تفسير سورة القصص

التيسير في أحاديث التفسير
تفسير سورة سورة القصص من كتاب التيسير في أحاديث التفسير .
لمؤلفه المكي الناصري . المتوفي سنة 1415 هـ
الثمن الثاني من الربع الثاني في الحزب التاسع والثلاثين
سورة القصص
نفتتح تفسير سورة القصص، مستعينين بالله، معتصمين به في البدء والختام، وهذه السورة مكية كسابقتها، وأطلق على هذه السورة " سورة القصص " أخذا من قوله تعالى في إحدى آياتها وهو يحكي ما دار بين موسى عليه السلام و ( صالح مدين ) في أحد المواقف الحاسمة :﴿ فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ﴾ [ ٢٥ ].
و " القصص " هنا بفتح القاف لفظ مفرد بمعنى الخبر المحكي المقصوص، ويطلق لفظ القصص بمعنى رواية الخبر، أما القصص بكسر القاف فهو جمع قصة، وتشغل قصة موسى مع قصة قارون من قومه أكبر جزء من هذه السورة، فلقصة موسى ثمان وأربعون آية، من الآية الثانية إلى الآية التاسعة والأربعين، ولقصة قارون من قومه سبع آيات، من الآية السادسة والسبعين إلى الآية الثانية والثمانين، وبذلك يبلغ عدد آيات القصتين المرتبط بعضهما ببعض خمسا وخمسين آية من مجموع آيات هذه السورة، وهي ثمانون آية.
ومن أهم ما يلاحظ في كتاب الله بالنسبة للقصص التي تضمنها القرآن الكريم أن قصة موسى تردد ذكرها في سبع عشرة سورة، مختزلة أحيانا، ومختصرة أحيانا، ومتوسطة أحيانا، ومطولة أحيانا. وأطولها جميعا هي التي سبقت في سورة الأعراف، حيث استغرقت من آياتها خمسا وخمسين ومائة آية، ويليها في الطول قصته في سورة ( طه ) حيث استغرقت من آياتها تسعين آية، ويلي قصة موسى في سورة طه قصته في سورة الشعراء، حيث استغرقت من آياتها ستين آية، وتأتي في الدرجة الأخيرة من الطول قصته هنا في سورة القصص، حيث استغرقت منها مع قصة قارون من قومه خمسا وخمسين آية.

وقد جاءت فاتحتها على غرار فاتحة سورة الشعراء، مبدوءة مثلها بنفس الحروف الهجائية المقطعة، وهي في كل منهما الطاء والسين والميم ﴿ طسم ﴾ فكانت ثالثة السور التي جاءت على هذا النمط في نسق واحد، تنبيها إلى أن آيات الكتاب العزيز تتألف من نفس الحروف التي يؤلف البشر منها كلامهم، لكن الله الذي خلق الإنسان من طين ثم نفخ فيه روح الحياة ينفخ في تلك الحروف من جلاله وعلمه وحكمته ما يجعلها معجزة باقية أبد الدهر لا قبل بها للإنسان، على ممر الزمان،
ثم جاءت أول آية من هذه السورة بنفس النمط الذي جاءت به سورة الشعراء ﴿ تلك آيات الكتاب المبين ﴾
وصف الكتاب بكونه " مبينا " لأنه يبين ويميز الحق من الباطل، والحلال من الحرام، والهدى من الضلال، في العقائد والشرائع والأقوال والأفعال.
ومن أمثلة قصة موسى عندما ترد بشكل مختزل في آية أو آيتين قوله تعالى فيما سبق من سورة إبراهيم :﴿ وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ﴾ [ ٦ ]، وقوله تعالى فيما سبق من سورة الفرقان :﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا، فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا ﴾ [ ٣٥، ٣٦ ]، وقوله تعالى فيما سيأتي من سورة الذاريات :﴿ وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين * فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون * فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم ﴾ [ ٣٨، ٤٠ ].
ولا بد من التنبيه هنا إلى أن إعادة كتاب الله لقصة من القصص في عدة سور لا يعني أن فيه شيئا من التكرار، فبلاغة القرآن التي ميزه الله بها تعصمه من ذلك، وإنما تنصب الحكاية الجديدة للقصة على عناصر معينة منها، حيث يكون السياق يقتضي إبراز هذا العنصر بدلا من ذلك العنصر الذي سبق في مقام آخر، أو تفصيل هذا العنصر مع إجمال ذلك العنصر الذي سبق في مقام آخر، أو تفصيل هذا العنصر مع إجمال ذلك العنصر الذي سبق في مناسبة أخرى، وكتاب الله بوصفه كتاب هداية وتوجيه لا بد أن يلائم مقتضى الحال في كل الأحوال، يضاف إلى ذلك أن القصة عندما يتجدد ذكرها في سورة من السور لا محالة أنها تأتي بزوائد وفوائد، وفي ذلك زيادة في البيان، وإقامة للحجة والبرهان، على درجة الإعجاز التي ارتفعت إليها بلاغة القرآن.
وعلى ضوء هذا التنبيه نراجع الآيات التي تصدرت قصة موسى في هذه السورة، ونقارنها بما ورد في بعض السور الأخرى، ففي سورة القصص التي نحن بصدد تفسيرها نجد في الطليعة وصف المرحلة الأولى من حياة موسى عليه السلام منذ طفولته إلى أن بلغ أشده، من الآية السادسة إلى الآية الثانية عشرة، ونجد وصف الحادثة التي اشتبك فيها موسى مع عدو لقومه نصرة لرجل من شيعته، فأدت إلى مقتل ذلك العدو، واضطرار موسى إلى التوجه نحو مدين، من الآية الثالثة عشرة إلى الآية العشرين، ونجد وصف خطوبته وزواجه بابنة ( صالح مدين وشيخها الكبير )، وما سبق ذلك من مقدمات، وما انتهى إليه من نتائج، من الآية الواحدة والعشرين إلى الآية التاسعة والعشرين، كل ذلك بغاية التوضيح والتفصيل، مما لم يتقدم نظيره في السور الأخرى، وإذا راجعنا قصة موسى الواردة في سورة الأعراف لا نجد فيها أي أثر لهذه الأحداث وهذه المراحل، وإنما نجد في سورة طه إشارة خفيفة إليها في سبع آيات لا غير، ونجد في سورة الشعراء إشارة خاطفة إليها في خمس آيات لا غير، ففي سورة طه سبق قول الله تعالى :﴿ قال قد أوتيت سؤلك يا موسى * ولقد مننا عليك مرة أخرى * إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى * أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني*ولتصنع على عيني * إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى *واصطنعتك لنفسي ﴾ [ ٤١، ٣٦ ]، وفي سورة الشعراء سبق قوله تعالى على لسان فرعون :﴿ قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين * وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين * قال فعلتها إذا وأنا من الضالين * ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين *وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ﴾ [ ٢٢، ١٨ ].
وبعد هذه التنبيهات والمقارنات لم يبق لنا إلا التوجه إلى تفسير الجزء الوارد من نفس القصة في هذه الحصة.
قال تعالى :﴿ تلك آيات الكتاب المبين * نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون ﴾ :
ثم جاء بتمهيد يسبق الشروع في قصة موسى وفرعون، كأنما هو عبارة عن عنوان الموضوع، أو براعة الاستهلال التي يبدأ بها عند الشروع ﴿ إن فرعون علا في الأرض ﴾ أي تجبر وتكبر، حتى ادعى الربوبية والألوهية، والمراد " بالأرض " هنا أرض مصر.
﴿ وجعل أهلها شيعا ﴾ أي فرق بينهم فأغرى بعضهم ببعض، وسلط بعضهم على بعض، حتى يكونوا أطوع له من بنانه، ويستسلموا لعدوانه وطغيانه.
﴿ يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ﴾ المراد " بالطائفة المستضعفة " في ذلك العهد بنو إسرائيل، ويجري على غيرها من الطوائف المستضعفة في بقية العهود ما جرى عليها. قال ابن عباس : " لما كثر بنو إسرائيل بمصر استطالوا على الناس وعملوا بالمعاصي، فسلط الله عليهم القبط وساموهم سوء العذاب، إلى أن نجاهم الله على يد موسى ".
﴿ إنه كان من المفسدين ﴾ سجل كتاب الله هنا على فرعون صفة " الفساد " التي هي أبغض صفة إلى الله تحرق الأخضر واليابس، وتدمر البلاد والعباد، وبهذا التسجيل الإلهي المؤكد أبرز كتاب الله أنه لا يرضى للرؤساء من عباده الكبر والجبروت، ولا يرضى للمرؤوسين منهم الفرقة والشتات، ولا يرضى استضعاف طائفة وتسخيرها وإهدار حقوقها لصالح بقية الطوائف، وإنما يرضى لهم جميعا المساواة في الحقوق والواجبات والعيش الكريم.
﴿ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين* ونمكن لهم في الأرض ﴾ هذا وعد من الله بالنصر والتمكين لمن استضعفوا في الأرض، فالتجأوا إلى الله، واعتصموا بحبله واحتموا بحماه، فإذا استكبروا بعد الضعف، وانقلبوا أئمة للكفر والفساد، وكلهم الله إلى أنفسهم فانقلبوا صاغرين ورسفوا في الأغلال والأصفاد.
﴿ ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ﴾ هذا إنذار من الله لفرعون وهامان ومن سلك مسلكهما في الاستعلاء والطغيان، على ضعفاء بني الإنسان، بأنه سيهدم بنيانهم، ويدك أركانهم، بأيدي أولئك الضعفاء حتى يضرب بهم المثل فيقال :( على الدنيا العفاء ).
﴿ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ﴾ أجمع العلماء على أن " أم موسى " لم تكن نبية، 'فالوحي " المسند إليها هنا وحي إلهام، لا وحي إعلام، والمراد " باليم " هنا وادي النيل الذي يخترق أرض مصر ﴿ ولا تخافي ﴾ أي لا تخافي من غرقه وضياعه، ولا تخافي من أن يلتقطه من آل فرعون من يقتله ﴿ ولا تحزني ﴾ أي لا تحزني لمفارقتك إياه.
﴿ إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ﴾ هذا وعد صادق من الله لأم موسى، يهدئ روعها، ويطمئن قلبها، ويبشرها بحياته وجعله رسولا ﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾ قال أبو حيان : " استفصح الأصمعي امرأة من العرب أنشدته شعرا فقالت له : أبعد قوله تعالى :﴿ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ﴾ فصاحة ؟ وقد جمع بين أمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين ".
﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ﴾ هذا مظهر من مظاهر العناية الإلهية، فقد سخر الحق سبحانه وتعالى وهو اللطيف الخبير لإنقاذ موسى من الغرق والقتل أعدى أعاديه من آل فرعون، فالتقطوه للتربية والتبني، ولو عرفوا سوء العاقبة الذي ينتظرهم على يده لاعتبروه أخطر عدو، وقضوا عليه في المهد، لكن الله تعالى الذي قدر الانتقام من طغيانهم وفسادهم، وكفرهم وعنادهم، على يد نبيه موسى، أعمى منهم البصائر والأبصار، لتنفذ فيهم عند حلول الأجل سهام الأقدار، والحزن بفتح الحاء والزاي على لغة قريش هو الحزن عند بقية العرب.
﴿ إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ﴾ أي كانوا خاطئين في كل شيء، ولم يصادفوا الصواب في أي شيء، فلا غرابة إذا أخطأوا في تربية موسى الذي اصطفاه الله لرسالته، ليكون مصيرهم المفجع على يده وبقيادته، ومعنى " الخاطئ " المتعمد للخطأ، ويطلق على من لا يتعمد الخطأ لفظ " مخطئ " وإنما أضيف الجند في هذه الآية :﴿ إن فرعون وهامان وجنودهما ﴾ وفي الآية السابقة :﴿ ونري فرعون وهامان وجنودهما ﴾ إلى كل من فرعون وهامان، وإن كان هامان مجرد وزير لا جنود له، لأن المال هو قوام الجيش. وتسيير شؤون الدولة، وجباية الأموال اللازمة لمرافقها، لا يتم أمرهما إلا على يد الوزراء وبمعونتهم، فلهم ضلع كبير في تحمل مسؤوليات الدولة وتنظيم جيشها وتسيير مرافقها العامة.
﴿ وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ﴾ لما رأت ما يبدو عليه من مخايل الخير واليمن والقبول توسمت فيه النفع لها ولفرعون أولا، ثم مر بخاطرها أن تتبناه وتتخذه ولدا، ليكون قرة عين لها ولزوجها، ومبعث بهجة وسرور لأسرتها، فقال لزبانية فرعون لا تقتلوه، ثم قال تعالى :﴿ وهم لا يشعرون ﴾ أي لا يدركون خطأهم العظيم في التقاطه ورجاء النفع منه، والتفكير في تبنيه، وغاب عنهم أن وليد اليوم هو رسول الغد، الذي سيكون هلاكهم على يديه، جزاء وفاقا لما مارسوه من ظلم وطغيان، واستهتار بحقوق الله وحقوق الإنسان.
﴿ وأصبح فؤاد أم موسى فارغا ﴾ أي أن أم موسى حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والدهش، اعتقادا منها بأن مصير وليدها هو القتل لا محالة، ﴿ إن كادت لتبدي به ﴾ أي تبدي أمره وقصته. قال ابن عباس : " كادت تصيح عند إلقائه في اليم : واولداه، فينكشف أمرها وأمره " ﴿ لولا أن ربطنا على قلبها ﴾ أي لولا أن الله تعالى ألهمها الصبر، وألقى السكينة في قلبها، فلم تفضح سرها الدفين ﴿ لتكون من المؤمنين ﴾ أي من الواثقين بوعد الله الذي لا يتخلف، لا بتبني فرعون وتعطف امرأته، ووعد الله هو رده إليها وجعله رسولا :﴿ إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ﴾. و " الربط على القلب " هنا كناية عن قراره واطمئنانه، شبه بما يربط مخافة الانفلات، على غرار قوله تعالى في الفتية من أهل الكهف :
﴿ وربطنا على قلوبهم إذ قاموا ﴾ [ الآية : ١٤ ].
﴿ وقالت لأخته قصيه ﴾ أي اتبعي أثره، وتتبعي خبره ﴿ فبصرت به عن جنب ﴾ أي أبصرته أخته عن بعد وهي تختلس النظر إليه، ﴿ وهم لا يشعرون ﴾ أي لم يكونوا يشعرون بما تنطوي عليه أخته من اهتمام بأمره، وتتبع لحركاته، وقلق على مصيره، وأنه أخوها وهي أخته، وهكذا يتولى الله بحفظه ورعايته من أعدهم لتحمل رسالته، في مختلف المراحل والعهود، وفاء منه سبحانه وتعالى بما واثقهم عليه من المواثيق والعهود ﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي، إن الله قوي عزيز ﴾ [ المجادلة : ٢١ ].
الثمن الأول من الربع الثالث في الحزب التاسع والثلاثين
يواصل كتاب الله الحديث عن المرحلة الأولى من حياة موسى عليه السلام، فبعدما نجاه الله من الغرق في اليم والتقطه آل فرعون، وتدخلت امرأة فرعون لمنع ذبحه وقتله كغيره من مواليد بني إسرائيل، ها هو فرعون وامرأته يبحثان عن مرضعة ترضعه، وعن ثدي يلتقمه، ليركن إلى عطفه وحنانه، ويسلم نفسه إليه، لكن الله تعالى ألهمه أن لا يقبل رضاع لبن سوى لبن أمه من النساء وأشكل الأمر على أسرة فرعون، وأعيتهم الحيلة، خوفا على حياة موسى، إذا استمر من دون تغذية، وهو لا يزال في فجر طفولته، وأخطر أطوار حياته، وهنا تدخلت أخته التي كانت تتحسس كل ما يحيط بأخيها من الحركات والسكنات، من دون أن يعرف أحد من آل فرعون أنه أخوها وأنها أخته، فتقدمت إلى امرأة فرعون وزوجها تعرض استعدادها للبحث عن بيت يقوم بهذه المهمة الإنسانية على أحسن وجه، فيأخذ على عاتقه إرضاع هذا الوليد وحضانته، ويعنى بتربيته الأولى بكل نصح واعتناء، إلى أن يفارق مرحلة الرضاع، وتنجح أخته في مسعاها، فتأخذه معها إلى أمه، ويرده الله إليها كما وعدها من قبل، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في بداية هذا الثمن :﴿ وحرمنا عليه المراضع من قبل ﴾ أي ألهمناه قبل رده إلى أمه أن لا يقبل الرضاع من ثدي أية امرأة سواها، " فالتحريم هنا تحريم منع، لا تحريم شرع " كما قال القرطبي.
﴿ فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ﴾
والقائلة هي أخته ﴿ فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ﴾، وبذلك سكنت نفسها، وتم أنسها، وترقرقت في عينيها دموع الغبطة والفرح التي تكون باردة في العادة ﴿ كي تقر عينها ﴾ من " القر " ضد الحر، لا ساخنة مثل دموع الحزن والكمد، وتمت هذه العملية الخطيرة في حفظ الله وستره، فلم يكتشف السر فيها لا فرعون ولا زوجه ولا بقية آل فرعون، اعتقادا منهم جميعا بأن المرضعة التي عثروا عليها بإرشاد أخته لا علاقة لها بالوليد الرضيع، لا من قريب ولا من بعيد، وأنها مجرد مرضعة وحاضنة، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى تعقيبا على نفس الحادثة :﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾.
وهنا تنتهي الآيات التي عنيت بوصف الطور الأول من حياة موسى لتبدأ الآيات التي ستعنى بمرحلة نضجه وشبابه، ووصف ما آتاه الله من عقل وفهم، ومعرفة بدين آبائه الصالحين، وتهتم بما اعترض حياته في هذه الفترة من الحادث المزعج، الذي أدى إلى مقتل أحد الرعايا الفرعونيين، وما واجهه عقب ذلك الحادث من مخاوف ومتاعب، حتى اضطر لأن يفارق مصر إلى بلد لم تبق فيه سلطة لفرعون وآله، فرارا من عقابه وعذابه.
وبداية الآيات الخاصة بهذا الطور الثاني من حياة موسى قوله تعالى :﴿ ولما بلغ أشده واستوى ﴾ أي استكمل قوته الجسمية وقوته العقلية ﴿ آتيناه حكما وعلما ﴾ أي حكمة وفهما ﴿ وكذلك نجزي المحسنين ﴾ أي تلك سنة الله مع عباده المكرمين، الذين اصطفاهم ليكونوا من رسله وأنبيائه، وأصفيائه وأوليائه، وقد سبق في سورة يوسف على غرار هذه الآية قوله تعالى منوها بمكانة يوسف عليه السلام :﴿ ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ﴾ [ الآية : ٢٢ ].
ويبدأ " بلوغ الأشد " عند بلوغ الحلم، ومن توابع ذلك أن يصبح الفتى أهلا لممارسة الحياة الزوجية، وينظر لهذا المعنى قوله تعالى :﴿ حتى إذا بلغوا النكاح ﴾ [ النساء : ٦ ] ويشهد له قوله تعالى في سورة الحج :﴿ ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى، ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ﴾ [ الآية : ٥ ] وقوله تعالى في سورة غافر :﴿ هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ﴾ [ الآية : ٦٧ ]. وتصل مرحلة بلوغ الأشد إلى القمة عند بلوغ سن الأربعين، حيث تهيمن القوة العقلية على القوة الجسمية، قال الرازي : " فلهذا السر اختار الله تعالى هذا السن للوحي، ويروى أنه لم يبعث نبي إلا على رأس الأربعين سنة ". وقد اعتنى كتاب الله عناية خاصة بمرحلة الأربعين من حياة كل إنسان، وما ينتظر أن يبلغ فيها من وعي ونضج واستقامة، فقال تعالى فيما سيأتي من سورة الأحقاف :﴿ حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه، وأصلح لي في ذريتي، إني تبت إليك وإني من المسلمين ﴾ [ الآية : ١٥ ].
ويلاحظ أن كتاب الله صدر الآيات المتعلقة بمرحلة الفتوة والشباب في حياة موسى عليه السلام بذكر ما أنعم به عليه من الحكمة والفهم، وسجل اسمه في سجل المحسنين الخالدين من عباده، وكأن ذلك تمهيد لما سيقصه من الحادث الطارئ الذي أقض مضجع موسى قبل النبوة، وهو الحادث الذي لقي فيه على يده أحد الرعايا الفرعونيين مصرعه، عقب لكمة لم يكن ينتظر أن تؤدي إلى وفاته، وذلك حتى لا يسيء أحد الظن بموسى ولا ينتقص من مقامه الرفيع عند الله، فقد كانت تلك اللكمة تأديبا للظالم، وإغاثة للمظلوم، ونصرة للحق، وإلى هذه الحادثة يشير قوله تعالى :﴿ ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها ﴾ ووقت الغفلة يكون عادة إما في وقت القيلولة في منتصف النهار وإما بين العشاءين في الليل، عندما يتفرق الناس ويأوون إلى مساكنهم، وتخلو الطرق ﴿ فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى ﴾ أي دفعه بكفه ﴿ فقضى عليه ﴾ ولم يكن قصد موسى قتله، وإنما قصد دفعه فكانت فيه نفسه، وهو معنى " فقضى عليه "، وكل شيء أتيت عليه وفرغت منه فقد " قضيت عليه ". قال القاضي أبو بكر ( ابن العربي ) : " وإنما أغاثه أي أغاث الذي هو من شيعته وقومه لأن نصر المظلوم دين في الملل كلها، وفرض في جميع الشرائع ".
ولم يلبث موسى بعد هذا الحادث المفاجئ أن استولى عليه الندم، لما آل إليه تدخله في هذا الاشتباك، وتمنى لو أنه دفع الظالم بأيسر مما دفعه، وود لو أن الأقدار مكنته من نصرة المظلوم وإغاثته، من دون أن يقع ما وقع ﴿ قال هذا من عمل الشيطان ﴾ مشيرا إلى ما استولى عليه من الحدة والغضب أثناء الحادث المذكور ﴿ إنه ﴾ أي الشيطان ﴿ عدو مضل مبين ﴾.
وتعبيرا عما أصابه من الحسرة والندم اتجه إلى ربه خاشعا مستغفرا ﴿ قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ﴾ على نهج آدم وزوجه، إذ ﴿ قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ﴾ [ الأعراف : ٢٣ ]، فاستجاب له ربه ﴿ فغفر له إنه هو الغفور الرحيم ﴾ ولا عتاب بعد المغفرة.
وبعد أن غفر الله له عاهد ربه على أن لا يتورط فيما يؤدي إلى مثل ما أدى إليه هذا الحادث، فكم من مظلوم يلتبس أمره على الناس فيظن أنه من الظالمين، وكم من ظالم يخدع الناس بأنه مظلوم وهو من كبار المجرمين ﴿ قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ﴾. وقد استنبط أهل العلم رضي الله عنهم من هذه الآية توجيها أخلاقيا دقيقا، ألا وهو وجوب البعد عن مناصرة الظلمة والفسقة، وعدم إعانتهم على ظلمهم وفسقهم بالمرة، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى :﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ﴾ [ هود : ١١٣ ].
ووصفت الآيات بعد ذلك انعكاسات الحادث على نفسية موسى من جهة وعلى وضعيته القلقة في المجتمع الفرعوني من جهة أخرى، ثم وصفت مضاعفات الحادث، وانتشار خبره بين الناس، وما يمكن أن يتطور إليه، وإلى ذلك كله تشير الآيات التالية :﴿ فأصبح في المدينة خائفا يترقب ﴾ و " الترقب " انتظار الأمر المكروه ﴿ فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه ﴾ من الصراخ، أي يصيح به مستغيثا من فرعوني آخر ﴿ قال له موسى إنك لغوي مبين ﴾ أي ظاهر الغواية واللدد، يقصد بذلك عتابه وتأنيبه
﴿ فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما ﴾ أي عندما خيل للفرعوني أن موسى يهم بدفعه والبطش به ﴿ قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين ﴾ ومعنى " الجبار " في هذا المقام الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم، لا ينظر في العواقب، ولا يدفع بالتي هي أحسن.
ولما وقعت هذه الواقعة وخرجت من طي الكتمان، وشاع أمرها بين الناس، وتردد اسم موسى بصفته مسؤولا عنها، هم آل فرعون بمؤاخذته عليها ﴿ وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين ﴾، والرجل الذي اطلع على هذا السر من مصدره، وتحمل مشقة الانتقال للإفضاء به إلى موسى في غفلة عن الأنظار، وسباق مع الذين يتعقبون موسى، من زبانية فرعون الأشرار، حتى يخبره الخبر، فيبادر بمغادرة مصر قبل أن تمتد إليه أيديهم، هو فيما ذهب إليه أكثر المفسرين، " مؤمن آل فرعون " نفسه، الذي لم يكن على دين فرعون رغما عن كونه ابن عمه، والذي كان على ملة يوسف قبل أن يتنبأ موسى ويؤمن به. والوصف " بالرجولة " و " الفتوة " لا يلقيه كتاب الله جزافا، وإنما يصف به أصحاب المواقف الحاسمة في نصرة الحق والجهر به والدفاع عنه، والتمسك بحبله والثبات عليه، من أولي العزم الصادقين.
فمن الوصف " بالفتوة " التي هي كمال الصفات في الفتى، قوله تعالى في شأن إبراهيم :﴿ قالوا سمعنا فتى يذكرهم ﴾ [ الأنبياء : ٦٠ ]، وقوله تعالى في شأن أهل الكهف :﴿ إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ﴾ [ الآية : ١٣ ].
ومن الوصف " بالرجولة " التي هي كمال الصفات في الرجل قوله تعالى :﴿ فيه رجال يحبون أن يتطهروا ﴾ [ التوبة : ١٠٨ ]، وقوله تعالى :﴿ رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ﴾ [ النور : ٣٧ ]، وقوله تعالى هنا :﴿ وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى ﴾، على غرار ما سيأتي في سورة يس :﴿ وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى، قال ياقوم اتبعوا المرسلين، اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ﴾ [ الآيتان : ٢٠، ٢١ ]، وفي سورة غافر :﴿ وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ﴾ [ الآية : ٢٨ ].
ومعنى ﴿ يأتمرون بك ﴾ يتشاورون في شأنك، والائتمار في الأصل التشاور، لأن من يحضر جمعا من هذا النوع لا يخلو من أن يشير على الآخرين بأمر من الأمور، في الوقت الذي يشير فيه الآخرون عليه بأمر آخر، ومن ذلك قوله تعالى في آية أخرى :﴿ واتمروا بينكم بمعروف ﴾ [ الطلاق : ٦ ] أي ليأمر بعضكم بعضا بالمعروف لا بالمنكر.
وكما دبر أعداء موسى مؤامرة للتخلص منه قبل فوات الأوان، لأنه اشتهر عنه من قبل أن ينبأ تسفيه عقائدهم الباطلة التي ليس عليها دليل ولا برهان، وتجريح تصرفاتهم الجائرة القائمة على الظلم والطغيان، فقد دبر أعداء الرسالة الإلهية التي جاء بها خاتم الأنبياء والمرسلين لرسوله الأمين، نفس المؤامرة، وعنها تحدث كتاب الله في سورة الأنفال فقال تعالى :﴿ وإذ يمكر الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين ﴾ [ الآية : ٣٠ ].
وبمجرد ما اطلع موسى على المؤامرة المدبرة للقضاء عليه من طرف فرعون وآله بادر إلى مغادرة مصر، ثقة بصدق الرجل الذي أسر إليه بذلك الخبر، وعملا بنصيحته الخالصة لوجه الله. وكما قال تعالى عن موسى وهو لا يزال في المدينة :﴿ فأصبح في المدينة خائفا يترقب ﴾، ها هو يصفه وهو يغادر بنفس الوصف ﴿ فخرج منها خائفا يترقب ﴾. قال القرطبي : " والخوف من الأعداء سنة الله في أنبيائه وأوليائه، مع معرفتهم به وثقتهم في نصره. والخوف لا ينافي المعرفة بالله ولا التوكل عليه، فالمخبر عن نفسه بخلاف ما طبع الله عليه نفوس بني آدم كاذب، وقد طبعهم على الهرب مما يضر نفوسهم ويؤلمها أو يتلفها ".
و " المكروه " الذي كان يتوقعه موسى وهو داخل المدينة هو إدانته ومؤاخذته بالحادث الذي اعترض طريقه، و " المكروه " الذي أصبح يتوقعه بعدما فارقها هو أن يدركه الطلب، ويتعرض له في الطريق أعوان فرعون وجنوده، الذين يبحثون عنه في كل مكان.
وبدلا من أن يقصد بنيات الطريق التي يطرقها عادة من يريدون الإفلات من قبضة الحكام، تسترا بها عن الأعين، كما توقع أعوان فرعون وجنوده، وذهبوا يتتبعون أثره فيها، ألهم الله موسى أن يسلك طريقا مأمونة ومطروقة من دون أن يشتبه في أمره أحد. فمضى في طريقه معتصما بالله، ومحتميا بالله، ومحتميا بحماه، واثقا بأن الله تعالى هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وحيثما حل وارتحل، في سهل أو جبل ﴿ قال رب نجني من القوم الظالمين ﴾.
وبعد أن قطع مراحل الطريق في أمن وأمان، واستقبله " صالح مدين " استقبال ترحيب وحنان، قال له وهو يحاوره في نهاية المطاف :﴿ لا تخف نجوت من القوم الظالمين ﴾. كما كانت بداية رحلة موسى وفاتحتها عند الشروع فيها :﴿ رب نجني من القوم الظالمين ﴾، فاستجاب الله دعاءه، وخيب أعداءه، وصدق الله العظيم إذ قال :﴿ ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك، حقا علينا ننج المؤمنين ﴾ [ يونس : ١٠٣ ].
الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب التاسع والثلاثين
يتحدث كتاب الله في آيات هذا الثمن عن الفترة التي قضاها موسى مقيما بمدين لدى صهره ( صالح مدين وشيخها الكبير ) وذلك بعد مفارقته لمصر ونجاته من فرعون وصحبه، ويبدأ الحديث عن هذه الفترة بتوجه موسى إلى ربه قبل التوجه إلى ناحية مدين، الخارجة عن نفوذ فرعون، مستسلما إلى رعاية الله وكفالته، سائلا الحق سبحانه وتعالى أن يهديه سواء السبيل، حتى لا يضل الطريق إليها ويبلغها سالما آمنا، وذلك قوله تعالى حكاية عنه :﴿ ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ﴾. والمراد " بسواء السبيل " وسط الطريق الذي يسلكه إلى مكان مأمنه. قال الرازي : " أما قول موسى :﴿ عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ﴾ فهو نظير قول جده إبراهيم عليه السلام :﴿ إني ذاهب إلى ربي سيهدين ﴾ [ الصافات : ٩٩ ]، وموسى عليه السلام قلما يذكر كلاما في الاستدلال، والجواب، والدعاء، والتضرع، إلا ما ذكره إبراهيم عليه السلام، وهكذا الخلف الصدق ( الصدق جمع صدوق ) للسلف الصالح، صلوات الله عليهم وعلى جميع الطيبين المطهرين ".
وينتقل كتاب الله إلى الحديث عن رحلة موسى من بدايتها إلى نهايتها عندما وافى " ماء مدين " وكان الوقت وقت الهاجرة، ووجد الناس محلقين حول بئرهم التي يسقون منها، إذ هي مورد شربهم وسقيهم، وهم يتناوبون على السقي منها الواحد تلو الآخر، ثم يصبون الماء في الحياض لسقي مواشيهم، وكانوا أهل ماشية، وذلك ما يشير إليه إشارة خاطفة قوله تعالى هنا :﴿ ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ﴾، والمراد " بالأمة " هنا جماعة كثيرة العدد من أناس مختلفين، والظاهر أن موسى عليه السلام كان في حالة عطش من تعب الطريق وشدة الحر، فبادر إلى " ماء مدين " لري عطشه وغسل أطرافه. غير أنه لاحظ في نفس الوقت وقوف امرأتين معتزلتين عن الزحام، مكتفيتين بحجز غنمهما عن حياض الماء وعن الاختلاط بأغنام الرعاة الأشداء الأقوياء، في انتظار انتهائهم من سقي مواشيهم وانصرافهم، عسى أن تنالا نصيبهما من الماء الذي يفضل عن الآخرين إن أسعدهما الحظ، وذلك ما يشير إليه كتاب الله هنا في إيجاز وإعجاز إذ يقول :﴿ ووجد من دونهم امرأتين تذودان ﴾ أي تحجزان أغنامهما عن الماء حتى يفرغ الرعاة وتخلو لهما البئر.
واستغرب موسى أن لا يلتفت أحد من ذلك الجمع الكبير من الرجال إليهما، فيأخذ بيدهما، ويسقي لهما ما يروي غنمهما ويزيل عطشهما، كما تقضي بذلك المروءة والرجولة والنجدة، لا سيما وهما المرأتان الوحيدتان من بينهم جميعا، إذ كان رجال مدين هم الذين يقومون بالسقي من دون النساء كما يفهم من السياق، فلم يلبث أن تقدم إليهما سائلا مستفسرا، ولم تلبثا أن عبرتا له في جواب موجز، لكنه جامع مانع، عن حالهما وعن حال كبير أسرتهما الذي بلغ من الكبر عتيا، فأصبح عاجزا عن الحضور، بنفسه لسقي الماء بدلا منهما، وذلك ما يتضمنه قوله تعالى حكاية عنه وعنهما :﴿ تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ﴾
ومعنى ﴿ ما خطبكما ﴾ أي ما شأنكما الغريب، و " الخطب " هو الأمر الخطير الذي يكثر فيه التخاطب، لكونه غير مقبول ولا مألوف، ولا شك أن الوضع الذي وجد موسى عليه المرأتين، من إهمال الرعاة الرجال لإسعافها، وعدم المبالاة بإعانتها، يعد وضعا غريبا، و " خطبا " عجيبا.
ومعنى ﴿ حتى يصدر الرعاء ﴾ أي حتى ينصرف رعاة الغنم بمواشيهم ويرجعوا من وردهم، و " الرعاء " أحد الجموع التي يجمع عليها لفظ الراعي، ومثله الرعاة.
﴿ فسقى لهما ثم تولى إلى الظل ﴾ قال جار الله الزمخشري : " وإنما فعل هذا رغبة في المعروف وإغاثة للملهوف، والمعنى : أنه وصل إلى ذلك الماء وقد ازدحمت عليه أمة من أناس مختلفة، متكافئة العدد، ورأى الضعيفتين من ورائهم، مع غنيمتهما، مترقبتين لفراغهم، فما أخطأت همته في دين الله تلك الفرصة، مع ما كان به من النصب وسقوط خف القدم والجوع، ولكنه رحمهما فأغاثهما، وكفاهما أمر السقي في مثل تلك الزحمة بقوة قلبه وقوة ساعده، وما آتاه الله من الفضل، في متانة الفطرة، ورصانة الجبلة، وفيه على ما كان به من انتهاز فرصة الاحتساب ترغيب في الخير، وانتهاز فرصه، وبعث على الاقتداء في ذلك بالصالحين، والأخذ بسيرهم ومذاهبهم " انتهى ما قاله الزمخشري.
ومعنى ﴿ تولى إلى الظل ﴾ فارق موقع السقي المعرض لأشعة الشمس، والتجأ إلى ظل ظليل، اتقاء لشدة الحر، واستجماما من عناء السفر الطويل.
وبعدما تنفس موسى الصعداء، من ألم الجوع وشدة الإعياء، وهو وحيد فريد، توجه مرة أخرى إلى ربه الذي نجاه من القوم الظالمين، يسأله الرفد والمدد، والعطاء الذي لا ينفد ﴿ فقال رب إني لما أنزلت من خير فقير ﴾.
والظاهر أن المرأتين اللتين أسعفهما موسى وسقى لهما استرق سمعهما ما تردد على لسانه من التوجه إلى الله، وكان موسى يعتقد أنه لم يسمع أحد صداه، فغلب على ظنهما أن موسى جائع يحتاج إلى ما يسد رمقه، لكنه يتعفف ولا يصرح بالسؤال، وأخبرتا والدهما " بعابر السبيل " الذي وفد على بلدهما، وما يبدو عليه من جميل الخصال وتبدل الأحوال، فقال لهما أبوهما ( صالح مدين وشيخها الكبير ) : " إذا هو جائع وينبغي إطعامه ".
ولو عرفتا موسى حق المعرفة لأدركتا أن همته العالية لا تهتم بالعيش الهنيء، والتمتع بأسباب الرفاهية، وإنما أراد بتوجهه إلى الله ومناجاته إياه إذ قال :﴿ رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ﴾ : أن الخير الذي أسديته إلي يا إلهي عندما نجيتني من القوم الظالمين وحررتني من رق فرعون، منة كبرى طوقت بها عنقي، لا يقوم بحقها أي شكر، وما ينعم به آل فرعون من شفوف وثروة وهناء، لا يساوي عندي شربة ماء، إذ هو في الحقيقة عين الذل والفقر والشقاء، و " الفقر " في حمى الخالق هو " الغنى " على وجه التحقيق ﴿ يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد ﴾ [ فاطر : ١٥ ] أما الغنى في حمى المخلوق فهو الفقر الذي لا فقر بعده.
ووجه صالح مدين إحدى بنتيه إلى موسى تدعوه لينزل ضيفا عليه ويقدم له القرى ﴿ فجاءته إحداهما تمشي على استحياء، قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ﴾ وإنما جاءت " على استحياء "، لأن الحياء الذي هو عبارة عن الحشمة والانقباض عن القبائح أبرز طابع يميز الفتيات العفيفات وكرائم النساء، ولا سيما إذا كان المخاطب رجلا وليس محرما من محارمهن، وإنما قالت بنت صالح مدين :﴿ إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ﴾ فبينت الداعي والغرض لأن الدعوة صادرة منه لا منها، ورفعا لكل شبهة أو ريبة يمكن أن تحمل عليها، وكما أحسن موسى إلى بنتي ( صالح مدين ) عندما سقى لهما، وأراحهما من عناء السقي وطول الانتظار من دون سابق معرفة، ها هو أبوهما الصالح يرى من واجبه أن يقابل الإحسان بالإحسان، وأن يبادر بدعوة موسى إلى ضيافته، واستقباله في بيته مع أعضاء أسرته لمكافأته، وإن لم يكن يعرف عنه إلا مجرد الملامح التي وصفتها له بنته الكبرى وبنته الصغرى.
وأجاب موسى الدعوة التي وجهها إليه صالح مدين على لسان بنته تصديقا لخبرها، فحضر من دون تأخر إلى بيته، ولما تعرف بعضهما إلى بعض، وجد كل منهما في الآخر ما يحببه في الصحبة والمرافقة، نظرا لما وجداه بينهما من مشاكلة وموافقة، وأفضى موسى بذات نفسه إلى صالح مدين، فما وسعه إلا أن يسليه عما فات، ويطمئنه على ما هو آت ﴿ فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد استمد علماؤنا رضي الله عنهم من هذه الآيات البينات أربع فوائد :
ـ الأولى : مشروعية الإجارة، وأنها كانت أمرا معلوما ومشروعا بين أهل مدين، ودليل هذه الفائدة ﴿ قالت إحداهما يا أبت استاجره ﴾. على أن الإجارة أمر متعارف في كل ملة، لأنها من ضروريات الخلطة والتعامل بين الناس.
ـ الثانية : عرض الولي الزواج بالبنت التي إلى نظره على من يراه كفوءا لها.
ـ الثالثة : تولي الولي للعقد عليها.
ـ الرابعة : تقديم ذكر الزواج في عقد الزواج على ذكر الزوجة، لأنه الملتزم للصداق والنفقة، والقيم على الأسرة، ودليل هذه الفوائد الثلاث ﴿ إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين ﴾.
وإنما لم يقع تعيين البنت التي يريد تزويجها هنا، لأن الأمر كان ما يزال مجرد " عرض " لا " عقد "، فلما وقع قبول العرض تعينت الزوجة وتم العقد، وبهذا يتبين أن قصص الأنبياء التي يتحدث عنها كتاب الله مصدر للتوجيه، ومنجم خصب للاستنباط، علاوة على النصوص الصريحة في الأحكام من آيات الذكر الحكيم، وسنة رسوله الكريم، قال تعالى في سورة الأنعام :﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ [ الآية : ٩٠ ]، وقال تعالى في نفس السورة :﴿ واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ﴾ [ الآية : ٨٧ ].
تعليق وتحقيق حول الرجل الذي لقيه موسى وبقي اسمه " مبهما " في طي الكتمان من دون أن يكشف عنه القرآن.
والآن وبعد أن فرغنا من تفسير الآيات الكريمة المتعلقة بهجرة موسى من مصر وحلوله بأرض مدين، وما جرى له مع بنتي " شيخ مدين الكبير " وما انتهى إليه أمره معه من مؤاجرة ومصاهرة، وإقامة بجواره خلال عشر سنوات، من حق أي سائل أن يتساءل : من هو ذلك " الشيخ الكبير " الذي لم يصرح كتاب الله باسمه، وإنما تركه " مبهما " ؟ هل صحيح ما جرى على كثير من الألسنة والأقلام، من أن المراد به هو نفس النبي شعيب عليه السلام ؟ أم ان ذلك مجرد تخمين أو التباس، أوقع فيه ما هو متعارف من كون " مدين " هي وطن النبي " شعيب "، وكون " شعيب " هو " أخ مدين " المرسل إلى أهلها، حتى أصبح اسم " مدين " مقرونا باسم " شعيب " واسم " شعيب " مقرونا باسم " مدين "، من باب " تداعي الخواطر والمعاني والأفكار " ؟
وجوابا على هذا السؤال الملح نقدم الملاحظات التالية التي انتهينا إليها، بعد أن أعدنا النظر في هذا الموضوع، ودققنا البحث فيه بقدر المستطاع.
ـ أولا : إن شعيبا عليه السلام ـ حسبما حكى عنه كتاب الله ـ لم يكن فريدا ولا وحيدا دون أتباع ولا أنصار، بل كان له ـ كبقية الأنبياء ـ " رهط " من قومه المومنين به يقفون بجانبه في الشدة والرخاء، والسراء والضراء، حتى أن كفار مدين ـ رغما عن مهاجمتهم إياه وتحديهم له ـ لم يسعهم إلا الاعتراف بأن له عصبة قوية تقف في وجوههم، وتدفع عنه أذاهم، وهم يتفادون المواجهة معها، بدليل قولهم لشعيب وهم يخاطبونه :﴿ ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ﴾ كما حكى عنهم كتاب الله في سورة هود [ الآية : ٩١ ]، بينما " الشيخ الكبير " الذي سقى موسى لبناته يصوره كتاب الله فريدا وحيدا عاجزا عن القيام بشؤونه، ولذلك لجأ إلى تكليف بناته برعي غنمه وسقيها، وعندما يرد بناته " ماء مدين " يقفن منتظرات، من دون أن يبادر أحد من الرعاة الأشداء إلى مساعدتهن، اللهم إلا هذا الغريب و " عابر السبيل " الذي وفد من مصر إلى مدين ذات يوم، قبل أن ينبأ، واسمه " موسى "، ولو كان " الشيخ الكبير " الذي لقي موسى بناته هو نفس النبي شعيب عليه السلام لما وكله " رهطه " والمومنون برسالته إلى نفسه، ولما تركوا بناته يقمن بهذا العمل المضنى، ولكان نبيهم هو أول من يسقون له ويرعون غنمه، ويقومون بخدمته، ولاسيما وهم يرون انه بلغ سن الشيخوخة والكبر، الذي يعجز فيه أغلب الناس عن كثير من الأعمال، ويحتاجون إلى المزيد من البرور والإحسان.
ـ ثانيا : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه "، وفي لفظ آخر :" ما بعث الله نبيا إلا وهو في عز من قومه ومنعة في بلده " ـ رواه الإمام أحمد في مسنده. وهذا الحديث يتفق معناه مع الآية السابقة الواردة في سورة هود، التي تثبت أن لشعيب عليه السلام " رهطا " ينصرونه ويقفون بجانبه، وبذلك كان شعيب عليه السلام فعلا في " عز قومه ومنعة في بلده "، بينما " الشيخ الكبير " الذي لقي موسى بناته لما " ورد ماء مدين " يصوره كتاب الله في عزلة تامة لا يأخذ بيده إلا بناته المحتشمات من دون غيرهن، ولا يأخذ بيدهن أحد، لولا المفاجأة التي حصلت لهن عند حلول موسى بأرض مدين.
ـ ثالثا : إن كتاب الله وضح في سور عديدة المآل الذي آل إليه أمر شعيب عليه السلام، بعد أن بذل كل جهوده في تبليغ الرسالة إلى قومه ومحاجته لهم، ولم يبق له أمل في إيمانه الكثرة الساحقة منهم، وهو أنه " تولى عنهم " وفارقهم بالمرة، غير " آسف عليهم ولا محزون "، ووكلهم إلى عقاب الله وعذابه، فأصاب كفار مدين من العذاب ثلاثة ألوان : عذاب " يوم الظلة "، وهي سحابة اظلتهم، فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم، وعذاب " الصيحة " التي جاءتهم من فوق رؤوسهم، وعذاب " الرجفة " التي جاءتهم من تحت أرجلهم، فزهقت منهم الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام، ﴿ فأصبحوا في دارهم جاثمين ﴾. ومعنى هذا أن قوم مدين الذي أرسل الله إليهم أخاهم شعيبا فكفروا به بادوا وانقرضوا. وإذن " فالأمة من الناس " الذين وجدهم موسى يسقون لما " ورد ماء مدين " لا يمكن أن يكونوا هم قوم شعيب الذين عاقبهم الله وقطع دابرهم، ولا يعقل أن يكونوا من الفئة القليلة التي آمنت به، إذ لو كانوا من المومنين برسالة شعيب، وشعيب لا يزال حيا يرزق بين أظهرهم، لما أهملوا أمره وأمر أهله إلى هذا الحد، بل لا شك أنهم قوم آخرون عمروا هذا المكان، واستقروا به بعد ذهاب أهله وانقراضهم، وانتهاء عصر شعيب ورسالته، ودخولهما في ذمة التاريخ.
ـ رابعا : على فرض أن النبي شعيبا عليه السلام عاش ولم يفارق مدين حتى ادركه موسى، وأنه هو الذي استضافه وصاهره واستأجره، فقضى موسى بجانبه عشر سنوات كاملة، هل يعقل أن لا يتحدث كتاب الله عن عشرتهما الطويلة ـ والحال ان الأول نبي ورسول، والثاني مرشح في علم الله للنبوة والرسالة ـ إلا حديثا مقتضبا لا يتجاوز سبع آيات، من الآية ٢١ إلى الآية ٢٨ في هذا الثمن، ومن دون أن يمس في الصميم أي جانب من جوانب الدين الأساسية، التي طالما حاور شعيب قومه في شأنها، والتي سيحاور موسى في شأنها فرعون وملأه بعد فترة من الزمن، عندما يفارق مدين ويبعث من ربه رسولا. بينما نجد كتاب الله يطيل النفس في الحديث عن لقاء موسى، بعد نبوءته، بعبد من عباد الله آتاه الله من لدنه علما، ويفصل القول في تسجيل حوارهما الممتع والمثير، ويصف المفاجآت التي فوجئ بها موسى من طرف محاوره الصالح الحكيم أدق وصف وأغربه. وها هي سورة الكهف شاهدة على ذلك، فقد خصصت للقائهما اثنتين وعشرين آية، من الآية ٦٠ إلى الآية ٧٢، هذا وموسى وقتئذ هو الرسول، ومحاوره إنما هو رجل صالح علمه الله ما لم يكن يعلم، وليس في عداد الأنبياء، ألا يدل هذا كله على أن " الشيخ الكبير " الذي لقيه موسى بمدين لم يكن هو النبي شعيبا عليه السلام ؟
ـ خامسا : إن كتاب الله عندما قص في سورة الأعراف قصة آدم في ست عشرة آية أتبعها بقصص مجموعة من الأنبياء والمرسلين على التتابع، فبدأ بقصة نوح مع قومه، التي استغرقت خمس آيات، أولها :﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ﴾، ثم ثنى بقصة هود مع عاد، التي استغرقت سبع آيات، أولها :﴿ وإلى عاد أخاهم هودا ﴾، ثم ثلث بقصة صالح مع ثمود، التي استغرقت سبع آيات أيضا، أولها :﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا ﴾، ثم ربع بقصة لوط مع قومه، التي استغرقت أربع آيات، أولها :﴿ ولوطا إذ قال لقومه ﴾، ثم خمس بقصة شعيب مع مدين، التي استغرقت ثمان آيات، أولها :﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا ﴾، وعقب على قصص هذه المجموعة من الرسل بقوله تعالى :﴿ تلك القرى نقص عليك من أنبائها، ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليومنوا ﴾ إلى قوله تعالى تعقيبا على الجميع، وإلحاقا بكل ما سبق من أخبار أولئك الرسل وأقوامهم :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه ﴾، واستغرقت قصة موسى التي جاءت مستقلة عما سبقها من قصص الرسل السابقين أربعا وخمسين آية. قال الزمخشري :" الضمير في قوله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ للرسل أو للأمم، عني الأمم التي أرسلوا إليها ". وقال ابن كثير :" يقول تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ أي من بعد الرسل المتقدم ذكرهم كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر أنبياء الله أجمعين، ﴿ موسى بآياتنا ﴾ أي بحججنا ودلائلنا البينة " انتهى كلام ابن كثير. وقال علاء الدين المعروف بالخازن :" قوله عز وجل :﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ يعني ثم بعثنا بعد الأنبياء الذين تقدم ذكرهم، وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام ﴿ موسى بآياتنا ﴾ يعني بحججنا وأدلتنا الدالة على صدقه " انتهى كلام الخازن. وبشهادة هذه الآية الصريحة الواردة في سورة الأعراف وتفسيرها البين يتضح لكل ذي عينين أن شعيبا عليه السلام، كان سابقا على موسى، ولم يكن معاصرا له حتى يمكن أن يتم بينهما اللقاء، وإذن " فالشيخ الكبير " الذي آجر موسى وصاهره ليس هو شعيب المعروف " بخطيب الأنبياء "، لكن الظاهر من حاله ومقاله أنه أحد الصالحين الأتقياء.
قال ابن كثير ما نصه :" قد اختلف المفسرون في هذا الرجل من هو على أقوال : أحدهما انه شعيب النبي عليه السلام الذي أرسل إلى أهل مدين، وهذا هو المشهور عند كثير من العلماء، وقال آخرون : بل كان ابن أخي شعيب، وقيل رجل مومن من قوم شعيب، وقال آخرون : كان شعيب قبل زمان موسى عليه السلام بمدة طويلة، لأنه قال لقومه :( وما قوم لوط منكم ببعيد } وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل عليه السلام بنص القرآن، وقد علم أنه كان بين الخليل وموسى عليهما السلام مدة طويلة تزيد على أربعمائة سنة، كما ذكره غير واحد، وما قيل : إن شعيبا عاش مدة طويلة إنما هو ـ والله أعلم ـ احتراز من هذا الإشكال. ثم من المقوي لكونه ليس بشعيب أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه في القرآن ها هنا، وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى لم يصح إسناده ". ثم أشار ابن كثير إلى بعض الأقوال الأخرى التي حاولت تعيين الرجل الذي لقيه موسى، رغما عن " إبهام " القرآن لاسمه، وختم كلامه بما انفصل عليه ابن جرير الطبري في الموضوع من دون أدنى اعتراض إذ قال :" الصواب أن هذا لا يدرك إلا بخبر، ولا خبر تجب به الحجة في ذلك "، وإذن فلنقف عند حدود القرآن، فيما " أبهمه " ولم يثبت في شأنه أي بيان، والله تعالى أعلم فيما " أبهمه " ولم يثبت في شأنه أي بيان، والله تعالى أعلم.

وحيث أن صالح مدين كانت له أغنام ولم يكن لديه أجير يرعى غنمه، وإنما كانت بنتاه هما اللتان تسوقان الغنم مكان الرعاة، لكونه لا عون له سواهما، فقد انتهزت إحدى بنتيه فرصة وجود موسى ضيفا على أبيها، واقترحت عليه أن يستأجر موسى ليتولى رعي الغنم، وتستريح هي وأختها من عبئها المضني ﴿ قالت إحداهما يا أبت استاجره ﴾ ودعمت ترشيحها موسى لهذه المهمة بكونه يتوفر فيه وصفان اثنان قلما يجتمعان في كثير من الناس، وكل منهما له أهمية بالغة بالنسبة لأية مهمة، صغر شأنها أو كبر : الوصف الأول أنه " قوي "، والوصف الثاني أنه " أمين "، إذ قالت، فجرى قولها مجرى المثل :﴿ إن خير من استاجرت القوي الأمين ﴾.
وسبق في سورة النمل على لسان العفريت من الجن وهو يرشح نفسه لنقل عرش ملكة سبأ من مقرها إلى بلاط سليمان قبل أن يقوم من مقامه : ﴿ أنا آتيناك به من قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين ﴾، فدعم ترشيحه لتلك المهمة بكونه " قويا " على نقل العرش، وكونه " أمينا " على ما فيه، والمراد " بالقوة " في هذا المقام ما يشمل القوة الجسمية والقوة الفكرية، من فطنة وكياسة، وسرعة بديهة، وحسن تصرف، ومن كان قوي الجسم ضعيف العقل، أو قوي العقل لكنه ضعيف الجسم، لا ينهض بالمهمة الموكولة إليه، ويتسرب الخلل إلى العمل المكلف به، بقدر ما هو عليه من ضعف جسمي أو ضعف فكري، أما " الأمانة " فهي بالنسبة لكل عامل صمام الأمان، الذي يحول بينه وبين الغش والكسل والإهمال، ويحميه من سوء التصرف والرشوة والاستغلال، قال أحد العلماء الحكماء : " إذا اجتمعت هاتان الخصلتان الكفاية والامانة في القائم بأمرك، فقد فرغ بالك، وتم مرادك ".
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد استمد علماؤنا رضي الله عنهم من هذه الآيات البينات أربع فوائد :
ـ الأولى : مشروعية الإجارة، وأنها كانت أمرا معلوما ومشروعا بين أهل مدين، ودليل هذه الفائدة ﴿ قالت إحداهما يا أبت استاجره ﴾. على أن الإجارة أمر متعارف في كل ملة، لأنها من ضروريات الخلطة والتعامل بين الناس.
ـ الثانية : عرض الولي الزواج بالبنت التي إلى نظره على من يراه كفوءا لها.
ـ الثالثة : تولي الولي للعقد عليها.
ـ الرابعة : تقديم ذكر الزواج في عقد الزواج على ذكر الزوجة، لأنه الملتزم للصداق والنفقة، والقيم على الأسرة، ودليل هذه الفوائد الثلاث ﴿ إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين ﴾.
وإنما لم يقع تعيين البنت التي يريد تزويجها هنا، لأن الأمر كان ما يزال مجرد " عرض " لا " عقد "، فلما وقع قبول العرض تعينت الزوجة وتم العقد، وبهذا يتبين أن قصص الأنبياء التي يتحدث عنها كتاب الله مصدر للتوجيه، ومنجم خصب للاستنباط، علاوة على النصوص الصريحة في الأحكام من آيات الذكر الحكيم، وسنة رسوله الكريم، قال تعالى في سورة الأنعام :﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ [ الآية : ٩٠ ]، وقال تعالى في نفس السورة :﴿ واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ﴾ [ الآية : ٨٧ ].
تعليق وتحقيق حول الرجل الذي لقيه موسى وبقي اسمه " مبهما " في طي الكتمان من دون أن يكشف عنه القرآن.
والآن وبعد أن فرغنا من تفسير الآيات الكريمة المتعلقة بهجرة موسى من مصر وحلوله بأرض مدين، وما جرى له مع بنتي " شيخ مدين الكبير " وما انتهى إليه أمره معه من مؤاجرة ومصاهرة، وإقامة بجواره خلال عشر سنوات، من حق أي سائل أن يتساءل : من هو ذلك " الشيخ الكبير " الذي لم يصرح كتاب الله باسمه، وإنما تركه " مبهما " ؟ هل صحيح ما جرى على كثير من الألسنة والأقلام، من أن المراد به هو نفس النبي شعيب عليه السلام ؟ أم ان ذلك مجرد تخمين أو التباس، أوقع فيه ما هو متعارف من كون " مدين " هي وطن النبي " شعيب "، وكون " شعيب " هو " أخ مدين " المرسل إلى أهلها، حتى أصبح اسم " مدين " مقرونا باسم " شعيب " واسم " شعيب " مقرونا باسم " مدين "، من باب " تداعي الخواطر والمعاني والأفكار " ؟
وجوابا على هذا السؤال الملح نقدم الملاحظات التالية التي انتهينا إليها، بعد أن أعدنا النظر في هذا الموضوع، ودققنا البحث فيه بقدر المستطاع.
ـ أولا : إن شعيبا عليه السلام ـ حسبما حكى عنه كتاب الله ـ لم يكن فريدا ولا وحيدا دون أتباع ولا أنصار، بل كان له ـ كبقية الأنبياء ـ " رهط " من قومه المومنين به يقفون بجانبه في الشدة والرخاء، والسراء والضراء، حتى أن كفار مدين ـ رغما عن مهاجمتهم إياه وتحديهم له ـ لم يسعهم إلا الاعتراف بأن له عصبة قوية تقف في وجوههم، وتدفع عنه أذاهم، وهم يتفادون المواجهة معها، بدليل قولهم لشعيب وهم يخاطبونه :﴿ ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ﴾ كما حكى عنهم كتاب الله في سورة هود [ الآية : ٩١ ]، بينما " الشيخ الكبير " الذي سقى موسى لبناته يصوره كتاب الله فريدا وحيدا عاجزا عن القيام بشؤونه، ولذلك لجأ إلى تكليف بناته برعي غنمه وسقيها، وعندما يرد بناته " ماء مدين " يقفن منتظرات، من دون أن يبادر أحد من الرعاة الأشداء إلى مساعدتهن، اللهم إلا هذا الغريب و " عابر السبيل " الذي وفد من مصر إلى مدين ذات يوم، قبل أن ينبأ، واسمه " موسى "، ولو كان " الشيخ الكبير " الذي لقي موسى بناته هو نفس النبي شعيب عليه السلام لما وكله " رهطه " والمومنون برسالته إلى نفسه، ولما تركوا بناته يقمن بهذا العمل المضنى، ولكان نبيهم هو أول من يسقون له ويرعون غنمه، ويقومون بخدمته، ولاسيما وهم يرون انه بلغ سن الشيخوخة والكبر، الذي يعجز فيه أغلب الناس عن كثير من الأعمال، ويحتاجون إلى المزيد من البرور والإحسان.
ـ ثانيا : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه "، وفي لفظ آخر :" ما بعث الله نبيا إلا وهو في عز من قومه ومنعة في بلده " ـ رواه الإمام أحمد في مسنده. وهذا الحديث يتفق معناه مع الآية السابقة الواردة في سورة هود، التي تثبت أن لشعيب عليه السلام " رهطا " ينصرونه ويقفون بجانبه، وبذلك كان شعيب عليه السلام فعلا في " عز قومه ومنعة في بلده "، بينما " الشيخ الكبير " الذي لقي موسى بناته لما " ورد ماء مدين " يصوره كتاب الله في عزلة تامة لا يأخذ بيده إلا بناته المحتشمات من دون غيرهن، ولا يأخذ بيدهن أحد، لولا المفاجأة التي حصلت لهن عند حلول موسى بأرض مدين.
ـ ثالثا : إن كتاب الله وضح في سور عديدة المآل الذي آل إليه أمر شعيب عليه السلام، بعد أن بذل كل جهوده في تبليغ الرسالة إلى قومه ومحاجته لهم، ولم يبق له أمل في إيمانه الكثرة الساحقة منهم، وهو أنه " تولى عنهم " وفارقهم بالمرة، غير " آسف عليهم ولا محزون "، ووكلهم إلى عقاب الله وعذابه، فأصاب كفار مدين من العذاب ثلاثة ألوان : عذاب " يوم الظلة "، وهي سحابة اظلتهم، فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم، وعذاب " الصيحة " التي جاءتهم من فوق رؤوسهم، وعذاب " الرجفة " التي جاءتهم من تحت أرجلهم، فزهقت منهم الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام، ﴿ فأصبحوا في دارهم جاثمين ﴾. ومعنى هذا أن قوم مدين الذي أرسل الله إليهم أخاهم شعيبا فكفروا به بادوا وانقرضوا. وإذن " فالأمة من الناس " الذين وجدهم موسى يسقون لما " ورد ماء مدين " لا يمكن أن يكونوا هم قوم شعيب الذين عاقبهم الله وقطع دابرهم، ولا يعقل أن يكونوا من الفئة القليلة التي آمنت به، إذ لو كانوا من المومنين برسالة شعيب، وشعيب لا يزال حيا يرزق بين أظهرهم، لما أهملوا أمره وأمر أهله إلى هذا الحد، بل لا شك أنهم قوم آخرون عمروا هذا المكان، واستقروا به بعد ذهاب أهله وانقراضهم، وانتهاء عصر شعيب ورسالته، ودخولهما في ذمة التاريخ.
ـ رابعا : على فرض أن النبي شعيبا عليه السلام عاش ولم يفارق مدين حتى ادركه موسى، وأنه هو الذي استضافه وصاهره واستأجره، فقضى موسى بجانبه عشر سنوات كاملة، هل يعقل أن لا يتحدث كتاب الله عن عشرتهما الطويلة ـ والحال ان الأول نبي ورسول، والثاني مرشح في علم الله للنبوة والرسالة ـ إلا حديثا مقتضبا لا يتجاوز سبع آيات، من الآية ٢١ إلى الآية ٢٨ في هذا الثمن، ومن دون أن يمس في الصميم أي جانب من جوانب الدين الأساسية، التي طالما حاور شعيب قومه في شأنها، والتي سيحاور موسى في شأنها فرعون وملأه بعد فترة من الزمن، عندما يفارق مدين ويبعث من ربه رسولا. بينما نجد كتاب الله يطيل النفس في الحديث عن لقاء موسى، بعد نبوءته، بعبد من عباد الله آتاه الله من لدنه علما، ويفصل القول في تسجيل حوارهما الممتع والمثير، ويصف المفاجآت التي فوجئ بها موسى من طرف محاوره الصالح الحكيم أدق وصف وأغربه. وها هي سورة الكهف شاهدة على ذلك، فقد خصصت للقائهما اثنتين وعشرين آية، من الآية ٦٠ إلى الآية ٧٢، هذا وموسى وقتئذ هو الرسول، ومحاوره إنما هو رجل صالح علمه الله ما لم يكن يعلم، وليس في عداد الأنبياء، ألا يدل هذا كله على أن " الشيخ الكبير " الذي لقيه موسى بمدين لم يكن هو النبي شعيبا عليه السلام ؟
ـ خامسا : إن كتاب الله عندما قص في سورة الأعراف قصة آدم في ست عشرة آية أتبعها بقصص مجموعة من الأنبياء والمرسلين على التتابع، فبدأ بقصة نوح مع قومه، التي استغرقت خمس آيات، أولها :﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ﴾، ثم ثنى بقصة هود مع عاد، التي استغرقت سبع آيات، أولها :﴿ وإلى عاد أخاهم هودا ﴾، ثم ثلث بقصة صالح مع ثمود، التي استغرقت سبع آيات أيضا، أولها :﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا ﴾، ثم ربع بقصة لوط مع قومه، التي استغرقت أربع آيات، أولها :﴿ ولوطا إذ قال لقومه ﴾، ثم خمس بقصة شعيب مع مدين، التي استغرقت ثمان آيات، أولها :﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا ﴾، وعقب على قصص هذه المجموعة من الرسل بقوله تعالى :﴿ تلك القرى نقص عليك من أنبائها، ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليومنوا ﴾ إلى قوله تعالى تعقيبا على الجميع، وإلحاقا بكل ما سبق من أخبار أولئك الرسل وأقوامهم :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه ﴾، واستغرقت قصة موسى التي جاءت مستقلة عما سبقها من قصص الرسل السابقين أربعا وخمسين آية. قال الزمخشري :" الضمير في قوله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ للرسل أو للأمم، عني الأمم التي أرسلوا إليها ". وقال ابن كثير :" يقول تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ أي من بعد الرسل المتقدم ذكرهم كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر أنبياء الله أجمعين، ﴿ موسى بآياتنا ﴾ أي بحججنا ودلائلنا البينة " انتهى كلام ابن كثير. وقال علاء الدين المعروف بالخازن :" قوله عز وجل :﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ يعني ثم بعثنا بعد الأنبياء الذين تقدم ذكرهم، وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام ﴿ موسى بآياتنا ﴾ يعني بحججنا وأدلتنا الدالة على صدقه " انتهى كلام الخازن. وبشهادة هذه الآية الصريحة الواردة في سورة الأعراف وتفسيرها البين يتضح لكل ذي عينين أن شعيبا عليه السلام، كان سابقا على موسى، ولم يكن معاصرا له حتى يمكن أن يتم بينهما اللقاء، وإذن " فالشيخ الكبير " الذي آجر موسى وصاهره ليس هو شعيب المعروف " بخطيب الأنبياء "، لكن الظاهر من حاله ومقاله أنه أحد الصالحين الأتقياء.
قال ابن كثير ما نصه :" قد اختلف المفسرون في هذا الرجل من هو على أقوال : أحدهما انه شعيب النبي عليه السلام الذي أرسل إلى أهل مدين، وهذا هو المشهور عند كثير من العلماء، وقال آخرون : بل كان ابن أخي شعيب، وقيل رجل مومن من قوم شعيب، وقال آخرون : كان شعيب قبل زمان موسى عليه السلام بمدة طويلة، لأنه قال لقومه :( وما قوم لوط منكم ببعيد } وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل عليه السلام بنص القرآن، وقد علم أنه كان بين الخليل وموسى عليهما السلام مدة طويلة تزيد على أربعمائة سنة، كما ذكره غير واحد، وما قيل : إن شعيبا عاش مدة طويلة إنما هو ـ والله أعلم ـ احتراز من هذا الإشكال. ثم من المقوي لكونه ليس بشعيب أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه في القرآن ها هنا، وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى لم يصح إسناده ". ثم أشار ابن كثير إلى بعض الأقوال الأخرى التي حاولت تعيين الرجل الذي لقيه موسى، رغما عن " إبهام " القرآن لاسمه، وختم كلامه بما انفصل عليه ابن جرير الطبري في الموضوع من دون أدنى اعتراض إذ قال :" الصواب أن هذا لا يدرك إلا بخبر، ولا خبر تجب به الحجة في ذلك "، وإذن فلنقف عند حدود القرآن، فيما " أبهمه " ولم يثبت في شأنه أي بيان، والله تعالى أعلم فيما " أبهمه " ولم يثبت في شأنه أي بيان، والله تعالى أعلم.

واقتناعا من ( صالح مدين ) وشيخها الكبير بما وصفت به بنته ضيفه موسى، حيث تأكدت فراستها فيه بفراسته هو وحديثه معه، وإلماما منه بما عليه موسى من كفاءة في الدين والحسب والنسب، وإحساسا منه بأن موسى يمر بمرحلة صقل وتصفية، وتهذيب وتربية، فكر ( صالح مدين ) في أن يرتبط معه برابطة المؤاجرة والمصاهرة، تيمنا به وتبركا، وحيث أن موسى أصبح فقيرا من الدنيا لا يملك ما يدفعه صداقا للزواج المقترح، فقد عرض عليه صالح مدين العمل عنده أجيرا للرعي والسقي خلال ثمان سنين، على أن يكون ما يستحقه فيها عن عمله، من العوض المعلوم، هو مبلغ الصداق، وبهذه الطريقة يضمن استبقاءه إلى جانبه طيلة هذه المدة، ويكون ذلك عاصما له من العودة إلى مصر، حتى لا يصاب فيها بأذى فرعون ﴿ قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تاجرني ثماني حجج ﴾. لكن موسى إذا مضى في عمله ثمان سنين، وأراد أن يتطوع بزيادة سنتين أخريين ليتم عشر سنين، كان أوفى واكمل، وذلك من دون أي إلزام بهذه الزيادة من طرف صالح مدين، ولا التزام بها من طرف موسى ﴿ فإن أتممت عشرا فمن عندك، وما أريد ان أشق عليك، ستجدني إن شاء الله من الصالحين ﴾ أي ستجدني يا موسى من الصالحين في حسن العشرة والوفاء بالعهد، واتكل موسى على توفيق الله ومعونته، في القيام بعمله وخدمته، وأكد لمستأجره أنه سيكون عند حسن ظنه في حسن المعاملة والقيام بالواجب،
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد استمد علماؤنا رضي الله عنهم من هذه الآيات البينات أربع فوائد :
ـ الأولى : مشروعية الإجارة، وأنها كانت أمرا معلوما ومشروعا بين أهل مدين، ودليل هذه الفائدة ﴿ قالت إحداهما يا أبت استاجره ﴾. على أن الإجارة أمر متعارف في كل ملة، لأنها من ضروريات الخلطة والتعامل بين الناس.
ـ الثانية : عرض الولي الزواج بالبنت التي إلى نظره على من يراه كفوءا لها.
ـ الثالثة : تولي الولي للعقد عليها.
ـ الرابعة : تقديم ذكر الزواج في عقد الزواج على ذكر الزوجة، لأنه الملتزم للصداق والنفقة، والقيم على الأسرة، ودليل هذه الفوائد الثلاث ﴿ إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين ﴾.
وإنما لم يقع تعيين البنت التي يريد تزويجها هنا، لأن الأمر كان ما يزال مجرد " عرض " لا " عقد "، فلما وقع قبول العرض تعينت الزوجة وتم العقد، وبهذا يتبين أن قصص الأنبياء التي يتحدث عنها كتاب الله مصدر للتوجيه، ومنجم خصب للاستنباط، علاوة على النصوص الصريحة في الأحكام من آيات الذكر الحكيم، وسنة رسوله الكريم، قال تعالى في سورة الأنعام :﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ [ الآية : ٩٠ ]، وقال تعالى في نفس السورة :﴿ واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ﴾ [ الآية : ٨٧ ].
تعليق وتحقيق حول الرجل الذي لقيه موسى وبقي اسمه " مبهما " في طي الكتمان من دون أن يكشف عنه القرآن.
والآن وبعد أن فرغنا من تفسير الآيات الكريمة المتعلقة بهجرة موسى من مصر وحلوله بأرض مدين، وما جرى له مع بنتي " شيخ مدين الكبير " وما انتهى إليه أمره معه من مؤاجرة ومصاهرة، وإقامة بجواره خلال عشر سنوات، من حق أي سائل أن يتساءل : من هو ذلك " الشيخ الكبير " الذي لم يصرح كتاب الله باسمه، وإنما تركه " مبهما " ؟ هل صحيح ما جرى على كثير من الألسنة والأقلام، من أن المراد به هو نفس النبي شعيب عليه السلام ؟ أم ان ذلك مجرد تخمين أو التباس، أوقع فيه ما هو متعارف من كون " مدين " هي وطن النبي " شعيب "، وكون " شعيب " هو " أخ مدين " المرسل إلى أهلها، حتى أصبح اسم " مدين " مقرونا باسم " شعيب " واسم " شعيب " مقرونا باسم " مدين "، من باب " تداعي الخواطر والمعاني والأفكار " ؟
وجوابا على هذا السؤال الملح نقدم الملاحظات التالية التي انتهينا إليها، بعد أن أعدنا النظر في هذا الموضوع، ودققنا البحث فيه بقدر المستطاع.
ـ أولا : إن شعيبا عليه السلام ـ حسبما حكى عنه كتاب الله ـ لم يكن فريدا ولا وحيدا دون أتباع ولا أنصار، بل كان له ـ كبقية الأنبياء ـ " رهط " من قومه المومنين به يقفون بجانبه في الشدة والرخاء، والسراء والضراء، حتى أن كفار مدين ـ رغما عن مهاجمتهم إياه وتحديهم له ـ لم يسعهم إلا الاعتراف بأن له عصبة قوية تقف في وجوههم، وتدفع عنه أذاهم، وهم يتفادون المواجهة معها، بدليل قولهم لشعيب وهم يخاطبونه :﴿ ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ﴾ كما حكى عنهم كتاب الله في سورة هود [ الآية : ٩١ ]، بينما " الشيخ الكبير " الذي سقى موسى لبناته يصوره كتاب الله فريدا وحيدا عاجزا عن القيام بشؤونه، ولذلك لجأ إلى تكليف بناته برعي غنمه وسقيها، وعندما يرد بناته " ماء مدين " يقفن منتظرات، من دون أن يبادر أحد من الرعاة الأشداء إلى مساعدتهن، اللهم إلا هذا الغريب و " عابر السبيل " الذي وفد من مصر إلى مدين ذات يوم، قبل أن ينبأ، واسمه " موسى "، ولو كان " الشيخ الكبير " الذي لقي موسى بناته هو نفس النبي شعيب عليه السلام لما وكله " رهطه " والمومنون برسالته إلى نفسه، ولما تركوا بناته يقمن بهذا العمل المضنى، ولكان نبيهم هو أول من يسقون له ويرعون غنمه، ويقومون بخدمته، ولاسيما وهم يرون انه بلغ سن الشيخوخة والكبر، الذي يعجز فيه أغلب الناس عن كثير من الأعمال، ويحتاجون إلى المزيد من البرور والإحسان.
ـ ثانيا : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه "، وفي لفظ آخر :" ما بعث الله نبيا إلا وهو في عز من قومه ومنعة في بلده " ـ رواه الإمام أحمد في مسنده. وهذا الحديث يتفق معناه مع الآية السابقة الواردة في سورة هود، التي تثبت أن لشعيب عليه السلام " رهطا " ينصرونه ويقفون بجانبه، وبذلك كان شعيب عليه السلام فعلا في " عز قومه ومنعة في بلده "، بينما " الشيخ الكبير " الذي لقي موسى بناته لما " ورد ماء مدين " يصوره كتاب الله في عزلة تامة لا يأخذ بيده إلا بناته المحتشمات من دون غيرهن، ولا يأخذ بيدهن أحد، لولا المفاجأة التي حصلت لهن عند حلول موسى بأرض مدين.
ـ ثالثا : إن كتاب الله وضح في سور عديدة المآل الذي آل إليه أمر شعيب عليه السلام، بعد أن بذل كل جهوده في تبليغ الرسالة إلى قومه ومحاجته لهم، ولم يبق له أمل في إيمانه الكثرة الساحقة منهم، وهو أنه " تولى عنهم " وفارقهم بالمرة، غير " آسف عليهم ولا محزون "، ووكلهم إلى عقاب الله وعذابه، فأصاب كفار مدين من العذاب ثلاثة ألوان : عذاب " يوم الظلة "، وهي سحابة اظلتهم، فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم، وعذاب " الصيحة " التي جاءتهم من فوق رؤوسهم، وعذاب " الرجفة " التي جاءتهم من تحت أرجلهم، فزهقت منهم الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام، ﴿ فأصبحوا في دارهم جاثمين ﴾. ومعنى هذا أن قوم مدين الذي أرسل الله إليهم أخاهم شعيبا فكفروا به بادوا وانقرضوا. وإذن " فالأمة من الناس " الذين وجدهم موسى يسقون لما " ورد ماء مدين " لا يمكن أن يكونوا هم قوم شعيب الذين عاقبهم الله وقطع دابرهم، ولا يعقل أن يكونوا من الفئة القليلة التي آمنت به، إذ لو كانوا من المومنين برسالة شعيب، وشعيب لا يزال حيا يرزق بين أظهرهم، لما أهملوا أمره وأمر أهله إلى هذا الحد، بل لا شك أنهم قوم آخرون عمروا هذا المكان، واستقروا به بعد ذهاب أهله وانقراضهم، وانتهاء عصر شعيب ورسالته، ودخولهما في ذمة التاريخ.
ـ رابعا : على فرض أن النبي شعيبا عليه السلام عاش ولم يفارق مدين حتى ادركه موسى، وأنه هو الذي استضافه وصاهره واستأجره، فقضى موسى بجانبه عشر سنوات كاملة، هل يعقل أن لا يتحدث كتاب الله عن عشرتهما الطويلة ـ والحال ان الأول نبي ورسول، والثاني مرشح في علم الله للنبوة والرسالة ـ إلا حديثا مقتضبا لا يتجاوز سبع آيات، من الآية ٢١ إلى الآية ٢٨ في هذا الثمن، ومن دون أن يمس في الصميم أي جانب من جوانب الدين الأساسية، التي طالما حاور شعيب قومه في شأنها، والتي سيحاور موسى في شأنها فرعون وملأه بعد فترة من الزمن، عندما يفارق مدين ويبعث من ربه رسولا. بينما نجد كتاب الله يطيل النفس في الحديث عن لقاء موسى، بعد نبوءته، بعبد من عباد الله آتاه الله من لدنه علما، ويفصل القول في تسجيل حوارهما الممتع والمثير، ويصف المفاجآت التي فوجئ بها موسى من طرف محاوره الصالح الحكيم أدق وصف وأغربه. وها هي سورة الكهف شاهدة على ذلك، فقد خصصت للقائهما اثنتين وعشرين آية، من الآية ٦٠ إلى الآية ٧٢، هذا وموسى وقتئذ هو الرسول، ومحاوره إنما هو رجل صالح علمه الله ما لم يكن يعلم، وليس في عداد الأنبياء، ألا يدل هذا كله على أن " الشيخ الكبير " الذي لقيه موسى بمدين لم يكن هو النبي شعيبا عليه السلام ؟
ـ خامسا : إن كتاب الله عندما قص في سورة الأعراف قصة آدم في ست عشرة آية أتبعها بقصص مجموعة من الأنبياء والمرسلين على التتابع، فبدأ بقصة نوح مع قومه، التي استغرقت خمس آيات، أولها :﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ﴾، ثم ثنى بقصة هود مع عاد، التي استغرقت سبع آيات، أولها :﴿ وإلى عاد أخاهم هودا ﴾، ثم ثلث بقصة صالح مع ثمود، التي استغرقت سبع آيات أيضا، أولها :﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا ﴾، ثم ربع بقصة لوط مع قومه، التي استغرقت أربع آيات، أولها :﴿ ولوطا إذ قال لقومه ﴾، ثم خمس بقصة شعيب مع مدين، التي استغرقت ثمان آيات، أولها :﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا ﴾، وعقب على قصص هذه المجموعة من الرسل بقوله تعالى :﴿ تلك القرى نقص عليك من أنبائها، ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليومنوا ﴾ إلى قوله تعالى تعقيبا على الجميع، وإلحاقا بكل ما سبق من أخبار أولئك الرسل وأقوامهم :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه ﴾، واستغرقت قصة موسى التي جاءت مستقلة عما سبقها من قصص الرسل السابقين أربعا وخمسين آية. قال الزمخشري :" الضمير في قوله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ للرسل أو للأمم، عني الأمم التي أرسلوا إليها ". وقال ابن كثير :" يقول تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ أي من بعد الرسل المتقدم ذكرهم كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر أنبياء الله أجمعين، ﴿ موسى بآياتنا ﴾ أي بحججنا ودلائلنا البينة " انتهى كلام ابن كثير. وقال علاء الدين المعروف بالخازن :" قوله عز وجل :﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ يعني ثم بعثنا بعد الأنبياء الذين تقدم ذكرهم، وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام ﴿ موسى بآياتنا ﴾ يعني بحججنا وأدلتنا الدالة على صدقه " انتهى كلام الخازن. وبشهادة هذه الآية الصريحة الواردة في سورة الأعراف وتفسيرها البين يتضح لكل ذي عينين أن شعيبا عليه السلام، كان سابقا على موسى، ولم يكن معاصرا له حتى يمكن أن يتم بينهما اللقاء، وإذن " فالشيخ الكبير " الذي آجر موسى وصاهره ليس هو شعيب المعروف " بخطيب الأنبياء "، لكن الظاهر من حاله ومقاله أنه أحد الصالحين الأتقياء.
قال ابن كثير ما نصه :" قد اختلف المفسرون في هذا الرجل من هو على أقوال : أحدهما انه شعيب النبي عليه السلام الذي أرسل إلى أهل مدين، وهذا هو المشهور عند كثير من العلماء، وقال آخرون : بل كان ابن أخي شعيب، وقيل رجل مومن من قوم شعيب، وقال آخرون : كان شعيب قبل زمان موسى عليه السلام بمدة طويلة، لأنه قال لقومه :( وما قوم لوط منكم ببعيد } وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل عليه السلام بنص القرآن، وقد علم أنه كان بين الخليل وموسى عليهما السلام مدة طويلة تزيد على أربعمائة سنة، كما ذكره غير واحد، وما قيل : إن شعيبا عاش مدة طويلة إنما هو ـ والله أعلم ـ احتراز من هذا الإشكال. ثم من المقوي لكونه ليس بشعيب أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه في القرآن ها هنا، وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى لم يصح إسناده ". ثم أشار ابن كثير إلى بعض الأقوال الأخرى التي حاولت تعيين الرجل الذي لقيه موسى، رغما عن " إبهام " القرآن لاسمه، وختم كلامه بما انفصل عليه ابن جرير الطبري في الموضوع من دون أدنى اعتراض إذ قال :" الصواب أن هذا لا يدرك إلا بخبر، ولا خبر تجب به الحجة في ذلك "، وإذن فلنقف عند حدود القرآن، فيما " أبهمه " ولم يثبت في شأنه أي بيان، والله تعالى أعلم فيما " أبهمه " ولم يثبت في شأنه أي بيان، والله تعالى أعلم.

﴿ قال ذلك بيني وبينك ﴾ : أي هذا تمام قول ونفاذ عقد ﴿ أيما الأجلين قضيت ﴾ أي ثمان سنين أو عشر سنين ﴿ فلا عدوان علي، والله على ما نقول وكيل ﴾ أي على ما تعاهدنا عليه وتواثقنا شاهد ورقيب، اكتفاء منهما بإشهاد الخالق سبحانه وتعالى عليهما من دون حاجة إلى إشهاد أحد من خلقه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد استمد علماؤنا رضي الله عنهم من هذه الآيات البينات أربع فوائد :
ـ الأولى : مشروعية الإجارة، وأنها كانت أمرا معلوما ومشروعا بين أهل مدين، ودليل هذه الفائدة ﴿ قالت إحداهما يا أبت استاجره ﴾. على أن الإجارة أمر متعارف في كل ملة، لأنها من ضروريات الخلطة والتعامل بين الناس.
ـ الثانية : عرض الولي الزواج بالبنت التي إلى نظره على من يراه كفوءا لها.
ـ الثالثة : تولي الولي للعقد عليها.
ـ الرابعة : تقديم ذكر الزواج في عقد الزواج على ذكر الزوجة، لأنه الملتزم للصداق والنفقة، والقيم على الأسرة، ودليل هذه الفوائد الثلاث ﴿ إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين ﴾.
وإنما لم يقع تعيين البنت التي يريد تزويجها هنا، لأن الأمر كان ما يزال مجرد " عرض " لا " عقد "، فلما وقع قبول العرض تعينت الزوجة وتم العقد، وبهذا يتبين أن قصص الأنبياء التي يتحدث عنها كتاب الله مصدر للتوجيه، ومنجم خصب للاستنباط، علاوة على النصوص الصريحة في الأحكام من آيات الذكر الحكيم، وسنة رسوله الكريم، قال تعالى في سورة الأنعام :﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ [ الآية : ٩٠ ]، وقال تعالى في نفس السورة :﴿ واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ﴾ [ الآية : ٨٧ ].
تعليق وتحقيق حول الرجل الذي لقيه موسى وبقي اسمه " مبهما " في طي الكتمان من دون أن يكشف عنه القرآن.
والآن وبعد أن فرغنا من تفسير الآيات الكريمة المتعلقة بهجرة موسى من مصر وحلوله بأرض مدين، وما جرى له مع بنتي " شيخ مدين الكبير " وما انتهى إليه أمره معه من مؤاجرة ومصاهرة، وإقامة بجواره خلال عشر سنوات، من حق أي سائل أن يتساءل : من هو ذلك " الشيخ الكبير " الذي لم يصرح كتاب الله باسمه، وإنما تركه " مبهما " ؟ هل صحيح ما جرى على كثير من الألسنة والأقلام، من أن المراد به هو نفس النبي شعيب عليه السلام ؟ أم ان ذلك مجرد تخمين أو التباس، أوقع فيه ما هو متعارف من كون " مدين " هي وطن النبي " شعيب "، وكون " شعيب " هو " أخ مدين " المرسل إلى أهلها، حتى أصبح اسم " مدين " مقرونا باسم " شعيب " واسم " شعيب " مقرونا باسم " مدين "، من باب " تداعي الخواطر والمعاني والأفكار " ؟
وجوابا على هذا السؤال الملح نقدم الملاحظات التالية التي انتهينا إليها، بعد أن أعدنا النظر في هذا الموضوع، ودققنا البحث فيه بقدر المستطاع.
ـ أولا : إن شعيبا عليه السلام ـ حسبما حكى عنه كتاب الله ـ لم يكن فريدا ولا وحيدا دون أتباع ولا أنصار، بل كان له ـ كبقية الأنبياء ـ " رهط " من قومه المومنين به يقفون بجانبه في الشدة والرخاء، والسراء والضراء، حتى أن كفار مدين ـ رغما عن مهاجمتهم إياه وتحديهم له ـ لم يسعهم إلا الاعتراف بأن له عصبة قوية تقف في وجوههم، وتدفع عنه أذاهم، وهم يتفادون المواجهة معها، بدليل قولهم لشعيب وهم يخاطبونه :﴿ ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ﴾ كما حكى عنهم كتاب الله في سورة هود [ الآية : ٩١ ]، بينما " الشيخ الكبير " الذي سقى موسى لبناته يصوره كتاب الله فريدا وحيدا عاجزا عن القيام بشؤونه، ولذلك لجأ إلى تكليف بناته برعي غنمه وسقيها، وعندما يرد بناته " ماء مدين " يقفن منتظرات، من دون أن يبادر أحد من الرعاة الأشداء إلى مساعدتهن، اللهم إلا هذا الغريب و " عابر السبيل " الذي وفد من مصر إلى مدين ذات يوم، قبل أن ينبأ، واسمه " موسى "، ولو كان " الشيخ الكبير " الذي لقي موسى بناته هو نفس النبي شعيب عليه السلام لما وكله " رهطه " والمومنون برسالته إلى نفسه، ولما تركوا بناته يقمن بهذا العمل المضنى، ولكان نبيهم هو أول من يسقون له ويرعون غنمه، ويقومون بخدمته، ولاسيما وهم يرون انه بلغ سن الشيخوخة والكبر، الذي يعجز فيه أغلب الناس عن كثير من الأعمال، ويحتاجون إلى المزيد من البرور والإحسان.
ـ ثانيا : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه "، وفي لفظ آخر :" ما بعث الله نبيا إلا وهو في عز من قومه ومنعة في بلده " ـ رواه الإمام أحمد في مسنده. وهذا الحديث يتفق معناه مع الآية السابقة الواردة في سورة هود، التي تثبت أن لشعيب عليه السلام " رهطا " ينصرونه ويقفون بجانبه، وبذلك كان شعيب عليه السلام فعلا في " عز قومه ومنعة في بلده "، بينما " الشيخ الكبير " الذي لقي موسى بناته لما " ورد ماء مدين " يصوره كتاب الله في عزلة تامة لا يأخذ بيده إلا بناته المحتشمات من دون غيرهن، ولا يأخذ بيدهن أحد، لولا المفاجأة التي حصلت لهن عند حلول موسى بأرض مدين.
ـ ثالثا : إن كتاب الله وضح في سور عديدة المآل الذي آل إليه أمر شعيب عليه السلام، بعد أن بذل كل جهوده في تبليغ الرسالة إلى قومه ومحاجته لهم، ولم يبق له أمل في إيمانه الكثرة الساحقة منهم، وهو أنه " تولى عنهم " وفارقهم بالمرة، غير " آسف عليهم ولا محزون "، ووكلهم إلى عقاب الله وعذابه، فأصاب كفار مدين من العذاب ثلاثة ألوان : عذاب " يوم الظلة "، وهي سحابة اظلتهم، فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم، وعذاب " الصيحة " التي جاءتهم من فوق رؤوسهم، وعذاب " الرجفة " التي جاءتهم من تحت أرجلهم، فزهقت منهم الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام، ﴿ فأصبحوا في دارهم جاثمين ﴾. ومعنى هذا أن قوم مدين الذي أرسل الله إليهم أخاهم شعيبا فكفروا به بادوا وانقرضوا. وإذن " فالأمة من الناس " الذين وجدهم موسى يسقون لما " ورد ماء مدين " لا يمكن أن يكونوا هم قوم شعيب الذين عاقبهم الله وقطع دابرهم، ولا يعقل أن يكونوا من الفئة القليلة التي آمنت به، إذ لو كانوا من المومنين برسالة شعيب، وشعيب لا يزال حيا يرزق بين أظهرهم، لما أهملوا أمره وأمر أهله إلى هذا الحد، بل لا شك أنهم قوم آخرون عمروا هذا المكان، واستقروا به بعد ذهاب أهله وانقراضهم، وانتهاء عصر شعيب ورسالته، ودخولهما في ذمة التاريخ.
ـ رابعا : على فرض أن النبي شعيبا عليه السلام عاش ولم يفارق مدين حتى ادركه موسى، وأنه هو الذي استضافه وصاهره واستأجره، فقضى موسى بجانبه عشر سنوات كاملة، هل يعقل أن لا يتحدث كتاب الله عن عشرتهما الطويلة ـ والحال ان الأول نبي ورسول، والثاني مرشح في علم الله للنبوة والرسالة ـ إلا حديثا مقتضبا لا يتجاوز سبع آيات، من الآية ٢١ إلى الآية ٢٨ في هذا الثمن، ومن دون أن يمس في الصميم أي جانب من جوانب الدين الأساسية، التي طالما حاور شعيب قومه في شأنها، والتي سيحاور موسى في شأنها فرعون وملأه بعد فترة من الزمن، عندما يفارق مدين ويبعث من ربه رسولا. بينما نجد كتاب الله يطيل النفس في الحديث عن لقاء موسى، بعد نبوءته، بعبد من عباد الله آتاه الله من لدنه علما، ويفصل القول في تسجيل حوارهما الممتع والمثير، ويصف المفاجآت التي فوجئ بها موسى من طرف محاوره الصالح الحكيم أدق وصف وأغربه. وها هي سورة الكهف شاهدة على ذلك، فقد خصصت للقائهما اثنتين وعشرين آية، من الآية ٦٠ إلى الآية ٧٢، هذا وموسى وقتئذ هو الرسول، ومحاوره إنما هو رجل صالح علمه الله ما لم يكن يعلم، وليس في عداد الأنبياء، ألا يدل هذا كله على أن " الشيخ الكبير " الذي لقيه موسى بمدين لم يكن هو النبي شعيبا عليه السلام ؟
ـ خامسا : إن كتاب الله عندما قص في سورة الأعراف قصة آدم في ست عشرة آية أتبعها بقصص مجموعة من الأنبياء والمرسلين على التتابع، فبدأ بقصة نوح مع قومه، التي استغرقت خمس آيات، أولها :﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ﴾، ثم ثنى بقصة هود مع عاد، التي استغرقت سبع آيات، أولها :﴿ وإلى عاد أخاهم هودا ﴾، ثم ثلث بقصة صالح مع ثمود، التي استغرقت سبع آيات أيضا، أولها :﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا ﴾، ثم ربع بقصة لوط مع قومه، التي استغرقت أربع آيات، أولها :﴿ ولوطا إذ قال لقومه ﴾، ثم خمس بقصة شعيب مع مدين، التي استغرقت ثمان آيات، أولها :﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا ﴾، وعقب على قصص هذه المجموعة من الرسل بقوله تعالى :﴿ تلك القرى نقص عليك من أنبائها، ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليومنوا ﴾ إلى قوله تعالى تعقيبا على الجميع، وإلحاقا بكل ما سبق من أخبار أولئك الرسل وأقوامهم :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه ﴾، واستغرقت قصة موسى التي جاءت مستقلة عما سبقها من قصص الرسل السابقين أربعا وخمسين آية. قال الزمخشري :" الضمير في قوله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ للرسل أو للأمم، عني الأمم التي أرسلوا إليها ". وقال ابن كثير :" يقول تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ أي من بعد الرسل المتقدم ذكرهم كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر أنبياء الله أجمعين، ﴿ موسى بآياتنا ﴾ أي بحججنا ودلائلنا البينة " انتهى كلام ابن كثير. وقال علاء الدين المعروف بالخازن :" قوله عز وجل :﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ يعني ثم بعثنا بعد الأنبياء الذين تقدم ذكرهم، وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام ﴿ موسى بآياتنا ﴾ يعني بحججنا وأدلتنا الدالة على صدقه " انتهى كلام الخازن. وبشهادة هذه الآية الصريحة الواردة في سورة الأعراف وتفسيرها البين يتضح لكل ذي عينين أن شعيبا عليه السلام، كان سابقا على موسى، ولم يكن معاصرا له حتى يمكن أن يتم بينهما اللقاء، وإذن " فالشيخ الكبير " الذي آجر موسى وصاهره ليس هو شعيب المعروف " بخطيب الأنبياء "، لكن الظاهر من حاله ومقاله أنه أحد الصالحين الأتقياء.
قال ابن كثير ما نصه :" قد اختلف المفسرون في هذا الرجل من هو على أقوال : أحدهما انه شعيب النبي عليه السلام الذي أرسل إلى أهل مدين، وهذا هو المشهور عند كثير من العلماء، وقال آخرون : بل كان ابن أخي شعيب، وقيل رجل مومن من قوم شعيب، وقال آخرون : كان شعيب قبل زمان موسى عليه السلام بمدة طويلة، لأنه قال لقومه :( وما قوم لوط منكم ببعيد } وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل عليه السلام بنص القرآن، وقد علم أنه كان بين الخليل وموسى عليهما السلام مدة طويلة تزيد على أربعمائة سنة، كما ذكره غير واحد، وما قيل : إن شعيبا عاش مدة طويلة إنما هو ـ والله أعلم ـ احتراز من هذا الإشكال. ثم من المقوي لكونه ليس بشعيب أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه في القرآن ها هنا، وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى لم يصح إسناده ". ثم أشار ابن كثير إلى بعض الأقوال الأخرى التي حاولت تعيين الرجل الذي لقيه موسى، رغما عن " إبهام " القرآن لاسمه، وختم كلامه بما انفصل عليه ابن جرير الطبري في الموضوع من دون أدنى اعتراض إذ قال :" الصواب أن هذا لا يدرك إلا بخبر، ولا خبر تجب به الحجة في ذلك "، وإذن فلنقف عند حدود القرآن، فيما " أبهمه " ولم يثبت في شأنه أي بيان، والله تعالى أعلم فيما " أبهمه " ولم يثبت في شأنه أي بيان، والله تعالى أعلم.

الربع الأخير من الحزب التاسع والثلاثين في المصحف الكريم
في بداية هذا الربع ينتقل كتاب الله من الحديث عن إقامة موسى بين ظهراني أهل مدين، حيث عقد مع " شيخ مدين الكبير " عقدا للزواج بابنته، وعقدا للإجارة والقيام بخدمته، إلى الحديث عن وفائه بكلا العقدين، وتأهبه للعودة إلى مسقط رأسه قرير العين، فها هو يغادر أرض مدين ويسير بأهله في رفقته، بعدما قضى " أتم الأجلين واوفاهما " في خدمة صهره ووالد زوجته، ﴿ فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله ﴾.
ومن حكمة الله وقدره العجيب أن الطقس كان باردا يتوقف على التدفئة، وان الجو كان قاتما يتوقف على الإنارة، فاحتاج موسى إلى نور ونار، وبينما هو كذلك ﴿ آنس من جانب الطور نارا ﴾ أي رأى نارا تضيء على بعد، وكان في رؤيته لها نوع أنس ﴿ قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون ﴾.
وبينما كان موسى يتوقع العثور على نار للتدفئة ونور للإضاءة، إذا به يفاجأ بما لم يكن في الحسبان، ويتبين له ان النار التي تخيلها من بعيد إنما هي شجرة خضراء، وجهته القدرة الإلهية نحوها، ليتلقى من خلالها نداء الرحمان ﴿ فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين ﴾ وشاطئ الوادي جانبه.
وحيث أنه كان يحمل معه عصاه التي يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه خوطب في نفس الوقت بأمر إلهي مطاع :﴿ وأن الق عصاك ﴾، فألقاها من يده في الحين، وإذا به يفاجأ بآية العصا، تلك الآية التي سيواجه بها في الأيام القادمة فرعون وملأه، ويبطل بها سحر السحرة الذين حشرهم فرعون من جميع أطراف مملكته ﴿ فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب ﴾ من دون أن يلتفت إلى الوراء، وذلك لهول المفاجأة وشدة وقعها، ويتداركه الحق بلطفه ويهدئ روعه في الحين، قائلا :﴿ يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين ﴾.
ثم يجري الحق سبحانه وتعالى على اليد التي كان موسى يحمل بها عصاه آية ثانية، فيغاير بين لونها ولون جسمه العادي، وتصبح بيضاء ناصعة البياض لها شعاع وبريق، لكن من غير عاهة ولا برص، ويتلقى موسى خطاب ربه قائلا :﴿ اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ﴾، على غرار قوله تعالى في سورة طه :﴿ واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى ﴾ [ الآية : ٢٢ ].
ثم يدعوه سبحانه وتعالى إلى أن يضبط نفسه ويتجلد، ويسلك مسلك أولي العزم من الرسل، فلا يجزع ولا يخاف، لأن العناية الإلهية ستحيطه كما أحاطتهم بخفي الألطاف، وهذا ما يشير إليه الخطاب الإلهي الموجه إلى موسى إذ يقول :﴿ واضمم إليك جناحك من الرهب ﴾.
ثم كشف الخطاب الإلهي عن السر فيما آتاه الله لموسى الكليم، من الرعاية والتكريم، إذ قال تعالى :﴿ فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه ﴾، إ شارة إلى أن تحويل عصا موسى بأمر الله إلى حية تسعى في الوقت المناسب، وتحويل يده من حالتها الطبيعية، إلى يد بيضاء تتلألأ، لها شعاع وبريق، إنما هما برهانان على صدق رسالته، وصحة نبوته، اكرمه الله بهما ليتغلب على عناد فرعون ومغالطته، عندما يقبل على مخاطبته، ويتوجه إليه بدعوته، وعقب كتاب الله على هذا القرار الإلهي الحكيم بأن فرعون وملأه قد جاوزوا الحدود في تصرفاتهم ومعاملاتهم وحياتهم الخاصة والعامة، فلا بد من أن يوجه إليهم الإنذار الأخير، قبل الاعذار وسوء المصير ﴿ إنهم كانوا قوما فاسقين ﴾.
والآن وقد سري عن موسى ووعى خطاب ربه، وأدرك مبلغ العبء الثقيل الذي وضعته الأقدار الإلهية على عاتقه، أخذ يتعلل بكل وجه، رجاء أن يعفى من تكاليف التبليغ، ومواجهة طاغية كبير يضرب به المثل في العدوان والطغيان في كل الأزمان ﴿ قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون ﴾.
ثم تعلل بكونه ليس فصيح اللسان، ولا قوي التعبير والبيان، كأخيه هارون، وكأنه يشير من طرف خفي إلى ترشيح أخيه بدلا منه لهذه المهمة الخطيرة، وذلك قوله فيما حكاه عنه كتاب الله :﴿ وأخي هارون هو أفصح مني لسانا ﴾.
ثم يقول متلطفا متعقبا :﴿ فأرسله معي ردا ( ردءا ) يصدقني ﴾ والردء : بمعنى المعين، ﴿ إني أخاف أن يكذبون ﴾.
قال جار الله الزمخشري : " فإن قلت ما الفائدة في تصديق أخيه ( ردا يصدقني ) ؟ قلت : ليس الغرض بتصديقه ان يقول له : صدقت، أو يقول للناس : صدق موسى، وإنما هو ان يلخص بلسانه الحق، ويبسط القول فيه، ويجادل به الكفار، كما يفعل الرجل المنطيق ذو العارضة، فذلك جار مجرى التصديق المفيد، كما يصدق القول بالبرهان ".
لكن الحق سبحانه وتعالى أكد تكليف موسى بالذهاب إلى فرعون، وأنعم عليه في نفس الوقت بالتصديق على مؤازرة أخيه هارون فيما وكله إليه ﴿ قال سنشد عضدك بأخيك ﴾.
وتهدئة لروع موسى وتأمينا له من كل خوف تعهد الحق سبحانه وتعالى برعايته ورعاية أخيه، وحمايتهما من كل أذى، وبشرهما بأن الغلبة في النهاية ستكون لهما ولمن اتبعهما على الحق، ومعنى ذلك ان الهزيمة ستكون عاقبة فرعون وملائه، وهذا التعهد الإلهي النافذ هو ما نطق به قول الله تعالى في نفس السياق :﴿ ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون ﴾.
ومضى كتاب الله يقص على نبيه والمومنين كيف ذهب موسى إلى فرعون وملائه، ويحكي الحوار الذي دار بين الفريقين، فقال تعالى :﴿ فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ﴾
﴿ وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار ﴾ وهذه لهجة خالية من المباهاة والعناد، مرغوب في استعمالها عند القيام بالدعوة والإرشاد، ثم قال تعالى :﴿ إنه لا يفلح الظالمون ﴾.
وعرض كتاب الله بعد ذلك ما قام به فرعون من مغالطة مكشوفة، تأييد لعقيدته الفاسدة، وتثبيتا لها في نفوس الأغرار والأغمار من قومه، مستعينا بهامان مستشار دولته، والمدافع عن عقيدته ﴿ وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري ﴾ أي أنا مالك رقابكم الوحيد، الذي تلزمكم طاعتي والخضوع لأمري دون غيري ﴿ فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى ﴾، وما دام أي بناء ولو بلغ أعلى عليين، لا يصل متسلقه إلى عرش رب العالمين، لكونه لا يحده زمان ولا مكان، ولا يدركه بصر أي إنسان، فسيتخذ فرعون من ذلك ذريعة لإنكار الألوهية، ويجعل موسى امام الملأ موضع تهكم وسخرية، مشككا فيه وفي عقيدته إذ يقول :﴿ وإني لأظنه من الكاذبين ﴾.
ووصف كتاب الله ما كان عليه فرعون وجنود من عتو واستكبار، وإهدار لحقوق الخلق واستهتار ﴿ واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون ﴾
ثم عقب على ذلك بإغراقهم في البحر وأخذهم أخذ عزيز مقتدر، جزاء وفاقا لكل طاغية متجبر، فقال :﴿ فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم ﴾.
قال الزمخشري : " هذا من الكلام الفخم الذي دل به ( كتاب الله ) على عظمة شأنه، وكبرياء سلطانه، شبههم استحقارا لهم واستقلالا لعددهم وإن كانوا الكثر الكثير، والجم الغفير بحصيات أخذهن آخذ في كفه فطرحهن في البحر، ونحو ذل قوله تعالى :﴿ والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه ﴾ [ الزمر : ٦٧ ] وما هي إلا تصويرات وتمثيلات لاقتدراه، وأن كل مقدور وإن عظم وجل فهو مستصغر إلى جنب قدرته سبحانه وتعالى ".
وكما كافأ الله أئمة الهدى الذي يدعون الناس إلى الخير، فجعل لهم " لسان صدق " أي لسان " مدح ومبرة " في الآخرين، كافأ أئمة الضلال الذين يدعون الناس إلى الشر، وجعل لهم لسان " قدح ومعرة " في الدنيا ويوم الدين، وذلك قوله تعالى :﴿ وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون ﴾
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤١:وكما كافأ الله أئمة الهدى الذي يدعون الناس إلى الخير، فجعل لهم " لسان صدق " أي لسان " مدح ومبرة " في الآخرين، كافأ أئمة الضلال الذين يدعون الناس إلى الشر، وجعل لهم لسان " قدح ومعرة " في الدنيا ويوم الدين، وذلك قوله تعالى :﴿ وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون ﴾
وشاءت قدرة الله أن يكون قيام موسى بتبليغ دعوته المقرون بالقضاء على فرعون ودولته، تمهيدا لإكرام موسى بنزول التوراة عليه، وإقامة نظام جديد مستمد من الوحي الإلهي ومستند إليه، فقد مضى على الإنسانية قبله زمن طويل لم تعرف فيه أي مرشد أو دليل، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا :﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وهكذا يذكر كتاب الله خاتم رسله بالمراحل التي قطعها موسى في حياته قبل أن يولد هو ويبعث بقرون، ويعرفه بالوقائع والمواقع التي تألفت منها قصة موسى بدءا وختاما، الأمر الذي لا سبيل إلى معرفته، والتعرف عليه على حقيقته، لولا الوحي الذي أكرم الله به رسوله، وجعله برهان صدقه ودليله، يتحدى به الجاحدين والمكابرين، ويطاول به المشركين والكافرين، ويذكر به المومنين، ولذلك قال تعالى وهو يخاطب نبيه في الآية الأولى من هذا السياق :﴿ وما كنت من الشاهدين ﴾ أي لم تكن حاضرا لتلك الوقائع، ولا عارفا بتلك المواقع، وقال تعالى في سياق الآية الثانية :﴿ ولكنا كنا مرسلين ﴾ أي نحن الذين اصطفيناك وأرسلناك، ومن علم الغيب علمناك، وقال تعالى في سياق الآية الثالثة :﴿ ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ﴾ على غرار قوله تعالى فيما سبق :﴿ ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر ﴾ أي قصصنا عليك أحسن القصص وعلمناك ما لم تكن تعلم، رحمة وتذكرة للقوم الذين طال عليهم الأمد، فقد سبقت لهم العناية، واقتضت حكمة الله أن يمدهم على يدك بهذا المدد، عسى ان يصلح الله أمرهم، ويجبر كسرهم، ويجعلهم خير أمة أخرجت للناس.

وبعدما تلا كتاب الله على رسوله الأمي الأمين، نبأ موسى وفرعون بالحق المبين، توجه إليه بالخطاب المستطاب، ممتنا بما قصه عليه من أمرهما في محكم الكتاب، فقال تعالى مخاطبا لخاتم أنبيائه ورسله :﴿ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر ﴾، و " الغربي " هنا وصف للمكان الواقع في شق الغرب من " الطور، حيث تلقى موسى عنده أمر ربه،
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وهكذا يذكر كتاب الله خاتم رسله بالمراحل التي قطعها موسى في حياته قبل أن يولد هو ويبعث بقرون، ويعرفه بالوقائع والمواقع التي تألفت منها قصة موسى بدءا وختاما، الأمر الذي لا سبيل إلى معرفته، والتعرف عليه على حقيقته، لولا الوحي الذي أكرم الله به رسوله، وجعله برهان صدقه ودليله، يتحدى به الجاحدين والمكابرين، ويطاول به المشركين والكافرين، ويذكر به المومنين، ولذلك قال تعالى وهو يخاطب نبيه في الآية الأولى من هذا السياق :﴿ وما كنت من الشاهدين ﴾ أي لم تكن حاضرا لتلك الوقائع، ولا عارفا بتلك المواقع، وقال تعالى في سياق الآية الثانية :﴿ ولكنا كنا مرسلين ﴾ أي نحن الذين اصطفيناك وأرسلناك، ومن علم الغيب علمناك، وقال تعالى في سياق الآية الثالثة :﴿ ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ﴾ على غرار قوله تعالى فيما سبق :﴿ ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر ﴾ أي قصصنا عليك أحسن القصص وعلمناك ما لم تكن تعلم، رحمة وتذكرة للقوم الذين طال عليهم الأمد، فقد سبقت لهم العناية، واقتضت حكمة الله أن يمدهم على يدك بهذا المدد، عسى ان يصلح الله أمرهم، ويجبر كسرهم، ويجعلهم خير أمة أخرجت للناس.

وقال تعالى مخاطبا له مرة ثانية :﴿ وما كنت ثاويا في أهل مدين ﴾ أي ما كنت مقيما بين أظهرهم، فتروي لأمتك خبرهم وخبر إقامة موسى عندهم ﴿ تتلوا عليهم آياتنا ﴾.
وقال تعالى مخاطبا له مرة ثالثة :﴿ وما كنت بجانب الطور ﴾ أي طور سيناء أو " طور سينين " كما جاء في سورة التين ﴿ إذ نادينا ﴾ أي ليلة المناجاة والتكليم، لموسى الكليم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وهكذا يذكر كتاب الله خاتم رسله بالمراحل التي قطعها موسى في حياته قبل أن يولد هو ويبعث بقرون، ويعرفه بالوقائع والمواقع التي تألفت منها قصة موسى بدءا وختاما، الأمر الذي لا سبيل إلى معرفته، والتعرف عليه على حقيقته، لولا الوحي الذي أكرم الله به رسوله، وجعله برهان صدقه ودليله، يتحدى به الجاحدين والمكابرين، ويطاول به المشركين والكافرين، ويذكر به المومنين، ولذلك قال تعالى وهو يخاطب نبيه في الآية الأولى من هذا السياق :﴿ وما كنت من الشاهدين ﴾ أي لم تكن حاضرا لتلك الوقائع، ولا عارفا بتلك المواقع، وقال تعالى في سياق الآية الثانية :﴿ ولكنا كنا مرسلين ﴾ أي نحن الذين اصطفيناك وأرسلناك، ومن علم الغيب علمناك، وقال تعالى في سياق الآية الثالثة :﴿ ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ﴾ على غرار قوله تعالى فيما سبق :﴿ ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر ﴾ أي قصصنا عليك أحسن القصص وعلمناك ما لم تكن تعلم، رحمة وتذكرة للقوم الذين طال عليهم الأمد، فقد سبقت لهم العناية، واقتضت حكمة الله أن يمدهم على يدك بهذا المدد، عسى ان يصلح الله أمرهم، ويجبر كسرهم، ويجعلهم خير أمة أخرجت للناس.
ثم زاد كتاب الله هذا المعنى توضيحا وتوكيدا، فقال تعالى :﴿ ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين ﴾ ومعنى هذه الآية ان الله تعالى، رحمة منه وفضلا، نظر إلى حال " أهل الفترة والجاهلية الأولى " ولم يبادر إلى عقابهم بما يستحقون، رغما عما اجترحوه من المعاصي والآثام، في سالف الأيام والأعوام، لأنه لو لم يمهلهم، ولو بادرهم بالعقاب قبل إرسال الرسول وإنزال الكتاب، لخيل إليهم أنه مظلومون، ولقالوا : كيف يعاقبنا الحق ونحن من الهداية محرومون، فلو أرسل إلينا رسولا لآمنا به وصدقناه، ولو انزل علينا كتابا لأخذنا به واتبعناه.
ويعرج كتاب الله بعد ذلك على موقف المتعنتين المعاندين الذين تمسكوا بالضلال والخبال حتى بعد إعلان الرسالة ونزول الكتاب، وأخذوا يشترطون للإيمان بخاتم الرسل ان يكون له من الآيات مثل ما أوتي موسى من قبل، والحال أنهم لم يومنوا برسالة موسى ولا برسالة عيسى من بعده، رغما عن الآيات التي قارنت رسالتهما. على أنه لا يلزم أن تكون معجزات الأنبياء عليهم السلام واحدة، كما لا يلزم فيما أنزل عليهم من الكتب أن يكون على وجه واحد.
وها هو كتاب الله يعلن كفرهم الصراح بجميع الرسالات والرسل دون استثناء، ويبين ان ما كانوا يبررون به مواقفهم ليس إلا مجرد تستر وتهرب والتواء، وذلك ما يتضمنه قوله تعالى :﴿ فلما جاءهم الحق من عندنا ﴾ وهو محمد خاتم الرسل، والقرآن خاتم الكتب ﴿ قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل ﴾ وعن موسى ومحمد عليهما السلام :﴿ قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون ﴾.
ولقن كتاب الله لرسوله حجة أخرى تقطع أعذارهم، وتهتك أستارهم، فأمره أن يطالب أئمة الكفر بأن يقدموا له وللبشرية كتابا أهدى من التوراة التي أنزلت على موسى، وأهدى من القرآن الذي أنزل بعده على محمد، مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، وان يعلن إليهم انه على أتم الاستعداد لإتباع هذا الكتاب المقترح عليهم إن جاؤوا به من عند الله، وكان أهدى مما جاء به رسول الله، والله يعلم في سابق علمه وأزله أنهم عاجزون عن الإتيان بهذا الكتاب، وأنهم عباد هوى وأتباع ضلال لا يبحثون عن الحق ولا يهتدون إلى الصواب، وذلك قوله تعالى في ختام هذا الربع مخاطبا لنبيه في إيجاز وإعجاز :﴿ قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين ﴾
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٩:ولقن كتاب الله لرسوله حجة أخرى تقطع أعذارهم، وتهتك أستارهم، فأمره أن يطالب أئمة الكفر بأن يقدموا له وللبشرية كتابا أهدى من التوراة التي أنزلت على موسى، وأهدى من القرآن الذي أنزل بعده على محمد، مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، وان يعلن إليهم انه على أتم الاستعداد لإتباع هذا الكتاب المقترح عليهم إن جاؤوا به من عند الله، وكان أهدى مما جاء به رسول الله، والله يعلم في سابق علمه وأزله أنهم عاجزون عن الإتيان بهذا الكتاب، وأنهم عباد هوى وأتباع ضلال لا يبحثون عن الحق ولا يهتدون إلى الصواب، وذلك قوله تعالى في ختام هذا الربع مخاطبا لنبيه في إيجاز وإعجاز :﴿ قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين ﴾
الربع الأول من الحزب الأربعين في المصحف الكريم
في بداية هذا الربع أكد كتاب الله أن رعاية الحق، وعنايته بهداية الخلق، رعاية لا تنقطع على الدوام، وعناية لا تتضاءل مع مرور الأيام، وإن اعتصم كثير من الناس بحبل الضلال، ولجو في العناد والجدال، ولذلك توالت الرسالات والرسل عبر الأجيال، وبقيت أبواب الهداية مفتوحة في وجوههم دون أقفال، وها هو خاتم الكتب المنزلة تتوالى سوره وآياته، وتتلاحق نصائحه وعظاته، لخير البشرية جمعاء، وإنقاذها من الضلال العماء، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى بمنتهى الإيجاز :﴿ ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون ﴾ أي أتبعنا رسولا بعد رسول، وأردفنا كتابا بعد كتاب.
وضرب الله المثل، لمن اغتنم فرصة ظهور الرسالة الخاتمة، ونزول الكتاب الخاتم، فبادر إلى الدخول في حظيرة الإسلام، بفريق من أهل الكتاب ما كادوا يسمعون رسول الله يتلو كتاب الله حتى أعلنوا إيمانهم، وأرضوا ضميرهم ووجدانهم، واعترفوا بأن ما جاء به من عند الله هو الحق الذي لا غبار عليه، وان مرد كل شيء إليه، مؤكدين علاوة على ذلك، أنهم كانوا على بينة من أمر هذا الكتاب، قبل أن ينزل ويرفع عنه الحجاب، وذلك ما يتحدث عنه كتاب الله إذ يقول :﴿ الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ﴾
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٢:وضرب الله المثل، لمن اغتنم فرصة ظهور الرسالة الخاتمة، ونزول الكتاب الخاتم، فبادر إلى الدخول في حظيرة الإسلام، بفريق من أهل الكتاب ما كادوا يسمعون رسول الله يتلو كتاب الله حتى أعلنوا إيمانهم، وأرضوا ضميرهم ووجدانهم، واعترفوا بأن ما جاء به من عند الله هو الحق الذي لا غبار عليه، وان مرد كل شيء إليه، مؤكدين علاوة على ذلك، أنهم كانوا على بينة من أمر هذا الكتاب، قبل أن ينزل ويرفع عنه الحجاب، وذلك ما يتحدث عنه كتاب الله إذ يقول :﴿ الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ﴾
ويكرم الله هذا الفريق الذي لم يفرق في الإيمان، بين كتب الله ورسله، إذ آمن بخاتم الرسل وخاتم الكتب، فيثيبهم على إيمانهم ثوابا مضاعفا، حيث إن " الكتابي " الذي أدركه الإسلام كان مخاطبا من جهة نبيه أولا، ثم خوطب من جهة نبينا ثانيا، فلما أجاب نبينا واتبعه، بعدما أجاب نبيه واتبعه، فاز بالحسنيين، وكان له أجر الملتين، وذلك ما ينطق بمعناه كتاب الله إذ يقول :﴿ أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون ﴾.
ونظرا إلى ما يتعرض له هذا الفريق من أهل الكتاب الذين دخلوا في الإسلام، وأقروا برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، من أذى أهل ملتهم الأولى، الذين أصروا عليها عنادا واستكبارا، واخذوا على عاتقهم محاربة الإسلام سرا وجهارا، فقد وصف كتاب الله صبرهم على أذى المكابرين، وإعراضهم عن مهاترات الكافرين، واستهانتهم بما يصب عليهم من وابل النقد والتجريح من طرف السفهاء الجاهلين، فقال تعالى :﴿ وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ﴾ و " اللغو " ما حقه أن يلغى ويترك من العبث وغيره،
ثم عقب كتاب الله على هذه الظاهرة المستحسنة التي برزت في سلوك فريق من أهل الكتاب ؛ فآمنوا بالدين الجديد، ونالوا أحسن الجزاء على ما قاموا به من عمل صالح والتزموه من قول سديد ؛ مؤكدا لرسوله أن إلقاء نور الهداية إلى الحق في قلب هذا الفريق أو ذاك، أو هذا الفرد أو ذاك، أمر فوق طاقة الرسول مهما كان حريصا عليه ؛ ولو كان الأمر يتعلق بأقرب الأقربين إليه. ذلك أن نور الهداية إلى الحق لا يحتل قلب أحد إلا إذا صاحبته العناية الإلهية، ورافقه التوفيق، في جميع خطوات الطريق ﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ﴾. ولا تناقض بين قوله تعالى هنا :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ﴾ وقوله تعالى في آية أخرى :﴿ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ﴾ [ الشورى : ٥٢ ] ؛ لأن المقصود بالهداية في الآية الأولى هو إمالة القلب من الباطل إلى الحق ؛ وذلك من خصائص قدرة الحق سبحانه، والمقصود بالهداية في الآية الثانية هو مجرد التبليغ والدعاء إلى الحق ؛ وذلك واجب في حقه صلى الله عليه وسلم ؛ إذ ما بعثه الله إلا رحمة للخلق ﴿ وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم، إن تسمع إلا من يومن بآياتنا فهم مسلمون ﴾ [ النمل : ٨١ ].
وعاد كتاب الله إلى الحديث عن أحوال وأقوال المتثاقلين عن الاستجابة لله ولرسوله، فقد زعموا انهم لو آمنوا بالله، واعتصموا بحبل الله، للحقهم ضرر كبير، وشر مستطير، متعللين بأن الجمهرة الغالبة من الناس مجمعة على خلافهم، لا تومن بهذا الدين، ولا تصدق رسالة رسوله الأمين، فإذا آمنوا وحدهم أصبحوا عرضة للانتقام والعدوان، ونالهم ما لا يطيقونه من الذل والهوان، وقد كان هذا القول هو قول مشركي مكة قبل أن يسلموا، وهو قول أمثالهم في كل جيل، وذلك هو ما يحكيه كتاب الله عنهم إذ يقول :﴿ وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا ﴾.
لكن كتاب الله بادر إلى إبطال مزاعم مشركي مكة في الحين، مذكرا لهم بأن القداسة التي تتمتع بها مكة، والحرمة التي اختصت بها وعاشوا في ظلها، إنما منحها لها الله جل جلاله، فهو الذي جعلها مقر البيت الحرام، حتى أصبحت موضع التوقير والاحترام عند جميع الأقوام ﴿ أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ﴾ وهذه الخاصية في عهد الجاهلية، لن ترتفع عنها إذا تطهرت من الشرك والمشركين، وعادت من جديد مهد الملة الحنيفية، بل ستصبح مكانتها أعظم وأكبر، وسيصبح ذكرها في العالم أسير وأشهر ﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾.
وذكر كتاب الله كل من عنده المام ولو قليل بما تعاقب على البشر من كوارث ونكبات، بأن الطغيان بالنعمة والغرور بها وسوء التصرف فيها، والاستكبار على الحق والخلق من أجلها، وعدم التوجه بالشكر إلى الله الذي أنعم بها، يؤدي حتما إلى زوالها، وقطع دابر أهلها بالمرة، وذلك قوله تعالى :﴿ وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين ﴾. وهذه الآية تحمل في طياتها تعريضا بأهل مكة، وإنذارا مباشرا لسادتها وكبرائها الذي ألفوا العيش الغض في رفاهية وترف لا نظير لهما عند بقية العرب، بفضل التجارة الواسعة التي كانوا يحتكرونها، ويسيرون قوافلها جنوبا وشمالا في ظلال الأمن الوارف، فما زادهم ذلك الأمن والاستقرار، إلا استكبارا على استكبار.
وتعرض كتاب الله في هذا السياق للحديث عن مبدأ أساسي في الإسلام يتجلى فيه العدل الإلهي المطابق، والرحمة الإلهية الواسعة، وهذا المبدأ الأساسي يتألف من شقين اثنين :
الشق الأول : أن الله تعالى لا يعاقب قوما ولا يهلكهم إلا إذا تعدوا حدود الله، وأصبح الظلم شيمتهم، والفساد في الأرض خطتهم، فلم يعودوا صالحين للخلافة عن الله فيها بعمارتها، وحسن التصرف في طيباتها.
والشق الثاني : أن الله تعالى لا يهمل القوم الظالمين، ولكنه يمهلهم ويملي لهم، ويوجه إليهم الإنذار تلو الإنذار، والإعذار تلو الإعذار، عن طريق الرسل الذين يبعثهم إليهم، والكتب التي ينزلها عليهم، فإذا لم يستجيبوا لله ورسوله ولم يهتدوا بكتابه سقطت حجتهم، وبطلت معذرتهم، ونفذ قضاء الله فيهم، فأهلكهم ماديا ومعنويا، اجتماعيا وسياسيا، وذلك ما يتضمنه قوله تعالى :﴿ وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ﴾، على غرار قوله تعالى في آية أخرى :﴿ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ﴾ [ هود : ١١٧ ].
والمراد " بالقرى " في كلتا الآيتين نفس المدن الآهلة بالسكان، التي يكون لها من قوة الإشعاع والتوجيه شأن وأي شأن، لا ذلك المعنى المتعارف اليوم في تصنيف المدن والقرى، واعتبار القرية دون المدينة، و " أم القرى " هنا هي كبرى المدن التي تكون عاصمة لها أو بمنزلة العاصمة، كما كانت مكة عند ظهور الإسلام بالنسبة للعرب.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٨:وذكر كتاب الله كل من عنده المام ولو قليل بما تعاقب على البشر من كوارث ونكبات، بأن الطغيان بالنعمة والغرور بها وسوء التصرف فيها، والاستكبار على الحق والخلق من أجلها، وعدم التوجه بالشكر إلى الله الذي أنعم بها، يؤدي حتما إلى زوالها، وقطع دابر أهلها بالمرة، وذلك قوله تعالى :﴿ وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين ﴾. وهذه الآية تحمل في طياتها تعريضا بأهل مكة، وإنذارا مباشرا لسادتها وكبرائها الذي ألفوا العيش الغض في رفاهية وترف لا نظير لهما عند بقية العرب، بفضل التجارة الواسعة التي كانوا يحتكرونها، ويسيرون قوافلها جنوبا وشمالا في ظلال الأمن الوارف، فما زادهم ذلك الأمن والاستقرار، إلا استكبارا على استكبار.
وتعرض كتاب الله في هذا السياق للحديث عن مبدأ أساسي في الإسلام يتجلى فيه العدل الإلهي المطابق، والرحمة الإلهية الواسعة، وهذا المبدأ الأساسي يتألف من شقين اثنين :
الشق الأول : أن الله تعالى لا يعاقب قوما ولا يهلكهم إلا إذا تعدوا حدود الله، وأصبح الظلم شيمتهم، والفساد في الأرض خطتهم، فلم يعودوا صالحين للخلافة عن الله فيها بعمارتها، وحسن التصرف في طيباتها.
والشق الثاني : أن الله تعالى لا يهمل القوم الظالمين، ولكنه يمهلهم ويملي لهم، ويوجه إليهم الإنذار تلو الإنذار، والإعذار تلو الإعذار، عن طريق الرسل الذين يبعثهم إليهم، والكتب التي ينزلها عليهم، فإذا لم يستجيبوا لله ورسوله ولم يهتدوا بكتابه سقطت حجتهم، وبطلت معذرتهم، ونفذ قضاء الله فيهم، فأهلكهم ماديا ومعنويا، اجتماعيا وسياسيا، وذلك ما يتضمنه قوله تعالى :﴿ وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ﴾، على غرار قوله تعالى في آية أخرى :﴿ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ﴾ [ هود : ١١٧ ].
والمراد " بالقرى " في كلتا الآيتين نفس المدن الآهلة بالسكان، التي يكون لها من قوة الإشعاع والتوجيه شأن وأي شأن، لا ذلك المعنى المتعارف اليوم في تصنيف المدن والقرى، واعتبار القرية دون المدينة، و " أم القرى " هنا هي كبرى المدن التي تكون عاصمة لها أو بمنزلة العاصمة، كما كانت مكة عند ظهور الإسلام بالنسبة للعرب.

وبعدما بينت الآيات السابقة عاقبة السوء التي تؤدي إليها الأثرة والأنانية والبطر، التفت كتاب الله إلى أولئك المنهمكين في جمع الحطام من الحلال والحرام، الذين تملكتهم شهوة الطمع والشره، ففقدوا راحتهم وانسهم ونسوا الله فأنساهم أنفسهم، ملوحا لهم بالتخفيف من حدة التعب والنصب، والتعفف والاعتدال في الطلب، مذكرا إياهم بالمصير المحتوم، في انتظار اليوم المعلوم، الذي يجب له الاستعداد، والتزود بخير الزاد، وذلك ما يقتضيه قوله تعالى في هذا الخطاب، الذي لا يتذوق معناه إلا أولو الألباب :﴿ وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون ﴾
﴿ أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين ﴾ أي من الذين يساقون مرغمين على الحضور أما الله، ويحاسبون حسابا عسيرا على ما فرطوا في جنب الله، وكما وردت كلمة ( المحضرين ) في هذه الآية، وردت في آية ثانية :﴿ ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون ﴾ [ الصافات : ١٥٨ ]، وفي آية ثالثة :﴿ ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين ﴾ [ الصافات : ٥٧ ].
واختار كتاب الله من مشاهد القيامة في هذا السياق مشهدين اثنين جاوزت قوة الوصف فيهما قوة المشاهدة والعيان، مما يضطر كل عاقل إلى المبادرة بالإيمان والإذعان. المشهد الأول ينطلق من قوله تعالى :﴿ ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ﴾
المشهد الأول : يمثل موقف دعاة الغواية والضلال، وما نالهم من خيبة الأماني والآمال، لا بالنسبة للمتبوعين ولا بالنسبة للأتباع، وذلك قوله تعالى :﴿ قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ﴾
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٢:واختار كتاب الله من مشاهد القيامة في هذا السياق مشهدين اثنين جاوزت قوة الوصف فيهما قوة المشاهدة والعيان، مما يضطر كل عاقل إلى المبادرة بالإيمان والإذعان. المشهد الأول ينطلق من قوله تعالى :﴿ ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ﴾
المشهد الأول : يمثل موقف دعاة الغواية والضلال، وما نالهم من خيبة الأماني والآمال، لا بالنسبة للمتبوعين ولا بالنسبة للأتباع، وذلك قوله تعالى :﴿ قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ﴾

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٣:نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٢:واختار كتاب الله من مشاهد القيامة في هذا السياق مشهدين اثنين جاوزت قوة الوصف فيهما قوة المشاهدة والعيان، مما يضطر كل عاقل إلى المبادرة بالإيمان والإذعان. المشهد الأول ينطلق من قوله تعالى :﴿ ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ﴾
المشهد الأول : يمثل موقف دعاة الغواية والضلال، وما نالهم من خيبة الأماني والآمال، لا بالنسبة للمتبوعين ولا بالنسبة للأتباع، وذلك قوله تعالى :﴿ قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ﴾


نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٢:واختار كتاب الله من مشاهد القيامة في هذا السياق مشهدين اثنين جاوزت قوة الوصف فيهما قوة المشاهدة والعيان، مما يضطر كل عاقل إلى المبادرة بالإيمان والإذعان. المشهد الأول ينطلق من قوله تعالى :﴿ ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ﴾
المشهد الأول : يمثل موقف دعاة الغواية والضلال، وما نالهم من خيبة الأماني والآمال، لا بالنسبة للمتبوعين ولا بالنسبة للأتباع، وذلك قوله تعالى :﴿ قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ﴾


والمشهد الثاني ينطلق من قوله تعالى :﴿ ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ﴾ :
والمشهد الثاني : يمثل موقف الأمم والأفراد، أمام الأنبياء والرسل عند جمع الجميع " يوم التناد " حيث يقف المكذبون بالرسالات الإلهية حائرين مبلسين، فهم جميعا سواسية في منتهى الحيرة والإفحام، والوجوم التام، وذلك قوله تعالى :﴿ فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون ﴾ على غرار قوله تعالى في آية أخرى :﴿ ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ﴾ [ الإسراء : ٧٢ ].
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٥:نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٢:واختار كتاب الله من مشاهد القيامة في هذا السياق مشهدين اثنين جاوزت قوة الوصف فيهما قوة المشاهدة والعيان، مما يضطر كل عاقل إلى المبادرة بالإيمان والإذعان. المشهد الأول ينطلق من قوله تعالى :﴿ ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ﴾
المشهد الأول : يمثل موقف دعاة الغواية والضلال، وما نالهم من خيبة الأماني والآمال، لا بالنسبة للمتبوعين ولا بالنسبة للأتباع، وذلك قوله تعالى :﴿ قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ﴾


والمشهد الثاني ينطلق من قوله تعالى :﴿ ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ﴾ :
والمشهد الثاني : يمثل موقف الأمم والأفراد، أمام الأنبياء والرسل عند جمع الجميع " يوم التناد " حيث يقف المكذبون بالرسالات الإلهية حائرين مبلسين، فهم جميعا سواسية في منتهى الحيرة والإفحام، والوجوم التام، وذلك قوله تعالى :﴿ فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون ﴾ على غرار قوله تعالى في آية أخرى :﴿ ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ﴾ [ الإسراء : ٧٢ ].

واستبعد كتاب الله من هذا الموقف المهين من خرج من الكفر إلى الإيمان، وانتقل إلى الطاعة بعد العصيان، فقال تعالى :﴿ فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين ﴾ أي من الفائزين. قال ابن كثير : " و( عسى ) من الله موجبة، فإن هذا واقع بفضل الله ومنته لا محالة "، وقال الزمخشري : " و( عسى ) من الكرام تحقيق ".
وانتقل كتاب الله إلى الرد على تطفل المتطفلين من عتاة المشركين، حيث أخذوا ينقصون من قدر الرسول الكريم، ويزعمون أن هناك من هو أحق منه بالرسالة، على حد قولهم :﴿ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ﴾ [ الزخرف : ٣١ ]، مبينا أن إرادة الله التي هي فوق كل اعتبار، هي أساس الاختيار لرسالة المصطفى المختار، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا :﴿ وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة، سبحان الله وتعالى عما يشركون ﴾، وكما قال تعالى في هذه الآية :﴿ ما كان لهم الخيرة ﴾ أي أن الله تعالى لا يرسل من اختاروه هم، وإنما يرسل من اختاره هو، كما قال تعالى في آية أخرى :﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالاته ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ]. وبعدما رد كتاب الله على تطفل المتطفلين، الذين أرادوا أن يكون الترشيح للرسالة تبعا لأهوائهم، وخادما لمصالحهم،
أتبع ذلك بآية كريمة تلمح إلى ما تنضح به ضمائرهم، وتنطوي عليه سرائرهم، فقال تعالى :﴿ وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٨:وانتقل كتاب الله إلى الرد على تطفل المتطفلين من عتاة المشركين، حيث أخذوا ينقصون من قدر الرسول الكريم، ويزعمون أن هناك من هو أحق منه بالرسالة، على حد قولهم :﴿ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ﴾ [ الزخرف : ٣١ ]، مبينا أن إرادة الله التي هي فوق كل اعتبار، هي أساس الاختيار لرسالة المصطفى المختار، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا :﴿ وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة، سبحان الله وتعالى عما يشركون ﴾، وكما قال تعالى في هذه الآية :﴿ ما كان لهم الخيرة ﴾ أي أن الله تعالى لا يرسل من اختاروه هم، وإنما يرسل من اختاره هو، كما قال تعالى في آية أخرى :﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالاته ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ]. وبعدما رد كتاب الله على تطفل المتطفلين، الذين أرادوا أن يكون الترشيح للرسالة تبعا لأهوائهم، وخادما لمصالحهم،
أتبع ذلك بآية كريمة تلمح إلى ما تنضح به ضمائرهم، وتنطوي عليه سرائرهم، فقال تعالى :﴿ وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ﴾.

وذكر كتاب الله الناس أجمعين، بحقيقة التوحيد الكبرى القائمة إلى يوم الدين، فقال تعالى :﴿ وهو الله لا إله إلا هو ﴾ أي المنفرد وحده بالألوهية والربوبية وتدبير الكون، إيجادا وإمدادا، ﴿ له الحمد في الأولى والآخرة ﴾ أي له الحمد في الأولى على رزقه ونعمته، وله الحمد في الآخرة على عدله ورحمته، وله الحمد فيهما على تدبيره وحكمته، فلا يفعل ربك إلا خيرا، أما الحمد في الدنيا فجميع الخلائق تحمده بلسان الحال دائما، وبلسان المقال أحيانا ﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾ [ الإسراء : ٤٤ ]. وأما الحمد في الآخرة فمصداقه ما يجري على ألسنة الذين اصطفاهم الله من عباده عند لقائه إذ يقولون :﴿ الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور ﴾ [ فاطر : ٣٤ ]، وما يجري على ألسنة المتقين الذين فتحت لهم أبواب الجنة، وقال لهم خزنتها : سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين إذ يقولون :﴿ الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين ﴾ [ الزمر : ٧٤ ] ﴿ وآخر دعواهم ان الحمد لله رب العالمين ﴾ [ يونس : ١٠ ]، ﴿ وله الحكم ﴾ أي له الحكم المطلق، المناسب لجلاله وكماله، الذي لا يتأثر بشهوة، ولا يصدر عن هوى، والحكم الأوفق بطبيعة الإنسان والأضمن لمصلحته شرعا وقدرا، ﴿ والله يحكم لا معقب لحكمه ﴾ [ المائدة : ٥٠ ] ﴿ أليس الله بأحكم الحاكمين ﴾ [ التين : ٨ ] ثم قال تعالى :﴿ وإليه ترجعون ﴾ أحببتم أم كرهتم، فرادى كما خلقكم أول مرة ﴿ وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم ﴾ [ الأنعام : ٩٤ ].
وكمثال بارز على ألوهيته وربوبيته وتدبيره الحكيم دعا الناس أجمعين في هذا المقام إلى التفكير في ظاهرة كونية يرونها من دون انقطاع، لكنهم كثيرا ما يغفلون عن الحكمة الإلهية المتمثلة فيها، وعن المنفعة الكبرى التي يجنيها الإنسان والحيوان والنبات منها، وعن الوضع المفزع والمفجع الذي تتعرض له الأحياء جميعها لو لم تتكرر هذه الظاهرة الكونية في مواعيدها، وتتجدد كل مطلع شمس ومغربها في مواقيتها، ألا وهي ظاهرة تعاقب الليل والنهار وتبادل الضياء والظلام، بنظام وانتظام، وذلك قوله تعالى مخاطبا كافة خلقه :﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون ﴾
ومعنى " سرمدا " متصلا على الدوام.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧١:وكمثال بارز على ألوهيته وربوبيته وتدبيره الحكيم دعا الناس أجمعين في هذا المقام إلى التفكير في ظاهرة كونية يرونها من دون انقطاع، لكنهم كثيرا ما يغفلون عن الحكمة الإلهية المتمثلة فيها، وعن المنفعة الكبرى التي يجنيها الإنسان والحيوان والنبات منها، وعن الوضع المفزع والمفجع الذي تتعرض له الأحياء جميعها لو لم تتكرر هذه الظاهرة الكونية في مواعيدها، وتتجدد كل مطلع شمس ومغربها في مواقيتها، ألا وهي ظاهرة تعاقب الليل والنهار وتبادل الضياء والظلام، بنظام وانتظام، وذلك قوله تعالى مخاطبا كافة خلقه :﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون ﴾
ومعنى " سرمدا " متصلا على الدوام.


﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ﴾
ومعنى " سرمدا " متصلا على الدوام.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧١:وكمثال بارز على ألوهيته وربوبيته وتدبيره الحكيم دعا الناس أجمعين في هذا المقام إلى التفكير في ظاهرة كونية يرونها من دون انقطاع، لكنهم كثيرا ما يغفلون عن الحكمة الإلهية المتمثلة فيها، وعن المنفعة الكبرى التي يجنيها الإنسان والحيوان والنبات منها، وعن الوضع المفزع والمفجع الذي تتعرض له الأحياء جميعها لو لم تتكرر هذه الظاهرة الكونية في مواعيدها، وتتجدد كل مطلع شمس ومغربها في مواقيتها، ألا وهي ظاهرة تعاقب الليل والنهار وتبادل الضياء والظلام، بنظام وانتظام، وذلك قوله تعالى مخاطبا كافة خلقه :﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون ﴾
ومعنى " سرمدا " متصلا على الدوام.


﴿ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ﴾ أي في الليل ﴿ ولتبتغوا من فضله ﴾ أي في النهار ﴿ ولعلكم تشكرون ﴾
وبهذه المناسبة التي أبرز فيها كتاب الله بعض مظاهر الحكمة الإلهية الكبرى، والتدبير الإلهي العظيم، أعاد النداء الأول الموجه إلى المشركين بنفس الصيغة التي سبقت من قبل، تسفيها لرأيهم، وإبطالا لزعمهم من جديد، فقال تعالى :﴿ ويوم يناديهم فيقول أين شركاءي الذين كنتم تزعمون ﴾.
وختم هذا الربع بخطاب موجه إلى كل من يجادل في صحة الإيمان وصدق القرآن، يطالبه إن استطاع بتقديم الحجة والبرهان، حتى إذا ما عجز عن الاحتجاج لإثبات معتقده، سقط في يده، وذلك قوله تعالى :﴿ ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾.
والمراد " بالشهيد " هنا على سبيل الأصالة رسول كل أمة فهو الذي يشهد على أمته ﴿ يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم ﴾ [ المائدة : ١٠٩ ]، ويشهد لهذا قوله تعالى في آية أخرى :﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ﴾ [ النساء : ٤١ ]، ويندرج تحت كلمة " شهيد " " بالتبع للرسول " مجموع الشهداء من أمته، مصدقا لقوله تعالى :﴿ لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ].
الربع الثاني من الحزب الأربعين في المصحف الكريم
لقد نبهنا عند الشروع في تفسير ( سورة القصص المكية ) إلى ان أكبر جزء من آياتها تشغله قصة موسى مع فرعون وقومه، ثم قصة قارون مع قوم موسى، فهما القصتان الوحيدتان الواردتان في هذه السورة، أما بقية الآيات التي تتخللهما فهي للتعقيب والتذييل واستخلاص المثلات والعبر، وها هو كتاب الله بعدما عرض من القصة الأولى ما يعزز مركز الرسول ويؤكد صدق رسالته، ويكون عبرة له ولأمته، يشرع في الحديث عن قصة قارون الذي كان من قوم موسى فبغى عليهم.
ومن وصف كتاب الله لقارون يكتشف المومنون نموذجا غريبا من حياة المترفين الأغرار، وما هم عليه من كبر وبطر وعتو واستكبار، ويشاهدون الصراع القائم بين " العلم السطحي الأعمى " الذي هو أسير الشهوة والأثرة والأنانية، و " العلم العميق المستنير " الذي هو المعيار الصحيح لتمييز الحق من الباطل، والنعيم الباقي من النعيم الزائل.
يقول الله تعالى :﴿ إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم ﴾ وبذلك يثبت لقارون صفة البغي والظلم، وأنه لم يرقب في قومه إلا ولا ذمة، وهذه الصفة وحدها كافية لأن ينال من اجلها العقاب الإلهي الصارم " فالظلم ظلمات يوم القيامة " " ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب " كما جاء في الحديث الشريف.
ويقول الله تعالى :﴿ وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ﴾، إشارة إلى الثراء الواسع الذي أصبح يتقلب فيه، حتى ان مفاتح خزائنه وحدها أصبحت من كثرة كنوزه وتنوع مدخراته تكون حملا ثقيلا يعجز عن ضبط أمره والنهوض به الجمع القوي من الخدم والحشم. وكون قارون ممن يكنز المال ولا ينفقه في سبيل الله، ولا يشرك في النفع به أحدا من عباد الله، كاف ليجعله موضع غضب الله، مصداقا لقوله تعالى :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ﴾ [ التوبة : ٣٤ ].
ويرى عقلاء القوم المتبصرون، في سلوك قارون المنحرف وعمله الفاسد، ما يثير الاشمئزاز ويستحق الانتقاد، ولا سيما ما هو عليه من المبالغة في الإعجاب بالنفس والاستعلاء على العباد، ويحاولون أن يسدوا إليه النصح الخالص والموعظة الحسنة، عسى أن يصلح خطأه ويقوم اعوجاجه، ويندرج في عداد من يصدق عليهم مثل قول الرسول الأعظم : " نعم المال الصالح للرجل الصالح " وذلك ما حكاه كتاب الله عنهم ﴿ إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ﴾
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٦:الربع الثاني من الحزب الأربعين في المصحف الكريم
لقد نبهنا عند الشروع في تفسير ( سورة القصص المكية ) إلى ان أكبر جزء من آياتها تشغله قصة موسى مع فرعون وقومه، ثم قصة قارون مع قوم موسى، فهما القصتان الوحيدتان الواردتان في هذه السورة، أما بقية الآيات التي تتخللهما فهي للتعقيب والتذييل واستخلاص المثلات والعبر، وها هو كتاب الله بعدما عرض من القصة الأولى ما يعزز مركز الرسول ويؤكد صدق رسالته، ويكون عبرة له ولأمته، يشرع في الحديث عن قصة قارون الذي كان من قوم موسى فبغى عليهم.
ومن وصف كتاب الله لقارون يكتشف المومنون نموذجا غريبا من حياة المترفين الأغرار، وما هم عليه من كبر وبطر وعتو واستكبار، ويشاهدون الصراع القائم بين " العلم السطحي الأعمى " الذي هو أسير الشهوة والأثرة والأنانية، و " العلم العميق المستنير " الذي هو المعيار الصحيح لتمييز الحق من الباطل، والنعيم الباقي من النعيم الزائل.
يقول الله تعالى :﴿ إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم ﴾ وبذلك يثبت لقارون صفة البغي والظلم، وأنه لم يرقب في قومه إلا ولا ذمة، وهذه الصفة وحدها كافية لأن ينال من اجلها العقاب الإلهي الصارم " فالظلم ظلمات يوم القيامة " " ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب " كما جاء في الحديث الشريف.
ويقول الله تعالى :﴿ وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ﴾، إشارة إلى الثراء الواسع الذي أصبح يتقلب فيه، حتى ان مفاتح خزائنه وحدها أصبحت من كثرة كنوزه وتنوع مدخراته تكون حملا ثقيلا يعجز عن ضبط أمره والنهوض به الجمع القوي من الخدم والحشم. وكون قارون ممن يكنز المال ولا ينفقه في سبيل الله، ولا يشرك في النفع به أحدا من عباد الله، كاف ليجعله موضع غضب الله، مصداقا لقوله تعالى :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ﴾ [ التوبة : ٣٤ ].
ويرى عقلاء القوم المتبصرون، في سلوك قارون المنحرف وعمله الفاسد، ما يثير الاشمئزاز ويستحق الانتقاد، ولا سيما ما هو عليه من المبالغة في الإعجاب بالنفس والاستعلاء على العباد، ويحاولون أن يسدوا إليه النصح الخالص والموعظة الحسنة، عسى أن يصلح خطأه ويقوم اعوجاجه، ويندرج في عداد من يصدق عليهم مثل قول الرسول الأعظم :" نعم المال الصالح للرجل الصالح " وذلك ما حكاه كتاب الله عنهم ﴿ إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ﴾


﴿ وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ﴾
لكنه لا يلبث أن يرد عليهم رد الجاهلين الذين أمنوا مكر الله، ولا يعترفون بأي فضل لله، وبينما يقول الله تعالى ممتنا على قارون ﴿ وآتيناه من الكنوز ﴾، مثبتا أن العطاء كله إنما هو منه وإليه، ويقول له عقلاء قومه :﴿ وابتغ فيما آتاك الله ﴾ موقنين بأن ما آل إليه من المال إنما استخلفه الله فيه، وجعله وديعة بين يديه، إذا به يرد عليهم في صلف وغرور، منكرا منة الله، ومتجاهلا كل من له حق في المال من ضعفاء عباد الله ﴿ قال إنما أوتيته على علم عندي ﴾. أما " نصيب الإنسان من دنياه " الذي تشير إليه الآية { ولا تنس نصيبك من الدنيا " فهو أن يعيش ويأكل ويشرب غير مضيق عليه، حسبما فسره الإمام مالك.
وعقب كتاب الله على تصريح قارون المليء بالجهل والكبر، مذكرا بسنة الله التي قد خلت من قبل في هذا النوع من عتاة المترفين، وأنه يمهلهم ولا يمهلهم، بل ينتقم منهم ويهلكهم، ويصبحون أثرا بعد عين، وذلك قوله تعالى :﴿ أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ﴾ والضمير يعود على قارون وكل من هو على شاكلته، ثم يقول الله تعالى :﴿ ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون ﴾، إشارة إلى حقارة هذا النوع المتكبر المتجبر وهوانه على الله، حتى انه لا يسأل يوم القيامة سؤال استعتاب، لأنه ليس أهلا للعتاب، كما في قوله تعالى :﴿ ثم لا يوذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون ﴾ [ النحل : ٨٤ ]، وقوله تعالى :﴿ هذا يوم لا ينطقون، ولا يوذن لهم فيعتذرون ﴾ [ المرسلات : ٣٥، ٣٦ ]. وقوله تعالى :﴿ فما هم من المعتبين ﴾ [ فصلت : ٢٤ ]. وهذا لا ينفي أن أمثال هؤلاء المجرمين سيسألون يوم القيامة سؤال تقريع وتوبيخ يتلاءم مع مقدار جرمهم، وبالغ كبرهم، مصداقا لقوله تعالى :﴿ فوربك لنسئلنهم أجمعين، عما كانوا يعملون ﴾ [ الحجر : ٩٢، ٩٣ ].
وليوضح كتاب الله ما كان عليه قارون من فخر وتيه واختيال، واعتزاز شديد بالثروة والمال، قال تعالى :﴿ فخرج على قومه في زينته ﴾ أي خرج على قومه مختالا فخورا في زينة فاخرة جاوزت الحدود، وتبرج أثيم فاق كل معهود، الأمر الذي فتن به ضعفاء النفوس والعقول من قومه، فأخذوا يتمنون على الله أن يصبحوا مثل قارون ثروة ومالا، جاهلين أن الثروة التي لا يعترف صاحبها بفضل الله، ولا يؤدي عنها حقوق الله، كثروة قارون، إنما تجر على صاحبها عقابا ووبالا، لكن سرعان ما قام عقلاء القوم الذين هم على بينة من حقائق الدين ووقائع التاريخ بنصحهم وتحذيرهم من مثل تلك الأماني الباطلة والشهوات الزائلة، وذكروا أولئك المعجبين المبهورين بثروة قارون وزينه : بأن الإيمان بالله والعمل الصالح هما أقرب سبيل إلى نيل رضا الله ورحمته، وضمان رزقه ونعمته، وأن الصبر عن الشهوات والأماني هو الطريق الوحيد إلى الفوز بنعيم الله ودخول جنته.
وإلى الانفعالات والتعليقات التي أثارها تبجح قارون وخروجه في زينته، بالنسبة لكلا الفريقين يشير قوله تعالى حكاية عنهم :﴿ قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم ﴾
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٩:وليوضح كتاب الله ما كان عليه قارون من فخر وتيه واختيال، واعتزاز شديد بالثروة والمال، قال تعالى :﴿ فخرج على قومه في زينته ﴾ أي خرج على قومه مختالا فخورا في زينة فاخرة جاوزت الحدود، وتبرج أثيم فاق كل معهود، الأمر الذي فتن به ضعفاء النفوس والعقول من قومه، فأخذوا يتمنون على الله أن يصبحوا مثل قارون ثروة ومالا، جاهلين أن الثروة التي لا يعترف صاحبها بفضل الله، ولا يؤدي عنها حقوق الله، كثروة قارون، إنما تجر على صاحبها عقابا ووبالا، لكن سرعان ما قام عقلاء القوم الذين هم على بينة من حقائق الدين ووقائع التاريخ بنصحهم وتحذيرهم من مثل تلك الأماني الباطلة والشهوات الزائلة، وذكروا أولئك المعجبين المبهورين بثروة قارون وزينه : بأن الإيمان بالله والعمل الصالح هما أقرب سبيل إلى نيل رضا الله ورحمته، وضمان رزقه ونعمته، وأن الصبر عن الشهوات والأماني هو الطريق الوحيد إلى الفوز بنعيم الله ودخول جنته.
وإلى الانفعالات والتعليقات التي أثارها تبجح قارون وخروجه في زينته، بالنسبة لكلا الفريقين يشير قوله تعالى حكاية عنهم :﴿ قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم ﴾

وبقدر ما كانت " خرجة " قارون في زينته، محفوفا بالحشم والخدم، لافتة للأنظار، مثيرة للأفكار، ها هو الحق سبحانه وتعالى يأخذه أخذ عزيز مقتدر بشكل يدهش العقول ويبهر الأبصار، وذلك قوله تعالى :﴿ فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله ﴾ أي لا حشم ولا خدم يستطيع أن يرد عنه عقاب الله، ولا مال ولا جاه يشفع له عند الله ﴿ وما كان من المنتصرين ﴾. قال الإمام القشيري وهو يصف قارون : " حمله حب الدنيا على جمعها، وحمله جمعها على حبها، وحمله حبها على البغي على قومه، وصارت كثرة ماله سبب هلاكه ".
ولا يكاد عقاب الله ينزل بقارون المتبرج المختال، حتى تزول الغشاوة عن أعين الذين كانوا بالأمس القريب يتمنون أن يكونوا مثله، فيعترفون بمنة الله عليهم، إذ لم يعاقبهم على ما تمنوه، ولم يخسف بهم وبديارهم كما فعل بقارون، ويقرون بأن سعة الرزق أو ضيقه إنما مردهما إلى حكمة الله وتدبيره، ويدركون مشاهدة وعيانا أن من أمن مكر الله، وكفر بأنعم الله، لا تكون عاقبته إلا خذلانا وخسرانا، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون ﴾.
وكلمة ( وي ) في قوله تعالى هنا :﴿ ويكأن الله ﴾، وقوله :﴿ ويكأنه ﴾ هي في الأصل كلمة مستقلة ومفصولة عن ( كأن ) التي جاءت بعدها، وإن كانت في رسم المصحف الكريم متصلة معها اتصال الكلمة الواحدة، وهي كلمة تقال عند التنبيه للخطأ وإظهار التندم، وكتاب الله عندما استعمل كلمة ( وي ) في هذا المقام أراد أن يبين أن قوم قارون قد تنبهوا إلى خطئهم في تمنيهم، عندما قالوا من قبل :﴿ يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون ﴾، وأنهم تندموا على ما فرط منهم من فلتات اللسان، عندما رأوا رأي العين أن مآل الكافرين بأنعم الله هو الخذلان والخسران، وهذا المعنى هو الذي يعبر عنه قوله تعالى في آية أخرى :﴿ لئن شكرتم لأزيدكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ﴾ [ إبراهيم : ٧ ].
وبعدما سجل كتاب الله نفاذ حكمه القاهر فوق عباده، في فرعون الطاغية المتجبر، الذي علا في الأرض وجعل أهلها شيعا، واستكبر هو وجنوده في الأرض حيث نبذه وجنوده في اليم نبذ النواة، كما ورد ذلك في ختام قصة موسى، وبعدما سجل كتاب الله نفاذ حكم الله القاهر فوق عباده في قارون، الذي بغى على قومه، وخرج في زينته متبرجا مختالا، حيث خسف به وبداره الأرض، كما ورد ذلك في نهاية قصة قارون، انتقل كتاب الله إلى تقرير حقيقة عامة تشملهما وتشمل كل من سلك مسلكهما وكان على شاكلتهما من الطغاة المفسدين، وعتاة المترفين، مبينا أن من لم يعمل على إقامة العدل بين الناس، ونشر الصلاح في مجتمعاتهم، لن يكون له أدنى حظ من النعيم المقيم في دار الخلود، لأنه خان أمانة الخلافة عن الله في الأرض، وقابل نعمة الله بالكفران والجحود، وذلك قوله تعالى في إيجاز وإعجاز :﴿ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ﴾. وتقوى الله هي الحاجز الحصين من الوقوع في شرك الفساد، وهي الدواء الناجع لعقدة الاستعلاء والاستبداد.
وانتقل كتاب الله إلى الحديث عن سلوك الإنسان في حياته اليومية، وما يقضي فيه وقته من حسنات، تنفع الأفراد والجماعات، وما قد يرتكبه من سيئات لا يستريح ضميره إلا إذا كفر عنهما بالحسنات، فبين أن الحق سبحانه وتعالى الذي يريد الخير لعباده يجزي على الحسنة بخير منها ويضاعف أجرها، وأنه رفقا بهم ونظرا إلى ضعفهم لا يعاقب على السيئة إلا بقدرها، نظرا لأن المومن الحق يأنف بطبعه من ممارسة السيئات، ولا تصدر منه السيئة إلا على أنها هفوة من الهفوات، وفلتة من الفلتات ﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾، وإلى ذلك يشير قوله تعالى :﴿ من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون ﴾.
ولما انتهى كتاب الله من عرض قصة موسى مع فرعون وقصة قارون مع قوم موسى، وهما محور الحديث في " سورة القصص " توجه بالخطاب في الآيات الأربع الأخيرة من هذه السورة إلى خاتم الأنبياء والمرسلين، يمن عليه بنعمة الوحي الذي آتاه، ويذكره بتعاليم الحنيفية السمحة التي يهتدي بها في الدعوة إلى الله، ويأمره بالثبات على الحق والصمود في وجه أعداء الله، ويعرفه بأنه مسؤول عن رسالته أمام الله، وذلك قوله تعالى :﴿ إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ﴾ أي أن الذي فرض عليك تلقي القرآن، وحفظه وتلاوته، وتبليغه للناس، وتبيينه لهم بما أراك الله، والحكم به في شؤونهم الخاصة والعامة، لرادك إليه، وسائلك يوم القيامة عن جهادك في سبيل القرآن، وعن دور رسالة القرآن، وأثرها في حياة أمة القرآن، وإلى هذا المعنى المناسب للسياق، والمتسق معه أحسن اتساق، ينظر قوله تعالى في آية أخرى :﴿ فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين ﴾ [ الأعراف : ٦ ] وقوله تعالى في نفس الاتجاه :﴿ وجيء بالنبيئين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ﴾ [ الزمر : ٦٩ ].
وكما قال موسى لفرعون وملائه فيما سبق بإرشاد من ربه :﴿ ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار ﴾ ها هو كتاب الله يلقن لنبيه الصادق الأمين نفس الأسلوب الحكيم، ويحضه على أن يتلطف مع من يجادلونه، ويرخى لهم العنان، عسى أن يستدرج إلى الحق من يجادل في الحق بغير حجة ولا برهان، وذلك قوله تعالى :﴿ قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين ﴾، على غرار قوله تعال في سورة سبأ :﴿ وإنا أو إياكم لعلى هدى أ في ضلال مبين ﴾ [ الآية : ٢٤ ]
ثم خاطب نبيه مذكرا إياه بنعمة الوحي والكتاب المنزل، الذي لم يكن يتوقع نزوله عليه بحال، فقد كانت النبوة قاصرة على أنبياء بني إسرائيل منذ عدة أجبال، لكن الله تفضل فأنزل عليه كتابه المبين، وأرسله رحمة للعالمين ﴿ وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك ﴾.
وتثبيتا للرسول وأمته على الحق، بالرغم من جميع المعوقات والعراقيل، وإغراء بالمضي قدما في الدعوة إلى الله دون ملل ولا كلل، والصمود في وجه أعداء الدعوة بصبر وجلد، كيفما كانوا وكيفما كانت أساليبهم الملتوية، قال تعالى :﴿ فلا تكونن ظهيرا للكافرين ﴾
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٦:ثم خاطب نبيه مذكرا إياه بنعمة الوحي والكتاب المنزل، الذي لم يكن يتوقع نزوله عليه بحال، فقد كانت النبوة قاصرة على أنبياء بني إسرائيل منذ عدة أجبال، لكن الله تفضل فأنزل عليه كتابه المبين، وأرسله رحمة للعالمين ﴿ وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك ﴾.
وتثبيتا للرسول وأمته على الحق، بالرغم من جميع المعوقات والعراقيل، وإغراء بالمضي قدما في الدعوة إلى الله دون ملل ولا كلل، والصمود في وجه أعداء الدعوة بصبر وجلد، كيفما كانوا وكيفما كانت أساليبهم الملتوية، قال تعالى :﴿ فلا تكونن ظهيرا للكافرين ﴾


﴿ لا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين ﴾
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٦:ثم خاطب نبيه مذكرا إياه بنعمة الوحي والكتاب المنزل، الذي لم يكن يتوقع نزوله عليه بحال، فقد كانت النبوة قاصرة على أنبياء بني إسرائيل منذ عدة أجبال، لكن الله تفضل فأنزل عليه كتابه المبين، وأرسله رحمة للعالمين ﴿ وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك ﴾.
وتثبيتا للرسول وأمته على الحق، بالرغم من جميع المعوقات والعراقيل، وإغراء بالمضي قدما في الدعوة إلى الله دون ملل ولا كلل، والصمود في وجه أعداء الدعوة بصبر وجلد، كيفما كانوا وكيفما كانت أساليبهم الملتوية، قال تعالى :﴿ فلا تكونن ظهيرا للكافرين ﴾


﴿ ولا تدع مع الله إلها آخر ﴾. وإذا كان هذا الخطاب موجها في ظاهره إلى الرسول، فإنه موجه في الحقيقة عن طريقه إلى كل فرد من أمة القرآن، في كل جيل وكل زمان.
وعندما أشرفت " سورة القصص " على التمام والكمال، ذكر كتاب الله كافة البشر، وفي طليعتهم كل من طغى وتجبر، بحقيقة أزلية كبرى تتهاوى أمامها جميع الادعاءات الزائفة والتحديات الباطلة، ألا وهي أن الله تعالى هو وحده الحي القيوم، الدائم الحياة والبقاء، الذي لا يلحقه موت ولا فناء، المتصرف في ملكه والقاهر فوق عباده من كافة الأحياء دون استثناء، وذلك قوله تعالى في ختام هذه السورة :﴿ لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم ﴾ على غرار قوله تعالى :﴿ كل من عليها ﴾ أي على الأرض ﴿ فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال الإكرام ﴾ [ الرحمان : ٢
وردا على من يظن أن مسؤولية الإنسان تنتهي بمفارقة الروح للجسد، وأنه لا حشر ولا نشر، ولا ثواب ولا عقاب بعد الموت، أعقب قوله تعالى :﴿ كل شيء هالك ﴾ بقوله تعالى :﴿ وإليه ترجعون ﴾، بمعنى أن كل إنسان هالك عند الموت لا محالة، لكنه رغم موته لا بد أن يبعث ويحشر ويرجع إلى الله لينال جزاءه الأوفى إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وأما هلاك الكون بالمعنى العام فقد فسره ابن حزم وابن القيم وفخر الدين الرازي بما يحدث في الكون من انقلاب شامل يتجلى في تغيير معالمه وتبديل أحواله، حسبما وصفته وفصلته آيات الذكر الحكيم، وذلك طبقا لمشيئة خالق الكون ومدبر أمره، الذي يفعل في ملكه ما يشاء ويحكم ما يريد. وحجتهم في ذلك وجوب الوقوف عند ظاهر قوله تعالى في سورة إبراهيم :﴿ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات، وبرزوا لله الواحد القهار ﴾ [ الآية : ٤٨ ].
Icon