ﰡ
وهاهنا سؤال نافع، وهو أن يقال : العامل في الظرف، وهو قوله :﴿ إذ نادى ﴾ لا يمكن أن يكون المنهى عنه، إذ يصير المعنى : لا تكن مثله في ندائه. وقد أثنى الله سبحانه عليه في هذا النداء فأخبر أنه نجاه به. فقال :﴿ وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين ﴾ [ الأنبياء : ٨٧. ٨٨ ].
وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«دعوة أخي ذي النون، إذ دعا بها في بطن الحوت : ما دعا بها مكروب إلا فرج الله عنه : لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ».
فلا يمكن أن ينهى عن التشبه به في هذه الدعوة، وهى النداء الذي نادى به ربه، وإنما نهى عن التشبه به في السبب الذي أفضى به إلى هذه المناداة، وهى مغاضبته التي أفضت به إلى حبسه في بطن الحوت، وشدة ذلك عليه حتى نادى ربه وهو مكظوم. والكظيم والكاظم الذي قد امتلأ غيظا وغضبا، وهما وحزنا، وكظم عليه فلم يخرجه.
فإن قيل : وعلى ذلك فما العامل في الظرف.
قيل : ما في «صاحب الحوت » من معنى الفعل.
فإن قيل : فالسؤال بعد قائم، فإنه إذا قيد المنهى بقيد أو زمن كان داخلا في حيز النهي فإن كان المعنى : لا تكن مثل صاحب الحوت في هذه الحال، أو هذا الوقت.
كان نهيا عن تلك الحالة.
قيل : لما كان نداؤه مسببا عن كونه صاحب الحوت، فنهى أن يشبه به في الحال التي أفضت به إلى صحبته الحوت وألجأته إلى النداء، وهو ضعف العزيمة وعدم الصبر لحكمه تعالى، ولم يقل تعالى : ولا تكن كصاحب الحوت إذ ذهب مغاضبا فالتقمه الحوت، فنادى، بل طوى القصة واختصرها. وأحال بها على ذكرها في الموضع الآخر، واكتفي بغايتها وما انتهت إليه.
فان قيل : فما منعك بتعويض الظرف بنفس الفعل المنهى عنه ؟ أي لا تكن مثله في ندائه وهو ممتلئ غيظا وهما وغما ؟ بل يكون نداؤك نداء راض بما قضى ربه عليه، قد تلقاه بالرضا والتسليم وسعة الصدر، لا نداء كظيم.
قيل : هذا المعنى. وان كان صحيحا، فلم يقع عن التشبه به في مجرده.
وإنما نهى عن التشبه به في الحال التي حملته على ذهابه مغاضبا، حتى سجن في بطن الحوت.
ويدل عليه قوله تعالى :﴿ فاصبر لحكم ربك ﴾ ثم قال :﴿ ولا تكن كصاحب الحوت ﴾ أي في ضعف صبره لحكم ربه. فان الحالة التي نهى عنها هي ضد الحالة التي أمر بها.
فإن قيل : فما منعك أن تصبر حيث أمر بالصبر لحكمه الكوني القدري الذي يقدره عليه، ولا تكن كصاحب الحوت، حيث لم يصبر عليه، بل نادى وهو كظيم لكشفه، فلم يصبر على احتماله والسكون تحته.
قيل : منع من ذلك : أن الله سبحانه أثنى على يونس عليه السلام وغيره من أنبيائه بسؤالهم إياه كشف ما بهم من الضر، وقد أثنى عليه سبحانه بذلك في قوله :﴿ وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين ﴾ [ الأنبياء : ٨٧. ٨٨ ] فكيف ينهى عن التشبه به فيما يثنى عليه ويمدحه به ؟ وكذلك أثنى على أيوب عليه السلام بقوله :﴿ مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ﴾ [ الأنبياء : ٨٣ ] وعلى يعقوب عليه السلام بقوله :﴿ إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ﴾ [ يوسف : ٨٦ ] وعلى موسى عليه السلام بقوله :﴿ رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ﴾ [ القصص : ٢٤ ] وقد شكا إليه خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم بقوله :«اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي – الحديث ».
فالشكوى إليه سبحانه لا تنافي الصبر الجميل، بل إعراض عبده عن الشكوى إلى غيره جملة، وجعل الشكوى إليه وحده : هو الصبر والله تعالى يبتلى عبده ليسمع شكواه وتضرعه ودعاؤه.
وقد ذم سبحانه من لم يتضرع إليه. ولم يستكن له وقت البلاء كما قال تعالى :﴿ ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ﴾ [ المؤمنون : ٧٦ ].
والعبد أضعف من أن يتجلد على ربه والرب تعالى لم يرد من عبده أن يتجلد عليه، بل أراد منه أن يستكين له ويتضرع إليه، وهو تعالى يمقت من يشكوه إلى خلقه، ويحب من يشكو ما به إليه.
وقيل لبعضهم : كيف تشتكي إليه ما ليس يخفى عليه ؟ فقال : ربي يرضى ذل العبد إليه.
والمقصود : أن سبحانه أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصبر صبر أولي العزم الذين صبروا لحكمه اختيارا. وهذا أكمل الصبر، ولهذا دارت قصة الشفاعة يوم القيامة على هؤلاء، حتى ردوها إلى أفضلهم وخيرهم، وأصبرهم لحكم الله، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.