ﰡ
في السورة تثبيت وتطمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم وثناء عليه وحملة على المكذبين وإنذار لهم، وصور لمواقفهم من الدعوة. وفيها قصة جاءت في معرض التذكير والإنذار كما فيها إشارة إلى قصة يونس في معرض تثبيت النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ومضمون الآيات الأربع الأولى منها والتالية لها يحتمل أن تكون الآيات الأربع نزلت لحدة، وأن تكون بقية الآيات نزلت بعد مدة ما، كما يحتمل أن تكون جميعها نزلت دفعة واحدة. وترتيبها كثانية السور نزولا هو بناء على احتمال نزول الآيات الأربع لحدتها. وعقب آيات سورة العلق الخمس الأولى. فإذا لم يكن هذا الاحتمال صحيحا وكانت الآيات الأربع وما بعدها قد نزلت معا، فلا يكون ترتيبها هذا صحيحا والحالة هذه، ويقتضي أن تكون نزلت متأخرة بعض الشيء. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [١٧- ٣٣] و [٤٨- ٥٠] مدنيات. وأسلوبها ومضمونها يلهمان عدم صحة ذلك.
وآيات السور منسجمة في موضوعها وتسلسلها وسبكها. وهذا يسوغ القول إنها من السور التي نزلت دفعة واحدة أو فصولا متلاحقة، مع ملاحظة ما ذكرناه في صدد آياتها الأربع الأولى.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ١ الى ٤]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)الجزء الأول من التفسير الحديث ٢٣
(٢) المنّ: يأتي في القرآن واللغة في معان عديدة. منها القطع، ومنها الإنعام والتفضل. ومنها تعداد النعم في مقام التذكير بالجميل. وجملة غير ممنون هنا بمعنى غير مقطوع على ما عليه الجمهور.
الخطاب في الآيات موجه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفيها:
قسم بالقلم وما يكتب الناس به على سبيل التوكيد بأن عناية الله ونعمته شاملتان له، وأنه ليس مجنونا، وأن له أجرا دائما من الله على قيامه بمهمته العظمى وما يتحمله في سبيلها، وأنه على خلق عظيم أهّله لاصطفاء الله وعنايته.
وفي كتب التفسير أقوال عديدة في مدلول حرف (ن). في بعضها إغراب وخيال. فمن ذلك ما ورد في تفسير ابن عباس الذي يرويه الكلبي عن أبي صالح أنه السمكة التي تحمل الأرضين على ظهرها وهي في الماء وتحتها الثور وتحت الثور الصخرة وتحت الصخرة الثرى ولا يعلم ما تحت الثرى إلّا الله وأن اسم السمكة ليواشي أو ليوتي واسم الثور يهبموت أو يلهوي. وقد ورد في التفسير نفسه إلى هذا إنه اسم من أسماء الله أو إنه الدواة. وهذه الأقوال الثلاثة مروية في كتب تفسير أخرى مثل كتب الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وغيرهم عن ابن عباس أو (الرواة) أو كعب الأحبار. وفي الرواية الأولى في تفسير البغوي زيادات أكثر غرابة وخيالا معزوة إلى (الرواة) نرويها كنموذج مستغرب أكثر المفسرون السابقون من إيراد أمثاله على هوامش الألفاظ والأعلام والقصص والمشاهد القرآنية عزوا إلى الأخباريين من أصحاب وتابعين الذين تذكر أسماؤهم أحيانا وتغفل أحيانا حيث جاء فيها: «لما خلق الله الأرض وفتقها بعث من تحت العرش ملكا فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع فوضعها على عاتق إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب باسطتين قابضتين على الأرضين السبع حتى خبطها فلم يكن
ويستمر البغوي في سياقه فيقول: وقال كعب الأحبار إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض فوسوس له فقال له أتدري ما على ظهرك يا لوثيا من الأمم والدواب والشجر والجبال لو تنفثهم ألقيتهم عن ظهرك. فهم لوثيا أن يفعل ذلك فبعث الله دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه فعج الحوت إلى الله منها فأذن لها فخرجت. قال كعب: فو الذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وتنظر إليه، إن هم بشيء من ذلك عادت إلى ذلك كما كانت...
وفي كتب التفسير بالإضافة إلى هذه الروايات والأقوال أحاديث معزوة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. سنورد نصوصها بعد قليل في واحد منها أن النون هو الحوت. وفي واحد منها أنه الدواة. وفي واحد منها أنه لوح من نور. وفي الآيات الأخيرة من السورة إشارة إلى يونس عليه السلام بوصفه صاحب الحوت على ما سوف نشرحه بعد. وفي سورة الأنبياء آية فيها إشارة أخرى إلى يونس عليه السلام بوصفه ذي النون: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [٨٧]، حيث يمكن أن يكون كون (النون) اسما للحوت الذي ذكر صاحبه
وإذا صح هذا الترجيح فيكون مطلع السورة الذي من المحتمل أن يكون نزل بعد الآيات الخمس الأولى من سورة العلق توكيدا لما احتوته هذه الآيات الخمس في صدر تلقين القرآن منذ بدء تنزيله بخطورة القراءة والكتابة والعلم والتعليم في حياة الإنسان وكرامته.
استطراد إلى ما عرف في كتب التفسير بالإسرائيليات وتعليق عليها
وسياق الرواية الطويلة التي نقلناها عن البغوي معزوة إلى (الرواة) يفيد أن كعب الأحبار هو المعني بالرواة أو هو منهم. وهذا الرجل من اليهود الذين أسلموا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وخلفائه الراشدين واندمجوا في المجتمع الإسلامي، وقد روى عنه وعن رفاقه مثل عبد الله بن سلام ومحمد القرظي وثعلبة ونوف البكالي وأبناء منبه روايات كثيرة على هامش الألفاظ والأعلام والقصص والمشاهد القرآنية فيها مثل ما في هذه الرواية من إغراب وخيال. وقد وصفها علماء المسلمين بالإسرائيليات التي تتضمن معنى التشكيك وعدم الثقة فيها.
ولقد كان عند اليهود أسفار وقراطيس فيها شرائعهم وأخبار أجدادهم
فكان الرواة يتلقون ما يذكره هؤلاء ويروونه إلى غيرهم. إلى أن بدأ التدوين فصارت بياناتهم تدون في الكتب الأولى ثم تنقل منها إلى كتب أخرى. ولم يكن للمفسرين اطلاع على الأسفار بلغاتها ولم يتيسر لهم ترجمات لها فصاروا يدونون ما يروى لهم على علاته التي منها الكثير من الإغراب والخيال والمفارقة.
ولقد شغلت الإسرائيليات حيزا كبيرا جدا من كتب التفسير وكان كثير منها مملوءا مثل الرواية التي أوردناها بالإغراب والخيال برغم احتمال كون شيء قليل أو كثير مما كانوا يدلون به واردا في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا. وليس كل ما كان في أيديهم من أسفار وقراطيس صحيحا في مجمله أو تفصيله.
ولقد كان لتداول الرواة لهذه البيانات وتدوينها في كتب التفسير وشغلها منها حيزا كبيرا بل الحيز الأكبر أثر قوي في التغطية على ما في القرآن من مبادئ وأحكام وتلقينات ووصايا هي جوهر القرآن ومحكمه الذي فيه الهدى والنور
(٢) المصدر نفسه.
ويحمل الباحثون اليهود الرواة مسؤولية ذلك. ومنهم من يرى أنهم قصدوا إليه قصدا كيدا للإسلام واستغفالا للمسلمين. وقد يكون في هذا القول شيء من الحق. غير أننا نرى أن الرواة الأولين من المسلمين ثم المدونين الذين دونوا رواياتهم لأول مرة ثم الذين نقلوا عن هؤلاء يتحملون كذلك مسؤولية مثلهم إن لم نقل أكثر منهم لأنهم مفروض فيهم القدرة على تمييز الغثّ من السمين والباطل من الحق والكذب من الصدق وعلى لمح ما في الروايات من غلوّ ومبالغات لا يصح كثير منها في عقل ومنطق وواقع ولا يؤيدها أثر صحيح. ثم القدرة على إدراك ما في رواية هذه الروايات وتدوينها وإشغالها الحيز الكبير أو الأكبر من كتب التفسير من تشويش على أذهان قارئي هذه الكتب وعلى أهداف القرآن ومحكماته.
وقد يكون من الحق أن بعض المفسرين وقفوا من الاسرائيليات موقف المنكر المنبه الناقد غير أن هذا ليس شاملا ولا عاما، ومن الناقدين والمنكرين والمنبهين أنفسهم من روى كثيرا منها في مناسبات كثيرة بدون نقد ولا إنكار ولا تنبيه.
تنبيه في صدد الأحاديث والأقوال التي تروى بدون سند صحيح
ويكون فيها تعدد وتباين وتباعد وغرابة في الأحاديث المعزوة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم عن مدلول النون واحد يذكر أنه الدواة وواحد يذكر أنه الحوت وواحد يذكر أنه لوح من نور. وليس شيء من هذه الأحاديث واردا في الكتب المعتبرة. وفي الأقوال المعزوة إلى ابن عباس رواية مختصرة مماثلة في مداها لما رواه البغوي عن كعب الأحبار ورفاقه الرواة. ورواية
تعليق على الحروف المتقطعة في أوائل السور
وعلى تقدير أن حرف (ن) من الحروف المتقطعة المماثلة للحروف التي بدئت بها سور عديدة أخرى نقول إن هذه السور [٢٩] وهي سورة البقرة وآل عمران والأعراف ويونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر ومريم وطه والشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة ويس وص وغافر وفصلت والشورى والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف وق ون. وهناك من يخرج (طه) و (يس) ويقول إنهما اسمان للنبي صلّى الله عليه وسلّم و (ق) ويقول إنه اسم جبل بالإضافة إلى (ن) التي قال بعضهم إنه الحوت أو الدواة كما ذكرنا آنفا. وهناك من يجعل هذه الأربعة كسائر الحروف.
وليس هناك أثر نبوي وثيق في مدى ومغزى هذه الحروف التي جرى التواتر غير المنقطع على قراءتها بأسمائها (الف. لام. ميم إلخ) وقد تعددت روايات
وقد طلع باحث عربي مؤخرا برأي يقول فيه إنها ترمز إلى عدد آيات السور التي جاءت في مطلعها على أساس ذلك الحساب «٢».
(٢) نشر السيد نصوح الطاهر في رمضان ١٣٧٣ هـ- ١٩٥٤ م رسالة عنوانها «أوائل السور في القرآن» ذهب فيها هذا المذهب. ومن ينعم النظر فيها ير تجوزا بارزا في الحساب وتسليما بروايات مدنية الآيات في السور المكية ومكية الآيات في السور المدنية بدون سند وثيق وعدم تسليم ببعضها بدون سند وثيق للحساب والتطبيق. مع أن هناك روايات مضادة ومع أن روح الآيات وسياقها يلهمان بقوة عدم صحة معظم روايات مدنية ومكية الآيات في السور المكية والمدنية.
ومما يقوله السيد الطاهر أن الحروف في بعض السور بل في معظمها كانت ترمز إلى عدد آيات السور في مرحلة من المراحل وقبل ترتيب آياتها نهائيا. ثم أضيف بعد هذه المرحلة إليها آيات وفصول أو أنقص منها آيات وفصول. ومن السور المكية ما أضيف إليه آيات مدنية ومن السور المدنية ما أضيف إليه آيات مكية. وإن من السور ما كان متداخلا بعضه في بعض فلما رتبت آيات السور وفصل بعض ما كان داخلا في سور أخرى عن بعضها ووضع في سور أخرى أو جعل بعضها سورا مستقلة اختل العدد الذي ترمز إليه الحروف في الحساب الأبجدي. وهنا سلاسل من هذه السور متشابهة في حروفها المتقطعة. فذهب في بعضها إلى أن أحدها كان يرمز إلى عدد جميع آيات السور وذهب في بعضها إلى أن حروف إحداها هي التي كانت ترمز إلى عدد آياتها جميعا دون تعليل مقنع لتكرر الحروف المتشابهة في هذه السلاسل. وهذا الرأي يعني أن إضافة آيات أو فصول في سورة ما مرموز فيها إلى عدد آياتها في مرحلة من المراحل أو إنقاص آيات وفصول قد أخل في هذه الرمزية إذا كانت الحروف وحيا قرآنيا كما نعتقد ونزلت لترمز لذلك حسب رأي السيد الطاهر الذي نعتقد أنه هو الآخر لا ينكر كونها وحيا. وبالتالي قد أفقدتها حكمتها التي علمها الله. فإذا فرضنا أن ترتيب السور في صورتها النهائية قد تم في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم وأمره وهو ما نعتقده استنادا إلى دلائل وقرائن كثيرة قرآنية وغير قرآنية فيكون النبي قد أخل بحكمة الرمزية الربانية وحاشاه أن يفعل. وإذا كان الترتيب قد تم بعد وفاته على ما يقول به بعض العلماء فيرد حينئذ سؤال عما إذا كان النبي قد أخبر أصحابه بمفهوم الرمز. فإذا لم يكن قد أخبر به فيكون قد خالف أمر الله فلم يبين بعض ما أنزله الله عليه وحاشاه أن يفعل.
وإذا كان قد أخبرهم به فيكونون قد خالفوه وأخلّوا بحكمة الرمزية الربانية معا وحاشاهم أن يفعلوا. ويبقى هناك فرض وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يعرف مفهوم ورمزية الحروف. وظل هذا خفيا عليه وعلى جميع الناس من بعده إلى أن كشف عنه للسيد الطاهر ولا نظن هذا السيد يدعي ذلك.
تعليق على ما ورد من أحاديث وأقوال عن مدى (القلم) في الآية
لقد أورد المفسرون في سياق الآية الأولى أحاديث عديدة عن معنى القلم مفردا ومعناه ومعنى النون معا. منها حديث ورد في كتب الأحاديث المعتبرة أو الصحيحة حيث روى الترمذي وأبو داود حديثا جاء فيه: «قال عبادة بن الصامت لابنه يا بنيّ إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتّى تعلم أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب قال يا ربّ وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كلّ شيء حتى تقوم الساعة» «١». ومنها ما رواه المفسرون بطرق أخرى، من ذلك حديث أخرجه ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم إن أول ما خلق الله القلم والحوت. فقال للقلم اكتب. قال: ما أكتب. قال: كلّ شيء كائن إلى يوم القيامة. ثم قرأ ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ [القلم/ ١]. فالنون الحوت والقلم القلم».
وحديث أورده ابن كثير رواه ابن عساكر عن أبي هريرة قال: سمعت رسول
وما احتوته الأحاديث من كتابة المقادير بالقلم على اللوح متصل ببحثي القدر واللوح مما سوف يكون موضوع تعليق في مناسبات آتية.
تعليق على الأقسام القرآنية
والآية الأولى تضمنت قسما ربانيا، والآيات الثلاث هي جوابه. والأيمان الربانية أسلوب قرآني مألوف كثير الورود والصور، بسبب كون الأيمان أسلوبا تخاطبيا مألوفا كما هو المتبادر. وهناك سور عديدة تبدأ بالأيمان مما يمكن أن يعتبر كأسلوب من أساليب النظم القرآني في مطالع السور.
وقت نزول الآيات الأولى من هذه السورة
وقد روي «١» أن هذه الآيات هي التي أعقبت آيات سورة العلق الأولى.
ووضع سورة القلم في ترتيب ثانية سورة قرآنية نزولا إنما هو بسبب ذلك. فإذا صحت الرواية فتكون الآيات قد نزلت وحدها وبقية آيات السورة نزلت بعدها بمدة ما. ثم ألحقت بها وتم بذلك تأليف السورة وشخصيتها. وتكون كذلك قد نزلت لتطمين النبي عليه السلام وتثبيته، ونفي ما ظنه وخشي منه، وهو أن يكون ما رآه وسمعه حينما أوحي إليه لأول مرة مسّا من الجن حتى إنه أراد أن يلقي نفسه من شاهق الجبل على ما رواه الطبري «٢» في حديث معزو إلى عبد الله بن الزبير عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وإن لم تصح الرواية فيكون في الآيات تطمين وتثبيت من جهة، ورد
(٢) «تاريخ الطبري»، ج ٢ ص ٤٨- ٤٩ مطبعة الاستقامة.
ومما جاء في هذا الحديث عن لسان النبي صلّى الله عليه وسلم: «لما انصرف عني الملك وهببت من نومي وكأنما كتب في قلبي كتابا قال ولم يكن من خلق الله أحد أبغض إليّ من شاعر أو مجنون. كنت لا أطيق أن أنظر إليهما. قلت الأبعد يعني نفسه شاعر أو مجنون، لا تحدث بها عني قريش أبدا. لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن..».
وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢).
ويلحظ الانسجام والتلاحق بين هذه الآيات وما بعدها، وهذا قد يضعف الرواية الأولى ويسوغ القول إنها نزلت هي وما بعدها سلسلة واحدة أو متلاحقة، وإن ترتيبها كثاني سورة غير صحيح، لأن الآيات التالية لها تضمنت مشاهد تكذيبية وجدلية، وحملة تنديدية وحكاية لقول المكذبين إن القرآن أساطير الأولين، مما لا يمكن أن يكون وقع إلّا بعد نزول جملة غير يسيرة من القرآن واتصال النبي عليه السلام بالناس وتلاوته عليهم واشتباكه معهم بالجدل والحجاج.
أخلاق النبي صلّى الله عليه وسلم
والثناء من الله على خلق النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذا الأسلوب البليغ التوكيدي، ووصفه بالعظمة رائع كل الروعة، يتضاءل أمامه كل ثناء ووصف وتكريم بشري، ثم كل ما حاوله بعض المسلمين في وصف شخصيته بأوصاف تكاد تخرجه عن نطاق البشرية، مما جاء في بعض كتب السيرة والشمائل «١» على غير طائل وضرورة، وعلى غير ما صرح به القرآن من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بشر كسائر البشر في جميع الأعراض والمظاهر، ورسول قد خلت من قبله الرسل، وليس بدعا فيهم كما جاء في آية سورة الأحقاف هذه: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩)، وفي آية سورة آل عمران
والآيات من أوائل القرآن نزولا على كل حال، وهذا يعني أن الخلق العظيم الذي كان عليه النبي صلّى الله عليه وسلم، واستحق به هذا الثناء البليغ الرباني، قد كان مما تحلى به قبل البعثة، وهو الذي أهّله للاصطفاء والمهمة العظمى، والله أعلم حيث يجعل رسالته. ولقد جاء في حديث للبخاري عن عائشة أن السيدة خديجة رضي الله عنها حينما عاد إليها بعد نزول الوحي عليه لأول مرة، وقصّ عليها ما رآه وسمعه وقال لها: «إني خشيت على نفسي قالت له كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق» «١»، وجاء في الحديث الذي رواه الطبري عن عبد الله «٢» بن الزبير أنها قالت له حينما قال لها إني خشيت أن أكون شاعرا أو مجنونا: «أعيذك بالله من ذلك يا أبا القاسم، ما كان الله ليصنع ذلك بك مع ما أعلم منك من صدق حديثك وعظم أمانتك وحسن خلقك وصلة رحمك» وهذا مما يؤيد قولنا، لأن هذه الأخلاق الكريمة مما كان يتحلى به النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل بعثته.
(٢) «تاريخ الطبري» ج ٢ ص ٤٧- ٤٨.
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٥ الى ١٦]
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩)وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤)
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦)
(١) المفتون: الضال أو المنحرف.
(٢) تدهن: تلاين أو تصانع.
(٣) همّاز: عيّاب أو شتّام.
(٤) مشاء بنميم: يسعى بالنميمة.
(٥) عتلّ: جاف غليظ.
(٦) زنيم: دعيّ. ويقال للئيم زنيم أيضا.
(٧) الخرطوم: هذا التعبير خاص بالفيل والكلمة هنا على الاستعارة لفم القائل، فيكون في النار عقابا على قوله.
(٨) أساطير الأولين: الأساطير جمع أسطورة وهي مشتقة من سطر بمعنى كتب، والجملة تعني قصص الأولين وكتاباتهم.
(٩) سنسمه: مشتقة من وسم أي جعل علامة للشيء. وخاصة العلامة التي تعلم بالكيّ على جلود الأنعام وهي عادة عربية بدوية لتمييز الأنعام عن بعضها وخاصة الإبل.
شرح الآيات [٥- ١٦] من سورة القلم وما انطوى فيها من صور وتنبيهات
عبارة الآيات واضحة. وفيها حكاية لبعض ما وقع بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين الكفار ورد عليهم وتنديد بهم وتثبيت للنبي صلّى الله عليه وسلم:
فردت الآية الأولى عليهم بأن الحق لن يلبث أن يظهر ويعرف من هو المفتون، ثم وجه الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم منطويا على التثبيت بأن ربه هو الأعلم بمن هو ضالّ حقّا ومهتد حقّا.
٢- وقد أخذ بعضهم يقترح على النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يلاين فيلاينوا بالمقابلة.
والملاينة التي طلبوها على ما ذكرته الروايات «١» عدم تسفيه أحلامهم وسبّ آلهتهم، ومشاركتهم في تقاليدهم وعبادتهم، والملاينة التي وعده بها هي تركه وشأنه أو مجاراته في بعض ما يدعو إليه. وكان بعضهم يحلف له الأيمان على ذلك، فأمرته الآيات بعدم تصديقهم وعدم إطاعتهم لأنهم كاذبون.
٣- وقد أخذ بعضهم إذا ما تلا النبي القرآن يقولون إنه مقتبس من صحف الأول وقصصهم، منكرين أنه من وحي الله، معتزين بمالهم وأولادهم وقوتهم، وقد حملت الآيات حملة عنيفة على هؤلاء، فهم كاذبون مهينون، عيابون شتامون، مشاؤون بين الناس بالفساد والنميمة، مناعون للخير، غلاظ القلوب لؤماء أو مدخولو الأنساب، وقد توعدتهم الآية الأخيرة بكيّ أفواههم بالنار، جزاء ما يصدر منها من الكذب والتكذيب والافتراء والأيمان الكاذبة الخداعة. وهو وعيد مستمد من عاداتهم ليكون تأثيره أشد في نفوسهم.
والضمير في الآيات [١٠- ١٦] مفرد، وقد ذكر المفسرون «٢» اسم الأخنس ابن شريق واسم الأسود بن عبد يغوث وقالوا إنها عنت أحدهما. والآيات تبدأ بكلمة (كل). والآيات السابقة لها جاءت بصيغة الجمع ضمائر وأفعالا حيث يسوغ ذلك القول أن أسلوبها أسلوب خطابي وأنها بسبيل التعبير عن طبقة وليس عن فرد، ولو صح ما ذكره المفسرون.
وفي الوقت نفسه انطوى فيها تنبيهات عامة للنبي صلّى الله عليه وسلم، منها أن الذين هم على
(٢) المصدر نفسه.
وعلى اعتبار أن هذه الآيات مما نزل مبكرا فإن فيها تأييدا لما استدللنا عليه من آيات سورة العلق من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد سار في الدعوة علنا منذ بدئها كما هو المتبادر.
تعليق على ما في التنديد بأخلاق المتصدين لمناوأة الدعوة النبوية من تلقين مستمر المدى
ومع أن الآيات كما قلنا قبل هي بسبيل وصف أخلاق الطبقة الغنية المترفة التي تصدت لمناوأة الدعوة النبوية وأهدافها فإن فيما احتوته من تنديد بالكذب والأيمان الكاذبة والنميمة والعيب في الناس وشتمهم ومنع الخير عنهم والبغي عليهم وغلظ القلب وقسوة العاطفة تنطوي على تلقينات قرآنية جليلة مستمرة المدى بوجوب احتقار ونبذ المتصفين بهذه الصفات واجتناب هذه الصفات والأفعال الذميمة المكروهة وتنقية النفس من الأوضار. ولقد تكرر ذمّ هذه الأخلاق والصفات ومدح أضدادها في مختلف السور المكية والمدنية معا وبكثرة تغني عن التمثيل مما فيه دلالة على شدة اهتمام القرآن بالأخلاق وتقويمها على اعتبار كون أفعال الناس إنما تصدر عنها وتتأثر بها.
ونكتفي هنا بهذه الكلمة لأن التنديد بالأخلاق السيئة والتنويه بالأخلاق الحسنة سوف يتكرر في تجدد المناسبات الكثيرة الآتية.
ولقد أثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحاديث عديدة ورد بعضها في كتب الأحاديث الخمسة في الأخلاق السيئة المندد بها في الآيات. من ذلك حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن حذيفة قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لا يدخل الجزء الأول من التفسير الحديث ٢٤
«سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إنّ شرّ الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه» «٢». وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إيّاكم وسوء ذات البين فإنها الحالقة» «٣». وحديث رواه مسلم عن عبد الله قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألا أنبّئكم ما العضه هي النميمة القالة بين الناس» «٤». وحديث رواه أبو داود عن عمّار قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار» «٥». وحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة قال: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنّ من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حقّ ومن الكبائر السبّتان بالسّبة» «٦». وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي برزة قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم فإنه من اتّبع عوراتهم يتّبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته» «٧». وحديث رواه الترمذي عن عبد الله قال: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: ليس المؤمن بالطّعّان ولا اللّعّان ولا الفاحش ولا البذيء» «٨». وحديث رواه أبو داود عن سفيان بن أسيد قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كبرت خيانة أن تحدّث أخاك حديثا هو لك به مصدّق وأنت له به كاذب» «٩». وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلّة منهنّ كانت فيه خلّة من نفاق حتى يدعها إذا
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه. [.....]
(٥) المصدر نفسه ص ٢٣- ٣٩.
(٦) المصدر نفسه.
(٧) المصدر نفسه.
(٨) المصدر نفسه.
(٩) المصدر نفسه.
وحديث رواه أبو داود عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لمّا عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» «٢». وحديث رواه الشيخان والترمذي عن حارثة بن وهب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أخبركم بأهل الجنة، كلّ ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبرّه. ألا أخبركم بأهل النار كلّ عتلّ جوّاظ مستكبر» «٣». وحديث رواه الترمذي عن الزبير بن العوام أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «دبّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدّين. والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابّوا. ألا أنبّئكم بما يثبت ذاكم لكم أفشوا السلام بينكم» «٤».
وهكذا يتساوق التلقين القرآني مع التلقين القرآني في التنديد بالأخلاق السيئة. وهذا ليس كل ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فهناك أحاديث كثيرة من بابها وردت في كتب ومساند أئمة آخرين فاكتفينا بما أوردناه نقلا من الكتب الخمسة. وهناك أحاديث أخرى في هذه الكتب سنوردها في مناسبات أكثر ملاءمة.
تعليق ثان على موقف المناوأة الذي وقفه الزعماء والأغنياء
ووصف الكذاب الحلاف بذي مال وبنين يدل على أن الذين وقفوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه المواقف وطلبوا منه المداهنة ونعتوه بالضلال هم بصراحة من ذوي اليسار. وفي الآيات صورة ثانية من صور مواقف زعماء الكفار من الدعوة النبوية منذ بدئها كرد فعل لما كان يتلوه النبي صلّى الله عليه وسلّم من آيات وسور قرآنية فيها دعوة ملحة
(٢) المصدر نفسه، ص ٢٥- ٢٧.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه.
تعليق على مفاوضات وعروض زعماء قريش على النبي صلّى الله عليه وسلم
وآية وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم/ ٩] «١» صريحة بأنها تحكي رغبة بعض الزعماء في ملاينة النبي صلّى الله عليه وسلّم معهم ومجاراته لهم حتى يقابلوه بالمثل. وقد ذكر بعض المفسرين أنهم طلبوا منه ذكر آلهتهم بالخير أو السكوت عنها، حتى يستمعوا إليه ويجاروه في بعض ما يطلب. ومن الجدير بالذكر في هذه المناسبة أن هذا لم يبق وحيدا. بل تكرر في ظروف عديدة في العهد المكي، على ما أشارت إليه بعض الآيات وروته بعض الروايات مما فيه صورة خطيرة من صور السيرة النبوية في هذا العهد.
ولقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم منذ البدء- وظل- شديد الحرص على هداية قومه شديد الحزن من انقباضهم عن دعوته وبخاصة الزعماء، لأنهم يسدون الطريق أمام السواد الأعظم من العرب على ما ذكرناه قبل قليل. فكان بعض الزعماء يستغلون هذه العاطفة ويعرضون عليه مباشرة أو بواسطة عمه أبي طالب بعض العروض والاقتراحات بسبيل تبادل الملاينة والمسايرة.
من ذلك ما تضمنت الإشارة إليه آيات سورة الإسراء هذه: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (٧٣) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (٧٤)، وقد روى المفسرون «٢» في صددها روايات عديدة، منها أن فريقا من زعماء قريش اقترحوا عليه السكوت عن شتم آلهتهم وتسفيه أحلامهم ليحاسنوه ويسايروه. ومنها أنهم طلبوا منه الإبقاء على
(٢) المصدر نفسه.
وفي سورة يونس هذه الآية: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥)، وقد روى المفسرون «١» أنهم طلبوا منه قرآنا خاليا من الحملة عليهم وعلى شركائهم.
ولقد روى ابن هشام «٢» أن زعماء قريش جاءوا إلى أبي طالب متذمرين أكثر من مرة، طالبين منه ردع ابن أخيه عن شتم آلهتهم وتسفيه عقولهم. ومما قالوه له في إحدى المرات وكان حاضرا في مجلسهم: إننا نحب أن يسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا. وفي إحدى المرات قال لعمه: أريد منهم أن يعطوني كلمة يملكون بها العرب ويدين لهم بها العجم فقالوا له: نعم وأبيك وعشر كلمات، قال تقولون: لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون من دونه. فصفقوا وقال بعضهم لبعض: ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا.
وفي سورتي الأنعام والكهف آيات تلهم نصوصها وما رواه المفسرون في صددها «٣» أن الزعماء كانوا يقترحون عليه طرد الفقراء والمساكين من حوله إذا كان يريد منهم أن يجلسوا إليه ويستمعوا منه ويستجيبوا له، ويتمجحون بهم لعدم استجابتهم لدعوته وهي هذه:
١- وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ
(٢) ابن هشام ج ١ ص ٢٨٢- ٢٨٥ وج ٢ ص ٢٦- ٢٨.
(٣) المصدر السابق نفسه. [.....]
٢- وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) [الكهف: ٢٨].
وقد تضمنت الآيات تحذير النبي صلى الله عليه وسلّم من الاستجابة لاقتراحات زعماء الكفار، وبإغداق عطفه واهتمامه على أصحابه الذين آمنوا به والتفوا حوله مهما كانت طبقتهم الاجتماعية لأنهم أظهروا من صدق الرغبة في الإيمان والاتجاه إلى الله وحده ما رفع شأنهم وقدرهم عند الله. وفي الآيات من التلقين الجليل ما هو ظاهر.
هذا، وجنوح الزعماء إلى طلب المداهنة والملاينة من النبي صلّى الله عليه وسلم، ووعدهم بالمقابلة بالمثل منذ عهد مبكر، واستمرارهم على ذلك يدل على أنهم لم يكونوا يجدون في أنفسهم من القوة ما يستطيعون به إرغامه على الكف عن دعوته والاعتدال في تنديداته وحملاته، كما يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان لديه من الجرأة والقوة الروحية والاستغراق في الله ما يجعله غير مبال بما كان عليه الزعماء من قوة ومال وكثرة، وما يجعله يظل يقذف بنذر القرآن وحملاته في وجوههم ويقرع بها آذانهم منذ بدء الدعوة، ويدل في الوقت نفسه على أن الزعماء يعرفون ذلك، وفي هذا ما فيه من العظمة وبليغ الأسوة.
ولقد قلنا قبل إن هذه الآيات لا بد من أن تكون نزلت بعد طائفة من السور التي فيها مبادئ الدعوة من وحدانية الله تعالى وإيجاب اختصاصه وحده بالعبادة والدعاء وترك كل ما عداه والإيمان باليوم الآخر وإيجاب الأعمال والأخلاق الحسنة وتجنب الأعمال والأخلاق السيئة وعدم الاستغراق في حب المال واكتنازه وإيجاب البر بالمساكين والفقراء والإنفاق على سبل الخير المختلفة إلخ.. ومعنى
وفي هذا ما فيه روعة وتلقين جليل مستمر المدى.
تعليق على جملة أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ
وجملة أساطير الأولين قد تكررت كثيرا في القرآن حكاية لزعم الكفار عن القرآن، وهذه الجملة أو بتعبير أدق كلمة أساطير تعني الآن القصص التي لا تستند إلى أصل أو يشوبها الغلو أو الخرافة. غير أن الذي يتبادر لنا أن استعمالها في القرآن لم يكن لهذا المعنى فقط، وإنما كان أيضا لمقصد الإشارة إلى كتب الأولين وصحفهم، بما في ذلك كتب النصارى واليهود التي كانت متداولة. وفي سورة الفرقان آية قد تؤيد ذلك حيث جاء فيها: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٥)، وحيث أراد الكفار أن يقولوا إن ما يتلوه النبي صلّى الله عليه وسلّم قد اقتبسه واستكتبه وحفظه من الكتب الأولى المتداولة وليس وحيا.
والجملة في السورة تدل في حد ذاتها على أن ما نزل من القرآن قبل هذه الآيات كان شيئا غير يسير حيث رأى الكفار فيه من التطابق والمواضيع، ما سوغ لهم هذا القول وتؤيد ما قلناه في صدد ترتيب هذه السورة.
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ١٧ الى ٣٣]
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١)
أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١)
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣)
(٢) الصرم: القطف أو القطع.
(٣) مصبحين: في الصباح الباكر.
(٤) لا يستثنون: لا يقولون إن شاء الله بعد القسم.
(٥) فطاف عليها طائف من ربك: كناية عن بلاء رباني أصاب ثمر الجنة فأيبسه وجعله كالصريم أي كالمقطوف.
(٦) حرثكم: هنا بمعنى بستانكم.
(٧) يتخافتون: يتهامسون.
(٨) حرد: شدة التصميم أو سوء النية والقصد.
(٩) ضالون: هنا بمعنى حائرون أو تائهون.
(١٠) أوسطهم: أعقلهم وأرشدهم.
(١١) ظالمين: وردت كلمة الظلم في القرآن كثيرا وفي معان عديدة، منها الجور ضد العدل. ومنها الانحراف عن طريق الحق. ومنها الجناية على النفس والإضرار بالنفس والغير. ومنها العدوان والبغي على الغير. ومنها الإجرام. ومنها النقص والبخس. وهي هنا بمعنى الجناية على النفس.
(١٢) يتلاومون: يلوم بعضهم بعضا.
(١٣) طاغين: متجاوزين الحد في البغي والتمرد.
هذه الآيات تحكي قصة جماعة كان لهم بستان، أقسموا على قطف ثمره دون أن يقولوا إن شاء الله، وصمموا على حرمان الفقراء منه وغدوا مصبحين إلى تنفيذ عزيمتهم معتمدين على قدرتهم، فسلط الله على الثمر بلاء جعله كالمقطوف عقابا لهم
وقد ابتدأت الآيات بما يفهم منه أن الله قد امتحن المكذبين بما امتحن به أصحاب البستان، وانتهت بالتنويه بعذاب الله الشديد الذي يحل بالظالمين الجاحدين لنعمة الله في الدنيا وبالوعيد بعذاب الآخرة الذي ينتظرهم والذي هو أشد وأكبر.
تعليق على قصة البستان وهدفها
وقد روى المفسرون «١» أن البستان المذكور في القصة كان في اليمن والحبشة، وذكر بعضهم أنه كان لرجل من ثقيف، وأنه كان يترك ما يسقط من الثمر للفقراء، فلما مات وورثه أبناؤه قالوا إن أبانا لأحمق، وصمموا على حرمان الفقراء من ذلك. وبعبارة أخرى إن الحكاية لحادث واقعي. وروح الآيات ومضمونها يلهمان ذلك ويلهمان أيضا أن الحادث مما كان معروفا عند السامعين.
وضمير بَلَوْناهُمْ راجع مباشرة إلى المكذبين الذين حكت الآيات السابقة موقفهم وهم زعماء قريش كما هو المتبادر، وفي ذلك قرينة على أنهم كانوا يعرفون قصة البستان.
وواضح أن القصة أوردت في معرض التذكير والمثل. وهذا شأن جميع القصص والأمثال القرآنية والأسلوب القرآني في ذلك من خصوصيات القرآن،
والمصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أن هذه الآيات مدنية، غير أننا نلاحظ أولا: أنها منسجمة مع ما قبلها وما بعدها كأنما جميعها في سياق واحد وموضوع واحد. وثانيا: أن مضمونها يلهم كون المثل موجها إلى الناس في مبادئ الدعوة وعهد النبوة. وثالثا أن الضمير في بَلَوْناهُمْ راجع إلى الذين كانوا موضوع الآيات السابقة مما ينطوي فيه الاتصال بين هذه الآيات وسابقاتها. ورابعا أن أسلوبها وطابعها أكثر شبها لأسلوب وطابع الآيات المكية ولذلك فإننا نتوقف في صحة الرواية، وإذا صحت ملاحظاتنا فتكون هذه القصة أولى القصص القرآنية نزولا والله أعلم.
ونقول في هذه المناسبة إن القرآن قد احتوى كثيرا من القصص بأساليب متنوعة، مسهبة حينا ومقتضبة حينا وبإشارات خاطفة حينا، منها قصص خاصة بحياة وسيرة أنبياء الله ورسله، ومنها مزيجة بين حياة وسيرة أنبياء الله ورسله وما جرى بينهم وبين أقوامهم أو الذين أرسلوا إليهم ونتائجه. ومنها قصص أشخاص أو جماعات غير أنبياء. ومن هذه القصص ما ورد جزئيا أو كليا أو مباينا بعض الشيء مع التوافق في أمور. وفي الأسماء في الأسفار التي يتداولها اليهود
تعليق على روايات الآيات المدنية في السور المكية
وبمناسبة ذكر رواية مدنية الآيات المذكورة لأول مرة نقول: إن هناك روايات عديدة عن وجود آيات مدنية في السور المكية. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي مدنية [١٤٧] آية في [٣٤] سورة مكية، وهناك روايات تزيد في عدد الآيات وأخرى تنقص منها.
والمتدبر في الآيات يرى طابع العهد المكي وصوره وأحداثه بارزا على معظمها، كما يرى انسجام معظمها انسجاما تاما في السياق والمضمون بل والنظم مع ما قبلها وما بعدها، ولا يستبين الحكمة في وضعها لو كانت مدنية حقا بحيث يسوغ الشك والتوقف في صحة الروايات التي تروي مدنيتها وتروي أسباب نزولها في المدينة، إلا إذا فرض أن تكون حكمة التنزيل اقتضت تدعيم السياق المكي بها وهو فرض لا يمكن أن تطمئن النفس به. ومن الجدير بالذكر أن معظم الروايات ليست أحاديث نبوية أو صحابية موثقة ومسندة على أسلوب توثيق الأحاديث وإسنادها. ومما يرد على البال تعليلا لها أن الآيات المكية ذكرت أو استشهد بها بمناسبة بعض أحداث جرت في المدينة وكان بعضهم قد نسيها فالتبس عليهم الأمر وظنوها آيات مدنية.
والكلام ينطبق كما قلنا على معظم الآيات، وهناك بضع آيات في بعض السور المكية تستثنى من ذلك يسوغ طابعها ومضمونها الجزم بصحة رواية مدنيتها.
وقد وضعت في السياق المناسب لمضمونها على ما سوف نشرحه في مناسباتها.
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٣٤ الى ٤٣]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨)أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣)
. (١) تدرسون: تقرءون أو تتعلمون أو تعلمون منه.
(٢) تخيرون: تتخيرون وتختارون.
(٣) أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة: بمعنى هل لكم عهد من الله بالنجاة مستمر وشامل ليوم القيامة.
(٤) زعيم: كفيل أو ضامن أو مؤيد.
(٥) يوم يكشف عن ساق: كناية عن وقت اشتداد الخطب، حيث كان من عادة العرب إذا اشتدت معركة الحرب أن يكشفوا عن سيقانهم، وهنا يعني يوم القيامة واشتداد الخطب فيه.
(٦) ترهقهم: تلحقهم أو تزعجهم أو تحيق بهم.
في هذه الآيات:
١- تقرير تبشيري بما للمتقين المصدقين عند ربهم من النعيم في جناته.
٢- تساؤل على سبيل الإنكار عما إذا كان يصح أن يجعل الله المسلمين كالمجرمين في اليوم الآخر.
٣- أسئلة فيها تحد وتهكم موجهة للمكذبين: فهل يظنون أن الله حقا يمكن أن يجعل المسلمين كالمجرمين؟ وبأي وجه يحكمون بصحة هذا الظن وهل عندهم كتاب من الله يستندون إليه ويعلمون أن لهم في ذلك اليوم ما يشتهون ويختارون؟ وهل عندهم عهد من الله مستمر وشامل ليوم القيامة بأن لهم فيه ما يبتغون ويحكمون؟.
٥- وحكاية لما سوف يكون من أمرهم يوم القيامة على سبيل الإنذار والتحدي والتبكيت: فحينما يشتد خطب ذلك اليوم عليهم، وتستدعي حالة الخطر المحيق بهم أن يسارعوا إلى السجود طلبا لغفران الله فلسوف يعجزون. لأنهم أضاعوا الفرصة التي سنحت لهم حينما كانوا يؤمرون بالسجود وهم في متسع من الوقت والسلامة فلا يسجدون ولسوف تكون أبصارهم حينئذ خاشعة من الرعب والخوف وقد حاقت بهم الذلة والهوان.
والآيات متصلة بالسياق السابق، وهي استمرار له، وتعقيب على المثل المضروب في القصة كما هو المتبادر.
وروح الآيات تلهم أن القصد من المتقين هم الذين آمنوا واستجابوا للدعوة، فوقوا أنفسهم من غضب الله وأن القصد من المجرمين هم الذين جحدوا وتمردوا وناوأوا. وتلهم كذلك أن الكفار كانوا يزعمون أنهم في عقائدهم وتقاليدهم على حق. ولعل هذا الزعم متصل بما كان العرب يعرفونه ويقولون به من صلة تقاليدهم الدينية بإبراهيم عليه السلام وملته وصحفه.
وورود ضمير الجمع للمخاطب، وأمر النبي عليه السلام بتوجيه الأسئلة والتحدي يمكن أن يلهما أن الموقف كان موقف مواجهة ومناظرة، أو نتج عنه مواجهة ومناظرة وأن الكفار كانوا يصرون على صحة عقائدهم واتصالهم بتعاليم ربانية.
وحكاية مثل هذا الموقف تكررت كثيرا في القرآن مما يؤيد تكرر مواقف المناظرة والجدل والنقاش والحجاج الوجاهي بين النبي صلّى الله عليه وسلّم والكفار من حين لآخر، مما هو طبيعي في نشر الدعوة.
والإشارة الخاطفة إلى الجنات الأخروية يمكن أن تدل على أن ذكرها هنا يأتي لأول مرة. وبهذه المناسبة نقول: إن الجنات في القرآن جعلت عنوانا لما سيناله المؤمنون الصالحون من النعيم في الآخرة. فالناس في الدنيا وخاصة سامعي القرآن الأولين قد اعتادوا أن يجدوا اللذة والمتعة في الجنات والبساتين، وما فيها من أشجار وأزهار ومياه وظلال وثمار. وفي إقامة مجالس الأكل والشرب واللهو فيها، فاقتضت حكمة الله أن يوعد المؤمنون الصالحون منهم بأحسن ما اعتاد الناس أن يتمتعوا به في الدنيا وتصبو إليه نفوسهم. وقد وصفت في آيات كثيرة من القرآن بأوصاف وتشبيهات مألوفة في الدنيا تتناولها مفهوماتهم، وتشعر بها حواسهم.
ونقول هنا ما قلناه في سياق الحياة الأخروية من أن الإيمان بما جاء في القرآن من مشاهد الجنة والنعيم وكون ذلك في نطاق قدرة الله تعالى واجب مع واجب الإيمان بأنه لا بد من ذكره بالأسلوب الذي ذكر به حكمة ولعل قصد التقريب للأذهان والتأثير في النفوس والتطمين والبشرى من هذه الحكمة.
ولقد أثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في وصف الجنة ونعيمها وأهلها ومشاهدها أحاديث كثيرة جدا. منها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة، ومنها ما رواه أئمة معروفون من علماء الحديث. وقد رأينا أن نورد بعض ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة هنا على سبيل التمثيل ونرجىء بعضا آخر إلى مناسبات آتية أكثر ملاءمة. فمن ذلك حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «قلت يا رسول الله ممّا خلق الخلق؟ قال:
من الماء. قلنا الجنة ما بناؤها؟ قال: لبنة من فضة ولبنة من ذهب وملاطها المسك الأذفر وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت. وتربتها الزعفران من دخلها ينعم ولا يبؤس.
ويخلّد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم. ثم قال ثلاثة لا تردّ دعوتهم، الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم. يرفعها فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الربّ عزّ وجل: وعزّتي لأنصرنّك ولو بعد حين» «١». وحديث
وحديث رواه الترمذي عن علي قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنّ في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها فقام إليه أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال: هي لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصّيام وصلّى لله بالليل والناس نيام» «٢»، وحديث رواه مسلم عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنّ في الجنة لسوقا يأتونها كلّ جمعة فتهبّ ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فيقول لهم أهلوهم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا فيقولون وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا» «٣». وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن في الجنة سوقا إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ثمّ يؤذن في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون ربّهم ويبرز لهم عرشه ويتبدّى لهم في روضة من رياض الجنة فيوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من ياقوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم من دنيء على كثبان المسك والكافور وما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا» «٤». وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم» «٥». وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر ص ٣٧١- ٣٧٥.
(٥) المصدر نفسه.
وواضح من هذه الأمثلة أن الأحاديث النبوية في الجنة متساوقة مع الآيات القرآنية الكثيرة في وصف مشاهد الجنة بأحسن المشاهد الدنيوية. والإيمان بما يثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك وكونه في نطاق قدرة الله تعالى واجب مثل ما هو واجب بالنسبة للقرآن. مع الإيمان بأنه لا بدّ لذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به من حكمة. ويلمح في الأحاديث كما يلمح في الآيات أن من تلك الحكمة التبشير والتطمين وإثارة الرغبة في التقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال.
ولقد حاول الأغيار أن يجدوا في جنات القرآن مغمزا بالدين الإسلامي، بزعم أن ذلك يثير الأنانية والطمع في المسلمين، ويجعلهم لا يفعلون الصالحات إلّا رغبة في الأجر الشخصي، ويخرج صفة الحياة الأخروية من نطاقها الروحاني التجريدي. أما إثارة الطمع والأنانية فالبداهة تقضي بأن تكون الحياة الأخروية وجناتها قاضية عليها. لأن الإنسان الذي يؤمن بأنه إذا آمن واتقى وعمل الصالحات واصل إلى أعلى ما تصبو إليه نفسه من لذة ونعيم في الحياة الأخرى يستطيع أن يوطن النفس على التضحيات المتنوعة في المال والنفس، وعلى القناعة والغيرية وأعمال البرّ، دون أن ينتظر جزاء ماديا معجلا في الحياة الدنيا. وأما النطاق الروحاني التجريدي فإن القرآن قد جرى فيما قرره في كل شأن مع طبائع الأمور وحقائقها.
والدين الإسلامي من أجل هذا صح أن يكون دين الخلود والإنسانية العام.
وما جاء في القرآن من صفات الجنات ونعيمها قد جرى في هذا النطاق. على أنه لم يقصر ما سوف يتمتع به المؤمن الصالح في الحياة الأخروية على الجنات بل
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥)، وفي آية التوبة هذه: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢). وفي آيات السجدة هذه: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧). وفي آيات سورة الفجر هذه: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠).
تعليق على كلمة المسلمين
وبمناسبة ورود كلمة المسلمين في الآية [٣٥] التي صارت علما على المؤمنين برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأول مرة نقول: إن الكلمة ومشتقاتها ومصدرها قد تكرر كثيرا في القرآن. وقد عنت إسلام النفس لله تعالى كما جاءت علما على الدين الصحيح إطلاقا، ووصف بها الذين يؤمنون بالله وحده وكتبه ورسله إطلاقا كما جاء في آيات سورة البقرة هذه: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [١٢٨] وإِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣)، وقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما الجزء الأول من التفسير الحديث ٢٥
فكل من تجرد عما سوى الله وحده وتحرر من الخضوع لغيره وأسلم وجهه ونفسه وانقاد له ولزم حدوده فهو مسلم. وفي هذا المعنى من الروعة والنفوذ والعمق في مجال توحيد الله والإخلاص له والتفاني فيه، وتحرر النفس من غيره ما هو واضح، وما يثير في أتباع محمد صلى الله عليه وسلّم الاعتزاز بهذا المعنى للإسلام الذي أصبح علما عليهم منذ العهد النبوي إلى أبد الآبدين.
أما علمية كلمة (المسلمين) عليهم فقد تقررت فيما نعتقد بعد نزول آية الحج هذه: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨). وهذه السورة مختلف في مكيتها ومدنيتها ولكن مضامينها تلهم بقوة أنها مكية أضيف إليها آيات مدنية، اقتضت إضافتها المناسبات على ما سوف نشرحه عند تفسيرها، وهذه الآية هي من الآيات المكية على ما يلهم سياقها، وهذا يعني- إذا صح- أن العلمية تقررت في العهد المكي، ثم جاءت آية سورة المائدة المدنية الثالثة التي جاء فيها:... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً... لتكون علما على دين المسلمين.
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥)(١) الاستدراج: التوريط في الأمر درجة بعد درجة.
(٢) الإملاء: الإمداد والإمهال.
(٣) الكيد: التدبير ضد العدو ونكايته.
(٤) متين: قوي أو شديد.
الآيتان استمرار في حملة التقريع كسابقاتهما مع تطمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتقوية له وإنذار للمكذبين. والخطاب موجه إليه: فليترك لله الذين يكذبون بالقرآن ولا يغتر بما يتمتعون به من قوة ومال، فإن الله إنما يفعل ذلك استدراجا لهم من حيث لا يعلمون وإملاء، وإن كيده لقوي شديد، ولسوف يحيط بهم.
تعليق على آيتي سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ووَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ
وصيغة هاتين الآيتين قد تكررت في مواضع أخرى في مقامات مماثلة للمقام الذي جاءتا فيه. والمتبادر من روحهما أن تعابير سَنَسْتَدْرِجُهُمْ ووَ أُمْلِي لَهُمْ وكَيْدِي هي تعابير أسلوبية مألوفة في الخطاب البشري ثم في الكلام العربي.
ولا محل للتوهم بأنها تعني أن الله يصبر على الكفار المكذبين بقصد توريطهم ويمد لهم بقصد بث الاغترار فيهم، أو أنه يكيد لخلقه كيدا. فإنه سبحانه منزّه عن ذلك كله. وقد وقع من الكفار التكذيب ووقفوا موقف الجحود والتمرد والمناوأة والصد عن سبيل الله فاستحقوا النكال والعذاب. والتعابير إلى هذا تنطوي على تطمين النبي صلّى الله عليه وسلّم وتثبيته وتقويته وإنذار للكفار المكذبين كما قلنا.
وهناك آيات فيها تعليل لعدم التعجيل بعذاب أمثال هؤلاء والاكتفاء بمثل هذه
وهناك حديث يرويه الشيخان والترمذي وأبو داود يصح أن يساق في هذا المقام عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» «١».
ويتبادر من ذلك كله أن حكمة الله تعالى اقتضت أن يمنح الكفار والمكذبون والبغاة الفرصة لعلهم يرتدعون ويرعوون فإذا أضاعوها واستمروا في غيهم وبغيهم استحقوا النكال في الدنيا أو في الآخرة أو في الدنيا والآخرة معا حسب مشيئة الله تعالى. وجملة: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ [٥٨] في آية الكهف ذات دلالة جليلة في المدى المتبادر.
والآيات في ذات الوقت تسجيل للحالة التي كان عليها الكفار المكذبون حين نزولها، ومن المعلوم اليقيني أن كثيرا منهم قد آمن بعد نزولها قبل الفتح المكي أو بعده فظهر مصداق حكمة الله المتبادرة، والله تعالى أعلم.
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧)
. (١) المغرم: التكليف المالي أو الدين أو المخسر.
(٢) يكتبون: هنا بمعنى يقضون أو يقررون ما يريدون.
والآيتان أيضا استمرار في السياق، والخطاب فيهما موجه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم
نفي طمع النبي صلّى الله عليه وسلّم في أجر على رسالته:
وأسلوب الآيتين منطو على التنديد بالمكذبين على تصاممهم عن الدعوة وعدم مبالاتهم، كما هو منطو على الإنذار كما هو المتبادر. كذلك فإنه منطو على نفي طلب النبي صلّى الله عليه وسلّم أو طمعه في أجر أو مكافأة على مهمته العظمى، وقد تكرر في القرآن أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بإعلانه ذلك في معرض الدعوة والتنديد، ثم في معرض التدليل على صدق الدعوة والإخلاص لها إخلاصا مجردا من أي غاية خاصة إلّا واجب القيام بأمر الله ورغبة هدايتهم إلى الله ومكارم الأخلاق، وتأمين أسباب السعادة لهم في الدنيا والآخرة وإنذارهم بالعواقب الوخيمة لعدم استجابتهم مثل آيات سورة سبأ هذه: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩). وآية سورة الفرقان هذه: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا (٥٧).
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٤٨ الى ٥٠]
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠)
[٥٠- ٤٨].
(١) صاحب الحوت هو النبي يونس كما ذكرت ذلك آيات أخرى بصراحة.
(٣) نبذ: ألقي مهملا.
(٤) العراء: الأرض العارية من الشجر.
(٥) مذموم: سيء الذكر والعاقبة.
(٦) اجتباه: اختاره وقرّبه وتاب عليه.
الآيات موجهة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيها:
١- أمر بالصبر إلى أن يتم أمر الله وحكمه.
٢- ونهي عن أن يكون كصاحب الحوت الذي ضاق ذرعه ولم يطق صبرا على تكذيب أمته له.
٣- وإشارة خاطفة إلى ما كان من عاقبته حيث استغاث الله وناداه فعطف عليه وتداركته نعمته واجتباه وجعله من الصالحين. ولولا ذلك لألقاه الحوت إلى الأرض العارية منبوذا مذموما.
والآيات استمرار للسياق كما هو واضح. وفيها صورة مما كان يطرأ على النبي صلّى الله عليه وسلّم من أزمات وضيق صدر من موقف الصدّ والتكذيب والمناوأة الذي أخذ يواجهه منذ أوائل الدعوة. وقد تكررت الإشارات القرآنية إلى مثل هذه الصورة كما تكررت الأوامر القرآنية للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالصبر والثبات «١».
والإشارة إلى صاحب الحوت هي أولى الإشارات القرآنية إلى الأنبياء وقصصهم لأن صاحب الحوت هو النبي يونس على ما ذكر ذلك بصراحة في سورة الصافات. ثم توالت الفصول القرآنية في قصص الأنبياء وأقوامهم. ومعظمها تكرر وروده أكثر من مرة مقتضبا في مكان مسهبا في مكان آخر حتى شغلت حيزا غير قليل من القرآن وخاصة المكي منه. واقتضاب الإشارة وخاصة الاكتفاء بالإشارة الضمنية إلى النبي يونس بتعبير صاحب الحوت يدلان على أن قصة يونس لم تكن
وملخص ما ورد في السفر المذكور وهو متطابق إجمالا مع ما ورد في القرآن أن الله تعالى أمر يونان بن امتاي «١» بإنذار أهل نينوى بعذاب الله ولكنه هرب من وجه الرب إلى يافا ليبحر إلى ترشيش فركب سفينة فثارت زوبعة عظيمة فخاف الملاحون وألقوا أثقالهم ثم اقترعوا على إلقاء بعضهم على أمل أن يلقوا من كان الشر بسببه فوقعت القرعة عليه وحثهم على إلقائه قائلا إن الزوبعة ثارت من أجلي فألقوه فوقفت الزوبعة. وابتلع يونان حوت عظيم وبقي في بطنه ثلاثة أيام وكان يصلي لله ويستغيث به فاستجاب الله له وأمر الحوت بقذفه من جوفه ثم أمره بالذهاب إلى نينوى ثانية فلما جاءهم وأنذرهم آمنوا فكشف الله عنهم الشر الذي كان يوشك أن ينزل بهم.
أهداف القصص القرآنية
والإشارة إلى صاحب الحوت هنا وردت في معرض التمثيل والتحذير والتثبيت حتى لا يضيق صدر النبي صلّى الله عليه وسلّم بموقف التكذيب واللجاج الذي وقفه قومه منه. وهذا ما استهدفته قصص الأنبياء في القرآن التي يلحظ أنها استهدفت ثلاثة أهداف:
الأول: تثبيت النبي عليه السلام ودعوته إلى التأسي كما هو في الآيات التي نحن في صددها وكما ذكر في آيات كثيرة منها آيات سورة الأنعام هذه: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ
والثاني: إنذار الكفار وتذكيرهم بما حل بمن سبقهم من الجاحدين المكذبين الصادين كما ذكر في آيات كثيرة منها آيات سورة العنكبوت هذه: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠).
والثالث: تطمين وتبشير المسلمين بما كان من عاقبة كل من المؤمنين والكفار من الأمم السابقة حيث أهلك الله الكفار ونصر ونجى المسلمين ودعوتهم إلى التأسي بما كان من صبر الأنبياء والمؤمنين السابقين وثباتهم على دين الله كما ذكر في آيات كثيرة منها آيات سورة هود هذه: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨).
ومجمل الأهداف الثلاثة هو العبرة والموعظة والتطمين والتسلية والتنديد والإنذار، وفي القرآن آيات كثيرة أخرى تتضمن تقرير هدف القصص القرآنية في نطاق ذلك منها آية سورة الأعراف هذه: تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١). وآية سورة هود هذه: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠)، وآية سورة
ولقد قلنا إن قصة يونس لم تكن غريبة عن سامعي القرآن، وهذا يطّرد في القصص القرآنية عامة على ما سوف نبينه في مناسباته. وآيات العنكبوت تنطوي على دليل قوي على ذلك إذا ما أنعم القارئ النظر فيها. وهناك آيات عديدة أخرى تفيد ذلك منها آية سورة الأنبياء هذه: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥)، وآية سورة القصص هذه: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى [٤٨]. حيث يمكن أن يقال إن حكمة الله اقتضت أن تكون القصص معروفة من قبل السامعين جزئيا أو كليا لتكون العبرة والعظة والإلزام والإفحام أشد، لأن الناس يتأثرون بالأمثال التي يعرفونها، والأحداث التي يعلمون نبأها.
ولقد سبق الآيات التي نحن في صددها آيات تنديدية وإنذارية، كما لحقتها آيتان فيهما تنديد وتثبيت أيضا. وهذا مؤيد لكون الهدف هو التثبيت والتحذير.
وقد جرى القرآن على هذا الأسلوب في معظم الفصول التي وردت فيها قصص الأنبياء، بل إن هذا في هذه الفصول أوفى وأظهر، مما هو مؤيد لفكرة الهدف من جهة ومظهر من مظاهر الانسجام في النظم القرآني من جهة ثانية، ودليل على أن القصص القرآنية لم ترد لماهيتها التاريخية من جهة ثالثة.
ولقد قلنا إن معظم قصص الأنبياء وأقوامهم قد تكررت في القرآن وتنوعت أساليبها ومنها ما تكرر مرارا عديدة، وقد غمز المغرضون من المبشرين والمستشرقين القرآن بسبب ذلك وبسبب تكراره الفصول التدعيمية الأخرى كمشاهد الكون ومشاهد الآخرة والحجج والبراهين. وردا على ذلك نقول إن الفصول القصصية لم تكن للسرد التاريخي وإنما هي للوعظ والعبرة ولقد كانت اتصالات النبي صلّى الله عليه وسلّم بمختلف طبقات الناس والمناسبات والأوقات مستمرة متجددة. وكانت متنوعة في ظروفها وأشخاصها. فمن الطبيعي أن تتماثل الفصول القرآنية التي كانت تتلى بوحي الله على مختلف الطبقات وفي مختلف المناسبات والأوقات بسبيل
وهناك نقطة أخرى يحسن أن نشير إليها، وهي أن المفسرين يجنحون إلى القول أو الظن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يعلم شيئا من القصص التي كان يوحى إليه بها قبل نزولها. ولسنا نرى هذا وجيها لا من وجهة نظر الوحي القرآني ولا من وجهة نظر النبوة. فالنبي صلّى الله عليه وسلّم كان يعيش قبل نزول الوحي عليه في بيئة فيها كتابيون يروون ما في كتبهم من قصص ويتداولونها والروايات العديدة تذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتصل بهم ويسمع منهم ما في كتبهم. وتجار وغير تجار كانوا يرحلون إلى البلاد المجاورة للجزيرة يسمعون من أهلها مختلف الأنباء والأخبار والقصص.
والنبي صلّى الله عليه وسلّم نفسه قام ببعض الأسفار إلى بعض هذه البلاد كما هو ثابت ثبوتا في درجة اليقين. ورواة العرب يروون ما يتناقله الأجيال من أخبار وأحداث وقصص عربية. فليس من المعقول ولا من الطبيعي أن يقال إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يجهل هذه القصص كليا أو جزئيا. ونقول هنا ما قلناه قبل قليل إن ذلك آت من سوء فهم كنه
ويورد الذين يقولون ذلك القول بعض آيات وردت في سياق بعض القصص منها آية سورة هود هذه في سياق قصة نوح: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا [٤٩]، وآية سورة آل عمران هذه في سياق قصة مريم: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)، وآية سورة يوسف في سياق قصة يوسف وإخوته: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢). وقصتا نوح ويوسف وردتا متصلتين في سفر التكوين وبين ما ورد في هذا السفر وما ورد في القرآن تطابق كثير. وهذا السفر كان مما يتداوله الكتابيون. وكان العرب يعرفون قصة نوح واتخذوا أصنام قومه التي ذكرها الله في سورة نوح أصناما لهم على ما سوف نشرحه في سياقها. فلا يصح أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم وقومه لم يعرفوا شيئا من هذه القصص الثلاث، وليس من مناص إزاء الواقع من تخريج الآيات بما يزيل الإشكال ويتفق معه. وقد رأينا الخازن يعلق على آية هود فيقول: إن هذه القصة مشهورة وإنه ليس مما يحتمل أن لا تكون معروفة. وإنه يجب صرف الآية على محمل قصد عدم معرفة النبي وقومه بجميع تفصيلاتها، وفي هذا التعليق وجاهة ظاهرة كما أنه لا معدى عنه أو عن ما يقاربه كصرف كلمة (الغيب) إلى معنى الزمن البعيد غير المشاهد أو الذي صار في طيات الدهر.
ومما يصح إضافته إلى الآيات العديدة التي احتوت دلائل وقرائن على أن السامعين كانوا يعرفون أخبار الأمم والأنبياء التي تتلى عليهم في القرآن على سبيل العظة والتذكر أن المفسرين قد أوردوا بيانات كثيرة في سياق كل قصة من القصص مسهبة حينا ومقتضبة حينا معزوة إلى علماء الأخبار إطلاقا حينا وبأسماء حينا مثل ابن عباس ومقاتل ومجاهد والضحاك والكلبي وابن اسحق ووهب بن منبه وكعب الأحبار وغيرهم. واحتوت تفاصيل وجزئيات حول هذه القصص أو قصصا لسبيلها مهما كان فيها من إغراب ومفارقات فإننا نستبعد أن تكون كلها موضوعة بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم ونميل إلى القول بل نرجح أنها احتوت أشياء كثيرة مما كان يدور في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة وبعدها وحولها. وأنها مما يمكن الاستئناس به في تأييد ما قلنا. وكذلك مما يصح إضافته أيضا صيغة أعلام القصص مثل طالوت وجالوت ويونس وأيوب وفرعون وهامان وقارون وهرون وإبراهيم وسليمان وداود وإدريس ونوح والمسيح عيسى وموسى وهاروت وماروت... إلخ. فإن هذه الأعلام قد جاءت في القرآن معرّبة وعلى أوزان عربية من لغات غير عربية ولم تكن فيها بالصيغة العربية الواردة حتما ومن المستبعد أن تكون قد عربت لأول مرة في القرآن ومن المرجح أن تكون عربت وتداولت بأوزانها العربية قبل نزولها. وبهذا وحده يصح أن يشملها (بلسان عربي مبين) الذي جاء في معرض نزول القرآن لأنها جزء منه. وتداولها معربة قبل نزول القرآن يعني كما هو بديهي معرفة العرب شيئا من
وننبه على ظاهرة هامة في صدد القصص القرآنية، وهي أن السور المكية هي التي ورد فيها على الأعم الأغلب ما اقتضت إيراده حكمة التنزيل من القصص بأحداثها وأخبارها وأشخاصها وتكراراتها بالصيغ والأساليب المتنوعة. وأن السور المدنية لم تحتو إلا إشارات تذكيرية خاطفة إليها، والحكمة التي نلمحها في هذه الظاهرة هي أن القصص كانت تورد كما قلنا قبل في مجال الجدل والحجاج للإلزام والإفحام والموعظة والتذكير والإنذار وتدعيم الدعوة ومبادئها الرئيسية.
ومسرح ذلك في الأعم الأغلب كان العهد المكي. في حين صار العهد المدني عهد قوة وعزة وطمأنينة وتشريع وجهاد أكثر منه عهد حجاج ولجاج. والله تعالى أعلم.
ويذهب بعض الذين يفسرون القرآن تفسيرا باطنيا أو صوفيا إلى زعم كون القصص القرآنية رموزا لشؤون أخرى ويؤولونها على هذا الاعتبار تأويلا تعسفيا فيه العجيب الغريب. وفي هذا ما فيه من شطح بل وهذيان. لأن جل القصص الواردة في القرآن إن لم نقل كلها مما كان واردا في أسفار وقراطيس ومما كان متداولا بين الناس جيلا بعد جيل ومعروفا بأشخاصه وأحداثه. ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات التي نحن في صددها من سورة القلم مدنية، غير أن انسجامها مع السياق والموضوع انسجاما تاما وقويا ومماثلة الصورة التي احتوتها لصور العهد المكي تجعلنا نتوقف في صحة رواية مدنيتها، والله تعالى أعلم.
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢)(١) الإزلاق: الإهلاك. وبعض المفسرين قالوا إنها الإصابة بالعين «١» ومعنى الجملة هنا: أنهم يكادون يلتهمونك ويهلكونك بأعينهم الناظرة إليك شزرا.
(٢) الذكر: في الآية الأولى كناية عن القرآن وقد تكرر ذلك في آيات عديدة، وفي الآية الثانية بمعنى التذكير، وقد تكرر ذلك كذلك.
وفي هاتين الآيتين صورة أخرى من مواقف الكفار تجاه النبي صلّى الله عليه وسلم، إذ كانوا حينما يسمعونه يتلو القرآن ينظرون إليه شزرا حتى يكادوا يلتهمونه ويهلكونه بأبصارهم ويأخذون في نعته بالمجنون. وقد احتوت الآية الثانية ردا عليهم وتوكيدا بأن القرآن هو هدى للعالمين ومنبه ومذكر لهم.
والآيتان متصلتان بالسياق والموقف الذي هو موضوع الآيات السابقة كما هو المتبادر وأسلوب الآية الأولى تنديدي في معرض حكاية موقفهم.
تعليق على نعت الكفار النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنون
ولقد تكررت هذه الصورة في القرآن، مما يدل على أن مثل هذا الموقف والقول كان يتكرر من الكفار. وأسلوب الآية الثانية يلهم بقوة أن الكفار لم يعنوا بنعت النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنون أنه كان مختل العقل أو به خبل وصرع، مما هو من أعراض الأمراض العقلية فقد كانوا من النباهة في درجة لا يعقل معها ذلك وهم يسمعون ما يتلوه عليهم من الفصول القرآنية الرائعة في بلاغتها وقوتها وحكمتها
وفي جملة وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ينطوي ردّ قوي على الكفار الذين نعتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنون. ففي هذا القرآن الذي يتلوه عليهم هدى وموعظة وذكر للعالمين جميعهم ولا يمكن أن يصدر هذا من مجنون.
وفي سورة الشعراء آيات أخرى جاءت بعد تلك الآيات السابقة الذكر ذات مدى عظيم في هذا الباب وهي: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦)، حيث ينطوي فيها تقرير كون الوحي الذي يأتي النبي لا يمكن أن يكون شيطانا وكون النبي لا يمكن أن يكون شاعرا، لأن الشياطين كاذبون وإنما يتنزلون على الأفاكين الآثمين ولأن الشعراء يتصفون بأوصاف لا تمت إلى الأخلاق الفاضلة بسبب ولا يتبعهم إلّا الغاوون أمثالهم في حين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صادق يدعو إلى توحيد الله وتمجيده وعبادته وحده ثم إلى الخير والحق والعدل والإحسان ومكارم الأخلاق وينهى عن الإثم والفواحش والمنكرات وأن الذين يتبعونه هم من ذوي الأخلاق الفاضلة والنفوس الكريمة والنوايا الطيبة الطاهرة.
ونقول بهذه المناسبة إنه لمما يدعو إلى الاشمئزاز ألّا يتورع المبشرون والمغرضون من المستشرقين عن تكرار نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنون وأن يصل بهم الزعم إلى القول إنه كان مصابا بالصرع، وإنه كان يفقد صوابه حينما تأتيه النوبة وتعتريه التشنجات ويسيل العرق منه حتى إذا أفاق منها تلا على المؤمنين ما يقول إنه من وحي الله إليه، في حين أن هذا الوحي لم يكن إلّا أثرا من نوبات الصرع «١».
وقد أساءوا تأويل بعض الأحاديث والروايات التي ذكرت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يأخذه الوجد والعرق ويحمرّ وجهه حينما كان يوحى إليه وحرفوها عن حقيقة مداها.
ولقد كشفهم حقدهم وخبث سرائرهم فأنساهم أن المصابين بالصرع تتعطل فيهم أثناء النوبة حركة الشعور والتفكير والذاكرة «٢» وجعلهم يناقضون أنفسهم حين يعترفون أنه كان عقب ذلك يتلو آيات القرآن التي أوحي إليه بها، متجاهلين إلى ذلك ما فيها من الروعة والبلاغة والحكمة والمبادئ الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية السامية والدعوة إلى الله وحده والخير والمعروف ومحاربة الشرك والوثنية والنهي عن الإثم والفواحش والمنكرات مما لا يعقل أن يصدر عن مريض في عقله وجسمه وخلقه. ولقد تجاهلوا إلى هذا أيضا أن القرآن قد حكى مرارا نسبة الجنون إليه على لسان خصومه الأشداء ومكذبيه العنيدين، وهو أمر بالغ الخطورة والقوة في هذا المقام ويردها عليهم ردّا شديدا مرفقا كما هو في الآية التي نحن في صددها بإعلان أن ما جاء به هو ذكر للعالمين ودعوة لهم. ومن ذلك آية سورة الأعراف هذه: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤)، وآيات سورة المؤمنون هذه: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩)
(٢) المصدر نفسه.
الجزء الأول من التفسير الحديث ٢٦
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) «١».
وهذا بالإضافة إلى آيات سورة الشعراء التي أوردناها الرائعة القوية في عبارتها وما ينطوي فيها وأن حكاية أقوال الكفار والرد عليها بمثل هذه الردود النافذة إلى أعماق القلوب والعقول كافيان وحدهما للجم ألسنة الأفاكين الآثمين عند كل منصف مهما كانت نحلته.
ويقف بعض مفسري الشيعة عند الآية [٤٧] فيقولون إنها عنت أبا بكر وعمر حين قالا يوم الغدير الذي أعلن فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم وصاية علي وإمامته من بعده: «انظروا إلى عينيه تدوران كأنهما عينا مجنون» «٢». وفي هذا ما هو ظاهر من زور واجتراء على الله ورسوله وأصحابه لا يكونان من عاقل مؤمن والعياذ بالله.
(٢) انظر كتاب «الصراع بين الإسلام والوثنية» للقصيمي، ج ١ ص ٤٣٥ نقلا عن كتاب الوافي وعزوا إلى أحد الأئمة الإثني عشر الصادق الذي نحب أن ننزهه عن هذا القول الأثيم.
وجملة وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ التي اختتمت بها السورة عظيمة المدى في إطلاقها حيث ينطوي فيها إعلان كون الرسالة المحمدية دعوة شاملة لجميع الأجناس والألوان والأديان والبلدان في جميع الأزمان. وتبكير ورودها يعني أن ذلك كان هدفا محكما من أهداف هذه الرسالة منذ بدئها خلافا لما يحلو لبعض المستشرقين أن يزعموه من أن هذه الرسالة للعرب فقط أو بأن عمومها قد كان تطورا متأخرا. ولقد تكرر هذا المعنى في آيات كثيرة مكية ومدنية متنوعة الأساليب قوية المدى. منها آيات سورة ص هذه: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ «١» (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)، وآية سورة الأنعام هذه: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠)، وفي سورة الأنبياء آية تضمنت المعنى مع زيادة تقرير كون رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم هي رحمة للعالمين وهي: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧)، وفي سورة الأعراف آية تأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بإعلان كون رسالته للناس جميعا وهي: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨). وهذا بالإضافة إلى آيات عديدة وجهت فيها الدعوة إلى أهل الكتاب مثل آيات سورة المائدة هذه:
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥)، وهذه: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩). وهناك آيات ذات مدى عظيم حيث تضمنت تقريرا ربانيا بأن الله
هذا، ويلحظ أن فصول السورة قد نزلت بمناسبة مواقف الكفار وأقوالهم واحتوت ردا عليهم وإنذارا وتثبيتا وتأييدا للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين. فهي من قسم الوسائل ويصح أن تكون نموذجا كاملا من نماذجه المبكرة في النزول. ومع ذلك فقد تخللها مبادئ اجتماعية وإيمانية محكمة أيضا، مما فيه صورة من صور التنزيل القرآني التي تكررت في كثير من فصول القرآن وسوره.