦)﴾.
ثم ذكر ما هو كالعلة لنفي الشبهة عنهم، فقال: ﴿مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾ أي: هم ما كانوا يعبدوننا، وإنما كانوا يعبدون الأوثان بما زينت لهم أهواؤهم،
٦٤ - ثم طلب إليهم دعاء الشركاء توبيخًا لهم وتهكمًا بهم، فقال: ﴿وَقِيلَ﴾ من عبد غير الله تعالى توبيخًا وتهديدًا، والقائلون الخزنة ﴿ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ﴾ أي: استغيثوا بآلهتكم التي كنتم تعبدونهم من دون الله في الدنيا لينصروكم ويدفعوا عنكم العذاب.
﴿فَدَعَوْهُمْ﴾؛ أي: فدعا العابدون معبوداتهم عند ذلك لشدة حيرتيهم ﴿فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا﴾؛ أي: المعبودون ﴿لَهُمْ﴾ أي: للعابدين ولا نفعوهم بوجه من وجوه
وحال المعنى (٢): أي وقيل للمشركين بالله الآلهة والأنداد في الدنيا: ادعوا آلهتكم الذين زعمتم جهلًا منكم شركتهم لله، ليدفعوا العذاب عنكم، فدعوهم لفرط الحيرة وغلبة الدهشة، فلم يجيبوهم عجزًا منهم عن الإجابة، والمقصود من طلب ذلك منم فضيحتهم على رؤوس الأشهاد، بدعاء من لا نفع له، ولا فائدة منه.
ثم بيَّن حالهم حينئذٍ، وتمنِّيهم أن لو كانوا وُفِّقوا في الدنيا إلى سلوك طريق الهدى والرشاد، فقال: ﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ﴾؛ أي: وأيقن الداعون والمدعوون أنهم صائرون إلى النار لا محالة، وودوا حين عاينوا لو أنهم كانوا من المهتدين المؤمنين في الدنيا، ونحو الآية قوله: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (٥٣)﴾.
٦٥ - وبعد أن سُئِلوا عن إشراكهم بالله - توبيخًا لهم - سُئلوا عن تكذيبهم الأنبياء، كما أشار إلى ذلك بقوله: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ﴾؛ أي: واذكر يا محمد لقومك قصة يوم ينادي الله سبحانه وتعالى الكفار نداء تقريع وتوبيخ ﴿فَيَقُولُ﴾ الله سبحانه تفسيرًا للنداء ﴿مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾ الذين أرسلتهم إليكم حين دعوكم إلى توحيدي وعبادتي، ونهوكم عن الشرك والمعاصي؛ أي: أي شيء كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين، حين بلَّغوكم رسالتي، أبالتصديق أم بالتكذيب؟ فهو معطوف
(٢) المراغي.
والمعنى (١): أي واذكر يا محمد يوم ينادي المشركين ربُّهم، وقد برز الناس في صعيد واحد، منهم المطيع، ومنهم العاصي، وقد أخذ بأنفاسهم الزحام، وتراكبت الأقدام على الأقدام، فيقول لهم: ماذا أجبتم المرسلين، فيما أرسلناهم به إليكم من دعائكم إلى التوحيد والبراءة من الأوثان والأصنام.
٦٦ - ثم بيَّن أنهم لا يحارون جوابًا، ولا يجدون من الحجج ما يدافعون به عن أنفسهم، فقال: ﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ﴾ أي: فخفيت عليهم الأخبار يوم إذ سُئلوا عن ذلك، ولم يجدوا معذرة يُجيبون بها، فلم يكن لهم إلا السمكوت جوابًا، والمراد بالأنباء (٢) ما أجابوا به الرسل أو ما يعصها، وإذا كانت الرسل يفوِّضون العلم في ذلك المقام الهائل إلى علَّام الغيوب، مع نزاهتهم عن غائلة السؤال، كما قال: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١٠٩)﴾. فما ظنُّك بهؤلاء الضلال.
قال أهل التفسير: أي صارت الأنباء كالعمى عنهم لا تهتدي إليهم، وأصله فعموا عن الأنباء؛ أي: الأخبار، وقد عكس بأن أثبت العمى الذي هو حالهم للأنباء مبالغة، وتعدية الفعل بعلى لتضمنه معنى الخفاء والاشتباه.
ثم بيَّن أنه تخفي عليهم كل طرق العلم التي كانت تجديهم في الدنيا، فقال: ﴿فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ﴾؛ أي: فلا يسأل بعضهم بعضًا عن الجواب النافع، كما يتساءل الناس في المشكلات؛ لأنهم يتساوون جميعًا في العجز عن الجواب المنجي، لما اعتراهم من الدهشة، وعظيم الهول فلا نطق ولا عقل، أو لعلمهم بأن الكل سواء في الجهل، وفي "الخازن": ﴿فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ﴾؛ أي: لا يجيبون ولا يحتجون، وقيل: يسكتون فلا يسأل بعضهم بعضًا. اهـ.
(٢) البيضاوى.
٦٧ - ولما ذكر تعالى أحوال الكفار يوم القيامة، وما يكون منهم فيه أخبر بأن من تاب من الشرك وآمن وعمل صالحًا، فإنه مرجوٌّ له الفلاح والفوز في الآخرة، وهذا ترغيب للكافر في الإِسلام، وضمان له بالفلاح، فقال: ﴿فَأَمَّا مَنْ تَابَ﴾ من الشرك ﴿وَآمَنَ﴾ بما جاء به النبي - ﷺ - ﴿وَعَمِلَ﴾ عملًا ﴿صَالِحًا﴾؛ أي: خالصًا لوجه الله ﴿فَعَسَى﴾؛ أي: فحق ﴿أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ﴾؛ أي: من الفائزين بالمطلوب عند الله تعالى الناجين من المكروه.
و ﴿عَسَى﴾ وإن كانت في الأصل للرجاء فهو من الله سبحانه واجب، مفيد للتحقق، على ما هو عادة الكرام، وقيل: إن الترجي هو من التائب المذكور، لا من جهة الله سبحانه، بمعنى فليتوقع الفلاح، والمعنى (٢): فأما من تاب من المشركين وراجع الحق، وأخلص لله بالألوهية، وأفرد له العبادة وصدَّق نبيَّه، وعمل بما أمر به في كتابه على لسان نبيه فهو من الفائزين الذين أدركوا مطالبهم، وفازوا بجنات النعيم، خالدين فيها أبدًا.
قال في "كشف الأسرار": إنما قال: ﴿فَعَسَى﴾ (٣) يعني إن دام على التوبة والعمل الصالح، فإن المنقطع لا يجد الفلاح، ونعوذ بالله من الحور بعد الكور، فينبغي لأهل الآخرة أن يباشروا الأعمال الصالحة، ويدوموا على أورادهم، وللأعمال تأثير عظيم في تحصيل الدرجات، وجلب المنافع والبركات، ولها نفع
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
٦٨ - ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ أن يخلقه ﴿وَيَخْتَارُ﴾ ما يشاء اختياره واصطفاءه من خلقه كمحمد - ﷺ -؛ أي: فكما أن الخلق إليه فكذا الاختيار في جميع الأشياء له، لا يُسئل عما يفعل وهم يسألون، قال الزجاج: الوقف على ﴿وَيَخْتَارُ﴾ تام، و ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ نافية؛ أي: ليس لهم أن يختاروا على الله شيئًا ما وله الخيرة عليهم، وهذا (١) متصل بذكر الشركاء الذين عبدوهم واختاروهم، وقيل: إن هذه الآية جواب عن قولهم: ﴿لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾، وقيل: هذه الآية جواب عن اليهود، حيث قالوا: لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل لآمنا به.
ولم يُدخل (٢) العاطف في ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ لأنه بيان لقوله: ﴿وَيَخْتَارُ﴾، إذ المعنى: أن الخيرة لله سبحانه، وهو أعلم بوجوه الحكمة في أفعاله، فليس لأحد من خلقه أن يختار عليه، ومن جعل ﴿مَا﴾ موصولة ووصل الكلام على معنى: ويختار الذي لهم فيه الخيرة فقد أبعد، بل ﴿مَا﴾ لنفي اختيار الخلق، وتقرير اختيار الحق سبحانه، ومن قال معناه: ويختار للعباد ما هو خير لهم وأصلح فهو مائل إلى الاعتزال، و ﴿الْخِيَرَةُ﴾ يستعمل بمعنى المصدر، وهو التخير، وبمعنى المتخير، كقولهم محمد خيرة الله من خلقه.
ومعنى الآية (٣): أي وربك يا محمد يخلق ما يشاء خلقه، وهو وحده سبحانه دون غيره يصطفي ما يريد أن يصطفيه ويختاره، فيختار أقوامًا لأداء الرسالة وهداية الخلق، وإصلاح ما فسد من نظم العالم، ويميز بعض مخلوقاته
(٢) النسفي.
(٣) المراغي.
ونحو الآية قوله (١)؛ ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ وقال الشاعر:
الْعَبْدُ ذُوْ ضَجَرٍ وَالرَّبُّ ذُوْ قَدَرٍ | وَالدَّهْرُ ذُوْ دُوَلٍ وَالرِّزْقُ مَقْسوْمُ |
وَالْخَيْرُ أجْمَعُ فِيْمَا اخْتَارَ خَالِقُنَا | وَفِيْ اخْتِيَارِ سِوَاهُ سِوَاهُ اللَّوْمُ وَالشُّوْمُ |
وعن جابر بن عبد الله قال: كان النبي ك يعلِّمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: ، إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي، ويسِّره لي، ثم بارك لي فيه، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به"، قال: ويسمي حاجته.
ثم أكد هذا وقرره بقوله: ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾؛ أي: ليس لهم أن
ثم نزه سبحانه نفسه أن ينازعه في سلطانه أحد، فقال: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ﴾؛ أي: تنزه الله بذاته تنزهًا خاصًا به من أن ينازعه أحد، ويشاركه مشارك، ويزاحم اختيارُهُ اختيارَهُ ﴿وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾؛ أي: عن إشراكهم، أو عن الذين يجعلونهم شركاء له.
وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى مشيئته الأزلية في الخلق والاختيار، وأنه فاعل مختار، يخلق ما شاء، كيف يشاء، ممن يشاء، ولما يشاء، متى يشاء، وله اختيار في خلق الأشياء، فيختار وجود بعض الأشياء في العدم فيُبقيه فانيًا في العدم ولا يوجده، وله الخيرة في أنه يخلق بعض الأشياء جمادًا، وبعض الأشياء نباتًا، وبعض الأشياء حيوانًا، وبعض الأشياء إنسانًا، وأن يخلق بعض الإنسان كافرًا، وبعض الإنسان مؤمنًا، وبعضهم وليًا، وبعضهم نبيًا، وبعضهم رسولًا، وأن يخلق بعض الأشياء شيطانًا، وبعضها جنًا، وبعضها ملكًا، وبعض الملك كروبيًا وبعضهم روحانيًا، وله أن يختار بعض الخلق مقبولًا، وبعضهم مردودًا. انتهى.
والمعنى (١): أي تنزيهًا له وعلوًا عن إشراك المشركين، فليس لأحد أن ينازع اختياره أو يزاحمه فيه، لعلمه باستعداد خلقه وصلاحيتهم للاصطفاء، فإذا أراد النبي - ﷺ - أن يهدي أحدًا ممن يحب، أو أراد أهل مكة أن يرسل الله رسولًا من عظمائهم قال الله لهم: ليس لكم من الأمر شيء، فلا النبي - ﷺ - بقادر على هدي عمه، ولا أهل مكة يصلون إلى أن تكون الرسالة في عظمائهم.
٦٩ - ثم بيَّن أن اختياره تعالى مبني على العلم الصحيح، لا اختيارهم، فقال:
قرأ الجمهور (١): ﴿تُكِنُّ﴾ بضم التاء الفوقية وكسر الكاف، وقرأ ابن محيصن وحميد بفتح الفوقية وضم الكاف، أي: إن اختياره من يختار منهم للإيمان مبني على علم منه بسرائر أمورهم وبواديها، فيختار للخير أهله، فيوفقهم له، ويولي الشر أهله، ويخليهم وإياه. ونحو الآية قوله: ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (١٠)﴾.
٧٠ - ولما كان علمه بذلك جاء من كونه إلهًا واحدًا فردًا صمدًا، وكان غيره لا يعلم من علمه إلا ما علمه، قال: ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿اللَّهُ﴾؛ أي: المستحق للعبادة ﴿لَا إِلَهَ﴾؛ أي: لا أحد يستحقها ﴿إِلَّا هُوَ﴾ سبحانه جل وعلا.
وفي "التأويلات النجمية": ﴿وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا﴾ يصلح للألوهية ﴿إِلَّا هُوَ﴾ وهو المتوحد بعز إلهيته، المتفرد بجلال ربوبيته، لا شبيه يساويه، ولا نظير يضاهيه، فلا معبود سواه، ولا يحيط الواصفون بكنه عظمته وهو العليم بكل شيء، القادر على كل شيء.
ثم ذكر بعض صفات كماله، فقال: ﴿لَهُ الْحَمْدُ﴾ استحقاقًا على عظمته والشكر استيجابًا على نعمته، ﴿فِي الْأُولَى﴾؛ أي: في الدنيا ﴿و﴾ في ﴿الْآخِرَةِ﴾؛ أي (٢): هو المحمود في جميع ما يفعل في الدنيا والآخرة؛ لأنه المعطي لجميع النعم كلها عاجلها وآجلها، والمفيض لها على الخلق كافة، يحمده المؤمنون في الآخرة كما حمدوه في الدنيا بقولهم: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾، وبقولهم: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ﴾. ابتهاجًا وفرحًا بفضله، والتذاذًا بحمده؛ أي: بلا كلفة.
﴿وَلَهُ الْحُكْمُ﴾ فيما يخلق ويختار، ويعز ويدل، ويحيي ويميت؛ أي: له
(٢) المراغي.
ويقال (١): ثمانية أشياء تعم الخلق كلهم: الموت، والحشر، وقراءة الكتاب، والميزان، والحساب، والصراط، والسؤال، والجزاء، فظهر أن الحكم النافذ بيد الله تعالى، ولو كان شيء منه في يد الخلق لمنعوا عن أنفسهم الموت، ودفعوا ملاقاة الأعمال في الحشر، وطريق النجاة التسليم والرضى، والرجوع إلى الله تعالى بالاختيار، فإنه إذا رجع العبد إلى الله تعالى بالاختيار لم يلق عنده شدة، بخلاف ما إذا رجع بالاضطرار، ومن علامات الرجوع إلى الله إصلاح السر والعلانية، والحمد له على كل حال، فإن الجزع والاضطراب من الجهل بمبدأ الأمر ومبديه، وليخفف ألم البلاء عنك علمك بأن الله هو المبتلي، وقيل في الضراء والسراء: لا إله إلا هو، والتوحيد أفضل الطاعات، وخير الأذكار والحسنات، وصورته منجية، فكيف بمعناه.
وروي: أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: "يا موسى لا تسأل منى الغنى فإنك لا تجده، وكل خلق مفتقر إلي، وأنا الغني، ولا تسأل علم الغيب، فإنه لا يعلم الغيب غيري، ولا تسألني أن أكف لسان الخلق عنك، فإني خلقتهم ورزقتهم وأُميتهم وأُحييهم، وهم يذكرونني بالسوء، ولم أكف لسانهم عني، ولا أكف لسانهم عنك، ولا تسأل البقاء، فإنك لا تجده، وأنا الدائم الباقي".
٧١ - ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين من أهل مكة وغيرهم ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ أي: أخبروني، عبر عن الإخبار بالرؤية؛ لأنها سببه؛ أي: أخبروني أيها القوم ﴿جَعَلَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا﴾؛ أي: دائمًا مستمرًا لا نهار معه
﴿يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ﴾ صفة أخرى له، عليها يدور أمر التبكيت والإلزام، قصد انتفاء الموصوف بانتفاء الصفة؛ أي: أيُّ معبود غير الله سبحانه يأتيكم بضياء النهار، فتستضيئون به، ولم يقل (٢) هل إله، فذكر بمن لإيراد الإلزام على زعمهم أن غيره آلهة، وفي هذا الأسلوب من التقريع والتبكيت والإلزام ما لا يخفى، وأتى بضياء (٣)، وهو نور الشمس، ولم يجيء التركيب بنهار تتصرفون فيه، كما جاء بليل تسكنون فيه؛ لأن منافع الضياء متكاثرة، ليس التصرف في المعاش وحده، والظلام ليس بتلك المنزلة، ومن ثم قرن بالضياء ﴿أَفَلَا تَسْمَعُونَ﴾؛ لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده.
بيَّن لهم سبحانه أنه مهد لهم أسباب المعيشة، ليقوموا بشكر النعمة، فإنه لو كان الدهر الذي يعيشون فيه ليلًا دائمًا إلى يوم القيامة لم يتمكنوا فيه من الحركة فيه، وطلب ما لا بد لهم منه مما يقوم به العيش من المطاعم والمشارب والملابس، ثم امتن عليهم فقال: ﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ﴾؛ أي: هل لكم إله من الآلهة التي تعبدونها يقدر على أن يرفع هذه الظلمة الدائمة عنكم بضياء؛ أي: بنور تطلبون فيه المعيشة، وتبصرون فيه ما تحتاجون إليه، وتصلح به ثماركم وتزهو عنده زرائعكم، وتعيش فيه دوابكم، وعن ابن كثير (٤): ﴿بضئاء﴾ بهمزتين.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
(٤) البيضاوي.
وختم هذه الآية به بناء على الليل لا على الضياء. وقال بعضهم قرن بالضياء السمع، لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر، يعني استفادة العقل من السمع أكثر من استفادته من البصر.
٧٢ - ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾؛ أي: أخبروني ﴿إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا﴾ أي: دائمًا، لا ليل معه أبدًا ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ بإسكانها في وسط السماء، أو تحريكها فوق الأرض ﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ﴾؛ أي: أيُّ معبود غير الله الذي له عباده كل شيء ﴿يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ﴾ استراحة من متابعة الأسفار وأشغال النهار؛ أي: تستقرون فيه وتهدؤون، والهمزة في قوله ﴿أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ للاستفهام التوبيخي الإنكاري، داخلة على محذوف والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتعرضون عن هذه النعم العظيمة، فلا تبصرون الشواهد المنصوبة الدالة على القدرة الكاملة، فتعلموا بذلك أن العبادة لا تصلح إلا لمن أنعم عليكم بذلك، دون غيره، ومن له القدرة التي خالف بها بين الليل والنهار، واذا أقروا بأنه لا يقدر على ذلك إلا الله عز وجل فقد لزمتهم الحجة وبطل ما يستمسكون به من الشبه الساقطة، وقرن بالليل قوله: ﴿أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ لأن البصر يدرك ما لا يدركه السمع من ذلك.
وجاء تذييل الآيتين بقوله: ﴿أَفَلَا تَسْمَعُونَ﴾ و ﴿أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ لبيان أنهم لما لم ينتفعوا بالسمع والبصر نزلوا منزلة من لا يسمع ولا يبصر، وعبارة "فتح الرحمن": هنا ختم آية الليل بقوله: ﴿أَفَلَا تَسْمَعُونَ﴾ وآية النهار بقوله: ﴿أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ لمناسبة الليل المظلم الساكن للسماع، ومناسبة النهار النيِّر للأبصار، وإنما قدم الليل على النهار ليستريح الإنسان فيه، فيقوم إلى تحصيل ما هو مضطر
٧٣ - واعلم (١): أن ذلك الشمس يدور في بعض المواضع رحويًا لا غروب للشمس فيه، فنهاره سرمدي فلا يعيش الحيوان فيه، ولا ينبت النبات فيه من قوة حرارة الشمس فيه، وكذلك يدور ذلك الشمس في بعض المواضع بعكس هذا تحت الأرض ليس للشمس فيه طلوع فليله سرمدي، فلا يعيش الحيوان أيضًا فيه، ولا ينبت النبات ثمة، فلهذا المعنى قال تعالى: ﴿وَمِنْ رَحْمَتِهِ﴾ سبحانه وتعالى، و ﴿مِنْ﴾ هنا للسبب؛ أي: وبسبب (٢) رحمته إياكم ﴿جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ أي: خلقهما لمنفعتكم.
ثم علل جعل كل واحد منهما، فبدأ بعلة الأول، وهو الليل، وهي ﴿لِتَسْكُنُوا فِيهِ﴾؛ أي: في الليل، ثم بعلة الثاني، وهو النهار، وهي ﴿وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾؛ أي: في النهار بأنواع المكاسب، وفي هذا مدح للسعي في طلب الرزق، كما ورد في الحديث: "الكاسب حبيب الله" وهو لا ينافي التوكل.
ثم ذكر بما يشبه العلة لجعل هذين الشيئين، وهو ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾؛ أي: لكي تشكروا الله سبحانه وتعالى على هذه الرحمة والنعمة العظيمتين، وهذا النوع من علم البديع يسمى التفسير، وهو أن تذكر أشياء ثم تفسرها بما يناسبها، كما سيأتي في مبحث البلاغة إن شاء الله سبحانه.
أي (٣): ومن رحمته بكم أيها الناس جعل لكم الليل والنهار، وخالف بينهما، فجعل الليل ظلامًا لتستقروا فيه، راحة لأبدانكم من تعب التصرف نهارًا في شؤونكم المختلفة، وجعل النهار ضياء لتتصرفوا فيه بأبصاركم لمعايشكم، وابتغاء رزقه الذي قسمه بينكم بفضله، ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾؛ أي: ولتستعدوا لشكره على إنعامه عليكم، وتخلصوا له الحمد؛ لأنه لم يشركه في إنعامه عليكم
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
والخلاصة: أن الليل والنهار نعمتان تتعقباقبان على مر الزمان، والمرء في حاجة إليهما، إذ لا غنى له عن الكدح في الحياة لتحصيل قوته، ولا يتسنى له ذلك على الوجه المرضي لولا ضوء النهار، كما لا يكمل له السعي على الرزق إلا بعد الراحة والسكون بالليل، ولا يقدر على شيء من ذلك إلا الله الواحد القهار، وقال الزجاج: يجوز أن يكون معنى الآية: لتسكنوا فيهما، ولتبتغوا من فضل الله فيهما، ويكون المعنى: جعل لكم الزمان ليلًا ونهارًا لتسكنوا فيه، ولتبتغوا من فضله فيه. انتهى.
واعلم (١): أنه وإن كان السكون في النهار ممكنًا، وطلب الرزق في الليل ممكنًا، وذلك عند طلوع القمر على الأرض، أو عند الاستضاءة بشيء مما له نور، كالسراج والكهرباء، لكن ذلك قليل نادر. مخالف لما يألفه العباد، فلا اعتبار به.
قال إمام الحرمين وغيره من الفضلاء (٢): لا خلاف أن الشمس تغرب عند قوم وتطلع عند قوم آخرين، والليل يطول عند قوم، ويقصر عند آخرين، وعند خط الاستواء يكون الليل والنهار مستويًا أبدًا. وسُئل الشيخ أبو حامد عن بلاد بلغار كيف يصلون؛ لأن الشمس لا تغرب عندهم إلا مقدار ما بين المغرب والعشاء، ثم تطلع فقال: يُعتبر صومهم وصلاتهم بأقرب البلاد إليهم. والأصح عند أكثر الفقهاء أنهم يقدرون الليل والنهار، ويكبرون بحسب الساعات. كما قال عليه السلام في أيام الدجال: "يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة" فيقدَّر الصيام والصلاة في زمنه، كذا ورد عن سيد البشر.
قال في "القاموس": بلغر كقرطق، والعامة تقول: بلغار، مدينة الصقالبة ضاربة في الشمال شديدة البرد. انتهى، والفجر يطلع في تلك الديار قبل غيبوبة الشفق في أقصر ليالي السنة، فلا يجب على أهاليها العشاء والوتر لعدم سبب
(٢) روح البيان.
٧٤ - ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ﴾ منصوب بـ ﴿اذكر﴾ أي (١): واذكر يا محمد لقومك يوم ينادي الله سبحانه وتعالى المشركين ﴿فَيَقُولُ﴾ توبيخًا لهم ﴿أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ أنهم شركاء لي، كرر التقريع والتوبيخ لهم على اتخاذ الشركاء، للإشعار بأنه لا شيء أجلب لغضب الله سبحانه من الإشراك، كما لا شيء أدخل في مرضاة الله تعالى من توحيده، ولاختلاف الحالتين؛ لأنهم ينادون مرة فيدعون الأصنام، وينادون أخرى فيسكتون.
٧٥ - وقوله: ﴿وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾ عطف على ينادي، وجاء بصيغة الماضي للدلالة على التحقق؛ أي: وأخرجنا من كل أمة من الأمم شهيدًا عليهم بما كانوا عليه من الخير والشر، قال مجاهد: هم الأنبياء، وقيل: المراد بالشهيد: العدول من كل أمة، وذلك أنه سبحانه لم يخل عصرًا من الأعصار عن عدول يرجع إليهم في أمر الدين، ويكونون حجة على الناس يدعونهم إلى الدين، فيشهدون على الناس بما عملوا من العصيان. والأول أولى.
والمعنى (٢): أي وأحضرنا من كل أمة شهيدها، وهو نبيها الذي يشهد عليها
بما أجابته أمته فيما أتاهم به عن الله برسالته. ونحو الآية قوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (٤١)﴾ وهذا في موقف من مواقف القيامة، وفي موقف آخر يكون الشهداء هم الملائكة، كما قال تعالى: ﴿وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ﴾.
ثم بين ما يطلب منهم بعد هذه الشهادة، فقال: ﴿فَقُلْنَا﴾ لكل من الأمم
(٢) المراغي.
قال بعضهم: واعلم أن الشركاء لا تنحصر في الأصنام الظاهرة، بل الأنداد ظاهرة وباطنة، فمنهم من صنمه نفسه، ومن صنمه زوجته، حيث يحبها محبة الله، ويطيعها إطاعة الله، ومنهم من صنمه تجارته، فيتكل عليها، ويترك طاعة الله لأجلها، فهذه كلها لا تنفع يوم القيامة.
حكي: أن مالك بن دينار رحمه الله تعالى كان إذا قرأ في الصلاة ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ غشي عليه، فسئل فقال: نقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ ونعبد أنفسنا؛ أي: نطيعها في أمرها، ونقول: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ونرجع إلى أبواب غيره.
روي: أن زكريا عليه السلام لما هرب من اليهود بعد أن قُتل يحيى عليه السلام وتوابعه ورائه تمثل له الشيطان في صورة الراعي، وأشار إليه بدخول الشجرة، فقال زكريا للشجرة: أكتميني فانشقت فدخل فيها، وأخرج الشيطان هدب ردائه، ثم أخبر به اليهود، فشقوا الشجرة بالمنشار، فهذا الشق إنما وقع له لالتجائه إلى الشجرة. واعلم أن الشرك أقبح جميع السيئات وأساسها، كما أن التوحيد أحسن جميع الحسنات وأساسها.
الإعراب
﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦)﴾.
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
﴿وَقَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة أو معطوفة على جملة ﴿إن﴾، ﴿إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى﴾: جازم وفعل مضارع مجزوم، وفاعل مستتر يعود على المتكلمين، ومفعول به، ﴿مَعَكَ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿نَتَّبِعِ﴾ ﴿نُتَخَطَّفْ﴾: فعل مضارع مجزوم على كونه جواب الشرط، ونائب فاعل مستتر، ﴿مِنْ أَرْضِنَا﴾: متعلق بنتخطف، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿أَوَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾ للاستفهام التقريري داخلة على محذوف. و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم نعصمهم وأم نمكن لهم حرمًا آمنًا، والجملة المحذوفة مستأنفة، ﴿لم﴾: حرف جزم، ﴿نُمَكِّنْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به، ﴿حَرَمًا﴾: مفعول به، ﴿آمِنًا﴾: صفة لـ ﴿حَرَمًا﴾، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة المحذوفة، ﴿يُجْبَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق به، ﴿ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾: نائب فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب صفة ثانية لـ ﴿حَرَمًا﴾ ﴿رِزْقًا﴾: حال من ﴿ثَمَرَاتُ﴾ لتخصصه بالإضافة، ولكنه على تأويل المشتق؛ أي:
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (٥٨)﴾.
﴿وَكَمْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿كَمْ﴾: خبرية بمعنى عدد كثير، في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا لـ ﴿أَهْلَكْنَا﴾، ﴿أَهْلَكْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لتخويف قومه من سوء مغبة من كانوا في نعمة فغمطوها وقابلوها بالبطر، ﴿مِنْ قَرْيَةٍ﴾: تمييز لـ ﴿كَمْ﴾ الخبرية مجرور بـ ﴿من﴾ الزائدة، ﴿بَطِرَتْ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة في محل الجر صفة لـ ﴿قَرْيَةٍ﴾، ﴿مَعِيشَتَهَا﴾: منصوب بنزع الخافض، والخافض المحذوف متعلق بـ ﴿بَطِرَتْ﴾، وقيل: منصوب على الظرفية الزمانية؛ أي: أيام معيشتها. ويجوز تضمين ﴿بَطِرَتْ﴾ معنى خسرت، فتكون ﴿مَعِيشَتَهَا﴾ مفعولًا به، واقتصر عليه أبو البقاء. ﴿فَتِلْكَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿تِلْكَ﴾: مبتدأ، ﴿مَسَاكِنُهُمْ﴾: خبر، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية؛ أعني: أهلكنا، ﴿لَمْ تُسْكَنْ﴾: جازم وفعل مغير ونائب فاعل، ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ثان لـ ﴿تِلْكَ﴾، أو في محل النصب حال من ﴿مَسَاكِنُهُمْ﴾، والعامل فيها معنى الإشارة، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿قَلِيلًا﴾: صفة لمصدر محذوف؛ أي: سكنى قليلًا، أو صفة لظرف محذوف؛ أي: إلا زمانًا قليلًا، أو مكانًا قليلًا، ﴿وَكُنَّا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة أو حالية ﴿كُنَّا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿نَحْنُ﴾: ضمير فصل، ﴿الْوَارِثِينَ﴾: خبره، والجملة إما معطوفة على جملة ﴿أَهْلَكْنَا﴾، أو حال من فاعل ﴿أَهْلَكْنَا﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿ما﴾: نافية، ﴿كَانَ رَبُّكَ﴾ فعل ناقص واسمه، ﴿مُهْلِكَ الْقُرَى﴾: خبره ومضاف إليه، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان عادة الله تعالى في عباده، ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية، ﴿يَبْعَثَ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد ﴿حَتَّى﴾ الجارة، ﴿فِي أُمِّهَا﴾ متعلق بـ ﴿يَبْعَثَ﴾، ﴿رَسُولًا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى، تقديره: إلى بعثه رسولًا، الجار والمجرر متعلق بـ ﴿كَانَ﴾. ﴿يَتْلُوا﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿رَسُولًا﴾، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به، ﴿آيَاتِنَا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ ﴿رَسُولًا﴾، ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ما﴾: نافية، ﴿كُنَّا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿مُهْلِكِي الْقُرَى﴾: خبره ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة ﴿كَانَ﴾ الأولى، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء من أعم الأحوال، ﴿وَأَهْلُهَا﴾ ﴿الواو﴾: حالية، ﴿أَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ﴿الْقُرَى﴾؛ لأن المضاف كان مما يقتضي العمل؛ أي: وما كنا نهلكهم في حال من الأحوال إلا في حال كونهم ظالمين. ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، أو عاطفة، ﴿ما﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، ﴿أُوتِيتُمْ﴾: فعل ماض مغير الصيغة في محل الجزم بـ ﴿ما﴾ على كونه فعل شرط لها، و ﴿التاء﴾: نائب فاعل، ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾: حال من ﴿مَا﴾، أو من الضمير المحذوف الواقع مفعولًا ثانيًا لأتى؛ لأنه بمعنى أعطى، ﴿فَمَتَاعُ﴾: ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿ما﴾ الشرطية وجوبًا، ﴿فَمَتَاعُ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فهو متاع الحياة الدنيا، ﴿الْحَيَاةِ﴾: مضاف إليه، ﴿الدُّنْيَا﴾: صفة لـ ﴿الْحَيَاةِ﴾، ﴿وَزِينتُهَا﴾: معطوف على ﴿مَتَاعُ﴾، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿ما﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿ما﴾ الشرطية مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ﴾. ﴿وَمَا﴾
﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢)﴾.
﴿أَفَمَنْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أمتاع الدنيا وزينتها كما عند الله سبحانه، فمن وعدناه وعدًا حسنًا من متعناه متاع الحياة الدنيا، والجملة المحذوفة مستأنفة، ﴿مَنْ﴾: اسم موصول مبتدأ، ﴿وَعَدْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، ﴿وَعْدًا﴾: مفعول مطلق، ﴿حَسَنًا﴾: صفة ﴿وَعْدًا﴾، والجملة الفعية صلة الموصول. ﴿فَهُوَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، هو: مبتدأ، ﴿لَاقِيهِ﴾: خبر ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة الصلة، ﴿كَمَنْ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على تلك المحذوفة، ﴿مَتَّعْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، ﴿مَتَاعَ﴾: مفعول مطلق، ﴿الْحَيَاةِ﴾ مضاف إليه، ﴿الدُّنْيَا﴾: صفة للحياة، والجملة الفعلية صلة الموصول، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ، ﴿هُوَ﴾: مبتدأ،
﴿قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا﴾.
﴿قَالَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿حَقَّ﴾: فعل ماض، ﴿عَلَيْهِمُ﴾: متعلق به، ﴿الْقَوْلُ﴾: فاعل، والجملة صلة الموصول، ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿هَؤُلَاءِ﴾: مبتدأ، ﴿الَّذِينَ﴾: خبره، ﴿أَغْوَيْنَا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: هؤلاء أتباعنا الذين أغويناهم، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿أَغْوَيْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة على كونها مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿كَمَا﴾ ﴿الكاف﴾: حرف جر، و ﴿ما﴾: مصدرية، ﴿غَوَيْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة مع ﴿ما﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور بالكاف، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، معمول لفعل محذوف، معطوف على ﴿أَغْوَيْنَا﴾، تقديره: أغويناهم فغووا غيًا كائنًا كغينا، وهذا الإعراب
﴿تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤)﴾.
﴿تَبَرَّأْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة مفسرة لما قبلها، مقررة لها، في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق بـ ﴿تَبَرَّأْنَا﴾، ﴿مَا﴾: نافية، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿إِيَّانَا﴾: في محل النصب مفعول مقدم لـ ﴿يَعْبُدُونَ﴾، وجملة ﴿يَعْبُدُونَ﴾ خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿وَقِيلَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿قِيلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ﴾: نائب فاعل محكي لـ ﴿قِيلَ﴾، وجملة ﴿قيل﴾ معطوفة على جملة ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قِيلَ﴾. ﴿فَدَعَوْهُمْ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿دَعَوْهُم﴾: فعل ماض وفاعل ومفعول به. والجملة معطوفة مفرعة على جملة قوله: ﴿وَقِيلَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم، ﴿يَسْتَجِيبُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَدَعَوْهُمْ﴾. ﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿دَعَوْهُمْ﴾، ﴿لَوْ﴾: حرف شرط، ﴿أَنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَهْتَدُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿كَانُوا﴾ في محل الرفع خبر ﴿أَنّ﴾، وجملة ﴿أَنّ﴾ في تأويل مصدر مرفوع على كونه فاعلًا لفعل محذوف، هو فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾، وجواب ﴿لَوْ﴾ محذوف، تقديره: لو ثبت كونهم مهتدين في الدنيا لما رأوا العذاب في الآخرة، وجملة ﴿لَوْ﴾ مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (٦٦)﴾.
﴿فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧)﴾.
﴿فَأَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنا أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حال المشركين، وأردت بيان حال المؤمنين فأقول لك أما، ﴿أَمَّا﴾: حرف شرط وتفصيل، ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، ﴿تَابَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة صلة ﴿مَن﴾ الموصولة، ﴿وَآمَنَ وَعَمِلَ﴾: معطوفان عليه، ﴿صَالِحًا﴾: مفعول به، أو مفعول مطلق. ﴿فَعَسَى﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿أما﴾ واقعة في غير موضعها، ﴿عَسَى﴾: فعل ماض من أفعال الرجاء، واسمها ضمير مستتر، تقديره: هو يعود على ﴿مَنْ تَابَ﴾ ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿يَكُونَ﴾: فعل مضارع ناقص، واسمها ضمير مستتر يعود على ﴿مِنَ﴾، ﴿مِنَ الْمُفْلِحِينَ﴾: خبر ﴿يَكُونَ﴾، وجملة ﴿يَكُونَ﴾ في تأويل مصدر خبر ﴿عَسَى﴾، تقديره: فعسى كونه من
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (٦٩)﴾.
﴿وَرَبُّكَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿رَبُّكَ﴾: مبتدأ ومضاف إليه، وجملة ﴿يَخْلُقُ﴾ خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يَخْلُقُ﴾، وجملة ﴿يَشَاءُ﴾ صلته، والعائد محذوف؛ أي: ما يشاء خلقه، وجملة ﴿وَيَخْتَارُ﴾ في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿يَخْلُقُ﴾، ﴿مَا﴾: نافية، ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، ﴿لَهُمُ﴾: خبرها مقدم، ﴿الْخِيَرَةُ﴾: اسمها مؤخر، والجملة مفسرة لما قبلها مقررة لها، لا محل لها من الإعراب. ويجوز أن تكون مستأنفة. وهنا أوجه من الإعراب لا تخلو عن اعتراض. ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ﴾: مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا؛ أي: سبحوا الله أيها العباد تسبيحًا، أو أسبح الله سبحانًا، والجملة مستأنفة، ﴿وَتَعَالَى﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهِ﴾، والجملة معطوفة على جملة التسبيح، ﴿عَمَّا﴾: متعلق بـ ﴿تعالى﴾، وجملة ﴿يُشْرِكُونَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، أو المصدرية، ﴿وَرَبُّكَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَعْلَمُ﴾ خبره، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَرَبُّكَ﴾ الأول، ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يَعْلَمُ﴾، ﴿تُكِنُّ صُدُورُهُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: ما تكنه صدورهم، ﴿وَمَا﴾ عطف على ﴿مَا﴾ الأولى، وجملة ﴿يُعْلِنُونَ﴾ صلتها.
﴿وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠)﴾.
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (٧١)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة، ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ ﴿الهمزة﴾ للاستفهام الاستخباري، ﴿رَأَيْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، ﴿إن﴾ حرف شرط جازم، ﴿جَعَلَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها، ﴿عَلَيْكُمُ﴾: متعلق بـ ﴿سَرْمَدًا﴾، أو حال منه، ﴿اللَّيْلَ﴾: مفعول أول لـ ﴿جَعَلَ﴾، ﴿سَرْمَدًا﴾: مفعوله الثاني، ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾؛ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿سَرْمَدًا﴾، لأنه بمعنى دائمًا، أو بـ ﴿جَعَلَ﴾، أو صفة لـ ﴿سَرْمَدًا﴾، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية محذوف، تقديره: إن جعل الله عليكم الليل سرمدًا إلى يوم القيامة فأخبروني ماذا تفعلون، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معترضة بين الفعل ومعموله، في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿مَنْ﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ﴿إِلَهٌ﴾: خبره، ﴿غَيْرُ اللَّهِ﴾: صفة لـ ﴿إِلَهٌ﴾، ﴿يَأْتِيكُمْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، ﴿بِضِيَاءٍ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع صفة ثانية لـ ﴿إِلَهٌ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ معلقة عنها باسم
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٧٢)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾: فعل وفاعل والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿جَعَلَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿عَلَيْكُمُ﴾: متعلق بـ ﴿سَرْمَدًا﴾، ﴿النَّهَارَ﴾: مفعول أول لـ ﴿جَعَلَ﴾، ﴿سَرْمَدًا﴾: مفعول ثان له، ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾: متعلق بـ ﴿سَرْمَدًا﴾، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية محذوف، تقديره: فأخبروني ماذا تفعلون، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معترضة بين الفعل ومعموله على كونها مقولًا لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿مَنْ﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ﴿إِلَهٌ﴾: خبره، ﴿غَيْرُ اللَّهِ﴾: صفة لـ ﴿إِلَهٌ﴾، والجملة الاستفهامية في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾، علقت عنها باسم الاستفهام، وجملة ﴿يَأْتِيكُمْ﴾ صفة ثانية لـ ﴿إِلَهٌ﴾، ﴿بِلَيْلٍ﴾: متعلق بـ ﴿يَأْتِيكُمْ﴾، وجملة ﴿تَسْكُنُونَ﴾ في محل الجر صفة لـ ﴿لَيْلٍ﴾ ولكنها سببية، ﴿فِيهِ﴾: متعلق بـ ﴿تَسْكُنُونَ﴾، وهو الرابط بين الصفة والموصوف، ﴿أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ ﴿الهمزة﴾ للاستفهام الإنكاري التوبيخي داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا تعتبرون فلا تبصرون، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، وجملة ﴿تُبْصِرُونَ﴾ معطوفة على تلك المحذوفة. كما مر نظير هذه الآية آنفًا.
﴿وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
﴿وَمِنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿مِنْ رَحْمَتِهِ﴾: جار ومجرور متعلق
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥)﴾.
﴿وَيَوْمَ﴾: ظرف متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يوم يناديهم، وجملة ﴿يُنَادِيهِمْ﴾ في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يوم﴾، وجملة ﴿فَيَقُولُ﴾ معطوفة على جملة ﴿يُنَادِيهِمْ﴾، ﴿أَيْنَ﴾ خبر مقدم، ﴿شُرَكَائِيَ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول ﴿يَقُولُ﴾، ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿شُرَكَائِيَ﴾، وجملة ﴿كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ صلة الموصول، وقد مر إعراب هذه الآية بلفظها تفصيلًا فجدد به عهدًا. ﴿وَنَزَعْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿نَزَعْنَا﴾، والجملة الفعلية في محل الجر معطوفة على جملة ﴿يُنَادِيهِمْ﴾ على كونها مضافًا إليه ليوم، ﴿شَهِيدًا﴾: مفعول به لـ ﴿نَزَعْنَا﴾، ﴿فَقُلْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿نَزَعْنَا﴾، ﴿هَاتُوا﴾: فعل وفاعل، ﴿بُرْهَانَكُمْ﴾: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قلنا﴾، ﴿فَعَلِمُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿قُلْنَا﴾، ﴿أَنَّ الْحَقَّ﴾ ناصب واسمه، ﴿لِلَّهِ﴾: خبره، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم، ﴿وَضَلَّ﴾ فعل ماض معطوف على ﴿عَلِمُوا﴾، ﴿عَنْهم﴾: متعلق بـ ﴿ضَلَّ﴾، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع فاعل ﴿ضَلَّ﴾، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَفْتَرُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿كَانُ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي﴾ الهداية تارة يراد بها الدعوة والإرشاد إلى طريق الخير، وهي التي أثبتها الله سبحانه لرسوله في قوله: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وتارة يراد بها هداية التوفيق، وشرح الصدر بقذف نور يحيى به القلب، كما جاء في قوله: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا﴾، وهي بهذا المعنى نفيت عن رسول الله - ﷺ - في هذه الآية.
وفي "روح البيان": الهداية من الله عبارة عن تقليب القلب من الباطل - وهو ما سوى الله - إلى الحق، وهو جانب الله سبحانه، فليس هذا من شأن غير الله تعالى، وفي "عرائس البيان": الهداية مقرونة بإرادة الأزل، ولو كانت إرادة نبينا محمد - ﷺ - في حق أبي طالب مقرونة بإرادة الأزل لكان مهتديًا، ولكن كانت محبته وإرادته في حقه من جهة القرابة، ألا ترى أنه إذ قال: "اللهم أعز الإِسلام بعمر" كيف أجابه. انتهى.
﴿إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ﴾ معنى اتباع الهدى معه الاقتداء به عليه السلام في الدين والسلوك إلى طريق الرشاد.
﴿نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ التخطف الاختلاس والانتزاع بسرعة، ويراد به هنا الإخراج من البلاد، ﴿يُجْبَى إِلَيْهِ﴾؛ أي: جمعه فيه، والجابية الحوض العظيم الجامع له.
﴿بَطِرَتْ﴾؛ أي: طغت وتمردت وتجبرت وكفرت، ﴿مَعِيشَتَهَا﴾، أي: في عيشها وحياتها، وفي "الكرخي": بطرت معيشتها؛ أي: كفرت نعمة معيشتها، والمعيشة ما يُعاش به من النبات والحيوان وغيرهما. اهـ، والبطر الطغيان في النعمة، قال بعضهم: البطر والأشر واحد، وهو دهش يعتري الإنسان من سوء احتمال النعمة، وقلة القيام بحقها وصرفها إلى غير وجهها، ويقاربه الطرب، وهو خفة أكثر ما يعتري من الفرح، وفي "القاموس": البطر محرك النشاط، والأشر
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ﴾ بيان للعادة الربانية؛ أي: ما صح وما استقام، وما كان، وما ثبت في حكه الماضي، وقضائه السابق أن يُهلك القرى قبل الإنذار، بل حتى يبعث إلخ. اهـ "أبو السعود".
﴿فِي أُمِّهَا﴾؛ أي: في أعظمها وأكبرها بالنسبة إلى ما حواليها فعادة الله أن يبعث الرسل في المدائن؛ لأن أهلها أعقل وأنبل وأفطن، وغيرهم يتبعهم اهـ. شيخنا؛ أي: أكثر نبالة، وهي الفضل والشرف، يقال: نبل فلان فهو نبيل؛ أي: شرف فهو شريف.
﴿مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾؛ أي: الذين يحضرون للعذاب، وقد اشتهر ذلك في اصطلاح القرآن كما قال ﴿لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾، وقال: ﴿إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ لأن في ذلك إشعارًا بالتكليف والإلزام، ولا يليق ذلك بمجالس اللذات، بل هو أشبه بمجالس المكاره والمضار.
﴿تَزْعُمُونَ﴾ والزعم القول الفاسد، والحكم بلا دليل، ﴿حَقَّ عَلَيْهِمُ﴾؛ أي: وجب وثبت.
﴿الْقَوْلُ﴾؛ أي: مدلول القول ومقتضاه، وهو قوله: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾، كما مر في مبحث التفسير، ﴿أَغْوَيْنَا﴾ من أفعل الرباعي كأكرم ثلاثية غوى يغوي كضرب يضرب من الغواية، وهو الضلال.
﴿فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ﴾ من استجاب السداسي، فهو من استفعل بمعنى أفعل الرباعي؛ أي: فلم يجيبوا لهم، فالسين والتاء فيه زائدتان، ﴿فَعَمِيَتْ﴾؛ أي: خفيت، ﴿الْأَنْبَاءُ﴾؛ أي: الحجج التي تنجيهم، ﴿فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ﴾ من التساؤل الذي يدل على المشاركة من الجانبين؛ أي: لا يسأل بعضهم بعضًا.
﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾؛ أي: الاختيار عليه، وهو نفي لاختيارهم الوليد
﴿سُبْحَانَ اللَّهِ﴾؛ أي: تنزيهًا لله أن ينازعه أحد في الاختيار، ﴿مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ﴾؛ أي: تخفي، يقال: أكننت الشيء إذا أخفيته في نفسك، وكننته إذا سترته في بيت أو ثوب أو غير ذلك من الأجسام، ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾؛ أي: يظهرونه للغير، ﴿وَلَهُ الْحُكْمُ﴾؛ أي: القضاء النافذ في كل شيء دون مشاركة لغيره فيه، قال ابن عباس: حكم لأهل طاعته بالمغفرة، ولأهل معصيته بالشقاء والويل. اهـ.
﴿سَرْمَدًا﴾ السرمد الدائم المتصل، قال طرفة:
لَعَمْرُكَ مَا أَمْرِيْ عَلَيَّ بِغُمةٍ | نَهَارِيْ وَلَا لَيْلِيْ عَلَيَّ بِسَرْمَدِ |
﴿وَنَزَعْنَا﴾ يقال: نزع الشيء إذا جذبه من مقره كنزع القوس من كبده.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنوعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: طباق السلب في قوله: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي﴾ ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي﴾.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿حَرَمًا آمِنًا﴾ حيث نسب الأمن إلى الحرم، وهو لأهله، ومثله: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾ لأن المراد أهلها، بدليل قوله فيما بعد: ﴿فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا﴾.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ لأن الكلية كناية عن الكثرة كقوله: ﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾.
ومنها: أسلوب السخرية والتهكم في قوله: ﴿أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾.
ومنها: التشبيه المرسل في قوله: ﴿أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ﴾ قال الشهاب: استعير العمى لعدم الاهتداء، بجامع عدم الوصول إلى المقصود في كل، ثم اشتق من العمى بمعنى عدم الاهتداء، عميت عليهم الأنباء بمعنى لا تهتدي إليهم الأنباء، على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية، وقيل: إنه من باب القلب، وأصله فعموا عن الأنباء، والقلب من محسنات الكلام، وفيه أيضًا التضمين؛ لأنه ضمن العمى معنى الخفاء فعداه بعلى، ففيه ثلاثة أنواع من البلاغة: الاستعارة - والقلب - والتضمين.
ومنها: الطباق بين ﴿تُكِنُّ﴾ و ﴿يُعْلِنُونَ﴾، وبين ﴿الْأُولَى﴾ و ﴿وَالْآخِرَةِ﴾ وهو من المحسنات البديعية.
ومنها: الإدماج في قوله: ﴿لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ﴾ وحد الإدماج أن يدمج المتكلم، إما غرضًا في غرض، أو بديعًا في بديع، بحيث لا يظهر في الكلام إلا أحد الغرضين، أو أحد البديعين، والآخر مدج في الغرض الذي هو وجود في الكلام، فإن هذه الآية أدمجت فيها المبالغة في المطابقة؛ لأن انفراده سبحانه بالحمد في الآخرة - وهي الوقت الذي لا يحمد فيه سواه - مبالغة في وصف ذاته بالانفراد والحمد، وهذه وإن خرج الكلام فيها مخرج المبالغة في
ومنها: التبكيت والتوبيخ في قوله: ﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ﴾، ومثله ﴿يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ﴾.
ومنها: فن المناسبة في قوله: ﴿أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا﴾ إلى قوله: ﴿أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ والمناسبة قسمان: مناسبة في المعاني، ومناسبة في الألفاظ، فالمعنوية هي أن يبتدىء المتكلم بمعنى ثم يتمم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ، فإنه سبحانه لما أسند جعل الليل سرمدًا إلى يوم القيامة لنفسه، وهو القادر الذي جعل الشيء لا يقدر غيره على مضادته قال: ﴿أَفَلَا تَسْمَعُونَ﴾ لمناسبة السماع للطرف المظلم من جهة صلاحية الليل للسماع دون الإبصار، لعدم نفوذ البصر في الظلمة، ولما أسند جعل النهار سرمدًا إلى يوم القيامة لنفسه، كأن لم يُخلق فيه ليل البتة قال في فاصلة هذه الآية: ﴿أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ لمناسبة ما بين النهار والإبصار. وأما المناسبة اللفظية فستأتي في غير هذا الموضع.
ومنها: اللف والنشر المرتب في قوله: ﴿وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣)﴾ فإنه جمع الليل والنهار، ثم قال: ﴿لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ فأعاد السكون إلى الليل، والابتغاء لطلب الرزق إلى النهار، وسماه علماء البديع باللف والنشر المرتب؛ لأنه أعاد الأول على الأول والثاني على الثاني.
وضابطه: أن يذكر متعدد على وجه التفصيل، أو الإجمال، ثم يذكر ما لكل واحد من المتعدد من غير تعيين، ثقة بأن السامع يميز ما لكل منها، ويرده إلى ما هو له، فقد زاوج بين الليل والنهار لأغراض ثلاثة: أولها ﴿لِتَسْكُنُوا﴾ في أحدهما، وهو الليل، و ﴿وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ في ثانيهما، وهو النهار، ولإرادة شكركم في ثالثهما، وهذا النوع من علم البديع يسمى التفسير أيضًا، وهو أن يذكر
ومنها: التعبير بصيغة الماضي في قوله: ﴿وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾ للدلالة على التحقق، وفيه الالتفات أيضًا، لإبراز كمال الاعتناء بشأن النزع.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (٨٦) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (١) حديث أهل الضلالة، وما يلقونه من الإهانة والاحتقار يوم القيامة، ومناداتهم على رؤوس الأشهاد بما يفضحهم،
قوله تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (١) فيما سلف بغي قارون وعتوه وجبروته، وكثرة ما أوتيه من المال، الذي تنوء به العصبة أولو القوة.. أردف ذلك تفصيل بعض مظاهر بغيه وكبريائه، فذكر أنه خرج على قومه وهو في أبهى حليِّه وحلله، والعدد العديد من أعوانه وحشمه، قصدًا للتعالي على العشيرة، وأبناء البلاد، وفي ذلك كسر للقلوب وإذلال للنفوس، وتفريق للكلمة فلا تربطم رابطة، ولا تجمعهم جامعة فيذلون في الدنيا بانقضاض الأعداء عليهم، وقد غرَّت هذه المظاهر بعض الجهال، الذين لا همَّ لهم إلا زخرف الحياة وزينتها، فتمنوأ أن يكون لهم مثلها، فرد عليهم من وفَّقهم الله لهدايته: بأن ما عنده من النعيم لمن اتقى خير مما أوتي قارون، ولا يناله إلا من صبر على الطاعات واجتنب المعاصي، ثم أعقب ذلك بذكر ما آل إليه أمره من خسف الأرض به وبداره، ولم يجد معينًا ينصره، ويدفع العذاب عنه، وقد انقلب حال المتمنين المعجبين بحاله إلى متعجبين مما حل به، قائلين: ﴿وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ لا لفضل منزلته عنده، وكرامته لديه كما بسط لقارون، ويضيَّق على من يشاء، لا لهوانه عليه، ولا لسخط عمله، ولولا أن تفضل علينا فصرف عنا ما كنا نتمناه بالأمس لخسف بنا الأرض.
قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ﴾ الآيتين، مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قول أهل
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (١) قصص موسى وقومه مع قارون، وبيَّن بغي قارون واستطالته عليهم، ثم هلاكه ونصرة أهل الحق عليه.. أردف هذا قصص محمد - ﷺ - وأصحابه مع قومه وإيذائم إياه، وإخراجهم له من مسقط رأسه، ثم إعزازه إياه بالإعادة إلى مكة وفتحه إياها منصورًا ظافرًا.
قوله تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما حكم بأن العاقبة للمتقين.. أكد ذلك بوعد المحسنين، ووعيد المسيئين، ثم وعده بالعاقبة الحسنى في الدارين. ذكره في "الفتوحات".
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ...﴾ الآية (٢)، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك، قال: لما خرج النبي - ﷺ - من مكة فبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة، فأنزل الله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ...﴾.
(٢) لباب النقول.
٧٦ - ﴿إِنَّ قَارُونَ﴾ على (١) وزن فاعول اسم أعجمي، كهارون، ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وليس بعربي اشتق من قرن. قال الزجاج: لو كان قارون من قرنت الشيء لانصرف.
﴿كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى﴾ أي: من بني إسرائيل، قال النخعي وقتادة وغيرهما: كان ابن عم موسى، وهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب، وموسى هو ابن عمران بن قاهث. وقال ابن إسحاق: كان عم موسى لأب وأم، فجعله أخًا لعمران، وهما ابنا قاهث، وقيل: هو ابن خالة موسى، وكان ممن آمن بموسى، وكان من السبعين الذين اختارهم موسى للمناجاة فسمع كلام الله، وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة، وأحفظهم لها، وكان يسمى المنور لحسن صوته، ثم تغير حاله بسبب الغنى، فنافق كما نافق السامري، وخرج عن طاعة موسى، وهو معنى قوله: ﴿فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾ أي (٢): فتطاول قارون وتكبر على موسى وهارون وقومهما، وطلب الفضل عليهم، وحسدهما، وذلك أنهم لما عبروا البحر جُعلت الحبْوَرَة لهارون، وقال يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة، وهي رياسة مذبح القرابين، ولست في شيء، وأنا أقرأ بني إسرائيل للتوراة، وليس لي على هذا صبر، ولا أرضى بهذا، ورد على موسى نبوته، فقال موسى: ما أنا جعلتها لهارون، بل الله جعلها له من فضله، قال قارون: والله لا أصدقك في ذلك حتى تريني آية تدل عليه، فأمر موسى رؤساء بني إسرائيل بوضع عصيهم في القبة التي كان يعبد الله فيها، وينزل الوحي عليه فيها، ففعلوا وباتوا يحرسونها فأصبحت عصا هارون مورقة خضراء تهتز؛ أي: صارت ذات ورق أخضر، وكانت من شجرة اللوز، فقال موسى: يا قارون أما ترى ما صنع الله لهارون؛ فقال قارون: والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر، فاعتزل قارون ومعه ناس كثير من أتباعه من بني إسرائيل، وما كان يأتي موسى ولا يجالسه،
(٢) تنوير المقياس.
وقال قتادة: بغيه بنسبته ما آتاه الله من المال إلى نفسه لعلمه وحيلته، وقيل: كان عاملًا لفرعون على بني إسرائيل فتعدى عليهم وظلمهم، وقيل: كان بغيه بغير ذلك، مما لا يناسب معنى الآية.
ثم ذكر سبب بغيه وعتوه بقوله: ﴿وَآتَيْنَاهُ﴾؛ أي: وأعطينا قارون ﴿مِنَ الْكُنُوزِ﴾؛ أي: من الأموال المدخرة ﴿مَا﴾ موصولة بمعنى الذي، وهي في محل النصب على أنها ثاني مفعولي آتينا؛ أي: أعطيناه من الأموال المدَّخرة المال الكثير الذي ﴿إِنَّ مَفَاتِحَهُ﴾؛ أي: إن مفاتح صنادقه ﴿لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ﴾؛ أي: لتثقل على الجماعة الكثيرة ﴿أُولِي الْقُوَّةِ﴾؛ أي: أصحاب القوة؛ أي: لتثقلهم وتميل بهم إذا حملوها لثقلها؛ أي: وأعطينا قارون المال المذخور، الذي يثقل حمل مفاتيح خزائنه على العدد الكثير من أقوياء الناس، قال أبو حيان: ذكروا من كثرة مفاتحه ما هو كذب أو يقارب الكذب فلم أكتبه.
قيل: كان قارون أينما ذهب يحمل معه مفاتح كنوزه، وكانت من حديد، فلما ثقلت عليه جعلها من خشب، فثقلت عليه، فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع، روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن مفاتح خزائنه كان يحملها أربعون رجلًا من الأقوياء، وكانت أربع مئة ألف، يحمل كل رجل عشرة آلاف، ولا شك أن مثل هذا التحديد يحتاج إلى سند قوي يعسر الوصول إليه، ومثل هذا الأسلوب يدل على إرادة الكثرة دون تحديد شيء معين.
وقرأ الأعمش (١)؛ ﴿مفاتيحه﴾ بياء جمع مفتاح، وقرأ بديل بن ميسرة: ﴿ما إن مفتاحه﴾ بالإفراد، وقرأ أيضًا: ﴿لينوء﴾ بالياء التحتانية، وضمير الفاعل يعود على المفتاح، وقال أبو مسلم: المراد من المفاتح العلم والإحاطة، كقوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾، والمعنى حينئذٍ: وآتيناه من الكنوز ما إن حفظها والاطلاع
والظرف في قوله ﴿إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ﴾ متعلق بمحذوف، ويظهر أن يكون تقديره: فأظهر التفاخر والفرح بما أوتي من الكنوز، ﴿إِذْ قَالَ لَهُ﴾؛ أي: لقارون قومُه؛ أي: المؤمنون من بني إسرائيل على طريق النصيحة، وقال الفراء: هم موسى وحده، فهو جمع أريد به الواحد.
﴿لَا تَفْرَحْ﴾ أي: لا تبطر ولا تأشر بكثرة المال والأولاد، فإن الفرح بالدنيا من حيث إنها دنيا مذموم مطلقًا؛ لأنه نتيجة حبها والرضى بها، والذهول عن ذهابها، فإن العلم بأن ما فيها من اللذة مفارقه لا محالة يوجب الترح (١) حتمًا، ولذا قال تعالى: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ ولم يرخص في الفرح إلا قوله: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ وقوله: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ﴾ تعالى، والفرح انشراح الصدر بلذة عاجلة، وأكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية الدنيوية، والعرب تمدح بترك الفرح عند إقبال الخير، وقال الشاعر:
وَلَسْتُ بِمِفْرَاحٍ إذَا الدَّهْرُ سَرَّنِيْ | وَلَا جَازعٍ مِنْ صَرْفِهِ الْمُتَحَوِّلِ |
أشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِيْ فِيْ سُرُوْرٍ | تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالَا |
ثم علل النهي عن الفرح بكونه مانعًا محبة الله تعالى، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾؛ أي (٢): بزخارف الدنيا، فإن الدنيا مبغوضة عند الله تعالى، وإنما
(٢) روح المعاني.
وقرىء (١): ﴿الفارحين﴾ حكاه عيسى بن سليمان الحجازي، قال الزجاج: الفرحين والفارحين سعواء، وقال الفراء: معنى الفرحين الذين هم في حال الفرح، والفارحين الذين يفرحون في المستقبل، وقال مجاهد: معنى لا تفرح لا تبغ، إن الله لا يحب الفرحين الباغين، وقيل معناه: لا تبخل إن الله لا يحب الباخلين، وقيل (٢) معناه: أي إنه تعالى لا يُكرم الفرحين بزخارف الدنيا، أو يقربهم من جواره، بل يبغضهم ويبعدهم من حضرته.
٧٧ - ثم نصحوه بعدة نصائح فقالوا:
١ - ﴿وَابْتَغِ﴾؛ أي: واطلب، ﴿فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ﴾؛ أي: فيما أعطاك الله سبحانه وتعالى، لم يقل (٣): با آتاك الله؛ لأنه لم يُرد بمالك، وإنما أراد: وابتغ في حال تملكك، وفي حال قدرتك بالمال والبدن، كما في "كشف الأسرار".
﴿الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾؛ أي: ثواب الله فيها، بصرفه إلى ما يكون وسيلة إليه، من مواساة الفقراء، وصلة الأرحام، وفك الأسارى، ونحوها من أبواب الخير (٤)، وقرىء: ﴿واتبع﴾ والمعنى؛ أي: واستعمل ما وهبك من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك، والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة.
٢ - ﴿وَلَا تَنْسَ﴾؛ أي: لا تترك ترك المنسي ﴿نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ وهو أن تُحصِّل بها آخرتك، أو تأخذ منها ما يكفيك وتُخرج الباقي؛ أي: ولا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة حتى تنجو من العذاب؛ لأن حقيقة نصيب الإنسان من
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) الشوكاني.
وعن عمرو بن ميمون الأودي قال: قال رسول الله - ﷺ - لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك". وهذا حديث مرسل، وعمرو بن ميمون لم يلق النبي - ﷺ -.
وقيل المعنى: أي ولا تترك حظك من لذات الدنيا في مآكلها ومشاربها وملابسها، فإن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، وهذا ألصق بمعنى النظم القرآني، كما ذكره "الشوكاني".
وعن ابن عمر: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا". وعن الحسن: قدِّم الفضل وأمسك ما يُبلِّغ.
٣ - ﴿وَأَحْسِنْ﴾ إلى عباد الله إحسانًا ﴿كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ﴾ سبحانه ﴿إِلَيْكَ﴾ فيما أنعم به عليك، فأعن خلقه بمالك وجاهك وطلاقة وجهك وحسن لقائهم، والثناء عليهم في غيبتهم.
٤ - ﴿وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: ولا تطلب الفساد بعمل المعاصي في الأرض؛ أي (١): ولا تصرف همتك بما أنت فيه إلى الفساد في الأرض، والإساءة إلى خلق الله، وكل من عصى الله فقد طلب الفساد في الأرض، ثم أتبعوا هذه المواعظ بعلتها، فقالوا: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه ﴿لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ لسوء أفعالهم، بل يُحب المصلحين لحسن أعمالهم، أي: إن الله لا يكرم المفسدين، بل يهينهم ويُبعدهم من حظيرة قربه وقيل مودته ورحمته، ويعاقبهم بسوء أفعالهم.
٧٨ - ثم بيَّن أنه مع كل هذه المواعظ أبى وزاد في كفران النعمة فقال: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ﴾؛ أي: إنما أعطيت هذا المال حالة كوني ﴿عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾؛ أي (٢):
(٢) المراح.
قال سعيد بن المسيب والضحاك: كان موسى عليه السلام أُنزل عليه علم الكيمياء من السماء، فعلم قارون ثلث العلم، ويوشع ثلثه، وغالب ثلثه، فخدعهما قارون حتى ضم علمهما إلى علمه، فكان يأخذ الرصاص فيجعله فضة، والنحاس فيجعله ذهبًا، وكان ذلك سبب كثرة أمواله، وقيل (١) المعنى: إن الله آتاني هذه الكنوز على علم منه باستحقاقي إياها، لفضل علمه منى، واختار الزجاج هذا المعنى، وأنكر ما عداه. وتلخيص ذلك: إني إنما أعطيته لعلم الله أني له أهلٌ.
وقال في "روح البيان": والمعنى أوتيته حال كوني مستحقًا لما فيَّ من علم التوراة، وكان أعلمهم بها، ادعى استحقاق التفضيل على الناس واستيجاب التفوق بالمال والجاه بسبب العلم، ولم ينظر إلى منة الله تعالى وفضله، ولذا هلك، وهكذا كل من كان على طريقه في الادعاء والافتخار والكفران، فإنه يهلك يومًا بشؤم معصيته وصنيعه. انتهى.
قال الزجاج (٢): علم الكيمياء لا حقيقة له، وفي "الكواشي": ومتعاطي هذا العلم الكثير كذبه، فلا يلتفت إليه، قال بعضهم: وهذا أولى من قول الزجاج، فإن فيه إقرارًا بأصله في الجملة، وكذا بوجوده، والكيمياء له حقيقة صحيحة، وقد عمل به بعض الأنبياء، وكُمل الأولياء، فإنه لا شك في الاستحالة والانقلاب بعد تصفية الأجساد، وتطهيرها من الكدورات، وقد بُيِّن في موضعه، ورأيت من وصل إليه بلا تكبر، والله العلم الخبير.
(٢) روح البيان.
﴿أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ﴾؛ أي: من قبل قارون ﴿مِنَ الْقُرُونِ﴾ الكافرة والأمم الماضية ﴿مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً﴾ بالعدد والعدد؛ أي: من هم أشد من قارون بطشًا ﴿وَأَكْثَرُ جَمْعًا﴾ للأموال كنمرود وغيره.
وقال بعضهم: وأكثر جمعًا للعلم والطاعة، مثل إبليس، ولو كان الله سبحانه يؤتي الأموال من يؤتيه لفضل فيه، وخير عنده، ورضاه عنه.. لم يُهلك من أهلك من أرباب الأموال، الذين كانوا أكثر منه مالًا؛ لأن من يرضي الله عنه فمحال أن يهلكه وهو عنه راض، وإنما يُهلك من كان عليه ساخطًا، ألم يشاهد فرعون وهو في أبهة ملكه وحقق أمره يوم هلكه، وفي هذا (٢) الأسلوب تعجيب من حاله، وتوبيخ له من جهته تعالى على اغتراره بقوته وكثرة ماله، مع علمه بذلك الإهلاك، قراءة في التوراة وتلقينًا من موسى، وسماعًا من حُفَّاظ التواريخ، فالمعنى: ألم يقرأ التوراة، ويعلم ما فعله الله سبحانه بأضرابه من أهل القرون السابقة، حتى لا يغتر بما اغتر به.
وبعد (٣) أن هدد سبحانه بذكر إهلاك من قبله من أضرابه في الدنيا أردف ذلك تهديد المجرمين كافة بما هو أشد من عذاب الآخرة، وهو عدم سؤالهم، إذ إنه يؤذن بشدة الغضب عليهم، والإيقاع بهم لا محالة؛ فقال: ﴿وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ عند إهلاكهم، لئلا يشتغلوا بالاعتذار، كما قال تعالى: ﴿وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦)﴾؛ أي: لا يسألهم الله عن كيفية ذنوبهم وكميتها إذا أراد أن يعاقبهم، اهـ "رازي".
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَلَا يُسْأَلُ﴾ مبنيًا للمفعول، و ﴿الْمُجْرِمُونَ﴾ رُفع به، وهو متصل بما قبله، قاله محمد بن كعب، والضمير في ﴿ذُنُوبِهِمُ﴾ عائد على من أُهلك من القرون؛ أي: لا يسأل غيرهم ممن أجرم، ولا ممن لم يجرم عمن أهلكه الله، بل كل نفس بما كسبت رهينة، وقيل: هو مستأنف مسوق لبيان حال يوم القيامة، قال قتادة: لا يُسألون عن ذنوبهم لظهورها وكثرتها؛ لأنهم يدخلون النار بغير حساب، وقال قتادة أيضًا ومجاهد: لا تسألهم الملائكة عن ذنوبهم، لأنهم يعرفونهم بسيماهم من السواد والتشويه، كقوله: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ﴾.
وقرأ أبو جعفر في روايته: ﴿ولا تسأل﴾ بالتاء والجزم ﴿المجرمين﴾ بالنصب، وقرأ ابن سيرين وأبو العالية كذلك في: ﴿ولا تسأل﴾ على النهي للمخاطب، وكان ابن أبي إسحاق لا يجوِّز ذلك إلا أن يكون المجرمين بالياء في محل النصب بوقوع الفعل عليه، قال صاحب "اللوامح": فالظاهر ما قاله، ولم يبلغني في نصب المجرمين شيء، فإن تركناه على رفعه فله وجهان:
أحدهما: أن يكون هاء الضمير في ﴿عَنْ ذُنُوبِهِمُ﴾ عائدة إلى ما تقدم من القرون، وارتفاع المجرمين بإضمار المبتدأ، تقديره: هم المجرمون، أو أولئك المجرمون، ومثله التائبون العابدون في سورة التوبة.
والثاني: أن يكون بدلًا من أصل الهاء ﴿ذُنُوبِهِمُ﴾ لأنها وإن كانت في محل الجر بالإضافة إليها فإن أصلها الرفع؛ لأن الإضافة إليها بمنزلة إضافة
٧٩ - والفاء في قوله: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِه﴾ (١) للعطف على ﴿قَالَ﴾ وما بينهما اعتراض، وقوله: ﴿فِي زِينَتِهِ﴾ إما متعلق بخرج أو بمحذوف، هو حال من فاعله؛ أي: خرج قارون من بيته حالة كونه كائنًا في زينته الدنيوية من المال والأثاث والجاه.
قيل (٢): خرج قارون يوم السبت، وكان آخر يوم من عمره، متزينًا على بغلته مع أتباعه، وكانوا أربعة آلاف على زيه، وكان عن يمينه ثلاث مئة غلام، وعن يساره ثلاث مئة جارية بيض عليهن الحلي والديباج، وكانت بغلته شهباء - بيضاء - سرجها من ذهب، وكان على سرجها الأرجوان بضم الهمزة والجيم، وهو قطيفة حمراء، وكانت خيولهم وبغالهم متحلية بالديباج الأحمر، ومعهم ألوان السلاح.
وقال ابن زيد: خرج في تسعين ألفًا عليهم المعصفرات، وهو أول يوم رؤي فيه اللباس المعصفر، وهو المصبوغ بالعصفر، وهو صبغ أحمر معروف، وقد نُهي الرجال عن لبس المعصفر؛ لأنه من لباس الزينة وأسباب الكبر، ولأن له رائحة لا تليق بالرجال، وهذا الذي ذكره مفسرو السلف في قصة قارون من الإسرائيليات التي لا أصل لها ولا نقل فيها.
﴿قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ وزينتها من مؤمني بني إسرائيل، على طريقة الجبلة البشرية من الرغبة في السعة واليسار: ﴿يَا﴾ قوم ﴿لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ﴾ من هذه الأموال وهذه الزينة؛ أي: نتمنى أن يكون لنا مثل ما أعطي قارون من هذه الزينة، قالوه (٣) غبطة، والغابط هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه من غير أن تزول عنه كهذه الآية، والحاسد هو الذي يتمنى أن تكون له
(٢) المراح وروح البيان.
(٣) النسفي.
والمعنى (١): أي قال من كان همه الدنيا وزينتها: يا ليت لنا من الأموال والمتاع مثل ما لقارون منها، حتى نُنعم عيشًا، ونتمتع بزخارف الحياة، كما يتمتع هو بها.
وإن مثل هذا التمني ليشاهد كل يوم وفي كل بلد وفي كل قرية، فترى الرجل والشاب والمرأة والفتاة يتمنى كل منهم أن يكون له مثل ما أوتي فلان وفلانة من ثوب جميل، أو دابة فارهة، أو مزرعة يحصد غلتها، أو قصر مشيد، أو نحو ذلك. ثم عللوا تمنيهم وأكدوه بقولهم: ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن قارون ﴿لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾؛ أي: لصاحب نصيب وافر من الدنيا؛ أي: إن الله سبحانه قد تفضل عليه وآتاه من بسطة الرزق حظًا عظيمًا، ونصيبًا كبيرًا يغبط عليه، والقائلون هذه المقالة إما جماعة من المؤمنين، قالوا ذلك جريًا على الجبلة البشرية من الرغبة في السعة واليسار، وإما عصبة من الكفار والمنافقين تمنوا مثل ماله، ولم يتمنوا زوال نعمته، ومثل هذا لا ضرر فيه كما مر.
٨٠ - ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ بما أعد الله لعباده في الآخرة، وصدقوا به ردًا على أولئك المتمنين ﴿وَيْلَكُمْ﴾ أي: تبًا لكم وخسرًا، كيف تتغالون في طلب الدنيا، ويسيل لعابكم عليها، وهو (٢) دعاء بالإهلاك بمعنى ألزمكم الله ويلًا؛ أي: عذابًا وهلاكًا، وقد شاع استعماله في الزجر عما لا يُرتضى، وقد سبق في سورة طه، قال الزمخشري: ويلك أصله الدعاء بالهلاك، ثم استُعمل في الزجر والردع، والحث على ترك ما لا يرتضى، اهـ.
﴿ثَوَابُ اللَّهِ﴾ في الآخرة ﴿خَيْرٌ﴾ مما تتمنون ﴿لِمَنْ آمَنَ﴾ بالله وصدق به، وآمن برسله ﴿وَعَمِلَ﴾ عملًا ﴿صَالِحًا﴾ فلا يليق بكم أن تتمنوه غير مكتفين بثوابه
(٢) روح البيان.
ثم بين من يعمل بهذه النصيحة فقال: ﴿وَلَا يُلَقَّاهَا﴾؛ أي: ولا يوفق إلى هذه الكرامة، والمراد بالكرامة الثواب والجنة، أو لا يُعطى هذه الكلمة التي تكلم بها العلماء، وهي ثواب الله خير، أو لا يُعطى هذه الطريقة التي هي الإيمان والعمل الصالح، ﴿الصَّابِرُونَ﴾ على مخالفات النفس وموافقات الشريعة.
والمعنى (١): أي ولا يتبع هذه النصيحة، ولا يعمل بها إلا من صبر على أداء الطاعات، واجتنب المحرمات، ورضي بقضاء الله في كل ما قُسم له من المنافع والمضار، وأنفق ماله في كل ما فيه سعادة لنفسه وللمجتمع، وكان قدوة صالحة في حفظ مجد أمته، ورفع صيتها بين الأمم، ببذل كل ما فيه نفعها وقوتها وإعلاء شأنها، وبذا ينال حسن الأحدوثة بين الناس، ويلقى المثوبة من ربه.
٨١ - ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ﴾؛ أي: بقارون ﴿وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾؛ أي: زلزلنا به وبمنزله الأرض، وابتلعته جزاء بطره وعتوه؛ أي: إن الله سبحانه غيَّبه وغيَّب داره في الأرض.
وفي هذا (٢): عبرة لمن اعتبر، فيترك التعالي والتغالي في الزينة، لئلا يخسف الله به وبماله الأرض، وفي هذا تحذير لنا أيما تحذير، فكثير ممن يُظهرون النعم إنما يريدون التعالي والتفاخر، وكم ممن يقيم الزينات أو يصنع الولائم لعرس، أو مأتم، لا يريد بذلك إلا إظار ثرائه وسعة ماله بين عشيرته وبني جلدته، فيكون قارون زمانه، وتكون عاقبته الخسف لما أوتيه من مال، ويذهب ثراؤه، ويجعله عبرة لمن اعتبر.
فالكتاب الكريم ما قص علينا هذا القصص إلا ليرينا أن الكبرياء والتعالي ليس وبالهما في الآخرة فحسب، بل يحصل شؤما في الدنيا قبل الآخرة، كما حصل لكثير من المسلمين اليوم، وقد غفل كثير من الناس عن المقصد من
(٢) المراغي.
ذكر قصة قارون
قال أهل العلم بالأخبار والسير (١): كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون، وأقرأهم للتوراة، وأجملهم وأغناهم، وكان حسن الصوت فبغى وطغى، وكان أول طغيانه وعصيانه أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن يأمر قومه أن يُعلِّقوا في أرديتهم خيوطًا أربعة، في كل طرف خيطًا أخضر كلون السماء، يذكرونني به إذا نظروا إلى السماء، ويعلمون أني منزل منها كلامي، فقال موسى: يا رب أفلا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضرًا، فإن بني إسرائيل تستصغر هذه الخيوط، فقال له ربه: يا موسى إن الصغير من أمري ليس بصغير، فإذا لم يُطيعوني في الأمر الصغير لم يطيعوني في الأمر الكبير، فدعاهم موسى فقال: إن الله يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطًا خضرًا كلون السماء، لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها، ففعل بنو إسرائيل ما أمرهم به موسى، واستكبر قارون، فلم يطعه، وقال: إنما فعل هذا الأرباب بعبيدهم لكي يتميزوا عن غيرهم، فكان هذا بدء عصيانه وبغيه، فلما قطع موسى ببني إسرائيل البحر جُعلت الحبورة لهارون، وهي رئاسة المذبح، فكان بنو إسرائيل يأتون بقربانهم إلى هارون، فيضعها على المذبح، فتنزل نار من السماء فتأكله، فوجد قارون من ذلك في نفسه، فأتى إلى موسى فقال له: يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة، ولست في شيء من
قال ابن عباس: فلما نزلت الزكاة على موسى أتاه قارون فصالحه على كل ألف دينار عنها دينار، وعلى كل ألف درهم عنها درهم، وكل ألف شاة عنها شاة، وكذلك سائر الأشياء، ثم رجع إلى بيته فحسبه فوجده شيئًا كثيرًا، فلم تسمح نفسه بذلك، فجمع بني إسرائيل وقال لهم: إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه، وهو يريد أن يأخذ أموالكم، فقالوا: أنت كبيرنا فمرنا بما شئت، قال: آمركم أن تجيؤوا فلانة البغيَّ، وتجعلوا عليكم لها جُعلًا على أن تقذف موسى بنفسها، فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل فرفضوه، فدعوها، فجعل لها قارون ألف دينار وألف درهم، وقيل: طستًا من ذهب، وقيل: قال لها قارون: انزلك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غدًا إذا حضر بنو إسرائيل، فلما كان من الغد جمع قارون بني إسرائيل، ثم أتى موسى، فقال: إن بني إسرائيل ينتظرون خروجك لتأمرهم وتنهاهم، فخرج إليهم موسى وهم في مرج من الأرض، فقام فيهم، فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده، ومن افترى جلدناه ثمانين، ومن زنى وليست له امرأة جلدناه مئة جلدة، ومن زنى وله امرأة رجمناه إلى أن يموت، فقال قارون: وإن كنت أنت، قال: وإن كنت أنا، قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة البغي، قال: ادعوها، فلما جاءت قال لها موسى: بالذي فلق البحر لبني إسرائيل، وأنزل التوراة إلا صدقت،
قال قتادة: خُسف به الأرض فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل، لا يبلغ قرارها إلى يوم القيامة، حتى إذا بلغ قعر الأرض السفلى نفخ إسرافيل في الصور، والله أعلم.
حكى المفسرون في أسباب الخسف أمورًا كثيرة، هي غاية في الغرابة، يبعد أن تصدقها العقول، ومن ثم قال الرازي: إنها مضطربة متعارضة، فالأولى طرحها، والاكتفاء بما دل عليه نص القرآن، وتفويض سائر التفاصيل إلى عالم الغيب. اهـ.
وأصبح بنو إسرائيل يقولون فيما بينهم: إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه وأمواله، فدعا الله موسى حتى خسف بداره وكنوزه وأمواله الأرض، ثم بيَّن سبحانه أنه لم يجد له شفيعًا ولا نصيرًا يدفع عنه العذاب حينئذٍ فقال: ﴿فَمَا كَانَ لَه﴾؛ أي: لقارون ﴿مِنْ فِئَةٍ﴾؛ أي: من جماعة {يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ
أي: ما أغنى عنه ماله ولا خدمه ولا حشمه، ولا دفعوا عنه نقمة الله ولا نكاله، ولا استطاع أن ينتصر لنفسه.
وقصارى ذلك: أنه لا ناصر له من غيره ولا من نفسه، فكيف يكون للأمة الغافلة عن أوامر دينها، الجاهلة بمقاصد شريعتها في إنفاق الأموال أن تجد مناصًا من خراب الديار، وإضاعة المجد الطارف والتالد، ولا بد أن تقع فريسة للغاصبين الذين يسومونها الخسف دون شفقة ولا رحمة، وقد كان ذلك جزاء وفاقًا لجهلها وسوء تصرفها وظلمها لأنفسها، ولا يظلم ربك أحدًا، وهكذا حال من تصرف في ماله تصرف السفهاء وركب رأسه، وصار يبعثوه يمنة ويسرة، فإنه سيندم ولات ساعة مندم.
وقد أبان الكتاب الكريم أن النصر للصابرين، فهو أثر لازم للصبر على حفظ المال وحفظ الشهوات والعقول، وكل الفضائل التي حث عليها الدين وسلك سبيلها السلف الصالح.
٨٢ - ولما شاهد قوم قارون ما نزل به من العذاب صار ذلك زاجرًا لهم عن حب الدنيا ومخالفة موسى، وداعيًا إلى الرضى بقضاء الله تعالى وبما قسمه، وإلى إظهار الطاعة والانقياد لأنبيائه ورسله، كما أشمار إلى ذلك بقوله: ﴿وَأَصْبَحَ﴾؛ أي: وصار ﴿الَّذِينَ تَمَنَّوْا﴾ واغتبطوا ﴿مَكَانَهُ﴾؛ أي: مثل منزلته ورتبة وجاهه، والكلام على حذف مضاف ﴿بِالْأَمْسِ﴾؛ أي: بالوقت القريب منه، وهو ظرف لتمنوا، ولم يرد بالأمس خصوص اليوم الذي قبل يومه، بل الوقت القريب، وجملة ﴿يَقُولُونَ﴾ خبر ﴿أَصْبَحَ﴾.
﴿وَيْكَأَنَّ اللَّهَ﴾ و ﴿وي﴾: كلمة تعجب، والكاف للتعليل؛ أي (٢): وصار
(٢) المراح.
﴿وَيَقْدِرُ﴾؛ أي: يضيِّق الرزق ويقلله على من يشاء من عباده، اختبارًا منه تعالى، يقال: قدر على عياله بالتخفيف مثل قتر؛ إذا ضيَّق عليهم بالنفقة، فإن القوم لما شاهدوا ما نزل بقارون من الخسف ندموا على تمنيهم، حيث علموا أن بسط الرزق لا يكون لكرامة الرجل على الله، ولا تضييقه لهوانه عنده، فالكل بمشيئة الله سبحانه وتعالى، فتعجبوا من أنفسهم كيف وقعوا في مثل هذا الخطأ، و ﴿وَيْ﴾ اسم فعل بمعنى أعجب أنا، والكاف للتعليل، وأن حرف نصب ومصدر.
وقال أبو الحسن: ﴿وَيْ﴾ اسم فعل، والكاف حرف خطاب، وأن على إضمار اللام، وقيل: ﴿وَيْ﴾ اسم فعل، وكأن للتحقيق بمعنى قد؛ أي: أعجب أنا، وقد علمت أن كلًّا من البسط والقبض بمقتضى مشيئته تعالى، وليس البسط للكرامة، والقبض للهوان.
وعبارة الخازن هنا (١): أي وصار أولئك الذين تمنوا ما رزقه الله من الأموال والزينة يندمون على ذلك التمني ﴿يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ﴾؛ أي: ألم تعلم أن الله، وقيل: ألم تر أن الله، وقيل: هي كلمة تقرير معناها: أما ترى صنع الله وإحسانه، يبسط الرزق لمن يشاء، وقيل: ويك بمعنى ويلك اعلم أن الله، وروي أن ﴿وَيْ﴾ مفصولة من ﴿كان﴾، والمعنى: أن القوم ندموا فقالوا متندمين علي ما سلف منهم: وَيْ وكأن، معناها: أظن وأُقَدِّر أن الله يبسط الرزق. انتهت.
وعبارة "الفتوحات" هنا: قوله: ﴿وَيْكَأَنَّ اللَّهَ﴾ و ﴿وَيْكَأَنَّه﴾ فيه (٢) مذاهب:
(٢) الجمل.
الثاني: قال بعضهم: كأن هنا للتشبيه، إلا أنه ذهب منها معناه، وصارت للخبر واليقين، وهذا أيضًا يناسبه الوقف على ﴿وَيح﴾.
الثالث: أن ﴿وَيْكَ﴾ كلمة برأسها، والكاف حرف خطاب، وأن معمولة لمحذوف؛ أي: أعلم أن الله يبسط... إلخ، قاله الأخفش، وهذا يناسبه الوقف على ﴿ويك﴾، وقد فعله أبو عمرو.
الرابع: أن أصلها ويلك، فحُذفت اللام، وهذا يناسبه الوقف على الكاف أيضًا، كما فعل أبو عمرو.
الخامس: أن ﴿وَيْكَأَنَّ﴾ كلها كلمة مستقلة بسيطة، ومعناها ألم تر، وربما نُقل ذلك عن ابن عباس، ونقل الفراء والكسائي أنها بمعنى أما ترى إلى صنع الله، وحكى ابن قتيبة أنها بمعنى رحمة لك في لغة حمير، ولم يُرسم في القرآن إلا ويكان وويكأنه متصلة في الموضعين، فعامة القراء اتبعوا الرسم، والكسائي وقف على ﴿وَيْ﴾، وأبو عمرو على ﴿وَيْكَ﴾. اهـ "سمين".
والمعنى (١): أي فلما خسف الله بقارون الأرض أصبح قومه يقولون: إن كثرة المال والتمتع بزخارف الدنيا لا تدل على رضا الله عن صاحبه، فالله يُعطي ويمنع ويوسع ويضيق، ويرفع ويخفض، وله الحكمة التامة، والحجة البالغة لا معقب لحكمه، وقد روي عن ابن مسعود مرفوعًا: "إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وان الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب".
وقرأ الأعمش: ﴿لولا منَّ الله﴾ بحذف ﴿أن﴾، وهي مرادة؛ لأن لولا هذه لا يليها إلا المبتدأ، وعنه أيضًا: ﴿لولا منُّ الله﴾ برفع النون وجر الجلالة، وهي واضحة. اهـ "سمين".
﴿وَيْكَأَنَّهُ﴾ قيل: ﴿وَيْ﴾ كلمة للزجر، والكاف حرف خطاب، وأن معمولة لمحذوف، والتقدير؛ انزجروا عن تمنيكم، واعلموا أن الشأن والحال ﴿لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ ولا يفوزون بمطلب من مطالبهم؛ أي: لا ينجو الكافرون لنعمه، المكذبون برسله، وبما وُعدوا به من ثواب الآخرة، كما كان شأن قارون، قال في "كشف الأسرار": حب الدنيا حمل قارون على جمعها، وجمعها حمله على البغي عليهم، وصارت كثرة ماله سبب هلاكه، وفي الخبر: "حب الدنيا رأس كل خطيئة"، وأعاد (١) ﴿ويكأن﴾ هنا لاتصال كل منهما بما لم يتصل به الآخر، والقصد منه تأكيد ما قبله.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿لخسف بنا﴾ مبنيًا للمفعول. وقرأ حفص وعصمة وأبان عن عاصم وابن أبي حماد عن أبي بكر: مبنيًا للفاعل، وقرأ ابن مسعود وطلحة والأعمش: ﴿لا نخسف بنا﴾ كقولك: انقطع بنا، كأنه فعل مطاوع، والمقام مقام الفاعل، هو ﴿بنا﴾، ويجوز أن يكون المصدر؛ أي: لا نخسف الانخساف،
(٢) البحر المحيط.
٨٣ - والإشارة في قوله: ﴿تِلْكَ﴾ إلى الجنة، أشار إليها بإشارة البعيد، لقصد التعظيم لها، والتفخيم لشأنها، وهي مبتدأ ﴿الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾ صفة لها، وجملة ﴿نَجْعَلُهَا﴾ خبر المبتدأ، كأنه قال: تلك الجنة التي اسمعت خبرها، وبلغك شأنها نجعلها ﴿لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: ارتفاعًا وغلبة وتسلطًا على المؤمنين، كما أراد فرعون، كما قال تعالى في أول السور: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾.
﴿وَلَا فَسَادًا﴾؛ أي: عملًا بمعاصي الله سبحانه فيها، أو ظلمًا وعدوانًا على الناس، كما أراد قارون، كما قال تعالى في حقه على لسان الناصح: ﴿وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ﴾ وفي (١) تعليق الوعد بترك إرادتهما، لا بترك أنفسهما مزيد تحذير منهما.
وذكْر (٢) العلو والفساد مُنكَّريْن في حيز النفي يدل على شمولهما لكل ما يُطلق عليه أنه علوٌّ، وأنه فساد من غير تخصيص بنوع خاص، أما الفساد فظاهر أنه لا يجوز شيء منه كائنًا ما كان، وأما العلو فالمنوع منه ما كان على طريق التكبر على الغير، والتطاول على الناس، وليس منه طلب العلو في الحق والرئاسة في الدين، ولا محبة اللباس الحسن والمركوب الحسن والمنزل الحسن.
﴿وَالْعَاقِبَةُ﴾ المحمودة ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾؛ أي: للذين يتقون العلو والفساد في الأرض، وما لا يرضاه الله سبحانه من الأقوال والأفعال، والمعنى؛ أي: تلك (٣) الدار التي سمعت خبرها، وبلغك وصفها نجعل نعيها للذين لا يريدون تكبرًا عن الحق، ولا إعراضًا عنه، ولا ظلم الناس ومعصية الله.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
وروى أبو هريرة: أنه جاء رجل إلى النبي - ﷺ -، وكان جميلًا فقال: يا رسول الله إني رجل حُبِّب إليَّ الجمال، وأُعطيت منه ما ترى، حتى ما أُحبُّ أن يفوقني أحد بشراك نعل، أفمن ذلك؟ قال: "لا، ولكن المتكبر من بطر الحق وغمط الناس".
وعن عدي بن حاتم قال: لما دخل على النبي - ﷺ - ألقى إليه وسادة، وجلس على الأرض، فقال: أشهد أنك لا تبغي علوًا في الأرض ولا فسادًا، فأسلم، أخرجه ابن مردويه، وكان النبي - ﷺ - يحلب الشاة، ويركب الحمار، ويُجيب دعوة المملوك، ويجالس الفقراء والمساكين، قال بعضهم: واحذر أن (١) تتزهد أو تتعبد أو تتكرم وفي نفسك استجلاب ذلك، لكونه يرفعك على أقرانك، فإن ذلك من إرادة العلو في الأرض، وما استكبر مخلوق على آخر إلا لحجابه عن معية مع الحق ذلك المخلوق الآخر، ولو شهدها لذل وخضع.
وقال بعضهم: العلو النظر إلى النفس، والفساد النظر إلى الدنيا، والدنيا خمر إبليس، من شرب منها شربة لا يفيق إلا يوم القيامة، وقيل العلو الخطرات في القلب، والفساد في الأعضاء، فمن كان في قلبه حب الرياسة والجاه وحظوظ الدنيا، وفي أعماله الرياء والسمعة فهو لا يصل إلى مقام القرب، وكذا من في قلبه سوء العقيدة، وفي جوارحه عبادة غير الله، والدعوة إليها، وأخذ الأموال، وكسر الأعراض، واستحلال المعاصي فهو لا يصل إلى الجنة أيضًا، وهو قرين الشيطان، والشياطين في النار مع قرنائهم.
٨٤ - ثم بيَّن ما يكون في تلك الدار من الجزاء على الأعمال، فقال: ﴿وَمَنْ جَاءَ﴾ الله يوم القيامة متصفًا ﴿بِالْحَسَنَةِ﴾ المقبولة الأصلية المعمولة ﴿فَلَهُ﴾ بمقابلتها ﴿خَيْرٌ مِنْهَا﴾؛ أي: ثواب خير منها، ذاتًا ووصفًا وقدرًا بالمضاعفة (١)، أما الخيرية ذاتًا فظاهرة في أجزية الأعمال البدنية؛ لأنها أعراض وأجزيتها جواهر، وكذا في المالية إذ لا مناسبة بين زخارف الدنيا ونفائس الآخرة في الحقيقة، وأما وصفًا فلأنها أبقى وأنقى من الآلام والأكدار، وأما قدرًا فللمقابلة بعشر أمثالها لا أقل، يعني: أنه يجازي بالحسنة الواحدة عشرًا، فيكون الواحد ثوابًا مستحقًا، والتسعة تفضلًا وجودًا، والتسعة خير من الواحد من ذلك الجنس.
ومثل المعمولة ما في حكمها (٢)، كما لو تصدق عنه غيره، فخرج بالمعمولة ما لو هم بحسنة فلم يعملها لمانع، فإنه يجازى عليها من غير تضعيف، وخرجت الحسنة المأخوذة في نظير الظلامة، فلا تضاعف له، كما لو ضرب زيد عمرًا ضربة، وكان لزيد حسنات موجودة، فيؤخذ منها وُيُعطى لعمرو، وخرج بالأصلية الحسنات الحاصلة بالتضعيف فلا تضاعف، والتضعيف خاص بهذه الأمة، وأما غير هذه الأمة من بقية الأمم فلا تضعيف لهم.
﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ﴾ وهي ما يذم فاعلها شرعًا، كالشرك والرياء والجهل ونحوها ﴿فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ﴾ وضع فيه الظاهر موضع الضمير لتهجين حالهم بتكرير إسناد السيئة إليهم، وفائدة هذه الصورة انزجار العقلاء عن ارتكاب السيئات، ﴿إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: إلا مثل ما كانوا يعملونه، فحُذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه مبالغة في المماثلة، ومن فضله العظيم أن لا
(٢) المراح.
٨٥ - ﴿إِنَّ الَّذِي﴾؛ أي: إن الله الذي ﴿فَرَضَ﴾ وأنزل ﴿عَلَيْكَ﴾ يا محمد ﴿الْقُرْآنَ﴾ وأوجب عليك تلاوته وتبليغه، والعمل به ﴿لَرَادُّكَ﴾ ومرجِّعك بعد الموت ﴿إِلَى مَعَادٍ﴾؛ أي: إلى مرجع عظيم، يغبطك به الأولون والآخرون، وهو المقام المحمود الموعود ثوابًا على إحسانك في العمل، وتحمُّل هذه المشقات التي لا تحملها الجبال.
وأكثر أهل التفسير على أن المراد بالمعاد مكة، تقول العرب: رُدَّ فلان إلى معاده، يعني إلى بلده، يتصرف في الأرض، ثم يعود إلى بلده، والآية نزلت (١) بالجحفة بتقديم الجيم المضمومة على الحاء الساكنة، موضع بين مكة والمدينة، وهو ميقات أهل الشام، وكانت قرية جامعة على اثنين وثمانين ميلًا من مكة، وكانت تسمى مهيعة، فنزلها بنو عبيد، وهم أخوة عاد، وكان أخرجهم العماليق من يثرب، فجاءهم سيل فأجحفهم؛ أي: ذهب بهم، فسُمِّيَتْ جحفة.
وروى مقاتل: أنه - ﷺ - لما خرج من الغار مهاجرًا إلى المدينة ومعه أبو بكر - رضي الله عنه - عدل عن الطريق مخافة الطلب، فلما أمن رجع إلى الطريق، ونزل بالجحفة وعرف الطريق إلى مكة، واشتاق إليها، وذكر مولده وموطنه، ومولد آبائه، وبها عشيرته، وحرم إبراهيم عليه السلام فنزل عليه الملك فقال له: أتشتاق إلى بلدك، ومولدك، فقال النبي - ﷺ -: نعم، فقال جبريل: فإن الله سبحانه يقول لك: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾؛ أي: لراجعك إلى مكان هو لعظمته أهل لأن يقصد العود إليه كل من خرج منه، وهو مكة المشرَّفة وطنك الدنيوي.
والمعنى عليه (٢): أي إن الذي أوجب عليك العمل بأحكام القرآن وفرائضه لرادك إلى محل عظيم القدر، اعتدته وألفته، وهو مكة، والمراد بذلك عوده إليها يوم الفتح، وقد كان للعود إليها شأن عظيم، لاستيلاء رسول الله - ﷺ - عليها عنوة،
(٢) المراغي.
ولما قال المشركون لرسول الله - ﷺ -: إنك لفي ضلال مبين.. نزل قوله تعالى: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لمن خالفك وكذبك من قومك المشركين ومن تبعهم ﴿رَبِّي أَعْلَمُ﴾؛ أي: يعلم ﴿مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى﴾ من عنده وما يستحقه من الثواب في المعاد، والإعزاز والنصرة في الدنيا منى ومنكم، يريد به نفسه، ﴿وَ﴾ يعلم ﴿مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: بيِّن، وما يستحقه من العقاب في الآخرة والإذلال في الدنيا، يريد به المشركين.
ودلت الآية الكريمة (١) على أن الله تعالى يفتح على المهتدي ويقهر الضال، ولكل عسر يسر، فسوف يراه من يصبر، فلا ينبغي للعاقل أن ييأس من روح الله، روي أن رجلًا ركب البحر فانكسرت السفينة فوقع في جزيرة فمكث ثلاثة أيام لا يرى أحدًا، ولم يذق شيئًا فتمثل بقوله:
إِذَا شَابَ الْغُرَابُ أَتَيْتُ أَهْلِيْ | وَصَارَ الْقِيْرُ كَاللَّبَنِ الْحَلِيْبِ |
وَصَارَ الْبَرُّ مَسْكَنَ كُلِّ حُوْتٍ | وَصَارَ الْبَحْرُ مَرْتَعَ كُلِّ ذِيْبِ |
عَسَى الْكَرْبُ الَّذِيْ أَمْسَيْتَ فِيْهِ | يَكُوْنُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيْبُ |
فَيُأْمَنُ خَائِف وَيُفَكُّ عَانٍ | وَيَأتِيْ أَهْلَهُ الرَّجُلُ الْغَرِيْبُ |
واعلم (١): أن الميل إلى الأوطان، وإن كان لا ينقطع عن الجنان، ولكن يلزم للمرء أن يختار من البقاع أحسنها دينًا، حتى يتعاون بالإخوان، قيل لعيسى عليه السلام: من نجالس يا روح الله، قال: من يزيد في علمكم منطقه، ويذكركم الله رؤيته، ويرغبكم في الآخرة عمله، والعاقل يختار الفراق عن الأحباب والأوطان، ولا يجترىء على الفراق عن الملك الديان:
لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا فَارَقْتَهُ عِوَضٌ | وَلَيْسَ لِلَّهِ إِنْ فَارَقْتَ مِنْ عِوَضِ |
٨٦ - ثم ذكره سبحانه نعمه، ونهاه عن معاونة المشركين ومظاهرتهم، فقال: ﴿وَمَا كُنْتَ﴾ يا محمد ﴿تَرْجُو﴾ وتطمع قبل إرسالك ﴿أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ﴾ أي: أن يوحى إليك القرآن، والمعنى: سيردك يا محمد إلى معادك وبلدك، كما ألقى إليك القرآن وما كنت ترجوه، فهو تقرير للوعد السابق.
وقوله: ﴿إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ استثناء منقطع؛ أي: ولكن ألقاه إليك رحمة لك منه، فأعمل به، خصك بهذه الرحمة عن جميع الأنبياء؛ لأن كتبهم أنزلت في الألواح والصحف على صورتهم وذاتهم، وكتابك نزل به الروح الأمين على قلبك، ويجوز أن يكون متصلًا حملًا على المعنى، كأنه قيل: وما ألقي إليك الكتاب إلا لأجل الرحمة من ربك، والأول أولى، وبه جزم الكسائي والفراء.
والمعنى (٢): أي وما كنت يا محمد قبل مجيء الرسالة إليك ترجو أن تكون نبيًا، وينزل عليك القرآن، فتعلم أخبار الماضين من قبلك وما سيحدث من بعدك، وما فيه من تشريع فيه سعادة البشر في معاشهم ومعادهم، وآداب هي
(٢) المراح.
ثم بيَّن ما يجب أن يعمله كفاء هذه النعم المتظاهرة، فقال: ﴿لَا تَكُونَنَّ﴾ يا محمد ﴿ظَهِيرًا﴾ أي: معينًا ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ على دينهم بمداراتهم، والتجمل معهم، والإجابة إلى طلبتهم، وذلك حين دعوه إلى دين آبائه، فذكره بنعمه عليه، ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه، وقيل: هو تعريض بغيره من الأمة.
والمعنى (١): أي فأحمد ربك على ما أنعم به عليك بإنزاله الكتاب إليك، ولا تكونن عونًا لمن كفروا به، ولكن فارقهم ونابذهم.
٨٧ - ثم شدد عزمه وقواه بأن لا يأبه بمخالفتهم، فقال: ﴿وَلَا يَصُدُّنَّكَ﴾؛ أي: لا يصرفنك ويمنعنك الكافرون ﴿عَنْ آيَاتِ اللَّهِ﴾؛ أي: عن قراءتها، والعمل بها ﴿بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ﴾ تلك الآيات القرآنية ﴿إِلَيْكَ﴾ وقرئت عليك، وذلك حين دعوه - ﷺ - إلى دين آبائهم، وتعظيم أوثانهم، والموافقة إلى أباطيلهم؛ أي: ولا تبال بهم، ولا تهتم بمخالفتهم لك، وصدهم الناس عن طريقتك، فإن الله معك، ومؤيدك، ومظهر دينك وما أرسلك به على سائر الأديان.
قرأ الجمهور (٢): بفتح الياء وضم الصاد من صده يصده، وشددوا النون، ويعقوب كذلك، إلا أنه خففها، وقرىء: ﴿يصدنك﴾ بضم الياء وكسر الصاد، من أصده بمعنى صده، حكاه أبو زيد عن رجل من كلب. وقال الشاعر:
أُنَاسٌ أَصَدُّوْا النَّاسَ بِالْسَّيْفِ عَنْهُمُ | صُدُوْدَ السَّوَاقِيْ عَنْ أُنُوْفِ الْحَوَائِمِ |
(٢) البحر المحيط.
٨٨ - ثم فسر هذا، وبينه بقوله: ﴿وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾؛ أي: ولا تعتمد على غير الله، ولا تتخذ غيره وكيلًا في أمورك، وهذا تعريض أيضًا لغيره من الأمة.
فإن قلت (١): النبي - ﷺ - كان معصومًا من أن يدعو مع الله إلهًا آخر فما فائدة هذا النهي؟
قلت: الخطاب معه - ﷺ - المراد به غيره، وقيل معناه لا تتخذ غيره وكيلًا على أمورك كلها ولا تعتمد غيره، كما مر آنفًا في حلِّنا.
﴿لَا إِلَهَ﴾؛ أي: لا نافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع ﴿إِلَّا هُوَ﴾ سبحانه وحده ﴿كُلُّ شَيْءٍ﴾ من الإنسان والحيوان والجن والشياطين والملك ونحوها ﴿هَالِكٌ﴾؛ أي: معدوم فان زائل في حد ذاته، فإن وجوده كلا وجود؛ لأن وجوده ليس ذاتيًا ﴿إِلَّا وَجْهَهُ﴾؛ أي: ذاته سبحانه وتعالى، فإنه تعالى واجب الوجود وكل ما عداه ممكن في حد ذاته عرضة للهلاك والعدم، والوجه يعبر به عن الذات، وقال أبو العالية وسفيان (٢): كل شيء فان إلا ما أريد به وجهه من الأعمال؛ أي: ما يقصد إليه بالقربة. قال الشاعر:
أَسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ | رَبَّ الْعِبَادِ إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ |
ثَمَانِيَةٌ حُكْمُ الْبَقَاءِ يَعُمُّهَا | مِنَ الْخَلْقِ وَالْبَاقُوْنَ فِيْ حَيِّزِ الْعَدَمْ |
هِيَ الْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ وَنَارٌ وَجَنَّةٌ | وَعَجْبٌ وَأَرْوَاحٌ كَذَا اللَّوْحُ وَالْقَلَمْ |
(٢) القرطبي.
وقرأ عيسى (١): ﴿تُرْجَعُونَ﴾ مبنيًا للفاعل. والجمهور مبنيًا للمفعول، ومعنى الآية: ﴿وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾؛ أي (٢): ولا تعبد أيها الرسول مع الله - الذي له عبادة كل شيء - معبودًا آخر سواه.
ثم علل هذا بقوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾؛ أي: لأنه لا معبود تصلح له العبادة إلا الله، ونحو الآية قوله: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (٩)﴾.
ثم بيَّن صفاته تعالى، فقال:
١ - ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾؛ أي: هو الدائم الباقي الحي القيوم الذي لا يموت إذا ماتت الخلائق، كما قال: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (٢٦) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (٢٧)﴾.
وقد ثبت في "الصحيح" عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول - ﷺ -: "أصدق كلمة قالها لبيد":
ألَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ | وَكُلُّ نَعِيْمٍ لاَ مَحَالَةَ زَائِلُ |
٣ - ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ يوم معادكم، فيجزيكم بأعمالكم إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
الإعراب
﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب، ﴿قَارُونَ﴾: اسمها منصوب، ولم ينون لأنه إسم لا ينصرف للعلمية والعجمة، ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص واسمه ضمير يعود على
(٢) المراغي.
﴿مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦)﴾.
﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿آتَيْنَاهُ﴾، ﴿إنَّ﴾: حرف نصب، ﴿مَفَاتِحَهُ﴾: اسمها، ﴿لَتَنُوءُ﴾: ﴿اللام﴾ حرف ابتداء، ﴿تَنُوءُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر يعود على المفاتح، ﴿بِالْعُصْبَةِ﴾ متعلق بـ ﴿تَنُوءُ﴾، ﴿أُولِي الْقُوَّةِ﴾: صفة لـ ﴿الْعُصْبَةِ﴾ مجرور بالياء المحذوفة لالتقاء الساكنين لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، ﴿الْقُوَّةِ﴾: مضاف إليه، وجملة ﴿تَنُوءُ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد ضمير ﴿مَفَاتِحَهُ﴾. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ ﴿تَنُوءُ﴾، وقيل: باذكر مقدرًا، وقال أبو البقاء: ظرف لآتيناه، ويجوز أن يكون ظرفًا لفعل محذوف دل عليه الكلام؛ أي: بغى، ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿قَالَ﴾، ﴿قَوْمُهُ﴾: فاعل، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾، ﴿لَا﴾: ناهية جازمة، ﴿تَفْرَحْ﴾: فدل مضارع مجزوم بلا الناهية، وفاعله ضمير يعود على ﴿قَارُونَ﴾، وجملة ﴿لَا تَفْرَحْ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يُحِبُّ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهَ﴾، ﴿الْفَرِحِينَ﴾: مفعول به منصوب بالياء، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَابْتَغِ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر مجزوم بحذف حرف العلة، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿لَا تَفْرَحْ﴾، ﴿فِيمَا﴾ ﴿في﴾ حرف جر وسبب، ﴿ما﴾: مصدرية أو موصولة في محل الجر بفي، ﴿آتَاكَ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول أول وفاعل، والمفعول الثاني محذوف تقديره: فيما آتاكه الله؛ ﴿ابْتَغِ﴾: وابتغ بإنفاق ما أعطاك الله في سبيل الخير، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿ابْتَغِ﴾، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل ﴿ابْتَغِ﴾؛ أي: متقلبًا فيما آتاك، ﴿الدَّارَ﴾: مفعول ﴿ابْتَغِ﴾، ﴿الْآخِرَةَ﴾: صفة له، ﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لَا﴾: ناهية، ﴿تَنْسَ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، ﴿نَصِيبَكَ﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿لَا تَفْرَحْ﴾، ﴿مِنَ الدُّنْيَا﴾: جار ومجرور حال من ﴿نَصِيبَكَ﴾. ﴿وَأَحْسِنْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر معطوف على ﴿وَابْتَغِ﴾، ﴿كَمَا﴾ ﴿الكاف﴾: حرف جر وتشبيه، ﴿ما﴾: مصدرية، ﴿أَحْسَنَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، ﴿إِلَيْكَ﴾ متعلق بـ ﴿أَحْسِنْ﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: وأحسن إحسانًا مثل الإحسان الذي أحسن الله به إليك. ﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لَا﴾: ناهية، ﴿تَبْغِ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بلا الناهية، ﴿الْفَسَادَ﴾: مفعول به، ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق بتبغ أو بالفساد؛ لأنه بمعنى الإفساد، والجملة في محل النصب معطوفة على ما قبلها، ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه، ﴿لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل النصب مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿قَارُونَ﴾، والجملة مستأنفة
﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩)﴾.
﴿فَخَرَجَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿خرَجَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على قارون، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ﴾، وما بينهما اعتراض، ﴿عَلَى قَوْمِهِ﴾ متعلق بـ ﴿خَرَجَ﴾، ﴿فِي زِينَتِهِ﴾: جار ومجرور حال من
﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (٨٠)﴾.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية أو عاطفة، ﴿قَالَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة أو معطوفة على جملة ﴿قَالَ﴾، ﴿أُوتُوا﴾: فعل ونائب فاعل، ﴿الْعِلْمَ﴾: مفعول ثان، والجملة صلة الموصول، ﴿وَيْلَكُمْ﴾ منصوب بفعل محذوف وجوبًا لجريانه مجرى المثل على سبيل الردع، تقديره: ألزمكم الله ويلكم، و ﴿الكاف﴾: ضمير المخاطبين في محل الجر مضاف إليه، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿ثَوَابُ اللَّهِ﴾ مبتدأ ومضاف إليه، ﴿خَيْرٌ﴾: خبر، ﴿لِمَنْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿خَيْرٌ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿آمَنَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، ﴿وَعَمِلَ﴾: فعل وفاعل مستتر معطوف على ﴿آمَنَ﴾، ﴿صَالِحًا﴾: مفعول به، ﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يُلَقَّاهَا﴾: فعل مضارع مغيبر الصيغة، و ﴿الهاء﴾: مفعول ثان، ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر، ﴿الصَّابِرُونَ﴾: نائب فاعل مؤخر وهو المفعول الأول، والضمير يعود على الإثابة
﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (٨١)﴾.
﴿فَخَسَفْنَا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما قال قارون، وما قال له قومه، وأردت بيان ما صار إليه، وما آل إليه أمره فأقول لك ﴿خَسَفْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿بِهِ﴾: متعلق بخسفنا، ﴿وَبِدَارِهِ﴾: جار ومجرور معطوف على ﴿بِهِ﴾، ﴿الْأَرْضَ﴾: مفعول به، ﴿فَمَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿مَا﴾ نافية، ؛ ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، ﴿لَهُ﴾: خبرها مقدم على اسمها. ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿فِئَةٍ﴾: اسمها مؤخر، ﴿يَنْصُرُونَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الرفع صفة لفئة، ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور حال من ﴿فِئَةٍ﴾ لتخصصه بالصفة، وجملة ﴿كَانَ﴾ معطوفة على جملة ﴿خَسَفْنَا﴾، ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على ﴿قَارُونَ﴾، ﴿مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ﴾: خبر ﴿كَانَ﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾ معطوفة على جملة ﴿كَانَ﴾ الأولى.
﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ﴾.
﴿وَأَصْبَحَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿أَصْبَحَ﴾: فعل ماض ناقص، ﴿الَّذِينَ﴾: اسمها، ﴿تَمَنَّوْا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، ﴿مَكَانَهُ﴾: مفعول به، ﴿بِالْأَمْسِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَمَنَّوْا﴾، ﴿يَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب خبر ﴿أَصْبَحَ﴾، وجملة ﴿أَصْبَحَ﴾ معطوفة على جملة ﴿خَسَفْنَا﴾ ﴿وَيْكَأَنَّ﴾ ﴿وي﴾: اسم فعل مضارع بمعنى أتعجب، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا، تقديره أنا، والجملة في محل النصب مقول ﴿يَقُولُ﴾،
﴿لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾.
﴿لَوْلَا﴾ حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط، ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿مَنَّ اللَّهُ﴾: فعل ماض وفاعل في محل النصب بـ ﴿أن﴾ المصدرية. ﴿عَلَيْنَا﴾: متعلق به، و ﴿أَن﴾ وما في حيزها في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف وجوبًا، تقديره: لولا مَنُّ الله علينا موجود، ﴿لَخَسَفَ﴾ ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لَوْلَا﴾، ﴿خَسَفَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهُ﴾، ﴿بِنَا﴾: متعلق به، والجملة الفعلية جواب ﴿لَوْلَا﴾، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْلَا﴾ في محل النصب مقول ﴿يَقُولُونَ﴾. ﴿وَيْكَأَنَّ﴾ ﴿وي﴾: اسم فعل مضارع بمعنى أتعجب، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا، و ﴿الكاف﴾ حرف جر وتعليل، ﴿أَنَّهُ﴾ ناصب واسمه، ﴿لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أَنّ﴾، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿الكاف﴾، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿وَيْ﴾، وجملة ﴿وَيْ﴾ في محل النصب مقول ﴿يَقُولُونَ﴾ مذكورة لتأكيد ﴿وَيْ﴾ الأولى، ومقررة لها.
﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣)﴾.
﴿تِلْكَ﴾: مبتدأ، ﴿الدَّارُ﴾: بدل من اسم الإشارة، ﴿الْآخِرَةُ﴾: صفة لـ ﴿الدَّارُ﴾، ﴿نَجْعَلُهَا﴾: فعل مضارع ومفعول أول وفاعل مستتر يعود على
﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤)﴾.
﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم، في محل الرفع، مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿جَاءَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿بِالْحَسَنَةِ﴾: متعلق بـ ﴿جَاءَ﴾. ﴿فَلَهُ﴾: الفاء: رابطة لجواب ﴿مَن﴾ الشرطية وجوبًا له، خبر مقدم. ﴿خَيْرٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿مِنْهَا﴾: متعلق بـ ﴿خَيْرٌ﴾، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونها جواب شرط لها، وجملة ﴿مَن﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط مبتدأ. ﴿جَاءَ﴾: فعل وفاعل مستتر في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية. ﴿بِالسَّيِّئَةِ﴾: متعلق بـ ﴿جَاءَ﴾. ﴿فَلَا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَن﴾ الشرطية وجوبًا لاقترانه بـ ﴿لا﴾. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يُجْزَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة. ﴿الَّذِينَ﴾: نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَن﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿مَن﴾ الأولى. ﴿عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول صلة الموصول. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿يُجْزَى﴾. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿كَانَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة.
﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٨٥)﴾.
﴿وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (٨٦)﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿كُنْتَ﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَرْجُو﴾ خبره، وجملة ﴿كَانَ﴾ معطوفة على جملة ﴿إنَّ﴾. ﴿أَنْ يُلْقَى﴾: ناصب وفعل مضارع، مغير الصيغة منصوب. ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق بـ ﴿يُلْقَى﴾. ﴿الْكِتَابُ﴾: نائب فاعل لـ ﴿يُلْقَى﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء منقطع، بمعنى: لكن. ﴿رَحْمَةً﴾ مفعول لأجله. ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾: صفة لـ ﴿رَحْمَةً﴾ أي: لكن ألقي إليك الكتاب لأجل رحمة، كائنة من ربك لك ولأمتك. ﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما ذكرته، وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك: ﴿لَا تَكُونَنَّ﴾ ﴿لَا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَكُونَنَّ﴾: فعل مضارع ناقص، في محل الجزم بلا الناهية، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد الثقيلة حرف لا محل لها من الإعراب، واسمها ضمير مستتر فيها وجوبًا، يعود على محمد. ﴿ظَهِيرًا﴾: خبرها. ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾: متعلق بـ ﴿ظَهِيرًا﴾، وجملة ﴿تَكُونَن﴾: في محل النصب مقول
﴿وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧)﴾.
﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿يَصُدُّنَّكَ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾: الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو المحذوفة: لالتقاء الساكنين في محل الرفع فاعل، والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة مبني على الفتح، والكاف: ضمير المخاطب، في محل النصب مفعول به. ﴿عَنْ آيَاتِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَصُدُّنَّكَ﴾، والجملة معطوفة على جملة قوله: فلا تكونن. ﴿بَعْدَ﴾: منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف، حال من آيات الله. ﴿بَعْدَ﴾: مضاف. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، في محل الجر مضاف إليه؛ لأن إذ تضاف إليه أسماء الزمان، كقولك حينئذ ويومئذ، ويصح أن تكون إذ بمعنى: أن المصدرية، كما ذكره أبو السعود. ﴿أُنْزِلَتْ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على الآيات. ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿وَادْعُ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر. ﴿إِلَى رَبِّكَ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَلَا يَصُدُّنَّكَ﴾. ﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لَا﴾: ناهية. ﴿تَكُونَنَّ﴾: فعل مضارع ناقص، في محل الجزم بـ ﴿لا﴾ مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد حرف لا محل لها من الإعراب، مبني على الفتح، واسمها ضمير مستتر يعود على محمد ﴿مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾: خبرها، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ﴾.
﴿وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)﴾.
﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: ناهية. ﴿تَدْعُ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿تَدْعُ﴾. ﴿مَعَ اللَّهِ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿تَدْعُ﴾. ﴿إِلَهًا﴾:
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِنَّ قَارُونَ﴾ اسم أعجمي على وزن فاعول، كهارون، ممنوع من الصرف للعلمية والعجمية، كما مر. ﴿فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: تكبر وتجبر وطلب الفضل عليهم، وأن يكونوا تحت أمره. اهـ "بيضاوي". ومن تكبره أن زاد في ثيابه شبرًا وهو أول من جر الثياب على الأرض للخيلاء، قال الراغب: البغي طلب تجاوز الاقتصاد فيما يُتحرى تجاوزه، أو لم يتجاوزه.
﴿مِنَ الْكُنُوزِ﴾ جمع كنز. والكنز المال المدفون في باطن الأرض، قال الراغب: الكنز جمع المال بعضه فوق بعض وحفظه، من كنزت التمر في الوعاء، انتهى. والمراد به هنا المال المدخر. ﴿مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ﴾ جمع مفتح بالكسر، وهو ما يُفتح به، أو جمع مفتح بفتح الميم، وهو الخزانة، والمراد هنا المعنى الأول.
﴿لَتَنُوءُ﴾ وفي "القاموس": ناء بالحمل نهض مثقلًا، وناء به الحمل أثقله وأماله كأناءه، وناء فلان أثقل فسقط ضد، اهـ. وفي "المصباح": ناء ينوء نوءًا، مهموز من باب قال، نهض بجهد ومشقة، وناء به الحمل أثقله وأماله، وناء النجم سقط في المغرب مع الفجر، وطلع آخر يقابله من ساعته في المشرق.
﴿بِالْعُصْبَةِ﴾ والعصبة الجماعة الكثيرة يتعصب بعضهم لبعض، بلا تعيين
وَلَسْتُ بِمِفْرَاحٍ إذَا الدَّهْرُ سَرَّنْيِ | وَلَا جَازعٍ مِنْ صَرْفِهِ الْمُتَقَلِّبِ |
﴿وَلَا تَنْسَ﴾ أي: لا تترك ترك المنسي. قال في "المفردات": النسيان ترك الإنسان ضبط ما استُودع، إما لضعف قلبه، وإما عن غفلة، أو عن قصدٍ حتى ينحدف عن القلب ذكره، انتهى.
﴿نَصِيبَكَ﴾ والنصيب ما يكفيك، ويسد حاجتك، ويُصلح أمورك، وفسر بعضهم النصيب بالكفن، وعليه قول الشاعر:
نَصِيْبُكَ مِمَّا تَجْمَعُ الدَّهْرَ كُلُّهُ | رِدَاءَنِ تُدْرَجُ فِيْهِمَا وَحَنُوْطُ |
﴿عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾؛ أي: على حسن تصرف في المتاجر واكتساب الأموال. ﴿مِنَ الْقُرُونِ﴾ جمع قرن، والقرن: القوم المقترنون في زمن واحد. ﴿لَذُو حَظٍّ﴾ قال الراغب: الحظ النصيب المقدر.
﴿فَخَسَفْنَا بِهِ﴾ والخسف له معان كثيرة، منها خسف المكان، يقال: خسف المكان يخسف خسوفًا، من باب ضرب؛ أي: ذهب في الأرض وغرق، كما في "القاموس". وخسف القمر زال ضوؤه، وخسفت العين ذهب ضوؤها وغاب. وعين خاسفة إذا غابت حدتها، وخسف في الأرض وخُسف به فيها غاب.
وفي حديث ابن عباس وأبي هريرة، بسند ضعيف، عن النبي - ﷺ - "مَنْ لبس ثوبًا جديدًا فاختال فيه، خُسف به من شفير جهنم، فهو يتجلجل فيها لا يبلغ قعرها. قال في "فتح الباري": إن مقتضى الحديث، أن الأرض لا تأكل جسده فيمكن أن يلغز، ويقال لنا: كافر لا يبلى جسده بعد الموت، وهو قارون، قال
﴿مِنْ فِئَةٍ﴾ قال الراغب: الفئة: الجماعة المتظاهرة، التي يرجع بعضها إلى بعض في التعاضد، انتهى. من فاء إذا رجع. ﴿مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ﴾ يقال: نصره من عدوه فانتصر؛ أي: منعه فامتنع.
﴿الَّذِينَ تَمَنَّوْا﴾ والتمني تقدير شيء في النفس وتصويره فيها، وأكثره تصور ما لا حقيقة له، والأمنية الصورة الحاصلة في النفس، من تمني الشيء. ﴿وَيْكَأَنَّ﴾ قال الجوهري: وَيْ كلمة تعجب، وقد تدخل على كأن، فتقول ويكأن، وقيل: إنها كلمة تُستعمل عند التنبه للخطأ، وإظهار الندم، قال الخليل: إن القوم تنبهوا وقالوا نادمين على ما سلف منهم وَيْ.
﴿بِالْحَسَنَةِ﴾ والحسنة ما يحمد فاعلها شرعًا، وسميت حسنة لحسن وجه صاحبها عند رؤيتها في القيامة. ﴿بِالسَّيِّئَةِ﴾ والسيئة ما يُذم فاعلها شرعًا، صغيرة كانت أو كبيرة، وسميت سيئة؛ لأن فاعلها يساء بها عند المجازاة عليها، اهـ "بيجوري على الجوهرة".
﴿فَرَضَ عَلَيْكَ﴾؛ أي: أوجب عليك. ﴿إِلَى مَعَادٍ﴾ ومعاد الرجل بلده؛ لأنه يتصرف في البلاد ثم يعود إليه، تقول العرب: رُدَّ فلان إلى معاده؛ أي: إلى بلده.
﴿وَلَا يَصُدُّنَّكَ﴾ أصله يصدوننّك بنونين، أولاهما: مخففة هي نون علامة الرفع، وثانيتهما: مشددة هي نون التوكيد، فدخل عليه الجازم فحذف النون الأولى، فصار ولا يصدُّونُّك، فالتقى ساكنان الواو والنون المدغمة، فحذفت الواو لاعتلالها، ووجود دليل يدل عليها، وهو ضمة الدال، وأثر فيه الجازم لعدم مباشرة الفعل بنون التوكيد لوجود الفاصل، وهو واو الجماعة، ولم يؤثر الجازم في لفظ ﴿وَلَا تَكُونَنَّ﴾.
﴿وَلَا تَكُونَنَّ﴾ لبنائه على الفتح، لمباشرته بنون التوكيد بلا وجود فاصل،
﴿لَهُ الْحُكْمُ﴾ الحكم: القضاء النافذ، الذي لا معقب له في الدنيا والآخرة، كما مر.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: القلب في قوله: ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ﴾؛ لأن أصل الكلام لتنوء العصبة بالمفاتح؛ أي: لتنهض بها بجهد.
ومنها: المبالغة في وصف كنوز قارون، حيث ذكرها جمعًا، وجمع المفاتح أيضًا، وذكر النوء والعصبة وأولي القوة، وهذه المبالغة في القرآن من أحسن المبالغات وأغربها عند الحذاق، وهي أن يتقصى جميع ما يدل على الكثرة وتعدد ما يتعلق بما يملكه.
ومنها: حسن التعليل في قوله: ﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ فإن التعليل بجملة ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ تعليل حسن جميل؛ لأن الفرح المحض في الدنيا، من حيث إنها دنيا مذموم على الإطلاق، وأي فرح بشيء زائل وظل حائل.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿لَا تَفْرَحْ﴾ و ﴿الْفَرِحِينَ﴾ و ﴿الْفَسَادَ﴾ و ﴿الْمُفْسِدِينَ﴾.
ومنها: التتميم في قوله: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾؛ لأنه تتميم لا بد منه؛ لأنه إذا لم يغتنمها ليعمل للآخرة، لم يكن له نصيب في الآخرة. ففي الحديث: "اغتنم خمسًا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك".
ومنها: التأكيد بـ ﴿إن﴾ واللام واسمية الجملة في قوله: {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ
ومنها: الكناية في قوله: ﴿تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ﴾ كنى عن الزمن الماضي القريب بلفظ الأمس.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ﴾ ﴿وَيَقْدِرُ﴾.
ومنها: المبالغة في قوله: ﴿لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا﴾؛ لأن نفي الإرادة أبلغ من نفي العلو.
ومنها: المقابلة اللطيفة في قوله: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾ ﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى﴾ الآية.
ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: ﴿فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ﴾؛ لأن أصله فلا يجزون، تشنيعًا عليهم، وتهجينًا لحالهم، بتكرير إسناد السيئة إليهم وفائدة هذه الصورة إنزجار اله غلاء عن ارتكاب السيئات قال الزمخشري إنما كرر ذكر السيئات؛ لأن في إسناد عمل السيئة إليهم مكررًا فضل تهجين لحالهم، وزيادة تبغيض للسيئة إلى قلوب السامعين.
ومنها: المجاز بالحذف في قوله: ﴿إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: إلا مثل ما كانوا يعملون، فحُذف المثل، وأقيم ما كانوا يعملون مقامه، مبالغة في المماثلة.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿إِلَى مَعَادٍ﴾ للتفخيم، كأن هذا المعاد قد أعد لك دون غيرك من البشر.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿إِلَّا وَجْهَهُ﴾ حيث أطلق الجزء وأراد الكل؛ أي: إلا ذاته، وقد جرت عادة العرب في التعبير بالأشرف عن الجملة.
ومنها: تقديم المعمول على عامله لإنادة الحصر، في قوله: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
هِيَ الْقَنَاعَةُ لَا تَبْغِيْ بِهَا بَدَلاَ | فِيْهَا النَّعِيْمُ وَفِيْهَا رَاحَةُ الْبَدَنِ |
انْظُرْ لِمَنْ مَلَكَ الدُّنْيَا بِأجْمَعِهَا | هَلْ رَاحَ مِنْهَا بِغَيْرِ الْقُطْنِ وَالْكَفَنِ |
* * *
١ - استعلاء فرعون افساده في الأرض.
٢ - استضعافه بني إسرائيل وقتله أبناءهم، واستبقاؤه نساءهم.
٣ - منته تعالى على بني إسرائيل بإنقاذهم من بأس فرعون، وجعلهم أئمةً في أمر الدين والدنيا، ووراثتهم أرض الشام.
٤ - إغراق فرعون وجنوده.
٥ - إلقاء موسى في اليم، والتقاط آل فرعون له، ثم رده إلى أمه.
٦ - قتل موسى للقبطي ثم هربه إلى أرض مدين، وتزوجه ببنت شعيب وبقاؤه بها عشر سنين.
٧ - عودة موسى إلى مصر ومناجاته ربه.
٨ - معجزات موسى من العصا واليد البيضاء.
٩ - طلبه من ربه أن يرسل معه أخاه هارون، ليكون له وزيرًا، وإجابته إلى ذلك.
١٠ - تبليغه رسالة ربه إلى فرعون، وتكذيب فرعون له، واستكباره في الأرض بغير الحق.
١١ - إثبات نبوة محمد - ﷺ - بإخباره عن قصص الماضين دون أن يكون حاضرًا معهم، ولا أن يتعلم ذلك من معلم.
١٢ - إنكار قريش لنبوته بعد أن جاءهم بالحق من ربهم، وقولهم: إن ما جاء به سحر مفترى.
١٣ - إيمان أهل الكتاب بالقرآن، وإعطاؤه أجرهم مرتين.
١٤ - إثبات أن الهداية بيد الله سبحانه، لا بيد رسوله - ﷺ -، فلا يمكنه أن يهدي من يحب.
١٦ - بيان أن الله لا يعذب أمة، إلا إذا أرسل إليهم رسولًا، حتى لا يكون لهم حجة على الله.
١٧ - نداء المشركين على رؤوس الأشهاد، وأمرهم بإحضار شركائهم، ونداؤهم ليسألهم عما أجابوا به الرسل، فلم يستطيعوا لذلك ردًا.
١٨ - بيان أن اختيار الرسل لله لا للمشركين، فهو الذي يصطفي من يشاء لرسالته.
١٩ - التذكير بنعمته على عباده، باختلاف الليل والنهار.
٢٠ - شهادة الأنبياء على أممهم.
٢١ - ذكر قارون وبغيه في الأرض، ثم خسف الأرض به.
٢٢ - بيان أن ثواب الآخرة، لا يكون إلا لمن لا يريد العلو في الأرض، ولا الفساد فيها.
٢٣ - مضاعفة الله للحسنات، وجزاء السيئة بمثلها.
٢٤ - الإنباء بالغيب عن نصر الله لرسوله، وفتحه لمكة.
٢٥ - بيان أن كل ما في الوجود فهو هالك، إلا الله تبارك وتعالى.
وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين (١).
والله أعلم
* * *
سورة العنكبوت تسع وستون آية (١)، وألف وتسع مئة وثمانون كلمة، وأربعة آلاف وخمس مئة وخمسة وتسعون حرفًا.
واختلف (٢) في كونها مكية أو مدنية، أو بعضها مكيًا وبعضها مدنيًا، على ثلاثة أقوال:
الأول: أنها مكية كلها، أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس، وأخرجه ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير، وبه قال الحسن وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد وقتادة ومقاتل.
القول الثاني: أنها مدنية كلها، قال القرطبي، وهو أحد قولي ابن عباس وقتادة.
والقول الثالث: أنها مكية، إلا عشر آيات من أولها فمدنية. قال القرطبي: وهو أحد قولي ابن عباس وقتادة، وهو قول يحيى بن سلام، وقال غيره بالعكس؛ أي: إنها مدنية إلا عشر آيات من أولها فمكية، وحكي عن علي ابن أبي طالب، أنها نزلت بين مكة والمدينة. وهذا قول رابع.
فضلها: ومن فضائلها ما أخرجه الدارقطني في "السنن" عن عائشة: أن رسول الله - ﷺ -، كان يصلي في كسوف الشمس والقمر، أربع ركعات وأربع سجدات، يقرأ في الركعة الأولى: العنكبوت، أو الروم، وفي الثانية يسَ.
المناسبة: مناسبتها لما قبلها من وجوه (٣):
١ - إنه ذكر في السورة السالفة استعلاء فرعون وجبروته، وجعله أهلها شيعًا، وافتتح هذه السورة بذكر، المؤمنين، الذين فتنهم المشركون وعذبوهم على
(٢) الشوكاني وزاد المسير.
(٣) المراغي.
٢ - إنه ذكر في السورة السابقة: نجاة موسى من فرعون، وهربه منه، ثم عوده إلى مصر رسولًا نبيًا، ثم ظفره من بعد، بغرق فرعون وقومه، ونصره عليهم نصرًا مؤزرًا، وذكر هنا: نجاة نوح عليه السلام، وأصحاب السفينة، وإغراق من كذبه من قومه.
٣ - إنه نعي هناك على عبدة الأصنام والأوثان، وذكر: أنه يفضحهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، وهنا نعي عليهم أيضًا، وبيَّن أنهم في ضعفهم كضعف بيت العنكبوت.
٤ - هناك قص قصص قارون وفرعون، وهنا ذكرهما أيضًا، وبيَّن عاقبة أعمالهما.
٥ - ذكر هناك في الخاتمة: الإشارة إلى هجرة النبي - ﷺ - في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾، وفي خاتمة هذه، أشار إلى هجرة المؤمنين، بقوله: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ﴾.
تسميتها: سورة العنكبوت؛ لأن الله سبحانه، ضرب العنكبوت فيها مثلًا للأصنام المنحوتة، بقوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا﴾.. الآيات.
الناسخ والمنسوخ: سورة العنكبوت جميعها محكم (١) إلا قوله تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ الآية، فإنها نُسخت بالآية التي في سورة التوبة، وهي قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ (٢٩).
والله أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (٧) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (١١) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (١٥) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٣)﴾.قوله تعالى: ﴿الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (١): أن الله سبحانه وتعالى، لما قال في أواخر السورة السالفة: ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ﴾ وكان في الدعاء إليه توقع الطعن والضرب في الحرب؛ لأن النبي - ﷺ - وأصحابه كانوا مأمورين بالجهاد إن لم يؤمن المشركون، ويستجيبوا بالدعاء، وذلك مما يشق على بعض المؤمنين.. أردف ذلك بتنبيههم، إلى أن المؤمنين لا يتبين إيمانهم الحق إلا إذا فُتنوا.
قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر فيما سلف: أن العبد لا يترك في الدنيا سدًى، وأن من ترك ما كلف به عذب.. أردف ذلك ببيان أن من يعترف بالآخرة ويعمل لها... لا يضيع الله عمله، ولا يخيب أمله.
ثم ذكر: أن طلب ذلك من المكلف، ليس لنفع يعود إلى الله تعالى، فهو غني عن الناس جميعًا، ثم أرشد إلى أن جزاء العمل الصالح، تكفير السيئات ومضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها، فضلًا منه ورحمة.
قوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أن العمل الصالح يكفر السيئات ويضاعف الحسنات أعقب ذلك بذكر البر بالوالدين والحدب عليهما؛ لأنهما سبب وجوده، فلهما عليه الإحسان والطاعة، فالإحسان إلى الوالد بالإنفاق، وإلى الوالدة بالإشفاق، إلا إذا حرضاه على الشرك وأمراه بالمتابعة على دينهما إذا كانا مشركين، فإنه لا يطيعهما في ذلك، ثم بين أن من يعمل الصالحات، يدخله الله في زمرة الأنبياء والأولياء، ويؤتيه من الكرامة والدرجة الرفيعة، والزلفى عنده، مثل ما أوتي هؤلاء.
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية
١ - مؤمن، حسن الاعتقاد والعمل.
٢ - كافر، مجاهر بالكفر والعناد.
٣ - ومذبذب بينهما، يظهر الإيمان بلسانه، ويبطن الكفر في فؤاده.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا...﴾ الآيتين، مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما: أن الله سبحانه، لما ذكر فيما سلف قسر الكفار للمؤمنين على الكفر، وإلزامهم إياه بالأذى والوعيد.. أردف ذلك ذكر دعوتهم إياهم إليه بالرفق واللين حينًا آخر، بنحو قولهم لهم: لا عليكم بذلك من بأس، إننا نحمل تبعات ذنوبكم، ثم رد مقالتهم ببيان كذبهم، فإن أحدًا لا يحمل وزر أحد يوم القيامة، ثم ذكر أن المضلين يتحملون تبعات ضلالهم وإضلالهم، ويكون لهم العذاب على كلا الجرمين.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾... الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما أقام الأدلة على الوحدانية، ثم الرسالة بقوله: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾.. شرع يبين الأصل الثالث، وهو البعث والنشور، وهذه الأصول الثلاثة، لا يكاد ينفصل بعضها من بعض في الذكر الإلهي، فأينما تجد أصلين منها تجد الثالث.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (١) ابن أبي حاتم عن الشعبي، قال: نزلت في أناس كانوا بمكة قد أقروا
وأخرج ابن جرير وابن المنذر (١): أن ناسًا ممن كانوا بمكة آمنوا، فكتب إليهم أصحاب رسول الله - ﷺ - من المدينة، لما نزلت آية الهجرة، لا يُقبل منكم إسلام حتى تهاجروا، فخرجوا إلى المدينة، فتبعهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم هذه الآيات، فكتبوا إليهم أنزلت فيكم آية كذا وكذا، فقالوا نخرج، فإن اتبعنا أحد قاتلناه، فخرجوا، فاتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل، ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
قال مقاتل: نزلت في مهجع، مولى عمر بن الخطاب، وكان أول قتيل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله، فقال النبي - ﷺ - يومئذٍ: "سيد الشهداء مهجع، وهو أول من يُدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة" وجزع عليه أبواه وامرأته، فنزلت: ﴿الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا...﴾ الآية.
وأخرج ابن سعد عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: نزلت في عمار بن ياسر، إذ كان يعذب في الله ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما رواه الترمذي وغيره: أن (٢) هذه الآية نزلت في سعد ابن أبي وقاص وأمه حمنة بنت أبي سفيان، لما أسلم وكان من السابقين الأولين، وكان بارًا بأمه، قالت له: ما هذا الدين الذي أحدثت، والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه،
(٢) المراغي.