ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (١- ١٦) [سورة القلم (٦٨) : الآيات ١ الى ١٦]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩)
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤)
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦)
التفسير:
قوله تعالى:
«ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ».
اختلف المفسرون فى تأويل كلمة «ن» فأضافوا إليها مفهوما جديدا غير تلك المفاهيم الكثيرة التي تشارك فيها غيرها من الحروف التي بدئت بها أوائل السور.. فهى بهذه المفاهيم.. حرف من تلك الحروف، يقع عليها الخلاف الذي وقع فى هذه الحروف وكثرت المقولات فيها «١»..
ولكن أي حوت هو؟ أهو الحوت الذي ابتلع يونس عليه السلام؟ وكلّا فإن الحوت الذي يقسم الله سبحانه وتعالى به، يجب أن يكون ظاهرة فريدة من ظاهرات الوجود.. ليكن إذن هو الحوت الذي تتحدث عنه قصة أو قصص خلق العالم، التي كانت تعيش فى خيال كثير من الأمم والشعوب!! إن هذا الحوت الذي يقال إنه يحمل الأرض، أو بمعنى أدقّ، يحمل الثور الذي يحمل الأرض بقرنه- هو من مواليد الخرافات والأساطير، وما يروى عنه من مقولات تضاف إلى الصحابة أو التابعين، هو أحاديث مكذوبة على هؤلاء السادة الأعلام، الذين يرفعهم قدرهم ودينهم عن أن يقولوا بغير علم، والذين لو ثبت لهم قول، لكان هذا القول من الحق المتلقّى من نور النبوة، ولما اصطدم أبدا مع واقع الحياة، وما يكشف عنه العلم من حقائق.
فالحرف، أو الكلمة «ن» هى من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، والراسخون فى العلم، الذين يعرفونه بإحالة المتشابه على المحكم، والذين هم على الإيمان به إيمانهم بالمحكم.. إذ «كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا»..
وهذا للقطع الذي يمثله حرف «ن» الذي ينطق هكذا: «نون» هو لازمة النغم الموسيقى الذي تضبط عليه فواصل الآيات فى السورة كلها.. مثل:
يسطرون.. مجنون.. عظيم.. مفتون.. إلى خاتمة السورة.
وقوله تعالى: «وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ» هو معطوف على «ن» المقسم به أي أقسم بنون، والقلم وما يسطرون..
والمراد بالقلم، هو أداة الكتابة، التي يكتب بها العلماء، العلوم والمعارف..
فهو نعمة من نعم الله الجليلة، التي تخطّ على الصحف ثمرات العقول، ونتاج الأفهام.
وقد نوه سبحانه وتعالى بالقلم، ورفع قدره، فكان أول ما وضع بين يدى النبي الكريم فى أول آيات افتتحت بها رسالته: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» (١- ٥: العلق) وفى القسم بما يسطر الكاتبون بالقلم- إشارة إلى أن هذه الأداة المكرمة ينبغى ألا يكتب بها إلا ما كان من الحق والخير، وإلا ما كان دعوة إلى هدى وتوجيها إلى خير.. إنه أداة تسجيل العلوم والمعارف وحفظها، وهو ينقل عن الإنسان نتاج تفكيره، وثمرات عقله، ويقيم له بهذا ذكرا خالدا فى الحياة، بقدر ما يحمل القلم عنه من خير، وما ينشر من نفع، فكان لهذا جديرا بأن يصان من أن يخطّ باطلا، أو يسجل لغوا..
«ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ» هو جواب القسم.. وهو تكذيب لهذه التهمة الحمقاء التي كان المشركون يرمون بها النبي، حين جاءهم يقول لهم: إنه رسول الله، وإنه يتلقى آيات الله التي يحملها إليه رسول الوحى جبريل عليه السلام.. فلقد هالهم هذا الأمر، واستعظموه، ورأوا أن القول به لا يكون من عاقل، لأنه لا يقع فى تصورهم أن يكون إنسان على اتصال بعالم السماء، وبرب السماء! إن اتصال الرسول بالله، ومخاطبة الملك له، يعنى عندهم أمرا مستحيلا، أشبه بمن يقول لهم: إنى أنا الذي أرسيت هذه الجبال بيدي، فلا يرون فى قائل هذا القول إلا أنه يهذى هذيان المخمور، أو المحموم، أو المجنون..
والباء فى قوله تعالى: «بمجنون» حرف جر، ومجنون خبر المبتدأ «أنت» أي: ما أنت بذي جنة، وفائدة حرف الجر هنا، أنه يقوم حجازا فاصلا بين النبي، وبين إسناد الجنون إليه..
فهذا الجنون، وإن كان واقعا تحت حكم النفي المسلط على المبتدأ «أنت» إلّا أنه هو حقيقة ثابتة، لم يتناولها النفي الذي وقع على المبتدأ: «ما أنت».
فالمنفىّ عنه الجنون هنا، هو شخص النبي.. أما الجنون ذاته فإن نفيه عن النبي، إنما جاء تابعا للنفى الواقع على ذات النبي فى هذا المقام: «ما أنت».. أي لست أنت الذي يوصف بهذا الوصف، بل غيرك هو المجنون، من هؤلاء الذين باعوا عقولهم فى سوق الغواية والضلال..
وهذا المعنى وإن كان يتحقق مع عدم ذكر حرف الجر، بأن يجىء النظم هكذا «ما أنت مجنون» فإن فيه مواجهة للنبى بهذه الصفة، التي هى أبعد
وفى هذا كله ما يؤكد تلك الحقيقة التي جاءت الآية الكريمة لتقريرها، وهى بعد النبي- بعدا معنويا، وحسيّا- عن أن يلم بحماه الكريم شىء يمسّ عقله فى سلامته، وكماله.. ومثل هذا قوله تعالى: «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ» وقوله سبحانه: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ».. ففى هذين المقامين توكيد لنفى هاتين الصفتين المذمومتين عن النبي: التجبر، والتسيطر.. وهذا آكد وأبلغ فى نفى هاتين الصفتين عن النبي، من أن لو جاء النظم هكذا: «ما أنت جبار».
«ما أنت مصيطر»، برفع هذه الحواجز المادية التي تحجز السوء عن أن يواجه به النبي، حتى ولو كان هذا السوء واقعا فى قيد النفي..
وقوله تعالى: «بِنِعْمَةِ رَبِّكَ» - إما أن يكون جملة معترضة بين المبتدأ والخبر، يرادبها الإشارة إلى أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- فى نعمة سابغة من ربه، وهو بهذه النعمة معافى من كل عارض سوء يعرض له فى عقله، أو روحه، أو قلبه. فهذا أشبه بمن يقال له: أنت- بحمد الله- فى عافية، أو أنت- ولله الحمد- فى أمان..
وإما أن يكون قوله تعالى: «بِنِعْمَةِ رَبِّكَ»، متعلقا بمحذوف، حال من الضمير المستكنّ فى قوله تعالى: «بِمَجْنُونٍ».. أي ما أنت بمجنون، والحال أنك محفوف بنعمة ربك..!
«وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ» معطوف على جواب القسم: «ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ»، وهو وعد من الله سبحانه للنبى الكريم، بالأجر العظيم المتصل، غير الممنون، أي غير المنقطع عنه أبدا، وذلك جزاء جهاده، وصبره على ما يلقى من أذى قومه، وسفاهتهم عليه..
والأجر غير الممنون، هو غير المقطوع، أي الدائم المتصل.
ويجوز أن يكون معنى الأجر غير المنون هنا، هو الأجر الذي لا منّة عليك فيه من أحد، أي لا فضل لمخلوق عليك فيه.. فهو فضل خالص من عند الله لك، وإنك لأهل له، بما احتملت من أذى فى سبيل دعوة الحق التي تدعو إليها.. وفى هذا تنويه بقدر النبي، ورفع لمقامه عند ربه، وأن هذه المنزلة التي يلغها هى- وإن كانت من فضل الله- محسوبة من كسب النبي، ومن سعيه المحمود المبرور، عند ربه.
قوله تعالى:
«وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ».
هو تقرير لما تضمنه قوله تعالى: «وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ» - فهذا الأجر غير الممنون، هو ثمرة لهذا الخلق العظيم، الذي كان عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم.. وحسب رسول الله بهذا الوصف الكريم، من الله سبحانه وتعالى- حسبه بهذا شرفا وعزّا، حيث توّجه ربه- جلّ وعلا- بتاج الكمال كله، إذ ليس بعد حسن الخلق حلية تتحلى بها النفوس، أو تاج تتّوج به الرءوس.. ففى مغارس الخلق الحسن، كانت رسالات المرسلين، ومن أجل حماية هذه المغارس، وإطلاع ثمرها، كانت دعوة الرسل، وكان جهادهم، الذي توّج بدعوة سيد
قوله تعالى:
«فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ»..
هو وعيد للمشركين، وفضح لما هم فيه من ضلال، وأنه سيأنى يوم تنكشف فيه حالهم، ويرون فيه سوء أعمالهم، كما سيرون ما كان عليه ضلالهم فى رسول الله، وفى مقولاتهم الباطلة فيه..
وقوله تعالى: «بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ» متعلق بالفعلين: «فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ» فالفعلان يتنازعان العمل فيه، إذ هما مسلطان عليه.. فالنبى سيبصر، وهم- أي المشركون- سيبصرون، بأيّ- منه أو منهم- المفتون..
والمفتون، هو، الذي فنن بنفسه، وغرّه الغرور، فركب مركب الفتن والضلال، وهو على ظنّ أو يقين بأنه أهدى سبيلا، وأقوم طريقا..
ويكون قوله تعالى: «بِأَيِّكُمُ» متعلقا بفعل محذوف دلّ عليه المقام..» أي ستبصر ويبصرون بأيكم تتعلق الفتنة، وبأيكم يتحقق وصف المفتون، أو يتمثل شخصه..
أي فستبصر أيها النبي، وسيبصر المشركون، بأيكم كان الشيطان متلبّسا به، مستوليا عليه، مالكا زمامه؟..
والجواب واضح لا يحتاج إلى بيان، والنبي على يقين منه، وإن كان المشركون عن هذا في غفلة وضلال، وفى ادعاء وغرور.. وهذا مثل قوله
قوله تعالى:
«إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ»..
أي إنكم إذا لم تعلموا أيها المشركون وأنتم فى هذه الدنيا، أنكم مفتونون ضالون، قد أغواكم الشيطان وفتنكم- فإن ربك- أيها النبي- هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله، وانقاد لشيطانه، وبمن هو على طريق الهدى ودين الحق، فيجازى كلّا بما عمل.
قوله تعالى:
«فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ»..
هو نهى للنبى الكريم، عن أن يستمع للمكذبين، الذين يكذبون بآيات الله، ويقفون منه هذا الموقف الضال الآثم..
وفى هذا النهى جواب على قوله تعالى: «بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ» - حيث يحذّر النبي من أن يتبع سبيل هؤلاء الضالين، أو يستمع لهم.. فهو على هدى، وهم على ضلال.
وفى قوله تعالى: «وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ» - هو بيان للمدخل الخبيث، الذي يريد المشركون أن يدخلوا على النبي منه، وأن يخادعوه به.. فهم- وقد أبوا أن يستجيبوا للنبى، وأعياهم الوعد والوعيد معه أن يحوّلوه عن موقفه- هم يجيئون إليه بتلك الدعوة الخبيثة الماكرة، وهو أن يدهن أي يدارى أمره عنهم، فلا يذكر آلهتهم بسوء، ولا يظهر دعوته فى الناس، وبذلك يتركونه وشأنه، فلا يعرضون له بسوء، ولا يلقونه بأذى!!
وأصل الإدهان: المداراة، والملاطفة، وطلاء الأمر بطلاء زائف، حتى يقبل تحت هذا الزيف..
وقوله تعالى: «فَيُدْهِنُونَ» خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فهم، أي فهم يدهنون..
والمعنى، فلا تطع المكذبين، فهم يدهنون، وودوا لو تدهن.. وهذا يعنى أن المشركين المكذبين هم على حال من الخديعة والغش فيما يقولون..
فهم يدهنون مع أنفسهم، فيخادعونها بهذا الباطل الذي يزينونه لها، وهم يدهنون مع الناس فيما يحدثونهم به، وهم يدهنون مع النبي فيما يعرضون عليه من أمور..
وهذا شأن كل من يمسك بالباطل.. إنه غير مطمئن إليه، فهو يحاول دائما أن يلبسه أثوابا بعد أثواب، من التمويه والخداع، حتى يدارى ما به من علل..
وفى مجىء النهى عن طاعة المكذبين بدلا من النهى عن تصديقهم- إشارة إلى ما هو أبعد من مجرد عدم التصديق، وهو لازمه، إذ يلزم من عدم التصديق للحديث، عدم إجابته والأخذ بمضمونه.. وهذا أبلغ من مجرد
ولهذا اتجه النهى مباشرة إلى المطلوب منه، وهو عدم الاستجابة لتلك الدعوة التي يدعو إليها المكذبون.. إنهم لا يدعون إلى خير أبدا..
قوله تعالى:
«وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ».
هذه ملامح، وصفات، تشين من يتصف بها، وتحطّ من قدره فى الناس، فلا يوزن بميزان الإنسان السوىّ، الذي يطمئن إليه الناس، ويتعاملون معه فى ثقة واطمئنان.. إنه لا يتصف بهذه الصفات إنسان له على ميزان الإنسانية وزن.. وهى صفات تجتمع وتتفرق فى هؤلاء المشركين الضالين..
وسواء اجتمعت هذه الصفات كلها فى شخص واحد، أو ظهرت عليه أعراض بعضها. فإن أية صفة منها تدعو إلى غيرها، إذ هى جميعها لا تصدر إلا من طبع لئيم، ولا تنضح إلا من نفس خبيثة فاسدة..
فكثير الحلف: كذوب، منافق.. يدارى كذبه ونفاقه بهذا الستار الأسود، من كثرة الأيمان الكاذبة الفاجرة.. ولهذا وصف بأنه «مَهِينٍ» أي حقير دنىء، لأنه لا يحترم نفسه، ولا يرتفع بها عن أن يبيعها بهذا الثمن البخس، حيث يعرضها فى سوق النفاق والكذب، سلعة رخيصة، لا تجد من ينظر إليها إلا إذا جلجلت من حولها صيحات الأيمان الكاذبة..
والهماز المشاء بالنميم، هو وجه قبيح من وجوه أهل الكذب والنفاق..
فهو جبان، مهين، لا يجرؤ على أن يلقى الناس مواجهة.. وهو إذ يرمى الناس بالمساءات من وراء ظهورهم، يمشى كذلك بينهم بالنميمة، فينقل إليهم من المقولات ما بوقع العداوة والبغضاء بينهم، سواء أكان ما ينقله حقّا أو باطلا..
والمنّاع للخير: شخص مهين ذليل، ممسك بما فى يده، ضنين به، لأنه يرى أنه فى وجه الهلاك والضياع، إن هو لم يحصّن نفسه بالمال، ولم يقم عليها حارسا منه.. إن ذاتيته أضعف من أن تحمى ذاتها، ومن ثمّ كان لا بدّ لها من شىء آخر تحتمى به، وهو المال، وكل ما يمكن أن يكون مصدر نفع مادىّ.. وهذا شأن النفوس الضعيفة المهينة، كما هو شأن ضعاف الحيوان، كالنمل والذرّ.. إنها تختزن طعامها لأيام وشهور، وربما لسنين، كما أنها تجر كل ما يصادفها إلى بيتها، سواء أكانت فى حاجة إليه أم لم يكن لها به حاجة.. وفى هذا يقول الشاعر:
وهل يدخر الضرغام قوتا ليومه | إذا ادخر النمل الطعام لعامه؟ |
والمعتدى الأثيم، هو هذا الكذوب، المنافق، الهماز، المشاء بالنميم، الضنين بالخير، لأنه فى كل هذه الصفات يحمل عدوانا، ويقترف إثما.. عدوانا على الناس بالكذب عليهم، ونهش أعراضهم من وراء ظهورهم، والسعى بالنميمة بينهم، وبالضنّ بما لهم من حق فيما بين يديه من خير.. وإثما على نفسه، بما حمل من أوزار بهذا العدوان على الناس.. والعتلّ: هو الجافي، الغليظ الطبع،
والزنيم: هو الدعىّ فى نسبه، المنسوب إلى غير أبيه. أي ولد الزنا..
وفى قوله تعالى: «بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ» - إشارة إلى أن هذه الصفة، وهى الزنامة، هى صفة تفوق فى شناعتها تلك الصفات المذكورة كلها.. أي ومع الصفات الشنيعة كلها، فإنه قد جمع إليها الزنامة، التي هى وحدها مجمع المساءات كلها..
وينسب المفسرون هذه الصفات إلى الوليد بن المغيرة، تارة، وإلى الأخنس ابن شريق تارة أخرى.. ويقولون: ، إن الوليد لم يكن ابن المغيرة، وإنما ادعاه المغيرة ونسبه إليه، وهو فى الثامنة عشرة من عمره..
والرأى عندنا، أن هذه الصفات تجمع مجتمع أهل الضلال جميعا، من منافقين ومشركين.. وهى صفات لا يمكن أن تحتملها طبيعة بشرية، باعتبارها صفات ذاتية، ثم يكون لهذا الإنسان المتصف بها وجود بين الناس، وإن غاية ما يمكن أن تحتمل النفس البشرية من طبائع السوء، هو أن تكون على صفة من تلك الصفات اللئيمة، ثم ينضح عليها من تلك الصفة كثير أو قليل من المقابح والمنكرات.. بمعنى أن تكون تلك الصفة الذميمة هى الأمّ التي تتجمع حولها صفات أخرى ذميمة، تكون أشبه بالأعراض لهذه الصفة.. أما أن تكون كل صفة منها ذات وجود ذاتى فى إنسان، فهذا ما يخرج الإنسان جملة من عالم الإنسانية، ويجعله زنيما، أي دعيّا فى نسبه إلى الإنسانية..
ولهذا جاء لفظ «كلّ» فى قوله تعالى: «وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ»
وعلى هذا فإنه يمكن أن يكون للزنيم هنا معنى أعم من معنى أن يكون الإنسان دعيّا فى نسبه إلى أب، أو قبيلة، وذلك بأن يحمل على أنه دعىّ فى نسبه إلى المجتمع الإنسانى كله، فإن من تستولى عليه صفة من هذه الصفات، جدير بها أن تجعله مستنبتا للخبائث كلنا، فنغتال فيه كل معنى من معانى الإنسانية، وبهذا يصبح وجوده فى الناس، وجودا غير شرعى، ويكون انتماؤه إليهم انتماء الأدعياء إلى غير آبائهم.. فهو لصيق فى الناس، كما أن المنتسب إلى غير أبيه لصيق بمن انتسب إليه.. فكيف بمن جمع هذه الرذائل جميعها، واحتواها فى كيانه؟
هذا، وإذا كانت هذه الآيات قد واجهت حالا من أحوال الوليد أو غيره ممن يقال إنها نزلت فيهم، فإن هذا لا يعنى أكثر من أن هذا الشخص، كان الصورة التي تجتمع فيها تلك الصفات، وتحمل أكبر قدر منها، ولهذا كان أصلح من يضرب به المثل فى هذا المقام، ليكون شارة للإنسان الذي خرج من عالم البشر..
قوله تعالى:
«أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ؟» أي ألأن كان هذا الصنف من الناس ذا مال وبنين، يركبه الغرور، ويستبد به الضلال، حتى إذا تليت عليه آياتنا، لوى وجهه عنها، ووصفها هذا الوصف المشين، وأضافها إلى الكذب والافتراء، وقال عنها إنها من أساطير الأولين، وخرافاتهم؟. والاستفهام يراد به الوعيد والتهديد.
فهذه الآيات، قد تواترت الأخبار على أنها نزلت فى الوليد بن المغيرة..
وبين هذه الآيات، والآيات التي فى سورة «القلم» شبه كبير، كما هو ظاهر..
قوله تعالى:
«سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ».. هذا تحقيق للوعيد الذي حمله الاستفهام فى قوله تعالى: «أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ؟» والوسم، أشبه بالوشم، وهو علامة يعلّم بها الحيوان، بالكيّ فى موضع بارز من جسمه، فيكون أثر الكي علامة مميزة له، دالة على مالكه..
والخرطوم: الأنف، ولا يقال إلا للأنف الطويل، كخرطوم الفيل مثلا..
وفى هذا وعيد وتهديد لهذا الإنسان الذي ركب رأسه وشمخ متطاولا بأنفه، وهام فى أودية الضلال على وجهه، كما تهيم السائمة فى البراري والقفار..
وفى وسم هذا الضال على أنفه الذي تشامخ به، ونفخه بالغرور، حتى طال وتورم وصار كالخرطوم- فى هذا- إذلال له. وإهدار لآدميته، ودمغه بهذا الوشم كما يدمغ الحيوان.. إنه ليس من عالم الناس! ثم ليس هذا وحسب، بل إن الوسم سيكون فى أعزّ مكان منه، وهو
الآيات: (١٧- ٣٣) [سورة القلم (٦٨) : الآيات ١٧ الى ٣٣]
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١)
أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١)
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣)
[بين أصحاب الجنة ومشركى قريش] التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ».
والبلاء، والابتلاء: الاختبار، والامتحان.. بالخير، وبالشر.
والآية تشير- كما يذهب إلى ذلك أكثر المفسرين- إلى ما كان من ابتلاء الله سبحانه للمشركين من مضر، إذا أخذهم الله بالقحط والجدب، استجابة لدعوة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، إذ دعا عليهم الرسول بقوله، فيما يروى عنه: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف»..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ» (١٠- ١٢: الدخان).. وقد مضى تفسير هذه الآيات فى سورة الدخان..
والرأى عندنا- والله أعلم- أن هذا الابتلاء الذي ابتلى به المشركون، هو هذا القرآن الكريم، الذي جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتلوه عليهم، ويدعوهم إلى الحياة فى ظله، والقطف من ثماره.. فهو الجنة التي تؤتى ثمارها كل حين بإذن ربها، وأنهم لو جاءوا إلى هذه الجنة بقلوب سليمة، ونفوس مطمئنة لكان لهم منها زاد عتيد لا ينفد أبدا.. أما وقد جاءوها فى تلصص ومخالسة، وفى ستار من ظلمة الليل، يريدون أن يصبح الناس فلا يرون لثمرها أثرا- فقد فوت الله سبحانه عليهم ما يريدون، وحال بينهم وبين ما يشتهون..!!
وسنعرض لوجه الشبه بين المشركين، وأصحاب الجنة، بعد أن نلتقى مع هذه الآيات التي عرضت لهذه الجنة وأصحابها..
قد يكونون إخوة أو شركاء، يملكون جنة، فيها زرع، ونخيل، وأعناب، ونحو هذا مما يطلق عليه اسم «جنة».. أما مكان هذه الجنة، وزمانها، وأعيان أصحابها، فلم يلتفت القرآن إلى شىء منه، إذ لم يكن لشىء من هذا متعلّق بالحدث، ولا بموقع العبرة الماثلة منه.. ومع هذا فقد كثرت المقولات، وتعددت الروايات، التي تحدد مكان هذه الجنة وزمانها، وعدد أصحابها، الأمر الذي يخرج بالحدث عن مضمونه، ويكاد يقطع النظر عن موضع العبرة منه، بما يزدحم بين يديه من ألوان وظلال، وحركات، وصور.. للزمان، والمكان والأشخاص..
ومن جهة أخرى، فإن هذه القيود التي يشدّبها الحدث إلى زمان بذاته، أو مكان بعينه، أو أشخاص بسماتهم- هذه القيود تجمّد الحدث، وتفقده الحياة والحركة، عبر الأزمان والأماكن، على خلاف ما لو أطلق من هذه القيود، حيث يراه الناس فى كل مكان، وزمان، ويشهدونه فى كل مجتمع، صغير، أو كبير..
وابتلاء أصحاب الجنة هؤلاء، الذين ابتلى الله سبحانه مشركى قريش، كما ابتلاهم- هو فيما كان منهم من تدبير سيء، ومكر بنعم الله عليهم، فكان أن انتزع الله سبحانه هذه النعمة من بين أيديهم، وقتلهم بالسلاح الذي كانوا يحاربونه به.. كما سنرى ذلك فيما تحدث به الآيات من قصتهم..
وقوله تعالى: «إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ».. أي أن الابتلاء لأصحاب الجنة كان منذ وقع منهم هذا القسم الذي أقسموه على جنى ثمر الجنة وقطعها «مُصْبِحِينَ» أي فى أول مطلع الصباح، وعند استقبالهم له..
وقوله تعالى: «وَلا يَسْتَثْنُونَ» هو حال من فاعل: «لَيَصْرِمُنَّها» أي أقسموا ليقطعنّ ثمر الجنة مستقبلين الصبح، غير مستثنين شيئا منها أو مبقين على شىء من ثمر هذه الجنة من غير حصاد أو جنى، حتى لا يبقى لأحد من الفقراء، نظر يتعلق بشىء من ثمرها..
فهذا ما أقسموا عليه، وقد جاء به القرآن على لسانهم..
ويجمع المفسرون على أن قوله تعالى: «وَلا يَسْتَثْنُونَ» هو بمعنى أنهم حين أقسموا على صرم الجنة صباحا، ولم يستثنوا فى هذا القسم، أي لم يقولوا: إن شاء الله!! وهذا المعنى غير مقبول من وجوه:
فأولا: من جهة نظم الكلام، لأن ما ذكره القرآن عنهم هو حكاية لقول قالوه فى زمن مضى، ولهذا جاء به النظم القرآنى بلفظ الماضي: «إِذْ أَقْسَمُوا».. فهم قد أقسموا فى الماضي، أما ما أقسموا عليه، فهو قطع ثمار الحديقة صباح الغد، أي فى زمن مستقبل، وهو: «لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ»..
أما قوله تعالى: «وَلا يَسْتَثْنُونَ» فهو من منطوقهم الذي نطقوا به، وهو من جملة ما أقسموا عليه.. فلو أن هذا القسم مطلقا، دون أن يقيدوه بالمشيئة- لو كان المعنى على هذا، لكان مقتضى النظم أن يجىء هكذا: «أقسموا ليصرمنّها مصبحين ولم يستثنوا» !! ولكن النظم القرآنى جاء كما يقول سبحانه: «أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها
.. فالاستثناء هنا معنى مرتبط بقوله تعالى:
«لَيَصْرِمُنَّها» كما تعلق به لفظ «مُصْبِحِينَ» وكلاهما حال من أصحاب الجنة..
بمعنى أنهم أقسموا ليصرمنّها كلها، غير تاركين شيئا من ثمرها، وذلك فى مطلع الصبح..
وثانيا: من جهة المعنى.. فإن فى حمل قوله تعالى: «وَلا يَسْتَثْنُونَ» على أنه استثناء مشيئة، بمعنى أنهم أطلقوا القسم من غير أن يقولوا إلا أن يشاء الله- فى هذا الحمل إفساد للمعنى، وخروج به عن الغاية المرادة من الاستثناء فى هذا المقام، لو أريد..
ذلك أن قرن القسم بالمشيئة، هو ضمان لتحققه، كما أن عدم الاستثناء قد يفوّت الأمر المقسم عليه.. وهذا يعنى أن القوم حين أقسموا ولم يستثنوا، لم يتحقق لهم ما أقسموا عليه، وهو جنى ثمار جنتهم، كما يعنى أنهم لو قرنوا القسم بالمشيئة، لتحقق لهم ما أقسموا عليه، ولكن الأمر على خلاف ذلك، فهم أقسموا، ولم يقرنوا القسم بالمشيئة- كما يقول المفسرون- ولم يتحقق لهم ما أقسموا عليه.. فكيف يتفق هذا مع ما يريد المفسرون تحقيقه بالمشيئة؟ فهل كان هذا عملا مبرورا منهم يراد له أن يتحقق، وذلك بأن يعزّز بمشيئة الله؟ ذلك إفساد للمعنى أىّ إفساد!..
ثم أكان ربط القسم بالمشيئة يدفع عنهم ابتلاء الله لهم، وأخذهم بما مكروا؟..
وهل القسم على أمر منكر كهذا الأمر الذي أقسموا عليه يطلب له تزكية بالمشيئة، حتى يكون فى ذلك ضمان لتحققه؟ وهل من المحمود إذا أقسم الإنسان على فعل منكر أن يقدّم مشيئة الله بين يديه، فيقول مثلا: والله لأقتلن فلانا
أمّا إذا كان الأمر مكروها أو منكرا، فإن المطلوب هو عدم قرنه بالمشيئة، حتى يحرم صاحبه التوفيق فى إصابة هذا الأمر، وتحقيقه.. بل إن المرء لو أقسم على مكروه، أو منكر، كان عليه أن يتحلل من يمينه، وأن يكفّر عنها، كما يقول الرسول الكريم كما رواه مسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليكفّر عن يمينه، ثم ليفعل الذي هو خير».
وعلى هذا، فإن قوله تعالى: «وَلا يَسْتَثْنُونَ» هو من جملة ما أقسم عليه المقسمون، أي أنهم أقسموا ليصرمن جنتهم مصبحين على ألا يدعوا شيئا من ثمرها مستثنى لوقت آخر.. وهذا ما يتفق والغاية التي قصدوا إليها من تدبيرهم الذي دبروه، وهو ألا يعطوا الفرصة للفقراء والمساكين فيما كان لهم طمع فيه، وتعلق به..
وقوله تعالى:
«فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ» الفاء هنا للتعقيب، وهى فاء الجزاء أيضا.. أي أنهم بعد أن دبروا هذا التدبير السيّء، وأكّدوه بالقسم، أوقع الله بهم العقاب الذي استحقوه بتدبيرهم السيّء هذا.. فطاف على جنتهم طائف من الله سبحانه، وهم نائمون، أي مرّ عليها نذير من نذر الله، وهم نائمون، يحلمون بلقاء جنتهم مصبحين، يقطفون كل ثمارها غير مبقبن على شىء، وإذا هى وقد عريت من كل ثمر!!
والطائف: من يطوف ليلا، فلا يكاد يرى، ومنه الطيف، الذي يطرق النائم، من حبيب، أو صديق.
وقوله تعالى: «فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ» - أي أصبحت هذه الجنة بعد أن طاف عليها الطائف المسلط عليها من عند الله- أصبحت كالصريم، أي كالجنة الصريم، التي قطفت ثمارها.. أي أن هذا الطائف، قد سبق القوم إلى ما كانوا يريدون، فإذا هو قد جنى كل ثمرها، وكأنه بهذا قد تولى الأمر عنهم، وأراد أن يريحهم من هذا العناء الذي يكابدونه فى حصاد ثمرها، وأنه قد فعل هذا دون أن يراه فقير أو مسكين! أليس هذا هو الذي أرادوه؟ لقد تحقق لهم على أكمل وجه!! ولكن أين ذهب الثمر؟ إنهم لو وجدوه مقطوفا، حاضرا بين أيديهم، لعدّوا ذلك من فضل الله عليهم، وإحسانه إليهم.. فأين هو الثمر؟
ليس ببعيد أن يكون الآن بين أيدى الفقراء والمساكين، الذين أرادوا حرمانهم منه، وقد وصل إلى أيديهم على أية صورة من الصور.. فإنه ليس ببعيد- وقد بان لهم أن ما حدث لجنتهم كان عقوبة من الله لهم- ليس ببعيد بعد هذا أن تضاعف لهم العقوبة، فيحرموا مما أرادوا أن يحرموا منه غيرهم، ثم يساق هذا الذي حرموه إلى من أرادوا حرمانهم! ومن يدرى، فقد يكون هؤلاء المساكين قد سبقوهم إلى هذا التدبير، فدبروا لهم هذا التدبير، كما أرادوا هم بالمساكين!! وإنه غير بعيد أن تدور مثل هذه الخواطر فى رموس أصحاب الجنة فتزداد حسرتهم، ويتضاعف ألمهم.. «وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» (٣٠: الأنفال)
«فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ».
أي نادى بعضهم بعضا، فى بكرة الصباح، أن أسرعوا إلى زرعكم، إن كنتم منفذين لما عقدتم العزم عليه بالأمس..
وقوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ» هذا من قول بعضهم لبعض، وفيه تحريض لأنفسهم على المبادرة والإسراع بتنفيذ ما اتفقوا عليه.. وكأن كلّا منهم يقول لصاحبه: هيا أسرع!! ماذا جرى؟ ألا تريد أن نمضى فيما عزمنا عليه؟
فلم هذا التباطؤ إذن؟
قوله تعالى:
«فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ».
أي أنهم سرعان ما اجتمع أمرهم، فانطلقوا مسرعين، يتحدث بعضهم إلى بعض، فى صوت خفيض هامس، حتى لا يحسّ بهم أحد، ولا يستيقظ على خطوهم أو صوتهم من يشهد ما يفعلون، وهم يجنون ثمر جنتهم!.
وقوله تعالى: «أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ» هو بيان لما كانوا يتخافتون به، ويوصى به بعضهم بعضا، وهو ألا يدخل الجنة عليهم أحد فى يومهم هذا.. وهذا الحديث المتخافت بينهم، هو توكيد لما كانوا قد اتفقوا عليه من قبل.. وهو مفهوم من قوله تعالى: «إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ».. فهذا القسم، يخفى وراءه أمرا يريدون توكيده بهذا القسم، وعقد العزم عليه. فإن مجرد رغبتهم فى جنى ثمار جنتهم لا يحتاج إلى قسم، إذ كان ذلك الأمر إليهم، يفعلونه كما يشاءون، وفى أي وقت يريدون..
أما القسم، فهو لغاية أكثر من مجرد قطف ثمار الجنة وحصاد زرعها..
ثم إن فى قوله تعالى: «مُصْبِحِينَ» - إشارة أخرى تشير إلى أن وراء
قوله تعالى:
«وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ»..
أي أنهم أحكموا أمرهم، وأخذوا طريقهم إلى تنفيذه، واجتمعت بين أيديهم الوسائل الممكّنة لهم منه.
فهاهم أولاء قد استيقظوا مبكّرين، وما زال الناس نياما، وهاهم أولاء قد أوشكوا أن يبلغوا جنتهم دون أن يتنبه إليهم أحد، أو يتبعهم مسكين..
والحرد: القصد، والوجهة التي يأخذها الإنسان لغايته.. ومنه قول الشاعر.
سيل جاء من عند الله | يحرد حرد الجنة المغلة |
قوله تعالى:
«فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» أي أنهم حين انتهى بهم الطريق إلى حيث كانت جنتهم، طلع عليهم هناك منها ما جعلهم ينكرونها، وينكرون أنفسهم حيالها.. إنها ليست جنتهم!!
وقوله تعالى: «بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» هو إضراب على قولهم: «إِنَّا لَضَالُّونَ»..
فهم- وقد عرفوا الحقيقة- ليسوا ضالين عن الطريق إلى جنتهم.. إنها هى، هى، وإن تبدلت أحوالها، وتغيرت معالمها، وذهب كل خير كان فيها..
فهم ليسوا ضالين عنها إذن، وإنما هم محرومون من ثمرها، الذي لا يدرون إلى أين ذهب! قوله تعالى «قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ؟ لَوْلا تُسَبِّحُونَ» وهنا يأخذ القوم فى مراجعة أمرهم على ضوء هذه الحقيقة التي تكشفت لهم، ويكثر بينهم الأخذ والردّ.. ويمسك القرآن من حديثهم باللّباب منه، ضاربا صفحا عما لا غناء فيه، في هذا الموقف..
ومما رآه القرآن مستحقّا للذكر من أحاديثهم، هو قول أوسطهم، وهو أقربهم إلى الخير والحق.. ففى كل جماعة- أيّا كانوا من الضلال والسفه- بعض النفوس التي لا تخلو من خير، وبعض العقول التي لا تحرم الرؤية السليمة للأمور، فى وسط هذا الضلال المنعقد حولها..
ففى بيئة فرعون- على ما كان بها من إغراق في الضلال- كانت امرأة فرعون، وكان مؤمن آل فرعون، وقد جعل القرآن لهما ذكرا طيبا في المذكورين من
وفى هذه الجماعة من أصحاب الجنة، كان فيهم من لم يرض فى قرارة وجدانه عن هذا التدبير السيئ الذي دبره أصحابه، وربما كان له موقف معارض لما أرادوا.. ولكن أصحابه غلبوه على أمره، لأن إيمانه بما كان يدعوهم إليه لم يكن متمكنا من قلبه ولو أن هذا الإيمان كان قويّا متمكنا، لما تحول عنه، ولكان بالحق الذي معه، قادرا على أن يقهر الباطل الذي معهم.. ولهذا أخذه الله بما أخذ به أصحابه، من ابتلاء..
لقد كان فى كيانه شرارة من خير، ولكنه لم يقدح هذه الشرارة بعزيمة صادقة، وإرادة عاقلة، فانطفأت جذوتها، وأصبحت رمادا لا يرجى منه خير..
وهكذا كل من يجد فى نفسه نازعة من نوازع الخير ثم يغفل عنها، إنها تموت كما تموت النبتة البازعة على وجه الأرض، إن لم تجد من يرعاها، ويسقيها..
وفى قوله تعالى: «قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ؟» - بيان لموقف هذا الإنسان المقتصد فى عدوانه، وأنه هنا يذكّر أصحابه بموقفه الذي كان منه معهم..
«أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ؟» أي ألم أقل لكم، قولا لو أخذتم به لما حدث لنا هذا الذي حدث؟. وقد حذف مقول القول، لدلالة الحال عليه.. وهذا أولى عندنا من أن يكون مقول القول هو قوله: «لَوْلا تُسَبِّحُونَ» كما يذهب إلى ذلك أكثر المفسرين..
فقوله تعالى: «لَوْلا تُسَبِّحُونَ» - هو من مقول أوسطهم، وهو تحضيض لهم على الإنابة إلى الله، واستغفاره على ما كان منهم.. أي هلا تسبحون الله؟.. أي بادروا بذكر الله، فهذا الذكر هو عزاؤنا فى هذا المصاب الذي بين أيدينا.. ويكون النظم على هذا هكذا: ألم أقل لكم، ما علمتم ولم تأخذوا به؟ وهأنذا أقول لكم الآن قولا أرجو أن تأخذوا به: ألا تسبحون الله، وتستغفرون لذنبكم؟
قوله تعالى:
«قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ».
هو استجابة من الجماعة لما دعاهم إليه أوسطهم، من تسبيح الله، فقالوا سبحان ربنا.. إنا كنا ظالمين..
لقد اعترفوا بذنبهم، واستغفروا ربّهم.. وهم بين يدى رحمته.. إن شاء- سبحانه- رحمهم، وقبل توبتهم.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ». (١٩٩: البقرة) قوله تعالى:
«فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ»..
أي أنه كان منهم وهم على بساط التوبة والندم- كان منهم حديث يلوم
قوله تعالى:
«قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ»..
هذا ما انتهى إليه تلاومهم، ومراجعتهم لما كان منهم.. فلقد استبان لهم أنهم كانوا معتدين حقّا، قد ركبوا طريق الطغيان، والاعتداء على حقوق المساكين فيما خوّلهم الله سبحانه من نعم.. وهذا الاعتراف بالذنب، هو الطريق الصحيح إلى التوبة، إن صدقته النية، وانعقد عليه العزم..
قوله تعالى:
«عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ» - هو من مقول القوم فى رجوعهم إلى الله سبحانه، بعد أن اعترفوا بذنبهم، وطلبوا المغفرة من ربهم، فكان هذا مدخلا لهم إلى أن يطمعوا فى فضل الله، وأن يرغبوا إليه فى أن يبدّلهم خيرا من جنتهم تلك التي ذهبت..
قوله تعالى:
«كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ»..
أي بمثل هذا العذاب الدنيوي نوقع عذابنا بأهل الضلال.. فهو عذاب قد ينالهم فى أموالهم، أو أنفسهم.. ولكنه ليس كلّ العذاب.. بل هناك عذاب أقوى وأشد وأكبر.. هو عذاب الآخرة..
وهذه التفرقة بين عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة، لا يعرفها إلا أهل العلم
والسؤال هنا:
ما وجه الشبه بين هذا البلاء الذي ابتلى به أصحاب الجنة، وما ابتلى الله المشركين به؟.
الذي ينظر فى الآيات التي عرضت لقصة اصحاب الجنة، يرى أنها تمثل تمثيلا دقيقا صادقا موقف المشركين من رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- ومن الخير الذي يبسط به يده الكريمة إليهم، وأنهم كانوا بين يدى هذا الخير، بين مغالين ومقتصدين فى التدبير السيئ له، وأن المغالين منهم قد غلبوا على المقتصدين، فكانوا جميعا فى هذا الموقف المنحرف من الخير الذي يدعون إليه، والذي يريدون حرمان الفقراء والمستضعفين من الاتصال به، والإفادة منه.. وهكذا تجرى أحداث قصة أصحاب الجنة خطوة خطوة، مع مسيرة المشركين، وموقفهم من تلك الجنة السماوية التي بين أيديهم..
لقد ضلوا عنها أول الأمر، وحرموا زمنا من ثمرها الطيب المبارك، ثم رجعوا إلى الله نادمين مستغفرين، بعد أن مسّهم بعض العذاب فى الدنيا، بما أصيبوا به فى بدر وغيرها، وبمن مات منهم على شركه وكفره، فعاد الله سبحانه وتعالى عليهم بالتوبة والمغفرة.
الآيات: (٣٤- ٤٧) [سورة القلم (٦٨) : الآيات ٣٤ الى ٤٧]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨)
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧)
قوله تعالى:
«إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ».
هو فى مقابل التهديد، الذي هدد به المشركون، الذي ابتلاهم الله سبحانه، كما ابتلى أصحاب الجنة، بما أخذهم به من عذاب قبل يوم الفتح، ثم إن وراء هذا عذابا شديدا فى الآخرة، لمن لم يعدل عن طريق الضلال، ويأخذ طريق الحق، والهدى، ويلتقى مع ربه على توبة وإيمان..
فالآخرة ليست دار عذاب وحسب، وإنما هى دار نعيم كذلك..
فهى دار عذاب للكافرين وأشياع الكافرين، وهى دار نعيم للذين آمنوا وعملوا الصالحات.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ» (٢٠: الحديد)..
«أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ» ؟
هو استفهام يراد به النفي.. أي أننا لا نجعل المسلمين كالمجرمين، فلا نسوّى بين هؤلاء وأولئك فى الجزاء.. فإذا كانت النار هى مثوى المجرمين، فإن الجنة هى دار المسلمين..
وفى التعبير عن المسلمين بدلا من المتقين، الذين جاء هذا الاستفهام تقريرا وتوكيدا لما وعدوا به فى قوله تعالى: «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ» - فى هذا التعبير إشارة إلى أن ذلك كان فى أول الدعوة الإسلامية، إذ الدعوة فى أساسها دعوة إلى الإسلام، والذين استجابوا لها كانوا يسمون المسلمين..
فكلمة الإسلام حينئذ كانت الكلمة الجامعة للإسلام، والإيمان، والتقوى، جميعا، إذ لم يدخل فى الإسلام إلا من أشرق قلبه بنور الحق واليقين، فلم يكن إسلام من أسلم فى أول الدعوة، عن رهبة، أو طمع فى شىء من متاع الدنيا..
إن كل مسلم استجاب لدعوة الإسلام فى هذا الدور من الدعوة الإسلامية، كان مسلما، وكان مؤمنا، وكان تقيّا، أي آخذا الإسلام كلّه، ظاهرا، وباطنا، إذ كان الذين استجابوا للإسلام، إنما استجابوا عن فطرة سليمة، ونفس مطهرة من رجس الجاهلين، وقلوب متفتحة للحق، متشوفة إلى الهدى، وحيث وطنوا أنفسهم على احتمال البلاء، وتلقى ضربات المشركين، بثبات ويقين..
فلم يكن- والأمر كذلك- شىء يدخل على إسلامهم من نفاق أو طمع فى جاه أو مال.. بل هى التضحية والفداء، فى سبيل الحق الذي آمنوا به..
ومن جهة أخرى، فإن كلمة «المسلمين» فيها معنى السلام، والسلامة، وخلوّ الإنسان مما يؤاخذ عليه..
فإذا وقعت المقابلة بين المسلمين والمجرمين، وطلب إلى المشركين أن يجيبوا على هذا السؤال: أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟ لم يكن لهم أن يشغبوا، وأن يجدوا مهربا من الجواب الذي يقهرهم الواقع على النطق به.. فإنهم لو قالوا: نعم، نسوى بين المسلمين والمجرمين، فإن المسلمين الذين استجابوا لمحمد، هم فى نظرنا مجرمون- إنهم لو قالوا هذا لوجدوا من يسفّه رأيهم.. لأنهم حكموا فى قضية غير القضية التي دعوا إلى قولهم فيها.. إن القضية ليست بين الإسلام والشرك، وإنما هى بين أهل السلام، وبين المجرمين.. فهل يسوّى بين البريء والمجرم؟
ولهذا جاء قوله تعالى: «ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» منكرا عليهم أن يقولوا بهذه التسوية بين المسلمين والمجرمين.
ولو أنه لم يكن لكلمة المسلمين، هنا، منصرف إلى معنى آخر غير معناها الديني الذي هو علم على أتباع محمد- لو أن ذلك كان كذلك، لما كان هناك وجه للاعتراض على المشركين فى تسويتهم بين المسلمين والمجرمين، لأن ذلك- على ما فيه من ضلال وسفه- هو رأى المشركين فى المسلمين.
وعلى هذا فلا يكون لقوله تعالى: «ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟» متوجه إليهم، لأنهم حكموا بما يعتقدون.. فلا يطلب منهم- والأمر كذلك- أن يقولوا غير ما قالوه- وإن كان ضلالا، وزيفا!!
فقد يكون المشرك، ولا سلطان لأحد عليه، يأخذه بشركه، ويعاقبه عليه، ولكنّ هؤلاء المشركين، هم واقعون تحت سلطان قاهر، لا يفلتون من عقابه الذي حق عليهم بعد أن بلّغهم الرسول رسالة ربه.. فهم قبل بعثة الرسول إليهم، كانوا مشركين، واقعين تحت قوله تعالى: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (١٥: الإسراء).. أما الآن، وقد جاءهم الرسول، وبلّغهم ما أرسل به إليهم، ولم يقبلوا منه ما دعاهم إليه من الإيمان بالله وحده- أما الآن، فهم مشركون، مجرمون، يساقون إلى الحساب، والجزاء.. وإنه لا جزاء للمشركين المجرمين إلا النّار..
قوله تعالى:
«ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟» هو تعقيب على قوله تعالى: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ».. وفى هذا نخس المشركين، وإيقاظ لهم من غفلتهم، وكشف لهم عن ضلالهم..
«أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ» هو إضراب على إجابتهم الباطلة، التي أجابوا بها فيما بينهم وبين أنفسهم، على ما سئلوا عنه فى قوله تعالى: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟» والتي أنكرت عليهم، وسفهت أحلامهم من أجلها.. فإذا كان لهم ما يدفعون به عن أحلامهم تلك السفاهة، وأن يضيفوا ما أجابوا به إلى كتاب درسوه وتلقوا عنه هذا الجواب، فليأتوا بهذا الكتاب، إن كانوا صادقين، وليأخذوا من هذا الكتاب ما يختارون، مما يقيم لهم حجة على ما يقولون، فإن أي قول يقولونه من هذا الكتاب سيقبل منهم أيّا كان منطقه، وأيّا كان موقعه من الحق.. إنهم أميّيّون، لا كتاب معهم، وإتيانهم بكتاب أمر غير ممكن لهم.
وفى هذا تحدّ للمشركين، ونفى قاطع أن يكون لهم كتاب.. إنهم لم يكونوا أبدا أهل كتاب، ولو أنهم أرادوا أن يكونوا أصحاب كتاب لما كان لهم غير هذا الكتاب الذي يتلوه عليهم رسول الله..
فقوله تعالى: «إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ» هو احتكام إلى هذا الكتاب، وهو القرآن الكريم، وإلى مقولاته، وهو كتاب لا وجود له بين أيدى المشركين الذين أبوا أن يقبلوه، وأن يضيفوا أنفسهم إليه.
قوله تعالى:
«أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ؟ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ»..
قوله تعالى:
«سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ».
هو أمر للنبى الكريم أن يلقى المشركين بهذا السؤال، وهو أن يخرجوا من بينهم الزعيم الذي يتولى عنهم القول بأن لهم كتابا، أو أن لهم مع الله عهدا، ثم يكون هذا الزعيم ضامنا وكفيلا بتقديم الحجة على هذا أو ذاك، ساعة الحساب، ويوم الجزاء! فأين منهم من يتولّى هذا الأمر عنهم، ويحمل مسئوليته دونهم؟
قوله تعالى:
«أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ؟ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ»..
وإذا لم يكن للمشركين شىء من هذا كله، فلا كتاب معهم، ولا عهد من الله لهم، ولا زعيم منهم يزعم أن لهم شيئا من هذا- فهل لهم شركاء
وقوله تعالى:
«يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ».
هو جواب على سؤال من المشركين يواجهون به هذا التهديد الذي سيق إليهم من قوله تعالى: «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ».
وكأنهم إذ يسمعون هذا التهديد المتحدّى يقولون: «متى تأتى بهؤلاء الشركاء» ؟
إنهم حاضرون معنا.. إنهم آلهتنا تلك التي نعبدها.. فيجيئهم الجواب: «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ»..
وقوله تعالى: «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ» هو كناية عن يوم القيامة، وما فيه من شدائد وأهوال.. فإن العادة قد جرت أنه حين يشتد الأمر يشمّر الإنسان عن ساقه، حتى لا تعوقه ملابسه عن الحركة، والجري، فى مواجهة الشدائد، أو الفرار منها.. وفى هذا يقول الشاعر:
قد شمّرت عن ساقها فشدّوا | وجدّت الحرب بكم فجدوا |
لقد مضى زمن السجود، فلا سبيل لهم إليه..
قوله تعالى:
«خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ»..
هو بيان لحال المشركين يومئذ، حين حاولوا السجود لله، وتدارك ما فاتهم، فلم يفلحوا، وقد لبستهم حال من الغم، والكمد، فخشعت لذلك أبصارهم ذلة وانكسارا..
وقوله تعالى: «وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ».. هو جواب لسؤال مقدر، وهو: ما ذنب هؤلاء المشركين إذا دعوا إلى السجود ولم يستطيعوا؟ وهل يكلّف الإنسان ما لا يستطيع؟ وهل يحاسب على ما يجاوز استطاعته؟ فكان الجواب: إنهم لم يحاسبوا على عجزهم عن السجود يوم القيامة، لأنّهم فى حال لا يمكّنون فيها من هذا السجود، وإنما هم يحاسبون على امتناعهم عن السجود، حين دعوا إليه وهم سالمون، أي وهم فى الدنيا، حيث تصحّ العبادة، وتقبل الأعمال.. فالمراد بالسلامة هنا، هو سلامة الوقت الذي تصحّ فيه الأعمال، وتقع موقع القبول.
قوله تعالى:
«فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ» ذرنى، أي دعنى، واتركني.
وهذا الفعل من الله سبحانه، هو تهديد مزلزل لهؤلاء المشركين، الذين يكذبون بآيات الله، ولا ينتفعون بوعد أو وعيد منها..
والواو فى قوله تعالى: «وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ» - واو المعيّة، أي بمعنى مع..
وقوله تعالى: «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ» أي سنسوقهم إلى الهلاك رويدا رويدا، وندفع بهم إلى جهنم خطوة خطوة، دون أن يشعروا أنهم سائرون إلى هذا البلاء العظيم، بل إنهم ليحسبون أنهم على هدى، وأنهم على موعد مع الخير العظيم الذي يلوح لهم من وراء هذا السراب الخادع الذي يتراءى لهم، فإذا انتهى بهم المطاف إلى غايته، وتكشف لهم أنهم كانوا مخدوعين بهذا السراب، تضاعفت حسرتهم، وعظمت مصيبتهم.
وفى قوله تعالى: «فذرنى» - مع أن الله سبحانه وتعالى لا يحجزه أحد عما يريد- إشارة إلى إطلاق يد الله فيهم بالعذاب والنكال، فهو مثل قوله تعالى:
«سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ».. والمراد بالحديث هنا فى قوله تعالى: «فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ» - هو القرآن الكريم، وما يسوق إلى المشركين من نذر بالبلاء والعذاب.
والاستدراج: هو فتح منافذ الإغراء إلى الشيء. واستدراج الله سبحانه وتعالى لأهل الضلال، هو أن يخلى الله سبحانه وتعالى بينهم وبين أنفسهم، وما زينت لهم من أباطيل، فينتقلون من ضلال إلى ضلال، خطوة خطوة، حتى يقعوا فى الهاوية..
قوله تعالى:
«وَأُمْلِي لَهُمْ.. إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ».
أي ومن هذا الاستدراج الذي يستدرج به الله سبحانه، المشركين، أنه
وقوله تعالى: «إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» أي إن تدبيرى محكم، فإذا أمليت لظالم فإنما أملى له، لأضاعف له العذاب، لمضاعفته هو المنكرات والسيئات، حين امتدّ عمره، وكثر المال فى يده، ليحارب به الله، ويسلك به كل سبيل من سبل الفساد والضلال.
قوله تعالى:
«أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ».
هو مواجهة للمشركين بهذا السؤال التهكمى، بعد أن ووجهوا بالوعيد والتهديد فى قوله تعالى: «فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ».. إذ ماذا يحجزهم عن الاستجابة لهذا الخير المدعوّين إليه؟ وما لهم لا يمدون أيديهم إليه؟ أأنت أيها النبي تطلب إليهم ثمنا لهذا الخير الذي تقدمه لهم، حتى إن هذا الثمن يثقلهم، ويحول بينهم وبين الوصول إلى هذا الخير؟ إن أحدا لم يطلب منهم شيئا فى مقابل هذا الرزق الكريم المبسوط للناس جميعا.. ولكن هى نفوسهم الخبيثة التي عافت هذا الطعام السماوي، ووقفت إزاءه نافرة منه، وهو يقدّم إليها بلا ثمن..
قوله تعالى:
«أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ».. أي أم عندهم علم الغيب، فهم يستملون منه أنباء المستقبل، ويرون على ضوئه ما ينتظرهم على طريق الحياة؟
إنهم لا يلتفتون إلى هذا النور الذي بين يدى النبىّ، الذي لا يسألهم أجرا عليه. فهل معهم نور يهتدون به؟ وهل عندهم علم من الغيب يكشف لهم معالم الطريق الذي هم سائرون فيه؟ إنهم يسيرون فى ثقة واطمئنان، ولا يدرون
الآيات: (٤٨- ٥٢) [سورة القلم (٦٨) : الآيات ٤٨ الى ٥٢]
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢)
[النبي.. وصاحب الحوت] التفسير:
قوله تعالى:
«فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ» بهذه الآية، والآيات التي بعدها تختم سورة «القلم» التي كانت معرضا لضلال المشركين، وسفههم، وتطاولهم على رسول الله، كما كانت معرضا للدفاع عن القرآن الكريم، وعن الرسول، وتتويجه بهذا التاج الرباني الذي زينه به الله سبحانه وتعالى، بثنائه عليه، فى قوله سبحانه: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ».. ثم تتابعت آيات السورة، تتوعد المشركين، وتهددهم بالعذاب الأليم فى الدنيا والآخرة، إذا هم لم يستجيبوا للرسول، ولم يتلقوا ما تمتد به إليهم يده، من رزق الله الذي لا يسألهم عليه أجرا..
ثم يجىء هذا الختام الذي يتلّقى فيه النبي من ربه سبحانه دعوة إلى الصبر على
وقوله تعالى: «وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ» - هو شدّ من عزم النبىّ على الصبر، وتوكيد لالتزامه، والتمسك به، وألا يزايل موقفه الذي هو فيه، كما فعل صاحب الحوت- وهو يونس عليه السلام- حين أخلى مكانه بين قومه، وتركهم مغاضبا لهم، بعد أن دعاهم إلى الله، وتوقفوا عن إجابة دعوته.. ولو أنه صبر على عنادهم، وعاود نصحهم يوما بعد يوم، لاستجابوا له، فقد كان فيهم- مع هذا العناد- بقيّة من خير، يمكن أن تكون شرارة يتوهج منها نور الإيمان، لو وجدت من ينفخ فيها برفق، وأناة، ويتلطف فى الإمساك بها من غير تعجل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى عن موقف يونس عليه السلام: «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» (٨٧: الأنبياء).. فيونس عليه السلام- هو الذي ذهب مغاضبا لقومه، أي محدثا الغضب من قبل أن تجتمع لديه أسبابه القويّة الداعية إليه..
وقوله تعالى: «إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ» بيان لحال يونس عليه السلام، وهو فى بطن الحوت، ثم بيان لحاله، وهو ينادى فى جوف الحوت..
فالله سبحانه وتعالى ينهى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- عن أن يكون فى موقف كموقف يونس- عليه السلام- حين نادى ربه فى حال هو فيها مكظوم، أي مغيظ، محنق، محتنق من الغيظ، والضيق..
والكظم: مخرج النفس من الصدر، وكظم فلان: أي حبس نفسه..
وكظم الغيظ: حبسه، ومنه قوله تعالى: «وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ».
وعلى هذا، فإن الذي يحذّر النبي منه، هو ألا يغلبه الغيظ، كما غلب يونس عليه السلام، بل المطلوب منه، هو أن يكظم غيظه، وأن يقهره، وألا يجعل لهذا الغيظ سلطانا عليه، يحمله على مفارقة قومه، وإخلاء مكانه فيهم، كما فعل يونس..
وفى هذا يقول الحق تبارك وتعالى: «وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ.. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (١٣٤: آل عمران) فقوله تعالى: «وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ» أي لا تكن كيونس إذ نادى ربه، وقد غلبه الغيظ، وحمله على أن يترك قومه، وينزل فى هذا المكان الضيق، وهو بطن الحوت.
فالذى يحذّر منه النبي، ليس هو مناداة ربه، وإنما مناداته فى حال يكون قد غلبه فيها غيظه.. فإن دعاء الله، واللّجأ إليه- وإن كان محمودا على كل حال وفى كل حال- إنما يكون فى أحمد أحواله، وأعلى مقاماته، حين يكون صاحبه متجملا بالصبر على ما أصابه، ممسكا بزمام نفسه، ثقة بالله، واطمئنانا إليه، في أشد الأهوال، وأعظم المحن، فلا يضيق بمحنة، ولا يكظم بشدة، لأنه مسلم أمره إلى لله، لا جىء إلى حمى سلطانه..
قوله تعالى:
«لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» أي أن يونس- عليه السلام- لولا أن أدركته نعمة
فخروج يونس من بطن الحوت، هو رحمة من رحمة الله به، وإعادته إلى وضعه الأول فى مقام النبوة، هو نعمة مجددة أنعم الله بها عليه، إذ جعله بها من الصالحين، الذين سلموا من الذم، ونجوا من الملامة والعيب.. إنه بعث جديد له.
ففى قوله تعالى: «فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» - إشارة إلى حال جديدة، أعقبت الحال التي خرج عليها يونس من بطن الحوت، فهو- عليه السلام- خرج كما يخرج السجين من سجنه، يحمل معه آثار الذنب الذي كان منه.. ولكن الله سبحانه تدارك عبده، فأزال عنه هذا الأثر، وخلع عليه خلعة النبوة التي كانت تنتظره، على باب السجن الذي خرج منه، وبهذا ردّ إليه اعتباره، بعد هذا البلاء العظيم..
والسؤال هنا: ماذا كان من النبي- عليه الصلاة والسلام- من موقف مشابه لموقف يونس- عليه السلام- حتى ينبّه إلى الحذر من أن يأخذ الطريق الذي أخذه صاحب الحوت؟
نقول- والله أعلم-: كان النبي صلوات الله وسلامه عليه- قد بلغ به الحال بينه وبين قومه، ماملأ صدره ضيقا بهم، وحيرة فى أمرهم، بعد أن لقيهم بكل طريق، وجاءهم بكل حجة، فلم يكن منهم إلا السفاعة، والتطاول، والإمعان فى المجافاة له، والأذى لأصحابه الذين آمنوا به، وإن الموقف ليبلغ غايته من التأزم والضيق، حين يخرج النبي- صلوات الله وسلامه عليه-
وهذا على أن هذه الآيات مكية، فى سورتها المكية..
أما على الرأى الذي يقول إنها آيات مدنية فى السورة المكية، فإنه يجعل نزول هذه الآيات فى أعقاب غزوة أحد، بعد أن أصاب المشركون ما أصابوا من صحابة رسول الله، ومنهم عمه حمزة. رضى الله عنه، وبعد أن أصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من سهام المشركين حتى شجّ رأسه، وكسرت رباعيته وسال دمه.
وعلى أىّ، فإن نزول هذه الآيات، كان فى حال اشتد فيها ضيق النبي، وكاد يقع اليأس فى قلبه من إيمان هؤلاء المشركين، الذين ركبوا رءوسهم، وأسلموا للشيطان قيادهم..
هذا، وفى تلك الآيات إشارة إلى أن عاقبة هؤلاء المشركين، هى الإيمان بالله، والاستجابة للرسول، كما آمن قوم يونس، بعد أن عاد إليهم، وجدّد دعوتهم إلى الإيمان بالله.. كما يقول سبحانه: «فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» (٩٨: يونس) - وفى هذا إشارة من أنباء الغيب إلى مستقبل هذه القرية، وهى مكة، وأن أهلها سيؤمنون، كما آمن قوم يونس.
وهكذا كانت الآية من البشريات المسعدة، التي بشّر بها النبىّ فى قومه، الذين كان شديد الحرص على هدايتهم ونجاتهم من الهلاك الذي يتدافعون إليه..
وفى قوله تعالى:
«وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ».
هو حال من فاعل الفعل فى قوله تعالى: «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ»..
والفاعل هو ضمير يعود إلى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه، المتلقّى لخطاب ربّه.. أي فاصبر لحكم ربك، وإن كان قومك يرمونك بنظراتهم القاتلة.
فالله سبحانه وتعالى، إذ يدعو النبىّ إلى الصبر على المكاره التي يحملها من قومه، يدعوه إلى هذا فى حال بلغت فيه عداوة قومه غايتها، حتى إنهم ليكادون يزلقونه أي يسقطونه فزعا من نظراتهم المصوّبة إليه بسهام الحنق والغيظ والانتقام.. فهم حين يستمعون إلى الذكر- وهو القرآن الكريم- تغلى مراجل غيظهم، فتنطلق من أعينهم نظرات ملتهبة كأنها السهام، فإذا رأى النبىّ ﷺ هذه النظرات تنوشه من كل جانب، فزع، وكرب وكاد يسقط من هول ما يطلع عليه من عداوة القوم!! وللعين قدرتها الخارقة على إظهار مكنون الإنسان، من حبّ أو بغض، ومن وعد أو وعيد، فهى المرآة التي تنعكس عليها مشاعر الإنسان، ويتجلى
يتقارضون «١» إذا التقوا فى موطن | نظرا يزيل مواقع الأقدام |
وليس هذا ما لقدرة العين وسلطانها فى الإنسان وحده، بل إنها عند كثير من الحيوانات تكون سلاحا عاملا فى الصراع الدائر بينها..
فالحيّة، كثيرا ما تجد فى نفسها القدرة على إصابة عدوّها بنظرة منها، فإذا أرسلت إلى عدوها نظرة والتقت عينه بعينها، شلت حركته وجمد فى مكانه، وربّما مات قبل أن تصل إليه..!
فالصبر الذي يدعى إليه النبىّ من ربه، هو فى تلك الحال، التي بلغت فيه عداوة القوم له غايتها، بما يرمونه به من نظرات ملتهبة، حين يسمعون آيات الله تتلى عليهم.. وليس هذا النظر المشحون بسموم العداوة وحسب، بل إنهم يرمونه مع هذا بسهام أخرى من أفواههم، كقولهم: مجنون، وساحر..
«وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ»..
هو رد على هذه التهمة الفاجرة الظالمة التي تنطلق بها أفواه هؤلاء المشركين، وهو تثبيت للنبى فى موقفه، وإلفات له إلى ما بين يديه من آيات القرآن الكريم، الذي هو ذكر للعالمين، وحياة مجددة للناس، جيلا بعد جيل، وإنه لا ذكر، ولا قدر لمن فاته الاتصال بهذا الكتاب، وتلقّى عنه، وقطع مسيرة الحياة فى ظله، وهذا مثل قوله سبحانه وتعالى: «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ» (٤٤: الزخرف).
نزولها: مكية، نزلت بعد سورة الملك.
عدد آياتها: اثنتان وخمسون آية..
عدد كلماتها: مائتان وخمس وخمسون كلمة..
عدد حروفها: ألف وأربعمائة وثمانون حرفا..
مناسبتها لما قبلها
كان ختام سورة «القلم» دعوة من الله سبحانه وتعالى، إلى النبي الكريم أن يصبر على موقفه من قومه، وألا يتحول عنه، كما تحول صاحب الحوت، وإن لقى من قومه أشدّ العداوة، والشنآن، وأن يمضى فى طريقه معهم منتظرا حكم الله بينه وبينهم، كما حكم الله بين إخوانه النبيين وأقوامهم..
وتجىء سورة «الحاقة» مفتتحة بهذه المعارض التي يتجلى فيها ما حكم الله سبحانه به بين بعض أنبيائه وأقوامهم، وما لقى المكذبون المعاندون منهم من مرسلات الهلاك عليهم فى الدنيا، التي أخذتهم مرة واحدة، فما أبقت منهم باقية..