تفسير سورة القصص

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة القصص من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ
تفسير سورة القصص
وهي مكية إلا قوله تعالى :( الذين آتيناهم الكتاب ) ( ١ ) إلى قوله تعالى :( لا نبتغي الجاهلين ) ( ٢ ).
وفي هذه السورة آية ليست بمكية ولا مدنية، وهي قوله تعالى :( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ) ( ٣ ) نزلت هذه الآية بين مكة والمدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة، وهو منزل من المنازل، وذلك حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة.
١ - القصص: ٥٢..
٢ - القصص: ٥٥..
٣ - القصص: ٥٨..

قَوْله تَعَالَى: ﴿طسم﴾ قَالَ قَتَادَة: اسْم من أَسمَاء الْقُرْآن، وَعَن الْحسن أَنه قَالَ: هُوَ اسْم من أَسمَاء السُّورَة، وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة قَالَ: هُوَ اسْم الله الْأَعْظَم، وَقد بَينا غير هَذَا.
وَقَوله: ﴿تِلْكَ آيَات الْكتاب الْمُبين﴾ يُقَال: بَان وَأَبَان بِمَعْنى وَاحِد، وَكَذَلِكَ قَوْلهم: بيّنت الشَّيْء وأبينه. وَقَالَ الزّجاج: الْمُبين للْحَلَال من الْحَرَام، وَالْحق من الْبَاطِل.
قَوْله تَعَالَى: ﴿نتلو عَلَيْك من نبأ مُوسَى وَفرْعَوْن بِالْحَقِّ﴾ أَي: بِالصّدقِ.
وَقَوله: ﴿لقوم يُؤمنُونَ﴾ أَي: يصدقون، والنبأ اسْم للْخَبَر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن فِرْعَوْن علا فِي الأَرْض﴾ أَي: تكبر وتجبر، وَيُقَال: طَغى وقهر، وَالْأَرْض هِيَ أَرض مصر. ﴿وَجعل أَهلهَا شيعًا﴾ أَي: فرقا.
وَقَوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿يستضعف طَائِفَة مِنْهُم﴾ المُرَاد من الطَّائِفَة: بَنو
120
﴿يذبح أَبْنَاءَهُم ويستحيي نِسَاءَهُمْ إِنَّه كَانَ من المفسدين (٤) ونريد أَن نمن على﴾ إِسْرَائِيل، وَتَفْسِير الاستضعاف: مَا يذكر من بعد، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: ﴿يذبح أَبْنَاءَهُم ويستحيي نِسَاءَهُمْ﴾ وَقُرِئَ فِي الشاذ: " يذبح أَبْنَاءَهُم " بِغَيْر التَّشْدِيد، وَسمي هَذَا استضعافا؛ لأَنهم عجزوا وضعفوا عَن دفع هَذَا عَن أنفسهم، وَذكر وهب بن مُنَبّه وَغَيره: أَن فِرْعَوْن رأى فِي مَنَامه كَأَن نَارا خرجت من جَانب الشَّام حَتَّى أحاطت بِمصْر، وأحرقت القبط، وَتركت بني إِسْرَائِيل، فَلَمَّا أصبح دَعَا الكهنة، وَأخْبرهمْ برؤياه، فَقَالُوا: يخرج رجل من بني إِسْرَائِيل يكون هلاكك وهلاك القبط على يَده. وَبَعْضهمْ روى أَنهم قَالُوا: يُولد مَوْلُود؛ فَحِينَئِذٍ أَمر فِرْعَوْن بِذبح الذُّكُور من أَوْلَاد بني إِسْرَائِيل واستبقاء إناثهم. قَالَ الزّجاج: وَهَذَا من حمقه؛ لِأَنَّهُ إِن كَانَت الكهنة صَادِقين فَمَا يُغني الْقَتْل، وَإِن كَانُوا كاذبين فَلَا معنى للْقَتْل أَيْضا. قَالَ وهب: فَلَمَّا فعلوا ذَلِك فِي ولدان بني إِسْرَائِيل، وتسارع الْمَوْت إِلَى شيوخهم، فَاجْتمع الْأَشْرَاف من القبط إِلَى فِرْعَوْن، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّك تقتل أَوْلَاد بني إِسْرَائِيل، وَقد تسارع الْمَوْت إِلَى شيوخهم، فَعَن قريب لَا يبْقى مِنْهُم [أحد]، وَترجع الْأَعْمَال إِلَيْنَا، وَقد كَانُوا يستعملون بني إِسْرَائِيل فِي الْأَعْمَال الشاقة.
قَالَ السّديّ فِي قَوْله: ﴿وَجعل أَهلهَا شيعًا﴾ كَانُوا جعلُوا بني إِسْرَائِيل فرقا، ففرقة يبنون، وَفرْقَة يحرثون ويزرعون، وَفرْقَة يغرسون، وَفرْقَة يرعون الدَّوَابّ، إِلَى مثل هَذَا من الْأَعْمَال، وَمن لم يُمكنهُ أَن يعْمل عملا كَانَ يُؤْخَذ مِنْهُ الْجِزْيَة، فَلَمَّا سمع فِرْعَوْن قَوْلهم أَمر أَن يقتلُوا الْأَوْلَاد سنة وَلَا يقتلُون سنة، فولد هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام فِي السّنة الَّتِي لَا يقتل فِيهَا الْأَوْلَاد، وَولد مُوسَى فِي السّنة الَّتِي يقتل فِيهَا الْأَوْلَاد.
وَقَوله: ﴿إِنَّه كَانَ من المفسدين﴾ أَي: فِي الأَرْض.
121
قَوْله تَعَالَى: ﴿ونريد أَن نمن﴾ أَي: ننعم.
121
﴿الَّذين استضعفوا فِي الأَرْض ونجعلهم أَئِمَّة ونجعلهم الْوَارِثين (٥) ونمكن لَهُم فِي الأَرْض ونري فِرْعَوْن وهامان وجنودهما مِنْهُم مَا كَانُوا يحذرون (٦) وأوحينا إِلَى أم مُوسَى أَن أرضعيه فَإِذا خفت عَلَيْهِ فألقيه فِي اليم وَلَا تخافي وَلَا تحزني إِنَّا رادوه إِلَيْك﴾
وَقَوله: ﴿على الَّذين استضعفوا فِي الأَرْض﴾ أَي: بني إِسْرَائِيل.
وَقَوله: ﴿ونجعلهم أَئِمَّة﴾ أَي: وُلَاة.
وَقَوله: ﴿ونجعلهم الْوَارِثين﴾ أَي: الْوَارِثين لملك فِرْعَوْن والقبط، وَقد رُوِيَ أَن فِرْعَوْن لما أغرقه الله، رَجَعَ بَنو إِسْرَائِيل إِلَى مصر، واستعبدوا من بَقِي من القبط.
122
قَوْله تَعَالَى: ﴿ونمكن لَهُم فِي الأَرْض﴾ أَي: نجْعَل لَهُم مصرا مَكَانا يستقرون فِيهِ.
وَقَوله: ﴿ونرى فِرْعَوْن وهامان وجنودهما مِنْهُم مَا كَانُوا يحذرون﴾ الحذر هُوَ التوقي من الضَّرَر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وأوحينا إِلَى أم مُوسَى﴾ فِي الْقِصَّة: أَن أم مُوسَى لما حبلت بمُوسَى لم يظْهر عَلَيْهَا الْحمل كَمَا يظْهر على النِّسَاء، وَولدت وَلم يعلم بولادتها أحد، وَجعلت ترْضِعه فِي خُفْيَة، ثمَّ إِنَّهَا خشيت أَن يطلع عَلَيْهِ النَّاس ويذبح، فَألْقى الله تَعَالَى فِي قَلبهَا مَا ذكره فِي هَذِه الْآيَة.
وَالْوَحي هُوَ الْإِعْلَام فِي خُفْيَة، فَأكْثر الْمُفَسّرين على أَن معنى قَوْله: ﴿وأوحينا إِلَى أم مُوسَى﴾ هُوَ إلهامها، وَألقى هَذَا الْمَعْنى فِي قَلبهَا، وَقَالَ بَعضهم: رَأَتْ ذَلِك رُؤْيا، [وَقَالَ] بَعضهم: هُوَ الْوَحْي حَقِيقَة، وأتاها الْملك بِهَذَا من الله، إِلَّا أَنَّهَا لم تكن نبية.
وَقَوله: ﴿أَن أرضعيه﴾ اخْتلف القَوْل فِي مُدَّة الرَّضَاع، مِنْهُم من قَالَ: ثَمَانِيَة أشهر، وَمِنْهُم من قَالَ: أَرْبَعَة أشهر، وَمِنْهُم من قَالَ: ثَلَاثَة أشهر.
وَقَوله: ﴿فَإِذا خفت عَلَيْهِ فألقيه فِي اليم﴾ الْخَوْف عَلَيْهِ هُوَ لخوف من الذّبْح.
122
﴿وجاعلوه من الْمُرْسلين (٧) فالتقطه آل فِرْعَوْن ليَكُون لَهُم عدوا وحزنا إِن فِرْعَوْن﴾
وَقَوله: ﴿فألقيه فِي اليم﴾ اليم: الْبَحْر، وَالْمرَاد مِنْهُ هَاهُنَا على قَول جَمِيع الْمُفَسّرين هُوَ النّيل، قَالَ ابْن عَبَّاس: دعت بنجار واتخذت تابوتا، فَذهب ذَلِك النجار وَأخْبر فِرْعَوْن، وَجَاء بالأعوان، فطمس الله على عينه حَتَّى لم يهتد إِلَى شَيْء، فعاهد مَعَ الله إِن رد عَلَيْهِ بَصَره ليصرفن الأعوان عَنهُ، فَرد الله بَصَره عَلَيْهِ، فصرف الأعوان، ثمَّ إِنَّه آمن بمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام من بعد، وَهُوَ مُؤمن آل فِرْعَوْن، واسْمه حزقيل.
وَقَوله: ﴿وَلَا تخافي وَلَا تحزني﴾ أَي: لَا تخافي عَلَيْهِ من الْغَرق، وَقيل: من الضَّيْعَة، وَقَوله: ﴿وَلَا تحزني﴾ أَي: وَلَا تحزني على فِرَاقه.
وَقَوله: ﴿إِنَّا رادوه إِلَيْك وجاعلوه من الْمُرْسلين﴾ ظَاهر الْمَعْنى، وَقد اشْتَمَلت الْآيَة على أَمريْن ونهيين وخبرين وبشارتين، أما الْأَمْرَانِ: فَقَوله: ﴿أَن أرضعيه﴾، وَقَوله: ﴿فألقيه فِي اليم﴾، وَأما النهيان: فَقَوله: ﴿وَلَا تخافي وَلَا تحزني﴾، وَأما الخبران: فَقَوله: ﴿وأوحينا إِلَى أم مُوسَى﴾ وَكَذَلِكَ قَوْله: ﴿فَإِذا خفت عَلَيْهِ﴾ وَأما البشارتان: فَقَوله تَعَالَى: ﴿إِنَّا رادوه إِلَيْك وجاعلوه من الْمُرْسلين﴾، الْآيَة تعد من فصيح الْقُرْآن.
123
قَوْله تَعَالَى: ﴿فالتقطه آل فِرْعَوْن﴾ الِالْتِقَاط هُوَ وجود الشَّيْء من غير طلب. وَفِي الْقِصَّة: أَن أم مُوسَى وضعت مُوسَى فِي التابوت، وَجَاءَت بِهِ وألقته فِي النّيل، فَمر بِهِ المَاء إِلَى جَانب دَار فِرْعَوْن، وَقد كَانَت الْجَوَارِي خرجن لاستقاء المَاء، فَرد المَاء التابوت فِي المشرعة الَّتِي يستقون مِنْهَا، وَيُقَال: تعلق التابوت بِالشَّجَرِ الَّتِي كَانَت ثمَّ، ومُوسَى هُوَ بالعبرية موشى، و " مو " هُوَ المَاء، و " شى " هُوَ الشّجر، وَسمي موشى؛ لِأَنَّهُ وجد بَين المَاء وَالشَّجر، فَأخذت الْجَوَارِي التابوت، وذهبن بِهِ إِلَى امْرَأَة فِرْعَوْن، وَهِي آسِيَة بنت مُزَاحم، وَيُقَال: إِنَّهَا كَانَت من بني إِسْرَائِيل، وَكَانَ فِرْعَوْن نكح مِنْهُم هَذِه الْمَرْأَة.
وَقَوله: ﴿ليَكُون لَهُم عدوا وحزنا﴾ (هَذِه اللَّام لَام الْعَاقِبَة، وَقيل: لَام الصيرورة، فَإِنَّهُم مَا التقطوه ليَكُون لَهُم عدوا وحزنا)، وَلَكِن صَار أَمرهم إِلَى هَذَا، فَذكر
123
﴿وهامان وجنودهما كَانُوا خاطئين (٨) وَقَالَت امراة فِرْعَوْن قرت عين لي وَلَك لَا تقتلوه عَسى أَن ينفعنا أَو نتخذه ولدا وهم لَا يَشْعُرُونَ (٩) وَأصْبح فؤاد أم مُوسَى﴾ اللَّام على معنى الصيرورة، وَهَذَا كَقَوْل الشَّاعِر:
(أَمْوَالنَا لِذَوي الْمِيرَاث نجمعها ودورنا لخراب الدَّهْر نبنيها)
وَقَوله: ﴿إِن فِرْعَوْن وهامان وجنودهما كَانُوا خاطئين﴾ أَي: تاركين طَرِيق الْحق.
124
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَت امْرَأَة فِرْعَوْن قُرَّة عين لي وَلَك﴾ فِي الْخَبَر: أَن امْرَأَة فِرْعَوْن حملت الصَّبِي إِلَى فِرْعَوْن، وَقَالَت: قُرَّة عين لي وَلَك، فَقَالَ فِرْعَوْن: قُرَّة عين لَك، فَأَما لي فَلَا. وَفِي هَذَا الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " لَو قَالَ فِرْعَوْن قُرَّة عين لي، لهداه الله تَعَالَى كَمَا هدى امْرَأَته " وَالْخَبَر غَرِيب.
وَفِي بعض التفاسير: أَن فِرْعَوْن قصد قَتله، وَقَالَ: لَعَلَّه من الْأَعْدَاء، فاستوهبته امْرَأَته فوهبه لَهَا.
وَقَوله: ﴿لَا تقتلوه عَسى أَن ينفعنا أَو نتخذه ولدا﴾ رُوِيَ أَن آسِيَة لم يكن لَهَا ولد، وَقيل: كَانَ يَمُوت أَوْلَادهَا، فَقَالَت: أَو نتخذه ولدا لهَذَا.
وَقَوله: ﴿وهم لَا يَشْعُرُونَ﴾ أَي: لَا يعلمُونَ حَقِيقَة الْأَمر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأصْبح﴾ قيل: وَأصْبح أَي: صَار، وَيُقَال: هُوَ على حَقِيقَته، واستعماله فِي هَذَا الْموضع على طَرِيق الْمجَاز، وَمَعْنَاهُ: أَصبَحت أم مُوسَى وفؤادها فَارغًا، وَاخْتلف القَوْل فِي قَوْله ﴿فَارغًا﴾ الْأَكْثَرُونَ على أَن المُرَاد بِهِ فَارغًا من كل شَيْء إِلَّا من ذكر مُوسَى والوجد عَلَيْهِ، هَذَا قَول ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَمُجاهد
124
﴿فَارغًا إِن كَادَت لتبدي بِهِ لَوْلَا أَن ربطنا على قَلبهَا لتَكون من الْمُؤمنِينَ (١٠) وَقَالَت لأخته قصيه فبصرت بِهِ عَن جنب وهم لَا يَشْعُرُونَ (١١) وحرمنا عَلَيْهِ المراضع من﴾ وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَغَيرهم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: ﴿فَارغًا﴾ أَي: فَارغًا من الْحزن عَلَيْهِ لعلمها بِصدق وعد الله تَعَالَى، وَهَذَا قَول أبي عُبَيْدَة، وَأنكر القتيبي وَغَيره هَذَا القَوْل، وَقَالُوا: كَيفَ يَصح هَذَا وَالله تَعَالَى يَقُول: ﴿إِن كَادَت لتبدي بِهِ لَوْلَا أَن ربطنا على قَلبهَا﴾ ؟ وَالْقَوْل الثَّالِث: " فَارغًا " أَي: نَاسِيا للوحي الَّذِي أنزل عَلَيْهَا، والعهد الَّذِي أَخذ عَلَيْهَا بألا تحزني من شدَّة البلية عَلَيْهِ، وَهَذَا معنى قَول الْحسن، وَقُرِئَ فِي الشاذ: " فَزعًا "، وَقد بَينا أَن معنى قَوْله: ﴿فَأصْبح﴾ أَي: صَار، وأنشدوا فِي هَذَا شعرًا:
(مضى الْخُلَفَاء بِالْأَمر الرشيد وأصبحت المذمة للوليد)
وَقَوله: ﴿إِن كَادَت لتبدي بِهِ﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: كَادَت تَقول: يَا إبناه.
وَقَوله: ﴿لَوْلَا أَن ربطنا على قَلبهَا﴾ أَي: بِالصبرِ، وَقيل: بِالْإِيمَان بالوعد، وَقيل: بالعصمة.
وَقَوله: ﴿لتَكون من الْمُؤمنِينَ﴾ أَي: من المصدقين،
125
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَقَالَت لأخته قصيه﴾ فِي الْقِصَّة: أَن اسْم [أُخْته] كَانَت مَرْيَم، وَقَوله: ﴿قصيه﴾ أَي: اتبعي أَثَره، وَمِنْه الْقَصَص؛ لِأَنَّهَا رِوَايَة يتبع بَعْضهَا بَعْضًا.
وَقَوله: ﴿فبصرت بِهِ عَن جنب﴾ أَي: [عَن بعد]، وَقيل: عَن جَانب، وَفِي الْقِصَّة: أَنَّهَا كَانَت تمشي جانبا، وَتنظر مختلسة وتري النَّاس أَنَّهَا لَا تنظر.
وَقَوله: ﴿وهم لَا يَشْعُرُونَ﴾ أَي: لَا يَشْعُرُونَ أَن هلاكهم على يَد مُوسَى، وَقيل: وهم لَا يعلمُونَ أَن الصَّبِي مُوسَى، وَأَن طَالبه أمه وَأُخْته، وأنشدوا قَول الشَّاعِر عَن جنب بِمَعْنى بعد:
125
﴿قبل فَقَالَت هَل أدلكم على أهل بَيت يكفلونه لكم وهم لَهُ ناصحون (١٢) فرددناه إِلَى أمه كي تقر عينهَا وَلَا تحزن ولتعلم أَن وعد الله حق وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (١٣) ﴾
126
قَوْله تَعَالَى: ﴿وحرمنا عَلَيْهِ المراضع من قبل﴾ أَي: منعناه من قبُول الرَّضَاع، وَلَيْسَ المُرَاد من التَّحْرِيم هُوَ التَّحْرِيم الشَّرْعِيّ؛ وَإِنَّمَا المُرَاد من التَّحْرِيم هُوَ الْمَنْع، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس شعرًا:
(فَلَا تَسْأَلنِي نائلا عَن جَنَابَة فَإِن امْرُؤ وسط القباب غَرِيب)
(جالت لتصرعني فَقلت لَهَا اقصري إِنِّي امْرُؤ صرعى عَلَيْك حرَام)
أَي: مُمْتَنع، وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى مكث ثَمَان لَيَال لَا يقبل ثديا، ويصيح وهم فِي طلب مُرْضِعَة لَهُ.
وَقَوله: ﴿فَقَالَت هَل أدلكم﴾ يَعْنِي: قَالَت أُخْت مُوسَى: هَل أدلكم ﴿على أهل بَيت يكفلونه لكم﴾ ؟.
وَقَوله: ﴿وهم لَهُ ناصحون﴾ أَي: عَلَيْهِ مشفقون، والنصح ضد الْغِشّ، وَقيل: النصح تصفية الْعَمَل من شوائب الْفساد، وَمِنْه قَوْله: " إِلَّا إِن الدّين النَّصِيحَة. قيل: لمن؟ قَالَ: لله وَلِرَسُولِهِ وَكتابه وَالْمُؤمنِينَ " وَالْخَبَر ثَابت، رَوَاهُ تَمِيم الدَّارِيّ.
وَفِي لقصة: أَن قوم فِرْعَوْن استرابوا بقول أُخْت مُوسَى فَقَالُوا: [إِنَّك] تعرفينه، وَإِلَّا فَمَا معنى نصحك لَهُ؟ فألهمها الله تَعَالَى حَتَّى قَالَت: قلت هَذَا رَغْبَة فِي سرُور الْملك واتصالنا بِهِ، وَرُوِيَ أَن أم مُوسَى لما أُتِي بهَا، وَوجد مُوسَى رِيحهَا، (نزا) إِلَى ثديها فَجعل يمصه حَتَّى امْتَلَأَ جنباه ريا، وَقَالَ السّديّ: كَانُوا يعطونها كل يَوْم دِينَارا.
126
﴿وَلما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وَكَذَلِكَ نجزي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدخل الْمَدِينَة على حِين غَفلَة من أَهلهَا فَوجدَ فِيهَا رجلَيْنِ يقتتلان هَذَا من شيعته وَهَذَا من﴾
127
وَقَوله: ﴿فرددناه إِلَى أمه كي تقر عينهَا﴾ أَي: تقر عينهَا برد مُوسَى إِلَيْهَا ﴿وَلَا تحزن﴾ أَي: وَلِئَلَّا تحزن.
وَقَوله: ﴿ولتعلم أَن وعد الله حق﴾ لِأَنَّهُ كَانَ قد وعدها أَنه يردهُ إِلَيْهَا.
وَقَوله: ﴿وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ﴾ أَي: لَا يعلمُونَ أَن وعد الله حق.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلما بلغ أشده﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: الأشد: ثَلَاثُونَ سنة، وَعَن سُفْيَان الثَّوْريّ: أَربع وَثَلَاثُونَ سنة، وَقيل: ثَلَاث وَثَلَاثُونَ سنة، وَقيل خمس وَعِشْرُونَ سنة، وَقيل: عشرُون سنة، وَقيل: [ثَمَانِي عشرَة] سنة.
وَقَوله: ﴿واستوى﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: أَرْبَعُونَ سنة، وَعَن غَيره: ﴿اسْتَوَى﴾ أَي: انْتهى شبابه.
وَقَوله: ﴿آتيناه حكما وعلما﴾ أَي: الْفِقْه وَالْعقل وَالْعلم.
وَقَوله: ﴿وَكَذَلِكَ نجزي الْمُحْسِنِينَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَدخل الْمَدِينَة﴾ فِي التَّفْسِير: أَن الْمَدِينَة كَانَت مَدِينَة عين شمس، وَقيل: مَدِينَة منف، وَعَن السّديّ قَالَ: كَانَ مُوسَى يركب من مراكب فِرْعَوْن، ويلبس من ملابسه، وَكَانَ يُسمى ابْن فِرْعَوْن، فَركب فِرْعَوْن مرّة فِي حشمه إِلَى بعض الْمَدَائِن، وَكَانَ مُوسَى غَائِبا فَرجع وَقد ركب فِرْعَوْن، فَركب فِي أَثَره، فوصل إِلَى الْمَدِينَة وَقت القائلة، وَقد اشْتغل النَّاس بالقيلولة، فَهُوَ معنى قَوْله: ﴿وَدخل الْمَدِينَة على حِين غَفلَة من أَهلهَا﴾ أَي: غفلوا عَن ذكر مُوسَى.
وَقَوله: ﴿فَوجدَ فِيهَا رجلَيْنِ يقتتلان﴾ فِي الْقِصَّة: أَنه وجد قبطيا يسخر إِسْرَائِيلِيًّا فِي حمل الْحَطب إِلَى مطبخ فِرْعَوْن، وَقَوله: ﴿يقتتلان﴾ أَي: يختصمان ويتنازعان، وَقَوله: ﴿هَذَا من شيعته وَهَذَا من عدوه﴾ أى: الإسرائيلي من شيعته، والقبطي من
127
﴿عدوه فاستغاثه الَّذِي من شيعته على الَّذِي من عدوه فوكزه مُوسَى فَقضى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا من عمل الشَّيْطَان إِنَّه عَدو مضل مُبين (١٥) قَالَ رب إِنِّي ظلمت نَفسِي فَاغْفِر لي فغفر لَهُ إِنَّه هُوَ الغفور الرَّحِيم (١٦) قَالَ رب بِمَا أَنْعَمت عَليّ فَلَنْ أكون ظهيرا للمجرمين﴾ عدوه، وَكَانَت بَنو إِسْرَائِيل قد عزوا بمَكَان مُوسَى؛ لأَنهم كَانُوا يعلمُونَ أَنه مِنْهُم، وَيُقَال: ﴿هَذَا من شيعته وَهَذَا من عدوه﴾ أَي: هَذَا مُؤمن وَهَذَا كَافِر.
وَقَوله: ﴿فاستغاثه الَّذِي من شيعته﴾ الاستغاثة: طلب المعونة، وَقَوله: ﴿فوكزه مُوسَى﴾ قَرَأَ (ابْن مَسْعُود) :" فلكزه مُوسَى " واللكز والوكز (وَاحِد، وَهُوَ الضَّرْب بِجمع الْكَفّ، وَقيل الوكز هُوَ الضَّرْب فِي الصَّدْر، واللكز) هُوَ الضَّرْب فِي الظّهْر. وَفِي بعض التفاسير: (أَن مُوسَى) عقد ثَلَاثًا وَثَمَانِينَ وضربه ضَرْبَة بِهِ فِي صَدره، وَكَانَ شَدِيد الْبَطْش، فَقتل الرجل، فَهُوَ معنى قَوْله: ﴿فَقضى عَلَيْهِ﴾ أَي: قَتله، يُقَال: قضى فلَان أَي: مَاتَ. فَإِن قيل: كَيفَ يجوز هَذَا على مُوسَى؟ قُلْنَا: وَهُوَ لم يقْصد الْقَتْل، وَإِنَّمَا وَقع الْقَتْل خطأ، وَكَانَ قَصده استنقاذ الإسرائيلي من ظلمه.
وَقَوله: ﴿قَالَ هَذَا من عمل الشَّيْطَان﴾ أَي: من تزيينه، وَقَوله: ﴿إِنَّه عَدو مضل مُبين﴾ أَي: مضل بَين الضَّلَالَة،
128
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ رب إِنِّي ظلمت نَفسِي﴾ يَعْنِي: بقتل القبطي من غير أمره ﴿فَاغْفِر لي﴾ أَي: فَاغْفِر لي بِمَا عملت.
وَقَوله: ﴿فغفر لَهُ إِنَّه هُوَ الغفور الرَّحِيم﴾ أَي: غفر الله لَهُ، إِن الله غَفُور رَحِيم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ رب بِمَا أَنْعَمت عَليّ﴾ مننت عَليّ بالمغفرة.
وَقَوله: ﴿فَلَنْ أكون ظهيرا للمجرمين﴾ أَي: معاونا للمجرمين، وَفِي بعض التفاسير: أَن قَوْله: ﴿فَلَنْ أكون ظهيرا للمجرمين﴾ كَانَت زلَّة من مُوسَى حِين لم يقرن بِهِ مَشِيئَة الله أَو الاستغاثة من الله، وقلما يَقُول الْإِنْسَان هَذَا القَوْل، وَيُطلق هَذَا الْإِطْلَاق إِلَّا ابتلى، فَابْتلى مُوسَى فِي الْيَوْم الثَّانِي مَا ذكره الله تَعَالَى، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
128
( ﴿١٧) فَأصْبح فِي الْمَدِينَة خَائفًا يترقب فَإِذا الَّذِي استنصره بالْأَمْس يستصرخه قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّك لغَوِيّ مُبين (١٨) فَلَمَّا أَن أَرَادَ أَن يبطش بِالَّذِي هُوَ عَدو لَهما قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تقتلني كَمَا قتلت نفسا بالْأَمْس إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تكون جبارا فِي الأَرْض وَمَا تُرِيدُ﴾
129
﴿فَأصْبح فِي الْمَدِينَة خَائفًا يترقب﴾. قَالَ سعيد بن جُبَير: يلْتَفت وَيُقَال: ينْتَظر الطّلب، وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى حِين قتل ذَلِك الرجل لم يره أحد، وَدفن لرجل فِي الرمل. وَرُوِيَ أَن قومه وجدوه قَتِيلا، فَجَاءُوا إِلَى فِرْعَوْن وَذكروا لَهُ ذَلِك. فَقَالَ: اطْلُبُوا قَاتله لأقيده بِهِ، فَجعلُوا يطلبونه ومُوسَى يخَاف.
وَقَوله: ﴿فَإِذا الَّذِي استنصره بالْأَمْس يستصرخه﴾ أَي: يستغيث بِهِ ويصيح بِهِ من بعد، وَكَانَ ذَلِك الإسرائيلي سَخَّرَهُ قبْطِي آخر، فَبَصر بِهِ مُوسَى فَطلب مِنْهُ المعونة.
وَقَوله: ﴿قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّك لغوى مُبين﴾ الْأَكْثَرُونَ أَن هَذَا قَالَه مُوسَى للإسرائيلي، فَإِنَّهُ كَانَ أغواه أمس أَي: أوقعه فِي الغواية، فَمَعْنَى قَوْله: ﴿غوى﴾ : موقع فِي الغواية.
وَقَوله: ﴿مُبين﴾ أَي: بَين، وَيُقَال: إِن هَذَا قَالَه للقبطي، وَالأَصَح هُوَ الأول.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا أَن أَرَادَ أَن يبطش بِالَّذِي هُوَ عَدو لَهما﴾ فِي التَّفْسِير: إِن مُوسَى أَدْرَكته الرقة وَالرَّحْمَة للإسرائيلي، فقصد أَن يبطش بالقبطي، فَظن الإسرائيلي أَنه يُرِيد أَن يبطش بِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَالَ لَهُ: " إِنَّك لغوى مُبين ".
وَقَوله: ﴿قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تقتلني﴾ يَعْنِي: قَالَ الإسرائيلي: ﴿كَمَا قتلت نفسا بالْأَمْس إِن تُرِيدُ﴾ أَي: مَا تُرِيدُ ﴿إِلَّا أَن تكون جبارا فِي الأَرْض﴾، أَي: تقتل على الْغَضَب، وكل من قتل على الْغَضَب فَهُوَ جَبَّار، وَيُقَال: من قتل نفسين بِغَيْر حق فَهُوَ من جبابرة الأَرْض.
وَقَوله: ﴿وَمَا تُرِيدُ أَن تكون من المصلحين﴾ أَي: الرافقين بِالنَّاسِ، وَفِي الْقِصَّة: أَن الإسرائيلي لما قَالَ هَذَا وسَمعه القبطي، عرف أَن الَّذِي قتل بالْأَمْس إِنَّمَا قَتله مُوسَى، فَمر إِلَى فِرْعَوْن وَذكر لَهُ ذَلِك، فَبعث فِي طلب مُوسَى ليَقْتُلهُ بِهِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَجَاء رجل من أقْصَى الْمَدِينَة يسْعَى﴾ يُقَال: كَانَ اسْمه شَمْعُون، وَيُقَال: شمعان، وَقيل: هُوَ (حزقيل) مُؤمن [من] آل فِرْعَوْن.
129
﴿أَن تكون من المصلحين (١٩) وَجَاء رجل من أقصا الْمَدِينَة يسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِن الْمَلأ يأتمرون بك ليقتلوك فَاخْرُج إِنِّي لَك من الناصحين (٢٠) فَخرج مِنْهَا خَائفًا يترقب قَالَ رب نجني من الْقَوْم الظَّالِمين (٢١) وَلما توجه تِلْقَاء مَدين قَالَ عَسى رَبِّي أَن﴾
وَقَوله: ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِن الْمَلأ يأتمرون بك﴾ أَي: يتشاورون فِي قَتلك، وَقيل: يَأْمر بَعضهم بَعْضًا بقتلك، وَقيل: إِن فِرْعَوْن قَالَ: أَيْن وجدتموه فَاقْتُلُوهُ.
وَقَوله: ﴿فَاخْرُج إِنِّي لَك من الناصحين﴾ أَي: من الناصحين لَك فِي الْأَمر بِالْخرُوجِ، والنصح للْإنْسَان هُوَ الْإِشَارَة عَلَيْهِ بِمَا يصلح أمره، وَقد كَانَ السّلف يطْلب هَذَا بَعضهم من بعض. قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ حِين خطب: إِن أَحْسَنت فَأَعِينُونِي، وَإِن زِغْت فقوموني. وَرُوِيَ أَن رجلا قَالَ لعمر: اتَّقِ الله يَا عمر، فَأنْكر عَلَيْهِ بَعضهم، فَقَالَ عمر: دَعه، فَمَا نزال بِخَير مَا قيل لنا هَذَا. وَعَن بَعضهم أَنه قيل لَهُ: أَتُرِيدُ أَن تنصح؟ قَالَ: أما سرا فَنعم، وَأما جَهرا فَلَا.
130
قَوْله: ﴿فَخرج مِنْهَا خَائفًا يترقب﴾ أَي: ينْتَظر الطّلب، وَفِي الْقِصَّة: أَن فِرْعَوْن بعث لطلبه حِين أخبر بهربه، وَقَالَ: اركبوا ثنيات الطَّرِيق، فَإِنَّهُ لَا يعرف كَيفَ الطَّرِيق.
وَرُوِيَ أَنه خرج متوهجا لَا يدْرِي أَيْن ذهب، فَبعث الله تَعَالَى ملكا حَتَّى هداه إِلَى الطَّرِيق، وَفِي بعض التفاسير: أَنه خرج حافيا يعدو ثَمَان لَيَال لَيْسَ مَعَه زَاد، قَالَ ابْن عَبَّاس: وَهُوَ أول ابتلاء من الله لمُوسَى يسْقط خف قدمه، وَجعل يَأْكُل البقل حَتَّى كَانَ يرى خضرته فِي بَطْنه.
وَقَوله: ﴿قَالَ رب نجني من الْقَوْم الظَّالِمين﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلما توجه تِلْقَاء مَدين﴾ أَي: قبل مَدين.
وَقَوله: ﴿قَالَ عَسى رَبِّي أَن يهديني﴾ أَي: يرشدني رَبِّي ﴿سَوَاء السَّبِيل﴾ أَي: وسط الطَّرِيق، ووسط الطَّرِيق هُوَ السَّبِيل الَّذِي يُوصل إِلَى الْمَقْصُود، ومدين اسْم رجل نسبت الْبَلدة إِلَيْهِ، قَالَ الشَّاعِر فِي الْمَدَائِن:
130
﴿يهديني سَوَاء السَّبِيل (٢٢) وَلما ورد مَاء مَدين وجد عَلَيْهِ أمة من النَّاس يسقون وَوجد من دونهم امْرَأتَيْنِ تذودان قَالَ مَا خطبكما قَالَتَا لَا نسقي حَتَّى يصدر الرعاء وأبونا شيخ﴾
(رُهْبَان مَدين لَو رأوك تنزلوا والعصم من شعف الْعُقُول الفادر)
وَقَالَ أهل الْمعَانِي: التَّوَجُّه إِلَى جِهَة من الْجِهَات.
وَقَوله: ﴿تِلْقَاء مَدين﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: نَحْو مَدين.
وَقَوله: ﴿عَسى رَبِّي أَن يهديني سَوَاء السَّبِيل﴾ قَالَ مُجَاهِد: طَرِيق مَدين.
131
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلما ورد مَاء مَدين﴾ يَعْنِي: لما ورد مُوسَى مَاء مَدين، وَهُوَ بِئْر كَانُوا يسقون مِنْهَا أغنامهم ومواشيهم.
وَقَوله: ﴿وجد عَلَيْهِ أمة من النَّاس يسقون﴾ أَي: جمَاعَة.
وَقَوله: ﴿وَوجد من دونهم امْرَأتَيْنِ﴾ أَي: سوى الْجَمَاعَة امْرَأتَيْنِ، وَقيل: بَعيدا من الْجَمَاعَة امْرَأتَيْنِ.
وَقَوله: ﴿تذودان﴾ أَي: تحبسان وتكفان أغنامهما من مُخَالطَة أَغْنَام النَّاس.
وَقَالَ قَتَادَة: تزودان أَي: تكفان النَّاس عَن أغنامهما، قَالَ الشَّاعِر:
(فقد سلبت عصاك بَنو تَمِيم فَلَا أَدْرِي بِأَيّ عَصا تذود)
وَأنْشد قطرب شعرًا:
(أَبيت على بَاب القوافي كَأَنَّمَا أذود بهَا سربا من الْوَحْش نزعا)
وَقَوله: ﴿مَا خطبكما﴾ أَي: قَالَ مُوسَى للمرأتين: مَا خطبكما؟ أَي: مَا شأنكما؟ والخطب: الْأَمر المهم، وَإِنَّمَا سَأَلَ هَذَا عَنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَا تسقيان الْغنم مَعَ النَّاس.
وَقَوله: ﴿قَالَتَا لَا نسقي﴾ يَعْنِي: لَا نسقي غنمنا، وَقَوله: ﴿حَتَّى يصدر الرعاء﴾ (وَقُرِئَ: " حَتَّى يصدر الرعاء " فَقَوله: ﴿حَتَّى يصدر الرعاء﴾ أَي: يرجع الرعاء بأغنامهم، وَقَوله: ﴿حَتَّى يصدر الرعاء﴾ ). أَي: يصدر الرعاء أغنامهم، قَالَ
131
(كَبِير (٢٣) فسقى لَهما ثمَّ تولى إِلَى الظل فَقَالَ رب إِنِّي لما أنزلت إِلَيّ من خير فَقير (٢٤) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهمَا تمشي على استحياء قَالَت إِن أبي يَدْعُوك ليجزيك أجر مَا) قَتَادَة. كَانَتَا تسقيان أغنامهما مَا تفضل من مياه الْقَوْم. وَقَالَ بَعضهم: لم تسقيا أغنامهما كَرَاهَة مزاحمة الرِّجَال.
وَقَوله: ﴿وأبونا شيخ كَبِير﴾ لَا يقدر على سقِِي الْغنم، كَأَنَّهُمَا جعلتا ذَلِك عذرا لَهما، وَقيل: إِنَّمَا قَالَتَا ذَلِك استعطافا لقلب مُوسَى حَتَّى يسقيهما، قَالَ ابْن عَبَّاس: وصل مُوسَى أَي: مَاء مَدين وخضرة البقل يرى فِي أمعائه من الهزال.
132
وَقَوله: ﴿فسقى لَهما﴾ فِي الْقِصَّة: أَن الْقَوْم رجعُوا بأغنامهم، وغطوا رَأس الْبِئْر بِحجر، لَا يرفعهُ إِلَّا عشرَة نفر، فجَاء مُوسَى وَرفع الْحجر وَحده، وَسَقَى غنم الْمَرْأَتَيْنِ. وَيُقَال: إِنَّه نزع ذنوبا ودعا فِيهِ بِالْبركَةِ، فروى مِنْهُ جَمِيع الْغنم. وَذكر ابْن إِسْحَاق: أَن مُوسَى زاحم الْقَوْم وأخرهم، ونحاهم عَن رَأس الْبِئْر وَسَقَى غنم الْمَرْأَتَيْنِ.
وَقَوله: ﴿ثمَّ تولى إِلَى الظل﴾ يُقَال: كَانَ ظلّ شَجَرَة، وَيُقَال: كَانَ ظلّ حَائِط بِلَا سقف.
وَقَوله: ﴿فَقَالَ رب إِنِّي لما أنزلت إِلَيّ من خير فَقير﴾ أجمع الْمُفَسِّرُونَ على أَنه طلب من الله الطَّعَام لجوعه، قَالَ ابْن عَبَّاس فلقَة خبز، أَو قَبْضَة تمر. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: لم يكن على وَجه الأَرْض أكْرم مِنْهُ، وَكَانَ مُحْتَاجا إِلَى شقّ تَمْرَة. وَقَالَ مُجَاهِد: طلب الْخبز. وَفِي بعض الْآثَار: أَن الله تَعَالَى أخرج للخبز بَرَكَات السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَعَن بَعضهم: لَوْلَا الْخبز مَا عبد الله. وَالْعرب تسمي الْخبز جَابِرا، قَالَ بَعضهم شعرًا:
(لَا تلوموني ولوموا جَابِرا فجابر كلفني الهواجرا)
يَعْنِي: الْعَمَل بالهاجرة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهمَا﴾ فِي الْآيَة حذف، وَهُوَ أَن الْمَرْأَتَيْنِ رجعتا إِلَى أَبِيهِمَا، وَأكْثر أهل التَّفْسِير أَن أباهما كَانَ هُوَ: شُعَيْب النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: هُوَ رجل مِمَّن آمن بشعيب، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ ابْن أخي شُعَيْب، فَلَمَّا
132
﴿سقيت لنا فَلَمَّا جَاءَهُ وقص عَلَيْهِ الْقَصَص قَالَ لَا تخف نجوت من الْقَوْم الظَّالِمين (٢٥) قَالَت إِحْدَاهمَا يَا أَبَت اسْتَأْجرهُ إِن خير من اسْتَأْجَرت الْقوي الْأمين (٢٦) قَالَ إِنِّي أُرِيد﴾ رجعتا إِلَى أَبِيهِمَا بِسُرْعَة أنكر رجوعهما، فذكرتا لَهُ قصَّة الرجل، فَبعث إِحْدَاهمَا فِي طلبه.
وَقَوله: ﴿تمشي على استحياء﴾ روى عَمْرو بن مَيْمُون، عَن عمر أَنه قَالَ: ليبست بسلفع من النِّسَاء، وَلَا خراجة وَلَا ولاجة، وَلَكِن وضعت كمها على وَجههَا استحياء.
وَقَوله: ﴿قَالَت إِن أبي يَدْعُوك ليجزيك أجر مَا سقيت لنا﴾ أَي: ليطعمك ويثيبك أجر مَا سقيت لنا أَي: عوض مَا سقيت لنا. قَالَ أَبُو حَازِم سَلمَة بن دِينَار: لما سمع مُوسَى هَذَا أَرَادَ أَلا يذهب وَلَكِن كَانَ جائعا، فَلم يجد بدا من الذّهاب، فمشت الْمَرْأَة وَمَشى مُوسَى خلفهَا، فَجعلت الرّيح تضرب ثوبها، وتصف عجيزتها، فكره مُوسَى ذَلِك، فَقَالَ: يَا أمة الله، امشي خَلْفي وصفي لي الطَّرِيق، فَفعلت كَذَلِك، فَلَمَّا وصل مُوسَى إِلَى دَار شُعَيْب، فَإِذا الْعشَاء تهَيَّأ، فَقَالَ: يَا شَاب، اجْلِسْ، فَكل، فَقَالَ: معَاذ الله، إِنَّا أهل بَيت لَا نطلب على عمل من أَعمال الْآخِرَة عوضا من الدُّنْيَا، فَقَالَ لَهُ شُعَيْب: إِن هَذَا عاداتي وعادات آبَائِي، نقري الضَّيْف ونطعم الطَّعَام، فَجَلَسَ وَأكل. هَذَا كُله قَول أبي حَازِم.
وَقَوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُ وقص عَلَيْهِ الْقَصَص﴾ يَعْنِي: مَا لَقِي من فِرْعَوْن وَأمره من أَوله إِلَى آخِره.
وَقَوله: ﴿لَا تخف نجوت من الْقَوْم الظَّالِمين﴾ إِنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لم يكن لفرعون سُلْطَان على مَدين، والظالمين: فِرْعَوْن وَقَومه.
133
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَت إِحْدَاهمَا يَا أَبَت اسْتَأْجرهُ﴾ أَي: اسْتَأْجرهُ لرعي الْغنم. وَفِي الْقِصَّة: أَن شعيبا قَالَ لابنته: وَمَا علمك بقوته وأمانته؟ فَقَالَت: أما قوته فَلِأَنَّهُ حمل حجرا لَا يحملهُ إِلَّا عشرَة من الرِّجَال، وَأما أَمَانَته فَإِنَّهُ قَالَ لي: امش خَلْفي لِئَلَّا تصف
133
﴿أَن أنكحك إِحْدَى ابْنَتي هَاتين على أَن تَأْجُرنِي ثَمَانِي حجج فَإِن أتممت عشرا فَمن عنْدك وَمَا أُرِيد أَن أشق عَلَيْك ستجدني إِن شَاءَ الله من الصَّالِحين (٢٧) قَالَ ذَلِك بيني﴾ الرّيح بدنك، وَيُقَال: القوى فِيمَا مَا يَلِي، والأمين فِيمَا يستودع.
134
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنِّي أُرِيد أَن أنكحك إِحْدَى ابْنَتي هَاتين﴾ أَكثر أهل التَّفْسِير: أَنه زوجه الصُّغْرَى مِنْهُمَا، وَاسْمهَا صفوراء، وَهِي الَّتِي ذهبت لطلب مُوسَى.
وَقَوله: ﴿على أَن تَأْجُرنِي﴾ أَي: تكون أجيري، وَقيل: على أَن تثيبني. ﴿ثَمَانِي حجج﴾ أَي: ثَمَان سِنِين.
قَوْله: ﴿فَإِن أتممت عشرا فَمن عنْدك﴾ يَعْنِي: هُوَ تبرع من عنْدك.
وَقَوله: ﴿وَمَا أُرِيد أَن أشق عَلَيْك﴾ أَي: مَا ألزمك تَمام الْعشْرَة إِلَّا أَن تتبرع.
وَقَوله: ﴿ستجدني إِن شَاءَ الله من الصَّالِحين﴾ أَي: الرافقين بك، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ اخلفني فِي قومِي وَأصْلح﴾ أَي: ارْفُقْ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ ذَلِك بيني وَبَيْنك﴾ أَي: هَذَا الشَّرْط بيني وَبَيْنك. ﴿أَيّمَا الْأَجَليْنِ قضيت﴾ أَي: أَي الْأَجَليْنِ قضيت، و " مَا " صلَة.
وَقَوله: ﴿فَلَا عدوان عَليّ﴾ أَي: لَا أطلب بِالزِّيَادَةِ، وَقَوله: ﴿وَالله على مَا نقُول وَكيل﴾ أَي: شَاهد، وَقيل: حفيظ. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أجر مُوسَى نَفسه بطعمة بَطْنه وعفة فُرْجَة ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن النَّبِي سُئِلَ: أَي
134
﴿وَبَيْنك أَيّمَا الْأَجَليْنِ قضيت فَلَا عدوان عَليّ وَالله على مَا نقُول وَكيل (٢٨) فَلَمَّا قضى﴾ الْأَجَليْنِ وفى مُوسَى؟ قَالَ: " أكملهما وأتمهما ".
وروى شَدَّاد بن أَوْس عَن النَّبِي: " أَن شعيبا بَكَى حَتَّى عمي فَرد الله عَلَيْهِ بَصَره، (ثمَّ بَكَى حَتَّى عمي، فَرد الله عَلَيْهِ بَصَره)، ثمَّ بَكَى حَتَّى عمي، فَقَالَ الله تَعَالَى: لم تبك يَا شُعَيْب؟ أخوفاً من النَّار أَو طَمَعا فِي الْجنَّة؟ فَقَالَ: لَا يَا رب، وَلَكِن أحبك وَقَالَ بَعضهم: شوقا إِلَى لقائك قَالَ: يَا شُعَيْب، وَلذَلِك أخدمتك مُوسَى كليمي " وَالْخَبَر غَرِيب.
وَأما قصَّة الْعَصَا: إِن شعيبا قَالَ لابنته: أعطي مُوسَى عَصا ليتقوى بهَا على رعي الْغنم، وَكَانَ عِنْده عَصا أودعها ملك مِنْهُ، فَدخلت بنت شُعَيْب، وَوَقعت هَذِه الْعَصَا بِيَدِهَا وَخرجت بهَا، فَقَالَ شُعَيْب: ردي هَذِه الْعَصَا، وخذي عَصا أُخْرَى، فَردَّتهَا، وأرادت أَن تَأْخُذ عَصا أُخْرَى فَوَقَعت بِيَدِهَا هَذِه الْعَصَا، هَكَذَا ثَلَاث مَرَّات، فَسلم
135
﴿مُوسَى الْأَجَل وَسَار بأَهْله آنس من جَانب الطّور نَارا قَالَ لأَهله امكثوا إِنِّي آنست نَارا﴾ شُعَيْب الْعَصَا إِلَى مُوسَى، وَخرج مُوسَى بالعصا، ثمَّ إِن الشَّيْخ نَدم فَذهب فِي أَثَره، وَطلب مِنْهُ أَن يرد الْعَصَا إِلَيْهِ، وأبى مُوسَى، فَقَالَا: نَتَحَاكَم إِلَى أول من يَلْقَانَا، فلقيهما ملك فِي صُورَة رجل، (فَحكم بِأَن يطْرَح) الْعَصَا، فَمن أطَاق حملهَا فَهِيَ لَهُ، فَطرح مُوسَى الْعَصَا، فجَاء شُعَيْب ليأخذها فَلم يطق حملهَا، وَجَاء مُوسَى فَأَخذهَا وَذهب بالعصا. أورد هَذَا وهب وَابْن إِسْحَاق وَغَيرهمَا.
136
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا قضى مُوسَى الْأَجَل وَسَار بأَهْله﴾ فِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى لما أتم الْأَجَل وَسلم شُعَيْب ابْنَته إِلَيْهِ، قَالَ مُوسَى للْمَرْأَة: اطلبي من أَبِيك ليجعل بعض الْغنم لنا، فطلبت من أَبِيهَا ذَلِك، فَقَالَ شُعَيْب: كل مَا ولدت هَذَا الْعَام على غير شيتها، وَقيل: كلما ولدت بلقاء فَهِيَ لَكمَا، فجَاء مُوسَى إِلَى المَاء الَّذِي تشرب مِنْهُ الْغنم، وَوضع الْعَصَا فِي المَاء، وَرُوِيَ أَنه كلما شربت شَاة من الْغنم فَجعل يضْرب جنبها بالعصا، فَولدت ذَلِك الْعَام كلهَا على غير شيتها، وَقَالَ: ولدت بلقاء، ثمَّ إِن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام اسْتَأْذن من شُعَيْب ليرْجع إِلَى مصر، يزور والدته وأخاه، فَأذن لَهُ، فَسَار بأَهْله إِلَى جَانب مصر.
وَقَوله: ﴿آنس من جَانب الطّور نَارا﴾ رُوِيَ أَن مُوسَى كَانَ رجلا غيورا، وَكَانَ يصحب الرّفْقَة بِاللَّيْلِ، ويفارقهم بِالنَّهَارِ، فَلَمَّا كَانَت اللَّيْلَة الَّتِي أَرَادَ الله كرامته فِيهَا، أَخطَأ الطَّرِيق؛ لِأَن الظلمَة اشتدت وَاشْتَدَّ الْبرد، وَانْقطع عَن الرّفْقَة فَجعل يقْدَح الزند فَلَا يورى، ثمَّ إِنَّه أبْصر نَارا من قبل الطّور، وَكَانَ نورا وَلم تكن نَارا، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿آنس من جَانب الطّور نَارا﴾ أَي: أبْصر.
وَقَوله: ﴿قَالَ لأَهله امكثوا إِنِّي آنست نَارا﴾ أَي: أَبْصرت نَارا.
136
﴿لعَلي آتيكم مِنْهَا بِخَبَر أَو جذوة من النَّار لَعَلَّكُمْ تصطلون (٢٩) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودي من شاطئ الواد الْأَيْمن فِي الْبقْعَة الْمُبَارَكَة من الشَّجَرَة أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنا الله رب الْعَالمين﴾
قَوْله تَعَالَى: ﴿لعَلي آتيكم مِنْهَا بِخَبَر﴾ أَي: بِخَبَر عَن الطَّرِيق؛ لِأَنَّهُ قد أَخطَأ الطَّرِيق، وَقَوله: ﴿أَو جذوة من النَّار﴾ أَي: قِطْعَة من النَّار، وَقيل: عود فِي رَأسه نَار.
وَقَوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تصطلون﴾ أَي: (تصطلون) بهَا فتذهب عَنْكُم الْبرد، وَيُقَال: أحسن من الصلى فِي لشتاء.
137
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودي من شاطئ الْوَادي الْأَيْمن﴾ أَي: يَمِين مُوسَى، والشاطئ هُوَ الْجَانِب.
وَقَوله: ﴿فِي الْبقْعَة الْمُبَارَكَة﴾ سمى الْبقْعَة الْمُبَارَكَة لِأَن الله تَعَالَى كلم مُوسَى فِيهَا، فَإِن قيل: فَلم لم يسم الشَّجَرَة مباركة وَقد قَالَ: ﴿من الشَّجَرَة﴾ ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ إِذا ذكرت الْبركَة فِي الْبقْعَة، فقد ذكرت فِي الشَّجَرَة، فَذكر الْبقْعَة؛ لِأَنَّهَا أَعم.
وَقَوله: ﴿من الشَّجَرَة﴾ قَالُوا: كَانَت شَجَرَة العوسج هِيَ أول شَجَرَة غرست فِي الأَرْض، وَقيل: شجر العليق.
وَقَوله: ﴿أَن ياموسى إِنِّي انا الله رب الْعَالمين﴾ أى: رب الْجِنّ وَالْإِنْس وَالْمَلَائِكَة وَالْخَلَائِق أَجْمَعِينَ.
وَقَوله: ﴿من الشَّجَرَة﴾ قَالَ الزّجاج والنحاس وَغَيرهمَا: كلم الله مُوسَى من الشَّجَرَة بِلَا كَيفَ. وَعَن الضَّحَّاك: من نَحْو الشَّجَرَة. وَعند الْمُعْتَزلَة: أَن الله تَعَالَى خلق كلَاما فِي الشَّجَرَة، فَسمع مُوسَى ذَلِك الْكَلَام، وَهَذَا عندنَا بَاطِل، وَذَلِكَ لِأَن الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي كلم مُوسَى على مَا ورد بِهِ النَّص، وَإِذا كَانَ على هَذَا الْوَجْه الَّذِي قَالُوا فَيكون الله خَالِقًا لَا مكلما؛ لِأَنَّهُ يُقَال: خلق فَهُوَ خَالق، وَلَا يُقَال: خلق فَهُوَ مُكَلم.
وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى لما رأى النَّار، ترك أَهله وَولده، وَتوجه نَحْو النَّار، فَبَقيَ أَهله
137
((٣٠} وَأَن ألق عصاك فَلَمَّا رَآهَا تهتز كَأَنَّهَا جَان ولى مُدبرا وَلم يعقب يَا مُوسَى أقبل وَلَا تخف إِنَّك من الْآمنينَ (٣١) اسلك يدك فِي جيبك تخرج بَيْضَاء من غير سوء) فِي ذَلِك الْمَكَان ثَلَاثِينَ سنة، حَتَّى مر بهَا رَاع فرآها حزينة باكية، فَردهَا إِلَى أَبِيهَا، ذكره النقاش فِي تَفْسِيره.
وَقَوله: ﴿إِنِّي أَنا الله رب الْعَالمين﴾ قد بَينا من قبل،
138
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَن ألق عصاك﴾ وَفِي الْقِصَّة: أَن الْعَصَا كَانَ من آس الْجنَّة، وَقعت إِلَى آدم، ثمَّ من آدم إِلَى نوح، ثمَّ من نوح إِلَى إِبْرَاهِيم، ثمَّ من إِبْرَاهِيم إِلَى شُعَيْب، وَكَانَ لَا يَأْخُذهَا غير نَبِي إِلَّا أَكلته، وَكَانَ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا بالسُّرْيَانيَّة أَنا الأول أَنا الآخر أَنا الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت أبدا.
وَقَوله: ﴿فَلَمَّا رَآهَا تهتز﴾ أَي: تتحرك ﴿كَأَنَّهَا جَان﴾ الجان: الْحَيَّة الصَّغِيرَة، والثعبان: الْحَيَّة الْعَظِيمَة.
وَقد ذكرنَا التَّوْفِيق بَين الْآيَتَيْنِ، قد قَالَ بَعضهم: كَانَ فِي ابْتِدَاء الْأَمر حَيَّة صَغِيرَة، ثمَّ صَارَت تعظم حَتَّى صَارَت ثعبانا.
وَقَوله: ﴿ولى مُدبرا﴾ أَي: من الْخَوْف، فَإِن قيل: لم خَافَ مُوسَى وَهُوَ فِي مثل ذَلِك الْمقَام؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ رأى شَيْئا بِخِلَاف الْعَادة، وَمن رأى شَيْئا بِخِلَاف الْعَادة فخاف عذر، وَقد رُوِيَ أَنَّهَا لما صَارَت حَيَّة ابتلعت مَا حولهَا من لصخور وَالْأَشْجَار، وَسمع مُوسَى لأسنانها صريفا عَظِيما، فهرب.
وَقَوله: ﴿وَلم يعقب﴾ أَي: لم يلْتَفت، وَقَوله: ﴿يَا مُوسَى أقبل وَلَا تخف إِنَّك من الْآمنينَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿اسلك يدك فِي جيبك﴾ أَي: أَدخل يدك فِي جيبك، وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَت عَلَيْهِ مدرعة مصرية من صوف.
وَقَوله: ﴿تخرج بَيْضَاء من غير سوء﴾ يُقَال: خرجت وَلها شُعَاع كضوء الشَّمْس.
وَقَوله: ﴿واضمم إِلَيْك جناحك من الرهب﴾ حكى عَطاء عَن ابْن عَبَّاس أَن
138
٣ - ﴿واضمم إِلَيْك جناحك من الرهب فذانك برهانان من رَبك إِلَى فِرْعَوْن وملئه إِنَّهُم كَانُوا قوما فاسقين (٣٢) قَالَ رب إِنِّي قتلت مِنْهُم نفسا فَأَخَاف أَن يقتلُون (٣٣) وَأخي هَارُون هُوَ أفْصح مني لِسَانا فَأرْسلهُ معي ردْءًا يصدقني إِنِّي أَخَاف أَن يكذبُون (٣٤) ﴾ مَعْنَاهُ: ضع يدك على صدرك. والجناح: الْيَد، قَالَ: وَمَا من خَائِف بعد مُوسَى إِلَّا إِذا وضع يَده على صَدره زَالَ خَوفه. وَذكر الْفراء فِي كِتَابه: أَن الْجنَاح هَاهُنَا هُوَ لعصا، وَمَعْنَاهُ: اضمم إِلَيْك عصاك. وَمن الْمَعْرُوف أَن الْجنَاح هُوَ الْعَضُد، وَقيل: جَمِيع الْيَد، وَقيل: مَا تَحت الْإِبِط، والخائف إِذا ضم إِلَيْهِ يَده خف خَوفه. وَعَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء أَن الرهب هُوَ الْكمّ بِهِ، فَيكون معنى الْآيَة على هَذَا: واضمم إِلَيْك عصاك ويدك الَّتِي فِي كمك فقد جعلناها آيَتَيْنِ لَك، وَيقْرَأ: " من الرهب " وَقيل: الرهب والرهب بِمَعْنى وَاحِد كالرشد والرشد، وَالْمعْنَى الظَّاهِر فِيهِ أَنه الْخَوْف.
وَقَوله: ﴿فذاناك برهانان من رَبك﴾ أَي: آيتان وحجتان من رَبك.
وَقَوله: ﴿إِلَى فِرْعَوْن وملئه﴾ يَعْنِي: وَأَتْبَاعه.
وَقَوله: ﴿إِنَّهُم كَانُوا قوما فاسقين﴾ أَي: خَارِجين عَن الطَّاعَة.
139
وَقَوله تَعَالَى: ﴿قَالَ رب إِنِّي قتلت مِنْهُم نفسا فَأَخَاف أَن يقتلُون﴾ يَعْنِي: القبطي.
وَقَوله: ﴿وَأخي هَارُون هُوَ أفْصح مني لِسَانا﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: كَانَ فِي لِسَان مُوسَى عقدَة من الْوَقْت الَّذِي أَخذ بلحية فِرْعَوْن، وَأخذ الْجَمْرَة بعد ذَلِك وألقاه فِي فِيهِ على مَا ذكرنَا من قبل.
وَقَوله: ﴿فَأرْسلهُ معي ردْءًا﴾ أَي: عونا. ﴿يصدقني﴾ أَي مُصدقا لي، وَقُرِئَ: " يصدقني " بِسُكُون الْقَاف أَي: إِن كَذَّبُونِي هُوَ يصدقني.
وَقَوله: ﴿إِنِّي أَخَاف أَن يكذبُون﴾ يَعْنِي: فِرْعَوْن وَقَومه.
139
﴿قَالَ سنشد عضدك بأخيك ونجعل لَكمَا سُلْطَانا فَلَا يصلونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمن اتبعكما الغالبون (٣٥) فَلَمَّا جَاءَهُم مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَات قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سحر مفترى وَمَا سمعنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلين (٣٦) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أعلم بِمن جَاءَ بِالْهدى من﴾
140
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ سنشد عضدك بأخيك﴾ وَهَذَا على طَرِيق التَّمْثِيل؛ لِأَن قُوَّة الْيَد بالعضد. وَفِي الْكَلَام الْمَنْقُول من الْعَرَب أَن رجلا قيل لَهُ: مَاتَ أَبوك، قَالَ: ملكت نَفسِي، قيل لَهُ: مَاتَ ولدك، قَالَ: تفرغ قلبِي، قيل: مَاتَت زَوجتك، قَالَ: تجدّد فِرَاشِي، قيل: مَاتَ أَخُوك، قَالَ: وانفصام ظهراه، وَقَالَ الشَّاعِر:
(أَخَاك أَخَاك إِن من لَا أَخا لَهُ كساع إِلَى لهيجا بِغَيْر سلَاح)
(وَإِن ابْن عَم الْمَرْء فَاعْلَم جنَاحه وَهل ينْهض الْبَازِي بِغَيْر جنَاح؟ !)
وَقدم الله الْأَخ على سَائِر الْأَقَارِب فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿يَوْم يفر الْمَرْء من أَخِيه﴾ لِأَن الْإِنْسَان إِلَى أَخِيه أميل، وَبِه آنس، وَإِلَيْهِ أسكن.
وَقَوله: ﴿ونجعل لكم سُلْطَانا﴾ أَي: حجَّة.
وَقَوله: ﴿فَلَا يصلونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا﴾ أَي: لَا يصلونَ إلَيْكُمَا لمَكَان آيَاتنَا، وَيُقَال: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: ونجعل لَكمَا سُلْطَانا بِآيَاتِنَا فَلَا يصلونَ إلَيْكُمَا.
وَقَوله: ﴿أَنْتُمَا وَمن اتبعكما الغالبون﴾ الغالبون لفرعون وَقَومه.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُم مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَات﴾ أَي: واضحات.
وَقَوله: ﴿قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سحر مفترى﴾ أَي: مختلق.
وَقَوله: ﴿مَا سمعنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلين﴾ أَي: الَّذين مضوا.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أعلم بِمن جَاءَ بِالْهدى من عِنْده﴾ يَعْنِي: أعلم
140
﴿عِنْده وَمن تكون لَهُ عَاقِبَة الدَّار إِنَّه لَا يفلح الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقَالَ فِرْعَوْن يَا أَيهَا الْمَلأ مَا علمت لكم من إِلَه غَيْرِي فَأوقد لي يَا هامان على الطين فَاجْعَلْ لي صرحا لعَلي أطلع إِلَى إِلَه مُوسَى وَإِنِّي لأظنه من الْكَاذِبين (٣٨) واستكبر هُوَ وَجُنُوده فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق﴾ بِمن جَاءَ بِالْهدى، فَأَنا الَّذِي جِئْت بِالْهدى من عِنْده.
وَقَوله: ﴿وَمن تكون لَهُ عَاقِبَة الدَّار﴾ أَي: وَأعلم بِمن تكون لَهُ عَاقِبَة الدَّار، وَهِي الْجنَّة.
وَقَوله: ﴿إِنَّه لَا يفلح الظَّالِمُونَ﴾ أَي: لَا يسْعد من أشرك بِاللَّه.
141
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْن يَا أَيهَا الْمَلأ مَا علمت لكم من إِلَه غَيْرِي﴾ يُقَال: إِنَّه كَانَ بَين قَول هَذَا وَبَين قَوْله: ﴿أَنا ربكُم الْأَعْلَى﴾ أَرْبَعُونَ سنة.
وَقَوله: ﴿فَأوقد لي يَا هامان على الطين﴾ أَي: اطبخ لي الطين حَتَّى يصير آجرا، وَيُقَال: إِنَّه أول من اتخذ الْآجر.
وَقَوله: ﴿فَاجْعَلْ لي صرحا﴾ أَي: قصرا عَالِيا، وَقيل: مَنَارَة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿لعَلي أطلع إِلَى إِلَه مُوسَى﴾ أَي: أناله وأصيبه.
وَفِي الْقِصَّة: أَن طول الصرح كَانَ شَيْئا كَبِيرا. ذكر فِي بعض التفاسير: أَن صرح فِرْعَوْن كَانَ طوله خَمْسَة آلَاف ذِرَاع وَخمسين ذِرَاعا، وَعرضه ثَلَاثَة آلَاف ذِرَاع ونيف.
وَكَانَ فِرْعَوْن لَا يقدر أَن يقوم على أَعْلَاهُ؛ مَخَافَة أَن تنسفه الرّيح، وَذكر السّديّ أَن فِرْعَوْن علا ذَلِك الصرح، وَرمى بنشابة إِلَى السَّمَاء، فَرَجَعت إِلَيْهِ متلطخة بِالدَّمِ، فَقَالَ: قد قتلت إِلَه مُوسَى.
وَقَوله: ﴿وَإِنِّي لأظنه من الْكَاذِبين﴾ أَي: لأظنه من الْكَاذِبين فِي زَعمه أَن للْأَرْض والخلق إِلَهًا غَيْرِي.
141
﴿وظنوا أَنهم إِلَيْنَا لَا يرجعُونَ (٣٩) فأخذناه وَجُنُوده فنبذناهم فِي اليم فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الظَّالِمين (٤٠) وجعلناهم أَئِمَّة يدعونَ إِلَى النَّار وَيَوْم الْقِيَامَة لَا ينْصرُونَ (٤١) وأتبعناهم فِي هَذِه الدُّنْيَا لعنة وَيَوْم الْقِيَامَة هم من المقبوحين (٤٢) وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب من بعد مَا أهلكنا الْقُرُون الأولى بصائر للنَّاس وَهدى وَرَحْمَة لَعَلَّهُم يتذكرون﴾
142
قَوْله تَعَالَى: ﴿واستكبر هُوَ وَجُنُوده فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وظنوا أَنهم إِلَيْنَا لَا يرجعُونَ﴾ أَي: لَا يَنْقَلِبُون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فأخذناه وَجُنُوده فنبذناهم فِي اليم﴾ أَي: طرحناهم فِي الْبَحْر.
وَقَوله: ﴿فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الظَّالِمين﴾ يَعْنِي: فِرْعَوْن وَقَومه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وجعلناهم أَئِمَّة يدعونَ إِلَى النَّار﴾ أَي: قادة.
وَقَوله: ﴿وَيَوْم الْقِيَامَة لَا ينْصرُونَ﴾ أَي: لَا يمْنَعُونَ من الْعَذَاب.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وأتبعناهم فِي هَذِه الدُّنْيَا لعنة﴾ أَي: أتبعنا الْعَذَاب فِي الدُّنْيَا لعنة.
وَقَوله: ﴿وَيَوْم الْقِيَامَة هم من المقبوحين﴾ أَي: الْمُعَذَّبين، وَيُقَال من المشبوهين أَي: بسواد الْوَجْه وزرقة الْعين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب﴾ أَي: التَّوْرَاة، وَقَوله: ﴿من بعد مَا أهلكنا الْقُرُون الأولى﴾ وهم قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَقوم لوط وَقوم شُعَيْب وَغَيرهم.
وَقَوله: ﴿بصائر للنَّاس﴾ أَي: دلالات للآخرين.
وَقَوله: ﴿وَهدى وَرَحْمَة لَعَلَّهُم يتذكرون﴾ أَي: يتعظون بالدلالات.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا كنت بِجَانِب الغربي﴾ أَي: مَا كنت بِنَاحِيَة الْجَبَل مِمَّا يَلِي الغرب، وَقَوله: ﴿إِذا قضينا إِلَى مُوسَى الْأَمر﴾ أَي: أحكمنا مَعَ مُوسَى الْأَمر، وَذَلِكَ بإرساله إِلَى فِرْعَوْن وَقَومه.
142
( ﴿٤٣) وَمَا كنت بِجَانِب الغربي إِذْ قضينا إِلَى مُوسَى الْأَمر وَمَا كنت من الشَّاهِدين (٤٤) وَلَكنَّا أنشأنا قرونا فتطاول عَلَيْهِم الْعُمر وَمَا كنت ثاويا فِي أهل مَدين تتلو عَلَيْهِم آيَاتنَا وَلَكنَّا كُنَّا مرسلين (٤٥) وَمَا كنت بِجَانِب الطّور إِذْ نادينا وَلَكِن رَحْمَة من رَبك﴾
143
وَقَوله: ﴿وَمَا كنت من الشَّاهِدين﴾ أَي: الْحَاضِرين ذَلِك الْمقَام، وَمعنى هَذَا: أَنَّك لم تكن تكن شَاهدا وَلَا حَاضرا ذَلِك الْمقَام، وَهَذَا الْعلم لَك من قبلنَا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَكنَّا أنشأنا قرونا فتطاول عَلَيْهِم الْعُمر﴾ رُوِيَ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَنه قَالَ: مَا اهلك الله تَعَالَى أمة من الْأُمَم بعد إنزاله التَّوْرَاة على مُوسَى غير الْقرْيَة الَّتِي اعْتدت فِي السبت، فمسخوا، يَعْنِي: أهل الْقرْيَة.
وَقَوله: ﴿وَمَا كنت ثاويا﴾ أَي: مُقيما ﴿فِي أهل مَدين﴾.
وَقَوله: ﴿تتلوا عَلَيْهِم آيَاتنَا﴾ وَقَالَ هَذَا لِأَن شعيبا كَانَ يَتْلُوا عَلَيْهِم آيَات الله، وَقيل: هَذَا كَانَ مُوسَى، وَالْأول أظهر، وَقَوله: ﴿وَلَكنَّا كُنَّا مرسلين﴾ أَي: نَحن الَّذين أرسلناهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا كنت بِجَانِب الطّور إِذْ نادينا﴾ رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ فِي معنى هَذِه الْآيَة: إِن الله تَعَالَى قَالَ: يَا أمة مُحَمَّد، أَعطيتكُم قبل أَن تَسْأَلُونِي، وأجبتكم قبل أَن تَدعُونِي، وغفرت لكم قبل أَن تستغفروني. فَهَذَا هُوَ معنى النداء، وَنقل بَعضهم هَذَا مُسْندًا إِلَى النَّبِي.
وَقَالَ مقَاتل بن حَيَّان: معنى قَوْله: ﴿نادينا﴾ هُوَ أَنه قَالَ لهَذِهِ الْأمة، وهم فِي
143
﴿لتنذر قوما مَا أَتَاهُم من نَذِير من قبلك لَعَلَّهُم يتذكرون (٤٦) وَلَوْلَا أَن تصيبهم مُصِيبَة بِمَا قدمت أَيْديهم فيقولوا رَبنَا لَوْلَا أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا فنتبع آياتك ونكون من الْمُؤمنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جَاءَهُم الْحق من عندنَا قَالُوا لَوْلَا مثل أُوتِيَ مُوسَى أَو لم يكفروا بِمَا﴾ أصلاب آبَائِهِم: آمنُوا بِمُحَمد إِذا بعثته.
وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى لما سمع هَذَا من الله تَعَالَى: قَالَ: يَا رب، إِنَّمَا جِئْت لوفادة أمة مُحَمَّد.
وَقَوله: ﴿وَلَكِن رَحْمَة من رَبك﴾ قد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله تَعَالَى كتب كتابا قبل أَن يخلق آدم بألفي عَام، وَهُوَ عِنْده فَوق عَرْشه: سبقت رَحْمَتي غَضَبي ".
وَقَوله تَعَالَى: ﴿لتنذر قوما مَا أَتَاهُم من نَذِير من قبلك لَعَلَّهُم يتذكرون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
144
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَوْلَا أَن تصيبهم مُصِيبَة بِمَا قدمت أَيْديهم فيقولوا رَبنَا لَوْلَا أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا فنتبع آياتك ونكون من الْمُؤمنِينَ﴾ معنى الْآيَة: أَنهم لَوْلَا قَوْلهم هَذَا، واحتجاجهم بترك إرْسَال الرُّسُل، وَإِلَّا لعاجلناهم بالعقوبة، وَمِنْهُم من قَالَ: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِير الْآيَة: وَلَوْلَا أَنهم يَقُولُونَ: لَوْلَا أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا فنتبع آياتك، ونكون من الْمُؤمنِينَ، لأصابتهم مُصِيبَة بِمَا قدمت أَيْديهم، والمصيبة: الْعقُوبَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُم الْحق من عندنَا﴾ فِي الْحق قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه مُحَمَّد، وَالْآخر: أَنه الْقُرْآن.
144
﴿أُوتِيَ مُوسَى من قبل قَالُوا سحران تظاهرا وَقَالُوا إِنَّا بِكُل كافرون (٤٨) قل فَأتوا بِكِتَاب من عِنْد الله هُوَ أهْدى مِنْهُمَا أتبعه إِن كُنْتُم صَادِقين (٤٩) فَإِن لم يَسْتَجِيبُوا لَك﴾
وَقَوله: ﴿قَالُوا﴾ يَعْنِي: قَالَ الْمُشْركُونَ ﴿لَوْلَا أُوتِيَ﴾ أَي: هلا أُوتِيَ ﴿مثل مَا أُوتِيَ مُوسَى﴾ أَي: من الْعَصَا، وَالْيَد الْبَيْضَاء.
وَقَوله: ﴿أَو لم يكفروا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى من قبل﴾ يَعْنِي: أَن الْمُشْركين كفرُوا بمُوسَى.
وَقَوله: ﴿قَالُوا ساحران تظاهرا﴾ يَعْنِي: مُوسَى ومحمدا، وَقَالَ مُجَاهِد: مُوسَى وَهَارُون. وَقُرِئَ: " سحران تظاهرا " وَاخْتلف القَوْل فِي لسحرين، أحد الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهُمَا التَّوْرَاة وَالْقُرْآن، وَالْآخر: التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل.
وَقَوله: ﴿تظاهرا﴾ أَي: تعاونا، وَهَذَا فِي الساحرين حَقِيقَة، وَفِي السحرين على طَرِيق التَّوَسُّع، وَقَوله: ﴿قَالُوا إِنَّا بِكُل كافرون﴾ أَي: جاحدون.
145
وَقَوله تَعَالَى: ﴿قل فَأتوا بِكِتَاب من عِنْد الله هُوَ أهْدى مِنْهُمَا﴾ يَعْنِي: من التَّوْرَاة وَالْقُرْآن.
وَقَوله: ﴿أتبعه﴾ يَعْنِي: اتبع (الْكتاب) الَّذِي جئْتُمْ بِهِ من عِنْد الله.
وَقَوله: ﴿إِن كُنْتُم صَادِقين﴾ مَعْنَاهُ: أَن الْحق مَعكُمْ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِن لم يَسْتَجِيبُوا لَك﴾ أَي: لم يَأْتُوا بِمَا طلبت، وَقَوله: ﴿فَاعْلَم أَنما يتبعُون أهواءهم﴾ وَاتفقَ أهل الْمعرفَة أَن الْهوى مرد مهلك.
وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن أخوف مَا أَخَاف عَلَيْكُم شحا مُطَاعًا، وَهوى مُتبعا، وَإِعْجَاب كل ذِي رَأْي بِرَأْيهِ ".
145
﴿فَاعْلَم أَنما يتبعُون أهواءهم وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين (٥٠) (وَلَقَد وصلنا لَهُم القَوْل لَعَلَّهُم يتذكرون (٥١) الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب من قبله هم بِهِ يُؤمنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلَى عَلَيْهِم قَالُوا آمنا بِهِ إِنَّه الْحق من رَبنَا إِنَّا﴾
وَقَوله: ﴿وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله﴾ أَي: بِغَيْر بَيَان من الله، وَفِي الْآيَة دلَالَة على أَنه يجوز أَن يكون الْهوى مُوَافقا للحق، وَإِن كَانَ نَادرا. وَرُوِيَ أَن بعض الْمَشَايِخ سُئِلَ عَن هوى وَافق حَقًا، فَقَالَ: هُوَ الزّبد بالنرسيان، والنرسيان نوع من التَّمْر بِالْبَصْرَةِ أَجود مَا يكون.
وَقَوله: ﴿إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين﴾ أَي: الْمُشْركين، وَفِي الْآيَة دَلِيل على أَن النَّبِي طلب مِنْهُم أَن يَأْتُوا بِكِتَاب مثل كِتَابه، وتحداهم بذلك مرَارًا، وَلم يَأْتُوا بِهِ، وَلَو قدرُوا لأتوا بِهِ، وَلَو ببذل النُّفُوس وَالْأَمْوَال، وَلَو أَتَوا بِهِ لعرف ذَلِك، وسارت بِهِ الركْبَان.
146
قَوْله: ﴿وَلَقَد وصلنا لَهُم القَوْل﴾ أَي: ذكرنَا لَهُم إهلاك الْأُمَم الْمَاضِيَة، فاتصل بَعضهم بِبَعْض من الْكفْر، واتصل عَذَاب بَعضهم بِبَعْض.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿لَعَلَّهُم يتذكرون﴾ أَي: [يتعظون].
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب من قبله﴾ قَالَ سعيد بن جُبَير: هَؤُلَاءِ قوم من مؤمني الْحَبَشَة، آمنُوا بِالنَّبِيِّ، وَقدمُوا الْمَدِينَة، وَجَاهدُوا مَعَه.
وَعَن [ابْن] عَبَّاس قَالَ: نزلت الْآيَة فِي ثَمَانِينَ من أهل الْكتاب، وَأَرْبَعُونَ من نَجْرَان، وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ من الْحَبَشَة، وَثَمَانِية من الشَّام.
وَقَالَ بَعضهم: نزلت الْآيَة فِي قوم كَانُوا يطْلبُونَ الدّين قبل لنَبِيّ، فَلَمَّا بعث آمنُوا بِهِ، وَقَالُوا: كَانَ فيهم عبد الله بن سَلام، وسلمان، والجارود الْعَبدَرِي وَغَيرهم.
وَقَوله: ﴿هم بِهِ يُؤمنُونَ﴾ بِالْكتاب، وَقيل: بِمُحَمد.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا يُتْلَى عَلَيْهِم﴾ يَعْنِي: الْقُرْآن {قَالُوا آمنا بِهِ إِنَّه الْحق من رَبنَا إِنَّا
146
﴿كُنَّا من قبله مُسلمين (٥٣) أُولَئِكَ يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ويدرءون بِالْحَسَنَة السَّيئَة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ (٥٤) وَإِذا سمعُوا اللَّغْو أَعرضُوا عَنهُ وَقَالُوا لنا أَعمالنَا﴾ كُنَّا من قبله مُسلمين) أَي: مُوَحِّدين.
147
قَوْله تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا﴾ يَعْنِي: أجر الْإِيمَان بِالْكتاب الأول، وَأجر الْإِيمَان بِالْكتاب الثَّانِي.
وَقد ثَبت بِرِوَايَة أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: ((ثَلَاثَة يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ: رجل آمن بِالْكتاب الأول، وَالثَّانِي عبد أدّى حق الله وَحقّ موَالِيه، وَرجل لَهُ جَارِيَة فأدبها وَأحسن تأديبها، ، وَعلمهَا وَأحسن تعليمها، ثمَّ أعْتقهَا وَتَزَوجهَا ".
وَفِي التَّفْسِير: أَن أهل الْكتاب الَّذين آمنُوا فاخروا أَصْحَاب النَّبِي بِهَذِهِ الْآيَة، وَقَالُوا: إِن الله تَعَالَى يُؤْتِي أجرنا مرَّتَيْنِ، ويؤتيكم الْأجر مرّة، فَأنْزل الله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وآمنوا بِرَسُولِهِ يُؤْتكُم كِفْلَيْنِ من رَحمته﴾ الْآيَة.
وَقَوله: ﴿بِمَا صَبَرُوا﴾ أَي: صَبَرُوا على الْحق، وَلم يزيغوا عَنهُ، وَقَوله: ﴿ويدرءون بِالْحَسَنَة السَّيئَة﴾ أَي: بقول لَا إِلَه إِلَّا الله الشّرك، وَيُقَال: بِالْمَعْرُوفِ الْمُنكر، وبالخير الشَّرّ، وَيُقَال: وبالحلم جهل الْجَاهِل.
وَقَوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ﴾ أَي: يُنْفقُونَ فِي طَاعَة الله.
وَرُوِيَ أَن الْقَوْم الَّذين آمنُوا من الْحَبَشَة لما قدمُوا الْمَدِينَة، وَجَاهدُوا، واستئذنوا من النَّبِي أَن يرجِعوا إِلَى الْحَبَشَة، ويحملوا أَمْوَالهم، فَأذن لَهُم، فَذَهَبُوا وحملوا الْأَمْوَال، وأنفقوا.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَإِذا سمعُوا اللَّغْو أَعرضُوا عَنهُ﴾ أَي: الْكَلَام الْبَاطِل، وَقيل: إِن
147
﴿وَلكم أَعمالكُم سَلام عَلَيْكُم لَا نبتغي الْجَاهِلين (٥٥) إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت وَلَكِن﴾ الْمُشْركين كَانُوا يسبون مؤمني أهل الْكتاب، وَيَقُولُونَ: تَبًّا لكم، تركْتُم دينكُمْ واتبعتم غُلَاما منا. فَهُوَ معنى اللَّغْو الْمَذْكُور فِي الْآيَة.
وَقَوله: ﴿وَقَالُوا لنا أَعمالنَا وَلكم أَعمالكُم﴾ أَي: لنا ديننَا، وَلكم دينكُمْ، وَقيل: لكم سفهكم، وَلنَا حلمنا.
وَقَوله: ﴿سَلام عَلَيْكُم﴾ لَيْسَ المُرَاد من السَّلَام هَاهُنَا هُوَ التَّحِيَّة، وَلَكِن هَذَا السَّلَام هُوَ سَلام المتاركة، وَيُقَال مَعْنَاهُ: سلمتم من معارضتنا لكم بِالْجَهْلِ والسفه.
وَعَن بعض السّلف أَنه كَانَ يسب فَيَقُول: سَلام سَلام، وَعَن بَعضهم: أَي قَالُوا قولا يسلمُونَ مِنْهُ.
وَقَوله: ﴿لَا نبتغي الْجَاهِلين﴾ أَي: لَا ندخل فِي جهل الْجَاهِلين.
148
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت﴾ أَكثر أهل التَّفْسِير أَن الْآيَة فِي أبي طَالب، وَقد صَحَّ بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَن أَبَا طَالب لما حَضَره الْمَوْت، دخل النَّبِي وَعِنْده أَبُو جهل وَعبد الله بن أبي أُميَّة وَغَيرهمَا، فَقَالَ رَسُول الله: " يَا عَم، قل لَا إِلَه إِلَّا الله، كلمة أُحَاج لَك بهَا عِنْد الله، فَقَالَ لَهُ أَبُو جهل وَعبد الله بن [أبي] أُميَّة: أزغت عَن مِلَّة الْأَشْيَاخ؟ فَمَا زَالَ رَسُول الله يَقُول ذَلِك، وهم يَقُولُونَ، حَتَّى كَانَ كلمة قَالَهَا: أَنا على مِلَّة الْأَشْيَاخ)). وَالْمعْنَى بالأشياخ: عبد الْمطلب، وهَاشِم، وَعبد منَاف. وَهَذَا الْخَبَر فِي الصَّحِيحَيْنِ، [وروى] مُسلم فِي صَحِيحه: أَن النَّبِي دخل على أبي طَالب وَقد حَضَره الْمَوْت، فَقَالَ: " يَا عَم، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله؛ أشفع لَك يَوْم الْقِيَامَة ". فَقَالَ: لَوْلَا أَن
148
﴿الله يهدي من يَشَاء وَهُوَ أعلم بالمهتدين (٥٦) وَقَالُوا إِن نتبع الْهدى مَعَك نتخطف من أَرْضنَا أَو لم نمكن لَهُم حرما يجبي آمنا إِلَيْهِ ثَمَرَات كل شَيْء رزقا من لدنا وَلَكِن﴾ تعيرني نسَاء قُرَيْش، فيقلن: جزع عِنْد الْمَوْت، لأقررت بهَا عَيْنَيْك ". وَفِي رِوَايَة: " لَوْلَا أَن تعيرك نسَاء قُرَيْش، وَيكون سبه عَلَيْك، لأقررت بهَا عَيْنَيْك ". وَالْأول فِي الصَّحِيح، فَأنْزل الله تَعَالَى: ﴿إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت﴾ أَي: من أَحْبَبْت أَن يَهْتَدِي، وَقيل: من أحببته لِقَرَابَتِهِ ﴿وَلَكِن الله يهدي من يَشَاء﴾ أَي: يهدي لدينِهِ من يَشَاء.
وَعَن [سعيد بن أبي رَاشد] : أَن هِرقل بعث رَسُولا من تنوخ إِلَى رَسُول الله: فجَاء إِلَيْهِ وَهُوَ بتبوك يحمل كتاب هِرقل، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: " يَا أَخا تنوخ، أسلم. فَقَالَ: إِنِّي رَسُول ملك جِئْت من عِنْده؛ فأكره أَن أرجع إِلَيْهِ بِخِلَاف مَا جِئْت، فَضَحِك النَّبِي، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت وَلَكِن الله يهدي من يَشَاء﴾ ".
وَقَوله: ﴿وَهُوَ أعلم بالمهتدين﴾ وَهُوَ أعلم بِمن قدر لَهُ الْهِدَايَة.
149
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا إِن نتبع الْهدى مَعَك نتخطف من أَرْضنَا﴾ الاختطاف هُوَ الاستلاب بِسُرْعَة. وَيُقَال: إِن الْقَائِل لهَذَا القَوْل هُوَ الْحَارِث بن نَوْفَل بن عبد منَاف، قَالَ للنَّبِي: إِنَّا نعلم مَا جِئْت بِهِ حق، وَلَكنَّا إِن أسلمنَا مَعَك لم نطق الْعَرَب؛ فَإنَّا أَكلَة رَأس، ويقصدنا الْعَرَب من كل نَاحيَة، فَلَا نطيقهم.
وَقَوله: ﴿أَو لم نمكن لَهُم حرما أمنا﴾ أَي: ذَا أَمن، وَمن الْمَعْرُوف أَنه يَأْمَن فِيهِ الظباء من الذئاب، وَالْحمام من الحدأة.
149
﴿أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (٥٧) وَكم أهلكنا من قَرْيَة بطرت معيشتها فَتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهمْ إِلَّا قَلِيلا وَكُنَّا نَحن الْوَارِثين (٥٨) وَمَا كَانَ رَبك مهلك الْقرى حَتَّى يبْعَث فِي أمهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاتنَا وَمَا كُنَّا مهلكي الْقرى إِلَّا وَأَهْلهَا ظَالِمُونَ (٥٩) ﴾
وَقَوله: ﴿يجبي إِلَيْهِ ثَمَرَات كل شئ﴾ أَي: يجمع إِلَيْهِ ثَمَرَات كل شئ؛ يُقَال: جبيت المَاء فِي الْحَوْض أَي: جمعته.
وَقَوله: ﴿رزقا من لدنا﴾ أَي: رَزَقْنَاهُمْ رزقا من لدنا.
وَقَوله: ﴿وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ﴾ أَي: مَا أقوله حق. وَمعنى الْآيَة: أَنا مَعَ كفركم أمناكم فِي الْحرم، فَكيف نخوفكم إِذا أسلمتم؟.
وَقَالَ مُجَاهِد: وجد عِنْد الْمقَام كتاب فِيهِ: أَنا الله ذُو بكة، صغتها يَوْم خلقت الشَّمْس وَالْقَمَر، وحرمتها يَوْم خلقت السَّمَوَات وَالْأَرْض، حففتها بسبعة أَمْلَاك حنفَاء، يَأْتِيهَا رزقها من ثَلَاثَة سبل، مبارك لَهَا فِي اللَّحْم وَالْمَاء، أول من يحلهَا أَهلهَا.
وَقد بَينا من قبل، أَن الرجل كَانَ من أهل الْحرم يخرج فَلَا يتَعَرَّض لَهُ، وَيُقَال: هَؤُلَاءِ أهل الله.
150
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَكم أهلكنا من قَرْيَة﴾ أَي: من أهل قَرْيَة ﴿بطرت معيشتها﴾ أَي: بطرت فِي معيشتها. وَقَالَ الْفراء: أبطرتها معيشتها.
وَقَوله: ﴿فَتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهمْ إِلَّا قَلِيلا﴾ أَي: خربنا أَكْثَرهَا. وَيُقَال: معنى الْقَلِيل هَاهُنَا أَن الْمُسَافِر ينزل مسكنا خرابا، فيمكث فِيهِ يَوْمًا أَو بعض يَوْم.
وَقَوله: ﴿وَكُنَّا نَحن الْوَارِثين﴾ قد بَينا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ رَبك مهلك الْقرى حَتَّى يبْعَث فِي أمهَا رَسُولا﴾ أَي: مَكَّة، وَيُقَال: فِي أمهَا رَسُولا أَي: فِي أَكْثَرهَا من سَائِر الدُّنْيَا رَسُولا.
وَقَوله: ﴿يَتْلُوا عَلَيْهِم آيَاتنَا﴾ مَعْلُوم الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿وَمَا كُنَّا مهلكي الْقرى إِلَّا وَأَهْلهَا ظَالِمُونَ﴾ أَي: لم نهلك أهل قَرْيَة إِلَّا بعد أَن أذنبوا.
150
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ من شَيْء فمتاع الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا وَمَا عِنْد الله خير وَأبقى أَفلا تعقلون (٦٠) أَفَمَن وعدناه وَعدا حسنا فَهُوَ لاقيه كمن متعناه مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا ثمَّ هُوَ يَوْم الْقِيَامَة من المحضرين (٦١) وَيَوْم يناديهم فَيَقُول أَيْن شركائي الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ (٦٢) قَالَ الَّذين حق عَلَيْهِم القَوْل رَبنَا هَؤُلَاءِ الَّذين أغوينا أغويناهم كَمَا غوينا تبرأنا﴾
151
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ من شئ فمتاع الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ الْمَتَاع على مَعْنيين: أحد الْمَعْنيين: هُوَ الْمُتْعَة وَالْمعْنَى الآخر: مَا يتأثث بِهِ.
وَقَوله: ﴿وَزينتهَا﴾ أَي: وزينة الدُّنْيَا.
وَقَوله: ﴿وَمَا عِنْد الله خير وَأبقى أَفلا يعْقلُونَ﴾ أَي: أَفلا ينظرُونَ، ليعقلوا أَن الْبَاقِي خير من الفاني.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَفَمَن وعدناه وَعدا حسنا فَهُوَ لاقيه﴾ قَالَ السّديّ: هَذَا ورد فِي حَمْزَة وَأبي جهل، وَقَالَ غَيره: فِي النَّبِي وَأبي جهل.
وَقَوله: ﴿فَهُوَ لاقيه﴾ أَي: ملاقيه وصائر إِلَيْهِ، والوعد الْحسن هُوَ الْجنَّة.
وَقَوله: ﴿كمن متعناه مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ أَي: متعناه مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا، ثمَّ مرجعه إِلَى النَّار؛ فَهُوَ معنى قَوْله: ﴿ثمَّ هُوَ يَوْم الْقِيَامَة من المحضرين﴾ أَي: من المحضرين النَّار.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَيَوْم يناديهم فَيَقُول أَيْن شركائي الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ﴾ يَعْنِي: أَيْن شركائي الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ أَنهم شركائي؟.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ الَّذين حق عَلَيْهِم القَوْل﴾ أَي: وَجَبت عَلَيْهِم كلمة الْعَذَاب.
وَقَوله: ﴿رَبنَا هَؤُلَاءِ الَّذين أغوينا﴾ أَي: دعوناهم إِلَى الغي.
وَقَوله: ﴿أغويناهم كَمَا غوينا﴾ أَي: أضللناهم كَمَا ضللنا.
وَقَوله: ﴿تبرأنا إِلَيْك مَا كَانُوا إيانا يعْبدُونَ﴾ يَعْنِي: أَنهم لم يعبدونا، وَلَكِن دعوناهم فَأَجَابُوا.
151
﴿إِلَيْك مَا كَانُوا إيانا يعْبدُونَ (٦٣) وَقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فَلم يَسْتَجِيبُوا لَهُم وَرَأَوا الْعَذَاب لَو أَنهم كَانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْم يناديهم فَيَقُول مَاذَا أجبتم الْمُرْسلين (٦٥) فعميت عَلَيْهِم الأنباء يَوْمئِذٍ فهم لَا يتساءلون (٦٦) فَأَما من تَابَ وآمن وَعمل صَالحا فَعَسَى أَن يكون من المفلحين (٦٧) وَرَبك يخلق مَا يَشَاء ويختار مَا كَانَ لَهُم﴾
152
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقيل ادعوا شركاءكم﴾ يَعْنِي قيل للْكفَّار: ادعوا شركاءكم أَي: الْأَصْنَام، وَمعنى قَوْله: ﴿شركاءكم﴾ أَي: شركائي فِي زعمكم.
وَقَوله: ﴿فدعوهم فَلم يَسْتَجِيبُوا لَهُم﴾ أَي: لم يجيبوا لَهُم.
وَقَوله: ﴿وَرَأَوا الْعَذَاب لَو أَنهم كَانُوا يَهْتَدُونَ﴾ مَعْنَاهُ: لَو أَنهم كَانُوا يَهْتَدُونَ مَا رَأَوْا الْعَذَاب.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَيَوْم يناديهم فَيَقُول مَاذَا أجبتم الْمُرْسلين﴾ أَي: يُنَادى الْكفَّار.
وَقَوله: ﴿فعميت عَلَيْهِم الأنباء يَوْمئِذٍ﴾ أَي: الْحجَج؛ فكأنهم لما لم يَجدوا حجَّة فقد عجزوا عَنْهَا.
وَقَوله: ﴿فهم لَا يتساءلون﴾ قد بَينا أَن هَذَا فِي بعض المواطن، وَيُقَال: لَا يتساءلون سُؤال التواصل والعطف، وَيُقَال: لَا يسْأَل بَعضهم بَعْضًا أَي: لَا يحمل غَيره ذَنبه؛ لِأَنَّهُ لَا يجد.
وَقَوله: ﴿فَأَما من تَابَ وآمن وَعمل صَالحا فَعَسَى أَن يكون من المفلحين﴾ أَي: من السُّعَدَاء الناجحين، وَفِي بعض التفاسير: أَن عَسى وَاجِب فِي جَمِيع الْقُرْآن، إِلَّا فِي قَوْله: ﴿عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَرَبك يخلق مَا يَشَاء ويختار﴾ أَي: يخلق مَا يَشَاء من الْخلق، ويختار من يَشَاء للنبوة. وَيُقَال: إِن هَذِه الْآيَة نزلت فِي الْوَلِيد بن الْمُغيرَة حَيْثُ قَالَ لَوْلَا أنزل الْقُرْآن على رجل من القريتين عَظِيم، فَأَرَادَ بِهِ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة نَفسه وَعُرْوَة بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ، والقريتين: مَكَّة والطائف، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
152
﴿الْخيرَة سُبْحَانَ الله وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ (٦٨) وَرَبك يعلم مَا تكن صُدُورهمْ وَمَا يعلنون (٦٩) وَهُوَ الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمد فِي الأولى وَالْآخِرَة وَله الحكم وَإِلَيْهِ ترجعون (٧٠) قل أَرَأَيْتُم إِن جعل الله عَلَيْكُم اللَّيْل سرمدا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من إِلَه غير﴾
قَوْله: ﴿مَا كَانَ لَهُم الْخيرَة﴾ يَعْنِي: أَن الِاخْتِيَار إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُم اخْتِيَار على الله، وَقيل: إِن الْآيَة نزلت فِي ذَبَائِحهم للأصنام، وَكَانُوا يجْعَلُونَ الأسمن للأصنام، ويجعلون مَا هُوَ شَرّ لله.
وَقَوله: ﴿سُبْحَانَ الله وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ﴾ نزه نَفسه عَمَّا ينْسبهُ إِلَيْهِ الْمُشْركُونَ.
153
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَرَبك يعلم مَا تكن صُدُورهمْ﴾ أَي: مَا تخفى صُدُورهمْ ﴿وَمَا يعلنون﴾ أَي: يظهرون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمد فِي الأولى وَالْآخِرَة﴾ أَي: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَيُقَال: فِي الأولى وَالْآخِرَة أَي: فِي الأَرْض وَالسَّمَاء.
وَقَوله: ﴿وَله الحكم﴾ أَي: فصل الْقَضَاء بَين العبيد.
وَقَوله: ﴿وَإِلَيْهِ ترجعون﴾ قد بَينا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل أَرَأَيْتُم إِن جعل الله عَلَيْكُم اللَّيْل سرمدا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة﴾ أَي: دَائِما.
وَقَوله: ﴿من إِلَه غير الله يأتيكم بضياء﴾ أَي: بنهار.
وَقَوله: ﴿أَفلا تَسْمَعُونَ﴾ أَي: أَفلا تعقلون، وَيُقَال: أَفلا تَسْمَعُونَ سمع تفهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل أَرَأَيْتُم إِن جعل الله عَلَيْكُم النَّهَار سرمدا﴾ أَي: دَائِما، وَقَوله: ﴿من إِلَه غير الله يأتيكم بلَيْل تسكنون فِيهِ أَفلا تبصرون﴾ مَعْنَاهُ: أَفلا تعلمُونَ، فَإِن قَالَ قَائِل: مَا وَجه مصلحَة اللَّيْل فِي الدُّنْيَا، وَلَيْسَ فِي الْجنَّة ليل؟ وَالْجَوَاب عَنهُ أَن الدُّنْيَا لَا تَخْلُو عَن تَعب التكاليف والتكليفات، فَلَا بُد لَهُ من وَقت يفضى فِيهِ إِلَى الرَّاحَة (من التَّعَب وَأما الْجنَّة فَهُوَ مَوضِع التَّصَرُّف فِي الملاذ، وَلَيْسَ فِيهَا تَعب أصلا،
153
﴿الله يأتيكم بضياء أَفلا تَسْمَعُونَ (٧١) قل أَرَأَيْتُم إِن جعل الله عَلَيْكُم النَّهَار سرمدا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من إِلَه غير الله يأتيكم بلَيْل تسكنون فِيهِ أَفلا تبصرون (٧٢) وَمن رَحمته جعل لكم اللَّيْل وَالنَّهَار لتسكنوا فِيهِ ولتبتغوا من فَضله ولعلكم تشكرون (٧٣) وَيَوْم يناديهم فَيَقُول أَيْن شركائي الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنَا من كل أمة شَهِيدا فَقُلْنَا هاتوا برهانكم فَعَلمُوا أَن الْحق لله وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون (٧٥) إِن قَارون كَانَ﴾ فَلَا يحْتَاج إِلَى وَقت يفضى فِيهِ إِلَى الرَّاحَة) أصلا.
154
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن رَحمته جعل لكم اللَّيْل وَالنَّهَار لتسكنوا فِيهِ﴾ أَي: لتسكنوا فِي اللَّيْل، وَقَوله: ﴿ولتبتغوا من فَضله﴾ أَي: بِالنَّهَارِ.
وَقَوله: ﴿ولعلكم تشكرون﴾ أَي: تشكرون نعم الله.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَيَوْم يناديهم فَيَقُول أَيْن شركائي الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ﴾ قد بَينا الْمَعْنى، وَيجوز أَن يُوجد نِدَاء بعد نِدَاء لزِيَادَة التقريع والتوبيخ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَنَزَعْنَا من كل أمة شَهِيدا﴾ أَي: استخرجنا من كل أمة شَاهدا يشْهد عَلَيْهِم، وَالْأَظْهَر أَن الشَّهِيد على كل أمة نَبِيّهم.
وَقَوله: ﴿فَقُلْنَا هاتوا برهانكم﴾ أَي: حجتكم وبينتكم.
وَقَوله: ﴿فَعَلمُوا أَن الْحق لله﴾ أَي: عجزوا عَن إِظْهَار الْحجَّة، وَعَلمُوا أَن الْحق لله.
وَقَوله: ﴿وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون﴾ أَي: ضل عَنْهُم يَوْم الْقِيَامَة مَا كَانُوا يفترون فِي الدُّنْيَا، وَمعنى ضل: فَاتَ وَذهب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن قَارون﴾ قَالَ قَتَادَة وَابْن جريح: كَانَ ابْن عَم مُوسَى لحا. وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: كَانَ ابْن أخي مُوسَى غير هَارُون.
وَقَوله: ﴿فبغى عَلَيْهِم﴾ قَالَ الضَّحَّاك: أَي: بالشرك. وَقَالَ شهر بن حَوْشَب: بغى عَلَيْهِم: زَاد فِي ثِيَابه شبْرًا على ثِيَاب النَّاس. وَقَالَ بَعضهم: بغى عَلَيْهِم بالتكبر
154
﴿من قوم مُوسَى فبغى عَلَيْهِم وَآتَيْنَاهُ من الْكُنُوز مَا إِن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي الْقُوَّة إِذْ﴾ والعلو. وَمن الْمَعْرُوف فِي التفاسير: أَن قَارون كَانَ أَقرَأ رجل من بني إِسْرَائِيل للتوراة، وَكَانَ حسن الصَّوْت، ثمَّ إِنَّه نَافق؛ فروى أَنه قَالَ لمُوسَى: أَنْت أخذت النُّبُوَّة، وَهَارُون أَخذ المذبح والحبورة، فأيش لي؟
وَفِي الْقِصَّة: أَنه أعْطى امْرَأَة بغيا من بني إِسْرَائِيل ألفي دِرْهَم، وَطلب مِنْهَا أَن تَأتي نَادِي بني إِسْرَائِيل، ومُوسَى فيهم، فتدعي عَلَيْهِ أَنه زنا بهَا، وَمِنْهُم من قَالَ: تَدعِي عَلَيْهِ أَنه دَعَاهَا إِلَى نَفسه، فَجَاءَت وَادعت عَلَيْهِ ذَلِك. وروى أَنَّهَا خَافت، وأخبرت أَن قَارون أَعْطَاهَا مَالا لتدعي ذَلِك. وَفِي الرِّوَايَة الأولى: أَنَّهَا لما ادَّعَت على مُوسَى ذَلِك تغير مُوسَى تغيرا شَدِيدا، وَقَالَ لَهَا: بِالَّذِي أنزل التَّوْرَاة وفلق الْبَحْر اصدقي، فَحِينَئِذٍ خَافت، وَذكرت الْأَمر على وَجهه، فَدَعَا الله تَعَالَى مُوسَى على قَارون، فَسَلَّطَهُ الله تَعَالَى عَلَيْهِ، وَجعل الأَرْض طَوْعًا لَهُ على مَا سَنذكرُهُ.
وَقَوله: ﴿وَآتَيْنَاهُ من الْكُنُوز مَا إِن مفاتحه﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: خزائنه، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿وَعِنْده مفاتح الْغَيْب﴾ أَي: خَزَائِن الْغَيْب، وَالثَّانِي: أَن المفاتح هُوَ مقاليد الخزائن. وَعَن بَعضهم: أَن كل مِفْتَاح كَانَ على قدر أصْبع، وَكَانَ يحملهَا سِتُّونَ بغلة، وَقيل: أَرْبَعُونَ بغلة، وَيُقَال: أَرْبَعُونَ رجلا، وَقَوله ﴿لتنوء﴾ أَي: تثقل الْعصبَة. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هَذَا من المقلوب، وَتَقْدِيره: مَا إِن الْعصبَة لتنوء بهَا. يُقَال: ناء فلَان بِكَذَا أَي: نَهَضَ بِهِ مُثقلًا، وَيُقَال مَعْنَاهُ: لتنوء بالعصبة.
وَأما الْعصبَة فَفِيهَا أقاويل: أَحدهَا: أَنهم سَبْعُونَ رجلا، وَالْآخر: أَرْبَعُونَ رجلا، وَقَالَ بَعضهم: من الْعشْرَة إِلَى الْأَرْبَعين، وَقَالَ بَعضهم: سِتَّة أَو سَبْعَة، وَقَالَ بَعضهم: عشرَة؛ لِأَن إخْوَة يُوسُف قَالُوا: وَنحن عصبَة، وَقد كَانُوا عشرَة. والعصبة فِي اللُّغَة هم الْقَوْم الَّذين يتعصب بَعضهم بِبَعْض.
وَقَوله: ﴿بالعصبة أولى الْقُوَّة﴾ أَي: أولى الشدَّة.
155
﴿قَالَ لَهُ قومه لَا تفرح إِن الله لَا يحب الفرحين (٧٦) وابتغ فِيمَا آتاك الله الدَّار الْآخِرَة وَلَا تنس نصيبك من الدُّنْيَا وَأحسن كَمَا أحسن الله إِلَيْك وَلَا تَبْغِ الْفساد فِي الأَرْض إِن الله لَا يحب المفسدين (٧٧) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتهُ على علم عِنْدِي أَو لم يعلم أَن الله قد﴾
وَقَوله: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ قومه لَا تفرح﴾ أَي: لَا تبطر وَلَا تأشر، والفرح هَاهُنَا هُوَ السرُور بِغَيْر حق.
وَقَوله: ﴿إِن الله لَا يحب الفرحين﴾ ظَاهر.
156
قَوْله: ﴿وابتغ فِيمَا آتاك الله الدَّار الْآخِرَة﴾ قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: بِطَلَب الْحَلَال. وَقَالَ السّديّ: بِالصَّدَقَةِ وصلَة الرَّحِم. وَعَن بَعضهم قَالَ: بالتقرب إِلَى الله بِكُل وُجُوه التَّقَرُّب.
وَقَوله: ﴿وَلَا تنس نصيبك من الدُّنْيَا﴾ أَي: طلب الْآخِرَة بِالَّذِي تعْمل فِي الدُّنْيَا، وَمَعْنَاهُ: اعْمَلْ فِي الدُّنْيَا لآخرتك، وَقَالَ بَعضهم: وَلَا تنس نصيبك من الدُّنْيَا أَي: بالاستغناء بِمَا أحل الله عَمَّا حرم الله. وَفِي بعض أدعية الصَّالِحين: اللَّهُمَّ أغنني بحلالك عَن حرامك، وبفضلك عَمَّن سواك.
وَقَوله: ﴿وَأحسن كَمَا أحسن الله إِلَيْك﴾ أَي: وَأحسن بِطَاعَة الله كَمَا أحسن الله إِلَيْك بنعمه، وَيُقَال: وَأحسن بِطَلَب الْحَلَال كَمَا أحسن الله إِلَيْك بالحلال.
وَقَوله: ﴿وَلَا تَبْغِ الْفساد فِي الأَرْض﴾ أَي: بالمعصية، وكل من عصى الله فقد طلب الْفساد فِي الأَرْض.
وَقَوله: ﴿إِن الله لَا يحب المفسدين﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتهُ على علم عِنْدِي﴾ فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: إِن الله تَعَالَى أَعْطَانِي هَذَا المَال لفضل علمه عِنْدِي، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه علم الكيمياء.
156
﴿أهلك من قبله من الْقُرُون من هُوَ أَشد مِنْهُ قُوَّة وَأكْثر جمعا وَلَا يسْأَل عَن ذنوبهم المجرمون (٧٨) فَخرج على قومه فِي زينته قَالَ الَّذين يُرِيدُونَ الْحَيَاة الدُّنْيَا يَا لَيْت لنا﴾
وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - علم يُوشَع بن نون ثلث الكيمياء، وَعلم قَارون ثلث الكيمياء؛ وَعلم هَارُون ثلث الكيمياء؛ فَكثر بذلك مَاله. وَالْقَوْل الثَّالِث: على علم عِنْدِي بِوُجُوه المكاسب والتصرفات.
وَعَن عَطاء بن أبي رَبَاح أَن قَارون وجد كنزا ليوسف، فَكَانَ مَاله من هَذَا الْوَجْه.
وَقَوله: ﴿أَو لم يعلم أَن الله قد أهلك من قبله من الْقُرُون من هُوَ أَشد مِنْهُ قُوَّة وَأكْثر جمعا﴾ أَي: لِلْمَالِ.
وَقَوله: ﴿وَلَا يسْأَل عَن ذنوبهم المجرمون﴾ أَي: يَوْم الْقِيَامَة، فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ تَعَالَى: ﴿فوربك لنسألنهم أَجْمَعِينَ﴾ وأمثال هَذَا من الْآيَات، وَهَاهُنَا قَالَ: (وَلَا يسْأَل عَن ذنوبهم المجرمون) فَكيف وَجه التَّوْفِيق بَين الْآيَتَيْنِ؟ وَالْجَوَاب إِنَّا بَينا أَن فِي الْقِيَامَة مَوَاقِف؛ فَفِي موقف يسْأَلُون، وَفِي موقف لَا يسْأَلُون، وَيُقَال: لَا يسْأَلُون سُؤال استعلام، وَإِنَّمَا يسْأَلُون سُؤال تقريع وتوبيخ، وَيُقَال: لَا يسْأَلُون سُؤال من لَهُ عذر فِي الْجَواب، وَإِنَّمَا يسْأَلُون على معنى إِظْهَار قبائحهم ليفتضحوا على رُءُوس الْجمع.
وَعَن قَتَادَة قَالَ: الْكَافِر لَا يُحَاسب، بل يُؤمر بِهِ إِلَى النَّار من غير حِسَاب وَلَا سُؤال. وَقَالَ بَعضهم: وَلَا يسْأَل عَن ذنوبهم المجرمون؛ لأَنهم يعْرفُونَ بِسِيمَاهُمْ، قَالَ الله تَعَالَى، ﴿يعرف المجرمون بِسِيمَاهُمْ﴾.
157
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَخرج على قومه فِي زينته﴾ الزِّينَة بهجة الدُّنْيَا ونضارتها، وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: خرج قَارون وَقَومه فِي ثِيَاب حمر وصفر. وَعَن مقَاتل قَالَ: خرج على بغلة شهباء، عَلَيْهَا سرج من ذهب، وللسرج مثبرة من أَرْجُو، وَمَعَهُ أَرْبَعَة آلَاف من الْخَيل عَلَيْهَا الفرسان، قد تزينوا بالأرجوانات، وَمَعَهُ ثلثمِائة جَارِيَة بيض على
157
﴿مثل مَا أُوتِيَ قَارون إِنَّه لذُو حَظّ عَظِيم (٧٩) وَقَالَ الَّذين أُوتُوا الْعلم وَيْلكُمْ ثَوَاب الله خير لمن آمن وَعمل صَالحا وَلَا يلقاها إِلَّا الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْض﴾ البغال الشهب، عَلَيْهِنَّ من الحلى.
وَعَن بَعضهم قَالَ: خرج مَعَ سبعين ألفا، عَلَيْهِم المعصفرات.
وَفِي بعض المسانيد عَن النَّبِي قَالَ: " أَرْبَعَة أَشْيَاء من خِصَال قوم قَارون: جو نعال السيوف، وَلبس الْخفاف المتلونة، وَالثيَاب الأرجوان، وَكَانَ أحدهم لَا ينظر إِلَى وَجه خادمه تكبرا "
وَعَن عَطاء قَالَ: كَانَ مُوسَى يقص لبني إِسْرَائِيل ويعظهم، فَخرج قَارون وَمَعَهُ أَرْبَعَة آلَاف على البغال فِي الأرجوانات، وَمر على مُوسَى، فَالْتَفت بَنو إِسْرَائِيل إِلَيْهِ، وشغلوا عَن مُوسَى، فشق ذَلِك على مُوسَى، فَأرْسل إِلَيْهِ: لم فعلت ذَلِك؟ فَقَالَ: فضلت بِالنُّبُوَّةِ، وفضلت بِالْمَالِ، وَإِن شِئْت دَعَوْت ودعوت. ثمَّ إِن مُوسَى دَعَا الله تَعَالَى على قَارون، فَجعل الأَرْض فِي طَاعَته.
وَقَوله: ﴿قَالَ الَّذين يُرِيدُونَ الْحَيَاة الدُّنْيَا يَا لَيْت لنا مثل مَا أُوتِيَ قَارون إِنَّه لذُو حَظّ عَظِيم﴾ أَي: نصيب عَظِيم من الدُّنْيَا.
158
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الَّذين أُوتُوا الْعلم وَيْلكُمْ ثَوَاب الله خير﴾ أَي: ثَوَاب الله فِي الْآخِرَة ﴿خير لمن آمن وَعمل صَالحا وَلَا يلقاها﴾ أَي: وَلَا يُؤْتى الْعَمَل الصَّالح إِلَّا الصَّابِرُونَ، وَقيل: لَا يُؤْتى هَذِه الْكَلِمَة، والكلمة قَوْله: ﴿وَيْلكُمْ ثَوَاب الله خير لمن أَمن وَعمل صَالحا وَلَا يلقاها إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾.
وَيُقَال: الصَّابِرُونَ هم الَّذين صَبَرُوا عَمَّا أُوتِيَ أَعدَاء الله من زِينَة، وَلم يتأسفوا عَلَيْهَا، وَلَا تمنوها.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْض﴾ وَفِي بعض التفاسير: أَن قَارون قَالَ لمُوسَى: سلمنَا لَك النُّبُوَّة، فَمَا بَال الحبورة ولهارون؟ وَإِذا كَانَ لَك النُّبُوَّة، ولهارون الحبورة فَمَالِي؟ فَقَالَ مُوسَى: إِنِّي لم أعْطه الحبورة، وَلَكِن الله تَعَالَى أعطَاهُ الحبورة، فَقَالَ: لَا أصدقك على ذَلِك حَتَّى تريني آيَة، فَأمر مُوسَى حَتَّى جمعُوا عصيهم، وَقَالَ: من اخضرت عَصَاهُ فالحبورة لَهُ، فاخضرت عَصا هَارُون، وَجعلت تهتز من بَين العصى، فَقَالَ قَارون: هَذَا من سحرك، وَلَيْسَ هَذَا بِأول سحر أتيت بِهِ، فَحِينَئِذٍ دَعَا الله مُوسَى على قَارون.
وروى أَنه لما وَاضع الْمَرْأَة الْبَغي حَتَّى ادَّعَت على مُوسَى أَنه زنا بهَا، أَو دَعَاهَا إِلَى الْفَاحِشَة، غضب مُوسَى ودعا الله تَعَالَى. وَفِي بعض الْقَصَص: أَنه كَانَ مَعَ قَارون قوم كثير من بني لاوى، فجَاء مُوسَى إِلَيْهِم، وَقَالَ: إِن الله بَعَثَنِي إِلَى قَارون كَمَا بَعَثَنِي إِلَى فِرْعَوْن، فَمن أرادني فليعتزله، فاعتزل مِنْهُ جَمِيع قومه إِلَّا [رجلَيْنِ] بقيا مَعَه من بني أَعْمَامه، ثمَّ إِن مُوسَى خَاطب الأَرْض، وَقَالَ: خُذِيهِمْ، فَأخذت الأَرْض بأقدامهم، ثمَّ قَالَ: خُذِيهِمْ، فَأخذت إِلَى ركبهمْ، ثمَّ قَالَ: خُذِيهِمْ: فَأخذت إِلَى حقوهم، ثمَّ قَالَ: خُذِيهِمْ، فَأخذت إِلَى أَعْنَاقهم.
وَفِي التَّفْسِير: أَن قَارون فِي كل ذَلِك يستغيث بمُوسَى وينشده وَالرحم، وَيَقُول: ارْحَمْنِي، ثمَّ قَالَ: خُذِيهِمْ، فأطبقت الأَرْض عَلَيْهِم.
قَالَ قَتَادَة: فهم يذهبون فِي الأَرْض كل يَوْم قامة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَعَن ابْن عَبَّاس أَن الله تَعَالَى قَالَ لمُوسَى: مَا أقسى قَلْبك؛ اسْتَغَاثَ بك عَبدِي، فَلم تغثه، وَلَو اسْتَغَاثَ بِي مرّة لأغثته.
وَفِي بعض الْآثَار: لَا أجعَل الأَرْض بعْدك طَوْعًا لأحد.
وَذكر أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس فِي تَفْسِيره: أَن الأَرْض لما أخذت قَارون إِلَى عُنُقه نزع مُوسَى نَعْلَيْه، وَضرب بهما وَجهه، وَقَالَ: اذْهَبُوا بني لاوى، وأطبقت بهم الأَرْض.
159
﴿فَمَا كَانَ لَهُ من فِئَة ينصرونه من دون الله وَمَا كَانَ من المنتصرين (٨١) وَأصْبح الَّذين تمنوا مَكَانَهُ بالْأَمْس يَقُولُونَ ويكأن الله يبسط الرزق لمن يَشَاء من عباده وَيقدر لَوْلَا أَن﴾
وَذكر أَيْضا أَن يُونُس بن مَتى لقِيه فِي ظلمات الأَرْض حِين يطوف بِهِ الْحُوت، فَقَالَ لَهُ قَارون: يَا يُونُس، تب إِلَى الله تَجِد الله تَعَالَى فِي أول قدم ترجع إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ يُونُس: فَأَنت لم لَا تتوب؟ فَقَالَ: جعلت تَوْبَتِي إِلَى ابْن عمي.
وَقَوله: ﴿وَبِدَارِهِ الأَرْض﴾ روى أَن بني إِسْرَائِيل قَالُوا: إِنَّمَا أهلك مُوسَى قَارون ليَأْخُذ أَمْوَاله، وَكَانَت أَرَاضِي دوره من فضَّة، وأثاث الْحِيطَان من ذهب، فَأمر مُوسَى الأَرْض حَتَّى أحضرت دوره، ثمَّ أمرهَا حَتَّى خسفت بهَا، فَانْقَطع الْكَلَام.
وَقَوله: ﴿فَمَا كَانَ لَهُ من فِئَة﴾ أَي: من جمَاعَة ﴿ينصرونه﴾ أَي: يمنعونه ﴿من دون الله﴾.
وَقَوله: ﴿وَمَا كَانَ من المنتصرين﴾ أَي: من الممتنعين، وَمَعْنَاهُ: لم يكن يمْنَع نَفسه، وَلَا يمنعهُ أحد من عَذَاب الله.
160
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأصْبح الَّذين تمنوا مَكَانَهُ بالْأَمْس﴾ يَعْنِي: أَن يَكُونُوا مَكَانَهُ، وَفِي مَنْزِلَته.
وَقَوله: ﴿يَقُولُونَ ويكأن الله﴾ وَقَوله: ﴿ويكأن﴾ فِيهِ أَقْوَال: قَالَ الْفراء: ويكأن عِنْد الْعَرَب تَقْرِير، وَمَعْنَاهُ: ألم تَرَ أَنه؛ وَحكى الْفراء أَن أعرابية قَالَت لزَوجهَا: أَيْن ابْنك؟ فَقَالَ لَهَا: ويكأنه وَرَاء الْبَيْت، وَمَعْنَاهُ: أما ترينه وَرَاء الْبَيْت.
وَقَالَ بَعضهم ويكأنه: معنى " ويك " أَي: وَيلك، وحذفت اللَّام، وَقَوله: ﴿أَنه﴾ كلمة تندم، كَأَن الْقَوْم لما رَأَوْا تِلْكَ الْحَالة تندموا على مَا تمنوا، ثمَّ قَالُوا: كَانَ الله يبسط الرزق لمن يَشَاء أَي: أَن الله يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر أَي: يُوسع ويضيق. وأنشدوا فِيمَا قُلْنَا من الْمعَانِي:
160
﴿من الله علينا لخسف بِنَا ويكأنه لَا يفلح الْكَافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة نَجْعَلهَا للَّذين لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين (٨٣) من جَاءَ بِالْحَسَنَة﴾
(وى كَأَن من يكن لَهُ نشب يحبب... وَمن يفْتَقر يعِيش عَيْش ضرّ) وأنشدوا أَيْضا قَول عنترة فِي أَن ويك بِمَعْنى وَيلك:
(سالتان الطَّلَاق أَن رأتاني قل مَالِي قد جئتماني بنكر)
(وَلَقَد شفى نَفسِي وَأَبْرَأ سقمها قَول الفوارس ويك عنتر أقدم)
وَمن الْمَعْرُوف فِي التفاسير عَن الْعلمَاء الْمُتَقَدِّمين: ويكأن الله: ألم تَرَ أَن الله، وَحكى مثل هَذَا عَن أبي عُبَيْدَة.
وَقَوله: ﴿لَوْلَا أَن من الله علينا لخسف بِنَا﴾ أَي: لَوْلَا أَن أنعم الله علينا لخسف بِنَا مثل مَا خسف بقارون.
وَقَوله: ﴿ويكأنه لَا يفلح الْكَافِرُونَ﴾ قد بَينا.
161
قَوْله تَعَالَى: ﴿تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة نَجْعَلهَا للَّذين لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض﴾ أَي: استكبارا، وأصل التكبر هُوَ الشّرك بِاللَّه، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿إِنَّهُم كَانُوا إِذا قيل لَهُم لَا إِلَه إِلَّا الله يَسْتَكْبِرُونَ﴾ وَمن التكبر الاستطالة على النَّاس واستحقارهم، والتهاون بهم، وَيُقَال إِرَادَة الْعُلُوّ هُوَ ترك التَّوَاضُع.
وَقيل: ﴿لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض﴾ مَعْنَاهُ: لَا يجزعون من ذلها، وَلَا ينافسون فِي عزها.
وَقَوله: ﴿وَلَا فَسَادًا﴾ أَي: الْعَمَل بِالْمَعَاصِي، وَقَالَ عِكْرِمَة: هُوَ أَخذ مَال النَّاس بِغَيْر حق.
وَقَوله: ﴿وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين﴾ أَي: الْجنَّة لِلْمُتقين، وَقيل: الْعَاقِبَة الْحَسَنَة لِلْمُتقين، وروى زَاذَان عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه كَانَ يمشي ويدور فِي الْأَسْوَاق، يعين الضَّعِيف، وينصر الْمَظْلُوم، ويمر بالبقال والبياع فَيفتح عَلَيْهِ الْقُرْآن، وَيقْرَأ: ﴿تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة نَجْعَلهَا للَّذين لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض..﴾ الْآيَة.
وَعنهُ أَيْضا أَنه قَالَ: من أعجبه شسع نَعله على شسع أَخِيه، فَهُوَ مِمَّن يُرِيد الْعُلُوّ فِي
161
﴿فَلهُ خير مِنْهَا وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يجزى الَّذين عمِلُوا السَّيِّئَات إِلَّا مَا كَانُوا يعْملُونَ (٨٤) إِن الَّذِي فرض عَلَيْك الْقُرْآن لرادك إِلَى معاد قل رَبِّي أعلم من جَاءَ بِالْهدى وَمن﴾ الأَرْض.
162
قَوْله تَعَالَى: ﴿من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ خير مِنْهَا﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
﴿وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يجزى الَّذين عمِلُوا السَّيِّئَات﴾ أَي: الْمعاصِي ﴿إِلَّا مَا كَانُوا يعْملُونَ﴾ وَعَن عبد الله بن عبيد بن عُمَيْر أَنه قَالَ: مَا أحسن الْحَسَنَات عقيب السَّيِّئَات، وَمَا أقبح السَّيِّئَات عقيب الْحَسَنَات، وَأحسن الْحَسَنَات الْحَسَنَات عقيب الْحَسَنَات، وأقبح السَّيِّئَات السَّيِّئَات عقيب السَّيِّئَات).
وَمن الْمَعْرُوف عَن النَّبِي أَنه أوصى معَاذًا - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ: " اتَّقِ الله حَيْثُمَا كنت، وأتبع السَّيئَة الْحَسَنَة تمحها، وخالق النَّاس بِخلق حسن ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذِي فرض عَلَيْك الْقُرْآن﴾ وَيُقَال: فرض عَلَيْك أَي: أوجب عَلَيْك الْعَمَل بِهِ.
وَقَوله: ﴿لرادك إِلَى معاد﴾ الْأَكْثَرُونَ على أَن المُرَاد مِنْهُ: إِلَى مَكَّة، وَقَالُوا: هَذِه الْآيَة نزلت على رَسُول الله وَهُوَ بِالْجُحْفَةِ، والجحفة منزل من الْمنَازل بَين مَكَّة وَالْمَدينَة.
فالآية لَيست بمكية وَلَا مَدَنِيَّة، وَفِي بعض التفاسير: " أَن النَّبِي لما هَاجر من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة سَار فِي غير الطَّرِيق خوفًا من الطّلب، ثمَّ إِنَّه لما أَمن عَاد إِلَى الطَّرِيق، فوصل إِلَى الْجحْفَة، وَرَأى الطَّرِيق الشَّارِع إِلَى مَكَّة فاشتاق إِلَيْهَا، فجَاء جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ: إِن رَبك يَقُول: وتشتاق إِلَى مَكَّة وتحن إِلَيْهَا؟ فال: نعم، إِنَّهَا أرضي ومولدي، فَقَالَ: إِن رَبك يَقُول: ﴿إِن الَّذِي فرض عَلَيْكُم الْقُرْآن لرادك إِلَى معاد﴾ يَعْنِي: رادك إِلَى مَكَّة ظَاهرا على أَهلهَا ".
162
﴿هُوَ فِي ضلال مُبين (٨٥) وَمَا كنت ترجو أَن يلقى إِلَيْك الْكتاب إِلَّا رَحْمَة من رَبك فَلَا تكونن ظهيرا للْكَافِرِينَ (٨٦) وَلَا يصدنك عَن آيَات الله بعد إِذْ أنزلت إِلَيْك وادع إِلَى رَبك وَلَا تكونن من الْمُشْركين (٨٧) وَلَا تدع مَعَ الله إِلَهًا آخر لَا إِلَه إِلَّا هُوَ كل شئ﴾
وَفِي الْآيَة قَول آخر، وَهُوَ أَن معنى قَوْله: ﴿لرادك إِلَى معاد﴾ أَي: إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَيُقَال: إِلَى الْجنَّة.
وروى عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - كَانَ يمدح جَابر بن عبد الله ويذكره بِالْخَيرِ، فَسئلَ عَن ذَلِك، فَقَالَ: إِنَّه يحْشر معي. قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذِي فرض عَلَيْك الْقُرْآن لرادك إِلَى معاد﴾
وَقَوله: ﴿قل رَبِّي أعلم من جَاءَ بِالْهدى﴾ يَعْنِي: يعلم من جَاءَ بِالْهدى، وَأَنا الَّذِي جِئْت بِالْهدى.
وَقَوله: ﴿وَمن هُوَ فِي ضلال مُبين﴾ أَي: وَيعلم من هُوَ فِي ضلال مُبين أَي: الْكفَّار.
163
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا كنت ترجو﴾ أَي: تَأمل ﴿أَن يلقى إِلَيْك الْكتاب﴾ أَي: يوحي إِلَيْك الْقُرْآن.
وَقَوله: ﴿إِلَّا رَحْمَة من رَبك﴾ هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: لَكِن رَبك رَحِمك فأعطاك الْقُرْآن.
وَقَوله: ﴿فَلَا تكونن ظهيرا﴾ أَي: معينا ﴿للْكَافِرِينَ﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا يصدنك عَن آيَات الله﴾ يَعْنِي: لَا يمنعك الْكفَّار عَن اتِّبَاع سَبِيل الله، وَقَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ: اشْدُد على الْكفَّار، وَاغْلُظْ عَلَيْهِم، وَلَا تتساهل حَتَّى يطمعوا فِي صدك عَن سَبِيل الله.
وَقَوله: ﴿بعد إِذْ أنزلت إِلَيْك﴾ أَي: بعد إِذْ أنزلت إِلَيْك الْآيَات المبينة للسبيل.
وَقَوله: ﴿وادع إِلَى رَبك﴾ أَي: إِلَى دين رَبك.
وَقَوله: ﴿وَلَا تكونن من الْمُشْركين﴾ أَي: اثْبتْ على التَّوْحِيد.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تدع مَعَ الله إِلَهًا آخر لَا إِلَه إِلَّا هُوَ﴾ أَي: لَا إِلَه غَيره.
163
﴿هَالك إِلَّا وَجهه لَهُ الحكم وَإِلَيْهِ ترجعون (٨٨) ﴾
وَقَوله: ﴿كل شئ هَالك إِلَّا وَجهه﴾ قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: إِلَّا مَا أُرِيد بِهِ وَجهه وَرضَاهُ من الْعَمَل.
وَيُقَال: ﴿إِلَّا وَجهه﴾ أَي: إِلَّا هُوَ.
وَعَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة قَالَ: كل مَا وصف الله بِهِ نَفسه فِي الْكتاب فتفسيره قِرَاءَته، لَا تَفْسِير لَهُ غَيره. وَقد ذكر الله تَعَالَى (الْوَجْه فِي أحد عشر موضعا من الْقُرْآن، قد بَينا أَنه صفة من صِفَات الله، يُؤمن بِهِ على مَا ذكره الله تَعَالَى).
وأنشدوا فِي الْوَجْه بِمَعْنى التَّوَجُّه وَطلب رِضَاهُ قَول الشَّاعِر:
(اسْتغْفر الله ذَنبا لست محصيه رب الْعباد إِلَيْهِ الْوَجْه وَالْعَمَل)
أَي: التَّوَجُّه.
وَقَوله: ﴿وَله الحكم﴾ أَي: فصل الْقَضَاء.
وَحكمه أَن يبْعَث قوما إِلَى الْجنَّة، وقوما إِلَى النَّار، وَمن حكمه أَيْضا أَن يبيض وُجُوه قوم، ويسود وُجُوه قوم، ويثقل مَوَازِين قوم، ويخفف مَوَازِين قوم، وأمثال هَذَا، وَهَذَا فِي الْآخِرَة، وَأما فِي الدُّنْيَا فتنفيذ القضايا وَالْأَحْكَام على مَا علم وَأَرَادَ.
وَقَوله: ﴿وَإِلَيْهِ ترجعون﴾ يَعْنِي: فِي الْآخِرَة.
164

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿الم (١) أَحسب النَّاس أَن يتْركُوا أَن يَقُولُوا آمنا وهم لَا يفتنون (٢) وَلَقَد فتنا﴾
تَفْسِير سُورَة العنكبوت
وَهِي مَكِّيَّة فِي قَول عَطاء وَالْحسن، ومدنية فِي أحد قولى ابْن عَبَّاس، وَعنهُ فِي رِوَايَة أُخْرَى أَنَّهَا مَكِّيَّة، فبعضها نزل بِالْمَدِينَةِ وَبَعضهَا نزل بِمَكَّة، وَعَن الشّعبِيّ أَنَّهَا مَكِّيَّة إِلَّا عشر آيَات من أَولهَا مَدَنِيَّة.
وَعَن عَليّ أَنه قَالَ: نزلت بَين مَكَّة وَالْمَدينَة. وَهَذِه رِوَايَة غَرِيبَة.
165
Icon