وهي مكية كلها غير آية منها، وهي قوله :﴿ إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ ﴾ [ القصص : ٨٥ ] فإنها نزلت عليه وهو بالجحفة في وقت خروجه للهجرة، هذا قول ابن عباس. وروي عن الحسن، وعطاء وعكرمة : أنها مكية كلها. وزعم مقاتل : أن فيها من المدني ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ القصص : ٥٢ ] إلى قوله ﴿ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ [ القصص : ٥٥ ]. وفيها آية ليست بمكية ولا مدنية وهي قوله :﴿ إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ ﴾ [ القصص : ٨٥ ] نزلت بالجحفة.
ﰡ
وهي مكّيّة كلّها غير آية منها، وهي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ «١» فإنها نزلت عليه وهو بالجحفة في وقت خروجه للهجرة، هذا قول ابن عباس. وروي عن الحسن، وعطاء، وعكرمة: أنها مكّيّة كلّها. وزعم مقاتل: أنّ فيها من المدنيّ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) إلى قوله تعالى: لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ «٢» وفيها آية ليست بمكّيّة ولا مدنيّة وهي قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ نزلت بالجحفة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١ الى ٦]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤)وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦)
قوله تعالى: طسم قد سبق تفسيره «٣». قوله تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ أي: طغى وتجبَّر في أرض مصر وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً أي: فِرَقاً وأصنافاً في خدمته يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ وهم بنو إِسرائيل، واستضعافه إِيّاهم: استعبادُهم، إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ بالقتل والعمل بالمعاصي.
يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وقرأ أبو رزين، والزهري، وابن محيصن، وابن أبي عبلة: «يَذْبَحُ» بفتح الياء وسكون الذال خفيفة. قوله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ أي: نُنْعِم عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا وهم بنو إِسرائيل، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً يُقتدى بهم في الخير وقال قتادة: وُلاةً وملوكاً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ لمُلك فرعون بعد غَرَقه. قوله تعالى: وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «ويَرِى» بياء مفتوحة وإِمالة الألف التي بعد الراء «فرعونُ وهامانُ وجنودُهما» بالرفع. ومعنى الآية: أنهم أُخبِروا أن هلاكهم على يَدَي رجل من بني إِسرائيل، فكانوا على وَجَل منهم، فأراهم اللهُ ما كانوا يَحْذَرون.
(٢) القصص: ٥٥.
(٣) مضى الكلام على ذلك في أول سورة البقرة.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧ الى ٩]
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩)قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّه إِلهام، قاله ابن عباس.
والثاني: أنَّ جبريل أتاها بذلك، قاله مقاتل. والثالث: أنَّه كان رؤيا منام، حكاه الماوردي. قال مقاتل:
واسم أم موسى «يوخابذ» «١». قوله تعالى: أَنْ أَرْضِعِيهِ قال المفسرون: كانت امرأةٌ من القوابل مصافية لأم موسى، فلمَّا وضعتْه تولَّت أمرها ثم خرجت فرآها بعض العيون فجاؤوا ليدخلوا على أم موسى، فقالت أخته: يا أُمَّاه هذا الحرس بالباب، فلفَّت موسى في خرقة ووضعته في التَّنُّور وهو يسجر، فدخلوا ثم خرجوا، فقالت لأخته: أين الصبيُّ، قالت: لا أدري، فسمعت بكاءه من التَّنُّور فاطَّلعت وقد جعل الله عليه النَّارَ بَرْداً وسلاماً، فأرضعته بعد ولادته ثلاثة أشهر، وقيل: أربعة أشهر، فلمَّا خافت عليه صنعت له التابوت «٢». وفي قوله: فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ قولان «٣» : أحدهما: إِذا خِفْتِ عليه القتل، قاله مقاتل. والثاني: إِذا خِفْتِ عليه أن يصيح أو يبكي فيُسمع صوتُه، قاله ابن السائب. وفي قوله تعالى:
وَلا تَخافِي قولان: أحدهما: أن يغرق، قاله ابن السائب. والثاني: أن يضيع، قاله مقاتل. قال الأصمعي: قلت لأعرابية: ما أفصحكِ! فقالت: أوَ بعد هذه الآية فصاحة وهي قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ جمع فيها بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين؟! قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ الالتقاط: إِصابة الشيء من غير طلب. والمراد بآل فرعون:
الذين تولَّوا أخذ التابوت من البحر. وفي الذين التقطوه ثلاثة أقوال: أحدها: جواري امرأة فرعون، قاله السدي. والثاني: ابنة فرعون، قاله محمد بن قيس. والثالث: أعوان فرعون، قاله ابن إِسحاق. قوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا أي: ليصير بهم الأمر إِلى ذلك، لا أنهم أخذوه لهذا، وهذه اللام تسمى لام العاقبة، وقد شرحناها في يونس «٤»، وللمفسرين في معنى الكلام قولان: أحدهما: ليكون لهم عَدُوّاً في دينهم وحَزَناً لِمَا يصنعه بهم. والثاني: عدوّاً لرجالهم وحَزَنَاً على نسائهم، فقتل الرجال بالغرق، واستعبد النساء. وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ وهي آسية بنت مزاحم، وكانت من بني إسرائيل تزوّجها فرعون: قُرَّتُ عَيْنٍ قال الزجاج: رفع «قُرَّةُ عَيْنٍ» على إِضمار «هو». قال المفسرون: كان فرعون لا
(٢) هذه الأقوال مصدرها كتب الأقدمين.
(٣) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١٠/ ٣٠: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: إن الله تعالى ذكره أمر أم موسى أن ترضعه، فإذا خافت عليه من عدو الله فرعون وجنده أن تلقيه في اليم وجائز أن تكون خافتهم عليه بعد أشهر من ولادتها إياه. واليم الذي أمرت أن تلقيه فيه هو النيل.
(٤) يونس: ٨٨.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١٠ الى ١٣]
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣)
قوله تعالى: وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً فيه أربعة أقوال: أحدها: فارغاً من كل شيء إِلا من ذِكْر موسى، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والضحاك.
والثاني: أصبح فؤادها فَزِعاً، رواه الضحاك عن ابن عباس، وهي قراءة أبي رزين، وأبي العالية، والضحاك، وقتادة، وعاصم الجحدري، فإنهم قرءوا: «فَزِعاً» بزاي معجمة. والثالث: فارغاً من وحينا بنسيانه، قاله الحسن، وابن زيد. والرابع: فارغاً من الحزن، لِعِلْمها أنَّه لم يُقتَل، قاله أبو عبيدة. قال ابن قتيبة: وهذا من أعجب التفسير، كيف يكون كذلك واللهُ يقول: لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها؟! وهل يُرْبَطُ إِلاّ على قلب الجازع المحزون؟! قوله تعالى: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ في هذه الهاء قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى موسى.
ومتى أرادت هذا؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه حين فارقتْه روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: كادت تقول: يا بُنَيَّاه. قال قتادة: وذلك من شدة وجدها. والثاني: حين حملت لرضاعه كادت تقول: هو ابني، قاله السدي. والثالث: أنَّه لمَّا كَبِر وسَمِعَت الناسَ يقولون: موسى بن فرعون، كادت تقول: لا بل هو ابني، قاله ابن السائب. والقول الثاني: أنها ترجع إِلى الوحي والمعنى: إِنْ كادت لتُبْدي بالوحي، حكاه ابن جرير.
قوله تعالى: لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها قال الزجاج: المعنى: لولا ربطنا على قلبها، والرَّبْط:
إِلهام الصبر وتشديد القلب وتقويته. قوله تعالى: لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي: من المُصَدِّقِين بوعد الله.
وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ قال ابن عباس: قُصّي أثره واطلُبيه هل تسمعين له ذِكْراً، أي: أحيٌّ هو، أو قد أكلته الدوابّ؟ ونسيتْ الذي وعدها الله فيه. وقال وهب: إِنَّما قالت لأخته: قصِّيه، لأنَّها سمعتْ أنَّ فرعون قد أصاب صبيّاً في تابوت. قال مقاتل: واسم أخته: مريم. قال ابن قتيبة: ومعنى «قُصِّيه» : قُصَِّي أَثَرَه واتبعيه فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ أي: عن بُعْدٍ منها عنه وإِعراضٍ، لئلاَّ يفطنوا، والمجانبة من هذا. وقرأ أبيّ بن كعب، وأبو مجلز: «عَنْ جَنَابٍ» بفتح الجيم والنون وبألف بعدهما. وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران الجوني: «عَنْ جَانِبٍ» بفتح الجيم وكسر النون وبينهما ألف. وقرأ قتادة، وأبو العالية، وعاصم الجحدري:
«عَنْ جَنْبٍ» بفتح الجيم وإِسكان النون من غير ألف. قوله تعالى: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فيه قولان: أحدهما:
وهم لا يشعرون أنه عدو لهم، قاله مجاهد. والثاني: لا يشعُرون أنَّها أختُه، قاله السدي.
قوله تعالى: فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ قد شرحناه في طه «١».
قوله تعالى: وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بردِّ ولدها حَقٌّ وهذا عِلْم عِيان ومشاهدة وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أنّ الله وعدها أن يردّه إليها.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١٤ الى ١٧]
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ قد فسرنا هذه الآية في سورة يوسف «٢»، وكلامُ المفسرين في لفظ الآيتين متقارب، إِلا أنهم فرَّقوا بين بلوغ الأشدّ وبين الاستواء. فأما بلوغ الأشُدِّ فقد سلف بيانه في سورة الانعام «٣». وفي مدة الاستواء لهم قولان: أحدهما: أنه أربعون سنة، قاله مجاهد، وقتادة، وابن زيد.
والثاني: ستون سنة، ذكره ابن جرير. قال المفسرون: مكث عند أمِّه حتى فطمته، ثم ردَّته إِليهم، فنشأ في حِجْر فرعون وامرأته واتخذاه ولداً.
قوله تعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ فيها قولان: أحدهما: أنها مصر. والثاني: مدينة بالقرب من مصر.
قال السدي: ركب فرعون يوماً وليس عنده موسى، فلما جاء موسى ركب في إِثره فأدركه المَقِيل في تلك المدينة. وقال غيره: لمَّا توهَّم فرعون في موسى أنَّه عدوُّه أمر باخراجه من مدينته، فلم يدخل إِلا بعد أن كَبِر، فدخلها يوماً عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها. وفي ذلك الوقت أربعة أقوال: أحدها: أنَّه كان يوم عيد لهم، وكانوا قد اشتغلوا فيه بلهوهم، قاله عليٌّ عليه السلام. والثاني: أنه دخل نصف النهار، رواه جماعة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير. والثالث: بين المغرب والعشاء، قاله وهب بن منبِّه. والرابع: أنَّهم لمَّا أخرجوه لم يدخل عليهم حتى كَبِر، فدخل على حين غفلة عن ذِكْره، لأنَّه قد نُسي أمرُه، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: هذا مِنْ شِيعَتِهِ أي: من أصحابه من بني إِسرائيل وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ أي: من أعدائه من القِبط، والعدوّ يُذْكَر للواحد وللجمع. قال الزجاج: وإِنما قيل في الغائب: «هذا» و «هذا»،
(٢) يوسف: ٢٢. [.....]
(٣) الأنعام: ١٥٢.
قال المفسّرون: وكان القبطيّ قد سخّر الإسرائيليّ ليحمل حطباً إِلى مطبخ فرعون فَاسْتَغاثَهُ أي:
فاستنصره، فَوَكَزَهُ قال الزّجّاج: الوكز: أن يضربه بجمع كفِّه. وقال ابن قتيبة: «فوكزه» أي: لَكَزَهُ، يقال: وَكَزْتُه ولَكَزْتُه ولَهَزْتُه: إِذا دفَعْته، فَقَضى عَلَيْهِ أي: قتله وكلُّ شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه. وللمفسرين فيما وكزه به قولان: أحدهما: كفّه، قاله مجاهد. والثاني: عصاه، قاله قتادة. فلمَّا مات القِبطي ندم موسى لأنه لم يرد قتله، وقالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي: هو الذي هيَّج غضبي حتى ضربتُ هذا، إِنَّهُ عَدُوٌّ لابن آدم مُضِلٌّ له مُبِينٌ عداوته. ثم استغفر ف قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي أي: بقتل هذا، ولا ينبغي لنبيّ أن يقتُل حتى يُؤْمَر. قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ بالمغفرة فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ قال ابن عباس: عوناً للكافرين. وهذا يدلُّ على أن الإِسرائيليَّ الذي أعانه موسى كان كافراً.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١٨ الى ٢٠]
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠)
قوله تعالى: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ وهي التي قتل بها القِبطيَّ خائِفاً على نفسه يَتَرَقَّبُ أي:
ينتظر سوءاً يناله منهم ويخاف أن يُقتل به فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ وهو الاسرائيلي يَسْتَصْرِخُهُ أي:
يستغيث به على قِبطي آخر أراد أن يسخِّره أيضاً قالَ لَهُ مُوسى في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى القبطيّ. الثاني: إِلى الإِسرائيليّ، وهو أصح. فعلى الأول يكون المعنى: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ بتسخيرك وظلمك. وعلى الثاني فيه قولان: أحدهما: أن يكون الغَوِيُّ بمعنى المغوي، كالأليم بمعنى المؤلم والوجيع بمعنى الموجع والمعنى: إِنَّكَ لمُضِلٌّ حين قتلتُ بالأمس رجلاً بسببك، وتَدْعوني اليوم إِلى آخر. والثاني: أن يكون الغوي بمعنى الغاوي والمعنى: إِنك غاوٍ في قتالك من لا تُطيق دفع شرِّه عنك.
قوله تعالى: فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما أي: بالقِبطي قالَ يا مُوسى هذا قول الإِسرائيليّ من غير خلاف علمناه بين المفسرين قالوا: لمَّا رأى الاسرائيليُّ غضبَ موسى عليه حين قال له: «إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِين» ورآه قد همَّ أن يَبْطِش بالفرعونيِّ، ظنَّ أنَّه يريده فخاف على نفسه ف قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي وكان قوم فرعون لم يعلموا مَنْ قاتِلُ القِبطي، إِلاَّ أنَّهم أَتَواْ إِلى فرعون فقالوا: إِن بني إِسرائيل قتلوا رجلاً مِنَّا فخُذ لَنَا بحقِّنا، فقال: ابغوني قاتله ومن يشهد عليه لآخذ لكم حقَّكم، فبينا هم يطوفون ولا يدرون مَنْ القاتل، وقعت هذه الخصومة بين الإِسرائيلي والقِبطي في اليوم الثاني فلمّا قال الإِسرائيليُّ لموسى: «أتريد أن تقتُلني كما قَتَلْتَ نفساً بالأمس» انطلق القبطي إِلى فرعون فأخبره أنَّ موسى هو الذي قتل الرجل، فأمر بقتل موسى، فعلم بذلك رجل من شيعة موسى فأتاه فأخبره، فذلك قوله تعالى: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى. فأمَّا الجبَّار، فقال السدي: هو القتَّال، وقد شرحناه في
والثاني: يَهُمُّون بك، قاله ابن قتيبة. والثالث: يأمر بعضهم بعضاً بقتلك، قاله الزّجّاج.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٢١ الى ٢٨]
فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥)
قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨)
قوله تعالى: فَخَرَجَ مِنْها أي: من مصر خائِفاً وقد مضى تفسيره «٣».
قوله تعالى: نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني المشركين أهل مصر. وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قال ابن قتيبة: أي: تِجَاهَ مَدْيَن ونحوَها، وأصله: اللِّقاء، وزيدت فيه التاء، قال الشاعر:
فاليومَ قَصَّرَ عن تِلْقَائك الأَملُ «٤» أي: عن لقائك. قال المفسرون: خرج خائفاً بغير زاد ولا ظَهْر، وكان بين مصر ومَدْيَن مسيرة ثمانية أيام، ولم يكن له بالطريق عِلْم، ف قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ أي: قَصْدَه. قال ابن عباس: لم يكن له عِلْم بالطريق إِلاَّ حُسْن ظنِّه بربّه. وقال السّدّيّ: بعث الله تعالى له مَلَكاً فدلَّه، قالوا:
ولم يكن له في طريقه طعام إِلا ورق الشجر، فورد ماءَ مَدْيَن وخُضرةُ البقل تتراءى في بطنه من الهُزَال والأُمَّة الجماعة، وهم الرعاة، يَسْقُونَ مواشيهم وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ أي: من سوى الأمّة امْرَأَتَيْنِ وهم ابنتا شعيب قال مقاتل: واسم الكبرى: صبورا، والصغرى: عبرا تَذُودانِ قال ابن قتيبة: أي: تكُفَّان غَنَمهما، فحذف الغنم اختصاراً. قال المفسرون: إنما فَعَلَتا ذلك ليَفْرُغ الناس وتخلوَ لهما البئر، قال موسى: ما خَطْبُكُما أي: ما شأنكما لا تسقيان؟! قالَتا لا نَسْقِي وقرأ ابن مسعود وأبو الجوزاء وابن يعمر وابن السميفع: «لا نُسقي» برفع النون حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وقرأ أبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر: «يَصْدُرَ» بفتح الياء وضم الدال، أي: حتى يرجع الرّعاء. وقرأ الباقون: «يصدر» بضمّ
(٢) غافر: ٢٨.
(٣) القصص: ١٨.
(٤) هو عجز بيت للراعي النميري وصدره: أملت خيرك هل تأتي مواعده
نحن امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال، وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ لا يَقْدِر أن يَسْقيَ ماشيته من الكِبَر فلذلك احْتَجْنَا نحن إِلى أن نسقيَ، وكان على تلك البئر صخرة عظيمة، فاذا فرغ الرِّعاء مِنْ سَقيهم أعادوا الصخرة، فتأتي المرأتان إِلى فضول حياض الرِّعاء فتَسْقيان غنمهما. فَسَقى موسى لَهُما.
وفي صفة ما صنع قولان: أحدهما: أنه ذهب إلى بئر أُخرى عليها صخرة لا يقتلعها إِلا جماعة من الناس، فاقتلعها وسقى لهما، قاله عمر بن الخطاب وشُريح. والثاني: أنه زاحم القوم على الماء وسقى لهما، قاله ابن إِسحاق، والمعنى: سقى غنمهما لأجلهما.
ثُمَّ تَوَلَّى أي: انصرف إِلَى الظِّلِّ وهو ظِل شجرة فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما اللام بمعنى إِلى، فتقديره: إِنِّي إِلى ما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ وأراد بالخير: الطعام. وحكى ابن جرير أنه أسمع المرأتين هذا الكلام تعريضاً أن تُطْعِماه. فَجاءَتْهُ إِحْداهُما المعنى: فلمّا شربتْ غنمَهُما رَجَعَتا إِلى أبيهما فأخبرتاه خبر موسى، فبعث إِحداهما تدعو موسى. وفيها قولان: أحدهما: الصغرى. والثاني:
الكبرى. فجاءته تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قد سترت وجهها بِكُمِّ دِرْعها. وفي سبب استحيائها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كان من صفتها الحياء، فهي تمشي مشي من لم تعتد الخروج والدخول. والثاني:
لأنها دعته لتكافئَه، وكان الأجمل عندها أن تدعوَه من غير مكافأة. والثالث: لأنها رسول أبيها.
قوله تعالى: لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا قال المفسرون: لمَّا سمع موسى هذا القول كرهه وأراد أن لا يتبعها، فلم يجد بُدّاً للجَهْد الذي به من اتِّباعها، فتَبِعها، فكانت الريح تضرب ثوبها فيصف بعض جسدها، فناداها: يا أَمَة الله، كوني خلفي ودُلِّيني الطريق فَلَمَّا جاءَهُ أي: جاء موسى شعيباً وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ أي: أخبره بأمره مِنْ حين وُلد والسبب الذي أخرجه من أرضه قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: لا سُلطان لفرعون بأرضنا ولسنا في مملكته. قالَتْ إِحْداهُما وهي الكبرى: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ أي: اتَّخِذه أجيراً إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ أي: خير من استعملتَ على عملكَ مَنْ قَوِيَ على عملك وأدَّى الأمانة وإِنَّما سمَّتْه قويّا، لرفعه الحجر على رأس البئر، وقيل: لأنه استقى بدلو لا يُقِلُّها إِلا العدد الكثير من الرجال، وسمَّته أميناً، لأنه امرها أن تمشيَ خلفه. وقال السدي: قال لها شعيب: قد رأيتِ قوَّته، فما يُدريكِ بأمانته؟ فحدَّثَتْه. قال المفسرون:
فرغب فيه شعيب، فقال له: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ أي: أزوّجك «١»
- وقال الإمام الموفق في «المغني» ٩/ ٤٦٠: وينعقد النكاح بلفظ الإنكاح والتزويج والجواب عنهما إجماعا، وهما اللذان ورد بهما نص الكتاب في قوله تعالى: زَوَّجْناكَها وقوله سبحانه وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ولا ينعقد بغير لفظ الإنكاح والتزويج، وبهذا قال ابن المسيب وعطاء والزهري وربيعة والشافعي.
وقال الثوري والحسن بن صالح وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور وأبو عبيد وداود: ينعقد بلفظ الهبة والصدقة والبيع والتمليك، وفي لفظ الإجارة روايتان عن أبي حنيفة، وقال مالك ينعقد بذلك إذا ذكر المهر اه ملخصا.
قوله تعالى: وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ أي: في العَشْر. سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي: في حُسْن الصُّحبة والوفاء بما قلت. قالَ له موسى ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أي: ذلك الذي وصفتَ وشرطتَ عليَّ فلكَ، وما شرطتَ لي مِنْ تزويج إِحداهما فلي، فالأمر كذلك بيننا. وتمّ الكلام ها هنا. ثم قال: أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ يعني: الثمانيَ والعشر. قال أبو عبيدة: «ما» زائدة. قوله تعالى:
قَضَيْتُ أي: أتممتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أي: لا سبيل عَلَيَّ والمعنى: لا تعتد عليَّ بأن تُلْزِمني أكثر منه وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ قال الزجاج: أي: واللهُ شاهِدُنا على ما عقدَ بعضُنا على بعض. واختلف العلماء في هذا الرجل الذي استأجر موسى على أربعة أقوال «١» :
(١٠٧٥) أحدها: أنه شُعيب نبيُّ الله صلى الله عليه وسلّم، وعلى هذا أكثر أهل التفسير. وفيه أثر عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم يدل عليه، وبه قال وهب، ومقاتل.
والثاني: أنه صاحب مدين، واسمه يثربي، قاله ابن عباس. والثالث: رجل من قوم شعيب، قاله الحسن. والرابع: أنه يثرون ابن أخي شعيب، رواه عمرو بن مرَّة عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وبه قال ابن السائب. واختلفوا في التي تزوَّجها موسى من الابنتين على قولين: أحدهما: الصغرى، روي عن ابن عباس. والثاني: الكبرى، قاله مقاتل. وفي اسم التي تزوجها ثلاثة أقوال: أحدها: صفوريا، حكاه أبو عمران الجوني. والثاني: صفورة، قاله شعيب الجبائي. الثالث: صبورا، قاله مقاتل.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٢٩ الى ٣٥]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣)
وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥)
- قال الهيثمي في «المجمع» ١٠/ ٥١: فيه من لم أعرفهم.
__________
(١) قال الطبري في «تفسيره» ١٠/ ٦١: وهذا مما لا يدرك علمه إلا بخبر، ولا خبر بذلك تجب حجته، فلا قول في ذلك أولى بالصواب مما قاله الله جل ثناؤه وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ... قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ. وقال ابن كثير في «تفسيره» ٣/ ٤٧٦: ثم من المقوي لكونه ليس بشعيب أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه القران ها هنا، وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى، لم يصح إسنادها، والموجود في كتب بني إسرائيل أن هذا الرجل اسمه يثرون.
(١٠٧٦) روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه سئل: أيّ الأجلين قضى موسى، قال: «أوفاهما وأطيبهما». قال مجاهد: مكث بعد قضاء الأجل عندهم عشراً أُخَر. وقال وهب بن منبِّه: أقام عندهم بعد أن أدخل عليه امرأته سنين، وقد سبق تفسير هذه الآية «١» إلى قوله تعالى: أَوْ جَذْوَةٍ وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي: «جِذْوَةٍ» بكسر الجيم. وقرأ عاصم بفتحها. وقرأ حمزة، وخلف، والوليد عن ابن عامر بضمها، وكلُّها لغات. قال ابن عباس: الجذوة: قطعة حطب فيها نار، وقال أبو عبيدة: قطعة غليظة من الحطب ليس فيها لَهب، وهي مثل الجِذْمَة من أصل الشجر، قال ابن مقبل:
باتَتْ حَوَاطِبُ لَيْلَى يَلْتَمِسْنَ لَهَا | جَزْلَ الجِذَا غيرَ خَوَّارٍ وَلا دَعِرِ «٢» |
قوله تعالى: نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ وهو: جانبه الأيمنِ وهو الذي عن يمين موسى
وتوبع حفص، فقد أخرجه الحميدي ٥٣٥ وأبو يعلى ٢٤٠٨ والبزار ٢٢٤٥ «كشف» والطبري ٢٧٤٠٩ والحاكم ٢/ ٤٠٧- ٤٠٨ ح ٣٥٣٢ كلهم من حديث ابن عباس، «أن النبي صلى الله عليه وسلّم سأل جبريل: «أي الأجلين قضى موسى؟» قال: أتمهما» وإسناده ضعيف فيه إبراهيم بن يحيى، وهو مجهول كما قال الذهبي في رده على الحاكم حيث صحح الحديث، وكذا أعله الحافظ في «تخريجه» ٣/ ٤٠٧ بجهالة إبراهيم هذا، وقد سقط إبراهيم هذا من إسناد أبي يعلى، فجرى الهيثمي في «المجمع» ١١٢٥٠ على ظاهره، فقال: رجاله رحال الصحيح غير الحكم بن أبان، وهو ثقة! وكذا حسنه الشيخ حسين أسد محقق «مسند أبي يعلى» جريا على ظاهره، وليس كذلك كما تقدم. لكن المرفوع ورد من وجوه أخر. فقد ورد من حديث أبي ذر، أخرجه البزار ٢٢٤٤ «كشف» وإسناده ضعيف جدا لأجل إسحاق بن إدريس، متروك ومثله شيخه عوبد بن أبي عمران، وقد توبع إسحاق عند الطبراني في «الصغير» ٨١٥ و «الأوسط» كما في «المجمع» ١١٢٢٥٢. وقال الهيثمي: إسناده حسن، كذا قال رحمه الله! مع أن فيه عوبد، وهو متروك. وورد من حديث عتبة بن النّدر، أخرجه ابن ماجة ٢٤٤٤ وإسناده ضعيف جدا فيه بقية بن الوليد، مدلس، وقد عنعن، وفيه مسلمة بن علي الخشني، وهو متروك. وورد من وجه آخر عن أبي لهيعة، أخرجه البزار ٢٢٤٦ والطبراني ١٧/ ٣٤- ١٣٥، وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ٣/ ٤٧٧ وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة، وورد من مرسل مجاهد، أخرجه الطبري ٢٧٤١٠. ومن مرسل محمد بن كعب القرظي، أخرجه ٢٧٤٠٨ فلعل هذه الروايات بمجموعها تتأيد ويصير الحديث حسنا، على أنه أخرجه الطبري من وجوه عن ابن عباس وغيره موقوفا، غير مرفوع والله أعلم.
وانظر «تفسير الشوكاني» ١٨٥٦ و ١٨٥٧ و ١٨٥٨ و ١٨٥٩ و «تفسير ابن كثير» كلاهما بتخريجي.
__________
(١) طه: ١٠.
(٢) الحواطب: الجواري يطلبن الحطب، وفي «اللسان» : الجزل: الحطب اليابس الغليظ. والجذى: جمع جذوة، وهو العود الغليظ الذي في رأسه نار أو لا. الخوّار: الضعف. الدعر: الفساد والسوس.
وفي تلك الشجرة قولان: أحدهما: أنها شجرة العنَّاب، قاله ابن عباس. والثاني: عوسجة، قاله قتادة، وابن السائب، ومقاتل. وما بعد هذا قد سبق بيانه «١» إلى قوله تعالى: إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ أي: من أن ينالك مكروه.
قوله تعالى: اسْلُكْ يَدَكَ أي: أَدْخِلها، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ قد فسرنا الجناح في طه «٢» إِلا ان بعض المفسرين خالف بين تفسير اللفظين، فشرحناه. وقال ابن زيد: جناحه: الذّراع والعضد والكفّ. وقال الزّجّاج: الجناح ها هنا: العضُد، ويقال لليد كلِّها: جناح. وحكى ابن الأنباري عن الفرّاء أنه قال: الجناح: العصا. قال ابن الأنباري: الجناح للانسان مشبَّه بالجناح للطائر، ففي حال تُشبَِّه العربُ رِجْلي الإِنسان بجناحَي الطائر، فيقولون: قد مضى فلان طائرا في حاجته، يعنون ساعياً على قدميه، وفي حال يجعلون العضد منه بمنزلة جناحي الطائر، كقوله: «واضمُمْ يدك إِلى جناحك»، وفي حال يجعلون العصا بمنزلة الجناح، لأن الإِنسان يدفع بها عن نفسه كدفع الطائر عن نفسه بجناحه، كقوله تعالى: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ، وإِنما يوقع الجناح على هذه الأشياء تشبيهاً واستعارة، كما يقال: قد قُصَّ جناح الإِنسان، وقد قُطعت يده ورجله: إِذا وقعت به جائحة أبطلت تصرُّفه ويقول الرجل للرجل: أنت يدي ورِجْلي، أي: أنت مَنْ به أُصِلُ إِلى محابِّي، قال جرير:
سَأَشْكُرُ أَنْ رَدَدْتَ إِليَّ رِيشي | وأَنْبَتَّ القَوادمَ في جَناحِي |
يا عِصمتي في النَّائبات ويا | رُكْني الأغرّ ويا يَدي اليمنى |
لا صُنْتُ وجهاً كنتُ صَائنه | أبداً ووجهك في الثّرى يبلى |
«من الرَّهْب» بفتح الراء وسكون الهاء. وهي قراءة ابن مسعود، وابن السميفع. وقرأ أُبيّ بن كعب، والحسن، وقتادة: بضم الراء والهاء. قال الزجاج: الرُّهْب، والرَّهَب بمعنى واحد، مثل الرُّشْد، والرَّشَد. وقال أبو عبيدة: الرُّهْب والرَّهْبة بمعنى الخوف والفَرَق. وقال ابن الأنباري: الرَّهْبُ، والرُّهُب، والرَّهَب، مثل الشَّغْل، والشُّغْل، والشَّغَل، والبَخْل، والبُخُل، والبَخَل، وتلك لغات ترجع إلى معنى الخوف والفَرَق.
وللمفسرين في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّه لمَّا هرب من الحيّة أمره الله تعالى أن يضمّ إليه جناحه ليذهب عنه الفزغ. قال ابن عباس: المعنى: اضمم يدك إِلى صدرك من الخوف ولا خوف عليك. وقال مجاهد: كلٌّ مَنْ فَزِع فضَمَّ جناحه إِليه ذهب عنه الفَزَع. والثاني: أنَّه لمَّا هاله بياض يده وشعاعها، أُمِر أن يُدْخِلها في جيبه، فعادت إلى حالتها الأولى. والثالث: أن معنى الكلام: سَكِّن رَوْعَك، وثَبِّت جأْشَك. قال أبو علي: ليس يراد به الضَّمُّ بين الشيئين، إِنما أُمِر بالعزم على ما أُمِر به
(٢) طه: ٢٢.
قوله تعالى: فَذانِكَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «فذانِّك» بالتشديد. وقرأ الباقون: «فذانك» بالتخفيف. قال الزجاج: التشديد تثنية «ذلك»، والتخفيف تثنية «ذاك»، فجعل اللام في «ذلك» بدلاً من تشديد النون في «ذانِّك»، بُرْهانانِ أي: بيانان اثنان. قال المفسرون: «فذانك» يعني العصا واليد، حُجَّتان من الله تعالى لموسى على صِدْقه، إِلى فِرْعَوْنَ أي: أرسلنا بهاتين الآيتين إِلى فرعون. وقد سبق تفسير ما بعد هذا «١» إلى قوله تعالى: هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً أي: أحسنُ بياناً، لأنَّ موسى كان في لسانه أثر الجمرة التي تناولها، فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً قرأ الأكثرون: «رِدْءاً» بسكون الدال وبعدها همزة.
وقرأ أبو جعفر: «رِدا» بفتح الدال وألف بعدها من غير همز ولا تنوين وقرأ نافع كذلك إلّا أنه نوّن.
قال الزجاج: الرِّدْءُ: العون، يقال: ردأتُه أردؤه رِدْءاً: إذا أعتنته. قوله تعالى: يُصَدِّقُنِي قرأ عاصم، وحمزة: «يُصَدِّقُني» بضم القاف. وقرأ الباقون بسكون القاف. قال الزجاج: من جزم «يُصَدِّقْني» فعلى جواب المسألة: أَرْسِلْهُ يُصَدِّقْني ومن رفع، فالمعنى: رِدْءاً مُصَدِّقاً لي. وأكثر المفسرين على أنه أشار بقوله تعالى: يُصَدِّقُنِي إِلى هارون وقال مقاتل بن سليمان: لكي يُصَدِّقني فرعون.
قوله تعالى: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ قال الزجاج: المعنى: سنُعينك بأخيك، ولفظ العَضُد على جهة المثل، لأن اليد قِوامُها عَضُدُها، وكل مُعين فهو عَضُد، وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً أي: حُجَّة بيِّنة.
وقيل للزَّيت: السَّليط، لأنه يستضاء به فالسّلطان: أبْيَن الحُجج.
قوله تعالى: فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما أي: بقتل ولا أذى. وفي قوله تعالى: بِآياتِنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المعنى: تمتنعان منهم بآياتنا وحُججنا فلا يَصِلُون إِليكما. والثاني: أنَّه متعلِّق بما بعده، فالمعنى: بآياتنا أنتما ومَنْ اتبَّعكما الغالبون، أي: تَغْلِبُون بآياتنا. والثالث: أنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره: ونجعل لكما سلطانا بآياتنا فلا يصلون إليكما.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧)
قوله تعالى: ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً أي: ما هذا الذي جئتَنا به إِلا سِحْر افتريتَه مِنْ قِبَل نفسك ولم تُبعَث به وَما سَمِعْنا بِهذا الذي تدعونا إِليه فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ، وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ وقرأ ابن كثير: «قال موسى» بلا واو، وكذلك هي في مصاحفهم بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى أي: هو أعلم بالمُحِقِّ منَّا، وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، والمفضّل: «يكون» بالياء، والباقون بالتاء.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٣٨ الى ٤٢]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢)
قوله تعالى: لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى أي: أصعد إِليه وأُشْرِفُ عليه وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ يعني موسى مِنَ الْكاذِبِينَ في ادِّعائه إِلهاً غيري. وقال ابن جرير: المعنى: أظنُّ موسى كاذباً في ادِّعائه أنَّ في السماء ربّاً أرسله. وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ يعني أرض مصر بِغَيْرِ الْحَقِّ أي: بالباطل والظُّلم وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ بالبعث للجزاء. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر:
«يُرْجَعون» برفع الياء وقرأ نافع وحمزة والكسائي: بفتحها.
قوله تعالى: وَجَعَلْناهُمْ أي: في الدنيا أَئِمَّةً أي: قادة في الكفر يأتمُّ بهم العتاة يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ لأن من أطاعهم دخلها و «ينصرون» بمعنى: يُمْنَعون من العذاب. وما بعد هذا مفسر في هود «٢». قوله تعالى: مِنَ الْمَقْبُوحِينَ أي: من المُبعَدين الملعونين قال أبو زيد: يقال: قَبَحَ اللهُ فلاناً، أي: أبعده من كل خير. وقال ابن جريج: معنى الآية: وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنةً ويوم القيامة لعنةً أخرى، ثم استقبل الكلام، فقال: هم من المقبوحين.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٤٣ الى ٤٧]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)
قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى يعني قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم بَصائِرَ لِلنَّاسِ أي: ليتبصّروا به ويهتدوا.
(٢) هود: ٦٠- ٩٩. [.....]
قوله تعالى: إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ أي: أحْكَمْنا الأمر معه بارساله إِلى فرعون وقومه وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ لذلك الأمر وفي هذا بيان لصحّة نبوّة نبيّنا صلى الله عليه وسلّم، لأنهم يعلمون أنه لم يقرأ الكتب، ولم يشاهِد ما جرى، فلولا أنَّه أُوحي إِليه ذلك، ما علم.
قوله تعالى: وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً أي: خَلَقْنا أُمماً مِن بعد موسى فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أي:
طال إِمهالُهم فنسوا عهد الله وتركوا أمره وهذا يدلُّ على أنه قد عُهد إِلى موسى وقومه عهود في أمر محمّد صلى الله عليه وسلّم، وأُمروا بالإِيمان به، فلمَّا طال إِمهالُهم، أعرضوا عن مراعاة العهود، وَما كُنْتَ ثاوِياً أي: مقيماً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ فتَعْلَم خبر موسى وشعيب وابنتيه فتتلو ذلك على أهل مكة وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ أرسلناكَ إِلى أهل مكة وأخبرناك خبر المتقدِّمِين، ولولا ذلك ما علمتَه. وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ أي: بناحية الجبل الذي كُلّم عليه موسى إِذْ نادَيْنا موسى وكلَّمناه، هذا قول الأكثرين وقال أبو هريرة: كان هذا النداء: يا أُمَّة محمد، أعطيتُكم قبل أن تسألوني، وأستجيب لكم قبل أن تدعوني.
قوله تعالى: وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ قال الزجاج: المعنى: لم تُشاهِد قصص الأنبياء، ولكنّا أوحيناها إِليك وقصصناها عليك، رحمةً من ربِّك. وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ جواب «لولا» محذوف، تقديره: لولا أنهم يحتجُّون بترك الإِرسال إِليهم لعاجلناهم بالعقوبة، وقيل: لولا ذلك لم نَحْتَجْ إِلى إرسال الرسل ومؤاثرة الاحتجاج.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٤٨ الى ٥٥]
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥)
قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمُ يعني أهل مكة الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا وهو محمد عليه السلام والقرآن قالُوا لَوْلا أي: هلاَّ أُوتِيَ محمد من الآيات مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى كالعصا واليد. قال المفسرون:
أمرت اليهودُ قريشاً أن تسأل محمّدا صلى الله عليه وسلّم مثل ما أُوتيَ موسى، فقال الله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى أي: فقد كفروا بآيات موسى، وقالُوا في المشار إِليهم قولان: أحدهما: اليهود. والثاني:
قريش. سِحْرانِ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: «ساحران». تَظاهَرا أي: تعاونا.
وروى العباس الانصاري عن أبي عمرو: «تَظَّاهَرا» بتشديد الظاء. وفيمن عَنَواْ ثلاثة أقوال: أحدها:
موسى ومحمد، قاله ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير فعلى هذا هو من قول مشركي العرب.
محمّد وعيسى عليهما السّلام، قاله قتادة فعلى هذا هو من قول اليهود الذين لم يؤمنوا بنبيِّنا. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: «سِحْران» وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: التوراة والفرقان، قاله ابن عباس والسدي. والثاني: الإنجيل والقرآن، قاله قتادة. والثالث: التّوراة والإنجيل، قاله أبو مجلز وإسماعيل بن أبي خالد. ومعنى الكلام: كلُّ سِحْر منهما يقوِّي الآخر، فنُسب التظاهر إِلى السِحْرين توسُّعاً في الكلام، وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ يعنون ما تقدَّم ذِكْره على اختلاف الأقوال، فقال الله تعالى لنبيِّه قُلْ لكفَّار مكة فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أي: من التوراة والقرآن إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنَّهما ساحران. فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ أي: فان لم يأتوا بمثل التوراة والقرآن، فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ أي: أنَّ ما ركبوه من الكفر لم يحملهم عليه حُجَّة، وإِنما آثروا فيه الهوى وَمَنْ أَضَلُّ أي: ولا أحد أضل مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً أي: بغير رشد ولا بيان جاء مِنَ اللَّهِ. وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ وقرأ الحسن وأبو المتوكل وابن يعمر: «وصَلْنَا» بتخفيف الصاد. وفي المشار إِليهم قولان:
أحدهما: أنهم قريش، قاله الأكثرون، منهم مجاهد. والثاني: اليهود، قاله رفاعة القرظي. والمعنى:
أنزلنا القرآن يتبع بعضه بعضاً، ويُخْبِر عن الأمم الخالية كيف عُذِّبِوا لعلَّهم يتَّعظون. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وفيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم مؤمنوا أهل الكتاب، رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد. والثاني: مسلمو أهل الإِنجيل.
(١٠٧٧) روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن أربعين من أصحاب النجاشي قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فشهدوا معه أُحُداً، فنزلت فيهم هذه الآية.
والثالث: مسلمو اليهود كعبد الله بن سلام وغيره، قاله السدي.
قوله تعالى: مِنْ قَبْلِهِ أي: من قبل القرآن هُمْ بِهِ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى محمّد صلى الله عليه وسلّم لأن ذِكْره كان مكتوباً عندهم في كتبهم فآمنوا به. والثاني: إِلى القرآن.
قوله تعالى: وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يعني القرآن قالُوا آمَنَّا بِهِ، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ أي: من قبل نزول القرآن مُسْلِمِينَ أي مُخْلِصِين لله تعالى مصدِّقين بمحمد، وذلك لأن ذِكْره كان في كتبهم فآمنوا به أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ في المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنَّهم مؤمنو أهل الكتاب، وهذا قول الجمهور، وهو الظاهر، وفيما صبروا عليه قولان: أحدهما: أنهم صبروا على الكتاب الأوّل وصبروا على اتّباعهم محمّدا صلى الله عليه وسلّم، قاله قتادة وابن زيد. والثاني: أنهم صبروا على الإيمان بمحمّد صلى الله عليه وسلّم قبل أن يُبْعَث ثم على اتِّباعه حين بُعث، قاله الضحاك. والقول الثاني: انهم قوم من المشركين أسلموا فكان قومهم يؤذونهم فصبروا على الأذى، قاله مجاهد.
قوله تعالى: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ فيه أقوال قد شرحناها في الرعد.
قوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: الاذى والسَّبّ، قاله مجاهد.
والثاني: الشِّرك، قاله الضحاك. والثالث: أنهم قوم من اليهود آمنوا، فكانوا يسمعون ما غيّر اليهود من
وفي قوله تعالى: وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ قولان: أحدهما: لنا دِيننا ولكم دِينكم. والثاني: لنا حِلْمُنا ولكم سَفَهُكم. سَلامٌ عَلَيْكُمْ قال الزجاج: لم يريدوا التحيَّة، وإِنَّما أرادوا: بيننا وبينكم المُتَارَكة، وهذا قبل أن يؤمَر المسلمون بالقتال. وذكر أهل التّفسير، أنَّ هذا منسوخ بآية السيف. وفي قوله تعالى: لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ ثلاثة أقوال: أحدها: لا نبتغي دِين الجاهلين. والثاني: لا نطلُب مجاورتهم. والثالث: لا نريد أن نكون جهّالا والله أعلم
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥٦ الى ٥٨]
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨)
قوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ قد ذكرنا سبب نزولها عند قوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ «١».
(١٠٧٨) وقد روى مسلم فيما انفرد به عن البخاري من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعمِّه: «قل: لا إِله إِلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة»، فقال: لولا أن تُعيِّرني نساءُ قريش، يقلن: إِنَّما حمله على ذلك الجزع، لاقررتُ بها عينك، فأنزل الله عزّ وجلّ: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ. قال الزجاج: أجمع المفسرون أنها نزلت في أبي طالب.
وفي قوله تعالى: مَنْ أَحْبَبْتَ قولان: أحدهما: من أحببتَ هدايته. والثاني: من أحببتَه لقرابته. وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي: يُرْشِد لِدِينه من يشاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي: بمن قدَّر له الهُدى.
قوله تعالى: وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ قال ابن عباس في رواية العوفي: هم ناس من قريش قالوا ذلك. وقال في رواية ابن أبي مُلَيْكة: إِنَّ الحارث بن عامر بن نوفل قال ذلك.
(١٠٧٩) وذكر مقاتل أن الحارث بن عامر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: إِنَّا لَنعلم أنَّ الذي تقول حق، ولكن يمنعنا ان نتَّبع الهُدى معك مخافة أن تتخطّفنا العرب من أرضنا، يعنون مكة.
- وقد مضى تخريجه بأطول منه في سورة التوبة عند الآية ١١٣. متفق عليه.
ضعيف. عزاه المصنف لمقاتل، وهو متهم، لكن ورد من وجه آخر. أخرجه النسائي في «الكبرى» ١١٣٨٥ من طريق عمرو بن شعيب عن ابن عباس، وهو منقطع، قال النسائي: ولم يسمعه منه، أي لم يسمع عمرو من ابن عباس. فالإسناد ضعيف، ولا يصح هذا الخبر.
__________
(١) التوبة: ١١٣.
الطُّغيان في النِّعمة. قال عطاء: عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام. قوله تعالى: فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا قال ابن عباس: لم يسكُنْها إِلاَّ المسافرون ومارُّ الطريق يوماً أو ساعة، والمعنى: لم تُسْكَن من بعدهم إلّا سكنى قليلة وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ أي: لم يَخْلُفهم أحد بعد هلاكهم في منازلهم، فبقيتْ خراباً غير مسكونة.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥٩ الى ٦١]
وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١)
وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى يعني القرى الكافر أهلها حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها أي: في أعظمها رَسُولًا، وإِنما خصَّ الأعظم ببعثة الرسول، لأن الرسول إِنَّما يُبعث إِلى الأشراف، وأشراف القوم ملوكهم، وإِنما يسكُنون المواضع التي هي أُمُّ ما حولها. وقال قتادة: أُم القرى: مكّة، والرسول:
محمّد صلى الله عليه وسلّم. قوله تعالى: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا قال مقاتل: يخبرهم الرسول أنَّ العذاب نازل بهم إِن لم يؤمنوا. قوله تعالى: وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ أي: بظلمهم أُهلكهم.
وظلمهم: شركهم. وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ أي: ما أعطيتم من مال وخير فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا تتمتَّعون به أيام حياتكم ثم يفنى وينقضي، وَما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب خَيْرٌ وَأَبْقى أفضل وأَدْوَم لأهله أَفَلا تَعْقِلُونَ أَنَّ الباقي أفضل مِنَ الفاني؟! قوله تعالى: أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً اختُلف فيمن نزلت على أربعة أقوال: أحدها: أنها نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبي جهل. والثاني: في عليّ وحمزة رضي الله عنهما، وأبي جهل. والقولان مرويان عن مجاهد. والثالث: في المؤمن والكافر، قاله قتادة. والرابع: في عمَّار والوليد بن المغيرة، قاله السدي. وفي الوعد الحسن قولان: أحدهما: الجنة. والثاني: النصر.
قوله تعالى: فَهُوَ لاقِيهِ أي: مُصيبه ومُدْرِكه كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: كمن هو ممتَّع بشيء يفنى ويزول عن قريب ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ فيه قولان:
والثاني: من المُحْضَرِين للجزاء، حكاه الماوردي.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٦٢ الى ٦٧]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦)
فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧)
قوله تعالى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أي: ينادي الله تعالى المشركين يومَ القيامة فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ هذا على وجه حكاية قولهم والمعنى: أين شركائي في قولكم؟! قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي: وجب عليهم العذاب، وهم رؤساء الضلالة، وفيهم قولان: أحدهما: أنهم رؤوس المشركين. والثاني: أنهم الشياطين رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا يعنون الأتباع أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا أي: أضللناهم كما ضَلَلْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ أي: تبرَّأنا منهم إِليك والمعنى أنهم يتبرّأ بعضهم من بعض ويصيرون أعداء. وَقِيلَ لكُفَّار بني آدم ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أي: استغيثوا بآلهتكم لتُخَلِّصكم من العذاب فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ أي:
فلم يجيبوهم إِلى نصرهم وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ قال الزجّاج: جواب «لو» محذوف والمعنى: لو أنهم كانوا يهتدون لَمَا اتبَّعوهم ولَمَا رأوُا العذاب. قوله تعالى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أي: ينادي الله الكفار ويسألهم فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ. فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ وقرأ أبو رزين العقيلي، وقتادة، وأبو العالية، وأبو المتوكل، وعاصم الجحدري: «فَعُمِّيَتْ» برفع العين وتشديد الميم. قال المفسرون: خفيت عليهم الحُجج، وسمِّيت أنباءً، لأنها أخبار يخبر بها. قال ابن قتيبة: المعنى: عَمُوا عنها- من شدة الهول- فلم يُجيبوا، و «الأنباء» الحُجج.
قوله تعالى: فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ فيه ثلاثة أقوال. أحدها: لا يسأل بعضهم بعضاً عن الحُجَّة، قاله الضحاك. والثاني: أن المعنى: سكتوا فلا يتساءلون في تلك الساعة، قاله الفراء. والثالث: لا يسأل بعضهم بعضاً أن يحمل عنه شيئاً من ذنوبه، حكاه الماوردي.
فَأَمَّا مَنْ تابَ من الشِّرك وَآمَنَ أي: صدّق بتوحيد الله عزّ وجلّ وَعَمِلَ صالِحاً أدَّى الفرائض فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ و «عسى» من الله عز وجل واجب.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠)
قوله تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ روى العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى:
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ قال: كانوا يجعلون لآلهتهم خير أموالهم في الجاهلية.
والمعنى أنَّه لا تُبْعَث الرسل باختيارهم. قال الزّجّاج: والوقف الجيد على قوله تعالى: «ويختار» وتكون «ما» نفياً والمعنى: ليس لهم أن يختاروا على الله تعالى ويجوز أن تكون «ما» بمعنى «الذي»، فيكون المعنى: ويختار الذي لهم فيه الخِيَرة ممَّا يتعبَّدهم به ويدعوهم إِليه قال الفراء: والعرب تقول لِمَا تختاره: أعطِني الخِيْرَة والخِيَرة والخَيْرة، قال ثعلب: كلها لغات.
قوله تعالى: ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ أي: ما تُخفي من الكفر والعداوة وَما يُعْلِنُونَ بألسنتهم. قوله تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ أي: يَحْمَدُه أولياؤُه في الدنيا ويَحْمَدونه في الجنة وَلَهُ الْحُكْمُ وهو الفصل بين الخلائق. والسّرمد: الدّائم.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧١ الى ٧٥]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥)
قوله تعالى: أَفَلا تَسْمَعُونَ أي: سماع فَهْم وقَبول فتستدلُّوا بذلك على وحدانية الله تعالى؟! ومعنى تَسْكُنُونَ فِيهِ: تستريحون من الحركة والنَّصَب أَفَلا تُبْصِرُونَ ما أنتم عليه من الخطأ والضلالة؟! ثم أخبر أن اللَّيل والنهار رحمة منه. وقوله تعالى: لِتَسْكُنُوا فِيهِ يعني في الليل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي: لتلتمسوا من رزقه بالمعاش في النهار وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الذي أنْعَم عليكم بهما.
قوله تعالى: وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً أي: أخرْجنا من كل أُمَّة رسولها الذي يشهد عليها بالتبليغ فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي: حُجَّتكم على ما كنتم تعبُدون من دوني فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ أي: عَلِموا أنَّه لا إِله إِلا هو وَضَلَّ عَنْهُمْ أي: بَطَل في الآخرة ما كانُوا يَفْتَرُونَ في الدنيا من الشّركاء.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧)
__________
(١) الزخرف: ٣١.
قوله تعالى: فَبَغى عَلَيْهِمْ فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه جعل لِبَغِيٍّ جُعْلاً على أن تقذف موسى بنفسها، ففعلت، فاستحلفها موسى على ما قالت، فأخبرته بقصتها، فكان هذا بغيه، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه بغى بالكفر بالله تعالى، قاله الضحاك. والثالث: بالكِبْر، قاله قتادة. والرابع: أنه زاد في طول ثيابه شِبراً، قاله عطاء الخراساني، وشهر بن حوشب. والخامس: أنه كان يخدم فرعون فتعدَّى على بني إِسرائيل وظلمهم، حكاه الماوردي.
وفي المراد بمفاتحه قولان: أحدهما: أنها مفاتيح الخزائن التي تفتح بها الأبواب، قاله مجاهد، وقتادة. وروى الأعمش عن خيثمة قال: كانت مفاتيح قارون وِقْر ستين بغلاً، وكانت من جلود، كل مفتاح مثل الأصبع. والثاني: أنها خزائنه، قاله السدي، وأبو صالح، والضحاك. قال الزجاج: وهذا الأشبه أن تكون مفاتحه خزائن ماله وإِلى نحو هذا ذهب ابن قتيبة. قال أبو صالح: كانت خزائنه تُحمل على أربعين بغلاً.
قوله تعالى: لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أي: تُثقلهم وتُميلهم. ومعنى الكلام: لَتُنِيءُ العصبةَ، فلمَّا دخلت الباءُ في «العُصْبة» انفتحت التاء، كما تقول: هذا يَذْهَبُ بالأبصارِ، وهذا يُذْهِبُ الأبصارَ، وهذا اختيار الفراء وابن قتيبة والزجَّاج في آخرين. وقال بعضهم: هذا من المقلوب، وتقديره: ما إِن العُصْبة لَتَنُوء بمفاتحه، كما يقال: إِنها لَتَنُوء بها عجيزُتها، أي: هي تَنْوء بعجيزتها، وأنشدوا:
فَدَيْتُ بِنَفْسِهِ نَفِسْي ومَالي | ومَا آلُوكَ إِلاَّ مَا أُطِيقُ |
والسادس: ما بين الخمسة عشر إِلى الأربعين، حكاه الزجاج.
قوله تعالى: إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ في القائل له قولان: أحدهما: أنهم المؤمنون من قومه، قاله السدي. والثاني: أنه قول موسى له، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: لا تَفْرَحْ قال ابن قتيبة: المعنى: لا تأشَرْ ولا تَبطَرْ، قال الشاعر:
ولستُ بِمِفْراحٍ إِذا الدَّهرُ سَرَّني | ولا جازع من صرفه المتحوّل «٣» |
(٢) يوسف: ٨.
(٣) البيت لهدبة بن خشرم العذري، وهو في «حماسة البحتري» ١٢٠.
قوله تعالى: وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ أي: اطلب فيما أعطاكَ اللهُ من الأموال «١». وقرأ أبو المتوكل، وابن السميفع: «واتّبع» بتشديد التاء وكسر الباء وعين ساكنة غير معجمة الدَّارَ الْآخِرَةَ وهي: الجنة وذلك يكون بانفاقه في رضى الله تعالى وشُكر المُنْعِم به وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن يعمل في الدنيا للآخرة، قاله ابن عباس، ومجاهد، والجمهور. والثاني:
أن يُقدِّم الفضل ويُمسك ما يُغْنيه، قاله الحسن. والثالث: أن يستغنيَ بالحلال عن الحرام، قاله قتادة.
وفي معنى وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ثلاثة أقوال: أحدها: أَعْطِ فضل مالك كما زادك على قدر حاجتك. والثاني: أَحْسِن فيما افترض عليك كما أحسن في إِنعامه إِليك. والثالث: أحسن في طلب الحلال كما أحسن إِليك في الإِحلال. قوله تعالى: وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ فتعمل فيها بالمعاصي.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٧٨]
قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨)
قوله تعالى: إِنَّما أُوتِيتُهُ يعني المال عَلى عِلْمٍ عِنْدِي فيه خمسة أقوال «٢» : أحدها: على عِلْم عندي بصنعة الذهب، رواه أبو صالح عن ابن عباس قال الزجاج: وهذا لا أصل له، لأن الكيمياء باطل لا حقيقة له. والثاني: برضى الله عني، قاله ابن زيد. والثالث: على خير علمه الله تعالى عندي، قاله مقاتل. والرابع: إِنما أُعطيتُه لفضل علمي، قاله الفراء. قال الزجاج: ادَّعى أنه أُعطيَ المال لعلمه بالتوراة. والخامس: على علم عندي بوجوه المكاسب، حكاه الماوردي. قوله تعالى: أَوَلَمْ يَعْلَمْ يعني قارون أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ بالعذاب مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ في الدُّنيا حين كذَّبوا رُسُلَهم مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً للأموال. وفي قوله تعالى: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يُسْأَلون ليُعْلَم ذلك مِنْ قِبَلهم وإِن سئلوا سؤال توبيخ، قاله الحسن. والثاني: أن الملائكة تعرفهم بسيماهم فلا تسألهم عن ذنوبهم، قاله مجاهد. والثالث: يدخلون النار بغير حساب، قاله قتادة.
وقال السدي: يعذَّبون ولا يُسْأَلون عن ذنوبهم.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٤٩٤: وقد أجاد في تفسير هذه الآية الإمام عبد الرحمن بن زيد، فإنه قال: لولا رضا الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا المال، وقرأ: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧٩ الى ٨٠]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠)قوله تعالى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قال الحسن: في ثيابٍ حمر وصفر وقال عكرمة: في ثياب مُعَصْفَرة. وقال وهب بن منبِّه: خرج على بغلة شهباء عليها سرج أحمر من أُرْجُوان، ومعه أربعة آلاف مقاتل، وثلاثمائة وصيفة عليهن الحلي والزِّينة على بغال بيض. قال الزجاج: الأُرْجُوان في اللغة:
صِبغ أحمر. قوله تعالى: لَذُو حَظٍّ أي: لَذُو نصيب وافر من الدنيا. وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ قال ابن عباس: يعني الأحبار من بني إِسرائيل. وقال مقاتل: الذين أوتوا العلم بما وَعَدَ اللهُ في الآخرة قالوا للذين تَمنَّوا ما أُوتيَ قارون وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ أي: ما عنده من الجزاء خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ مِمَّا أُعطيَ قارونُ. قوله تعالى: وَلا يُلَقَّاها قال أبو عبيدة: لا يوفَّق لها ويُرْزَقُها. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن أبي عبلة: «ولا يَلْقَاها» بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف. وفي المشار إِليها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الأعمال الصالحة، قاله مقاتل. والثاني: أنها الجنة، والمعنى: لا يُعطاها في الآخرة إِلاَّ الصابرون على أمر الله تعالى، قاله ابن السائب. والثالث: أنها الكلمة التي قالوها، وهي قولهم: «ثوابُ الله خيرٌ»، قاله الفرّاء.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٨١ الى ٨٢]
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢)
قوله تعالى: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ لمَّا أمر قارونُ البَغِيَّ بقذف موسى على ما سبق شرحه غضب موسى فدعا عليه، فأوحى الله تعالى إِليه: إِنِّي قد أمرت الأرض أن تُطيعَك فَمُرْها فقال موسى:
يا أرض خُذيه، فأخذتْه حتى غيَّبَتْ سريره، فلمَّا رأى ذلك ناشده بالرّحم، فقال: يا أرض خُذيه، فأخذته حتى غيَّبتْ قدميه فما زال يقول: خُذيه، حتى غيَّبتْه، فأوحى الله تعالى إِليه: يا موسى ما أفظَّك، وعِزَّتي وجلالي لو استغاث بي لأغثته. قال ابن عباس: فخُسفتْ به الأرضُ إِلى الأرض السفلى. وقال سَمُرَة بنُ جنْدَب: إِنَّه يُخسف به كلَّ يوم قامة، فتبلغ به الأرض السفلى يوم القيامة. قال مقاتل: فلمَّا هلك قارون قال بنو إِسرائيل: إِنَّما أهلكه موسى ليأخذ ماله وداره، فخَسَفَ الله تعالى بداره وماله بعده بثلاثة أيام «١».
قوله تعالى: يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: يمنعونه من الله تعالى وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ أي: من الممتنعين ممَّا نزل به. ثم أعلَمنا أن المتمنِّين مكانه ندموا على ذلك التمنِّي بالآية التي تلي هذه. وقوله تعالى: لَخَسَفَ بِنا الأكثرون على ضم الخاء وكسر السين. وقرأ يعقوب، والوليد عن ابن عامر، وحفص، وأبان عن عاصم: بفتح الخاء والسين. فأما قوله تعالى: «وَيْكَ» فقال ابن عباس: معناه: ألم تر، وكذلك قال أبو عبيده، والكسائي. وقال الفراء: «وَيْكَ أن» في كلام العرب تقرير، كقول الرجل:
وَيْكَ أَنْ مَنْ يَكُنْ له نشب يحبب | ومَنْ يفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرِّ |
سالَتَاني الطَّلاق أنْ رَأَتَاني | قَلَّ مالي قَدْ جِئْتُمَاني بِنُكْرِ |
وَيْكَ أَنْ من يكن له نشب يحبب | ومَن يفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْش ضُرِّ «٢» |
أَبِالْمَوْتِ الذي لا بُدَّ أنِّي | مُلاقٍ لا أَبَاكِ تُخَوِّفِيني «٣» |
وَيْكَأَنَّهُ لأنّ الكلام بهما يكثر، كما جعلوا «يا ابْنَ أُمَّ» «٤» في المصحف حرفا واحدا، وهما حرفان.
وكان جماعة منهم يعقوب، يقفون على «وَيْكَ» في الحرفين، ويبتدئون «أنّ» و «أنَّه» في الموضعين.
وذكر الزجَّاج عن الخليل أنه قال: «وَيْ» مفصولة من «كأنَّ»، وذلك أنَّ القوم تندَّموا فقالوا: «وَيْ» متندِّمين على ما سلف منهم، وكلُّ مَنْ نَدِم فأظهر ندامته قال: وَيْ. وحكى ابن قتيبة عن بعض العلماء أنَّه قال: معنى «ويكأنَّ» : رحمةً لك، بلغة حِمْيَر. قوله تعالى: لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا أي: بالرحمة والمعافاة والإيمان لَخَسَفَ بِنا.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٨٣ الى ٨٤]
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤)
قوله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ يعني الجنة نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وفيه خمسة أقوال: أحدها: أنَّه البَغْي، قاله سعيد بن جبير. والثاني: الشَّرَفُ والعِزّ، قاله الحسن. والثالث: الظُّلْم، قاله الضحاك. والرابع: الشِّرك، قاله يحيى بن سلام. والخامس: الاستكبار عن الإيمان، قاله مقاتل.
وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٤٩٦: وقد اختلف النحاة في معنى قوله تعالى: وَيْكَأَنَّهُ فقال بعضهم: معناها «ويلك اعلم أن» ولكن خففت فقيل: «ويك» ودل فتح «أن» على حذف اعلم وهذا القول ضعفه ابن جرير. والظاهر أنه قوي، ولا يشكل على ذلك إلا كتابتها في المصاحف متصلة «ويكأن».
والكتابة أمر وضعي اصطلاحي، والمرجع إلى اللفظ العربي، والله أعلم.
(٢) البيتان لزيد بن عمرو بن نفيل القرشي، كما في «مجاز القرآن» ٢/ ١١٢ و «سيبويه» ١/ ٢٩٠.
(٣) البيت لأبي حية النّميري، وهو في «اللسان» - أبى-.
(٤) طه: ٩٤.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٨٥ الى ٨٨]
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ.
(١٠٨١) قال مقاتل: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الغار ليلاً، فمضى من وجهه إِلى المدينة فسار في غير الطريق مخافة الطَّلب فلمَّا أَمِن رجع إِلى الطريق فنزل الجُحْفَةَ بين مكة والمدينة، فعرف الطريق إِلى مكة، فاشتاق إِليها، وذكر مولده، فأتاه جبريل فقال: أتشتاق إِلى بلدك ومولدك؟ قال: نعم قال:
فان الله تعالى يقول: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ، فنزلت هذه الآية بالجحفة.
وفي معنى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ثلاثة أقوال: أحدها: فرض عليك العمل بالقرآن، قاله عطاء بن أبي رباح، وابن قتيبة. والثاني: أعطاك القرآن، قاله مجاهد. والثالث: أنزل عليك القرآن، قاله مقاتل والفراء وأبو عبيدة. وفي قوله تعالى: لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أربعة أقوال «٢» :
أحدها: إِلى مكة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في رواية، والضحاك. قال ابن قتيبة: مَعَادُ الرَّجُل: بلدُه، لأنه يتصرَّف في البلاد ويَضْرِب في الأرض ثم يعود إِلى بلده.
والثاني: إِلى معادك من الجنة، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والزهري. فإن اعتُرض على هذا فقيل: الرَّدُّ يقتضي أنه قد كان فيما رُدَّ إِليه فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنَّه لمَّا كان أبوه آدم في الجنة ثم أُخرج، كان كأنَّ ولده أُخرج منها، فاذا دخلها فكأنه أعيد. والثاني: أنّه دخلها ليلة
__________
(١) النمل: ٨٩.
(٢) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١٠/ ١١٨: والصواب من القول في ذلك عندي قول من قال: لرادك إلى عادتك من الموت، أو إلى عادتك حيث ولدت اه.
وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٤٩٧: ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن ابن عباس فسّر تارة برجوعه إلى مكة، وهو الفتح الذي هو عند ابن عباس أمارة على اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلّم، كما فسر سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ: أنه أجل النبي صلى الله عليه وسلّم نعي إليه ووافقه عمر بن الخطاب، وتارة أخرى فسّر ابن عباس قوله تعالى:
لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ بالموت، وتارة بعد الموت الذي هو يوم القيامة. [.....]
يَحُورُ رَمَاداً بَعْدَ إِذ هُوَ سَاطِعُ «١»
وقد شرحنا هذا في قوله وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ عن ابن عباس وبه قال أبو سعيد الخدريّ.
الثالث: لَرَادُّك إِلى الموت، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وبه قال أبو سعيد الخدري. والرابع:
لَرَادُّك إِلى القيامة بالبعث، قاله الحسن والزهري ومجاهد في رواية والزجاج.
ثم ابتدأ كلاماً يَرُدُّ به على الكفار حين نسبوا النبيّ صلى الله عليه وسلّم إِلى الضَّلال، فقال: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى والمعنى: قد علم أنِّي جئت بالهُدى، وأنَّكم في ضلال مبين. ثم ذَكَّرهُ نعمه، فقال: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ أي: أن تكون نبيّاً وأن يوحى إِليكَ القرآنُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ قال الفراء: هذا استثناء منقطع، والمعنى: إِلاَّ أنَّ ربَّكَ رَحِمَكَ فأنزله عليك فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ أي: عَوْناً لهم على دينهم، وذلك أنَّهم دَعوه إِلى دين آبائه فأُمر بالاحتراز منهم والخطاب بهذا وأمثاله له، والمراد أهل دينه لئلاَّ يُظاهِروا الكفَّار ولا يوافقوهم.
قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فيه قولان: أحدهما: إِلا ما أُرِيدَ به وجهُه، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الثوري. والثاني: إِلاَّ هو، قاله الضحاك وأبو عبيدة. قوله تعالى: لَهُ الْحُكْمُ أي الفصل بين الخلائق في الآخرة دون غيره وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ في الآخرة.