بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة القلممقدمة وتمهيد
١- سورة " ن " أو " القلم " تعتبر من أوائل السور القرآنية، التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر السيوطي في كتابه " الإتقان " أنها السورة الثانية في النزول، بعد سورة " العلق " ( ١ ).
ويرى بعض العلماء أنها السورة الرابعة في النزول، فقد سبقتها سور : العلق، والمدثر، والمزمل، وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية.
٢- والمحققون على أنها من السور المكية الخالصة، فقد ذكر الزمخشري وابن كثير.. أنها مكية، دون أن يذكرا في ذلك خلافا.
وقال الآلوسي : هي من أوائل ما نزل من القرآن بمكة، فقد نزلت –على ما روي عن ابن عباس- [ اقرأ باسم ربك... ] ثم هذه، ثم المزمل، ثم المدثر، وفي البحر أنها مكية بلا خلاف فيها، بين أهل التنزيل.
وفي الإتقان : استثننى منها :[ إنا بلوناهم كما بلونا... ] إلى قوله –تعالى- :[ لو كانوا يعلمون ]( ٢ ).
٣- والذي تطمئن إليه النفس، أن سورة [ ن ] من السور المكية الخالصة، لأنه لم يقم دليل مقنع على أن فيها آيات مدنية، بجانب أن أسلوبها وموضوعاتها تشير إلى أنها من السور المكية الخالصة.
كذلك نميل إلى أن بعض آياتها قد نزلت على الني صلى الله عليه وسلم بعد أن جهر بدعوته.
٤- وقد فصل هذا المعنى بعض العلماء فقال ما ملخصه : لا يمكن تحديد التاريخ الذي نزلت فيه هذه السورة، سواء مطلعها أو جملتها.
والروايات التي تقول : إن هذه السورة هي الثانية في النزول بعد سورة العلق كثيرة، ولكن سياق السورة وموضوعها وأسلوبها، يجعلنا نرجح غير هذا، حتى ليكاد يتعين أنها نزلت بعد فترة من الدعوة العامة، التي جاءت بعد نحو ثلاث سنوات من الدعوة الفردية، في الوقت الذي أخذت فيه قريش تدفع هذه الدعوة وتحاربها، وتصف الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو بريء منه، كذلك ذكرت بعض الروايات في السورة آيات مدنية، ونحن نستبعد هذا كذلك، ونعتقد أن السورة كلها مكية، لأن طابع آياتها عميق في مكيته.
والذي نرجحه بشأن السورة كلها، أنها ليست الثانية في ترتيب النزول وأنها نزلت بعد فترة من البعثة النبوية، بل بعد الجهر بالدعوة، وبعد أن أخذت قريش في محاربتها بصورة عنيفة.
والسورة قد أشارت إلى شيء من عروض المشركين :[ ودوا لو تدهن فيدهنون ] وظاهر أن مثل هذه المحاولة لا تكون والدعوة فردية، إنما تكون بعد ظهورها، وشعور المشركين بخطرها.. ( ٣ ).
٥- والذي يتدبر هذه السورة الكريمة، يراها قد اشتملت على مقاصد من أبرزها : تحدي المشركين بهذا القرآن الكريم، والثناء على النبي صلى الله عليه وسلم بأفضل أنواع الثناء [ ما أنت بنعمة ربك بمجنون. وإن لك لأجرا غير ممنون. وإنك لعلى خلق عظيم ].
والتسلية الجميلة له صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه [ فستبصر ويبصرون. بأيكم المفتون. إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ].
ونهيه صلى الله عليه وسلم عن مهادنة المشركين أو ملاينتهم أو موافقتهم على مقترحاتهم الماكرة، قال –تعالى- :[ ودوا لو تدهن فيدهنون، ولا تطع كل حلاف مهين، هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم ].
ثم نراها تضرب الأمثال لأهل مكة، لعلهم يتعظون ويعتبرون، ويتركون الجحود والبطر.. [ إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة، إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين. ولا يستثنون. فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون. فأصبحت كالصريم ].
ثم نرى من مقاصدها كذلك : المقارنة بين عاقبة الأخيار والأشرار، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة.
وتسفيه أفكار المشركين وعقولهم، بأسلوب مؤثر خلاب :[ أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تحكمون. أم لكم كتاب فيه تدرسون ]..
وتهديدهم بأقصى ألوان التهديد :[ فذرني ومن يكذب بهذا الحديث، سنستدرجهم من حيث لا يعلمون. وأملي لهم إن كيدي متين.. ].
ثم تختتم بتكرار التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وبأمره بالصبر على أذى أعدائه :[ فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت، إذ نادى وهو مكظوم، لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم، فاجتباه ربه فجعله من الصالحين. وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون. وما هو إلا ذكر للعالمين ].
وبعد : فهذه كلمة مجملة عن سورة " القلم " تكشف عن زمان ومكان نزولها. وعن أهم المقاصد والأهداف التي اشتملت عليها.
ونسأل الله –تعالى- أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، وأنس نفوسنا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د. محمد سيد طنطاوي
٢ - تفسير الآلوسي ج ٢٩ ص ٢٢..
٣ - راجع في ظلال القرآن ج ٢٩ ص ٢١٤..
ﰡ
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ١ الى ١٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩)
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤)
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦)
افتتحت سورة «القلم» بأحد الحروف المقطعة، وهي آخر سورة في ترتيب المصحف، افتتحت بواحد من هذه الحروف. أما بالنسبة لترتيب النزول، فقد تكون أول سورة نزلت على النبي ﷺ في السور المفتتحة بالحروف المقطعة.
وقد قلنا عند تفسيرنا لسورة البقرة: وردت هذه الحروف المقطعة تارة مفردة بحرف واحد، وتارة مركبة من حرفين أو ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة.
فالسور التي بدئت بحرف واحد ثلاث سور وهي: ص، ق، ن.
والسور التي بدئت بثلاثة أحرف، ثلاث عشرة سورة وهي: «الم» في ست سور، وهي:
البقرة، آل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة.
والر في خمس سور، وهي: يونس، هود، يوسف، إبراهيم، الحجر.
وطسم في سورتين وهما: الشعراء، والقصص.
وهناك سورتان بدئتا بأربعة أحرف وهما: الرعد، «المر»، والأعراف «المص».
وهناك سورتان- أيضا- بدئتا بخمسة أحرف، وهما: «مريم» «كهيعص» والشورى: «حم عسق» فيكون مجموع السور التي افتتحت بالحروف المقطعة: تسعا وعشرين سورة.
هذا، وقد وقع خلاف بين العلماء في المعنى المقصود بتلك الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية، ويمكن إجمال خلافهم في رأيين رئيسيين:
الرأى الأول يرى أصحابه: أن المعنى المقصود منها غير معروف، فهي من المتشابه الذي استأثر الله- تعالى- بعلمه.
وإلى هذا الرأى ذهب ابن عباس- في بعض الروايات عنه- كما ذهب إليه الشعبي، وسفيان الثوري وغيرهم من العلماء.
فقد أخرج ابن المنذر عن الشعبي أنه سئل عن فواتح السور فقال: إن لكل كتاب سرا، وإن سر هذا القرآن في فواتح السور.
ويروى عن ابن عباس أنه قال: عجزت العلماء عن إدراكها.
وعن على بن أبى طالب أنه قال: «إن لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي».
وفي رواية أخرى عن الشعبي أنه قال: «سر الله فلا تطلبوه».
ومن الاعتراضات التي وجهت إلى هذا الرأى، أنه إذا كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس لأنه من المتشابه، فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل، أو مثل ذلك كمثل المتكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها.
وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الألفاظ، لم ينتف الإفهام عنها عند كل أحد، فالرسول
وهناك مناقشات أخرى للعلماء حول هذا الرأى، يضيق المجال عن ذكرها.
أما الرأى الثاني فيرى أصحابه أن المعنى المقصود منها معلوم، وأنها ليست من المتشابه الذي استأثر الله- تعالى- بعلمه.
وأصحاب هذا الرأى قد اختلفوا فيما بينهم في تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة من أهمها ما يأتى:
أ- أن هذه الحروف أسماء للسور، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حم السجدة حفظ إلى أن يصبح»، وبدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها كسورة «ص» وسورة «يس».
ولا يخلو هذا القول من الضعف، لأن كثيرا من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح، والغرض من التسمية رفع الاشتباه.
ب- وقيل: إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة، للدلالة على انقضاء سورة وابتداء أخرى.
ج- وقيل: إنها حروف مقطعة، بعضها من أسماء الله- تعالى-، وبعضها من صفاته، فمثلا: الم أصلها: أنا الله أعلم.
د- وقيل: إنها اسم الله الأعظم. إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تخلو من مقال، والتي أوصلها الإمام السيوطي في كتابه «الإتقان» إلى أكثر من عشرين قولا.
هـ- ولعل أقرب الآراء إلى الصواب أن يقال: إن هذه الحروف المقطعة، قد وردت في افتتاح بعض السور، للإشعار بأن هذا القرآن الذي تحدى الله به المشركين، هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التي يعرفونها، ويقدرون على تأليف الكلام منها، فإذا عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله، فذلك لبلوغه في الفصاحة والبلاغة، مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة.
وفضلا عن ذلك، فإن تصدير هذه السور بمثل هذه الحروف المقطعة، يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم، إلى الإنصات والتدبر، لأنه يطرق أسماعهم في أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة في مجاري كلامهم. وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها، فيسمعوا حكما وحججا قد تكون سببا في هدايتهم واستجابتهم للحق.
ولفظ «ن» على الرأى الذي رجحناه، يكون إشارة إلى إعجاز القرآن...
وقيل: هو من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه..
وقد ذكر بعض المفسرين أقوالا أخرى، لا يعتمد عليها لضعفها، ومن ذلك قولهم: إن «نون» اسم لحوت عظيم... أو اسم للدواة.. وقيل: «نون» لوح من نور.. «١».
والواو في قوله: وَالْقَلَمِ للقسم، والمراد بالقلم: جنسه، فهو يشمل كل قلم يكتب به و «ما» في قوله وَما يَسْطُرُونَ موصولة أو مصدرية. ويَسْطُرُونَ مضارع سطر- من باب نصر-، يقال: سطر الكتاب سطرا، إذا كتبه. والسطر: الصف من الشجر وغيره، وأصله من السطر بمعنى القطع، لأن صفوف الكتابة تبدو وكأنها قطع متراصة.
وجواب القسم قوله: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ.
أى: وحق القلم الذي يكتب به الكاتبون من مخلوقاتنا المتعددة، إنك- أيها الرسول الكريم- لمبرأ مما اتهمك به أعداؤك من الجنون، وكيف تكون مجنونا وقد أنعم الله- تعالى- عليك بالنبوة والحكمة.
فالمقصود بالآيات الكريمة تسلية النبي ﷺ عما أصابه من المشركين، ودفع تهمهم الباطلة دفعا يأتى عليها من القواعد فيهدمها، وإثبات أنه رسول من عنده- تعالى-.
وأقسم- سبحانه- بالقلم، لعظيم شرفه، وكثرة منافعه، فبه كتبت الكتب السماوية، وبه تكتب العلوم المفيدة.. وبه يحصل التعارف بين الناس..
وصدق الله إذ يقول: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ.
قال القرطبي: أقسم- سبحانه- بالقلم. لما فيه من البيان كاللسان. وهو واقع على كل قلم مما يكتب به من في السماء من في الأرض، ومنه قول أبى الفتح البستي:
إذا أقسم الأبطال يوما بسيفهم | وعدّوه مما يكسب المجد والكرم |
كفى قلم الكتاب عزا ورفعة | مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم «٢» |
(٢) تفسير القرطبي ج ١٨ ص ٢٢٥.
ونفى- سبحانه- عنه ﷺ الجنون بأبلغ أسلوب، لأن المشركين كانوا يصفونه بذلك، قال- تعالى-. وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ، لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ.
قال الآلوسى: قوله: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ. جواب القسم، والباء الثانية مزيدة لتأكيد النفي. ومجنون خبر ما، والباء الأولى للملابسة، والجار والمجرور في موضع الحال من الضمير في الخبر، والعامل فيها معنى النفي.
والمعنى: انتفى عنك الجنون في حال كونك ملتبسا بنعمة ربك أى: منعما عليك بما أنعم من حصافة الرأى، والنبوة.. «١».
وفي إضافته ﷺ إلى الرب- عز وجل- مزيد إشعار بالتسلية والقرب والمحبة.
ومزيد إشعار- أيضا- بنفي ما افتراه الجاهلون من كونه ﷺ مجنونا، لأن هذه الصفة لا تجتمع في عبد أنعم الله- تعالى- عليه، وقربه، واصطفاه لحمل رسالته وتبليغ دعوته.
ثم بشره- سبحانه- ببشارة ثانية فقال: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ.
وقوله: مَمْنُونٍ مأخوذ من المن بمعنى القطع، تقول: مننت الحبل، إذا قطعته.
ويصح أن يكون من المن، بمعنى أن يعطى الإنسان غيره عطية ثم يفتخر بها عليه، ومنه قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى....
أى: وإن لك- أيها الرسول الكريم- عندنا، لأجرا عظيما لا يعلم مقداره إلا نحن، وهذا الأجر غير مقطوع بل هو متصل ودائم وغير ممنون.
وهذه الجملة الكريمة وما بعدها، معطوفة على جملة جواب القسم، لأنهما من جملة المقسم عليه..
ثم أثنى- سبحانه- عليه بأجمل ثناء وأطيبه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.
والخلق- كما يقول الإمام الرازي- ملكة نفسانية، يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة... و.... «٢».
والعظيم: الرفيع القدر، الجليل الشأن، السامي المنزلة.
(٢) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٨ ص ١٨٥.
والتعبير بلفظ «على» يشعر بتمكنه ﷺ ورسوخه في كل خلق كريم. وهذا أبلغ رد على أولئك الجاهلين الذين وصفوه بالجنون، لأن الجنون سفه لا يحسن معه التصرف. أما الخلق العظيم، فهو أرقى منازل الكمال، في عظماء الرجال.
وإن القلم ليعجز عن بيان ما اشتملت عليه هذه الآية الكريمة، من ثناء من الله- تعالى- على نبيه صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: قال قتادة: ذكر لنا أن سعد بن هشام سأل السيدة عائشة عن معنى هذه الآية فقالت: ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى.
قالت: فإن خلق رسول الله ﷺ كان القرآن..
ومعنى هذا، أنه ﷺ صار امتثال القرآن أمرا ونهيا، سجية له وخلقا وطبعا، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق الكريم، كالحكمة، والعفة، والشجاعة، والعدالة.. «١».
وكيف لا يكون ﷺ جماع كل خلق عظيم وهو القائل: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
ثم بشره- سبحانه- ببشارات أخرى فقال: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ. بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.
والفاء في قوله: فَسَتُبْصِرُ... للتفريع على ما تقدم من قوله: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ.
والفعل «تبصر ويبصرون» من الإبصار الذي هو الرؤية بالعينين، وقيل: بمعنى العلم..
والسين في فَسَتُبْصِرُ... للتأكيد.
والباء في قوله بِأَيِّكُمُ... يرى بعضهم أنها بمعنى في. والمفتون: اسم مفعول، وهو الذي أصابته فتنة. أدت إلى جنونه، والعرب كانوا يقولون للمجنون: فتنته الجن. أو هو الذي اضطرب أمره واختل تكوينه وضعف تفكيره... كأولئك المشركين الذين قالوا في النبي ﷺ أقوالا لا يقولها عاقل..
قال الجمل في حاشيته ما ملخصه: قوله: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ قال ابن عباس:
فستعلم ويعلمون يوم القيامة حين يتميز الحق من الباطل، وقيل في الدنيا بظهور عاقبة أمرك..
بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ الباء مزيدة في المبتدأ، والتقدير: أيكم المفتون، فزيدت الباء كزيادتها في نحو: بحسبك درهم..
وقيل: الباء بمعنى «في» الظرفية، كقولك: زيد بالبصرة. أى: فيها. والمعنى: في أى فرقة منكم المفتون.
وقيل: المفتون مصدر جاء على مفعول كالمعقول والميسور. أى، بأيكم الفتون.. «١»
وجملة: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ.. تعليل لما ينبئ عنه ما قبله من ظهور جنونهم بحيث لا يخفى على أحد، وتأكيد لوعده ﷺ بالنصر، ولوعيدهم بالخيبة والخسران.
أى: إن ربك- أيها الرسول الكريم- الذي خلقك فسواك فعدلك، هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وبمن أعرض عن طريق الحق والصواب.. وهو- سبحانه- أعلم بالمهتدين الذين اهتدوا إلى ما ينفعهم ويسعدهم في دنياهم وآخرتهم..
وما دام الأمر كذلك: فذرهم في طغيانهم يعمهون، وسر في طريقك، فستكون العاقبة لك ولأتباعك.
ثم أرشده- سبحانه- إلى جانب من مسالكهم الخبيثة، وصفاتهم القبيحة، وحذره من الاستجابة إلى شيء من مقترحاتهم، فقال: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ. وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ.
وقوله: وَدُّوا من الود بمعنى المحبة. وقوله: تُدْهِنُ من الإدهان وهي المسايرة والمصانعة والملاينة للغير. وأصله أن يجعل على الشيء دهنا لكي يلين أو لكي يحسن شكله، ثم استعير للملاينة والمساهلة مع الغير.
فالآية الكريمة تشير إلى بعض المساومات التي عرضها المشركون على النبي ﷺ وما أكثرها، ومنها: ما ذكره ابن إسحاق في سيرته من أن بعض زعماء المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد، كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد، كنت قد أخذت بحظك منه، فنزلت سورة «الكافرون».
ومنها ما دار بينه ﷺ وبين الوليد بن المغيرة تارة، وبينه وبين عتبة بن ربيعة تارة أخرى.. مما هو معروف في كتب السيرة.
ولقد قال الرسول ﷺ لعمه أبى طالب عند ما نصحه بأن يترك المشركين وشأنهم، وقال له: يا ابن أخى أشفق على نفسك وعلى، ولا تحملني من الأمر مالا أطيق.
قال له صلى الله عليه وسلم: يا عماه، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري. على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك فيه..»
والتعبير بقوله: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ يشير إلى أن الملاينة والمصانعة كانت منهم، لا منه صلى الله عليه وسلم، فهم الذين كانوا يحبون منه أن يستجيب لمقترحاتهم، لكي يقابلوا ذلك بالتظاهر بأنهم على صلة طيبة به وبأصحابه.
قال صاحب الكشاف: قوله: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ تهييج وإلهاب للتصميم على معاصاتهم، وكانوا قد أرادوه على أن يعبد الله مدة، وآلهتهم مدة، ويكفوا عن غوائلهم.
وقوله: لَوْ تُدْهِنُ لو تلين وتصانع فَيُدْهِنُونَ.
فإن قلت: لماذا رفع «فيدهنون» ولم ينصب بإضمار «أن» وهو جواب التمني؟
قلت: قد عدل إلى طريق آخر، وهو أنه جعل خبر مبتدأ محذوف. أى: فهم يدهنون، كقوله: فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً على معنى: ودوا لو تدهن فهم يدهنون.. «١».
فيقول: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ.
وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآيات الكريمة، نزلت في الوليد بن المغيرة.. وقيل:
إنها نزلت في الأخنس بن شريق..
والآيات الكريمة يشمل النهى فيها كل من هذه صفاته، ويدخل فيها الوليد بن المغيرة، والأخنس بن شريق.. دخولا أوليا.
أى: ولا تطع- أيها الرسول الكريم- كل من كان كثير الحلف بالباطل، وكل من كان مهينا، أى: حقيرا ذليلا وضيعا. من المهانة، وهي القلة في الرأى والتمييز.
هَمَّازٍ أى: عياب للناس، أو كثير الاغتياب لهم، من الهمز، وأصله: الطعن في الشيء بعود أو نحوه، ثم استعير للذي يؤذى الناس بلسانه وبعينه وبإشارته، ويقع فيهم بالسوء، ومنه قوله- تعالى-: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ.
مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ أى: نقّال للحديث السّيّئ لكي يفسد بين الناس.. والنميم والنميمة مصدران بمعنى السعاية والإفساد. يقال: نمّ فلان الحديث- من بابى قتل وضرب- إذا سار بين الناس بالفتنة. وأصل النم: الهمس والحركة الخفيفة ثم استعملت في السعى بين الناس بالفساد على سبيل المجاز.
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ أى: هو شديد المنع لكل ما فيه خير، ولكل من يستحقه، خصوصا إذا كان من يستحقه من المؤمنين.
ثم هو بعد ذلك مُعْتَدٍ أى: كثير العدوان على الناس أَثِيمٍ أى: مبالغ في ارتكابه للآثام، لا يترك سيئة دون أن يرتكبها.
وقد جاءت صفات الذم السابقة بصيغة المبالغة، للإشعار برسوخه فيها، وباقترافه لها بسرعة وشدة.
عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ والعتل: هو الجاف الغليظ، القاسي القلب: الفظ الطبع، الأكول الشروب.. بدون تمييز بين حلال وحرام. مأخوذ من عتله يعتله- بكسر التاء وضمها- إذا جره بعنف وغلظة..
والزنيم هو اللصيق بالقوم دون أن يكون منهم، وإنما هو دعى فيهم، حتى لكأنه
وقيل: الزنيم، هو الشخص الذي يعرف بالشر واللؤم بين الناس، كما تعرف الشاة بزنمتها. أى: بعلامتها.
ومعنى: «بعد ذلك» : كمعنى «ثم» أى: ثم هو بعد كل تلك الصفات القبيحة السابقة: جاف غليظ، ملصق بالقوم، دعى فيهم..
فهذه تسع صفات، كل صفة منها قد بلغت النهاية في القبح والسوء، ساقها- سبحانه- لذم الوليد بن المغيرة وأشباهه في الكفر والفجور.
وقوله: أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ.... متعلق بقوله قبل ذلك وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ...
أى: ولا تطع من كانت هذه صفاته لكونه ذا مال وبنين، فإن ماله وولده لن يغنى عنه من الله- تعالى- شيئا.
وقوله: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ كلام مستأنف جار مجرى التعليل للنهى عن طاعته، والأساطير جمع أسطورة بمعنى أكذوبة.
أى: لا تطعه- لأنه فضلا عما اتسم به من صفات قبيحة- تراه إذا تتلى عليه آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا.. وعلى صدقك يا محمد فيما تبلغه عنا، قال هذا العتل الزنيم، هذه الآيات أكاذيب الأولين وترهاتهم.
ثم ختم هذه الآيات بأشد أنواع الوعيد لمن هذه صفاته فقال- تعالى- سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ.
أى: سنبين أمره ونوضحه توضيحا يجعل الناس يعرفونه معرفة تامة لا خفاء معها ولا لبس ولا غموض، كما لا تخفى العلامة الكائنة على الخرطوم، الذي يراد به هنا الأنف. والوسم عليه يكون بالنار.
أو سنلحق به عارا لا يفارقه، بل يلازمه مدى الحياة، وكان العرب إذا أرادوا أن يسبوا رجلا سبة قبيحة.. قالوا: قد وسم فلان ميسم سوء.. أى: التصق به عار لا يفارقه، كالسمة التي هي العلامة التي لا يمحى أثرها..
وذكر الوسم والخرطوم فيه ما فيه من الذم، لأن فيه جمعا بين التشويه الذي يترتب على الوسم السّيّئ، وبين الإهانة، لأن كون الوسم في الوجه بل في أعلى جزء من الوجه وهو الأنف.. دليل على الإذلال والتحقير.
ومما لا شك فيه أن وقع هذه الآيات على الوليد بن المغيرة وأمثاله، كان قاصما لظهورهم،
كذلك كانت هذه الآيات تسلية للرسول ﷺ ولأصحابه، عما أصابهم من أذى، من هؤلاء الحلافين بالباطل والزور، المشائين بين الناس بالنميمة، المناعين لكل خير وبر.
وبمناسبة الحديث السابق الذي فيه إشارة إلى المال والبنين، اللذين كانا من أسباب بطر هؤلاء الكافرين وطغيانهم.. ساق القرآن بعد ذلك قصة أصحاب الجنة، لتكون موعظة وعبرة لكل عاقل، فقال- تعالى-:
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ١٧ الى ٣٣]
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١)
أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١)
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣)
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه: هذا مثل ضربه الله- تعالى- لكفار قريش، فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة، وأعطاهم من النعم الجسيمة، وهو بعثه محمدا ﷺ إليهم فقابلوه بالتكذيب والمحاربة..
فلما مات وورثه أولاده، قالوا: لقد كان أبونا أحمق، إذ كان يصرف من هذه الجنة شيئا للفقراء، ولو أنا منعناهم لتوفر ذلك لنا، فلما عزموا على ذلك عوقبوا بنقيض قصدهم، فقد أذهب الله ما بأيديهم بالكلية: أذهب رأس المال، والربح.. فلم يبق لهم شيء.. «١».
وقوله- سبحانه-: بَلَوْناهُمْ أى: اختبرناهم وامتحناهم، مأخوذ من البلوى، التي تطلق على الاختبار، والابتلاء قد يكون بالخير وقد يكون بالشر، كما قال- تعالى-:
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً.. وكما في قوله- سبحانه-:
وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
والمراد بالابتلاء هنا: الابتلاء بالشر بعد جحودهم لنعمة الخير.
أى: إنا امتحنا مشركي قريش بالقحط والجوع. حتى أكلوا الجيف، بسبب كفرهم بنعمنا، وتكذيبهم لرسولنا ﷺ كما ابتلينا من قبلهم أصحاب الجنة، بأن دمرناها تدميرا، بسبب بخلهم وامتناعهم عن أداء حقوق الله منها..
ويبدو أن قصة أصحاب الجنة، كانت معروفة لأهل مكة، ولذا ضرب الله- تعالى- المثل بها. حتى يعتبروا ويتعظوا..
ووجه المشابهة بين حال أهل مكة، وحال أصحاب الجنة.. يتمثل في أن كلا الطرفين قد منحه الله- تعالى- نعمة عظيمة، ولكنه قابلها بالجحود وعدم الشكر.
وإِذْ في قوله: إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ.. تعليلية.
والضمير في أَقْسَمُوا يعود لمعظمهم، لأن الآيات الآتية بعد ذلك، تدل على أن أوسطهم قد نهاهم عما اعتزموه من حرمان المساكين، ومن مخالفة ما يأمرهم شرع الله- تعالى- به..
قال- تعالى-: قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ....
وقوله: لَيَصْرِمُنَّها من الصرم وهو القطع. يقال: صرم فلان زرعه- من باب ضرب- إذا جزّه وقطعه، ومنه قولهم: انصرم حبل المودة بين فلان وفلان، إذا انقطع.
أى: إنا امتحنا أهل مكة بالبأساء والضراء، كما امتحنا أصحاب البستان الذين كانوا قبلهم، لأنهم أقسموا بالأيمان المغلظة، ليقطعن ثمار هذا البستان في وقت الصباح المبكر.
وَلا يَسْتَثْنُونَ أى: دون أن يجعلوا شيئا- ولو قليلا- من ثمار هذا البستان للمحتاجين، الذين أوجب الله- تعالى- لهم حقوقا في تلك الثمار.
وقيل معنى وَلا يَسْتَثْنُونَ ولم يقولوا إن شاء الله، كما قال- تعالى-: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ....
والجملة الكريمة معطوفة على قوله- تعالى-: لَيَصْرِمُنَّها، وهي في الوقت نفسه مقسم عليه.
أى: أقسموا ليصر منها في وقت الصباح المبكر، وأقسموا كذلك على أن لا يعطوا شيئا منها للفقراء أو المساكين.
ثم بين- سبحانه- ما ترتب على هذا القسم الذي لم يقصد به الخير، وإنما قصد به الشر فقال: فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ.
والطائف: مأخوذ من الطواف، وهو المشي حول الشيء من كل نواحيه ومنه الطواف حول الكعبة. وأكثر ما يستعمل لفظ الطائف في الشر كما هنا، ومنه قوله- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ.
وعدى لفظ «طائف» بحرف «على» لتضمينه معنى: تسلط أو نزل. والصريم- كما يقول القرطبي-: الليل المظلم.. أى: احترقت فصارت كالليل الأسود.
وعن ابن عباس: كالرماد الأسود. أو: كالزرع المحصود. فالصريم بمعنى المصروم، أى: المقطوع ما فيه.. «١».
أى: أقسم هؤلاء الجاحدون على أن لا يعطوا شيئا من جنتهم للمحتاجين، فكانت نتيجة نيتهم السيئة، وعزمهم على الشر.. أن نزل بهذه الحديقة بلاء أحاط بها فأهلكها، فصارت كالشىء المحترق الذي قطعت ثماره، ولم يبق منه شيء ينفع.
ولم يعين- سبحانه- نوع هذا الطائف، أو كيفية نزوله، لأنه لا يتعلق بذكره غرض، وإنما المقصود ما ترتب عليه من آثار توجب الاعتبار.
قال القرطبي: في هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان، لأنهم عزموا على أن يفعلوا، فعوقبوا قبل فعلهم. ومثله قوله- تعالى-: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. وفي الحديث الصحيح: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار. قيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه».. «١».
ثم يصور- سبحانه- أحاسيسهم وحركاتهم، وقد خرجوا لينفذوا ما عزموا عليه من سوء.. فيقول: فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أى: فنادى بعضهم بعضا في وقت الصباح المبكر، حتى لا يراهم أحد.
فقالوا في تناديهم: أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ أى: قال بعضهم لبعض: هيا بنا لنذهب إلى بستاننا لكي نقطع ما فيه من ثمار في هذا الوقت المبكر، حتى لا يرانا أحد، إذ الغدو هو الخروج إلى المكان في غدوة النهار. أى: في أوله.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: هلا قيل: اغدوا إلى حرثكم، وما معنى «على» ؟.
قلت: لما كان الغدو إليه ليصرموه ويقطعوه: كان غدوا عليه، كما تقول: غدا عليهم العدو. ويجوز أن يضمن الغدو معنى الإقبال، كقولهم: يغدى عليه بالجفنة ويراح. أى:
فأقبلوا على حرثكم باكرين.. «٢».
وجواب الشرط في قوله: إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ محذوف لدلالة ما قبله عليه. أى: إن كنتم صارمين فاغدوا فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أى: فانطلقوا مسرعين نحو جنتهم وهم يتسارّون فيما بينهم، إذ التخافت: تفاعل من خفت فلان في كلامه، إذا نطق به بصوت منخفض لا يكاد يسمع.
وجملة: أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ مفسرة لما قبلها لأن التخافت فيه معنى القول دون حروفه أى: انطلقوا يتخافتون وهم يقولون فيما بينهم: احذروا أن يدخل جنتكم اليوم وأنتم تقطعون ثمارها أحد من المساكين.
(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥٩٠.
قال الإمام الشوكانى: الحرد يكون بمعنى المنع والقصد.. لأن القاصد إلى الشيء حارد.
يقال: حرد يحرد إذا قصد.. وقال أبو عبيدة: عَلى حَرْدٍ أى: على منع، من قولهم:
حردت الإبل حردا، إذا قلت ألبانها. والحرود من الإبل: القليلة اللبن.. وقال السدى:
عَلى حَرْدٍ: أى: على غضب.. وقال الحسن: على حرد، أى: على حاجة وفاقة.
وقيل: عَلى حَرْدٍ أى: على انفراد. يقال: حرد يحرد حردا، إذا تنحى عن قومه، ونزل منفردا عنهم دون أن يخالطهم..
أى: أن أصحاب الجنة ساروا إليها غدوة، على أمر قد قصدوه وبيتوه.. موقنين أنهم قادرون على تنفيذه، لأنهم قد اتخذوا له جميع وسائله، من الكتمان والتبكير والبعد عن أعين المساكين.
أو: ساروا إليها في الصباح المبكر، وهم ليس معهم أحد من المساكين أو من غيرهم، وهم في الوقت نفسه يعتبرون أنفسهم قادرين على قطع ثمارها، دون أن يشاركهم أحد في تلك الثمار.
ثم صور- سبحانه- حالهم تصويرا بديعا عند ما شاهدوا جنتهم، وقد صارت كالصريم، فقال: فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ.
أى: فحين شاهدوا جنتهم- وهي على تلك الحال العجيبة- قال بعضهم لبعض: إنا لضالون عن طريق جنتنا، تائهون عن الوصول إليها.. لأن هذه الجنة الخاوية على عروشها ليست هي جنتنا التي عهدناها بالأمس القريب، زاخرة بالثمار.
ثم اعترفوا بالحقيقة المرة، بعد أن تأكدوا أن ما أمامهم هي حديقتهم فقالوا: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أى: لسنا بضالين عن الطريق إليها، بل الحقيقة أن الله- تعالى- قد حرمنا من ثمارها.. بسبب إصرارنا على حرماننا المساكين من حقوقهم منها.
وهنا تقدم إليهم أوسطهم رأيا، وأعدلهم وأمثلهم تفكيرا.. فقال لهم: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ.
والاستفهام للتقرير. ولَوْلا حرف تحضيض بمعنى هلا. والتسبيح هنا بمعنى:
الاستغفار والتوبة، وإعطاء كل ذي حق حقه.
أى: قال لهم- أعقلهم وأصلحهم- بعد أن شاهد ما شاهد من أمر الحديقة. قال لهم:
لقد قلت لكم عند ما عزمتم على حرمان المساكين حقوقهم منها.. اتقوا الله ولا تفعلوا ذلك،
وكعادة كثير من الناس الذين: لا يقدرون النعمة إلا بعد فوات الأوان.. قالوا لأعقلهم وأصلحهم: سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ.
أى: قالوا وهم يعترفون بظلمهم وجرمهم.. سُبْحانَ رَبِّنا أى: ننزه ربنا ونستغفره عما حدث منا، فإننا كنا ظالمين لأنفسنا حين منعنا حق الله- تعالى- عن عباده.
ثم حكى- سبحانه- ما دار بينهم بعد أن أيقنوا أن حديقتهم قد دمرت فقال: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ. أى: يلوم بعضهم بعضا، وكل واحد منهم يلقى التبعة على غيره، ويقول له: أنت الذي كنت السبب فيما أصابنا من حرمان..
قالُوا يا وَيْلَنا أى: يا هلاكنا ويا حسرتنا.. إِنَّا كُنَّا طاغِينَ أى: إنا كنا متجاوزين لحدودنا، وفاسقين عن أمر ربنا، عند ما صممنا على البخل بما أعطانا- سبحانه- من فضله. عَسى رَبُّنا بفضله وإحسانه أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها أى: أن يعطينا ما هو خير منها إِنَّا إِلى رَبِّنا لا إلى غيره راغِبُونَ أى: راغبون في عطائه، راجعون إليه بالتوبة والندم..
قال الآلوسى: قال مجاهد: إنهم تابوا فأبدلهم الله- تعالى- خيرا منها. وحكى عن الحسن: التوقف. وسئل قتادة عنهم: أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال للسائل:
لقد كلفتني تعبا.. «١».
ثم ختم- سبحانه- قصتهم بقوله: كَذلِكَ الْعَذابُ أى: مثل الذي بلونا به أصحاب الجنة، من إهلاك جنتهم بسبب جحودهم لنعمنا.. يكون عذابنا لمن خالف أمرنا من كبار مكة وغيرهم.
فقوله: كَذلِكَ خبر مقدم، والْعَذابُ مبتدأ مؤخر. والمشار إليه هو ما تضمنته القصة من إتلاف تلك الجنة، وإذهاب ثمارها.
وقدم المسند وهو الخبر، على المسند إليه وهو المبتدأ، للاهتمام بإحضار تلك الصورة العجيبة في ذهن السامع.
أى: مثل ذلك العذاب الذي أنزلناه بأصحاب الجنة في الدنيا، يكون عذابنا لمشركي قريش، أما عذاب الآخرة فهو أشد وأبقى وأعظم.. ولو كانوا من أهل العلم والفهم، لعلموا ذلك، ولأخذوا منه حذرهم عن طريق الإيمان والعمل الصالح. هذا، والمتأمل في هذه القصة، يراها زاخرة بالمفاجآت، وبتصوير النفس الإنسانية في حال غناها وفي حال فقرها، في حال حصولها على النعمة وفي حال ذهاب هذه النعمة من بين يديها.
كما يراها تحكى لنا سوء عاقبة الجاحدين لنعم الله، إذ أن هذا الجحود يؤدى إلى زوال النعم، ورحم الله القائل: من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها.
ثم تبدأ السورة بعد ذلك في بيان حسن عاقبة المؤمنين، وفي محاجة المجرمين، وفي تحديهم بالسؤال تلو السؤال، إلزاما لهم بالحجة، وتقريعا لهم على غفلتهم، وتذكيرا لهم بيوم القيامة الذي سيندمون عنده، ولن ينفعهم الندم.
قال- تعالى-:
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٣٤ الى ٤٣]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨)
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣)
وقوله- سبحانه-: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ.. بيان لما وعد به- سبحانه- المؤمنين الصادقين، بعد بيان وعيده للجاحدين المكذبين.
واللام في قوله: لِلْمُتَّقِينَ للاستحقاق، وقال- سبحانه- عِنْدَ رَبِّهِمْ للتشريف والتكريم.
أى: هذه الجنات اختص الرب- عز وجل- بها الذين اتقوه في كل أحوالهم.
وإضافة الجنات إلى النعيم، للإشارة إلى أن النعيم ملازم لها لا يفارقها فلا يكون فيها ما يكون في جنات الدنيا من تغير في الأحوال، فهي تارة مثمرة، وتارة ليست كذلك.
والاستفهام في قوله: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ للنفي والإنكار. والفاء للعطف على مقدر يقتضيه الكلام.
أى: أنحيف في أحكامنا فنجعل الذين أخلصوا لنا العبادة. كالذين أشركوا معنا آلهة أخرى؟ أو نجعل الذين أسلموا وجوههم لنا، كالذين فسقوا عن أمرنا؟
كلا، لن نجعل هؤلاء كهؤلاء، فإن عدالتنا تقتضي التفريق بينهم.
قال الجمل: لما نزلت هذه الآية وهي قوله: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ... قال كفار مكة للمسلمين إن الله فضلنا عليكم في الدنيا، فلا بد وأن يفضلنا عليكم في الآخرة، فإذا لم يحصل التفضيل، فلا أقل من المساواة فأجابهم الله- تعالى- بقوله: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ «١».
ثم أضاف- سبحانه- إلى توبيخهم توبيخا آخر فقال: ما لَكُمْ، كَيْفَ تَحْكُمُونَ.
وقوله ما لَكُمْ جملة من مبتدأ وخبر، وهي بمثابة تأنيب آخر لهم وقوله: كَيْفَ تَحْكُمُونَ تجهيل لهم، وتسفيه لعقولهم.
أى: ما الذي حدث لعقولكم، حتى ساويتم بين الأخيار والأشرار والأطهار والفجار، ومن أخلصوا لله عبادتهم، ومن كفروا به؟
ثم انتقل- سبحانه- من توبيخهم على جهلهم، إلى توبيخهم على كذبهم فقال: أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ. إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ.
وأَمْ هنا وما بعدها للإضراب الانتقالى، وهي بمعنى بل، والضمير في قوله فِيهِ يعود على الكتاب.
وقوله: تَدْرُسُونَ أى: تقرأون بعناية وتفكير.
أى: بل ألكم- أيها المشركون- كتاب قرأتم فيه بفهم وتدبر المساواة بين المتقين والمجرمين، وأخذتم منه ما اخترتموه من أحكام؟ كلا، إنه لا يوجد كتاب سماوي، أو غير سماوي، يوافقكم على التسوية بين المتقين والمجرمين. وأنتم إنما تصدرون أحكاما كاذبة. ما أنزل الله بها من سلطان.
ثم انتقل- سبحانه- إلى توبيخهم على لون آخر من مزاعمهم فقال: أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ.
أى: وقل لهم- يا محمد- على سبيل إلزامهم الحجة: بل ألكم أَيْمانٌ أى: عهود ومواثيق مؤكدة عَلَيْنا وهذه العهود بالِغَةٌ أقصى مداها في التوكيد، وثابتة لكم علينا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بأننا قد سوينا بين المسلمين والمجرمين في أحكامنا، كما زعمتم أنتم؟ إن كانت لكم علينا هذه الأيمان والعهود، فأظهروها للناس، وفي هذه الحالة يكون من حقكم أن تحكموا بما حكمتم به.
ومما لا شك فيه، أنهم ليست لهم عهود عند الله بما زعموه من أحكام، وإنما المقصود من الآية الكريمة، بيان كذبهم في أقوالهم، وبيان أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بجواب يثبتون به مدعاهم.
وقوله: إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ جواب القسم، لأن قوله: أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بمعنى: أم أقسمنا لكم أيمانا موثقة بأننا رضينا بأحكامكم التي تسوون فيها بين المسلمين والمجرمين.
ثم أمر- سبحانه- رسوله ﷺ أن يسألهم سؤال تبكيت وتأنيب فقال: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ.
والزعيم: هو الضامن، والمتكلم عن القوم، والناطق بلسانهم..
واسم الإشارة يعود على الحكم الباطل الذي حكموه، وهو التسوية بين المسلمين والمجرمين.
أى: سل- أيها الرسول الكريم- هؤلاء المشركين، سؤال تقريع وتوبيخ، أى واحد منهم سيكون يوم القيامة، كفيلا بتحمل مسئولية هذا الحكم، وضامنا بأن المسلمين سيكونون متساوين مع المجرمين في الأحكام عند الله- تعالى-.
أى: بل ألهم شركاء يوافقونهم على هذا الحكم الباطل، إن كان عندهم ذلك، فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين في زعمهم التسوية بين المتقين والمجرمين.
والمراد بالشركاء هنا: الأصنام التي يشركونها في العبادة مع الله- عز وجل-.
وحذف متعلق الشركاء لشهرته. أى: أم لهم شركاء لنا في الألوهية يشهدون لهم بصحة أحكامهم.
والأمر في قوله: فَلْيَأْتُوا... للتعجيز.
والمتدبر في هذه الآيات الكريمة، يرى أن الله- تعالى- قد وبخهم باستفهامات سبعة:
أولها قوله- تعالى-: أَفَنَجْعَلُ.... الثاني: ما لَكُمْ... الثالث: كَيْفَ تَحْكُمُونَ الرابع: أَمْ لَكُمْ كِتابٌ الخامس: أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ السادس: أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ السابع: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ.
قال الآلوسى: وقد نبه- سبحانه- في هذه الآيات، على نفى جميع ما يمكن أن يتعلقوا به في تحقيق دعواهم، حيث نبه- سبحانه- على نفى الدليل العقلي بقوله ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. وعلى نفى الدليل النقلى بقوله أَمْ لَكُمْ كِتابٌ.. ، وعلى نفى أن يكون الله وعدهم بذلك بقوله أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ.. وعلى نفى التقليد الذي هو أوهن من حبال القمر بقوله أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ... «١».
ثم بين- سبحانه- جانبا من أهوال يوم القيامة، ومن حال الكافرين فيه، فقال:
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ، وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ. خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ، وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ.
والظرف «يوم» يجوز أن يكون متعلقا بقوله- تعالى- قبل ذلك فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ... ويصح أن يكون متعلقا بمحذوف تقديره. اذكر، والمراد باليوم، يوم القيامة.
والكشف عن الساق معناه التشمير عنها وإظهارها، وهو مثل لشدة الحال، وصعوبة الخطب والهول، وأصله أن الإنسان إذا اشتد خوفه، أسرع في المشي، وشمر عن ثيابه، فينكشف ساقه.
قال صاحب الكشاف: الكشف عن الساق، والإبداء عن الخدام. - أى: الخلخال الذي
كما قال الشاعر:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها... وإن شمرت عن سوقها الحرب شمرا
فمعنى يوم يكشف عن ساق: يوم يشتد الأمر ويتفاقم، ولا كشف ولا ساق، كما تقول للأقطع الشحيح: يده مغلولة، ولا يد ثمّ ولا غل، وإنما هو مثل في البخل..
فإن قلت: فلم جاءت منكرة في التمثيل؟ قلت: للدلالة على أنه أمر مبهم في الشدة، فظيع خارج عن المألوف.. «١».
والمعنى: اذكر لهم- أيها الرسول الكريم- لكي يعتبروا ويتعظوا أهوال يوم القيامة، يوم يشتد الأمر، ويعظم الهول.
وَيُدْعَوْنَ هؤلاء الذين فسقوا عن أمر ربهم في هذا اليوم إِلَى السُّجُودِ لله- تعالى- على سبيل التوبيخ لهم، لأنهم كانوا ممتنعين عنه في الدنيا..
فَلا يَسْتَطِيعُونَ أى: فلا يستطيعون ذلك، لأنه الله- تعالى- سلب منهم القدرة على السجود له في هذا اليوم العظيم، لأنه يوم جزاء وليس يوم تكليف والذين يدعونهم إلى السجود، هم الملائكة بأمره- تعالى-.
وقوله: خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ... حال من فاعل يُدْعَوْنَ وخشوع الأبصار: كناية عن الذلة والخوف الشديد. ونسب الخشوع إلى الأبصار، لظهور أثره فيها.
أى: هم يدعون إلى السجود فلا يستطيعون ذلك. لأنه- تعالى- سلب منهم القدرة عليه، ثم يساقون إلى النار، حالة كونهم ذليلة أبصارهم، منخفضة رءوسهم..
تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أى: تغشاهم وتعلوهم ذلة وانكسار..
وَقَدْ كانُوا في الدنيا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ لله- تعالى- وَهُمْ سالِمُونَ أى: وهم قادرون على السجود له- تعالى-، ومتمكنون من ذلك أقوى تمكن... ، ولكنهم كانوا يعرضون عمن يدعوهم إلى إخلاص العبادة لله- تعالى-، ويستهزئون به..
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه: قوله: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ... يعنى يوم القيامة، وما يكون فيه من الأهوال، والزلازل، والبلايا، والامتحان، والأمور العظام..
وعن ابن عباس قال: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ: وهو يوم كرب وشدة.. «١».
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة، بالتهديد الشديد للكافرين، وببيان جانب من تصرفه الحكيم معهم، وبتسلية الرسول ﷺ عما أصابه منهم، ويأمره بالصبر على أذاهم، وعلى أحقادهم التي تنبئ عنها نظراتهم المسمومة إليه، فقال- تعالى-:
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٤٤ الى ٥٢]
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨)
لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢)
والفاء في قوله: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ... لترتيب ما بعدها على ما قبلها.
والفعل: فَذَرْنِي من الأفعال التي يأتى منها الأمر والمضارع، ولم يسمع لها ماض، وهو بمعنى اترك. يقال: ذره يفعل كذا، أى: اتركه. ومنه قوله- تعالى- ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
والمراد بِهذَا الْحَدِيثِ... ما أوحاه الله- تعالى- إلى نبيه ﷺ من قرآن كريم، ومن توجيهات حكيمة، لكي يبلغها للناس.
والإملاء: الإمداد في الزمن، والإمهال والتأخير، مأخوذ من الملاوة والملوة، وهي الطائفة الطويلة من الزمن. والملوان. الليل: والنهار، والمراد به هنا: إمدادهم بالكثير من النعم..
يقال: أملى فلان لبعيره، إذا أرخى له في الزمام، ووسع له في القيد، ليتسع المرعى.
والكيد كالمكر، وهو التدبير الذي يقصد به غير ظاهره، بحيث ينخدع الممكور به، فلا يفطن لما يراد به، حتى يقع عليه ما يسوؤه.
وإضافة الكيد إليه- تعالى- يحمل على المعنى اللائق به كإبطال مكر أعدائه، وكإمدادهم بالنعم. ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
والمقصود بهاتين الآيتين الكريمتين: تسلية النبي ﷺ عما أصابه من أعدائه.
والمعنى: إذا كانت أحوال هؤلاء المشركين، كما ذكرت لك- أيها الرسول الكريم- فكل أمرهم إلىّ، واترك أمر هؤلاء الذين يكذبونك فيما جئتهم به من عندنا إلى ربك، ولا تشغل بالك بهم. فإنى سأقربهم قليلا قليلا إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم، بأن أسوق لهم النعم، حتى يفاجئهم الهلاك من حيث لا يعلمون أن صنعنا هذا معهم هو لون من الاستدراج، ثم إنى أمد لهم في أسباب الحياة الرغدة، ليزدادوا إثما، ثم آخذهم أخذ عزيز مقتدر، وهذا لون من ألوان كيدي الشديد القوى، الذي لا يفطن إليه أمثال هؤلاء الجاهلين الأغبياء..
وشبيه بهاتين الآيتين قوله- تعالى-: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «١».
وفي الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى أن رسول الله ﷺ قال: «إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته».
وقال الحسن البصري: كم من مستدرج بالإحسان، وكم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه.
قال الآلوسى: وقوله سَنَسْتَدْرِجُهُمْ.. استئناف مسوق لبيان كيفية التعذيب المستفاد من الكلام السابق إجمالا.
وقوله: وَأُمْلِي لَهُمْ أى: وأمهلهم ليزدادوا إثما. إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أى: لا يدفع بشيء.
وتسمية ذلك كيدا- وهو ضرب من الاحتيال- لكونه في صورته، حيث إنه- سبحانه- يفعل معهم ما هو نفع لهم ظاهرا، ومراده- عز وجل- به الضرر، لما علم من خبث جبلتهم، وتماديهم في الكفر والجحود.. «١».
ثم عادت السورة الكريمة إلى إبطال معاذيرهم، بأسلوب الاستفهام الإنكارى، الذي تكرر فيها كثيرا، فقال- تعالى-: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ. أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ؟
والمغرم والغرامة: ما يفرض على المرء أداؤه من مال وغيره.
والمثقلون: جمع مثقل، وهو من أثقلته الديون، حتى صار في حالة عجز عن أدائها.
والمراد بالغيب: علم الغيب، وهو ما غاب عن علم البشر، فالكلام على حذف مضاف.
والمعنى: بل أتسألهم- يا محمد- على دعوتك لهم إلى الحق والخير أَجْراً دنيويا فَهُمْ من أجل ذلك مثقلون بالديون المالية، وعاجزون عن دفعها لك.. فترتب على هذا الغرم الثقيل. أن أعرضوا عن دعوتك، وتجنبوا الدخول في دينك؟.
أم أن هؤلاء القوم عندهم علم الغيب، بأن يكونوا قد اطلعوا على ما سطرناه في اللوح المحفوظ من أمور غيبية لا يعلمها أحد سوانا.. فهم يكتبون ذلك، ثم يصدرون أحكامهم.
ويجادلونك في شأنها. وكأنهم قد اطلعوا على بواطن الأمور!.
الحق الذي لا حق سواه، أن هؤلاء القوم، أنت لم تطلب منهم أجرا على دعوتك إياهم إلى إخلاص العبادة لنا، ولا علم عندهم بشيء من الغيوب التي لا يعلمها أحد سوانا، وكل ما يزعمونه في هذا الشأن فهو ضرب من الكذب والجهل..
وما دام الأمر كما ذكرنا لك فَاصْبِرْ أيها الرسول الكريم- لحكم ربك، ولقضائه فيك وفيهم، وسر في طريقك التي كلفناك به، وهو تبليغ رسالتنا إلى الناس.. وستكون العاقبة لك ولأتباعك.
أى: لا يوجد منك ما وجد منه، من الضجر، والغضب على قومه الذين لم يؤمنوا، ففارقهم دون أن يأذن له ربه بمفارقتهم..
والظرف في قوله: إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ منصوب بمضاف محذوف، وجملة «وهو مكظوم» في محل نصب على الحال من فاعل «نادى»..
والمكظوم- بزنة مفعول-: المملوء غضبا وغيظا وكربا، مأخوذ من كظم فلان السقاء إذا ملأه، وكظم الغيظ إذا حبسه وهو ممتلئ به.
أى: لا يكن حالك كحال صاحب الحوت، وقت ندائه لربه- عز وجل- وهو مملوء غيظا وكربا، لما حدث له مع قومه. ولما أصابه من بلاء وهو في بطن الحوت.
وهذا النداء قد أشار إليه- سبحانه- في آيات منها قوله- تعالى-: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً، فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ، فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ «١».
وقوله- سبحانه-: لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ..
استئناف لبيان جانب من فضله- تعالى- على عبده يونس- عليه السلام-.
ولَوْلا هنا حرف امتناع لوجود، وأَنْ يجوز أن تكون مخففة من أَنْ الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وهو ومحذوف، وجملة تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ خبرها.
ويجوز أن تكون مصدرية. أى: لولا تدارك رحمة من ربه.
والتدارك: تفاعل من الدرك- بفتح الدال- بمعنى اللحاق بالغير. والمقصود به هنا:
المبالغة في إدراك رحمة الله- تعالى- لعبده يونس- عليه السلام-.
قال الجمل: قرأ العامة: تَدارَكَهُ، وهو فعل ماضى مذكر، حمل على معنى النعمة، لأن تأنيثها غير حقيقى، وقرأ ابن عباس وابن مسعود: تداركته- على لفظ النعمة- وهو خلاف المرسوم.. «٢».
والمراد بالنعمة: رحمته- سبحانه- بيونس- عليه السلام- وقبول توبته، وإجابة دعائه..
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٣٩١.
والمعنى: لولا أن الله- تدارك عبده يونس برحمته، وبقبول توبته.. لطرح من بطن الحوت بالأرض الفضاء الخالية من النبات والعمران.. وهو مذموم، أى: وهو ملوم ومؤاخذ منا على ما حدث منه..
ولكن ملامته ومؤاخذته منا قد امتنعت، لتداركه برحمتنا، حيث قبلنا توبته، وغسلنا حوبته، ومنحناه الكثير من خيرنا وبرنا..
فالمقصود من الآية الكريمة بيان جانب من فضل الله- تعالى- على عبده يونس- عليه السلام-، وبيان أن رحمته- تعالى- به، ونعمته عليه، قد حالت بينه وبين أن يكون مذموما على ما صدر منه، من مغاضبة لقومه ومفارقته لهم بدون إذن من ربه..
قال الجمل ما ملخصه: قوله: وَهُوَ مَذْمُومٌ أى: ملوم ومؤاخذ بذنبه والجملة حال من مرفوع «نبذ»، وهي محط الامتناع المفاد بلولا، فهي المنفية لا النبذ بالعراء..
أى: لنبذ بالعراء وهو مذموم، لكنه رحم فنبذ غير مذموم..
فلولا- هنا-، حرف امتناع لوجود، وأن الممتنع القيد في جوابها لا هو نفسه.. «١».
وقوله: فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ تأكيد وتفصيل لنعمة الله- تعالى- التي أنعم بها على عبده يونس- عليه السلام-، وهو معطوف على مقدر.
أى: فتداركته النعمة فاصطفاه ربه- عز وجل- حيث رد عليه الوحى بعد انقطاعه، وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون من الناس، وقبل توبته، فجعله من عباده الكاملين في الصلاح والتقوى، وفي تبليغ الرسالة عن ربه.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة، ببيان ما كان عليه الكافرون من كراهية للنبي ﷺ ومن حقد عليه، فقال- تعالى-: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ، لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ، وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ. وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ.
وقوله: لَيُزْلِقُونَكَ من الزّلق- بفتحتين-، وهو تزحزح الإنسان عن مكانه، وقد يؤدى به هذا التزحزح إلى السقوط على الأرض، يقال: زلقه يزلقه، وأزلقه يزلقه إزلاقا، إذا نحاه وأبعده عن مكانه، واللام فيه للابتداء.
قال الشوكانى: قرأ الجمهور: لَيُزْلِقُونَكَ بضم الياء من أزلقه، أى: أزل رجله..
وإِنْ هي المخففة من الثقيلة، - واسمها ضمير الشأن محذوف، و «لما» ظرفية منصوبة بيزلقونك. أو هي حرف، وجوابها محذوف لدلالة ما قبلها عليه. أى: لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك... «١».
أى: وإن يكاد الذين كفروا ليهلكونك، أو ليزلون قدمك عن موضعها، أو ليصرعونك بأبصارهم من شدة نظرهم إليك شزرا، بعيون ملؤها العداوة والبغضاء حين سمعوا الذكر، وهو القرآن الكريم..
وَيَقُولُونَ على سبيل البغض لك إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ أى: إن الرسول ﷺ لمن الأشخاص الذين ذهبت عقولهم..
وَما هُوَ أى: القرآن الذي أنزلناه عليك إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أى: تذكير بالله- تعالى- وبدينه وبهداياته.. وشرف لهم وللعالمين جميعا.
وجاء قوله يَكادُ بصيغة المضارع، للإشارة إلى استمرار ذلك في المستقبل.
وجاء قوله سَمِعُوا بصيغة الماضي، لوقوعه مع لَمَّا، وللإشعار بأنهم قد حصل منهم هذا القول السّيئ..
وجاء قوله لَيُزْلِقُونَكَ بلام التأكيد للإشعار بتصميمهم على هذه الكراهية، وحرصهم عليها.
وقوله- سبحانه-: وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ رد على أكاذيبهم، وإبطال لأقوالهم الزائفة، حيث وصفوه ﷺ بالجنون، لأنه إذا كان ما جاء به شرف وموعظة وهداية وتذكير بالخير للناس.. لم يكن معقولا أن يكون مبلغه مجنونا.
ومنهم من فسر قوله- تعالى-: لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ.. أى: ليحسدونك عن طريق النظر الشديد بعيونهم..
قال الإمام ابن كثير: وقوله: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: لَيُزْلِقُونَكَ: لينفذونك بأبصارهم، أى: ليعينوك بأبصارهم، بمعنى ليحسدونك لبغضهم إياك، لولا وقاية الله لك، وحمايتك منهم.
وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله- عز وجل-، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة.
وروى الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عباس، أن رسول الله ﷺ قال: «العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقت العين».
وعن ابن عباس- أيضا- قال: كان رسول الله ﷺ يعوذ الحسن والحسين فيقول:
«أعيذ كما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة- والهامة كل ذات سم يقتل-، ومن كل عين لامّة».
وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال: «العين حق حتى لتورد الرجل القبر، والجمل القدر، وإن أكثر هلاك أمتى في العين «١» ».
وبعد: فهذا تفسير محرر لسورة «ن»، نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تفسير سورة الحاقةمقدمة وتمهيد
١- سورة «الحاقة» من السور المكية الخالصة، وكان نزولها بعد سورة «الملك» وقبل سورة «المعارج»، وعدد آياتها إحدى وخمسون آية، وعند بعضهم اثنتان وخمسون آية.
قال الآلوسى: «ويدل على مكيتها ما أخرجه الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب قال:
«خرجت أتعرض لرسول الله ﷺ قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فوقفت خلفه، فاستفتح بسورة (الحاقة)، فجعلت أعجب من تأليف القرآن، فقلت- أى في نفسي-: هذا والله شاعر، فقرأ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ فقلت:
كاهن، فقرأ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ إلى آخر السورة. فوقع الإسلام في قلبي كل موقع» «١».
وعلى هذا الحديث يكون نزولها في السنة الرابعة أو الخامسة من البعثة لأن إسلام عمر- رضى الله عنه- كان- تقريبا- في ذلك الوقت.
٢- والسورة الكريمة زاخرة بالحديث عن أهوال يوم القيامة، وعن مصارع المكذبين، وعن أحوال أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، وعن إقامة الأدلة المتعددة على أن هذا القرآن من عند الله- تعالى- وعلى أن الرسول ﷺ صادق فيما يبلغه عن ربه- عز وجل-.
وتمتاز هذه السورة بقصر آياتها، وبرهبة وقعها على النفوس، إذ كل قارئ لها بتدبر
نرى ذلك كله في اسمها، وفي حديثها عن مصارع الغابرين، وعن مشاهد يوم القيامة التي يشيب لها الولدان.
نسأل الله تعالى- أن يرحمنا جميعا برحمته.
الراجي عفو ربه د/ محمد سيد طنطاوى