ﰡ
وقال بعضُهم : هو اسمُ السُّورة. وَقِيْلَ : هو آخرُ حروفِ الرَّحمن وهي روايةٌ عكرمةَ عن ابنِ عبَّاس قالَ :(الر و حم و ن حُرُوفُ الرَّحْمَنِ). وقال قتادةُ والضحَّاكُ :(النُّونُ هِيَ الدَّوَاةُ)، وقال بعضُهم : هو لوحٌ من نورٍ. وقال عطاءُ :(هُوَ افْتِتَاحُ اسْمِ اللهِ تَعَالَى : نُورٌ، وَنَاصِرٌ). واختلفوا القراءةَ فيه، فقرأ بعضُهم بإظهار النون، وقرأ بعضُهم بإخفائها، وقرأ ابنُ عبَّاس بالكسرِ على إضمار حروف القَسَمِ، وقرأ عيسَى بن عمر بالفتحِ على إضمار فعل.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴾ قال المفسِّرون : هو القلمُ الذي كتبَ به اللوحَ المحفوظ، قال ابنُ عبَّاس :(أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ، فَقِيلَ لَهُ : اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ قَلَمٌ مِنْ نُورٍ طُولُهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ). وَقِيْلَ : لَمَّا خلقَ اللهُ القلمَ، نظرَ إليه فانشقَّ نِصفَين ثم قالَ لَهُ : إجْرِ، قالَ يا رب بمَا أجرِي ؟ قال : بما هو كائنٌ إلى يومِ القيامة، فجرَى على اللوحِ المحفوظ بذلك.
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ :" سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ :" أوَّلُ شَيْءٍ خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ، ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ وَهِيَ الدَّوَاةُ، ثُمَّ قَالَ : أكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلٍ وَرزْقٍ وَأجَلٍ، فَكَتَبَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ مِنْ ذلِكَ " ".
قوله ﴿ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴾ يعني وما تكتبُ الملائكةُ الْحَفَظَةُ من أعمال بني آدمَ، وجوابُ القسَمِ ﴿ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾ وهو جوابٌ لقولهِم﴿ ياأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾[الحجر : ٦]، فأقسمَ اللهُ تعالى بالنُّون والقلمِ وبأعمال بني آدمَ فقال :﴿ مَآ أَنتَ ﴾ ؛ يا مُحَمَّدُ ؛ ﴿ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾ ؛ أي ما أنت بإنعامهِ عليكَ بالنبوَّةِ والإيمانِ بمجنونٍ.
وسُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَنْ خُلُقِهِ، فَقَالَتْ لِلسَّائِلِ :(إقْرَأ الْعَشْرَ الَّتِي فِي أوَّلِِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَرَأهَا، فَقَالَتْ : تِلْكَ خُلُقُهُ). وَقِيْلَ : لَمَّا سُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ خُلُقِهِ، قَالَتْ :(كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنُ، يَسْخَطُ لِسُخْطِهِ، وَيَرْضَى لِرِضَاهُ).
ويقال :" إنَّ جبريلَ عليه السلام لَمَّا جاءَ إلى النبيِّ ﷺ بقوله :﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ قال :" أتَيْتُكَ يَا مُحَمَّدُ بمَكَارمِ الأَخْلاَقِ : أنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ " وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارمَ الأَخْلاَقِ، أدَّبَنِي رَبي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبي ".
ويقال :" إنَّهُ ﷺ احتملَ للهِ في البلاءِ إلى أنْ قالَ حين شُجَّ في وجههِ :" اللُّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ " فأنزلَ اللهُ تعالى ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ " قال الجنيد :(سَمَّى خُلُقَهُ عَظيماً لأنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَمٌّ سِوَى اللهِ تَعَالَى). وَقِيْلَ : إنه ﷺ عاشَرَهم بخُلقهِ وزايَلهم بقلبهِ، كان ظاهرهُ مع الْخَلقِ وباطنهُ مع الحقِّ! وَقِيْلَ : سَمَّى خلقَهُ عظيماً لاحتمالِ مكارمِ الأخلاق فيه.
وقالت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا :(إنَّ الرَّجُلَ لَيُدْركُ بخُلُقِهِ دَرَجَةَ قَائِمِ اللَّيْلِ وَصَائِمِ النَّهَار)، وقالَ ﷺ :" مَا مِنْ شَيْءٍ أثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ خُلُقٍِ حَسَنٍ " وقال ﷺ :" إنَّ أحَبَّكُمْ إلَى اللهِ تَعَالَى أحَاسِنُكُمْ أخْلاَقاً، الْمُوَطِّئُونَ أكْنَافاً، الَّذِينَ يُؤْلَفُونَ وَيَأْلَفُونَ. وَأبْغَضُكُمْ إلَى اللهِ تَعَالَى الْمَشَّاءونَ بالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الإخْوَانِ، الْمُلْتَمِسُونَ لِلْعَثَرَاتِ ".
وقال مجاهد :(مَعْنَاهُ : إظْهَارُ الْقَوْلِ باللِّسَانِ بخِلاَفِ مَا فِي الْقَلْب، كَأنَّهُ شَبَّهَ التَّلْيينَ فِي الْقَوْلِ بتَلْيينِ الدُّهْنِ). وقال مجاهدُ :(مَعْنَاهُ : وَدُّوا لَوْ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ وَتَتْرُكُ مَا أنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ فَيُمَالِؤُكَ). وقال الضحَّاكُ :(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُ فَيَكْفُرُونَ). وقال زيدُ بن أسلمَ :(وَدُّوا لَوْ تُنَافِقُ وَتُرَائِي فَيُنَافِقُونَ). قال ابنُ قتيبةَ :(كَانُوا أرَادُوهُ أنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُمْ مُدَّةً وَيَعْبُدُونَ اللهَ مُدَّةً).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ﴾ ؛ المعتدِي : هو الغَشُومُ الظلومُ على عبادِ الله، والأثيمُ : الكذابُ الذي هو كثيرُ الإثمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ﴾ ؛ العُتُلُّ : شديدُ الخصومةِ بالباطلِ. وَقِيْلَ : الشديدُ الحلفِ، أكُولٌ شَرُوبٌ رحيبُ البطنِ سَرِيحٌ صحيحٌ الْجَسمِ على بطنهِ، ويُجِيعُ عبدَهُ ويمنعُ رَفْدَهُ، ومأخوذٌ من العَتْلِ وهو الشدَّةُ في السَّحب. وقِيْلَ : شديدُ الْخُلْقِ وأحسَنُ الْخَلقِ. وَقِيْلَ : هو الجافِي القاسِي اللئيمُ العَسِرُ الضَّجِرُ. وقال الكلبيُّ :(هُوَ الشَّدِيدُ فِي كُفْرِهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ﴾ أي مع ما وصفناهُ به زَنِيمٌ، وَقِيْلَ : معناه عُتُلٍّ مع ذلك زَنِيمٍ، والزَّنِيمُ : الْمُلصَقُ في القومِ وليس منهم، والزَّنِيمُ هو الدَّعِيُّ، قال الشاعرُ : زَنِيمٌ لَيْسَ يَعْرِفُ مَنْ أبُوهُ بَغِيُّ الأُمِّ ذُو حَسَبٍ لَئِيمِوعن ابنِ عبَّاس في قوله تعالى ﴿ زَنِيمٍ ﴾ قالَ :(يُعْرَفُ بالشَّرِّ كَمَا تُعْرَفُ الشَّاةُ بزَنْمَتِهَا). وقال ابنُ عبَّاس :(مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿ زَنِيمٍ ﴾ أيْ هُوَ مَعَ كُفْرِهِ دَعِيٌّ فِي قُرَيْشٍ لَيْسَ مِنْهُمْ). قِيْلَ : إنما ادعاهُ أبوه إلاَّ بعدَ ثمانِي عشرةَ سنةً.
وقال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه :" الزَّنِيمُ الَّذِي لاَ أصْلَ لَهُ). قال ابنُ قتيبةَ :(لاَ نَعْلَمُ أنَّ اللهَ وَصَفَ أحَداً كَمَا ذكَرَهُ، وَلاَ بَلَغَ مِنْ ذِكْرِ عُيُوبهِ كَمَا بَلَغَ عُيُوبَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، لأنَّهُ وَصَفَهُ بالْحَلْفِ وَالْمَهَانَةِ وَالْعَيْب لِلنَّاسِ وَالْمَشْيِ بالنَّمَائِمِ وَالْبُخْلِ وَالظُّلْمِ وَالإثْمِ وَالْجَفَا وَالدَّعْوَةِ، فَأَلْحَقَ بهِ عَاراً لاَ يُفَارقُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ).
وفي الحديث عن النبي ﷺ :" " لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ جَوَّاظٌ وَلاَ جَعْظَرِيُّ وَلاَ الْعُتُلُّ الزَّنِيمُ " وَقِيْلَ : يَا رَسُولَ اللهِ مَا الْجَوَّاظُ ؟ قَالَ :" الَّذِي جَمَعَ وَمِنْعَ تَدْعُوهُ لَظَّى نَزَّاعَةٌ لِلشَّوَى " قِيلَ : وَمَا الْجَعْظَرِيُّ ؟ قَالَ :" الْفَظُّ الغَلِيظُ " قِيلَ : وَمَا الْعُتُلُّ الزَّنِيمُ ؟ قَالَ :" الشَّدِيدُ الْخَلْقِ الرَّحِيبُ الْبَطْنِ، ظَلُومٌ لِلنَّاسِ " ".
قال ﷺ :" " تَبْكِي السَّمَاءُ مِنْ رَجُلٍ أصَحَّ اللهُ جِسْمَهُ وَأرْحَبَ جَوْفَهُ وَأعْطَاهُ الدُّنْيَا، فَكَانَ لِلنَّاسِ ظَلُوماً، فَذلِكَ الْعُتُلُّ الزَّنِيمُ " قَالَ :" وَتَبْكِي السَّمَاءُ مِنَ الشَّيْخِ الزَّانِي مَا تَكَادُ الأَرْضُ تُقِلُّهُ " وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ الزِّنَا وَلاَ وَلَدُهُُ وَلاَ وَلَدُ وَلَدِهِ، وَأنَّ أوْلاَدَ الزُّنَاةِ يُحْشَرُونَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي صُورَةِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازيرِ ".
وقال ﷺ :" لاَ تَزَالُ أُمَّتِي بخَيْرٍ مَا لَمْ يَفْشُ فِيْهِمْ وَلَدُ الزِّنَى، فَإنْ فَشَا فِيْهِمْ وَلَدُ الزِّنَا فَيُوشَكُ أنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بعِقَابٍ "، وقال عكرمةُ :(إذا كَثُرَ أوْلاَدُ الزِّنَا قَلَّ الْمَطَرُ).
فلمَّا ماتَ أبوهم ورثوهُ وكانوا ثلاثةً، قالوا : إنَّ المالَ قليلٌ والعيالَ كثيرٌ، فلا يسَعُنا أن نفعلَ ما كان يفعلُ أبونا، وإنما كان أبونا يفعلُ ذلك لأن المالَ كان كثيراً والعيالَ قليلاً، فعزَمُوا على حِرمان المساكين، فتحالَفُوا بينهم يوماً ليَغْدُوا غدوةً قبل خروجِ الناس ليَقطَعُوا نَخلَهم إذا أصبَحُوا بسَرِقَةٍ من الليلِ من غير أن يشعُرَ بهم المساكينُ، ﴿ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ ﴾ ؛ أي ولا يقُولون إنْ شاءَ اللهُ، وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا ﴾ أي ليقطعُنَّ ثَمرَها ﴿ مُصْبِحِينَ ﴾ أي عندَ طُلوعِ الفجرِ قبلَ أن يخرُجَ المساكينُ إليه ﴿ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ ﴾ أي ولم يقولوا إنْ شاءَ اللهُ.
ورُوي أنَّ أبَاهم كان يأخذُ من هذا البستان قُوتَ سَنَةٍ لنفسهِ، وكان يتصدَّقُ بما بَقِيَ على المساكين. وَقِيْلَ : إنه كان يتركُ لَهم ما خرجَ من السِّباط الذي كان يسقطُ تحتَ النَّخلة إذا صُرمت، فقالَ بنوهُ بعدَ موتهِ : نحن جماعةٌ وإنْ فعَلنا ما كان يفعلهُ أبونا ضاقَ عَيشُنا، فحَلَفوا ليَصْرِمُنَّها مُصبحين لئلاَّ يصِلَ إلى المساكين منها شيءٌ، وَلاَ يَسْتَثْنُونَ.
وإنما شبَّهَ اختبارَ أهلَ مكَّة باختبار أهلِ البستان ؛ لأن أبَا جهلٍ كان قال يومَ بدرٍ قبل التقاءِ الفئتين، وَاللهِ لَنَأْخُذهُمْ أخْذاً، وَلَمْ يَسْتَثْنِ، فقالَ ﷺ حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ :" اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ سِنِينَ كَسِنِينِ يُوسُفَ "، وكان هذا الدعاءُ قبلَ وقوعِ الهزيمة على الكفَّار، فابتلاهُم اللهُ بالجوعِ والقحط سبعَ سنين حتى أكَلُوا العظامَ المحرَّقة.
وإنما أُقيم لفظُ التِّسبيحِ مقامَ الاستثناءِ ؛ لأنَّ في الاستثناءِ تعظيمَ اللهِ، والإقرارَ بأنَّ أحداً لا يقدِرُ أن يفعلَ فِعلَهُ إلاَّ بمشيئةِ الله تعالى. ويقالُ : كان استثناءُ القومِ في ذلك الزمان التسبيحُ. ويجوزُ أن يكون معنى التسبيحِ ها هُنا : هلاَّ تُنَزِّهُونَ اللهَ وتستغفرونَهُ من سُوءِ نيَّاتِكم ؟ ﴿ قَالُواْ ﴾ ؛ عندما رأوا مِن قدرةِ الله تعالى :﴿ سُبْحَانَ رَبِّنَآ ﴾ ؛ أي تَنْزيهاً لرَبنا وتعظيماً واستغفاراً له، ﴿ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ ؛ لأنفُسنا بما عَزَمنا عليه من الذهاب بحقوق الفُقراءِ ومَنعِنا لهم.
ثم رجَعُوا إلى اللهِ تعالى ورَجَوا منه العُقبَى، وسألوهُ أن يُبدِلَهم خَيراً منها فقالوا :﴿ عَسَى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ﴾ ؛ أي نرغبُ إليه ونرجُو منه الْخَلَفَ في الدُّنيا، والثوابَ في الآخرة. قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ كَذَلِكَ الْعَذَابُ ﴾ ؛ أي هذا العذابُ في الدنيا لِمَن منعَ حقَّ اللهِ ولِمَن كفرَ بنعمةِ الله، ﴿ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ ﴾ ؛ وأشدُّ على كفَّار مكة، ﴿ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ ؛ أن الذي يخوِّفُهم اللهُ به حقٌّ.
وقوله تعالى :﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ﴾ هذا استفهامٌ معناهُ الإنكار والتوبيخُ. وقوله تعالى :﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ إنكارٌ عليهم أيضاً لَمَّا حكَمُوا بالسويةِ وبين أهلِ الثواب وأهل العقاب.
ثُم قال تعالى لنبيِّهِ عليه السلام :﴿ سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ ﴾ ؛ أي سَلهُم يا مُحَمَّدُ أيُّهم كفيلٌ لهم بأنَّ لهم في الآخرةِ ما للمسلمين، والزَّعِيمُ هو الكفيلُ الضَّامِنُ.
وانتصبَ قوله ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ ﴾ على الظَّرفِ لقوله ﴿ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ ﴾ في ذلك اليومِ لتَنفَعهم أو تشفعَ لهم، وعن عكرمةَ قالَ :(سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ﴾ فَقَالَ : إذا خَفِيَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَابْتَغُوهُ فِي الشِّعْرِ، فَإنَّهُ دِيوَانُ الْعَرَب، أمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ الشَّاعِرِ : وَالْخَيْلُ تَعْدُو عِنْدَ وَقْتِ الإشْرَاقِ وَقَامَتِ الْحَرْبُ بنَا عَلَى سَاقِ)أي يومُ القيامة يومُ كَرْبٍ وشدَّة، وقال ابنُ قتيبة :(أصْلُ هَذا أنَّ الرَّجُلَ إذا وَقَعَ فِي أمْرٍ عَظيِمٍ يَحْتَاجُ إلَى الْجِدِّ فِيْهِ يُشَمِّرُ عَنْ سَاقَيْهِ) فاستُعيرَ الكشفُ عن الساقِ في موضع الشدَّة، وقال دريدُ بن الصمَّة يرثِي أخاهُ : كَشَمْسِ الإزَار خَارجٌ نِصْفُ سَاقِهِ صَبُورٌ عَلَى الْجَلاَ طَلاَّعُ أنْجُدِيقالُ للأمرِ إذا اشتدَّ وتفاقمَ وتراكبَ غمُّهُ وكشفَ عن ساقهِ يومَ يشتدُّ الأمرُ، كما يشتدُّ ما يحتاجُ إليه إلى أنْ يكشفَ عن ساقٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ﴾ قال المفسِّرون : يسجدُ الخلق كلُّهم سجدةً واحدةً، ويبقى الكفَّارُ والمنافقون يرِيدُون أن يسجُدوا فلا يستطيعون، كما رُوي : أن أصلاَبَهم يومئذٍ تصيرُ عَظْماً واحداً مثلَ صَيَاصِيِّ البقرِ، يعني قُرونَها. ويقالُ : يأمرُ الله أهلَ القيامةِ بالسُّجود، فمَن كان يسجدُ له في الدُّنيا قَدَرَ على السُّجود في الآخرةِ، ومَن لا فلاَ، فيكون ذلك أمارَةَ تَمييزِ المؤمن من الكافرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ ﴾ ؛ أي ذليلةً، وذلك إذا عايَنوا النارَ، وأيقَنُوا بالعذاب. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾ ؛ أي تَغشَاهُم ذِلَّةُ الندامةِ والحسرةِ، وتعلُوهم كآبةٌ وحزنٌ وسوادُ الوجهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ﴾ ؛ يعني وقد كَانُوا يُدعَون بالأذانِ في الدُّنيا، ويُؤمَرون بالصلاةِ المكتوبَة، ﴿ وَهُمْ سَالِمُونَ ﴾ ؛ أي مُعَافُون ليس في أصلابهم مثل سَفَافِيدِ الحديدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ مَكْظُومٌ ﴾ ؛ أي مَمْلُوءٌ غمّاً، ﴿ لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾ ؛ بقبُولِ توبتهِ، ﴿ لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ﴾ ؛ أي لأُلقِيَ من بطنِ الحوت على وجهِ الأرض، وَقِيْلَ : معناه : لنُبذ بالضَّجَرِ وهو مَلُومٌ مذمومٌ، ولكنْ قَبلَ اللهُ توبتَهُ، فنُبذ وهو غيرُ مَذْمُومٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ ؛ أي اختارَ يونُسَ لنُبوَّتهِ وللإِسلامِ، فجعلَهُ من الصَّالحين بقَبُولِ تَوبَتهِ، فردَّ إليه الوعيَ وشَفَّعَهُ في قومهِ.
قال الكلبيُّ :(كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَب يَمْكُثُ لاَ يَأْكُلُ يَوْمَيْنِ أوْ ثَلاَثَة، ثُمَّ يَرْفَعُ جَانِبَ خِبَائِهِ فَتَمُرُّ بهِ الإبلُ، فَيَقُولُ فِيْهَا مَا يُعْجِبُهُ، فَمَا تَذْهَبُ إلاَّ قَرِيباً حَتَّى تَسْقُطَ لِوَقْتِهَا، فَسَأَلَ الْكُفَّارُ هَذا الرَّجُلَ أنْ يُصِيبَ رَسُولَ اللهِ ﷺ بعَيْنِهِ وَيَفْعَلَ بهِ مِثْلَ ذلِكَ، فَأجَابَهُمْ إلَى ذلِكَ، فَعَصَمَ اللهُ تَعَالَى نَبيَّهُ وَحَفِظَهُ عَنْهُمْ، وَأنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ).
ورُوي أنَّ الكفارَ كانوا يَقصِدُون رسولَ اللهِ ﷺ أنْ يُصِيبوهُ بالعينِ، وكانوا ينظُرون إليه نظرَ أشدّ يَداً بالعينِ، وقال الزجَّاجُ :(مَعْنَى الآيَةِ : أنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا مِنْ شِدَّةِ بُغْضِهِمْ لِرَسولِ اللهِ ﷺ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ نَظَرَ الْبَغْضَاءِ)، والمعنى : تكادُ الكفَّارُ بنظرِهم إليكَ أنْ يصرَعُوكَ.
وقرأ نافعُ (لِيَزْلِقُونَكَ) بفتحِ الياء، يقالُ : زَلَقَ هو وَزَلَقْتُهُ، مثلُ حَزَنْتَهُ وحَزَنَ هُوَ، وقرأ الباقون (لِيُزْلِقُونَكَ) من أزْلَقَهُ من موضعهِ إذا نَحَّاهُ، وعن رسولِ الله ﷺ أنَّهُ قَالَ :" الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ يَسْبقُ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ " وقال :" إنَّ الْعَيْنَ لَتُدْخِلُ الرَّجُلَ الْقَبْرَ، وَالْجَمَلَ الْقِدْرَ " وَقِيْلَ : معنى الآيةِ : وإن يكادُ الذين كفَرُوا من شدَّة إبغاضِهم وعداوتِهم لكَ يُسقِطُونَكَ وَيصرِفُونَكَ عمَّا أنتَ عليه من تبليغِ الرِّسالةِ ويُزِيلونَكَ عن المقامِ الذي أقامكَ اللهُ فيه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ﴾ ؛ أي لما أعيَتهُم الحيلةُ عن صرفِ الناس عنكَ نسبُوكَ إلى الجنونِ مع علمِهم بخلاف ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ ﴾ يعني القرآنَ، وذلك أنَّهم يكرَهُون القرآنَ أشدَّ الكراهةِ، فيُحِدُّونَ النظرَ إلى النبيِّ ﷺ حين يتلوهُ بالبغضاءِ، وكانوا يَنسِبُونَهُ إلى الجنونِ إذا سَمعوهُ يقرأ القرآنَ، فقال اللهُ تعالى :﴿ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ﴾ ؛ أي ما القرآنُ الذي يقرؤهُ عليهم إلاَّ عِظَةٌ للخلائقِ كلِّهم.