تفسير سورة القلم

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة القلم من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة القلم
هذه السورة مكية. قال ابن عطية : ولا خلاف فيها بين أحد من أهل التأويل. انتهى. ومعظمها نزل في الوليد بن المغيرة وأبي جهل.
ومناسبتها لما قبلها : أنه فيما قبلها ذكر أشياء من أحوال السعداء والأشقياء، وذكر قدرته الباهرة وعلمه الواسع، وأنه تعالى لو شاء لخسف بهم أو لأرسل عليهم حاصباً. وكان ما أخبر تعالى به هو ما تلقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي، وكان الكفار ينسبونه مرة إلى الشعر، ومرة إلى السحر، ومرة إلى الجنون ؛ فبدأ سبحانه وتعالى هذه السورة ببراءته مما كانوا ينسبونه إليه من الجنون، وتعظيم أجره على صبره على أذاهم، وبالثناء على خلقه العظيم.

سورة القلم
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ١ الى ٥٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩)
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ (١٤)
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦) إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩)
فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤)
وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤)
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩)
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (٤٤)
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩)
فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢)
231
الْمَهِينُ، قَالَ الرُّمَّانِيُّ: الْوَضِيعُ لِإِكْثَارِهِ مِنَ الْقَبَائِحِ، مِنَ الْمَهَانَةِ، وَهِيَ الْقِلَّةُ. الْهَمْزُ:
أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الضَّرْبُ طَعْنًا بِالْيَدِ أَوْ بِالْعَصَا أَوْ نَحْوِهَا، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلَّذِي يَنَالُ بِلِسَانِهِ. قَالَ الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: وَبِعَيْنِهِ وَإِشَارَتِهِ. النَّمِيمُ وَالنَّمِيمَةُ: مصدران لنمّ، وَهُوَ نَقْلُ مَا يَسْمَعُ مِمَّا يَسُوءُ وَيُحَرِّشُ النُّفُوسَ. وَقِيلَ: النَّمِيمُ جَمْعُ نَمِيمَةٍ، يُرِيدُونَ بِهِ اسْمَ الْجِنْسِ. الْعُتُلُّ، قَالَ الْكَلْبِيُّ وَالْفَرَّاءُ: الشَّدِيدُ الْخُصُومَةِ بِالْبَاطِلِ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: هُوَ الْفَاحِشُ اللَّئِيمُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
بِعُتُلٍّ مِنَ الرِّجَالِ زَنِيمٍ غَيْرِ ذِي نَجْدَةٍ وَغَيْرِ كَرِيمٍ
وَقِيلَ: الَّذِي يَعْتِلُ النَّاسَ: أَيْ يَجُرُّهُمْ إِلَى حَبْسٍ أَوْ عَذَابٍ، وَمِنْهُ: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ «١». قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: عَتَلْتُهُ وَعَتَنْتُهُ بِاللَّامِ وَالنُّونِ. الزَّنِيمُ: الدَّعِيُّ. قَالَ حَسَّانُ:
زَنِيمٌ تَدَاعَاهُ الرِّجَالُ زِيَادَةً كَمَا زِيدَ فِي عَرْضِ الْأَدِيمِ الأكارع
وقال أيضا:
وأنت زَنِيمٌ نِيطَ فِي آلِ هَاشِمٍ كَمَا نِيطَ خَلْفَ الراكب القدح الفرد
(١) سورة الدخان: ٤٤/ ٤٧.
232
وَالزَّنِيمُ مِنَ الزَّنَمَةِ، وَهِيَ الْهَنَةُ مِنْ جِلْدِ الْمَاعِزِ، تُقْطَعُ فَتُخَلَّى مُعَلَّقَةً فِي حَلْقَةٍ، سُمِّيَ الدَّعِيُّ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ مُعَلَّقَةٌ بِغَيْرِ أَهْلِهِ. وَسَمَهُ: جَعَلَ لَهُ سِمَةً، وَهِيَ الْعَلَامَةُ تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ. قَالَ جَرِيرٌ:
لما وضعت على الفرزدق مَيْسَمِي وَعَلَى الْبَعِيثِ جَدَعْتُ أَنْفَ الْأَخْطَلِ
الْخُرْطُومُ: الْأَنْفُ، وَالْخُرْطُومُ مِنْ صِفَاتِ الْخَمْرِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
قَدْ أَشْهَدُ الشَّرْبَ فِيهِمُ مِزْهَرٌ زَنِمُ وَالْقَوْمُ تَصْرَعُهُمْ صَهْبَاءُ خُرْطُومُ
قَالَ الشَّمَنْتَرِيُّ: الْخُرْطُومُ أَوَّلُ خُرُوجِهَا مِنَ الدَّنِّ، وَيُقَالُ لَهَا الْأَنْفُ أَيْضًا، وَذَلِكَ أَصْفَى لَهَا وَأَرَقُّ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الْخُرْطُومُ: الْخَمْرُ، وَأَنْشَدَ لِلْأَعْرَجِ الْمُغَنِيِّ:
تَظَلُّ يَوْمَكَ فِي لَهْوٍ وَفِي لَعِبٍ وَأَنْتَ بِاللَّيْلِ شَرَّابُ الْخَرَاطِيمِ
الصِّرَامُ: جِدَادُ النخل. الجرد: الْمَنْعُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: حَارَدَتِ الْإِبِلُ إِذَا قَلَّتْ أَلْبَانُهَا، وَحَارَدَتِ السَّنَةُ: قَلَّ مَطَرُهَا وَخَيْرُهَا، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْقُتَبِيُّ، وَالْحَرْدُ: الْغَضَبُ. قَالَ أَبُو نَضْرٍ أَحْمَدُ بْنُ حَاتِمٍ صَاحِبُ الْأَصْمَعِيِّ: وَهُوَ مُخَفَّفٌ، وَأَنْشَدَ:
إِذَا جِيَادُ الْخَيْلِ جَاءَتْ تَرَدَّى مَمْلُوءَةً مِنْ غَضَبٍ وَحَرْدِ
وَقَالَ الْأَشْهَبُ بْنُ رُمَيْلَةَ:
أُسُودُ شَرًى لَاقَتْ أُسُودَ خَفِيَّةٍ تَسَاقَوْا عَلَى حَرْدٍ دِمَاءَ الْأَسَاوِدِ
وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: وَقَدْ يُحَرَّكُ، تَقُولُ: حَرِدَ بِالْكَسْرِ حَرْدًا فَهُوَ حَرْدَانُ، وَمِنْهُ قِيلَ:
أَسَدٌ حَارِدٌ، وَلُيُوثٌ حَوَارِدُ، وَالْحَرْدُ: الِانْفِرَادُ، حَرَدَ يَحْرِدُ حُرُودًا: تَنَحَّى عَنْ قَوْمِهِ وَنَزَلَ مُنْفِرَدًا وَلَمْ يُخَالِطْهُمْ، وَكَوْكَبٌ حَرُودٌ: مُعْتَزِلٌ عَنِ الْكَوَاكِبِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْمُنْحَرِدُ:
الْمُنْفَرِدُ فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ. انْتَهَى. وَالْحَرْدُ: الْقَصْدُ، حَرَدَ يَحْرِدُ بِالْكَسْرِ: قَصَدَ، وَمِنْهُ حَرَدْتُ حَرْدَكَ: أَيْ قَصَدْتُ قَصْدَكَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَجَاءَ سَيْلٌ كَانَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ يَحْرِدُ حَرْدَ الْجَنَّةِ الْمُغِلَّهْ
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ، فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ، بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ، فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ، وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ، وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ، أَنْ كانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ، إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ، إِنَّا بَلَوْناهُمْ
233
كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ، وَلا يَسْتَثْنُونَ، فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ، فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ، فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ، أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ، وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ، فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ، قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ، قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ، عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ، كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا خِلَافَ فِيهَا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. انْتَهَى.
وَمُعْظَمُهَا نَزَلَ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَبِي جَهْلٍ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ فِيمَا قَبْلَهَا ذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ أَحْوَالِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ، وَذَكَرَ قُدْرَتَهُ الْبَاهِرَةَ وَعِلْمَهُ الْوَاسِعَ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَخَسَفَ بِهِمْ أَوْ لَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ حَاصِبًا. وَكَانَ مَا أَخْبَرَ تَعَالَى بِهِ هُوَ ما تلقفه رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَحْيِ، وَكَانَ الْكُفَّارُ يَنْسُبُونَهُ مَرَّةً إِلَى الشِّعْرِ، وَمَرَّةً إِلَى السِّحْرِ، وَمَرَّةً إِلَى الْجُنُونِ فَبَدَأَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ بِبَرَاءَتِهِ مِمَّا كَانُوا يَنْسُبُونَهُ إِلَيْهِ مِنَ الْجُنُونِ، وَتَعْظِيمِ أَجْرِهِ عَلَى صَبْرِهِ عَلَى أَذَاهُمْ، وَبِالثَّنَاءِ عَلَى خُلُقِهِ الْعَظِيمِ.
ن: حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، نَحْوَ ص وق، وَهُوَ غَيْرُ مُعْرَبٍ كَبَعْضِ الْحُرُوفِ الَّتِي جَاءَتْ مَعَ غَيْرِهَا مُهْمَلَةً مِنَ الْعَوَامِلِ وَالْحُكْمُ عَلَى مَوْضِعِهَا بِالْإِعْرَابِ تَخَرُّصٌ. وَمَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهُ اسْمُ الْحُوتِ الْأَعْظَمِ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَرْضُونَ السَّبْعُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ: أَنَّهُ اسْمُ الدَّوَاةِ. وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ: يَرْفَعُهُ أَنَّهُ لَوْحٌ مِنْ نُورٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَنَّهُ آخِرُ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الرَّحْمَنِ.
وَعَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ: أَنَّهُ نَهْرٌ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ
، لَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْقُشَيْرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: ن حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، فَلَوْ كَانَ كَلِمَةً تَامَّةً أُعْرِبَ كَمَا أُعْرِبَ الْقَلَمُ، فَهُوَ إِذَنْ حَرْفُ هِجَاءٍ كَمَا فِي سَائِرِ مَفَاتِيحِ السُّوَرِ. انْتَهَى. وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ اسْمُ الدَّوَاةِ أَوِ الْحُوتِ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُقْسَمٌ بِهِ كَالْقَلَمِ، فَإِنْ كَانَ عَلَمًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُجَرَّ، فَإِنْ كَانَ مُؤَنَّثًا مُنِعَ الصَّرْفَ، أَوْ مُذَكَّرًا صُرِفَ، وَإِنْ كَانَ جِنْسًا أُعْرِبَ، وَنُوِّنَ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَضَعُفَ الْقَوْلُ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِذَا كَانَ اسْمًا لِلدَّوَاةِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لُغَةً لِبَعْضِ الْعَرَبِ، أَوْ لَفْظَةً أَعْجَمِيَّةً عُرِّبَتْ، قَالَ الشَّاعِرُ:
234
فَمَنْ جَعَلَهُ الْبَهَمُوتَ، جَعَلَ الْقَلَمَ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ وَأَمَرَهُ بِكَتْبِ الْكَائِنَاتِ، وَجَعَلَ الضَّمِيرَ فِي يَسْطُرُونَ لِلْمَلَائِكَةِ. وَمَنْ قَالَ: هُوَ اسْمٌ، جَعَلَهُ الْقَلَمَ الْمُتَعَارَفَ بِأَيْدِي النَّاسِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَعَلَ الضَّمِيرَ فِي يَسْطُرُونَ لِلنَّاسِ، فَجَاءَ الْقَسَمُ عَلَى هَذَا الْمَجْمُوعِ أَمْرُ الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ قِوَامٌ لِلْعُلُومِ وَأُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْقَلَمَ أَخُو اللِّسَانِ وَنِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَامَّةٌ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ن بِسُكُونِ النُّونِ وَإِدْغَامِهَا فِي وَاوِ وَالْقَلَمِ بِغُنَّةٍ وَقَوْمٌ بِغَيْرِ غُنَّةٍ، وَأَظْهَرَهَا حَمْزَةُ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ وَقَالُونُ وَحَفْصٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْحَسَنُ وَأَبُو السَّمَّالِ: بِكَسْرِ النُّونِ لِالْتِقَاءِ الساكنين وسعيد بْنُ جُبَيْرٍ وَعِيسَى: بِخِلَافٍ عَنْهُ بِفَتْحِهَا، فَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ حَرَكَةَ إِعْرَابٍ، وَهُوَ اسْمٌ لِلسُّورَةِ أَقْسَمَ بِهِ وَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ، فَانْتَصَبَ وَمُنِعَ الصَّرْفَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ، وَيَكُونُ وَالْقَلَمِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَأُوثِرَ الْفَتْحُ تَخْفِيفًا كأين، وَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وَمَصْدَرِيَّةً، وَالضَّمِيرُ فِي يَسْطُرُونَ عَائِدٌ عَلَى الْكُتَّابِ لِدَلَالَةِ الْقَلَمِ عَلَيْهِمْ، فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِمُ الْحَفَظَةُ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ كُلُّ كَاتِبٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْقَلَمِ أَصْحَابُهُ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي يَسْطُرُونَ لَهُمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَصْحَابِ الْقَلَمِ وَمَسْطُورَاتِهِمْ أَوْ وَتَسْطِيرِهِمْ. انْتَهَى. فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ «١» : أَيْ وَكَذِي ظُلُمَاتٍ، وَلِهَذَا عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: يَغْشاهُ مَوْجٌ «٢».
وَجَوَابُ الْقَسَمِ: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ. وَيَظْهَرُ أَنَّ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ قَسَمٌ اعْتُرِضَ بِهِ بَيْنَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَالْحُكْمِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ وَالتَّشْدِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي انْتِفَاءِ الْوَصْفِ الذَّمِيمِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ اعْتِرَاضٌ، كَمَا تَقُولُ لِلْإِنْسَانِ:
أَنْتَ بِحَمْدِ اللَّهِ فَاضِلٌ. انْتَهَى. وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْبَاءُ فِي بِنِعْمَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
يَتَعَلَّقُ بِمَجْنُونٍ مَنْفِيًّا، كَمَا يَتَعَلَّقُ بِعَاقِلٍ مُثْبَتًا فِي قَوْلِكَ: أَنْتَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَاقِلٌ، مُسْتَوِيًّا فِي ذَلِكَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ اسْتِوَاءَهُمَا فِي قَوْلِكَ: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا، وَمَا ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا تُعْمِلُ الْفِعْلَ مُثْبَتًا وَمَنْفِيًّا إِعْمَالًا وَاحِدًا، وَمَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَا أَنْتَ بِمَجْنُونٍ مُنْعِمًا عَلَيْكَ بِذَلِكَ، وَلَمْ تَمْنَعِ الْبَاءُ أَنْ يَعْمَلَ مَجْنُونٌ فِيمَا قَبْلَهُ لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَالْمَعْنِيُّ: اسْتِبْعَادُ مَا كَانَ يَنْسُبُهُ إِلَيْهِ كُفَّارُ مَكَّةَ عَدَاوَةً وَحَسَدًا، وَأَنَّهُ مِنْ إِنْعَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ بِحَصَافَةِ الْعَقْلِ وَالشَّهَامَةِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا التَّأْهِيلُ لِلنُّبُوَّةِ بِمَنْزِلَةٍ. انْتَهَى.
(١) سورة النور: ٢٤/ ٤٠.
(٢) سورة النور: ٢٤/ ٤٠.
235
وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ مُتَعَلِّقٌ بِمَجْنُونٍ، وَأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، يَحْتَاجُ إِلَى تَأَمُّلٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَسَلَّطَ النَّفْيُ عَلَى مَحْكُومٍ بِهِ، وَذَلِكَ لَهُ مَعْمُولٌ، فَفِي ذَلِكَ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّفْيَ يَتَسَلَّطُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْمُولِ فَقَطْ، وَالْآخَرُ: أَنْ يَتَسَلَّطَ النَّفْيُ عَلَى الْمَحْكُومِ بِهِ فَيَنْتَفِي مَعْمُولُهُ لِانْتِفَائِهِ بَيَانُ ذَلِكَ، تَقُولُ: مَا زَيْدٌ قَائِمٌ مُسْرِعًا، فَالْمُتَبَادِرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّهُ مُنْتَفٍ إِسْرَاعُهُ دُونَ قِيَامِهِ، فَيَكُونُ قَدْ قَامَ غَيْرَ مُسْرِعٍ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُ انْتَفَى قِيَامُهُ فَانْتَفَى إِسْرَاعُهُ، أَيْ لَا قِيَامَ فَلَا إِسْرَاعَ، وَهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ لَا يَتَأَتَّى مَعَهُ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِوَجْهٍ، بَلْ يُؤَدِّي إِلَى مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْطَقَ بِهِ فِي حَقِّ الْمَعْصُومِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ:
مَا أَنْتَ بِمَجْنُونٍ وَالنِّعْمَةُ بِرَبِّكَ لِقَوْلِهِمْ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَيْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
إِذَا مَا الشَّوْقُ بَرَّحَ بِي إِلَيْهِمْ أَلْقَتِ النُّونَ بِالدَّمْعِ السُّجُومُ
وَأُفْرِدْتُ فِي الدُّنْيَا بِفَقْدِ عَشِيرَتِي وَفَارَقَنِي جَارٌ بِأَرْبَدَ نَافِعُ
أَيْ: وَهُوَ أَرْبَدُ. انْتَهَى. وَهَذَا تَفْسِيرُ مَعْنًى لَا تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ. وَفِي الْمُنْتَخَبِ مَا مُلَخَّصُهُ الْمَعْنَى: انْتَفَى عَنْكَ الْجُنُونُ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ، أَيْ حُصُولُ الصِّفَةِ الْمَحْمُودَةِ، وَزَالَ عَنْكَ الصِّفَةُ الْمَذْمُومَةُ بِوَاسِطَةِ إِنْعَامِ رَبِّكَ. ثُمَّ قَرَّرَ بِهَذِهِ الدَّعْوَى مَا هُوَ كَالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى صِحَّتِهَا، لِأَنَّ نِعَمَهُ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي حَقِّهِ مِنْ كَمَالِ الْفَصَاحَةِ وَالْعَقْلِ وَالسِّيرَةِ الْمَرْضِيَّةِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ وَالِاتِّصَافِ بِكُلِّ مَكْرُمَةٍ، فَحُصُولُ ذَلِكَ وَظُهُورُهُ جَارٍ مَجْرَى الْيَقِينِ فِي كَوْنِهِمْ كَاذِبِينَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ. وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً فِي احْتِمَالِ طَعْنِهِمْ وَفِي دُعَاءِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ، فَلَا يَمْنَعُكَ مَا قَالُوا عَنِ الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ. وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ: هَذَا كَالتَّفْسِيرِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ، وَتَعْرِيفٌ لِمَنْ رَمَاهُ بِالْجُنُونِ أَنَّهُ كَذَبَ وَأَخْطَأَ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ بِتِلْكَ الْأَخْلَاقِ الْمَرْضِيَّةِ لَا يُضَافُ الْجُنُونُ إِلَيْهِ، وَلَفْظُهُ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ وَالِاسْتِيلَاءِ. انْتَهَى.
وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً: أَيْ عَلَى مَا تَحَمَّلْتَ مِنْ أَثْقَالِ النُّبُوَّةِ وَمِنْ أَذَاهُمْ مِمَّا يَنْسُبُونَ إِلَيْكَ مِمَّا أَنْتَ لَا تَلْتَبِسُ بِهِ مِنَ الْمَعَائِبِ، غَيْرَ مَمْنُونٍ: أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ، مَنَنْتُ الْحَبْلَ: قطعته، قال الشاعر:
عبسا كَوَاسِبُ لَا يُمَنُّ طَعَامُهَا أَيْ لَا يُقْطَعُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: غَيْرَ مَحْسُوبٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: غَيْرَ مُكَدَّرٍ بِالْمَنِّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بِغَيْرِ عَمَلٍ. وَقِيلَ: غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ غَيْرُ مَمْنُونٍ عليك، لأن ثَوَابٌ تَسْتَوْجِبُهُ عَلَى عَمَلِكَ وَلَيْسَ بِتَفَضُّلٍ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا تمن الفواصل لَا الْأُجُورُ عَلَى الْأَعْمَالِ. انْتَهَى، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ، قَالَ
236
ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: دِينٍ عَظِيمٍ لَيْسَ دِينٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ خُلُقَهُ كَانَ الْقُرْآنَ.
وَقَالَ عَلِيٌّ: هُوَ أَدَبُ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا كَانَ يَأْتَمِرُ بِهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقِيلَ: سُمِّيَ عَظِيمًا لِاجْتِمَاعِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِيهِ، مِنْ كَرَمِ السَّجِيَّةِ، وَنَزَاهَةِ الْقَرِيحَةِ، وَالْمَلَكَةِ الْجَمِيلَةِ، وَجَوْدَةِ الضَّرَائِبِ مَا دَعَاهُ أَحَدٌ إِلَّا قَالَ لَبَّيْكَ،
وَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ»
وَوَصَّى أَبَا ذَرٍّ فَقَالَ: «وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».
وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ».
وَقَالَ: «أَحَبُّكُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا».
والظاهر تعلق بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ بِمَا قَبْلَهُ. وَقَالَ عُثْمَانُ الْمَازِنِيُّ: تَمَّ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ وَيُبْصِرُونَ، ثُمَّ استأنف قوله: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ. انْتَهَى. فَيَكُونُ قَوْلُهُ: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ اسْتِفْهَامًا يُرَادُ بِهِ التَّرْدَادُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، وَمَعْلُومٌ نَفْيُ الْحُكْمِ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَيُعَيِّنُهُ الْوُجُودُ، وَهُوَ الْمُؤْمِنُ، لَيْسَ بِمَفْتُونٍ وَلَا بِهِ فُتُونٌ. وَإِذَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، فَقَالَ قَتَادَةُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرٌ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى: أَيُّكُمُ الْمَفْتُونُ؟ وَزِيدَتِ الْبَاءُ فِي الْمُبْتَدَأِ، كَمَا زِيدَتْ فِيهِ فِي قَوْلِهِ: بِحَسْبِكَ دِرْهَمٌ، أَيْ حَسْبُكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَالْأَخْفَشُ: الْبَاءُ لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ، وَالْمَفْتُونُ بِمَعْنَى الْفِتْنَةِ، أَيْ بِأَيِّكُمْ هِيَ الْفِتْنَةُ وَالْفَسَادُ الَّذِي سَمَّوْهُ جُنُونًا؟ وَقَالَ الْأَخْفَشُ أَيْضًا: بِأَيِّكُمْ فُتِنَ الْمَفْتُونُ، حَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. فَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ جَعَلَ الْمَفْتُونَ مَصْدَرًا، وَهُنَا أَبْقَاهُ اسْمَ مَفْعُولٍ وَتَأَوَّلَهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْفَرَّاءُ: الْبَاءُ بِمَعْنَى فِي، أَيْ فِي أَيِّ فَرِيقٍ مِنْكُمُ النَّوْعُ الْمَفْتُونُ؟
انْتَهَى. فَالْبَاءُ ظَرْفِيَّةٌ، نَحْوُ: زَيْدٍ بِالْبَصْرَةِ، أَيْ فِي الْبَصْرَةِ، فَيَظْهَرُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ الْبَاءَ فِي الْقَوْلِ قَبْلَهُ لَيْسَتْ ظَرْفِيَّةً، بَلْ هِيَ سَبَبِيَّةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَفْتُونُ: الْمَجْنُونُ لِأَنَّهُ فُتِنَ، أَيْ مُحِنَ بِالْجُنُونِ، أَوْ لِأَنَّ الْعَرَبَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنْ تَخْيِيلِ الْجِنِّ، وَهُمُ الْفُتَّانُ لِلْفُتَّاكِ مِنْهُمْ.
انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: فِي أَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ: وَعِيدٌ لِلضَّالِّ، وَهُمُ الْمَجَانِينُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، حَيْثُ كَانَتْ لَهُمْ عُقُولٌ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا، وَلَا اسْتَعْمَلُوهَا فِيمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، أَوْ يَكُونُ أَعْلَمُ كِنَايَةً عَنْ جَزَاءِ الْفَرِيقَيْنِ. فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ: أَيِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنَ الْوَحْيِ، وَهَذَا نَهْيٌ عَنْ طَوَاعِيَتِهِمْ فِي شَيْءٍ مِمَّا دَعَوْهُ إِلَيْهِ مِنْ تَعْظِيمِ آلِهَتِهِمْ. وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ: لَوْ هُنَا عَلَى رَأْيِ الْبَصْرِيِّينَ مَصْدَرِيَّةٌ بِمَعْنَى أَنْ، أَيْ وَدُّوا ادِّهَانَكُمْ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ «١»، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ مَعْمُولَ وَدَّ مَحْذُوفٌ،
(١) سورة البقرة: ٢/ ٩٦.
237
أَيْ وَدُّوا ادِّهَانَكُمْ، وَحُذِفَ لِدِلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، ولو بَاقِيَةٌ عَلَى بَابِهَا مِنْ كَوْنِهَا حَرْفًا لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرِهِ لَسُرُّوا بِذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَعَطِيَّةُ وَالسُّدِّيُّ: لَوْ تُدْهِنُ: لَوْ تَكْفُرُ، فَيَتَمَادَوْنَ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: لَوْ تُرَخِّصُ لَهُمْ فَيُرَخِّصُونَ لَكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَوْ تَذْهَبُ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ فَيَذْهَبُونَ مَعَكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَوْ تُصَانِعُهُمْ فِي دينك فيصانعوك فِي دِينِهِمْ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: لَوْ تُنَافِقُ وَتُرَائِي فَيُنَافِقُونَكَ وَيُرَاؤُونَكَ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: لَوْ تَكْذِبُ فَيَكْذِبُونَ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: لَوْ تَضْعُفُ فَيَضْعُفُونَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَالْفَرَّاءُ: لَوْ تَلِينُ فَيَلِينُونَ. وَقَالَ أَبَانُ بْنُ ثَعْلَبٍ: لَوْ تُحَابِي فَيُحَابُونَ، وَقَالُوا غَيْرَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الدِّهَانُ: التَّلْيِينُ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: النِّفَاقُ وَتَرْكُ الْمُنَاصَحَةِ، وَهَذَا نَقْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَمَا قَالُوهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا خَالَفَ ذَلِكَ هو تفسير باللازم، وفيدهنون عَطْفٌ عَلَى تُدْهِنُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَدَلَ بِهِ إِلَى طَرِيقٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ جُعِلَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ فَهُمْ يُدْهِنُونَ كَقَوْلِهِ: فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ «١»، بِمَعْنَى وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَهُمْ يُدْهِنُونَ حِينَئِذٍ، أَوْ وَدُّوا ادِّهَانَكَ فَهُمُ الْآنَ يُدْهِنُونَ لِطَمَعِهِمْ فِي ادِّهَانِكَ. انْتَهَى. وَجُمْهُورُ الْمَصَاحِفِ عَلَى إِثْبَاتِ النُّونِ. وَقَالَ هَارُونُ: إِنَّهُ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ فَيُدْهِنُوا، وَلْنَصْبِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَوَابُ وَدُّوا لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى لَيْتَ وَالثَّانِي أَنَّهُ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّهُ نُطِقَ بِأَنْ، أَيْ وَدُّوا أَنْ تُدْهِنَ فَيُدْهِنُوا، فَيَكُونُ عَطْفًا عَلَى التَّوَهُّمِ، وَلَا يَجِيءُ هَذَا الْوَجْهُ إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ لَوْ مَصْدَرِيَّةً بِمَعْنَى أَنْ.
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَهِينٍ وَمَا بَعْدَهُ فِي الْمُفْرَدَاتِ، وَجَاءَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ صِفَاتَ مُبَالَغَةٍ، وَنُوسِبَ فِيهَا فَجَاءَ حَلَّافٍ وَبَعْدَهُ مَهِينٍ، لِأَنَّ النُّونَ فِيهَا مَعَ الْمِيمِ تَوَاخٍ. ثُمَّ جَاءَ: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ بِصِفَتَيِ الْمُبَالَغَةِ، ثُمَّ جَاءَ: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، فَمَنَّاعٌ وَأَثِيمٌ صِفَتَا مُبَالَغَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخَيْرَ هُنَا يُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ فِيمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ خَيْرٌ. وَقِيلَ: الْخَيْرُ هُنَا الْمَالُ، يُرِيدُ مَنَّاعٍ لِلْمَالِ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الشُّحِّ، مَعْنَاهُ: مُتَجَاوِزُ الْحَدِّ فِي الظُّلْمِ. وَفِي حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قُلْتُ: يَعْنِي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَا الْعُتُلُّ الزَّنِيمُ؟ قَالَ:
الرَّحِيبُ الْجَوْفُ، الْوَتِيرُ الْخَلْقِ، الْأَكُولُ الشَّرُوبُ، الْغَشُومُ الظَّلُومُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: عُتُلٌّ بِرَفْعِ اللَّامِ، وَالْجُمْهُورُ: بِجَرِّهَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَعَلَ جَفَاءَهُ وَدَعْوَتَهُ أَشَدَّ مَعَايِبِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا جَفَا وَغَلُظَ طَبْعُهُ قَسَا قَلْبُهُ وَاجْتَرَأَ عَلَى كُلِّ مَعْصِيَةٍ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ النُّطْفَةَ إِذَا خَبُثَتْ خَبُثَ النَّاشِئُ مِنْهَا، وَمِنْ ثَمَّ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ الزِّنَا ولا
(١) سورة الجن: ٧٢/ ١٣.
238
وَلَدُهُ وَلَا وَلَدُ وَلَدِهِ»
، وَبَعْدَ ذَلِكَ نَظِيرُ ثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا «١». وَقَرَأَ الْحَسَنُ: عُتُلٌّ رَفْعًا عَلَى الذَّمِّ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَقْوِيَةٌ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بَعْدَ ذلِكَ: أَيْ بَعْدَ أَنْ وَصَفْنَاهُ بِهِ، فَهَذَا التَّرْتِيبُ إِنَّمَا هُوَ فِي قَوْلِ الْوَاصِفِ لَا فِي حُصُولِ تِلْكَ الصِّفَاتِ فِي الْمَوْصُوفِ، وَإِلَّا فَكَوْنُهُ عُتُلًّا هُوَ قَبْلَ كَوْنِهِ صَاحِبَ خَيْرٍ يَمْنَعُهُ.
انْتَهَى. والزنيم: الْمُلْصَقُ فِي الْقَوْمِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: الزَّنِيمُ:
الْمُرِيبُ الْقَبِيحُ الْأَفْعَالِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الزَّنِيمُ: الَّذِي لَهُ زَنَمَةٌ فِي عُنُقِهِ كَزَنَمَةِ الشَّاةِ، وَمَا كُنَّا نَعْرِفُ الْمُشَارَ إِلَيْهِ حَتَّى نَزَلَتْ فَعَرَفْنَاهُ بِزَنَمَتِهِ. انْتَهَى. وَرُوِيَ أَنَّ الْأَخْفَشَ بْنَ شَرِيفٍ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، كَانَ لَهُ زَنَمَةٌ. وَرَوَى ابْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الزَّنِيمَ هُوَ الَّذِي يُعْرَفُ بِالشَّرِّ، كَمَا تُعْرَفُ الشَّاةُ بِالزَّنَمَةِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: أَنَّهُ الْمَعْرُوفُ بِالْأُبْنَةِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: أَنَّهُ الظَّلُومُ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: هُوَ اللَّئِيمُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ وَلَدُ الزِّنَا الْمُلْحَقُ فِي النَّسَبِ بِالْقَوْمِ، وَكَانَ الْوَلِيدُ دَعِيًّا فِي قُرَيْشٍ لَيْسَ مِنْ مَنْحِهِمْ، ادَّعَاهُ أَبُوهُ بَعْدَ ثَمَانِ عَشَرَةَ مِنْ مَوْلِدِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتْ لَهُ سِتَّةُ أَصَابِعَ فِي يَدِهِ، فِي كُلِّ إِبْهَامٍ أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ لَيْسَتْ لِمُعَيَّنٍ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: كُلَّ حَلَّافٍ، وَقَوْلِهِ: إِنَّا بَلَوْناهُمْ؟ فَإِنَّمَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنْ طَوَاعِيَةِ مَنْ هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَا مُلَخَّصُهُ، قَرَأَ النَّحْوِيَّانِ والحرميان وحفص وأهل الْمَدِينَةِ: أَنْ كانَ عَلَى الْخَبَرِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبُو جَعْفَرٍ: عَلَى الِاسْتِفْهَامِ وَحَقَّقَ الْهَمْزَتَيْنِ حَمْزَةُ، وَسَهَّلَ الثَّانِيَةَ بَاقِيهِمْ. فَأَمَّا عَلَى الْخَبَرِ، فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ:
يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا عُتُلٍّ وَإِنْ كَانَ قَدْ وُصِفَ. انْتَهَى، وَهَذَا قَوْلُ كُوفِيٍّ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ. وَقِيلَ: زَنِيمٍ لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَهُ بِالْقَبِيحِ الْأَفْعَالِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلا تُطِعْ، يَعْنِي وَلَا تُطِعْهُ مَعَ هَذِهِ الْمَثَالِبِ، أَنْ كانَ ذَا مالٍ: أَيْ لِيَسَارِهِ وَحَظِّهِ مِنَ الدُّنْيَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا بَعْدَهُ عَلَى مَعْنَى لِكَوْنِهِ مُتَمَوِّلًا مُسْتَظْهِرًا بِالْبَنِينَ، كَذَّبَ آيَاتِنَا وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ، قَالَ الَّذِي هُوَ جَوَابٌ إِذَا، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهُ، وَلَكِنْ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ مِنْ مَعْنَى التَّكْذِيبِ. انْتَهَى. وَأَمَّا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَسِّرَ عَامِلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ أَيَكُونُ طَوَاعِيَةً لِأَنْ كَانَ؟ وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ:
أَتُطِيعُهُ لِأَنْ كَانَ؟ أَوْ عَامِلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ أَكْذَبَ أَوْ جَحَدَ لِأَنْ كَانَ؟ وَقَرَأَ نَافِعٌ فِي رِوَايَةِ الْيَزِيدِيِّ عَنْهُ: إِنْ كَانَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والشرط للمخاطب، أي
(١) سورة البلد: ٩٠/ ١٧.
239
لَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ شَارِطًا يَسَارَهُ، لِأَنَّهُ إِذَا أَطَاعَ الْكَافِرَ لِغِنَاهُ، فَكَأَنَّهُ اشْتَرَطَ فِي الطَّاعَةِ الْغِنَى، وَنَحْوُ صَرْفِ الشَّرْطِ إِلَى الْمُخَاطَبِ صَرْفُ الرَّجَاءِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ.
انتهى. وأقول: إن كان شرط، وإذا تُتْلَى شَرْطٌ، فَهُوَ مِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ شَرْطَانِ، وَلَيْسَا مِنَ الشُّرُوطِ الْمُتَرَتِّبَةِ الْوُقُوعِ، فَالْمُتَأَخِّرُ لَفْظًا هُوَ الْمُتَقَدِّمُ، وَالْمُتَقَدِّمُ لَفُظًا هُوَ شَرْطٌ فِي الثَّانِي، كَقَوْلِهِ:
فَإِنْ عَثَرْتُ بَعْدَهَا إِنْ وَأَلَتْ نفسي من هاء تاء فقولا لها لها
لِأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى تَرْكِ تَدَبُّرِ آيَاتِ اللَّهِ كَوْنُهُ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ، فَهُوَ مَشْغُولُ الْقَلْبِ، فَذَلِكَ غَافِلٌ عَنِ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ، قَدِ اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَأَبْطَرَتْهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: أَئِذَا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ عَلَى قَوْلِهِ الْقُرْآنُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ لَمَّا تُلِيَتْ عَلَيْهِ آيَاتُ اللَّهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ قَبَائِحَ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، ذَكَرَ مَا يُفْعَلُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَعُّدِ فَقَالَ: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ، وَالسِّمَةُ: الْعَلَامَةُ. وَلَمَّا كَانَ الْوَجْهُ أَشْرَفُ مَا فِي الْإِنْسَانِ، وَالْأَنْفُ أَكْرَمَ مَا فِي الْوَجْهِ لِتَقَدُّمِهِ، وَلِذَلِكَ جَعَلُوهُ مَكَانَ الْعِزِّ وَالْحَمِيَّةِ، وَاشْتَقُّوا مِنْهُ الْأَنَفَةَ وَقَالُوا: حَمِيُّ الْأَنْفِ شَامِخُ الْعِرْنِينِ. وَقَالُوا فِي الذَّلِيلِ: جُدِعَ أَنْفُهُ، وَرَغِمَ أَنْفُهُ. وَكَانَ أَيْضًا مِمَّا تَظْهَرُ السِّمَاتُ فِيهِ لِعُلُوٍّ، قَالَ: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ، وَهُوَ غَايَةُ الْإِذْلَالِ وَالْإِهَانَةِ وَالِاسْتِبْلَادِ، إِذْ صَارَ كَالْبَهِيمَةِ لَا يَمْلِكُ الدَّفْعَ عَنْ وَسْمِهِ فِي الْأَنْفِ، وَإِذَا كَانَ الْوَسْمُ فِي الْوَجْهِ شَيْنًا، فَكَيْفَ بِهِ عَلَى أَكْرَمِ عُضْوٍ فِيهِ؟ وَقَدْ قِيلَ: الْجَمَالُ فِي الْأَنْفِ، وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ:
وَحُسْنُ الْفَتَى فِي الْأَنْفِ وَالْأَنْفُ عَاطِلٌ فَكَيْفَ إِذَا مَا الْخَالُ كَانَ لَهُ حُلِيًّا
وَسَنَسِمُهُ فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ لَمْ يَتَعَيَّنْ زَمَانُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الضَّرْبُ بِالسَّيْفِ، أَيْ يُضْرَبُ بِهِ وَجْهِهِ وَعَلَى أَنْفِهِ، فَيَجِيءُ ذَلِكَ كَالْوَسْمِ عَلَى الْأَنْفِ، وَحَلَّ بِهِ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: ذَلِكَ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ فِي جَهَنَّمَ، وَهُوَ تَعْذِيبٌ بِنَارٍ عَلَى أُنُوفِهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ:
ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ نُوسِمُ عَلَى أَنْفِهِ بَسِمَةٍ يُعْرَفُ بِهَا كُفْرُهُ وَانْحِطَاطُ قَدْرِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: مَعْنَاهُ سَنَفْعَلُ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الذَّمِّ وَالْمَقْتِ وَالِاشْتِهَارِ بِالشَّرِّ مَا يَبْقَى فِيهِ وَلَا يَخْفَى بِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالْوَسْمِ عَلَى الْأَنْفِ ثَابِتًا بَيِّنًا، كَمَا تَقُولُ: سَأُطَوِّقُكَ طَوْقَ الْحَمَامَةِ: أَيْ أُثْبِتُ لَكَ الْأَمْرَ بَيِّنًا فِيكَ، وَنَحْوَ هَذَا أَرَادَ جَرِيرٌ بِقَوْلِهِ:
لَمَّا وضعت على الفرزدق ميسمي وَفِي الْوَسْمِ عَلَى الْأَنْفِ تَشْوِيهٌ، فَجَاءَتِ اسْتِعَارَتُهُ فِي الْمَذَمَّاتِ بَلِيغَةً جِدًّا. قَالَ ابْنُ
240
عَطِيَّةَ: وَإِذَا تَأَمَّلْتَ حَالَ أَبِي جَهْلٍ وَنُظَرَائِهِ، وَمَا ثَبَتَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ سُوءِ الْأُخْرَوِيَّةِ، رَأَيْتَ أَنَّهُمْ قَدْ وُسِمُوا عَلَى الْخَرَاطِيمِ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُقَاتِلٌ، وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ: يَسْوَدُّ وَجْهُهُ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ، وَذَكَرَ الْخُرْطُومَ، وَالْمُرَادُ الْوَجْهُ، لِأَنَّ بَعْضَ الْوَجْهِ يُؤَدِّي عَنْ بَعْضٍ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: إِنَّمَا بَالَغَ الْكَافِرُ فِي عَدَاوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِ الْأَنَفَةِ وَالْحَمِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ شَاهِدُ الْإِنْكَارِ هُوَ الْأَنَفَةُ وَالْحَمِيَّةُ، عَبَّرَ عَنْ هَذَا الِاخْتِصَاصِ بِقَوْلِهِ: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِي اسْتِعَارَةِ الْخُرْطُومِ مَكَانَ الْأَنْفِ اسْتِهَانَةٌ وَاسْتِخْفَافٌ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْخُرْطُومِ هُوَ لِلسِّبَاعِ. وَتُلَخِّصُ مِنْ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ، أَهْوَ حَقِيقَةٌ أَمْ مَجَازٌ؟ وَإِذَا كَانَ حَقِيقَةً، فَهَلْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ؟ وَأَبْعَدَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ فِي تَفْسِيرِهِ الْخُرْطُومَ بِالْخَمْرِ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ سَنَحُدُّهُ عَلَى شُرْبِهَا.
وَلَمَّا ذَكَرَ الْمُتَّصِفَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ، وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، أَخْبَرَ تَعَالَى بِمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الِابْتِلَاءِ بِالْقَحْطِ وَالْجُوعِ بِدَعْوَةِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ»
الْحَدِيثَ، كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْمَعْرُوفِ خَبَرُهَا عِنْدَهُمْ. كانت بأرض اليمن بالقرب منهم قريبا من صَنْعَاءَ لِرَجُلٍ كَانَ يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ مِنْهَا، فَمَاتَ فَصَارَتْ إِلَى وَلَدِهِ، فَمَنَعُوا النَّاسَ خَيْرَهَا وَبَخِلُوا بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَهْلَكَهَا اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ لَمْ يُمْكِنْهُمْ دَفْعُ مَا حَلَّ بِهِمْ. وَقِيلَ: كَانَتْ بِصُورَانَ عَلَى فَرَاسِخَ مِنْ صَنْعَاءَ لِنَاسٍ بَعْدَ رَفْعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ صَاحِبُهَا ينزل للمساكنين مَا أَخْطَأَهُ الْمِنْجَلُ وَمَا فِي أَسْفَلِ الْأَكْرَاسِ وَمَا أَخْطَاهُ الْقِطَافُ مِنَ الْعِنَبِ وَمَا بَقِيَ عَلَى السَّبَاطِ تَحْتَ النَّخْلَةِ إِذَا صُرِمَتْ، فَكَانَ يَجْتَمِعُ لَهُمْ شَيْءٌ كَثِيرٌ. فَلَمَّا مَاتَ قَالَ بَنُوهُ: إِنْ فَعَلْنَا مَا كَانَ يَفْعَلُ أَبُونَا ضَاقَ عَلَيْنَا الْأَمْرُ وَنَحْنُ أُولُو عِيَالٍ، فَحَلَفُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ فِي السَّدَفِ خُفْيَةً مِنَ الْمَسَاكِينِ، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا فِي يمينهم والكاف فِي كَما بَلَوْنا فِي موضع نصب، وما مَصْدَرِيَّةٌ. وَقِيلَ:
بِمَعْنَى الَّذِي، وإذ معمول لبلوناهم ليصر منها جَوَابُ الْقَسَمِ لَا عَلَى مَنْطُوقِهِمْ، إِذْ لَوْ كَانَ عَلَى منطوقهم لكان لنصر منها بِنُونِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَالْمَعْنَى: لَيَجُدُنَّ ثَمَرَهَا إِذَا دَخَلُوا فِي الصَّبَاحِ قَبْلَ خُرُوجِ الْمَسَاكِينِ إِلَى عَادَتِهِمْ مَعَ أَبِيهِمْ. وَلا يَسْتَثْنُونَ: أَيْ وَلَا يَنْثَنُونَ عَنْ مَا عَزَمُوا عَلَيْهِ مِنْ مَنْعِ الْمَسَاكِينِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ: لَا يَقُولُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، بَلْ عَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ عَزْمَ مَنْ يَمْلِكُ أَمْرَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُتَّبِعًا قَوْلَ مُجَاهِدٍ: وَلَا يَقُولُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ سُمِّيَ اسْتِثْنَاءٌ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ؟ قُلْتُ: لِأَنَّهُ يُؤَدِّي مُؤَدَّى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَعْنَى قَوْلِكَ: لَأَخْرُجَنَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَا أَخْرُجُ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاحِدٌ. انْتَهَى.
241
فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ، قَرَأَ النَّخَعِيُّ: طِيفَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالطَّائِفُ: الْأَمْرُ الَّذِي يَأْتِي بِاللَّيْلِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ «١»، فَلَمْ يَتَخَصَّصْ بِاللَّيْلِ، وَطَائِفٌ مُبْهَمٌ. فَقِيلَ: هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، اقْتَلَعَهَا وَطَافَ بِهَا حَوْلَ الْبَيْتِ، ثُمَّ وَضَعَهَا حَيْثُ مَدِينَةُ الطَّائِفِ الْيَوْمَ، وَلِذَلِكَ سُمِّيتْ بِالطَّائِفِ، وَلَيْسَ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ بَلْدَةٌ فِيهَا الْمَاءُ وَالشَّجَرُ وَالْأَعْنَابُ غَيْرِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَائِفٌ مِنْ أَمْرِ رَبِّكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عَذَابٌ مِنْ رَبِّكَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: عُنُقٌ خَرَجَ مِنْ وَادِي جَهَنَّمَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَالرَّمَادِ الْأَسْوَدِ، وَالصَّرِيمُ: الرَّمَادُ الْأَسْوَدُ بِلُغَةِ خُزَيْمَةَ، وَعَنْهُ أَيْضًا: الصَّرِيمُ رَمْلَةٌ بِالْيَمَنِ مَعْرُوفَةٌ لَا تُنْبِتُ، فَشَبَّهَ جَنَّتَهُمْ بِهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: صَرَمَ عَنْهَا الْخَيْرَ، أَيْ قَطَعَ.
فَالصَّرِيمُ بِمَعْنَى مَصْرُومٍ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: كَالصُّبْحِ مِنْ حَيْثُ ابْيَضَّتْ كَالزَّرْعِ الْمَحْصُودِ.
وقال مورج: كَالرَّمْلَةِ انْصَرَمَتْ مِنْ مُعْظَمِ الرَّمْلِ، وَالرَّمْلَةُ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا يَنْفَعُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: كَالصُّبْحِ انْصَرَمَ مِنَ اللَّيْلِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: كَالنَّهَارِ فَلَا شَيْءَ فِيهَا. وَقَالَ شِمْرٌ:
الصَّرِيمُ: اللَّيْلُ، وَالصَّرِيمُ: النَّهَارُ، أَيْ يَنْصَرِمُ هَذَا عَنْ ذَاكَ، وَذَاكَ عَنْ هَذَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْقَاضِيَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ وَجَمَاعَةٌ: الصَّرِيمُ: اللَّيْلُ مِنْ حَيْثُ اسْوَدَّتْ جَنَّتُهُمْ. فَتَنادَوْا:
دَعَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَى الْمُضِيِّ إِلَى مِيعَادِهِمْ، أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا قِيلَ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ، وَمَا مَعْنَى عَلَى؟ قُلْتُ: لَمَّا كَانَ الْغُدُوُّ إِلَيْهِ لِيَصْرِمْوهُ وَيَقْطَعُوهُ كَانَ غُدُوًّا عَلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ: غَدَا عَلَيْهِمُ الْعَدُوُّ. وَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّنَ الْغَدَ وَمَعْنَى الْإِقْبَالِ، كَقَوْلِهِمْ: يُغْدَى عَلَيْهِ بِالْجَفْنَةِ وَيُرَاحُ، أَيْ فَأَقْبِلُوا عَلَى حَرْثِكُمْ بَاكِرِينَ.
انْتَهَى. وَاسْتَسْلَفَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ غَدَا يَتَعَدَّى بِإِلَى، وَيَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى نَقْلِ بِحَيْثُ يَكْثُرُ ذَلِكَ فَيَصِيرُ أَصْلًا فِيهِ وَيُتَأَوَّلُ مَا خَالَفَهُ، وَالَّذِي فِي حِفْظِي أَنَّهُ مُعَدًّى بِعَلَى، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
بَكَرْتُ عَلَيْهِ غُدْوَةً فَرَأَيْتُهُ قَعُودًا عَلَيْهِ بِالصَّرِيمِ عَوَادِلُهُ
إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ من صرام النحل. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ: إِنْ كُنْتُمْ أَهْلَ عَزْمٍ وَإِقْدَامٍ عَلَى رَأْيِكُمْ، مِنْ قَوْلِكَ: سَيْفٌ صَارِمٌ. يَتَخافَتُونَ: يُخْفُونَ كَلَامَهُمْ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَشْعُرَ بِهِمُ الْمَسَاكِينُ. أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا: أَيْ يَتَخَافَتُونَ بِهَذَا الْكَلَامِ وَهُوَ لا يدخلنها، وأن مَصْدَرِيَّةٌ، وَيَجُوزَ أَنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: لَا يَدْخُلَنَّهَا، بِإِسْقَاطِ أَنْ عَلَى إِضْمَارٍ يَقُولُونَ، أَوْ عَلَى إِجْرَاءِ يَتَخَافَتُونَ مَجْرَى الْقَوْلِ، إِذْ مَعْنَاهُ:
يُسَارُّونَ الْقَوْلَ وَالنَّهْيُ عَنِ الدُّخُولِ. نَهْيٌ عَنِ التَّمْكِينِ مِنْهُ، أَيْ لَا تُمَكِّنُوهُمْ مِنَ الدُّخُولِ
(١) سورة الأعراف: ٢٠١/ ٧.
242
فَيَدْخُلُوا. وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ: أَيْ عَلَى قَصْدٍ وقدوة فِي أَنْفُسِهِمْ، يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ تَمَكَّنُوا مِنْ مُرَادِهِمْ. قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَيْ قَاصِدِينَ إِلَى جَنَّتِهِمْ بِسُرْعَةٍ، قَادِرِينَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى صِرَامِهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْقُتَبِيُّ: عَلى حَرْدٍ: عَلَى مَنْعٍ، أَيْ قَادِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ عَلَى مَنْعِ الْمَسَاكِينِ مِنْ خَيْرِهَا، فَجَزَاهُمُ اللَّهُ بِأَنْ مَنَعَهُمْ خَيْرًا. وَقَالَ الْحَسَنُ:
عَلى حَرْدٍ، أَيْ حَاجَةٍ وَفَاقَةٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَسُفْيَانُ: عَلى حَرْدٍ: عَلَى غَضَبٍ، أَيْ لَمْ يَقْدِرُوا إِلَّا عَلَى حَنَقٍ وَغَضَبٍ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَقِيلَ: عَلى حَرْدٍ: عَلَى انْفِرَادٍ، أَيِ انْفَرَدُوا دُونَ الْمَسَاكِينِ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: حَرْدٍ اسْمُ قَرْيَتِهِمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: اسْمُ جَنَّتِهِمْ، أَيْ غَدَوْا عَلَى تِلْكَ الْجَنَّةِ قَادِرِينَ عَلَى صِرَامِهَا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ، أَوْ مُقَدِّرِينَ أَنْ يَتِمَّ لَهُمْ مُرَادُهُمْ مِنَ الصِّرَامِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ من التَّقْدِيرِ بِمَعْنَى التَّضْيِيقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ «١»، أَيْ مُضَيِّقِينَ عَلَى الْمَسَاكِينِ، إِذْ حَرَمُوهُمْ مَا كَانَ أَبُوهُمْ يُنِيلُهُمْ مِنْهَا.
فَلَمَّا رَأَوْها: أَيْ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانُوا غُدُوُّهَا عَلَيْهَا، مِنْ هَلَاكِهَا وَذَهَابِ مَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ، قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ: أَيْ عَنِ الطَّرِيقِ إِلَيْهَا، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ وُصُولِهِمْ أَنْكَرُوا أَنَّهَا هِيَ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ أَخْطَأُوا الطَّرِيقَ إِلَيْهَا، ثُمَّ وَضَحَ لَهُمْ أَنَّهَا هِيَ، وَأَنَّهُ أَصَابَهَا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَا أَذْهَبَ خَيْرَهَا. وَقِيلَ: لَضَالُّونَ عَنِ الصَّوَابِ فِي غُدُوِّنَا عَلَى نِيَّةِ مَنْعِ الْمَسَاكِينِ، فَقَالُوا: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ خَيْرَهَا بِخِيَانَتِنَا عَلَى أَنْفُسِنَا. قالَ أَوْسَطُهُمْ:
أَيْ أَفْضَلُهُمْ وَأَرْجَحُهُمْ عَقْلًا، أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ: أَنَّبَهُمْ وَوَبَّخَهُمْ عَلَى تَرْكِهِمْ مَا حَضَّهُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَسْبِيحِ اللَّهِ، أَيْ ذِكْرُهُ وَتَنْزِيهُهُ عَنِ السُّوءِ، وَلَوْ ذَكَرُوا الله وإحسانه إليهم لا متثلوا مَا أَمَرَ بِهِ مِنَ مُوَاسَاةِ الْمَسَاكِينِ وَاقْتَفَوْا سُنَّةَ أَبِيهِمْ فِي ذَلِكَ. فَلَمَّا غَفَلُوا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَزَمُوا عَلَى مَنْعِ الْمَسَاكِينِ، ابْتَلَاهُمُ اللَّهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوْسَطَهُمْ كان قد تقد إِلَيْهِمْ وَحَرَّضَهُمْ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ: كَانَ اسْتِثْنَاؤُهُمْ سُبْحَانَ اللَّهِ قَالَ النَّحَّاسُ: جَعَلَ مُجَاهِدٌ التَّسْبِيحَ مَوْضِعَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى تَنْزِيهُ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِالْتِقَائِهِمَا فِي مَعْنَى التَّعْظِيمِ لِلَّهِ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَفْوِيضٌ إِلَيْهِ، وَالتَّسْبِيحُ تَنْزِيهٌ لَهُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ التَّفْوِيضِ وَالتَّنْزِيهِ تَعْظِيمٌ لَهُ. وَقِيلَ: لَوْلا تُسَبِّحُونَ: تَسْتَغْفِرُونَ.
وَلَمَّا أَنَّبَهُمْ، رَجَعُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاعْتَرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالظُّلْمِ، وبادروا إلى تسبح اللَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا: سُبْحانَ رَبِّنا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ ذنبنا.
(١) سورة الطلاق: ٦٥/ ٧. [.....]
243
أَقَرُّوا بِظُلْمِهِمْ، لَامَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَجَعَلَ اللَّوْمَ فِي حَيِّزِ غَيْرِهِ، إِذْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ زَيَّنَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَمَرَ بِالْكَفِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَصَى الْأَمْرَ. وَمِنْهُمْ مَنْ سَكَتَ عَلَى رِضًا مِنْهُ. ثُمَّ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ طَغَوْا، وَتَرَجُّوا انْتِظَارَ الْفَرَجِ فِي أَنْ يُبْدِلَهُمْ خَيْرًا مِنْ تِلْكَ الْجَنَّةِ، عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا: أَيْ بِهَذِهِ الْجَنَّةِ، خَيْراً مِنْها: وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْكَهْفِ، وَالْخِلَافُ فِي تَخْفِيفِ يُبَدِّلُنَا، وَتَثْقِيلِهَا مَنْسُوبًا إِلَى الْقُرَّاءِ. إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ: أَيْ طَالِبُونَ إِيصَالَ الْخَيْرِ إِلَيْنَا مِنْهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الْجَنَّةِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ أَصَابُوا مَعْصِيَةً وَتَابُوا. وَقِيلَ: كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: بَلَغَنِي أَنَّ الْقَوْمَ دَعَوُا اللَّهَ وَأَخْلَصُوا، وَعَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمُ الصِّدْقَ فَأَبْدَلَهُمْ بِهَا جَنَّةً، وَكُلُّ عُنْقُودٍ مِنْهَا كَالرَّجُلِ الْأَسْوَدِ الْقَائِمِ. وعن مجاهد: تابوا فأبدوا خَيْرًا مِنْهَا. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: الْمُعْظَمُ يَقُولُونَ أَنَّهُمْ تَابُوا وَأَخْلَصُوا. انْتَهَى. وَتَوَقَّفَ الْحَسَنُ فِي كَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ وَقَالَ: أَكَانَ قَوْلُهُمْ: إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ إِيمَانًا، أَوْ عَلَى حَدِّ مَا يَكُونُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمُ الشِّدَّةُ؟.
كَذلِكَ الْعَذابُ: هَذَا خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ قُرَيْشٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْعَذَابِ الَّذِي نَزَلَ بِالْجَنَّةِ، أَيْ كَذلِكَ الْعَذابُ: أَيِ الَّذِي نَزَلَ بِقُرَيْشٍ بَغْتَةً، ثُمَّ عَذَابُ الْآخِرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ أَشُدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الْعَذَابُ النَّازِلُ بِقُرَيْشٍ الممائل لِأَمْرِ الْجَنَّةِ هُوَ الْجَدْبُ الَّذِي أَصَابَهُمْ سَبْعَ سِنِينَ حَتَّى رَأَوُا الدُّخَانَ وَأَكَلُوا الْجُلُودَ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِثْلَ ذَلِكَ الْعَذَابِ الَّذِي بَلَوْنَا بِهِ أَهْلَ مَكَّةَ وَأَصْحَابَ الْجَنَّةِ عَذَابُ الدُّنْيَا. وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ مِنْهُ. انْتَهَى.
وَتَشْبِيهُ بَلَاءِ قُرَيْشٍ بِبَلَاءِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ هُوَ أَنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ عَزَمُوا عَلَى الِانْتِفَاعِ بِثَمَرِهَا وَحِرْمَانِ الْمَسَاكِينِ، فَقَلَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَحَرَمَهُمْ. وَأَنَّ قُرَيْشًا حِينَ خَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ حَلَفُوا عَلَى قَتْلِ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ رَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ وَطَافُوا بِالْكَعْبَةِ وَشَرِبُوا الْخُمُورَ، فَقَلَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ قُتِلُوا وَأُسِرُوا. وَلَمَّا عَذَّبَهُمْ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا قَالَ:
وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ، إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ، أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ، سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ، أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ، يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ، خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ،
244
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ، أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ، أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ، لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ، فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ، وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ.
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ بَلَا كَفَّارَ قُرَيْشٍ وَشَبَّهَ بَلَاءَهُمْ بِبَلَاءِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، أَخْبَرَ بِحَالِ أَضْدَادِهِمْ وَهُمُ الْمُتَّقُونَ، فَقَالَ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ: أَيِ الْكُفْرَ، جَنَّاتِ النَّعِيمِ: أَضَافَهَا إِلَى النَّعِيمِ، لِأَنَّ النَّعِيمَ لَا يُفَارِقُهَا، إِذْ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا هُوَ، فَلَا يَشُوبُهُ كَدَرٌ كَمَا يَشُوبُ جَنَّاتِ الدُّنْيَا.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنْ كَانَ ثَمَّ جَنَّةٌ فَلَنَا فِيهَا أَكْثَرُ الْحَظِّ، فَنَزَلَتْ: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: قَالُوا فَضَّلَنَا اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ يُفَضِّلُنَا عَلَيْكُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَإِلَّا فَالْمُشَارَكَةُ، فَأَجَابَ تَعَالَى: أَفَنَجْعَلُ: أَيْ لَا يَتَسَاوَى الْمُطِيعُ وَالْعَاصِي، هُوَ اسْتِفْهَامٌ فِيهِ تَوْقِيفٌ عَلَى خَطَأِ مَا قَالُوا وَتَوْبِيخٌ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: مَا لَكُمْ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ لَكُمْ فِيمَا تَزْعُمُونَ؟ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تَحْكُمُونَ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ ثَالِثٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، اسْتَفْهَمَ عَنْ هَيْئَةِ حُكْمِهِمْ. فَفِي قَوْلِهِ: مَا لَكُمْ اسْتِفْهَامٌ عَنْ كَيْنُونَةٍ مُبْهَمَةٍ، وَفِي كَيْفَ تَحْكُمُونَ اسْتِفْهَامٌ عَنْ هَيْئَةِ حُكْمِهِمْ.
ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ هَذَا إِضْرَابَ انْتِقَالٍ لِشَيْءٍ آخَرَ لَا إِبْطَالٍ لِمَا قَبْلَهُ فَقَالَ: أَمْ لَكُمْ، أَيْ: بَلْ أَلْكُمْ؟ كِتابٌ، أَيْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، تَدْرُسُونَ أَنَّ مَا تَخْتَارُونَهُ يَكُونُ لَكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ لَكُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، فَقِيلَ هُوَ اسْتِئْنَافُ قَوْلٍ عَلَى مَعْنَى: إِنْ لَكُمْ كِتَابٌ فَلَكُمْ فِيهِ مُتَخَيَّرٌ. وَقِيلَ: إِنَّ مَعْمُولَةٌ لِتَدْرُسُونِ، أَيْ تَدْرُسُونَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ لَكُمْ، لَما تَخَيَّرُونَ: أَيْ تَخْتَارُونَ مِنَ النَّعِيمِ، وَكُسِرَتِ الْهَمْزَةُ مِنْ أَنَّ لِدُخُولِ اللَّامِ فِي الْخَبَرِ، وَهِيَ بِمَعْنَى أَنَّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَبَدَأَ بِهِ وَقَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حِكَايَةً لِلْمَدْرُوسِ كَمَا هُوَ، كَقَوْلِهِ: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ «١». انْتَهَى. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَالضَّحَّاكُ: أَنَّ لَكُمْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَاللَّامِ فِي لَمَا زَائِدَةٌ كَهِيَ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ إِلَّا أَنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنَّهُمْ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: أَإِنَّ لَكُمْ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ.
(١) سورة الصافات: ٣٧/ ٧٨.
245
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ: أَيْ أَقْسَامٌ عَلَيْنَا، بالِغَةٌ: أَيْ مُتَنَاهِيَةٌ فِي التَّوْكِيدِ. يُقَالُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ يَمِينٌ إِذَا حَلَفْتُ لَهُ عَلَى الْوَفَاءِ بما حلفت عليه، وإلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْخَبَرُ وَهُوَ لَكُمْ، أَيْ ثَابِتَةٌ لَكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَوْ بِبَالِغَةٍ: أَيْ تَبْلُغُ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ وَتَنْتَهِي إِلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بالِغَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى الصِّفَةِ، وَالْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي عَلَيْنَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: حَالٌ مِنْ نَكِرَةٍ لِأَنَّهَا مُخَصَّصَةٌ تَغْلِيبًا. إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ: جَوَابُ الْقَسَمِ، لِأَنَّ مَعْنَى أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا: أَمْ أَقْسَمْنَا لَكُمْ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: أَإِنَّ لَكُمْ عَلَيَّ، كَالَّتِي قَبْلَهَا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ.
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ: أَيْ ضَامِنٌ بِمَا يَقُولُونَهُ وَيَدَّعُونَ صِحَّتَهُ، وَسَلْ مُعَلَّقَةٌ عَنْ مَطْلُوبِهَا الثَّانِي، لَمَّا كَانَ السُّؤَالُ سَبَبًا لِحُصُولِ الْعِلْمِ جَازَ تَعْلِيقُهُ كَالْعِلْمِ، وَمَطْلُوبُهَا الثَّانِي أَصْلُهُ أَنْ يُعَدَّى بِعْنَ أَوْ بِالْبَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ «١»، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي عَلِيمٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
وَلَوْ كَانَ غَيْرَ اسْمِ اسْتِفْهَامٍ لَتَعَدَّى إِلَيْهِ بِعْنَ أَوْ بِالْبَاءِ، كَمَا تَقُولُ: سَلْ زَيْدًا عَنْ مَنْ يَنْظُرُ فِي كَذَا، وَلَكِنَّهُ عَلَّقَ سَلْهُمْ، فَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ وَعَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: فَلْيَأْتُوا بِشِرْكِهِمْ، قِيلَ: وَالْمُرَادُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ الْأَصْنَامُ أَوْ نَاسٌ يُشَارِكُونَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ وَيُوَافِقُونَهُمْ فِيهِ، أَيْ لَا أَحَدَ يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ، كَمَا أَنَّهُ لَا كِتَابَ لَهُمْ، وَلَا عَهْدَ مِنَ اللَّهِ، وَلَا زَعِيمَ بِذَلِكَ، فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ: هَذَا اسْتِدْعَاءٌ وَتَوْقِيفٌ. قِيلَ: فِي الدُّنْيَا أَيْ لِيُحْضِرُوهُمْ حَتَّى تَرَى هَلْ هُمْ بِحَالِ مَنْ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ أَمْ لَا. وَقِيلَ: فِي الْآخِرَةِ، عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِهِمْ.
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ: وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ النَّاصِبِ لِيَوْمِ فَلْيَأْتُوا. وَقِيلَ: اذْكُرْ، وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَحُذِفَ لِلتَّهْوِيلِ الْعَظِيمِ بِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْحَوَادِثِ وَالظَّاهِرُ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ هَذَا الْيَوْمُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: هَذَا الْيَوْمُ هُوَ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُ قَالَ: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ، وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِيهِ تَعَبُّدٌ وَلَا تَكْلِيفٌ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ إِمَّا آخِرُ أَيَّامِ الرَّجُلِ فِي دُنْيَاهُ لِقَوْلِهِ: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لَا بُشْرى «٢»، ثُمَّ يَرَى النَّاسَ يُدْعَوْنَ إِلَى الصَّلَاةِ إِذَا حَضَرَتْ أَوْقَاتُهَا، فَلَا يستطيع الصلاة
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢١٧.
(٢) سورة الفرقان: ٢٥/ ٢٢.
246
لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي لَا يَنْفَعُ فِيهِ نَفْسًا إِيمَانُهَا وَإِمَّا حَالُ الْمَرَضِ وَالْهَرَمِ وَالْمُعْجِزَةِ. وَقَدْ كانُوا قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ مِمَّا بِهِمُ الْآنَ. فَذَلِكَ إِمَّا لِشِدَّةِ النَّازِلَةِ بِهِمْ مِنْ هَوْلِ مَا عَايَنُوا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَإِمَّا مِنَ الْعَجْزِ وَالْهَرَمِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الدُّعَاءَ إِلَى السُّجُودِ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ التَّكْلِيفِ، بَلْ عَلَى سبيل التقريع والتخجيل. وعند ما يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ، سُلِبُوا الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ، وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الِاسْتِطَاعَةِ حَتَّى يَزْدَادَ حُزْنُهُمْ وَنَدَامَتُهُمْ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِيهِ حِينَ دُعُوا إليه وهم سالمون الْأَطْرَافِ وَالْمَفَاصِلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
يُكْشَفُ بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِفَتْحِ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا وَابْنُ هُرْمُزَ: بِالنُّونِ وَابْنُ عَبَّاسٍ: يكشف بفتح الياء منبيا لِلْفَاعِلِ وَعَنْهُ أَيْضًا بِالْيَاءِ مضمومة مبنيا للمفعول. وقرىء: يُكْشِفُ بِالْيَاءِ الْمَضْمُومَةِ وَكَسْرِ الشِّينِ، مِنْ أَكْشَفَ إِذَا دَخَلَ فِي الْكَشَفِ، وَمِنْهُ أَكْشَفَ الرَّجُلُ: انْقَلَبَتْ شَفَتُهُ الْعُلْيَا، وَكَشْفُ السَّاقِ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْأَمْرِ وَتَفَاقُمِهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ أَوَّلُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهِيَ أَفْظَعُهَا. وَمِمَّا جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ مَنْ قَوْلِهِ: «فَيُكْشَفُ لَهُمْ عَنْ سَاقٍ»
، مَحْمُولٌ أَيْضًا عَلَى الشِّدَّةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. قَالَ حَاتِمٌ:
أَخُو الْحَرْبِ إِنْ عَضَّتْ بِهِ الْحَرْبُ عَضَّهَا... وَإِنْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا الْحَرْبُ شَمَّرَا
وَقَالَ الرَّاجِزُ:
عَجِبْتُ مِنْ نَفْسِي وَمِنْ إِشْفَاقِهَا... وَمِنْ طِرَادِي الْخَيْلَ عَنْ أَرْزَاقِهَا
فِي سَنَةٍ قَدْ كَشَفَتْ عَنْ سَاقِهَا... حَمْرَاءَ تَبْرِي اللَّحْمَ عَنْ عِرَاقِهَا
وَقَالَ الرَّاجِزُ:
قَدْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا فَشُدُّوا... وَجَدَّتِ الْحَرْبُ بِكُمْ فَجِدُّوا
وَقَالَ آخَرُ:
صبرا امام إن شرباق... وَقَامَتِ الْحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاقِ
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
كَشَفَتْ لَهُمْ عَنْ سَاقِهَا... وَبَدَا من الشر ألبوا
ويروى: الصداخ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ شِدَّةٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذِهِ كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ فِي الشِّدَّةِ، يُقَالُ: كَشَفَ عَنْ سَاقِهِ إِذَا تَشَمَّرَ. قَالَ: وَمِنْ هَذَا تَقُولُ الْعَرَبُ
247
لِسَنَةِ الْجَدْبِ: كَشَفَتْ سَاقَهَا، وَنَكَّرَ سَاقٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ مُبْهَمٌ فِي الشِّدَّةِ، خَارِجٌ عَنِ الْمَأْلُوفِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَوْمَ يَقَعُ أَمْرٌ فَظِيعٌ هَائِلٌ. وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ يُدْعَوْنَ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّكْلِيفِ. وَقِيلَ: الدَّاعِي مَا يَرَوْنَهُ مِنْ سُجُودِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيُرِيدُونَ هُمُ السُّجُودَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَهُ، كَمَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي حَاوَرَهُمْ فِيهِ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، وَيَخِرُّونَ لِلسُّجُودِ، فَيَسْجُدُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَتَصِيرُ أَصْلَابُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ كَصَيَاصِي الْبَقَرِ عَظْمًا وَاحِدًا، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سُجُودًا.
انْتَهَى. وَنَفْيُ الِاسْتِطَاعَةِ لِلسُّجُودِ فِي الْآخِرَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُمُ اسْتِطَاعَةً فِي الدُّنْيَا، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُبَّائِيُّ.
وخاشِعَةً: حَالٌ، وَذُو الْحَالِ الضَّمِيرُ فِي يُدْعَوْنَ، وَخَصَّ الْأَبْصَارَ بِالْخُشُوعِ، وَإِنْ كَانَتِ الْجَوَارِحُ كُلُّهَا خَاشِعَةً، لِأَنَّهُ أَبْيَنُ فِيهِ مِنْهُ فِي كُلِّ جَارِحَةٍ، تَرْهَقُهُمْ: تَغْشَاهُمْ، ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ. قِيلَ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ، وَخُصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَعْظَمُ الطَّاعَاتِ، وَمِنْ حَيْثُ امْتُحِنُوا بِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ:
أَرَادَ بِالسُّجُودِ: الصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَةُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: كَانُوا يَسْمَعُونَ النِّدَاءَ لِلصَّلَاةِ وَحَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ فَلَا يُجِيبُونَ.
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ، الْمَعْنَى: خَلِّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَإِنِّي سَأُجَازِيهِ وَلَيْسَ ثَمَّ مَانِعٌ. وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ يُكَذِّبُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ تَعَالَى قَدَّمَ أَشْيَاءَ مِنْ أَحْوَالِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ. وَمَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، إِمَّا عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي ذَرْنِي، وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ. سَنَسْتَدْرِجُهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: مَتِينٌ: تُكُلِّمَ عَلَيْهِ فِي الأعراف. أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً إِلَى: يَكْتُبُونَ: تُكُلِّمَ عَلَيْهِ فِي الطَّوْرِ.
رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى الَّذِينَ انْهَزَمُوا بِأُحُدٍ حِينَ اشْتَدَّ بِالْمُسْلِمِينَ الْأَمْرُ.
وَقِيلَ: حِينَ أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى ثَقِيفٍ، فَنَزَلَتْ
: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ: وَهُوَ إِمْهَالُهُمْ وَتَأْخِيرُ نَصْرِكَ عَلَيْهِمْ، وَامْضِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ مِنَ التَّبْلِيغِ وَاحْتِمَالِ الْأَذَى، وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ: هُوَ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذْ نَادَى: أَيْ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ «١»، وَلَيْسَ النَّهْيُ مُنْصَبًّا عَلَى الذَّوَاتِ، إِنَّمَا الْمَعْنَى: لَا يَكُنْ حَالُكَ مِثْلَ حَالِهِ.
إِذْ نَادَى: فَالْعَامِلُ فِي إِذْ هُوَ الْمَحْذُوفُ الْمُضَافُ، أَيْ كَحَالِ أَوْ كَقِصَّةِ صَاحِبِ الْحُوتِ،
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ٨٧.
248
إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ: مَمْلُوءٌ غَيْظًا عَلَى قَوْمِهِ، إِذْ لَمْ يُؤْمِنُوا لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَأَحْوَجُوهُ إِلَى اسْتِعْجَالِ مُفَارَقَتِهِ إِيَّاهُمْ. وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
وَأَنْتَ مِنْ حُبِّ مَيٍّ مُضْمِرٌ حُزْنًا عَانِي الْفُؤَادِ قَرِيحُ الْقَلْبِ مَكْظُومُ
وَتَقَدَّمَتْ مَادَّةُ كَظَمَ فِي قَوْلِهِ: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ «١». وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَدارَكَهُ مَاضِيًّا، وَلَمْ تَلْحَقْهُ عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ لِتَحْسِينِ الْفَصْلِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عباس: تَدَارَكَتْهُ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَابْنُ هُرْمُزَ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ: بِشَدِّ الدَّالِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ تَتَدَارَكُهُ، لِأَنَّهُ مستقبل انتصب بأن الْخَفِيفَةِ قَبْلَهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ:
هَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ الْمُقْتَضِيَةِ، أَيْ لَوْلَا أَنْ كَانَ يُقَالُ تَتَدَارَكُهُ، وَمَعْنَاهُ:
لَوْلَا هَذِهِ الْحَالُ الْمَوْجُودَةُ كَانَتْ لَهُ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ: فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ «٢» وَجَوَابُ لَوْلا قَوْلُهُ: لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ، أَيْ لَكِنَّهُ نَبَذَهُ وَهُوَ غَيْرُ مَذْمُومٍ، كَمَا قَالَ: فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ «٣»، وَالْمُعْتَمَدُ فِيهِ عَلَى الْحَالِ لَا عَلَى النَّبْذِ مُطْلَقًا، بَلْ بِقَيْدِ الْحَالِ. وَقِيلَ: لَنُبِذَ بِعَرَاءِ الْقِيَامَةِ مَذْمُومًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «٤». ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ فَاجْتَباهُ: أي اصطفاه، فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ: أَيِ الْأَنْبِيَاءِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ الْوَحْيَ وَشَفَّعَهُ فِي قَوْمِهِ.
وَلَمَّا أَمَرَهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ لِمَا أَرَادَهُ تَعَالَى وَنَهَاهُ عَنْ مَا نهاه، أخبر بِشِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لِيَتَلَقَّى ذَلِكَ بِالصَّبْرِ فَقَالَ: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ: أَيْ لَيُزْلِقُونَ قَوْمَكَ بِنَظَرِهِمُ الْحَادِّ الدَّالِّ عَلَى الْعَدَاوَةِ الْمُفْرِطَةِ، أَوْ لَيُهْلِكُونَكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَظَرَ إِلَيَّ نَظَرًا يَكَادُ يَصْرَعُنِي وَيَكَادُ يَأْكُلُنِي، أَيْ لَوْ أَمْكَنَهُ بِنَظَرِهِ الصَّرْعُ وَالْأَكْلُ لَفَعَلَهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
يَتَعَارَضُونَ إِذَا الْتَقَوْا فِي مَوْطِنٍ نَظَرًا يَزِلُّ مَوَاطِنَ الْأَقْدَامِ
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَيُزْلِقُونَكَ: لَيَصْرِفُونَكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَيُزْلِقُونَكَ بِضَمِّ الْيَاءِ مِنْ أَزْلَقَ ونافع: بِفَتْحِهَا مِنْ زَلِقَتِ الرِّجْلُ، عُدِّيَ بِالْفَتْحَةِ مَنْ زَلِقَ الرَّجُلُ بِالْكَسْرِ، نَحْوُ شَتِرَتْ عَيْنُهُ بِالْكَسْرِ، وَشَتَرَهَا اللَّهُ بِالْفَتْحِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَعْمَشُ وَعِيسَى: لَيُزْهِقُونَكَ.
وَقِيلَ: مَعْنَى لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ: لَيَأْخُذُونَكَ بِالْعَيْنِ، وَذَكَرَ أَنَّ اللَّفْعَ بِالْعَيْنِ كَانَ فِي بَنِي أَسَدٍ.
قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ يَمْكُثُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً لَا يَأْكُلُ، ثم يرفع
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٣٤.
(٢) سورة القصص: ٢٨/ ١٥.
(٣) سورة الصافات: ٣٧/ ١٤٥.
(٤) سورة الصافات: ٣٧/ ١٤٣.
249
جَانِبَ خِبَائِهِ فَيَقُولُ: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ إِبِلًا وَلَا غَنَمًا أَحْسَنَ مِنْ هَذِهِ، فَمَا تَذْهَبُ إِلَّا قَلِيلًا ثُمَّ تَسْقُطُ طَائِفَةٌ أَوْ عِدَّةٌ مِنْهَا. قَالَ الْكُفَّارُ لِهَذَا الرَّجُلِ أَنْ يُصِيبَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَجَابَهُمْ، وَأَنْشَدَ:
قَدْ كَانَ قَوْمُكَ يَحْسُبُونَكَ سَيِّدًا وَأَخَالُ أَنَّكَ سَيِّدٌ مَعْيُونٌ
أَيْ: مُصَابٌ بِالْعَيْنِ، فَعَصَمَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْزَلَ عليه هذه الآية.
قال قَتَادَةُ: نَزَلَتْ لِدَفْعِ الْعَيْنِ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَعْيِنُوهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: دَوَاءُ مَنْ أَصَابَتْهُ الْعَيْنُ أَنْ يَقْرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: الْإِصَابَةُ بِالْعَيْنِ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ الِاسْتِحْسَانِ، لَا مَعَ الْكَرَاهَةِ وَالْبُغْضِ، وَقَالَ: وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَا يَمْنَعُ كَرَاهَةُ الشَّيْءِ مِنْ أَنْ يُصَابَ بِالْعَيْنِ عَدَاوَةً لَهُ حَتَّى يَهْلِكَ. انْتَهَى. وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمُعْيَنِ، وَإِنْ كَانَ مُبْغَضًا عِنْدَ الْعَائِنِ صِفَةٌ يَسْتَحْسِنُهَا الْعَائِنُ، فَيَعْيِنُهُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَةِ، لَا سِيَّمَا مَنْ تَكُونُ فِيهِ صِفَاتُ كَمَالٍ.
لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ: مَنْ يَقُولُ لَمَّا ظَرْفٌ يَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِ لَيُزْلِقُونَكَ، وَإِنْ كَانَ حَرْفَ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، كَانَ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، أَيْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ كَادُوا يُزْلِقُونَكَ، وَالذِّكْرُ: الْقُرْآنُ. وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ تَنْفِيرًا عَنْهُ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَمُّهُمْ فَضْلًا وَأَرْجَحُهُمْ عَقْلًا. وَما هُوَ: أَيِ الْقُرْآنُ، إِلَّا ذِكْرٌ: عِظَةٌ وَعِبْرَةٌ، لِلْعالَمِينَ: أَيْ لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَكَيْفَ يَنْسُبُونَ إِلَى الْجِنِّ مَنْ جَاءَ بِهِ؟.
250
Icon