تفسير سورة القلم

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة القلم من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية وهي اثنان وخمسون آية.

سورة ن
مكية، وهي اثنان وخمسون آية [نزلت بعد العلق] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القلم (٦٨) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١)
قرئ: ن والقلم بالبيان والإدغام، وبسكون النون وفتحها وكسرها، كما في ص. والمراد هذا الحرف من حروف المعجم: وأمّا قولهم: هو الدواة فما أدرى أهو وضع لغوى أم شرعي؟
ولا يخلو إذا كان اسما للدواة من أن يكون جنسا أو علما، فإن كان جنسا فأين الإعراب والتنوين، وإن كان علما فأين الإعراب، وأيهما كان فلا بد له من موقع في تأليف الكلام. فإن قلت:
هو مقسم به وجب إن كان جنسا أن تجرّه وتنوّنه، ويكون القسم بدواة منكرة مجهولة، كأنه قيل: ودواة والقلم، وإن كان علما أن تصرفه وتجرّه، أو لا تصرفه وتفتحه للعلمية والتأنيث، وكذلك التفسير بالحوت: إما أن يراد نون من النينان. أو يجعل علما لليهموت «١» الذي يزعمون، والتفسير باللوح من نور أو ذهب، والنهر في الجنة نحو ذلك. وأقسم بالقلم: تعظيما له، لما في خلقه وتسويته من الدلالة على الحكمة العظيمة، ولما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيط بها الوصف وَما يَسْطُرُونَ وما يكتب من كتب. وقيل: ما يستره الحفظة، وما موصولة أو مصدرية. ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه، فيكون الضمير في يَسْطُرُونَ لهم كأنه قيل: وأصحاب القلم ومسطوراتهم. أو وسطرهم، ويراد بهم كل ما يسطر، أو الحفظة.
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٢ الى ٣]
ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣)
فإن قلت: بم يتعلق الباء في بِنِعْمَةِ رَبِّكَ وما محله؟ قلت: يتعلق بمجنون منفيا «٢»، كما يتعلق بعاقل مثبتا في قولك: أنت بنعمة الله عاقل، مستويا في ذلك الإثبات والنفي استواءهما في قولك: ضرب زيد عمرا، وما ضرب زيد عمرا: تعمل الفعل مثبتا ومنفيا إعمالا واحدا،
(١). قوله «أو يجعل علما اليهموت» لعله باليهموت بالموحدة كعبارة غيره، فليحرر. (ع)
(٢). قوله «يتعلق بمجنون منفيا» في النسفي تتعلق بمحذوف، ومحله النصب على الحال. والعامل فيهما بِمَجْنُونٍ. (ع)
ومحله النصب على الحال، كأنه قال: ما أنت بمجنون منعما عليك بذلك «١»، ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله، لأنها زائدة لتأكيد النفي. والمعنى، استبعاد ما كان ينسبه إليه كفار مكة عداوة وحسدا، وأنه من إنعام الله عليه بحصافة العقل «٢» والشهامة التي يقتضيها التأهيل للنبوّة، بمنزل وَإِنَّ لَكَ على احتمال ذلك وإساغة الغصة فيه والصبر عليه لَأَجْراً لثوابا غَيْرَ مَمْنُونٍ غير مقطوع كقوله عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ أو غير ممنون عليك به «٣»، لأنه ثواب تستوجبه «٤» على عملك، وليس بتفضل ابتداء، وإنما تمنّ الفواضل لا الأجور على الأعمال.
[سورة القلم (٦٨) : آية ٤]
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)
استعظم خلقه لفرط احتماله الممضات «٥» من قومه وحسن مخالفته ومداراته لهم. وقيل: هو الخلق الذي أمره الله تعالى به في قوله تعالى خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وعن عائشة رضى الله عنها: أن سعيد بن هشام سألها عن خلق رسول الله ﷺ فقالت: كان خلقه القرآن، ألست تقرأ القرآن: قد أفلح المؤمنون «٦».
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٥ الى ٦]
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦)
الْمَفْتُونُ المجنون، لأنه فتن: أى محن بالجنون. أو لأن العرب يزعمون أنه من تخبيل الجن، وهم الفتان للفتاك منهم، والباء مزيدة. أو المفتون مصدر كالمعقول والمجلود، أى: بأيكم
(١). قوله «منعما عليك بذلك» كذا في النسفي بعد ما سبق فيه ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ أى بانعامه عليك بالنبوة وغيرها. وهذا مرجع الاشارة. (ع)
(٢). قوله «وإنه من إنعام الله بحصافة» لعله من إنعام الله عليه بحصافة العقل أى استحكامه. كما أفاده الصحاح. (ع)
(٣). قال محمود: «معناه غير مقطوع، كقوله عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ... الخ» قال أحمد: ما كان النبي ﷺ يرضى من الزمخشري بتفسير الآية هكذا. وهو ﷺ يقول «لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة» ولقد بلغ بالزمخشرى سوء الأدب إلى حد يوجب الحد، وحاصل قوله: أن الله لا منة له على أحد ولا فضل في دخول الجنة لأنه قام بواجب عليه، نعوذ بالله من الجرأة عليه.
(٤). قوله «لأنه ثواب تستوجبه على عملك» وجوب الثواب عليه تعالى مذهب المعتزلة، ولا يجب عليه شيء عند أهل السنة. (ع)
(٥). قوله «احتماله الممضات» أى: الموجعات. أفاده الصحاح. (ع)
(٦). أخرجه مسلم من رواية زرارة ابن أبى أو في عن سعد بن هشام عنه، وفيه قصة، وأخرجه الحاكم مختصرا بلفظ المصنف.
الجنون. أو بأى الفريقين منكم الجنون «١»، أبفريق المؤمنين أم بفريق الكافرين؟ أى: في أيهما يوجد من يستحق هذا الاسم: وهو تعريض بأبى جهل بن هشام والوليد بن المغيرة وأضرابهما، وهذا كقوله تعالى سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ.
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٧ الى ٩]
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمجانين على الحقيقة، وهم الذين ضلوا عن سبيله وَهُوَ أَعْلَمُ بالعقلاء وهم المهتدون. أو يكون وعيدا ووعدا، وأنه أعلم بجزاء الفريقين فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ تهييج وإلهاب للتصميم على معاصاتهم، وكانوا قد أرادوه على أن يعبد الله مدة، وآلهتهم مدة، ويكفوا عنه غوائلهم لَوْ تُدْهِنُ لو تلين وتصانع فَيُدْهِنُونَ. فإن قلت: لم رفع فَيُدْهِنُونَ ولم ينصب بإضمار «أن» وهو جواب التمني؟ قلت: قد عدل به إلى طريق آخر: وهو أن جعل خبر مبتدإ محذوف، أى: فهم يدهنون، كقوله تعالى فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ على معنى: ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ. أو ودوا إدهانك فهم الآن يدهنون، لطمعهم في إدهانك. قال سيبويه: وزعم هرون أنها في بعض المصاحف ودوا لو تدهن فيدهنوا.
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ١٠ الى ١٦]
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤)
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦)
حَلَّافٍ كثير الحلف في الحق والباطل، وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف. ومثله قوله تعالى وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ. مَهِينٍ من المهانة وهي القلة والحقارة، يريد القلة في الرأى والتمييز. أو أراد الكذاب لأنه حقير عند الناس هَمَّازٍ عياب طعان. وعن الحسن. يلوى شدقيه في أقفية الناس مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مضرب «٢» نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه السعاية والإفساد بينهم. والنميم والنميمة: السعاية، وأنشدنى بعض العرب:
(١). قوله «أو بأى الفريقين منكم الجنون» لعله المجنون. وفي النسفي. قال الزجاج: الباء بمعنى في. تقول:
كنت ببلد كذا، أى: في بلد كذا، وتقديره: في أيكم المفتون، أى: في أى الفريقين منكم المجنون. (ع)
(٢). قوله «مضرب نقال» في الصحاح «التضريب بين القوم» : الإغراء. (ع) [.....]
586
تشبّبى تشبّب النّميمه تمشى بها زهرا إلى تميمه «١»
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ بخيل. والخير: المال. أو مناع أهله الخير وهو الإسلام، فذكر الممنوع منه دون الممنوع، كأنه قال: مناع من الخير. قيل: هو الوليد بن المغيرة المخزومي: كان موسرا، وكان له عشرة من البنين، فكان يقول لهم وللحمته: «٢» من أسلم منكم منعته رفدي عن ابن عباس. وعنه: أنه أبو جهل. وعن مجاهد: الأسود بن عبد يغوث. وعن السدى: الأخنس ابن شريق، أصله في ثقيف وعداده في زهرة، ولذلك قيل: زنيم مُعْتَدٍ مجاوز في الظلم حده أَثِيمٍ كثير الآثام عُتُلٍّ غليظ جاف، من عتله: إذا قاده بعنف وغلظة بَعْدَ ذلِكَ بعد ما عدّله من المثالب والنقائص زَنِيمٍ دعى «٣». قال حسان:
وأنت زنيم نيط في ءال هاشم كما نيط خلف الرّاكب القدح الفرد «٤»
وكان الوليد دعيا في قريش ليس من سنخهم، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة من مولده. وقيل:
بغت أمّه ولم يعرف حتى نزلت هذه الآية، جعل جفاءه ودعوته أشد معايبه، لأنه إذا جفا وغلظ طبعه قسا قلبه واجترأ على كل معصية، ولأنّ الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الناشئ منها. ومن ثم قال رسول الله ﷺ «لا يدخل الجنة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده» «٥» وبَعْدَ ذلِكَ نظير ثُمَّ في قوله ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وقرأ الحسن: عتل،
(١). لأعرابى يخاطب النار. والتشبب: التوقد. والتميمة: تزوير الكلام وتزويقه للافساد بين الناس. وثوب منمم ومنمنم: منقش محسن. وزهرا- بالفتح-: اسم امرأة نمامة. وتميمة: قبيلة تميم، ونزل النار منزلة العاقل فأمرها وقال: اشتعلى كاشتعال النميمة حال كونها تمشى بها هذه المرأة إلى بنى تميم، وكانت كثيرة الإفساد بين العرب، حتى ضرب بها المثل، وجعل اشتعال نميمتها أبلغ من اشتعال النار، فأمرها أن تتوقد كتوقدها، وبين نميمة وتميمة الجناس اللاحق.
(٢). قوله «يقول لهم وللحمته» في الصحاح «اللحمة» بالضم: القرابة. (ع)
(٣). قال محمود: «العتل الجافي، والزنيم الداعي، وكذلك كان الوليد بن المخزومي استلحقه المغيرة بعد ثمان عشر من مولده... الخ» قال أحمد: وإنما أخذ كون هذين أشد معايبه من قوله بعد ذلك، فانه يعطى تراخى المرتبة فيما بين المذكور أولا والمذكور بعده في الشر والخير. ونظيره في الخير قوله تعالى وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ ومن ثم استعملت ثم لتراخى المراتب، وإن أعطت عكس الترتيب الوجودي.
(٤). لحسان بن ثابت يخاطب الوليد بن المغيرة، يقول: إنه زنيم، أى معلق في آل هاشم كالزنمة في الإهاب وهي قطعة جلد صغيرة تترك معلقة بطرفه، فشبهه بها وشبهه بالقدح المنفرد الفارغ المعلق خلف الراكب.
(٥). أخرجه أبو نعيم في ترجمة مجاهد من رواية عبد الله بن حسن في ترجمة يوسف بن أسباط من رواية بركة بن محمد عن يوسف بن أسباط عن أبى إسرائيل الملائى عن إسماعيل بن إسحاق عن قبيصة بن عمرو عن مجاهد عن بنى عمر عن أبى هريرة. ثم رواه من طريق إسحاق بن منصور عن أبى إسرائيل به وأبو إسحاق ضعيف جدا. وقد ادعى ابن طاهر وابن الجوزي أن هذا الحديث موضوع. وقد خولف عن مجاهد. رواه النسائي من طريق إبراهيم بن مجاهد عن مجاهد عن محمد بن عبد الرحمن عن أبى هريرة بلفظ «لا يدخل الجنة ولد زنا. ولا شيء من نسله إلى سبعة آباء» وإبراهيم فيه ضعف. ورواه أيضا من رواية يزيد بن أبى زياد عن مجاهد عن أبى سعيد نحو حديث منصور الآتي. ويزيد ضعيف وروى النسائي أيضا من رواية شعبة عن منصور عن سالم بن أبى الجعد عن عبد الله بن شريك عن جابان عن عبد الله بن عمر بلفظ «لا يدخل ولد زانية الجنة» ومن رواية سفيان عن منصور بإسقاط عبد الله بن شريك. وأخرجه ابن حبان من الوجهين. وقال الطريقان محفوظان. إلا أن الثوري أعرف بحديث ملو.
587
رفعا على الذم وهذه القراءة تقوية لما يدل عليه بعد ذلك. والزنيم: من الزنمة وهي الهنة من جلد الماعزة تقطع فتخلى معلقة في حلقها، لأنه زيادة معلقة بغير أهله أَنْ كانَ ذا مالٍ متعلق بقوله وَلا تُطِعْ يعنى ولا تطعه مع هذه المثالب، لأن كان ذا مال. أى: ليساره وحظه من الدنيا. ويجوز أن يتعلق بما بعده على معنى: لكونه متمولا مستظهرا بالبنين كذب آياتنا «١» ولا يعمل فيه قالَ الذي هو جواب إذا، لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله، ولكن ما دلت عليه الجملة من معنى التكذيب. وقرئ: أأن كان؟ على الاستفهام على: إلا لأن كان ذا مال وبنين، كذب. أو أتطيعه لأن كان ذا مال. وروى الزبيري عن نافع: إن كان، بالكسر والشرط للمخاطب، أى: لا تطع كل حلاف شارطا يساره، لأنه إذا أطاع الكافر لغناه فكأنه اشترط في الطاعة الغنى، ونحو صرف الشرط إلى المخاطب صرف الترجي إليه في قوله تعالى لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ الوجه: أكرم موضع في الجسد، والأنف أكرم موضع من الوجه لتقدمه له، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية، واشتقوا منه الأنفة. وقالوا الأنف في الأنف، وحمى أنفه، وفلان شامخ العرنين. وقالوا في الذليل: جدع أنفه، ورغم أنفه، فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة، لأن السمة على الوجه شين وإذالة، «٢» فكيف بها على أكرم موضع منه، ولقد وسم العباس أباعر «٣» في وجوهها، فقال له رسول الله ﷺ «أكرموا الوجوه» «٤» فوسمها في جواعرها «٥» وفي لفظ الخرطوم: استخفاف به واستهانة. وقيل معناه: سنعلمه يوم القيامة بعلامة مشوهة يبين بها عن سائر الكفرة، كما
(١). قوله «كذب آياتنا» عبارة النسفي: كذب بآياتنا. (ع)
(٢). قوله «وإذالة» في القاموس «أذلته» أهنته اه. (ع)
(٣). قوله «أباعر» لعله أباعره بالاضافة إلى الضمير، لأن الجمع أبعرة وأباعر، كما في الصحاح. (ع)
(٤). لم أره هكذا. وفي ابن حبان من حديث ابن عباس «أن العباس وسم بعيرا له. ودابة في وجهها فرآه النبي ﷺ فغضب: فقال العباس: لا أسمه إلا في آخره فوسمه في جاعرتيه» وأصله في مسلم بلفظ «رأى رسول الله ﷺ حمارا موسوم الوجه، فأنكر ذلك فقال الرجل: والله لا أسمه إلا في أقصى شيء من الوجه. فأمر بحمار له فكوى في جاعرتيه. فهو أول من كوى في الجاعرتين، زاد الطبراني «وكان الرجل الذي كوى: العباس بن عبد المطلب»
(٥). قوله «فوسمها في جواعرها» الجاعرة: ما حول الدبر- أفاده الصحاح. (ع)
588
عادى رسول الله ﷺ عداوة بان بها عنهم. وقيل: خطم يوم بدر بالسيف فبقيت سمة على خرطومه. وقيل: سنشهره بهذه الشتيمة في الدارين جميعا، فلا تخفى، كما لا تخفى السمة على الخرطوم. وعن النضر بن شميل: أن الخرطوم الخمر، وأن معناه: سنحده على شربها وهو تعسف. وقيل للخمر: الخرطوم، كما قيل لها: السلافة. وهي ما سلف من عصير العنب. أو لأنها تطير في الخياشيم.
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ١٧ الى ٣٣]
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١)
أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١)
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣)
إنا بلونا أهل مكة بالقحط والجوع بدعوة رسول الله ﷺ عليهم كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ وهم قوم من أهل الصلاة كانت لأبيهم هذه الجنة دون صنعاء بفرسخين، «١» فكان
(١). قال محمود: «أصحاب الجنة قوم من أهل الصلاة كانت لأبيهم هذه الجنة دون صنعاء بفرسخين... الخ» قال أحمد: وفائدة التنكير الإبهام تعظيما لما أصابها، ومعنى كالصريم: أى لهلاك ثمرها. وقيل الصريم الليل، لأنها احترفت واسودت. وقيل: النهار، أى خالية فارغة من قولهم: بيض الإناء، إذا فرغه. قلت: ومنه البياض من الأرض، أى: الخالية من الشجر. ورد في الحديث، ويستعمله الفقهاء في المساقاة، ومعنى صارمين: حاصدين.
قال: وإنما عدل عن «إلى» في قوله عَلى حَرْثِكُمْ لأن غدوهم كان ليصرموه، فهو غدو عليه، ومعنى يَتَخافَتُونَ يسرون حديثهم خيفة من ظهور المساكين عليهم. وقوله أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ مثل: لا أرينك هاهنا، والحرد من حاردت السنة إذا منعت خيرها والمعنى: وغدوا على نكد ومنع غير عاجزين عن النفع. وقيل: الحرة السرعة، أى: غدوا مسارعين نشطين لما عزموا عليه من الحرمان. ومعنى قادِرِينَ على هذا التأويل: عند أنفسهم. وقيل: حرد اسم الجنة المذكورة، وقولهم إِنَّا لَضَالُّونَ قالوه في بديهة أمرهم دهشا لما رأوا ما لم يعهدوه فاعتقدوا أنهم ضلوا عنها وأنها ليست هي، ثم لما تبينوا وأيقنوا أنها هي أضربوا عن الأول إلى قولهم بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ.
589
يأخذ منها قوت سنته ويتصدق بالباقي، وكان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل، وما في أسفل الأكداس، «١» وما أخطأه القطاف من العنب، وما بقي على البساط الذي يبسط تحت النخلة إذا صرمت، فكان يجتمع لهم شيء كثير، فلما مات قال بنوه: إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال، فحلفوا ليصر منها مصبحين في السدف «٢» خفية عن المساكين، ولم يستثنوا في يمينهم، فأحرق الله جنتهم. وقيل: كانوا من بنى إسرائيل مُصْبِحِينَ داخلين في الصبح مبكرين وَلا يَسْتَثْنُونَ ولا يقولون إن شاء الله. فإن قلت. لم سمى استثناء، وإنما هو شرط؟ قلت: لأنه يؤدى مؤدى الاستثناء، من حيث أن معنى قولك: لأخرجنّ إن شاء الله، ولا أخرج إلا أن يشاء الله. واحد فَطافَ عَلَيْها بلاء أو هلاك طائِفٌ كقوله تعالى وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ وقرئ: طيف فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ كالمصرومة لهلاك ثمرها. وقيل:
الصريم الليل، أى. احترقت فاسودت. وقيل: النهار أى: يبست وذهبت خضرتها. أو لم يبق شيء فيها، من قولهم: بيض الإناء، إذا فرغه. وقيل الصريم الرمال صارِمِينَ حاصدين. فإن قلت: هلا قيل: اغدوا إلى حرثكم، وما معنى عَلى؟ قلت: لما كان الغدوّ إليه ليصرموه ويقطعوه:
كان غدوّا عليه، كما تقول: غدا عليهم العدوّ. ويجوز أن يضمن الغدوّ معنى الإقبال، كقولهم:
يغدى عليه بالجفنة ويراح، أى: فأقبلوا على حرثكم باكرين يَتَخافَتُونَ يتسارّون فيما بينهم.
وخفى، وخفت، وخفد: ثلاثتها في معنى الكتم، ومنه: الخفدود للخفاش أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا أن مفسرة. وقرأ ابن مسعود بطرحها بإضمار القول، أى يتخافتون يقولون لا يدخلنها، والنهى عن الدخول للمسكين نهى لهم عن تمكينه منه، أى: لا تمكنوه من الدخول حتى يدخل، كقولك: لا أرينك هاهنا. الحرد: من حردت السنة إذا منعت خيرها، وحاردت الإبل إذا منعت درّها. والمعنى: وغدوا قادرين على نكد، لا غير عاجزين عن النفع، يعنى أنهم عزموا أن يتنكدوا على المساكين ويحرموهم وهم قادرون على نفعهم، فغدوا بحال فقر وذهاب مال لا يقدرون فيها إلا على النكد والحرمان، وذلك أنهم طلبوا حرمان المساكين فتعجلوا الحرمان والمسكنة. أو وغدوا على محاردة جنتهم وذهاب خيرها قادرين، بدل كونهم قادرين على إصابة
(١). قوله «وما أسفل الأكداس» في الصحاح «الكدس» بالضم: واحد الأكداس الطعام (ع).
(٢). قوله «مصبحين في السدف خفية» في الصحاح «السدفة» في لغة نجد: الظلمة، وفي لغة غيرهم الضوء. (ع)
590
خيرها ومنافعها، أى: غدوا حاصلين على الحرمان مكان الانتفاع، أو لما قالوا اغدوا على حرثكم وقد خبثت نيتهم: عاقبهم الله بأن حاردت جنتهم وحرموا خيرها، فلم يغدوا على حرث وإنما غدوا على حرد. وقادِرِينَ من عكس الكلام للتهكم، أى: قادرين على ما عزموا عليه من الصرام وحرمان المساكين، وعلى حرد ليس بصلة قادرين، وقيل: الحرد بمعنى الحرد.
وقرئ: على حرد، أى لم يقدروا إلا على حنق وغضب بعضهم على بعض، كقوله تعالى يَتَلاوَمُونَ وقيل: الحرد القصد والسرعة، يقال: حردت حردك. وقال:
أقبل سيل جاء من أمر الله يحرد حرد الجنّة المغلّه «١»
وقطا حراد: سراع، يعنى: وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة ونشاط، قادرين عند أنفسهم، يقولون: نحن نقدر على صرامها وزى «٢» منفعتها عن المساكين. وقيل حَرْدٍ علم للجنة، أى غدوا على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم. أو مقدرين أن يتم لهم مرادهم من الصرام والحرمان قالُوا في بديهة وصولهم إِنَّا لَضَالُّونَ أى ضللنا جنتنا، وما هي بها لما رأوا من هلاكها، فلما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ حرمنا خيرها لجنايتنا على أنفسنا أَوْسَطُهُمْ أعدلهم وخيرهم، من قولهم: هو من سطة قومه، وأعطنى من سطات مالك. ومنه قوله تعالى أُمَّةً وَسَطاً. لَوْلا تُسَبِّحُونَ لولا تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيتكم، كأن أوسطهم قال لهم حين عزموا على ذلك: اذكروا الله وانتقامه من المجرمين، وتوبوا عن هذه العزيمة الخبيثة من فوركم، وسارعوا إلى حسم شرها قبل حلول النقمة، فعصوه فعيرهم. والدليل عليه قولهم سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فتكلموا بما كان يدعوهم إلى التكلم به على أثر مقارفة الخطيئة، ولكن بعد خراب البصرة. وقيل: المراد بالتسبيح. الاستثناء لالتقائهما في معنى التعظيم لله، لأنّ الاستثناء تفويض إليه، والتسبيح تنزيه له، وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم. وعن الحسن: هو الصلاة، كأنهم كانوا يتوانون في الصلاة، وإلا لنهتهم عن الفحشاء والمنكر، ولكانت لهم لطفا في أن يستثنوا ولا يحرموا سُبْحانَ رَبِّنا سبحوا الله ونزهوه عن الظلم وعن كل قبيح، ثم اعترفوا بظلمهم في منع المعروف وترك الاستثناء يَتَلاوَمُونَ يلوم بعضهم بعضا، لأنّ منهم من زين، ومنهم من قبل، ومنهم من أمر بالكف وعذر
(١). يصف سيلا بالكثرة، ولذلك قال: من عند الله. ويروى: من أمر الله، وحذفت الألف قبل الهاء من لفظ الجلالة لأنه جائز في الوقف. وحرد يحرد من باب ضرب، بمعنى قصد وأسرع، أى: يسرع إسراع الجنة أى البستان المغلة كثير الغلة والخير، ومعنى إسراع الجنة: ظهور خيرها قبل غيرها في زمن يسير، واختارها لأنها تنشأ عن السيل. [.....]
(٢). قوله «وزى منفعتها» في الصحاح: تقول: زوى فلان المال عن وارثه زيا. (ع)
591
ومنهم من عصى الأمر، ومنهم من سكت وهو راض أَنْ يُبْدِلَنا قرئ بالتشديد والتخفيف إِلى رَبِّنا راغِبُونَ طالبون منه الخير راجون لعفوه كَذلِكَ الْعَذابُ مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة عذاب الدنيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ
أشد وأعظم منه، وسئل قتادة عن أصحاب الجنة: أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال: لقد كلفتنى تعبا.
وعن مجاهد: تابوا فأبدلوا خيرا منها. وروى عن ابن مسعود رضى الله عنه: بلغني أنهم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان: فيها عنب يحمل البغل منه عنقودا.
[سورة القلم (٦٨) : آية ٣٤]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤)
عِنْدَ رَبِّهِمْ أى في الآخرة جَنَّاتِ النَّعِيمِ ليس فيها إلا التنعم الخالص، لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنان الدنيا.
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٣٥ الى ٣٩]
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩)
كان صناديد قريش يرون وفور حظهم من الدنيا وقلة حظوظ المسلمين منها، فإذا سمعوا بحديث الآخرة وما وعد الله المسلمين قالوا: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم تكن حالهم وحالنا إلا مثل ما هي في الدنيا، وإلا لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا، وأقصى أمرهم أن يساوونا، فقيل: أنحيف في الحكم فنجعل المسلمين كالكافرين. ثم قيل لهم على طريقة الالتفات «١» ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ هذا الحكم الأعوج؟ كأنّ أمر الجزاء مفوّض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم أَمْ لَكُمْ كِتابٌ من السماء تَدْرُسُونَ في ذلك الكتاب أنّ ما تختارونه وتشتهونه لكم، كقوله تعالى أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ والأصل تدرسون أنّ لكم ما تخيرون، بفتح أنّ، لأنه مدروس، فلما جاءت اللام كسرت. ويجوز أن تكون حكاية للمدروس، كما هو، كقوله وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ. وتخير الشيء واختاره:
أخذ خيره، ونحوه: تنخله وانتخله: إذا أخذ منخوله. لفلان علىّ يمين بكذا: إذا ضمنته منه وحلفت له «٢» على الوفاء به، يعنى: أم ضمنا منكم وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد
(١). قال محمود: «هذا خطاب على وجه الالتفات لأهل مكة إذا اعتقدوا أنهم في الآخرة أكثر نعيما من المؤمنين... الخ» قال أحمد: ولما كان الدرس قولا كسرها.
(٢). قوله «إذا ضمنته منه وحلفت له» لعله: عنه، وكذا قوله «منكم» لعله «عنكم» وفي الصحاح: ضمنته الشيء تضمينا فتضمنه عنى. (ع)
فإن قلت: بم يتعلق إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ؟ قلت: المقدر في الظرف، أى: هي ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة لا تخرج عن عهدتها إلا يومئذ إذا حكمناكم وأعطيناكم ما تحكمون. ويجوز أن يتعلق ببالغة، على أنها تبلغ ذلكم اليوم وتنتهي إليه وافرة لم تبطل منها يمين إلى أن يحصل المقسم عليه من التحكيم. وقرأ الحسن: بالغة، بالنصب على الحال من الضمير في الظرف إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ جواب القسم، لأنّ معنى أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا أم أقسمنا لكم.
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١)
أَيُّهُمْ بِذلِكَ الحكم زَعِيمٌ أى قائم به وبالاحتجاج لصحته، كما يقوم الزعيم المتكلم عن القوم المتكفل بأمورهم أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ أى ناس يشاركونهم في هذا القول ويوافقونهم عليه ويذهبون مذهبهم فيه فَلْيَأْتُوا بهم إِنْ كانُوا صادِقِينَ في دعواهم، يعنى: أنّ أحدا لا يسلم لهم هذا ولا يساعدهم عليه، كما أنه لا كتاب لهم ينطق به، ولا عهد لهم به عند الله، ولا زعيم لهم يقوم به.
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣)
الكشف عن الساق والإبداء عن الخدام «١» : مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب، وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهنّ في الهرب، وإبداء خدامهن عند ذلك.
قال حاتم:
أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا «٢»
(١). قوله «والإبداء عن الخدام» جمع خدمة، وهي الخلخال. أفاده الصحاح، وذلك كرقاب جمع رقبة. (ع)
(٢). لجرير. ويروى بدل الشطر الأول:
ألا رب ساهى الطرف من آل مازن... إذا شمرت.........
الخ وساهي الطرف: فاتر العين. وأخو الحرب: بمعنى أنه يألفها ويلازمها كالأخ. وشبه الحرب بفرس عضوه على طريق الكناية، فأثبت لها العضد. وعضها: أى بلغ منها مراده. أو غلب أهلها، فالعض استعارة لذلك على طريق التصريح. ويجوز أنه ترشيح للأولى. وقوله «به» يدل على أن العض وقع بجزئه. وقوله «عضها» يفيد أنه وقع بها كلها، يعنى: أنه يكافئ أعداء، وزيادة. والتشمير عن الساق: كناية عن اشتداد الأمر وصعوبته.
وأصله: أن يسند للإنسان، لأن تشمير الثوب عن الساق لخوض لجة أو جرى أو نحوه، فأسند للحرب لتشبيهها بالإنسان على طريق الكناية. وقوله «شمر» أى عن ساعده لا عن ساقه، لأن تشمير الساعد كناية عن ملاقاة الأمر ومباشرته بنشاط وقوة، وهو المراد. أو شمر عن ساقه وساعده دليل الإطلاق، فيكون أبلغ من تشميرها. فان قلت: كان ينبغي ذكر التشمير قبل العض لأنه من باب الاستعداد، قلت: نعم لو بقي على معناه، ولكن المراد به هنا شدة الأمر، وصعوبة الحرب: زيادة على أصلها.
593
وقال ابن الرقيات:
تذهل الشّيخ عن بنيه وتبدى عن خدام العقيلة العذراء «١»
فمعنى يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ في معنى: يوم يشتدّ الأمر ويتفاقم، ولا كشف ثم ولا ساق، كما تقول للأقطع الشحيح: يده مغلولة، ولا يد ثم ولا غل، وإنما هو مثل في البخل.
وأما من شبه فلضيق عطنه «٢» وقلة نظره في علم البيان، والذي غرّه منه حديث ابن مسعود رضى الله عنه: «يكشف الرحمن عن ساقه، فأمّا المؤمنون فيخرّون سجدا «٣»، وأما المنافقون فتكون ظهورهم طبقا طبقا كأنّ فيها سفافيد» «٤» ومعناه: يشتد أمر الرحمن ويتفاقم هوله، وهو الفزع الأكبر يوم القيامة، ثم كان من حق الساق أن تعرف على ما ذهب إليه المشبه، لأنها ساق مخصوصة معهودة عنده وهي ساق الرحمن. فإن قلت: فلم جاءت منكرة في التمثيل؟ قلت:
للدلالة على أنه أمر مبهم في الشدة منكر خارج عن المألوف، كقوله يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ كأنه قيل: يوم يقع أمر فظيع هائل، ويحكى هذا التشبيه عن مقاتل: وعن أبى عبيدة: خرج من خراسان رجلان، أحدهما: شبه حتى مثل، وهو مقاتل بن سليمان، والآخر نفى حتى عطل
(١).
كيف نومى على الفراش ولما تشمل الشام غارة شعواء
تذهل الشيخ عن بنيه وتبدى عن خدام العقيلة العذراء
لعبيد بن قيس الرقيات. وكيف استفهام إنكارى، بمعنى نفى النوم. ولما بمعنى لم، إلا أن فيها استمرار النفي إلى زمن التكلم وتوقيع الوقوع بعده. وشبه الغارة وهي الحرب بماله إحاطة وشمول على طريق المكنية، والشمول تخييل، والشعواء الغاشية المنتشرة، وإذهالها للشيخ عن بنيه: كناية عن اشتدادها، وكذلك كشفها عن خدام العقيلة، والخدام: الخلخال. وعقيلة كل شيء: أكرمه. ومن النساء المخدرة التي عقلت في خدرها. والعذراء:
التي يتعذر نوالها ويشق وصالها. وفيه الاقواء، وهي اختلاف الروى بالضم والكسر. ويروى برفع العقيلة العذراء على أنه فاعل تبدى، وجعله ابن جرير شاهدا على جواز حذف التنوين إذا تلاه ساكن، وإن كان الكثير تحريكه حينئذ، وعلى هذا فتحتاج هذه الجملة إلى رابط يعود على المنعوت وهو غارة، والتقدير: وتبدى فيها العقيلة عن خلخال.
(٢). «قوله وأما من شبه فلضيق عطنه» أى من قال بمذهب المشبهة على ما هو مقرر في علم الكلام، كما سيشير إليه بعد. (ع)
(٣). أخرجه الحاكم من طريق سلمة بن كهيل عن أبى الزعراء عن ابن مسعود في أثناء حديث طويل ليس فيه تصريح برفعه. ورواه للطبري مختصرا.
(٤). قوله «كأن فيها السفافيد» واحدها سفود بالتشديد، وهي حديدة يشوى بها اللحم. أفاده الصحاح. (ع)
594
وهو جهم بن صفوان، ومن أحس بعظم مضارّ ففد هذا العلم علم مقدار عظم منافعه. وقرئ: يوم نكشف بالنون. وتكشف بالتاء على البناء للفاعل والمفعول جميعا، والفعل للساعة أو للحال، أى: يوم تشتدّ الحال أو الساعة، كما تقول: كشفت الحرب عن ساقها على المجاز. وقرئ:
تكشف بالتاء المضمومة وكسر الشين، من أكشف: إذا دخل في الكشف. ومنه. أكشف الرجل فهو مكشف، إذا انقلبت شفته العليا. وناصب الظرف: فليأتوا. أو إضمار «اذكر» أو يوم يكشف عن ساق كان كيت وكيت، فحذف للتهويل البليغ، وإن ثم من الكوائن ما لا يوصف لعظمه. عن ابن مسعود رضى الله عنه: تعقم أصلابهم، أى ترد عظاما بلا مفاصل لا تنثني عند الرفع والخفض. وفي الحديث: وتبقى أصلابهم طبقا واحدا، أى. فقارة واحدة. فإن قلت: لم يدعون إلى السجود ولا تكليف؟ قلت: لا يدعون إليه تعبدا وتكليفا، ولكن توبيخا وتعنيفا على تركهم السجود في الدنيا، مع إعقام أصلابهم والحيلولة بينهم وبين الاستطاعة تحسيرا لهم وتنديما على ما فرّطوا فيه حين دعوا إلى السجود، وهم سالمون الأصلاب «١» والمفاصل ممكنون مزاحو العلل فيما تعبدوا به.
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥)
يقال: ذرني وإياه، يريدون كله إلىّ، فإنى أكفيكه، كأنه يقول: حسبك إيقاعا به أن تكل أمره إلىّ وتخلى بيني وبينه، فإنى عامل بما يجب أن يفعل به مطيق له، والمراد: حسبي مجازيا «٢» لمن يكذب بالقرآن، فلا تشغل قلبك بشأنه وتوكل علىّ في الانتقام منه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهديدا للمكذبين. استدرجه إلى كذا: إذا استنزله إليه درجة فدرجة، حتى يورطه فيه. واستدراج الله العصاة أن يرزقهم الصحة والنعمة، فيجعلوا رزق الله ذريعة ومتسلقا إلى ازدياد الكفر والمعاصي مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ أى: من الجهة التي لا يشعرون أنه استدراج وهو الإنعام عليهم، لأنهم يحسبونه إيثارا لهم وتفضيلا على المؤمنين، وهو سبب لهلاكهم وَأُمْلِي لَهُمْ وأمهلهم، كقوله تعالى إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً والصحة والرزق والمدّ في العمر: إحسان من الله وإفضال يوجب عليهم الشكر والطاعة، ولكنهم يجعلونه سببا في الكفر باختيارهم، فلما تدرجوا به إلى الهلاك وصف المنعم بالاستدراج. وقيل: كم من مستدرج بالإحسان إليه، وكم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه. وسمى
(١). قوله «وهم سالمون الأصلاب» لعله سالمو الأصلاب بالاضافة. (ع)
(٢). قوله «والمراد حسبي مجازيا» الاستعمال المعروف: حسبك بى مجازيا. أو حسبك الله مجازيا. (ع)
إحسانه وتمكينه كيدا كما سماه استدراجا، لكونه في صورة الكيد حيث كان سببا للتورّط في الهلكة، ووصفه بالمتانة لقوّة أثر إحسانه في التسبب للهلاك.
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧)
المغرم: الغرامة، أى لم تطلب منهم على الهداية والتعليم أجرا، فيثقل عليهم حمل الغرامات في أموالهم، فيثبطهم ذلك عن الإيمان أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أى اللوح فَهُمْ يَكْتُبُونَ منه ما يحكمون به.
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٤٨ الى ٥٠]
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠)
لِحُكْمِ رَبِّكَ وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ يعنى: يونس عليه السلام إِذْ نادى في بطن الحوت وَهُوَ مَكْظُومٌ مملوء غيظا، من كظم السقاء إذا ملأه، والمعنى: لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة، فتبتلى ببلائه.
حسن تذكير الفعل لفصل الضمير في تداركه. وقرأ ابن عباس وابن مسعود: تداركته. وقرأ الحسن: تداركه، أى تتداركه على حكاية الحال الماضية، بمعنى: لولا أن كان يقال فيه تتداركه، كما يقال: كان زيد سيقوم فمنعه فلان، أى كان يقال فيه سيقوم. والمعنى: كان متوقعا منه القيام.
ونعمة ربه: أن أنعم عليه بالتوفيق للتوبة وتاب عليه. وقد اعتمد في جواب «لولا» على الحال، أعنى قوله وَهُوَ مَذْمُومٌ يعنى أنّ حاله كانت على خلاف الذمّ حين نبذ بالعراء، ولولا توبته لكانت حاله على الذمّ. روى أنها نزلت بأحد حين حل برسول الله ﷺ ما حل به، فأراد أن يدعو على الذين انهزموا. وقيل: حين أراد أن يدعو على ثقيف. وقرئ: رحمة من ربه فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فجمعه إليه، وقربه بالتوبة عليه، كما قال: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أى من الأنبياء. وعن ابن عباس: ردّ الله إليه الوحى وشفعه في نفسه وقومه.
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢)
596
إن مخففة من الثقيلة واللام علمها. وقرئ، ليزلقونك بضم الياء وفتحها. وزلقه وأزلقه بمعنى: ويقال: زلق الرأس وأزلقه: حلقه: وقرئ: ليزهقونك، من زهقت نفسه وأزهقها، يعنى:
أنهم من شدّة تحديقهم ونظرهم إليك شزرا بعيون العداوة والبغضاء، يكادون يزلون قدمك أو يهلكونك، من قولهم: نظر إلىّ نظرا يكاد يصرعني، ويكاد يأكلنى، أى: لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعله. قال:
يتقارضون إذا التقوا في موطن نظرا يزلّ مواطئ الأقدام «١»
وقيل: كانت العين في بنى أسد، فكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام فلا يمر به شيء، فيقول فيه: لم أر كاليوم مثله إلا عانه، فأريد بعض العيانين على أن يقول في رسول الله ﷺ مثل ذلك، فقال: لم أر كاليوم رجلا فعصمه الله. وعن الحسن: دواء الإصابة بالعين أن تقرأ هذه الآية لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ أى القرآن لم يملكوا أنفسهم حسدا على ما أوتيت من النبوة وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ حيرة في أمره وتنفيرا عنه، وإلا فقد علموا أنه أعقلهم. والمعنى:
أنهم جننوه لأجل القرآن وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وموعظة لِلْعالَمِينَ فكيف يجنن من جاء بمثله.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة القلم أعطاه الله ثواب الذين حسن الله أخلاقهم» «٢».
(١). يقول: إذا للتقوا في مجلس- وروى موطن-: يتقارضون، أى: يقرض بعضهم بعضا بنظره إليه، كأن أحدهم يعطى خصمه النظر، والثاني يكافئه بنظره إليه حسدا وغيظا، وإزلال مواطئ الأقدام: كناية عن الإهلاك، لأن من زلت قدمه سقط على الأرض وربما هلك. أى: ينظر بعضهم بعضا نظر الحسود المغتاظ، فتسبب عن ذلك زلل الأقدام عن مواطئها، وإيقاع الازلال على مواضع الأقدام: مجاز عقلى، لأنه محله، وفيه مبالغة في زلل القدم.
(٢). أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه عن أبى بن كعب.
597
Icon