تفسير سورة القصص

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة القصص من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة القصص مكية وقيل : إلا قوله ﴿ الذين آتيناهم الكتاب ﴾ إلى قوله :﴿ الجاهلين ﴾ وهي ثمان وثمانون آية

﴿طسم تلك آيات الكتاب المبين﴾ قد مرَّ ما يتعلقُ به من الكلام بالإجمال والتَّفصيلِ في أشباهه
﴿نتلواُ عَلَيْكَ﴾ أي نقرأُ بواسطة جبريلَ عليهِ السَّلامُ ويجوزُ أنْ تكونَ التِّلاوةُ مجازاً من التَّنزيلِ ﴿مِن نَّبَإِ موسى وَفِرْعَوْنَ﴾ مفعولُ نتلو أي نتلوا عليه بعضَ نبئِهما ﴿بالحق﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ هو حال من فاعل نتلُو أوْ منْ مفعولِه أو صفةٌ لمصدرِه أي بعضَ نبئِهما مُلتبسينَ أو متلبِّساً بالحقِّ أو تلاوةً ملتبسةً بالحقِّ ﴿لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ متعلقٌ بنتلو وتخصيصُهم بذلكَ مع عُموم الدَّعوةِ والبيانِ للكلِّ لأنَّهم المنتفعونَ بِه
﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الأرض﴾ استثناف جارٍ مجرى التَّفسيرِ للمُجمل الموعودِ وتصديرُه بحرف التَّأكيدِ للاعتناء بتحقيقِ مضمُونِ ما بعدَهُ أي أنَّه تجبَّر وطغا في أرضِ مصرَ وجاوزَ الحدودَ المعهودةَ في الظُّلم والعُدوانِ ﴿وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً﴾ أي فِرقاً يشيِّعونه في كلِّ ما يُريده من الشرِّ والفسادِ أو يشيِّعُ بعضُهم بعضاً في طاعته أو أصنافاً في استخدامه يستعملُ كلَّ صنفٍ في عملٍ ويُسخِّرُه فيهِ من بناءٍ وحرثٍ وحفرٍ وغيرِ ذلكَ من الأعمالِ الشَّاقةِ ومَن لم يستعملْه ضربَ عليه الجزيةَ أو فرقاً مختلفةً قد أغرى بينهم العداوةَ والبغضاءَ لئلاَّ تتفقَ كلمتُهم ﴿يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ﴾ وهم بنُو إسرائيلَ والجملةُ إما حالٌ من فاعلِ جعلَ أو صفةٌ لشيعاً أو استئنافٌ وقولُه تعالَى ﴿يذبح أبناءهم ويستحيي نِسَاءهُمْ﴾ بدلٌ منها وكان ذلكَ لِما أنَّ كاهناً قال له يُولد في بني إسرائيلَ مولودٌ يذهبُ ملكُك على يدِه وما ذاك إلا لغايةِ حُمقِه إذْ لو صدقَ فما فائدةُ القتلِ وإن كذبَ فما وجهُه ﴿إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين﴾ أي الرَّاسخينَ في الإفسادِ ولذلكَ اجترأَ على مثل تلك العظيمةِ
2
القصص ٦ ٧ من قتلِ المعصومينَ من أولادِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام
3
﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ﴾ أي نتفضلُ ﴿عَلَى الذين استضعفوا فِى الارض﴾ على الوجهِ المذكورِ بإنجائِهم من بأسِه وصيغةُ المضارعِ في نُريد حكايةُ حالٍ ماضيةٍ وهو معطوفٌ على إنَّ فرعونَ علا الخ لتناسبُهما في الوقوع في في حيِّزِ التَّفسيرِ للنبأ أو حالٌ من يستضعفُ بتقدير المبتدأ أي يستضعفُهم فرعونُ ونحنُ نريدُ أنْ نمنَّ عليهم وليس من ضرورةِ مقارنةِ الإرادةِ للاستضعاف مقارنةُ المرادِ له لما أنَّ تعلُّقَ الإرادةِ للمنِّ تعلق استقبال على أنَّ مِنَّةَ الله تعالى عليهم بالخلاص لمَّا كانتْ في شرفِ الوقوعِ جازَ إجراؤُها مُجرى الواقعِ المقارنِ له ووضعُ الموصولِ موضعَ الضميرِ لإبانةِ قدرِ النِّعمةِ في المنَّة بذكر حالتِهم السَّابقةِ المُباينةِ لها ﴿وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾ يُقتدى بهم في أمور الدِّينِ بعد أنْ كانُوا أتباعاً مسخَّرين لآخرين ﴿وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين﴾ لجميع ما كان منتظماً في سلك مُلك فرعونَ وقومِه وراثةً معهودةً فيما بينهم كما ينبئ عنه تعريفُ الوارثينَ وتأخيرُ ذكرِ وراثتِهم له عن ذكرِ جعلِهم أئمةً مع تقدمِها عليه زماناً لانحطاطِ رُتبتها عن الإمامةِ ولئلاَّ ينفصلَ عنه ما بعده مع كونِه من روادفِه أعني قولَه تعالى
﴿وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِى الارض﴾ الخ أي نُسلطهم على مصرَ والشامِ يتصرفون فيهما كيفما يشاءون وأصلُ التمكينِ أنْ تجعلَ للشيءِ مكاناً يتمكَّنُ فيه ﴿وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ﴾ أي من أولئكَ المُستضعَفين ﴿مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ﴾ ويجتهدونَ في دفعه من ذهاب مُلكِهم وهُلْكِهم على يدِ مولودٍ منه وقرئ يرى بالياءِ ورفعِ ما بعده على الفاعليةِ
﴿وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى﴾ بإلهامٍ أو رُؤيا ﴿أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ ما أمكنك إخفاؤُه ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ﴾ بأنْ يحسَّ به الجيرانُ عند بكائِه وينمُّوا عليه ﴿فَأَلْقِيهِ فِي اليم﴾ في البحرِ وهو النِّيلُ ﴿وَلاَ تَخَافِى﴾ عليهِ ضيعةً بالغرقِ ولا شدَّةً ﴿وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾ عن قريبٍ بحيثُ تأمنينَ عليهِ ﴿وجاعلوه مِنَ المرسلين﴾ والجملةُ تعليلٌ للنَّهي عن الخوف والحزنِ وإيثارُ الجملةِ الاسميةِ وتصديرُها بحرفِ التَّحقيقِ للاعتناء بتحقيق مضمونِها أي إنَّا فاعلونَ لردِّه وجعلِه من المُرسلينَ لا محالةَ رُوي أنَّ بعضَ القَوَابلِ المُوكلاتِ من قبلِ فرعونَ بحَبالَى بني إسرائيلَ كانتْ مصافيةً لأمِّ موسى عليه السَّلامُ فقالتْ لها لينفعني حبُّكِ اليومَ فعالجتها فلما وقع على الأرضِ هالها نورٌ بين عينيهِ وارتعشَ كلُّ مفصلٍ منها ودخل حبُّه في قلبِها ثم قالتْ ما جئتكِ إلا لأقبلَ مولودكِ وأُخبر فرعونَ ولكنِّي وجدتُ لابنكِ في قلبي محبَّةً ما وجدتُ مثلَها لأحدٍ فاحفظيهِ فلمَّا خرجتْ جاء عيونُ فرعونَ فلفَّته في خرقةٍ فألقتْهُ في تنُّورٍ مسجورٍ لم تعلمْ ما تصنعُ لما طاشَ من عقلِها فطلبُوا فلم يلْقَوا شيئاً فخرجُوا وهي لا تدري مكانَه فسمعتْ بكاءه من التنُّور فانطلقتْ إليه وقد جعل الله تعالى النار عليه بردا وسلاما فلما ألحَّ فرعونُ في طلب الولدانِ أَوْحى الله تعالى إليها ما أَوْحى وقد رُوي أنَّها أرضعتْهُ ثلاثةَ أشهرٍ في تابوتٍ من بَرْديَ مطليَ بالقارِ من داخلِه والفاءُ في قوله تعالى
3
القصص
4
٨ - ٩ ﴿فالتقطه آل فِرْعَوْنَ﴾ فصيحةٌ مفصحةٌ عن عطفِه على جملةٍ مترتبةٌ على ما قبلها من الأمرِ بالإلقاءِ قد حُذفت تعويلا على دلالة الحال وإيذاناً بكمال سرعةِ الامتثالِ أي فألقتْهُ في اليمِّ بعد ما جعلتْهُ في التابوت حسبما أمرت فالتقطه آلُ فرعونَ أي أخذوه اعتناءٍ به وصيانةٍ له عن الضَّياعِ قال ابنُ عباس رضي الله عنهما وغيره كانَ لفرعونَ يومئذٍ بنتٌ لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ غيرُها وكانتْ من أكرمِ النَّاسِ إليه وكان بها بَرَصٌ شديدٌ عجزتِ الأطِّباءُ عن علاجِه فقالُوا لا تبرأُ إلا من قبل البحرِ يُؤخذ منه شِبهُ الإنسِ يومَ كذا وساعةَ كذا من شهرِ كذا حين تُشرق الشَّمسُ فيؤخذُ من ريقِه فيلطخ به برصُها فتبرأْ فلمَّا كان ذلك اليومُ غدا فرعونُ في مجلسٍ له على شفيرِ النِّيلِ ومعه امرأتُه آسيةُ بنتُ مزاحمِ بنِ عُبيدِ بنِ الرَّيَّانِ بنِ الوليدِ الذي كان فرعونَ مصرَ في زمنِ يوسفَ الصِّدِّيقِ عليه السَّلامُ وقيل كانتْ من بني إسرائيلَ من سبطِ مُوسى عليه الصلاة والسلام وقيل كانتْ عمَّته حكاه السُّهيليُّ وأقبلتْ بنتُ فرعونَ في جَواريها حتَّى جلستْ على شاطئ النِّيلِ فإذا بتابوتٍ في النِّيلِ تضربُه الأمواجُ فتعلَّق بشجرةٍ فقالَ فرعونُ ائتونِي به فابتدرُوا بالسُّفنِ فأحضرُوه بين يديهِ فعالجُوا فتحَهُ فلم يقدرُوا عليهِ وقصدُوا كسرَه فأعياهم فنظرتْ آسيةٌ فرأتْ نُوراً في جوفِ التَّابوتِ لم يرَهُ غيرُها فعالجتْهُ ففتحتْهُ فإذا هيَ بصبيَ صغيرٍ في مهدِه وإذا نورٌ بين عينيهِ وهو يمصُّ إبهامَه لبناً فألقى الله تعالى محبَّتَه في قلوبِ القومِ وعمدتْ ابنةُ فرعونَ إلى ريقِه فلطَّختْ به برصَها فبرأتْ من ساعتها وقيل لما نظرتْ إلى وجهِه برأتْ فقالتِ الغُواة من قومِ فرعونَ إنَّا نظنُّ أنَّ هذا هو الذي نحذرُ منه رُميَ في البحرِ فَرَقاً منك فامتله فهمَّ فرعونُ بقتلِه فاستوهبتْهُ آسيةُ فتركَه كما سيأتِي واللام في قوله تعالى ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾ لامُ العاقبةِ أُبرز مدخولُها في معرضِ العلَّةِ لالتقاطِهم تشبيها له في الترتب عليه بالغرضِ الحاملِ عليه وقرئ حُزْناً وهما لغتانِ كالسَّقَمِ والسُّقْمِ جُعل عليه الصَّلاة والسَّلام نفسَ الحزنِ إيذاناً بقوَّةِ سببيتِه لحزنِهم ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خاطئين﴾ أي في كلِّ ما يأتون وما يذرون فلا غروَ في أنْ قتلو الاجله ألوفاثم أخذُوه يربُّونَه ليكبرَ ويفعلَ بهم ما كانُوا يحذرون رُوي أنَّه ذُبح في طلبِه عليه الصَّلاة والسَّلام تسعون ألفَ وليدٍ أو كانُوا مذنبينَ فعاقبهم الله تعالى بأنْ ربَّى عدوَّهم على أيديهم فالجُملة اعتراضيةٌ لتأكيد خطئهم أو لبيان المُوجب لما ابتلوا به وقرئ خَاطين على أنَّه تخفيفُ خاطئينَ أو على أنَّه بمعنى مُتعدِّين الصَّوابَ إلى الخطأ
﴿وقالت امرأة فِرْعَوْنَ﴾ أي لفرعونَ حينَ أخرجتْهُ من التَّابوتِ ﴿قُرَّةُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ﴾ أي هو قرَّةُ عينٍ لنا لِما أنَّهما لمّا رأياهُ أحبَّاهُ أو لما ذُكر من بُرءِ ابنتِه من البَرَصِ بريقِه وفي الحديثِ أنه قال لك لالى ولو قال كما هُو لكِ لهداهُ الله تعالى كما هداها ﴿لاَ تَقْتُلُوهُ﴾ خاطبتْهُ بلفظِ الجمعِ تعظيماً ليساعدَها فيما تريدُه ﴿عسى أَن يَنفَعَنَا﴾
4
فإنَّ فيه مخايلَ اليُمنِ ودلائلَ النَّجابةِ وذلك لِمَا رأتْ فيهِ من العلاماتِ المذكورةِ ﴿أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ أي نتبنَّاهُ فإنَّه خليقٌ بذلكَ ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ حالٌ من آلِ فرعونَ والتَّقديرُ فالتقطَه آلُ فرعونَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً وقالت امرأته كيتَ وكيتَ وهُم لا يشعرون بأنَّهم على خطأ عظيمٍ فيما صنعُوا من الالتقاط ورجاءِ النَّفعِ منه والتَّبني له وقولُه تعالى أَن فِرْعَوْنَ الآيةَ اعتراضٌ وقعَ بين المعطوفينِ لتأكيدِ خطئِهم وقيل حالٌ من أحدِ ضميريّ نتخذُه على أنَّ الضَّميرَ للنَّاسِ أيْ وهُم لا يعلمونَ أنَّه لغيرِنا وقد تبنيناهُ
5
﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ موسى فَارِغاً﴾ صفراً من العقلِ لِمَا دهمَها من الخوفِ والحيرةِ حين سمعتْ بوقوعِه في يدِ فرعونَ لقولِه تعالى وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء أي خلاءُ لا عقولَ فيها ويعضده أنه قرئ فَرغاً من قولِهم دماؤهم بينهم فرغٌ أي هَدرٌ وقيل فارغاً من الهمِّ والحُزن لغايةِ وثوقِها بوعدِ الله تعالى أو لسماعِها أنَّ فرعونَ عطفَ عليه وتبناه وقرئ مُؤْسى بالهمزِ إجراءً للضَّمة في جارة الواوِ مجرى ضمَّتِها فهمزت كما في وجوهٍ ﴿إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ﴾ أي إنَّها كادتْ لتظهرُ بموسى أي بأمرِه وقصَّتِه من فرطِ الحيرةِ والدَّهشةِ أو الفرحِ بتبنيهِ ﴿لَوْلا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا﴾ بالصَّبرِ والثَّباتِ ﴿لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين﴾ أي المُصدِّقين بوعدِ الله تعالى أو من الواثقينَ بحفظِه لا بتبنِّي فرعونَ وتعطفِه وهو علَّةُ الرَّبطِ وجوابُ لَولا محذوفٌ لدلالةِ ما قبله عليهِ
﴿وَقَالَتْ لاخْتِهِ﴾ مريمَ والتَّعبيرُ عنها بأخوَّتِه عليه الصَّلاة والسَّلام دونَ أنْ يقال لبنتِها للتَّصريحِ بمدار المحبَّةِ الموجبةِ للامتثالِ بالأمرِ ﴿قُصّيهِ﴾ أي اتبعِي أثرَه وتتبَّعي خبرَه ﴿فَبَصُرَتْ بِهِ﴾ أي أبصرتْهُ ﴿عَن جُنُبٍ﴾ عن بعد وقرئ بسكونِ النُّونِ وعن جانبٍ والكلُّ بمعنى ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ أنَّها تقُصُّه وتتعرفُ حاله أو انها أختُه
﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع﴾ أي منعناه أنْ يرتضعَ من المرضعاتِ والمَرَاضعُ جمعُ مرضعٍ وهي المرأةُ التي تُرضع أو مُرضع وهو الرَّضاعُ أو موضعُه أعني الثَّديَ ﴿مِن قَبْلُ﴾ أي من قبلِ قصِّها أثرَه ﴿فَقَالَتْ﴾ عند رؤيتِها لعدمِ قَبُولِه الثَّديَ واعتناءَ فرعونَ بأمرِه وطلبَهم من يقبلُ ثديَها ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ﴾ أي لأجلِكم ﴿وَهُمْ لَهُ ناصحون﴾ لا يُقصِّرون في إرضاعِه وتربيتِه رُوي أنَّ هامان لمَّا سمعَه منها قال إنَّها لتعرفُه وأهلَه فخذُوها حتَّى تخبرَ بحالِه فقالتْ إنَّما أردتُ وهم للملكِ ناصحُون فأمرَها فرعونُ بأنْ تأتيَ بمَن يكفلُه فأتتْ بأمِّه ومُوسى على يدِ فرعونَ يبكِي وهو يُعلله فدفعَه إليها فلمَّا وجدَ ريحَها استأنسَ والتقمَ ثديها فقالَ مَن أنتِ منه فقد أبَى كلَّ ثديٍ إلا ثديكِ فقالتْ إنِّي امرأةٌ طيبةُ الريح طيبة اللبنِ لا أُوتى بصبيَ إلا قبلني
5
القصص ١٣ ١٦ فقرر في يدِها وأجرى عليها فرجعت به إلى بيتِها من يومِها وذلكَ قولُه تعالى
6
﴿فرددناه إلى أُمّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا﴾ بوصولِ ولدِها إليها ﴿وَلاَ تَحْزَنْ﴾ بفراقِه ﴿وَلِتَعْلَمَ إِنَّ وَعْدَ الله﴾ أي جميعَ ما وعدَهُ من ردِّه وجعلِه من المرسلين ﴿حق﴾ لاخلف فيه بمشاهدةِ بعضِه وقياسِ بعضِه عليه ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أنَّ الأمرَ كذلكَ فيرتابونَ فيهِ أو أنَّ الغرضَ الأصليَّ من الردِّ علمُها بذلك وما سواه تبعٌ وفيه تعريضٌ بما فَرَط منها حين سمعتْ بوقوعِه في يدِ فرعونَ
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ أي المبلغَ الذي لا يزيدُ عليه نشؤُه وذلك من ثلاثين الى أربعين فإنَّ العقلَ يكملُ حينئذٍ ورُوي أنَّه لم يُبعثْ نبيٌّ إلا على رأسِ الأربعينَ ﴿واستوى﴾ أي اعتدلَ قدُّه أو عقلُه ﴿اتَيْنَاهُ حُكْمًا﴾ أي نبوَّةً ﴿وَعِلْماً﴾ بالدِّينِ أو علمَ الحُكماءِ والعُلماءِ وسمتَهم قبل استنبائِه فلا يقولُ ولا يفعلُ ما يُستجهلُ فيهِ وهو أوفقُ لنظْمِ القصَّةِ لأنَّه تعالى استنبأهُ بعد الهجرةِ في المُراجعةِ ﴿وكذلك﴾ ومثلَ ذلكَ الذي فعلنَا بمُوسى وأمِّه ﴿نَجْزِى المحسنين﴾ على إحسانِهم
﴿وَدَخَلَ المدينة﴾ أي مصرَ من قصرِ فرعونَ وقيل منفُ أو حابينُ أو عينُ شمسٍ من نواحِيها ﴿على حِينِ غفلةٍ مّنْ أَهْلِهَا﴾ في وقتٍ لا يُعتادُ دخولُها أو لا يتوقعونَه فيه قيل كان وقتَ القيلولةِ وقيل بينَ العشاءينِ ﴿فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذا مِن شِيعَتِهِ﴾ أي ممَّن شايعُه على دينِه وهم بنو إسرائيلَ ﴿وهذا مِنْ عَدُوّهِ﴾ أي من مخالفيه دنياوهم القِبطُ والإشارةُ على الحكايةِ ﴿فاستغاثه الذى مِن شِيعَتِهِ﴾ أي سألَه أنْ يغيثَه بالإعانة كما ينبىءُ عنه تعديته بعلى وقرئ استعانَه ﴿عَلَى الذى مِنْ عَدُوّهِ فَوَكَزَهُ موسى﴾ أي ضرب القبطيَّ بجُمعِ كفِّه وقرى فلكزَه أي فضربَ به صدرَهُ ﴿فقضى عَلَيْهِ﴾ فقتلَه وأصلُه أنهى حياتَه من قوله تعالى وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الامر ﴿قَالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان﴾ لأنَّه لم يكُن مأموراً بقتلِ الكفَّار أو لأنَّه كان مأموناً فيما بينهم فلم يكُن له اغتيالُهم ولا يقدَح ذلك في عصمتِه لكونِه خطأً وإنما عدَّه من عملِ الشَّيطانِ وسمَّاه ظُلماً واستغفرَ منه جرياً على سُنَنِ المقرَّبينَ في استعظامِ ما فرطَ منهم ولو كانَ من مُحقِّراتِ الصَّغائرِ ﴿إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ﴾ ظاهرُ العداوةِ والإضلالِ
﴿قَالَ﴾ توسيطُه بين كلاميهِ ﷺ لإبانةِ ما بينهما من المخالفةِ من حيثُ إنَّه مناجاة
6
القصص ١٧ ٢٠ ودعاءٌ بخلافِ الأولِ ﴿رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى﴾ أي بقتلِه ﴿فاغفر لِى﴾ ذَنبي ﴿فَغَفَرَ لَهُ﴾ ذلك ﴿إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم﴾ أي المبالغُ في مغفرةِ ذنوبِ عبادِه ورحمتِهم
7
﴿قَالَ رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَىَّ﴾ إمَّا قسمٌ محذوفُ الجوابِ أي أقسمُ بإنعامِك عليَّ بالمغفرةِ لأتوبنَّ ﴿فَلَنْ أَكُونَ﴾ بعدَ هذا أبداً ﴿ظهيرا للمجرمين﴾ وما استعطافٌ أي بحقِّ إنعامِكَ عليَّ اعصمنِي فلنْ أكونَ معيناً لمن تؤدي معاونتُه إلى الحرم وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه عليه الصلاةُ والسلام لم يستثن فابتُليَ به مرَّةً أُخرى وهذا يؤيدُ الأولَ وقيل معناهُ بما أنعمتَ عليَّ من القوَّةِ أعينُ أولياءكَ فلن استعملَها في مُظاهرةِ أعدائِكَ
﴿فَأَصْبَحَ فِى المدينة خَائِفاً يترقب﴾ يترصد الاستقادة أو الأجنادَ ﴿فَإِذَا الذى استنصره بالامس يَسْتَصْرِخُهُ﴾ أي يستغيثُه برفعِ الصَّوتِ من الصُّراخ ﴿قَالَ لَهُ موسى إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ﴾ أي بيِّنُ الغوايةِ تسببتَ لقتلِ رجلٍ وتُقاتلُ آخرَ
﴿فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ﴾ مُوسى ﴿أَن يَبْطِشَ بالذى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا﴾ أي لموسى وللإسرائيليِّ إذ لم يكن على دينِهما ولأنَّ القِبطَ كانُوا أعداءً لبني إسرائيلَ على الإطلاقِ وقُرىء يبطُش بضمِّ الطَّاءِ ﴿قَالَ﴾ أي الإسرائيلي ظانا أنه ﷺ يبطشُ به حسبما يُوهمه تسميته إياه غوبا ﴿يا موسى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالامس﴾ قالُوا لما سمعَ القبطيُّ قولَ الإسرائيليُّ علمَ أنَّ موسى هو الذي قتلَ ذلك الفرعونيَّ فانطلق إلى فرعونَ فأخبرَهُ بذلك وأمرَ فرعونُ بقتلِ مُوسى عليه السَّلامُ وقيل قاله القبطيُّ ﴿إِن تُرِيدُ﴾ أي ما تريدُ ﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الارض﴾ وهو الذي يفعلُ كلَّ ما يريدُه من الضربِ والقتلِ ولا ينظرُ في العواقبِ وقيل المتعظِّمُ الذي لا يتواضعُ لأمرِ الله تعالى ﴿وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين﴾ بينَ النَّاسِ بالقولِ والفعلِ
﴿وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى المدينة﴾ أي كائنٌ من آخراها أو جاءَ من آخِرها ﴿يسعى﴾ أي يسرعُ صفةٌ لرجلٌ أو حالٌ منه على أنَّ الجارَّ والمجرورَ صفةٌ له لا متعلَّق بجاء فإن تخصصه يلحقه بالمعارفِ قيل هو مؤمنُ آلِ فرعونَ واسمُه حِزْقيلُ وقيل شَمعُون وقيل شَمعانُ ﴿قَالَ يَا موسى﴾ ﴿إنِ الملا يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ﴾ أي يتشاورُون بسببكَ فإنَّ كلا من المتشاورين بأمر الآخرينَ ويأتمرُ ﴿فاخرج﴾ أي من المدينةِ ﴿إِنّى لَكَ من الناصحين﴾ اللام للبيان
7
القصص ٢١ ٢٤ لما أنَّ معمولَ الصِّلةِ لا يتقدمُها
8
﴿فَخَرَجَ مِنْهَا﴾ أي من المدينةِ ﴿خَائِفاً يَتَرَقَّبُ﴾ لحوقَ الطَّالبينَ ﴿قَالَ رَبّ نَجّنِى مِنَ القوم الظالمين﴾ خلِّصنِي منهم واحفظنِي من لُحوقِهم
﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ﴾ أي نحوَ مدينَ وهي قريةُ شُعيبٍ عليه السَّلامُ سميت باسمِ مدينَ بنِ إبراهيمَ ولم تكُن تحتَ سلطانِ فرعونَ وكان بينها وبين مصرَ مسيرةُ ثمانيةِ أيَّامٍ ﴿قَالَ عسى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السبيل﴾ توكلاً على الله تعالى وثقةً بحُسنِ توفيقِه وكان لا يعرفُ الطرقَ فعنَّ له ثلاثُ طرائقَ فأخذَ في الوسطى وجاء الطلابُ فشرعُوا في الأُخريين وقيل خرجَ حافياً لا يعيشُ إلا بورقِ الشَّجرِ فما وصلَ حتَّى سقطَ خفُّ قدميه وقيل جاء مَلَكٌ على فرسٍ وبيدِه عنزَةٌ فانطلقَ به إلى مدينَ
﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ﴾ أي وصلَ إليهِ وهو بئر كانوا يسقون منه ﴿وَجَدَ عَلَيْهِ﴾ أي فوقَ شفيرِها ﴿أُمَّةً﴾ جماعةً كثيفةً ﴿مّنَ الناس يَسْقُونَ﴾ أي مواشيَهم ﴿وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ﴾ أي في موضعٍ أسفلَ منهم ﴿امرأتين تَذُودَانِ﴾ أي تمنعانِ ما معهما من الأغنامِ عن التقدمِ إلى البئرِ كيلا تختلطَ بأغنامِهم مع عدمِ الفائدة في التَّقدمِ ﴿قَالَ﴾ عليه السَّلام لهما حينَ رآهُما على ماهما عليه من التأخر والذود ﴿مَا خَطْبُكُمَا﴾ ما شأنُكما فيما أنتُما عليه من التَّأخرِ والذَّودِ ولم لا تباشرانِ السقيَ كدأبِ هؤلاءِ ﴿قَالَتَا لاَ نَسْقِى حتى يُصْدِرَ الرعاء﴾ أي عادتُنا أن لا نسقيَ حتَّى يصرف الرعاة مواشيهم بعدريها عن الماءِ عجزاً عن مساجلتِهم وحذراً عن مخالطةِ الرجالِ لا أنا لا نسقي اليومَ إلى تلك الغايةِ وحذفُ مفعولِ السَّقيِ والذَّودِ والإصدارِ لمَا أنَّ الغرضَ هو بيانُ تلك الأفعالِ أنفسِها إذْ هي التي دعتْ مُوسى عليه السَّلامُ إلى ما صنعَ في حقِّهما من المعروفِ فإنه عليه الصلاة والسلام إنَّما رحمَهما لكونِهما على الذيادِ للعجزِ والعفَّةِ وكونِهم على السقيِ غيرَ مُبالين بهما وما رحمهما لكن مذودِهما غنماً ومسقيهم إبلاً مثلاً وقُرىء لا نُسقي من الإسقاءِ ويَصدُر من الصُّدورِ والرُّعاء بضمِّ الرَّاءِ وهو اسم جمع كالرخاء وأما الرِّعاءِ فجمعٌ قياسيٌّ كصِيامٍ وقِيامٍ وقولُه تعالى ﴿وأبونا شيخ كبير﴾ إبراء منهم للعُذرِ إليه عليه السَّلامُ في تولِّيهما للسَّقيِ بأنفسِهما كأنَّهما قالتَا إنَّا امرأتانِ ضعيفتانِ مستورتانِ لا نقدرُ على مُساجلةِ الرِّجالِ ومزاحمتِهم وما لنا رجلٌ يقومُ بذلكَ وأبُونا شيخٌ كبيرُ السنِّ قد أضعفَه الكبرُ فلا بدَّ لنا من تأخيرِ السَّقيِ إلى أنْ يقضي النَّاسُ أوطارَهم من الماءِ
﴿فسقى لَهُمَا﴾ رحمةً عليهما والكلامُ في حذفِ مفعولِه كما مرَّ آنِفاً رُوي أنَّ الرُّعاةَ كانُوا يضعونَ على رأسِ البئرِ حَجَراً لا يُقلُّه إلا سبعةُ رجالٍ وقيل عشرةُ وقيل أربعون وقيل مائة فأفله وحدَهُ مع ما كان به من الوصبِ والجراحةِ والجوع ولعله
8
القصص ٢٥ عليه الصَّلاة والسَّلام زاحمَهم في السَّقيِ لهما فوضعُوا الحجرَ على البئرِ لتعجيزِه عليه الصلاة والسلام عن ذلكَ فإنَّ الظاهرَ أنَّه عليه الصلاةُ والسَّلام غبَّ ما شاهد حالهما شارع الى السقى لهما وقدروى أنَّه دفعهم عن الماءِ إلى أنْ سقى لهُما وقيل كانت هناك بئرٌ أُخرى عليها الصَّخرةُ المذكورةُ ورُوي أنَّه عليه الصلاةُ والسَّلامُ سألَهم دَلْواً من ماءٍ فأعطَوه دلوهُم وقالُوا استقِ بها وكان لا ينزعُها إلا أربعون فاستقَى بها وصبَّها في الحوضِ ودعا بالبركةِ ورَوى غنمَهما وأصدرَهما ﴿ثُمَّ تولى إِلَى الظل﴾ الذي كانَ هُناك ﴿فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ﴾ أيْ أيَّ شيءٍ أنزلتَهُ إليَّ ﴿مّنْ خَيْرٍ﴾ جلَّ أو قلَّ وحملَه الأكثرونَ على الطعامِ بمعونةِ المقامِ ﴿فَقِيرٌ﴾ أي محتاج ولنضمنه معنى السؤال والطلب جئ بلامِ الدعامةِ لتقويةِ العملِ وقيل المَعنى لما أنزلتَ إليَّ من خيرٍ عظيمٍ هو خيرُ الدارينِ صرتُ فقيراً في الدُّنيا لأنَّه كانَ في سَعَةٍ من العيشِ عندَ فرعونَ قالَه عليه الصَّلاة والسَّلام إظهاراً للبجح والشُّكرِ على ذلك
9
﴿فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا﴾ قيل هي كُبراهما واسُمها صفُوراءُ أو صفراءُ وقيل صُغراهما واسمُها صُفيراءُ أي جاءتْهُ عقيبَ ما رجعتا الى أبيها رُوي أنَّهما لما رجعتَا إلى أبيهما قبلَ النَّاسِ وأغنامُهما حُفلٌ بطانٌ قال لُهما ما أعجلَكُما قالتَا وجدنَا رجلاً صالحاً رحمنَا فسقَىَ لنا فقالَ لإحداهُما اذهبي فادعيِه لي وقولُه تعالى ﴿تَمْشِى﴾ حالٌ من فاعل جاءتْ وقوله تعالى ﴿عَلَى استحياء﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من ضميرِ تمشي أي جاءتْه تمشِي كائنةً على استحياءٍ فمعَناهُ انها كانت على استحياء حالتي المثى والمجيءِ معاً لا عندَ المجيءِ فقط وتنكيرُ استحياءٍ للتفخيمِ قيل جاءتْه متخفرةً أي شديدةَ الحياءِ وقيل قد استترتْ بكُمِّ دِرعِها ﴿قالت﴾ استئاف مبني على سؤال نشأ من حكايةِ مجيئِها إيَّاه عليه الصلاة والسلام كأنه قيلَ فماذا قالتْ له عليه الصَّلاة والسَّلام فقيلَ قالتْ ﴿إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾ أي جزاءَ سقيكَ لنا أسندتِ الدَّعوةَ إلى أبيها وعللنها بالجزاءِ لئلاَّ يُوهمَ كلامُها ريبةً وفيهِ من الدِّلالةِ على كمالِ العقلِ والحياءِ والعفَّةِ ما لا يخَفْى رُويَ أنه عليه الصلاةُ والسَّلام أجابَها فانطلَقا وهي أمامه فألزقتِ الرِّيحُ ثوبَها بجسدها فوصفتْهُ فقال لها أمشِي خلفي وانعَتي لي الطريقَ ففعلتْ حتَّى أتيا دارَ شُعيب عليهما السَّلامُ ﴿فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص﴾ أي ما جَرى عليهِ من الخبرِ المقصُوصِ فإنَّه مصدرٌ سُمِّي به المفعولُ كالعللِ ﴿قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين﴾ الذي يلوحُ من ظاهرِ النظمِ الكريمِ أنَّ موسى عليه السَّلام إنَّما أجابَ المستدعيةَ من غيرِ تلعثُمٍ ليتبرَّكَ برؤيةِ شعيبٍ عليه السَّلام ويستظهرَ برأيهِ لا ليأخذ بمعروفِه أجراً حسبَما صرَّحتْ به ألا يُرى إلى ما رُوي أنَّ شُعيباً لما قدَّمَ إليه طعاماً قال إنَّا أهلُ بيتٍ لا نبيع ديننا بطِلاعِ الأرضِ ذهباً ولا نأخذُ على المعروفِ ثمناً ولم يتناولْ حتَّى قال شُعيبٌ عليه السَّلام هذهِ عادتُنا مع كلِّ مَن ينزلُ بنا فتناولَ بعد ذلكَ على سبيلِ التقبلِ لمعروفٍ مُبتدأٍ كيف لا وقد قصَّ عليه قصصَهُ وعرَّفَهُ أنَّه من بيتِ النُّبوةِ
9
القصص ٢٦ ٢٨ من أولادِ يعقوبَ عليه السَّلامِ ومثله حَقيقٌ بأنْ يُضيَّفَ ويكرَّمَ لا سيَّما في دارِ نبيَ من أنبياءِ الله تعالى عليهم الصَّلاة والسَّلام وقيلَ ليس بمستنكرٍ منه عليه الصَّلاة والسَّلام أن يقبلَ الأجرَ لاضطرارِ الفقرِ والفاقةِ وقد رُوي عن عطاءِ بن السَّائبِ أنَّه عليهِ السلامُ رفعَ صوتَهُ بدعائِه ليُسمَعها ولذلك قيلَ له ليجزَيك الخ ولعلَّه عليه السَّلام إنَّما فعلَه ليكونَ ذريعة الى استدعائه لا الى استيفاء الأجرِ
10
﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا﴾ وهي التي استدعتْهُ إلى أبيها وهي التي زوَّجها مِن موسى عليهما السلام ﴿يا أبت استأجره﴾ أيْ لرعي الغنمِ والقيامِ بأمرِها ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوى الامين﴾ تعليلٌ جارٍ مجرى الدِّليلِ على أنَّه حقيقٌ بالاستئجارِ وللمبالغةِ في ذلكَ جُعل خيرَ اسماً لأنَّ وذُكر الفعلُ على صيغةِ الماضي للدَلالة على أنَّه أمينٌ مجرَّبٌ رُوي أن شعيبا عليهِ السَّلامُ قالَ لهَا وما أعلمكِ بقوَّتِه وأمانتِه فذكرتْ ما شاهدتْ منه عليه السَّلام من إقلالِ الحجر ونزعِ الدَّلِو وأنَّه صوَّبَ رأسه حتَّى بلَّغتْهُ رسالتَه وأمَرها بالمشي خلفَهُ
﴿قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتى هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِى﴾ أي تكون أجير الى أو تثيبني من أجرتُ كذا إذا أثبتُه إيَّاه فقولُه تعالى ﴿ثَمَانِىَ حِجَجٍ﴾ على الأولِ ظرفٌ وعلى الثَّاني مفعولٌ به على تقديرِ مضافٍ أي رِعيةَ ثماني حججٍ ونُقل عن المبرِّدِ أنَّه يُقال أجرتُ داري ومملوكي غيرَ ممدودٍ وآجرتُ ممدوداً والأولُ أكثرُ فَعلَى هذا يكون المفعولُ الثَّاني محذوفاً والمعنى على أنْ تأجرنِي نفسَك وقولُه تعالى ثماني حججٍ ظرفٌ كالوجِه الأولِ ﴿فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً﴾ في الخدمةِ والعملِ ﴿فَمِنْ عِندِكَ﴾ أي فهوُ مِن عندك بطريقِ التَّفضلِ لا من عندِي بطريقِ الإلزامِ عليك وهذا من شُعيبٍ عرضٌ لرأيه على مُوسى عليهما السلامَ واستدعاءٌ منه للعقدِ لا إنشاءٌ وتحقيقٌ له بالفعل ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ﴾ بالزامِ إتمامِ العشرِ أو المُناقشةِ في مُراعاةِ الأوقاتِ واستيفاءِ الأعمالِ واشتقاقُ المشقةِ من الشقِّ فإنَّ ما يصعبُ عليك يشقُّ عليك اعتقادُك في إطاقته ويوزعُ رأُيك في مزاولتِه ﴿سَتَجِدُنِى إن شاء الله من الصالحين﴾ في حُسنِ المعاملةِ ولينِ الجانبِ والوفاءِ بالعهدِ ومراده عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالاستثناءِ التبرُّكُ بهِ وتفويضُ أمرِه إلى توفيقِه تعالى لا تعليقُ صلاحِه بمشيئتِه تعالى
﴿قَالَ ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ﴾ مبتدأُ وخبرٌ أي ذلكَ الذي قلتَهُ وعاهدتِني فيه وشارطتِني عليه قائمٌ وثابتٌ بينَنا جميعاً لا يخرجُ عنه واحدٌ منَّا لا أناعما شرطتُ علي ولا أنتَ عمَّا شرطتَ على نفسِك وقولُه تعالى ﴿أَيَّمَا الاجلين﴾ أي أكثرَهما أو أقصرَهما ﴿قضيت﴾ أي وفتيكه بأداءِ الخدمةِ فيه ﴿فَلاَ عُدْوَانَ عَلَىَّ﴾ تصريحٌ بالمرادِ وتقريرٌ لأمرِ الخيرةِ أي لا عُدوانَ عليَّ بطلبِ الزيادةِ على ما قضيتُه من الأجلينِ وتعميمُ انتفاءِ العُدوانِ لكلا الأجلين بصددِ المُشارطةِ مع عدمِ تحققِ العُدوانِ في أكثرِهما رأساً للقصدِ إلى التَّسويةِ بينهما في الانتفاء
10
القصص ٢٩ أي كما لا أطالبُ بالزيادةِ على العشرِ لا أطالبُ بالزيادةِ على الثمانِ أو أيَّما الأجلينِ قضيتُ فلا إثمَ عليَّ يعني كما لاَ إثمَ عليَّ في قضاءِ الأكثرِ لا إثمَ عليَّ في قضاءِ الأقصرِ فقطْ وقُرىء أيَّ الأجلينِ ما قضيتُ فمَا مزيدةٌ لتأكيدِ القضاءِ كما أنَّها في القراءةِ الأُولى مزيدةٌ لتأكيدِ إبهامِ أيَ وشياعِها وقُرىء أيْما بسكونِ الياءِ كقولِ مَن قال تنظَّرتُ نصراً والسماكينِ أيْهما عليَّ من الغيثِ استهلتْ مواطرُه والله على مَا نَقُولُ من الشُّروطِ الجاريةِ بيننا ﴿وكيل﴾ شاهد وحفظ فلا سبيلَ لأحدٍ منَّا إلى الخروجِ عنه أصلاً وليس ما حُكي عنهما عليهما الصَّلاة والسَّلام تمامَ ما جرى بينهما من الكلامِ في إنشاءِ عقدِ النِّكاحِ وعقدِ الإجارةِ وإيقاعِهما بل هُو بيانٌ لما عز ما عليه واتفقا على ايفاعه حسبما يتوقفُ عليه مساقُ القصَّةِ إجمالاً من غيرِ تعرضٍ لبيانِ مواجبِ العقدينِ في تلك الشريعةِ تفصيلاً رُوي أنَّهما لمَّا أتمَّا العقدَ قال شعيبٌ لموسى عليهما السَّلام ادخُلْ ذلكَ البيتَ فخُذ عصاً من تلكَ العصيِّ وكانت عنده عِصِيُّ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام فأخذَ عصا هبطَ بها آدمُ عليه الصَّلاة والسَّلام من الجنَّةِ ولم يزلِ الأنبياءُ يتوارثونَها حتَّى وقعتْ إلى شُعيبٍ عليه السَّلام فمسَّها وكان مكفوفاً فضنَّ بها فقال خُذ غيرَها فما وقعَ في يده إلا هي سبعَ مرَّاتٍ فعلم أنَّ له شأناً وقيل أخذَها جبريلُ عليه السَّلام بعد موتِ آدمَ عليه السَّلام فكانتْ معه حتَّى لقَي بها مُوسى عليه السَّلام ليلاً وقيل أودعها شعيباً ملَكٌ في صورةِ رجلٍ فأمرَ بنتَه أنْ تأتيَه بعصا فأتتْهُ بها فردَّها سبعَ مرَّاتٍ فلم يقعْ في يدها غيرُها فدفعَها إليه ثم ندِمَ لأنَّها وديعةٌ فتبعَه فاختصَما فيها ورضيا ان يحكم بينها أولُ طالعٍ فأتاهُما المَلكُ فقالَ ألقياها فمَن رفعَها فهَي له فعالَجها الشَّيخُ فلم يُطِقْها ورفعَها مُوسى عليه السَّلام وعن الحسنِ رضيَ الله تعالى عنه ما كانتْ إلا عصاً من الشَّجرِ اعترضها اعتراضاً وعن الكلبي رحمة الله الشَّجرةُ التي منها نُوديَ شجرةُ العَوسجِ ومنها كانت عصاهُ ولمَّا أصبحَ قال له شُعِيبٌ صلواتُ الله وسلامُه عليهما إذا بلغتَ مفرقَ الطَّريقِ فلا تأخذْ على يمينكَ فإنَّ الكلأَ وإنْ كانَ بها أكثرَ إلاَّ أنَّ فيها تِنِّيناً أخشاهُ عليكَ وعلى الغنم فأخذتِ الغنمُ ذاتَ اليمينِ فلم يقدرْ على كفِّها ومشَى على أثرِها فإذا عشبٌ وريف لم يرَ مثلَه فنامَ فإذا بالتنِّينِ قد أقبل فحاربتْهُ العَصا حتَّى قتلتْهُ وعادتْ إلى جنبِ مُوسى عليه السَّلامُ داميةً فلما أبصرَها داميةً والتنِّينَ مقتولاً ارتاحَ لذلك ولما رجعَ إلى شُعيبٍ عليهما السَّلامُ مسَّ الغنمَ فوجدَها ملأى البُطونِ غزيرةَ اللبنِ فأخبرَه مُوسى عليه السَّلام بالشَّأنِ ففرحَ وعلَم أنَّ لموسى والعصا شأناً وقال له إنِّي وهبتُ لك من نتاجِ غنمي هذا العامِ كلَّ أدرعَ ودعاء فأُوحي إليه في المنام أن اضربْ بعصاك مُستقى الغنمِ ففعلَ ثم سقَى فما أخطأتْ واحدةٌ إلا وضعت أَدرعَ ودرعاءَ فوفَّى له بشرطِه والفاءُ في قولِه تعالى
11
﴿فلما قضى موسى الأجل﴾ فصيحةٌ أي فعقدا العقدينِ وباشر موسى ما لتزمه فلما أتمَّ الأجلَ ﴿وَسَارَ بِأَهْلِهِ﴾ نحوَ مصرَ بإذنٍ من شُعيبٍ عليهما السَّلامُ رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قضى ابعدالا جلين ومكثَ عنَدُه بعد ذلك عشر سنين ثمَّ عزمَ على العودِ إلى مصرَ فاستأذنَه في
11
القصص ٣٠ ٣٢ ذلكَ فأذنَ له فخرجَ بأهلِه ﴿آنَسَ مِن جَانِبِ الطور﴾ أي أبصرَ من الجهةِ التي تلي الطُّورَ ﴿نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم مّنْهَا بِخَبَرٍ﴾ أي بخبرِ الطريق وقد كانوا ضلوه ﴿أَوْ جَذْوَةٍ﴾ أي عُودٍ غليظٍ سواء كانتْ في رأسه نارا ولا قال قائلُهم باتتْ حواطبُ لَيْلَى يلتمسنَ لها جزلَ الجذى غير حوار ولا دعِرِ وقال وألقى على قبْسٍ من النَّار جذوة شديداً عليها حرُّها والتهابُها ولذلك بيَّن بقولِه تعالى ﴿من النار﴾ وقرئ بكسرِ الجيمِ وبضمِّها وكلَّها لغاتٌ ﴿لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ أي تستدفئونَ
12
﴿فلما أتاها﴾ أي النار التي آنسَها ﴿نُودِىَ مِن شاطئ الوادى الأيمن﴾ أي أتاهُ النداءُ من الشاطئ الأيمنِ بالنسبةِ إلى مُوسى عليهِ السَّلامُ ﴿فِى البقعة المباركة﴾ متصل بالشاطئ أو صلةٌ لنُوديَ ﴿مِنَ الشجرة﴾ بدلُ اشتمالٍ من شاطئ لأنَّها كانتْ نابتةً على الشاطئ ﴿أن يا موسى إِنّى أَنَاْ الله رب العالمين﴾ وهذ وإنْ خالفَ لفظاً لما في طه والنَّملِ لكنَّه موافقٌ له في المَعنى المرادِ
﴿وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ﴾ عطفٌ على أنْ يا مُوسى وكلاهما مفسرٌ لنودَي والفاءُ في قوله تعالى ﴿فلما رآها تهتز﴾ فصيحة مفصحةٌ عن جُمَلٍ قد حُذفت تعويلا على دلالة الحالِ عليها وإشعاراً بغايةِ سرعةِ تحققِ مدلولاتِها أي فألقاها نصارت ثُعباناً فاهتزتْ فلمَّا رَآها تهتزُّ ﴿كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾ أي في سُرعةِ الحركةِ مع غاية عظم جئتها ﴿ولى مُدْبِراً﴾ أي مُنهزماً من الخوفِ ﴿وَلَمْ يُعَقّبْ﴾ أيْ لم يرجعْ ﴿يَا موسى﴾ أي قيلَ يا مُوسى ﴿أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الامنين﴾ من المخاوفِ فإنَّه لا يخافُ لديَّ المُرسلون
﴿اسلك يَدَكَ فِى جَيْبِكَ﴾ أي أَدخلْها فيهِ ﴿تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء﴾ أي عيبٍ ﴿واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾ أي يديك المبسوطتينِ لتتَّقي بهما الحيَّةَ كالخائفِ الفزعِ بإدخالِ اليمنى تحتَ العضد الأيسرِ واليسرى تحتَ الأيمنِ أو بإدخالِهما في الجيبِ فيكون تكريراً لغرضٍ آخرَ هو أنْ يكونَ ذلك في وجهِ العدوِّ إظهارَ جراءةٍ ومبدأ لظهورٍ معجزةٍ ويجوزُ أنْ يرادَ بالضمِّ التَّجلدُ والثباتُ عند انقلابِ العَصَا ثعباناً استعارةٌ من حال الطائر فإنه إذَا خافَ نشَر جناحيِه وإذا أمنَ واطمأنَّ ضمَّهما إليهِ ﴿مِنَ الرهب﴾ أي من أجلِ الرَّهبِ أي إذا عراكَ الخوفُ فافعلْ ذلك تجلُّداً وضبطاً لنفسكَ وقُرىء بضمِّ الراءِ وسكونِ الهاء وبضمهما والكل لغات ﴿فَذَانِكَ﴾ إشارةٌ إلى العَصَا واليدِ وقُرىء بتشديدِ النُّونِ فالمخفف مثنى ذاك والمشد مثنَّى ذلكَ ﴿برهانان﴾ حجَّتانِ نيِّرتانِ وبُرهان فُعلان لقولِهم أبرَه الرَّجلُ إذا جاءَ بالبُرهانِ من قولِهم برهَ الرَّجلُ إذا ابيضَّ ويُقال
12
القصص ٣٣ ٣٧ للمرأةِ البيضاءِ برهاءُ وبَرَهْرَهةٌ ونظيرُه تسميةِ الحجَّةِ سُلطاناً من السَّليطِ وهو الزَّيتُ لإنارتِها وقيل هو فُعلال لقولِهم برهنَ ومِنْ في قولِه تعالَى ﴿مِن رَبّكَ﴾ متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لبرهانانِ أي كائنانِ منْهُ تعالى ﴿إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ واصلانِ ومنتهيانِ إليهم ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين﴾ خارجينَ عن حُدود الظُّلمِ والعُدوان فكانُوا أحِقَّاءَ بأنْ نُرسلَك إليهم بهاتينِ المُعجزتينِ الباهرتينِ
13
﴿قَالَ رَبّ إِنّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يقتلون﴾ بمقابلتها
﴿وأخي هارون هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِىَ رِدْءاً﴾ أي مُعيناً وهو في الأصلِ اسمُ ما يُعان به كالدفء وقرئ ردأ بالتخفيف ﴿يصدقني﴾ بتخليص الحقِّ وتقريرِ الحجَّةِ بتوضيحِها وتزييفِ الشُّبهةِ ﴿إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ﴾ ولسانِي لا يُطاوعني عند المُحاجةِ وقيل المرادُ تصديقُ القومِ لتقريرِه وتوضيحِه لكنَّه أسندَ إليه إسناد الفعلِ إلى السببِ وقرئ يصدقْني بالجزمِ على أنَّه جوابُ الأمرِ
﴿قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾ أي سنقويكَ به فإنَّ قوَّةَ الشَّخصِ بشدة اليدِ على مُزاولةِ الأمورِ ولذلكَ يعبّرُ عنه باليدِ وشدَّتِها بشدَّة العضدِ ﴿وَنَجْعَلُ لَكُمَا سلطانا﴾ أي تسلطاً وغلبةً وقيل حجَّةً وليس بذاكَ ﴿فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا﴾ باستيلاءٍ أو محاجة ﴿بآياتنا﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ قد صُرِّح به في مواضعَ أُخَر أي اذهَبا بآياتِنا أو بنجعل أي نسلطكما بآياتِنا أو بمعنى لا يصَلون أي تمتنعونَ منهم بها وقيل هو قسمٌ وجوابُه لا يصلونَ وقيلَ هو بيانٌ للغالبونَ في قولِه تعالى ﴿أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون﴾ بمعنى أنَّه صلة لما يبينه أوصلة له على أنَّ اللامَ للتعريفِ لا بمعنى الذي
﴿فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات﴾ أي واضحات الدلالة على صحَّةِ رسالةِ مُوسى عليه السَّلام منه تعالى والمرادُ بها العَصَا واليدُ إذ هُما اللتانِ أظهرَهُما مُوسى عليه السَّلام إذْ ذاكَ والتَّعبيرُ عنْهمَا بصيغةِ الجمعِ قد مرَّ سرُّه في سورةِ طه ﴿قَالُواْ مَا هَذا إِلاَّ سحرٌ مُّفْتَرًى﴾ أي سحرٌ مختلقٌ لم يُفعل قبلَ هذا مثلُه أو سحرٌ تعمله ثم تفتريهِ على الله تعالى أو سحرٌ موصوفٌ بالافتراءِ كسائرِ أصنافِ السِّحِر ﴿وَمَا سَمِعْنَا بهذا﴾ أي السِّحرِ أو ادعاءِ النُّبوةِ ﴿في آبائنا الأولين﴾ أي واقعاً في أيَّامِهم
﴿وَقَالَ موسى رَبّى أَعْلَمُ بِمَن جَاء بالهدى مِنْ عِندِهِ﴾
13
يريد به نفسه وقرئ قال بغير واولانه جوابٌ عن مقالِهم ووجهُ العطفِ أنَّ المرادَ حكايةُ القولينِ ليوازنَ السَّامعُ بينهما فيميِّز صحيحَهما من الفاسدِ ﴿وَمَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار﴾ أي العاقبةُ المحمودُة في الدَّارِ وهي الدُّنيا وعاقبتُها الأصليةُ هي الجَّنة لأنَّها خُلقتْ مجازاً إلى الآخرةِ ومزرعة لها والمقصودُ بالذاتِ منها الثَّوابُ وأمَّا العقابُ فمن نتائجِ أعمالِ العصاه وسيئات الغواة وقرئ يكونُ بالياءِ التحتانيَّةِ ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾ أي لا يفوزونَ بمطلوبٍ ولا ينجون عن محذُورٍ
14
﴿وقال فرعون يا أيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى﴾ قاله اللعينُ بعدَ ما جمعَ السَّحرةَ وتصدَّى للمُعارضةِ فكانَ من أمِرهم ما كانَ ﴿فَأَوْقِدْ لي يا هامان عَلَى الطين﴾ أي أصنعْ آجرَّاً ﴿فاجعل لّى﴾ منه ﴿صَرْحاً﴾ أي قصراً رفيعاً ﴿لَّعَلّى أَطَّلِعُ إلى إله موسى﴾ كأنَّه توهَّم أنَّه لو كان لكان جسماً في السَّماءِ يمكن الرُّقيُّ إليه ثم قال ﴿وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ الكاذبين﴾ أو أرادَ أنْ يبنيَ له رَصَداً يترصَّدُ منه أوضاعَ الكواكبِ فيرى هل فيها ما يدلُّ على بعثةِ رسولٍ وتبدلِ دولتِه وقيل المراد بنفى العلم نفى المعلومِ كما في قولِه تعالى ﴿قُلْ أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السماوات وَلاَ فِى الارض﴾ فإنَّ معناهُ بما ليس فيهنَّ وهذا من خواصِّ العلومِ الفعليةِ فإنَّها لازمةٌ لتحققِ معلوماتِها فيلزم من انتفائِها انتفاءُ معلوماتِها ولا كذلكَ العلومُ الانفعاليةُ قيل أولُ من اتَّخذَ الآجرَّ فرعونُ ولذلك أُمرِ باتخاذِه على وجهٍ يتضمَّنُ تعليمَ الصَّنعةِ مع ما فيه من تعظيم ولذلك نادى هامانَ باسمهِ بيافي وسطِ الكلامِ
﴿واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الارض﴾ أرضِ مصرَ ﴿بِغَيْرِ الحق﴾ بغيرِ استحقاقٍ ﴿وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ﴾ بالبعث للجزاء وقرئ بفتحِ الياءِ وكسرِ الجيمِ من رجعَ رجُوعاً والأولُ من رجع رجعاً وهو الأنسبُ بالمقامِ
﴿فأخذناه وَجُنُودَهُ﴾ عقيبَ ما بلغُوا من الكفرِ والعتُوِّ أقصى الغاياتِ ﴿فنبذناهم فِى اليم﴾ قدمر تفصيلُه وفيه من تفخيمِ شأنِ الأخذِ وتهويلِه واستحقارِ المأخوذينَ المنبوُذينَ ما لا يخفى كأنَّه تعالى أخذَهم مع كثرتِهم في كفَ وطرحَهم في البحرِ ونظيُره قولُه تعالى وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والارض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسموات مطويات بِيَمِينِهِ ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين﴾ وبيَّنها للنَّاسِ ليعتبرُوا بها
﴿وجعلناهم﴾ أي صيَّرناهم في عهدِهم ﴿أَئِمَّةً يَدْعُونَ﴾ النَّاسَ ﴿إِلَى النار﴾ إلى ما يُؤدِّي إليها من الكفرِ والمَعَاصي أي قدوةً يَقتِدي بهم أَهلُ الضَّلالِ لمَّا صرفُوا اختيارَهم إلى تحصيلِ تلك الحالة وقيل
14
القصص ٤٢ ٤٤ سمَّيناهم أئمةً دعاةً إلى النَّار كما في قولِه تعالى وجعلوا الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا فالأنسبُ حينئذٍ أن يكونَ الجعلُ بعدهم فيما بين الأممِ وتكونَ الدَّعوة الى نفس البار وقيل معنى الجعلِ منعُ الألطافِ الصَّارفةِ عن ذلك ﴿وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ﴾ بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوهِ
15
﴿وأتبعناهم فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً﴾ طرداً وإبعاداً من الرَّحمةِ ولعناً من اللاعنينَ حيثُ لا يزالُ يلعنُهم الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام والمؤمنون خَلَفاً عن سَلَفٍ ﴿وَيَوْمَ القيامة هُمْ مّنَ المقبوحين﴾ من المطرُودينِ المُبعدينَ وقيل من الموسُومين بعلامةٍ منكرةٍ كزرقةِ العُيون وسوادِ الوجهِ قالَه ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما يُقال قبَّحه الله وقبَحه إذا جعلَه قبيحاً وقال أبوُ عُبيدةَ من المقبُوحين من المُهلكينَ ويومَ القيامةِ إمَّا متعلقٌ بالمقبوحينَ على أنَّ اللامَ للتعريفِ لا بمعنى الذي أو بمحذوفٍ يُفسره ذلك كأنَّه قيل وقبحوا يوم القيامة نجو لعملِكم من القالينَ
﴿ولقد آتينا موسى الكتاب﴾ أي التوراة ﴿مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الاولى﴾ هم أقوامُ نوحٍ وهودٍ وصالحٍ ولوطٍ عليهم السَّلام والتَّعرض لبيانِ كون إبتائها بعدإهلاكهم للإشعارِ بمساس الحاجةِ الدَّاعيةِ إليه تمهيداً لما يعقبُه من بيانِ الحاجةِ الدَّاعية إلى إنزالِ القُرآن الكريمِ على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم فإنَّ إهلاكَ القُرون الأُولى من مواجبات اندراسِ معالمِ الشَّرائعِ وانطماسِ آثارِها وأحكامِها المؤديينِ إلى اختلالِ نظامِ العالمِ وفسادِ أحوالِ الأُمم المستدعيينَ للتشريعِ الجديد بتقرير الأُصولِ الباقيةِ على مرِّ الدُّهورِ وترتيب الفروعِ المتبدلة بتبدلِ العُصور وتذكير أحوالِ الأُممِ الخاليةِ الموجبةِ للاعتبارِ كأنَّه قيلَ ولقد آتينَا مُوسى التوراةَ على حين حاجةٍ إلى إيتائِها ﴿بَصَائِرَ لِلنَّاسِ﴾ أي أنواراً لقلوبِهم تبصر بها الحقائقَ وتميزُ بين الحقِّ والباطلِ حيثُ كانتْ عُمياً عن الفهم والادراك بالكُلِّية فإنَّ البصيرةَ نورُ القلبِ الذي به يستبصرُ كما أنَّ البصرَ نورٌ العينِ الذي به تبصرُ ﴿وهدى﴾ أي هدايةً إلى الشَّرائعِ والاحكامِ التي هي سُبلُ الله تعالى ﴿وَرَحْمَةً﴾ حيثُ ينالُ من عملَ به رحمةَ الله تعالى وانتصابُ الكلِّ على الحاليَّةِ من الكتابِ على أنَّه نفسُ البصائرِ والهُدى والرَّحمة أو على حذفِ المضافِ أي ذَا بصائرَ الخ وقيل على العلَّة أي آتيناهُ الكتابَ للبصائرِ والهُدى والرَّحمةِ ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ ليكونُوا على حالٍ يُرجى منه التَّذكرُ وقد مرَّ تحقيقُ القولِ في ذلك عند قولِه تعالى ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ من سورةِ البقرةِ وقوله تعالى
﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى﴾ شروعٌ في بيانِ أنَّ إنزالَ القرآنِ الكريمِ أيضاً واقعٌ في زمانِ شدَّة مساسِ الحاجةِ إليه واقتضاءِ الحكمةِ له البتةَ وقد صدرَ بتحقيقِ كونِه وحياً صادقاً من عندِ الله عزَّ وجلَّ ببيانِ أنَّ الوقوفَ على ما فُصِّل من الأحوال لا يتسنَّى
15
القصص ٤٥ ٤٦ إلا بالمشاهدةِ أو التعلُّمِ ممَّن شاهدَها وحيثُ انتفى كلاهُما تبينَ أنَّه بوحيٍ من علاَّمِ الغُيُوبِ لا محالةَ على طريقةِ قولِه تعالى ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أقلامهم أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ الآيةَ أيْ وما كنتَ بجانبِ الجبلِ الغربِّي أو المكانِ الغربيِّ الذي وقعَ فيه الميقاتُ على حذفِ الموصوفِ وإقامةِ الصِّفةِ مُقامَهُ أو الجانبِ الغربِّي على إضافةِ الموصُوفِ إلى الصِّفةِ كمسجدِ الجامعِ ﴿إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الامر﴾ أي عهدنَا إليهِ وأحكمَنا أمرَ نبوَّتِه بالوحي وإيتاء التَّوراةِ ﴿وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين﴾ أي من جُملة الشاهدينَ للوحي وهم السبعونَ المختارون للميقاتِ حتَّى تشاهدَ ما جرى من أمرِ موسى في ميقانه وكتبةِ التَّوراةِ له في الألواحِ فتخبَره للنَّاسِ
16
﴿وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً﴾ أي ولكنَّا خلقنا بين زمانِك وزمانِ مُوسى قُروناً كثيرةً ﴿فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر﴾ وتمادَى الأمدُ فتغيرتِ الشَّرائعُ والأحكامُ وعَميتْ عليهم الأنباءُ لا سيما على آخرهم فافتضى الحالُ التَّشريعَ الجديدَ فأوحينَا إليكَ فحذفَ المستدرَكَ اكتفاءً بذكِر ما يُوجبه ويدلُّ عليهِ وقولُه تعالى ﴿وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ﴾ نفيٌ لاحتمالِ كونِ معرفتِه عليه الصَّلاة والسَّلام للقصَّةِ بالسَّماعِ ممَّن شاهدَها أي وما كنتَ مُقيماً في أهلِ مدينَ من شُعيبٍ والمؤمنينَ به وقولُه تعالى ﴿تَتْلُو عَلَيْهِمْ﴾ أي تقرأُ على أهلِ مدينَ بطريق التعلم منهم ﴿آياتنا﴾ الناطقةَ بالقصَّةِ إمَّا حالٌ من المُستكنِّ في ثاوياً أو خبرٌ ثانٍ لكنتَ ﴿وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ إيَّاك ومُوحين إليكَ تلك الآياتِ ونظائرَها
﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا﴾ أي وقتَ ندائنا موسى إِنّى أَنَا الله رَبُّ العالمين واستنبائنا إيَّاه وإرسالِنا له الى فرعونَ ﴿ولكنْ رحمةٌ مّن رَّبِكَ﴾ أي ولكنْ أرسلناكَ بالقُرآنِ النَّاطقِ بما ذُكر وبغيرِه لرحمةٍ عظيمةٍ كائنةٍ منَّا لك وللنَّاسِ وقيل علمناكَ وقيل عرَّفناك ذلك وليسَ بذاكَ كما ستعرفُهُ والالتفاتُ إلى اسمِ الربِّ للإشعارِ بعلَّةِ الرَّحمةِ وتشريفِه ﷺ بالإضافةِ وقد اكتُفي عن ذكرِ المستدركِ هُهنا بذكر ما يُوجبه من جهتِه تعالى كما اكتفى عنْهُ في الأولِ بذكرِ ما يُوجبه من جهةِ النَّاسِ وصرَّح به فيما بينُهما تنصيصا على ما هو المقصودُ وإشعاراً بأنَّه المرادُ فيهما أيضا ولله درُّ شأنِ التنزيلِ وقولُه تعالى ﴿لِتُنذِرَ قَوْماً﴾ متعلقٌ بالفعلِ المعلَّلِ بالرَّحمةِ فُهو ما ذكرنا من إرساله ﷺ بالقُرآنِ حتماً لما أنَّه المعللُ بالإنذارِ لا تعليمُ ما ذكر وقرئ رحمةٌ بالرَّفعِ على أنَّه خبرُ مبتدأ محذوف وقوله تعالى ﴿مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ﴾ صفةٌ لقوماً أي لم يأتهم نذيرٌ لوقوعِهم في فترةٍ بينك وبينَ عيسى وهي خمسمائةٌ وخمسونَ سنةً أو بينك وبين اسمعيل بناء على أن دعوة موسى عيسى عليهما السَّلامُ كانتْ مختصَّةً ببني اسرائيلَ ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ أيْ يتعظونَ بإنذارِك وتغييرُ الترتيب الوقوعي بين
16
القصص ٤٧ ٤٩ قضاء الأمر والنواء في أهلِ مدينَ والنِّداءِ للتنبيهِ على أنَّ كلاً من ذلك برهانٌ مستقلُّ على أن حكايته ﷺ للقصَّةِ بطريقِ الوحِى الإلهيِّ ولو ذُكر أولاً نفيُ ثوائه ﷺ من أهلِ مدينَ ثمَّ نفيَ حضوره ﷺ عندَ النِّداءِ ثم نُفي حضورُه عند قضاءِ الأمرِ كما هو الموافقُ للترتيبِ الوقوعي لربما توهم أن الكلَّ دليلٌ واحدٌ على ما ذُكِرَ كما مَرَّ في سورة البقرةِ
17
﴿وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ﴾ أي عقوبةٌ ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أيديهم﴾ أي ما اقترفُوا من الكفرِ والمعَاصي ﴿فَيَقُولُواْ﴾ عطفٌ على تُصيبَهم داخلٌ في حيِّزِ لولا الامتناعيَّةِ على أنَّ مدارَ انتفاءِ ما يُجاب به هو امتناعُه لا امتناعُ المعطُوفِ عليه وإنما ذكرَه في حيزها للإبذان بأنه السبب الملجئ لهم إلى قولِهم ﴿رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رسولا﴾ أي هلاَّ أرسلتَ إلينا رسولاً مؤيداً مِن عندك بالآيات ﴿فنتبع آياتك﴾ الظَّاهرةَ على يدِه وهو جوابُ لولا الثَّانيةِ ﴿وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين﴾ بهَا وجوابُ لولا الأُولى محذوفٌ ثقةٍ بدلالةِ الحالِ عليهِ والمَعْنى لولا قولُهم هذا عندَ إصابة عقوبة جاياتهم التي قدَّمُوها ما أرسلناكَ لكن لمَّا كانَ قولُهم ذلكَ محقَّقاً لا محيدَ عنه أرسلناك قطعا لماذيرهم بالكُلِّيةِ
﴿فَلَمَّا جَاءهُمُ﴾ أي أهلَ مكَّةَ ﴿الحق مِنْ عِندِنَا﴾ وهو القرآنُ المنزلُ عليهِ ﷺ ﴿قَالُواْ﴾ تعنُّتاً واقتراحاً ﴿لَوْلا أوتي﴾ يعنونه ﷺ ﴿مِثْلَ مَا أُوتِىَ موسى﴾ من الكتابِ المنزَّلِ جملةً وأمَّا اليدُ والعَصَا فلا تعلُّق لهما بالمقامِ كسائرِ معجزاتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقوله تعالى ﴿أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِىَ موسى مِن قَبْلُ﴾ ردٌّ عليهم وإظهارٌ لكونِ ما قالُوه تعنُّتاً محضاً لا طلباً لما يُرشدهم إلى الحقِّ أي ألم يكفُروا من قبلِ هذا القولِ بما أوتى موسى من الكتاب كما كفرُوا بهذا الحقِّ وقولُه تعالى ﴿قَالُواْ﴾ استئنافٌ مَسُوقٌ لتقريرِ كُفرِهم المستفادِ من الإنكارِ السَّابقِ وبيانِ كيفيَّتِه وقولُه تعالى ﴿سِحْرَانِ﴾ خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي هُما يعنونَ ما أُوتي محمدٌ وما أُوتي مُوسى عليهما السَّلام سحرانِ ﴿تَظَاهَرَا﴾ أي تعاوَنا بتصديقِ كلُّ واحدٍ منهُما الآخَرَ وذلك أنَّهم بَعثوا رهطاً منهم إلى رؤساءِ اليَّهودِ في عيدلهم فسألوهم عن شأنه ﷺ فقالُوا إنَّا نجدُه في التَّوارةِ بنعتِه وصفتِه فلمَّا رجعَ الرَّهطُ وأخبرُوهم بما قالتِ اليَّهودُ قالُوا ذلكَ وقولُه تعالى ﴿وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلّ﴾ أي بكلِّ واحدٍ من الكتابينِ ﴿كافرون﴾ تصريحٌ بكفرِهم بهما وتأكيدٌ لكفرِهم المفهومِ من تسميتهما سحراً وذلك لغايةِ عُتوهم وتمادِيهم في الكفر والطغيان وقرئ ساحران تظاهران يعنون مُوسى ومحمَّداً صلَّى الله عليه وسلم هذا هُو الذي تستدعيهِ جَزالةُ النَّظمِ الجليلِ فتأملْ ودعْ عنكَ ما قيلَ وقيلَ ألا ترى إلى قولِه تعالى
﴿قُلْ فَأْتُواْ بكتاب مّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى منهما﴾ مما أوتياه
17
القصص ٥٠ ٥٤ من التَّوراةِ والقُرآنِ وسمَّيتُموهما سحرينِ فإنَّه نصٌّ فيما ذُكر وقوله تعالى ﴿أَتَّبِعْهُ﴾ جوابٌ للأمرِ أي إنْ تأتُوا به أتَّبعْهُ ومثلُ هذا الشَّرطِ ممَّا يأتِي به من يدلُّ بوضوحِ حُجَّتِه وسُنوحِ محجَّتِه لأنَّ الإتيانَ بما هو أهدى من الكتابينِ أمرٌ بيِّنُ الاستحالةِ فيوسع دائرةَ الكلامِ للتَّبكيتِ والإفحامِ ﴿إِن كُنتُمْ صادقين﴾ أي في أنَّهما سحرانِ مختلقانِ وفي إيراد كلمةِ إنْ مع امتناعِ صدقِهم نوعُ تهكُّمٍ بهم
18
﴿فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ﴾ أي فإنْ لم يفعلُوا ما كلَّفتهم من الإتيانِ بكتابٍ أهدى منهما كقولِه تعالى فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وإنَّما عُبِّر عنه بالاستجابةِ إيذانا بأنه ﷺ على كمالِ أمنٍ من أمره كأن أمره ﷺ لهم بالإتيانِ بما ذُكر دعاءٌ لهم إلى أمرٍ يريدُ وقوعَه والاستجابةُ تتعدَّى إلى الدُّعاءِ بنفسِه وإلى الدَّاعِي باللامِ فيحذف الدُّعاء عندَ ذلكَ غالباً ولا يكادُ يقال استجابَ الله له دعاءَه ﴿فاعلم أَنَّمَا يتبعون أهواءهم﴾ الزائفة من غير أن يكون لهم متمسَّكٌ ما أصلاً إذْ لَوْ كانَ لهُم ذلكَ لأَتَوا بهِ ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن اتبع هواه﴾ استفهامٌ إنكاريٌّ للنَّفيِ أيْ لا أضلَّ ممَّن اتَّبع هواهُ ﴿بِغَيْرِ هُدًى مّنَ الله﴾ أي هو أضلُّ من كلِّ ضالَ وإنْ كانَ ظاهرُ السَّبكِ لنفيِ الأصلِ لا لنفيِ المُساوي كما مرَّ في نظائرِه مراراً وتقييدُ اتِّباعِ الهَوَى بعدمِ الهُدى من الله تعالى لزيادةِ التَّقريعِ والإشباعِ في التَّشنيعِ والتَّضليلِ وإلا فمقارنتُه لهدايتِه تعالى بينةُ الاستحالةِ ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين﴾ الذين ظلمُوا أنفسَهم بالانهماكِ في اتباعِ الهَوَى والإعراضِ عن الآياتِ الهاديةِ إلى الحقِّ المُبينِ
﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول﴾ وقرئ بالتَّخفيف أي أنزلنا القرآنَ عليهم متواصلاً بعضَه إثرَ بعضٍ حسبما تقتضيه الحكمةُ والمصلحةُ أو متتابعاً وعداً ووعيداً قصصاً وعبراً ومواعظَ ونصائحَ ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ فيؤمنون بما فيه
﴿الذين آتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ﴾ أي منْ قبلِ إيتاءِ القُرآنِ ﴿هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ وهم مُؤمنو أهلِ الكتابِ وقيلَ أربعون من أهلِ الإنجيلِ اثنانِ وثلاثون جاءوا مع جعفر من الحبشة وثمانة ي من الشامِ
﴿وَإِذَا يتلى﴾ أي القرآنُ عَلَيْهِمْ ﴿قالوا آمنا بِهِ أَنَّهُ الحق مِن رَّبّنَا﴾ أي الحقُّ الذي كما نعرف حقيته وهو استئناف لييان ما أوجب إيمانَهم وقولُه تعالَى ﴿إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ﴾ أي منْ قبلِ نزولِه ﴿مُسْلِمِينَ﴾ بيانٌ لكونِ إيمانِهم به أمراً متقادمَ العهدِ لما شاهدوا ذكرَه في الكتب المنقدمة وأنَّهم على دينِ الإسلام قبل نزولِ القرآنِ
﴿أولئك﴾ الموصوفون بما ذكر من النعوت
18
القصص ٥٥ ٥٧ ﴿يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ﴾ مرةً على إيمانِهم بكتابِهم ومرةً على إيمانِهم بالقرآنِ ﴿بِمَا صَبَرُواْ﴾ بصبرِهم وثباتِهم على الإيمانينِ أو على الإيمان بالقرآنِ قبل النزول وبعده أو على أذى من هاجرهم أهلِ دينِهم ومن المشركين ﴿ويدرؤون بالحسنة السيئة﴾ أي يدفعونَ بالطاعة المعصية لقوله ﷺ وأتبعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُها ﴿وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ﴾ في سبيلِ الخيرِ
19
﴿وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو﴾ من اللاغينَ ﴿أَعْرَضُواْ عَنْهُ﴾ عن اللَّغو تكرماً كقولِه تعالى وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ﴿وَقَالُواْ﴾ لهم ﴿لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم سلام عَلَيْكُمْ﴾ بطريقِ المُتاركةِ والتَّوديعِ ﴿لاَ نَبْتَغِى الجاهلين﴾ لا نطلبُ صحبتَهم ولا نريدُ مخالطتَهم
﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِى﴾ هدايةً موصِّلةً إلى البُغيةِ لا محالةَ ﴿مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ من النَّاسِ ولا تقدرُ على أنْ تدخلَه في الإسلامِ وإنْ بذلت فيه غايةَ المجهودِ وجاوزتَ في السعيِ كلَّ حدَ معهودٍ ﴿ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَآء﴾ أنْ يهديَه فيدخلَه في الإسلامِ ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين﴾ بالمستعدِّينَ لذلك والجمهورُ على أنَّها نزلتْ في أبي طالبٍ فإنَّه لما احتُضر جاءه رسول الله ﷺ وقالَ له يا عمِّ قُل لا إله إلا الله كلمةً أحاجُّ بها لك عندَ الله قال له يا ابنَ أخِي قد علمتُ إنَّك لصادقٌ ولكنِّي أكرَه أنْ يقال جزع عند الموتِ ولولا أنْ يكونَ عليك وعلى بني أبيكَ غضاضةٌ بعدي لقُلتها ولأقررتُ بها عينَك عندَ الفراقِ لما أَرَى من شدَّة وَجْدِك ونصيحتِك ولكنِّي سوفَ أموتُ على ملَّةِ الأشياخِ عبدِ المطَّلبِ وهاشمٍ وعبدِ منافٍ
﴿وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ نزلت في الحرث بن عثمان ابن نوفلَ بنِ عبدِ منافٍ حيث أتى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فقال نحنُ نعلم أنَّك على الحقِّ ولكنَّا نخافُ إنِ اتَّبعناك وخالفنَا العربَ وإنما نحنُ أكلةُ رأسٍ أنْ يتخطَّفونا من أرضِنا فرُد عليهم بقولِه تعالى ﴿أو لم نمكن لهم حرما آمناً﴾ أي ألم نعصمْهم ولم نجعلْ مكانَهم حرماً ذا أمنٍ لحرمةِ البيتِ الحرامِ الذي تتناحرُ العرب حوله وهو آمنون ﴿يجبى إليه﴾ وقرئ تجبى أي تجمع وتحمل إليه ﴿ثمراتُ كُلّ شَىْء﴾ من كلِّ أوبٍ والجملةُ صفةٌ أخرى لحَرماً دافعةٌ لمَا عَسَى يُتوهَّم من تضررِهم بانقطاعِ الميرةِ ﴿رّزْقاً مّن لَّدُنَّا﴾ فإذا كان حالهم ما ذكروهم عبدةُ أصنامٍ فكيف يخافونَ التخطفَ إذا ضمُّوا إلى حُرمةِ البيتِ حُرمةَ التَّوحيدِ ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي جهلة لا ينفطنون له ولا يتفكَّرون ليعلمُوا ذلك وقيل هو متعلِّق بقولِه تعالى مّن لَّدُنَّا أي قليل منهم بتدبرون فيعلمونَ أنَّ ذلك رزقٌ من عند الله تعالى إذ لو علمُوا لما خافُوا غيرَه وانتصابُ رزقاً على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ لمعنى يجبى أو حالٌ من ثمراتُ على أنَّه بمعنى مرزوقٍ لتخصصها بالإضافةِ ثم بَيّن أن الأمر بالعكس
19
القصص ٥٨ ٦٠ وأنَّهم أحقَّاءُ بأنْ يخافوا بأسَ الله تعالى بقوله
20
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾ أي وكثيرٌ من أهلِ قريةٍ كانت حالُهم كحالِ هؤلاءِ في الأمنِ وخفضِ العيشِ والدَّعةِ حتَّى أشِرُوا فدمَّرنا عليهم وخرَّبنا ديارَهم ﴿فَتِلْكَ مساكنهم﴾ خاويةٌ بما ظلمُوا ﴿لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ﴾ من بعدِ تدميرِهم ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أي إلا زماناً قليلاً إذْ لا يسكنُها إلا المارَّةُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أولم يبقَ من يسكنُها إلا قليلاً من شؤمِ معاصيِهم ﴿وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين﴾ منهم إذ لم يخلفهم أحدٌ يتصرَّفُ تصرَّفَهم في ديارِهم وسائرِ ذاتِ أيديهم وانتصابُ معيشتَها بنزعِ الخافضِ أو يجعلها ظرفاً بنفسِها كقولِك زيدٌ ظنِّي مقيمٌ أو بإضمارِ زمانٍ مضافٍ إليه أو يجعله مفعولاً لبطرتْ بتضمينِ معنى كفرتْ
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى﴾ بيانٌ للعنايةِ الربَّانيةِ إثرَ بيانِ إهلاكِ القُرى المذكورةِ أي وما صحَّ وما استقامَ بل استحال في سنَّته المبنيةِ على الحكمِ البالغةِ أو ما كان في حكمِه الماضِي وقضائِه السَّابق أنْ يُهلكَ القرى قبلَ الإنذارِ بل كانتْ عادتُه أنْ لا يهلكَها ﴿حتى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا﴾ أي في أصلِها وقُصبتِها التي هي أعمالُها وتوابعُها لكون أهلِها أفطنَ وأنبلَ ﴿رسولا يتلو عليهم آياتنا﴾ الناطقةَ بالحقِّ ويدعُوهم إليه بالتَّرغيبِ والتَّرهيبِ وذلك لإلزام الحجَّة وقطع المعذرةِ بأنْ يقولوا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فنتبعَ آياتِك والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لتربيةِ المهابة وإدخال الروعة وقوله تعالى ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى القرى﴾ عطفٌ على ما كانَ ربُّك وقولُه تعالى ﴿إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظالمون﴾ استثناءٌ مفرغ من أعم الأحوال أي وما كنَّا مهلكينَ لأهلِ القُرى بعد ما بعثنا في أمِّها رسولاً يدعُوهم إلى الحقِّ ويُرشدهم إليه في حالٍ من الأحوالِ إلا حال كونهم ظالمينَ بتكذيبِ رسولِنا والكفرِ بآياتِنا فالبعثُ غايةٌ لعدمِ صحَّة الإهلاكِ بموجبِ السنَّة الإلهية لا لعدمِ وقوعِه حتَّى يلزمَ تحققُ الإهلاكِ عقيبَ البعثِ وقد مرَّ تحقيقُه في سورةِ بني إسرائيلَ
﴿وَمَا أُوتِيتُم مّن شَىْء﴾ من أمور الدُّنيا ﴿فمتاع الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا﴾ أي فهو شئ شأنه أنْ يتمتَّعَ ويتزينَ به أياماً قلائل ﴿وَمَا عِندَ الله﴾ وهو الثَّوابُ ﴿خَيْرٌ﴾ في نفسِه من ذلك لأنَّه لذَّةٌ خالصةٌ عن شوائبِ الألم وبهجةٌ كاملة عارية عن سِمةِ الهمِّ ﴿وأبقى﴾ لأنَّه أبديّ ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ ألا تتفكرونَ فلا تعقِلون هذا الأمرَ الواضحَ فتستبدلون الذي هُوَ أدنى بالذي هو خيرٌ وقرئ بالياء على الالنفات المبنيِّ على اقتضاء سوء صنيعهم الإعراضَ عن مخاطبتِهم
20
القصص
21
٦١ - ٦٣ ﴿أَفَمَن وعدناه وَعْداً حَسَناً﴾ أي وَعداً بالجنَّة فإنَّ حسنَ الوعدِ بحسن الموعودِ ﴿فَهُوَ لاَقِيهِ﴾ أي مدركُه لا محالةَ لاستحالةِ الخُلفِ في وعدِه تعالى ولذلك جئ بالجملة الاسميةِ المفيدة لتحققِه البتةَ وعُطفت بالفاء المنبئةِ عن معنى السببيةِ ﴿كَمَن متعناه متاع الحياة الدنيا﴾ الذي هو مشوبٌ بالآلامِ منغصٌ بالأكدارِ مستتبع للتَّحسرِ على الانقطاع ومعنى الغاء الأُولى ترتيبُ إنكارِ التَّشابهِ بين أهلِ الدُّنيا وأهلِ الآخرةِ على ما قبلها من ظهورِ التَّفاوتِ بين متاعِ الحياة الدُّنيا وبين ما عندَ الله تعالى أي أبعدَ هذا التَّفاوت الظاهرِ يسوَّى بين الفريقينِ وقولُه تعالى ﴿ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين﴾ عطفٌ على متَّعناه داخلٌ معه في حيزِ الصلة مؤكد لإنكار التشابه ومقرر له كأنَّه قيل كمن متعناه متاعَ الحياة الدنيا ثم نحضرُه أو أحضرنَاه يومَ القيامةِ النَّارَ أو العذابَ وإيثارُ الجملة الاسميةِ للدلالةِ على التحققِ حتماً وفي جعله من جلمة المحضرينَ من التَّهويلِ ما لا يخفى وثم للنراخى في الزمان أو في الرتبة وقرئ ثم هْو بسكونِ الهاءِ تشبيهاً للمنفصلِ بالمتَّصلِ
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ﴾ منصوبٌ بالعطفِ على يومَ القيامةِ لاختلافهما عُنواناً وإنِ اتَّحدا ذاتاً أو بإضمارِ اذكُر ﴿فَيَقُولُ﴾ تفسيرٌ للنِّداءِ ﴿أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ أي الذينَ كنتُم تزعمونَهم شركائي فحُذف المفعولانِ معاً ثقةً بدلالةِ الكلامِ عليهما
﴿قال﴾ استئناف مبني على حكاية السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا صدرَ عنهُم حينئذٍ فقيل قالَ ﴿الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول﴾ وهم شركاؤهم مِن الشَّياطينِ أو رؤساؤهم الذين اتَّخذوهم أرباباً من دونِ الله تعالَى بأنْ أطاعوهم في كلِّ ما أمروهم به ونهَوا عنه ومعنى حقَّ عليهم القول أنه ثبتَ مُقتضاه وتحقَّق مؤدَّاه وهو قوله تعالى لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ وغيره من آياتِ الوعيد وتخصيصُهم بهذا الحكم مع شمولِه للأتباع أيضاً لأصالتِهم في الكفرِ واستحقاقِ العذابِ حسبما يُشعر به قوله تعالى لاملان جهنم منك وممن تَبِعَكَ مِنْهُمْ ومسارعتُهم إلى الجوابِ مع كون السؤال للعَبَدة إما لتفطُّنهم أنَّ السؤال عنهم لاستحضارِهم وتوبيخهم بالإضلال وجزمهم بأنَّ العَبَدةَ سيقولون هؤلاءِ أضلُّونا وإمَّا لأنَّ العبَدَة قد قالوه اعتذار أو هؤلاء إنَّما قالوا ما قالوا ردّاً لقولِهم إلا أنَّه لم يُحكَ قولُ العَبَدة إيجازاً لظهوره ﴿رَبَّنَا هَؤُلاء الذين أَغْوَيْنَا﴾ أي هم الذين أغويناهُم فحذف الرَّاجع إلى الموصولِ ومرادُهم بالإشارة بيانُ أنَّهم يقولون ما يقولون بمحضرٍ منهم وأنَّهم غيرُ قادرينَ على إنكارِه وردِّه وقوله تعالى ﴿أغويناهم كَمَا غَوَيْنَا﴾ هو الجوابُ حقيقةً وما قبله تمهيدٌ له أي
21
القصص ٦٤ ٦٨ ما أكرهناهم على الغيِّ وإنما أغويناهم بطريقِ الوسوسةِ والتَّسويل لا بالقسر والإلجاء فغَووا باختيارِهم غيّاً مثل غيِّنا باختيارِنا ويجوز أن يكون الذين صفةً لاسم الإشارة وأغويناهم الخبرَ ﴿تَبَرَّأْنَا إليك﴾ منهم وممَّا اختارُوه من الكفرِ والمعاصي هوى منهم وهو تقريرٌ لما قبله ولذلك لم يعطف عليهِ وكذا قولُه تعالى ﴿مَّا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾ أي ما كانُوا يعبدوننا وإنَّما كانوا يعبدون أهواءَهم وقيل ما مصدريةٌ متَّصلة بقوله تعالى تَبَرَّأْنَا أي تبرأنا من عبادتِهم إيَّانا
22
﴿وَقِيلَ ادعوا شُرَكَاءكُمْ﴾ إما تهكما بهم أو إتبكيتا لهم ﴿فَدَعَوْهُمْ﴾ لفرطِ الحيرةِ ﴿فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ﴾ ضرورةَ عدمِ قُدرتهم على الاستجابةِ والنُّصرة ﴿وَرَأَوُاْ العذاب﴾ قد غشيهم ﴿لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ﴾ لوجهٍ من وجوهِ الحيلِ يدفعون به العذابَ أو إلى الحقِّ لما لقُوا ما لقُوا وقيل لو للتَّمنِّي أي تمنَّوا لو أنَّهم كانُوا مهتدين
﴿وَيَوْمَ يناديهم فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المرسلين﴾ عطفٌ على ما قبله سُئلوا أولاً عن إشراكِهم وثانياً عن جوابِهم للرُّسلِ الذين نَهَوهم عن ذلك
﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الانباء يَوْمَئِذٍ﴾ أي صارتْ كالعَمَى عنهم لا تهتدي إليهم وأصله فعَمُوا عن الأنباءِ وقد عكس للمبالغةِ والتنبيهِ على أنَّ ما يحضر الذهن يفيضُ عليه ويصل إليه من خارجٍ فإذا أخطأ لم يكُن له حيلةٌ إلى استحضارِه وتعديةُ الفعلِ بعلى لتضمنه معنى الخفاءِ والاشتباهِ والمرادُ بالأنباءِ إمَّا ما طلب منهم ممَّا أجابُوا به الرُّسلَ أو جميعُ الأنباءِ وهي داخلةٌ فيه دخولاً أولياً وإذا كانتِ الرسلُ عليهم الصَّلاة والسَّلام يفوِّضون العلمَ في ذلك المقامِ الهائلِ إلى علاَّم الغُيوب مع نزاهتِهم عن غاية المسئول فما ظنُّك بأولئكَ الضُّلاَّل من الأممِ ﴿فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ﴾ لا يسألُ بعضُهم بعضا عن الجواب الفرط الدَّهشة أو العلمِ بأنَّ الكلَّ سواءٌ في الجهل
﴿فَأَمَّا مَن تَابَ﴾ من الشركِ ﴿وَامَنَ وَعَمِلَ صالحا﴾ أي جمعَ بين الإيمانِ والعملِ الصَّالح ﴿فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين﴾ أي الفائزينَ بالمطلوبِ عنده تعالى النَّاجينَ عن المهروبِ وعسى للتَّحقيقِ على عادةِ الكرامِ أو للترجِّي من قبلِ التَّائبِ بمعنى فليتوقعِ الإفلاحَ
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء﴾ أنْ يخلقَه ﴿وَيَخْتَارُ﴾ ما يشاءُ اختيارَه من غيرِ إيجابٍ عليه ولا منعٍ له أصلاً ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة﴾ أي التَّخيُّرُ كالطِّيرةِ بمعنى التَّطيرِ والمرادُ نفيُ الاختيارِ المؤثرِ عنهم وذلك مما لاريب فيه وقيل المرادُ أنَّه ليس لأحدٍ من خلقِه أنْ يختارَ عليه ولذلك خَلا عن العاطفِ ويؤيدُه ما رُوي أنَّه نزل في قولِ الوليدِ بنِ المُغيرةِ لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرآنُ على رَجُلٍ مّنَ القريتينِ عظيم والمعنى
22
القصص ٦٩ ٧٣ لا يبعثُ الله تعالى الرُّسلَ باختيارِ المرسَلِ إليهم وقيل معناه ويختار الذي كان لهم فيه الخيرُ والصَّلاحُ ﴿سبحان الله﴾ أي تنَزَّهَ بذاتِه تنزُّهاً خاصّاً به من أنْ ينازعَه أحدٌ أو يزاحم اختيارَه اختيارٌ ﴿وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ عن إشراكِهم أو عن مشاركةِ ما يشركونَه به
23
﴿وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صدورهم﴾ كعداوة رسول الله ﷺ وحقدهم عليه ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ كالطَّعنِ فيه
﴿وَهُوَ الله﴾ أي المستحقُّ للعبادة ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ لا أحدَ يستحقُّها إلا هو ﴿لَهُ الحمد فِى الاولى والاخرة﴾ لأنَّه المولى للنِّعم كلِّها عاجلِها وآجلِها على الخلق كافةً يحمَده المؤمنون في الآخرةِ كما حمِدُوه في الدُّنيا بقولهم الحمد الله الذي أذهب عنا الحزن الحمد لله الذى صدقنا وعدَه ابتهاجاً بفضلِه والتذاذاً بحمدِه ﴿وَلَهُ الحكم﴾ أي القضاءُ النَّافذُ في كلِّ شيءٍ من غيرِ مشاركةٍ فيه لغيرِه ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ بالبعثِ لا إلى غيرِه
﴿قُلْ﴾ تقريراً لما ذُكر ﴿أرأيتم﴾ أي أخبرونِي ﴿إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً﴾ دائماً من السَّرد وهو المتابعةُ والاطِّرادِ والميمُ مزيدةٌ كما في دلاء مص من الدِّلاص يقال درع دلاصٌ أي ملساءُ لينةٌ ﴿إلى يَوْمِ القيامة﴾ بإسكانِ الشَّمس تحت الأرضِ أو تحريكها حول الأُفقِ الغائر ﴿مَّنْ إله غَيْرُ الله﴾ صفةٌ لإله ﴿يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء﴾ صفة أخرى له عليها يدورُ أمرُ التبكيتِ والإلزامِ كما في قوله تعالى قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض وقوله تعالى فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ ونظائرِهما خلا أنَّه قُصدَ بيانُ انتفاءِ الموصوفِ انتفاء الصِّفة ولم يُقَل هل إله الخ لإيرادِ التَّبكيت والالزام على زعمهم وقرئ بضئاءٍ بهمزتينِ ﴿أَفَلاَ تَسْمَعُونَ﴾ هذا الكلامَ الحقَّ سماعَ تدبُّرٍ واستبصارٍ حتَّى تُذعنوا له وتعملوا بموجبِه
﴿قل أرأيتم إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة﴾ بإسكانِها في وسطِ السَّماء أو بتحريكِها على مدارٍ فوقَ الأُفق ﴿مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ﴾ استراحةً من متاعبِ الأشغالِ ولعلَّ تجريدَ الضَّياءِ عن ذكرِ منافعِه لكونِه مقصوداً بذاتِه ظاهرَ الاستتباعِ لِما نيطَ به من المنافعِ ﴿أَفلاَ تُبْصِرُونَ﴾ هذه المنفعةَ الظَّاهرةَ التي لا تَخْفى على مَن له بصرٌ
﴿وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ﴾ أي في الليلِ ﴿وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾
23
في النَّهارِ بأنواعِ المكاسبِ ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ ولكيْ تشكرُوا نعمتَه تعالى فعلَ ما فعلَ أو لكي تعرفُوا نعمتَه تعالى وتشكروه عليها
24
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ﴾ منصوبٌ باذكُر ﴿فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ تقريعٌ إثرَ تقريعٍ للإشعارِ بأنَّه لا شئ اجلب لغضب الله عزوجل من الإشراكِ كما لا شئ أدخلُ في مرضاتِه من توحيدِه سبحانَه وقولُه تعالى
﴿وَنَزَعْنَا﴾ عطفٌ على يُناديهم وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على التَّحققِ أو حالٌ من فاعلِه بإضمارِ قد والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لإبرازِ كمال الاعتنا بشأنِ النَّزعِ وتهويلِه أي أخرجنَا ﴿مِن كُلّ أمَّةٍ﴾ منَ الأممِ ﴿شَهِيداً﴾ نبياً يشهَدُ عليهم بما كانُوا عليه كقولِه تعالى فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ ﴿فَقُلْنَا﴾ لكلِّ أمةٍ من تلك الأممِ ﴿هَاتُواْ برهانكم﴾ على صحَّة ما كنتُم تدينون به ﴿فَعَلِمُواْ﴾ يومئذٍ ﴿أَنَّ الحق لِلَّهِ﴾ في الإلهية لا يشاركه فيها أحدٌ ﴿وَضَلَّ عَنْهُم﴾ أي غابَ عنهم غيبةَ الضَّائعِ ﴿مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ في الدُّنيا من الباطلِ
﴿إِنَّ قارون كَانَ مِن قَوْمِ موسى﴾ كان ابنَ عمِّه يصهر بن قاهث ابن لاوى بنِ يعقوبَ عليه السَّلام وموسى عليه السَّلام ابن عمران بن قاهث وقيل كان موسى عليه السلام ابنَ أخيهِ وكان يسمَّى المنوَّر لحسنِ صورتِه وقيل كان أقرأَ بني إسرائيل للتوارة ولكنَّه نافق كما نافقَ السَّامريُّ وقال إذا كانت النُّبوة لموسى والمذبحُ والقربانُ لهرون فما لي ورُوي أنَّه لما جاوز بهم مُوسى عليه السَّلام البحرَ وصارتِ الرسالة والحبورة والقربان لهرون وجد قارونُ في نفسِه وحسدَهُما فقال لموسى الأمرُ لكما ولست على شئ إلى متى أصبرُ قال موسى عليه السَّلام هذا صُنعُ الله تعالى قال لا أُصدِّقك حتَّى تأتيَ بآيةٍ فأمر رؤساءَ بني إسرائيل أن يجئ كلُّ واحدٍ بعصاةٍ فحزمها وألقاها في القبَّة التي كان الوحيُ ينزلُ إليه فيها فكانوا يحرسون عصيَّهم بالليل فأصبحُوا فإذا بعصا هرون تهتزُّ ولها ورقٌ أخضرُ فقال قارون ما هو بأعجبَ ممَّا تصنعُ من السِّحرِ وذلك قولُه تعالى ﴿فبغى عَلَيْهِمْ﴾ فطلبَ الفضلَ عليهم وأنْ يكونُوا تحتَ أمرِه أو ظلمَهم قيل وذلكَ حينَ ملَّكه فرعونُ على بني إسرائيلَ وقيل حسدَهم وذلك ما ذُكر منه في حقِّ موسى وهرون عليهما السَّلامُ ﴿وآتيناه من الكنوز﴾ أي الأموالِ المُدَّخرةِ ﴿مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ﴾ أي مفاتحَ صناديقِه وهو جمعُ مِفتح بالكسر وهو ما يفتح به وقيل خزائنه وقياسُ واحدِها المَفتح بالفتحِ ﴿لتنوء بالعصبة أولى القوة﴾ خبر إن والجملةُ صلةُ ما وهُو ثاني مفعُولَيْ آتَى وناءَ به الحملُ إذا أثقلَه حتَّى أمالَه والعُصبة والعُصابةُ الجماعةُ الكثيرةُ وقُرىء لينوءُ بالياءِ على إعطاءِ المضافِ حكمَ المضافِ إليهِ كما مرَّ في قولِه تعالى إن رحمةَ الله
24
القصص ٧٧ ٧٨ قريب من المحسنين ﴿إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ﴾ منصوبٌ بتنوءُ وقيل ببغى ورُدَّ بأنَّ البغيَ ليس مقيَّداً بذلك الوقت وقيل بآنيناه ورُدَّ بأنَّ الإيتاءَ أيضاً غيرُ مقيَّدٍ به وقيل بمضمرٍ فقيل هو اذكُر وقيل هو أظهرَ الفرحَ ويجوزُ أنْ يكونَ منصُوباً بما بعدَهُ من قولِه تعالى قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ وتكون الجملةُ مقررةً لبغيه ﴿لاَ تَفْرَحْ﴾ أي لا تبطرْ والفرحُ في الدُّنيا مذمومٌ مُطلقاً لأنَّه نتيجةُ حبِّها والرِّضا بها والذهولِ عن ذهابِها فإنَّ العلمَ بأن ما فيها من اللذةِ مفارقةٌ لا محالةَ يوجبُ التَّرحَ حتماً ولذلكَ قالَ تعالى وَلاَ تَفْرَحُواْ بما آتاكم وعلل النهي ههنا بكونِه مانعاً من محبَّتِه عزَّ وعلاَ فقيلَ ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين﴾ أي بزخارفِ الدُّنيا
25
﴿وابتغ﴾ وقُرىء واتَّبع ﴿فِيمَا آتاك الله﴾ من الغِنى ﴿الدار الاخرة﴾ أي ثوابَ الله تعالى فيها يصرفه إلى ما يكونُ وسيلةً إليه ﴿وَلاَ تَنسَ﴾ أي لا تتركْ تركَ المنسيِّ ﴿نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا﴾ وهو أنْ تحصلَ بها آخرتك وتأخذَ منها ما يكفيك ﴿وَأَحْسَنُ﴾ أي إلى عبادِ الله تعالى ﴿كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ﴾ فيما أنعمَ به عليك وقيل أحسنْ بالشكرِ والطَّاعةِ كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ بالإنعامِ ﴿وَلاَ تَبْغِ الفساد فِى الارض﴾ نهيٌ عما كان عليه من الظُّلمِ والبغيِ ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين﴾ لسوء أفعالِهم
﴿قَالَ﴾ مُجيباً لناصحيهِ ﴿إِنَّمَا أوتيته على علم عندى﴾ كأنَّه يريدُ به الردَّ على قولِهم كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ لإنبائِه عن أنَّه تعالى أنعم عليه بتلكَ الأموالِ والذخائرِ من غير سببٍ واستحقاقٍ مِن قِبَلِه أي فُضلت به على النَّاسِ واستوجبتَ به التفوقَ عليهم بالمالِ والجاهِ وعلى علمٍ في موقعِ الحالِ وهو علمُ التَّوراةِ وكانَ أعلمَهم بها وقيل علمُ الكيمياءِ وقيل علم النجارة والدَّهقنةِ وسائرِ المكاسبِ وقيل علم فتح الكنوزِ والدَّفائنِ وعندي صفةٌ له أو متعلقٌ بأوتيتُه كقولِك جازَ هذا عندي أو في ظنِّي ورأيي ﴿أو لم يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً﴾ توبيخٌ له من جهةِ الله تعالى على اغترارِه بقوَّتِه وكثرةِ مالِه مع علمِه بذلك قراءةً في التَّوراةِ وتلقياً مِن موسى عليه السَّلام وسماعاً من حُفَّاظِ التَّواريخِ وتعجبٌ منه فالمعنى ألمْ يقرأِ التَّوراةَ ولم يعلمْ ما فعلَ الله تعالى بأضرابِه من أهلِ القُرونِ السَّابقةِ حتَّى لا يغترَّ بما اغترُّوا به اورد لا دعائه العلمَ وتعظمه به بنفيِ هذا العلمِ منه فالمعنى أعَلِم ما ادَّعاه ولم يعلم هذا حتى بقي به نفسَه مصارعَ الهالكينَ ﴿وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون﴾ سؤالُ استعلامٍ بل يُعذَّبون بها بغتةً كأنَّ قارونَ لما هُدِّد بذكرِ إهلاكِ من قبله ممَّن كان أقوى منه وأغنى أكَّد ذلك بأنْ بيَّن أنَّ ذلك لم يكن مما يخصُّ أولئك المُهلَكين بل الله تعالى مطلعٌ على ذنوبِ كافَّة المجرمين يعاقبهم عليها لا محالةَ
25
القصص
26
٧٩ - ٨١ ﴿فَخَرَجَ على قَوْمِهِ﴾ عطفٌ على قال وما بينهما اعتراضٌ وقولُه تعالى ﴿فِى زِينَتِهِ﴾ إمَّا متعلقٌ بخرجَ أو بمحذوفٍ هو حالٌ من فاعلِه أي فخرجَ عليهم كائناً في زينتِه قيل خرجَ على بغلةٍ شهباء عليه الأرُجوانُ وعليها سرجٌ من ذهبٍ ومعه أربعةُ آلافٍ على زيِّه وقيلَ عليهم وعلى خيولِهم الدِّيباجُ الاحمر وعن يمينه ثلثمائة غلام وعن يساره ثلثمائة جاريةٍ بيضٍ عليهنَّ الحليُّ والدِّيباجُ وقيل في تسعينَ الفا عليهم المُعصفراتُ وهو أولُ يومٍ رُئيَ فيه المُعصفرُ ﴿قَالَ الذين يُرِيدُونَ الحياة الدنيا﴾ من المؤمنين جرياً على سَنَنِ الجبلَّةِ البشريةِ من الرغبةِ في السَّعةِ واليسارِ ﴿يا ليت لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قارون﴾ وعن قَتَادةَ أنَّهم تمنَّوه ليتقربُوا بهِ إلى الله تعالَى وينفقُوه في سُبُلِ الخيرِ وقيل كان المتمنَّون قوماً كفَّاراً ﴿إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ﴾ تعليلٌ لتمنيَّهم وتأكيدٌ له
﴿وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم﴾ أي بأحوالِ الدُّنيا والآخرةِ كَما ينبغي وإنَّما لم يُوصفوا بإرادةِ ثوابِ الآخرةِ تنبيهاً على أنَّ العلَمِ بأحوال النَّشأتينِ يقتضِي الإعراضَ عنِ الأُولى والإقبالَ على الثَّانيةِ حتماً وأنَّ تمنِّي المتمنين ليس إلا لعدمِ علمِهم بهما كما ينبغِي ﴿وَيْلَكُمْ﴾ دعاءٌ بالهلاكِ شاعَ استعماله في الزجر عمالا لا يُرتضَى ﴿ثَوَابُ الله﴾ في الآخرةِ ﴿خَيْرٌ﴾ ممَّا تتمنونه ﴿لمن آمن وَعَمِلَ صالحا﴾ فلا يليقُ بكم أنْ تتمنَّوه غيرَ مكتفين بثوابِه تعالى ﴿وَلاَ يُلَقَّاهَا﴾ أي هذه الكلمةَ التي تكلَّم بها العلماءُ أو الثَّوابَ فإنَّه بمعنى المثْوبةِ أو الجنَّةِ أو الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ فإنَّهما في معنى السِّيرةِ والطَّريقةِ ﴿إِلاَّ الصابرون﴾ أي على الطَّاعاتِ وعن الشَّهواتِ
﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الارض﴾ رُوي أنَّه كان يُؤذي مُوسى عليه السَّلام كلَّ وقتٍ وهو يداريهِ لقرابتِه حتَّى نزلتِ الزَّكاةُ فصالحَه عن كلِّ ألفٍ على واحد فحسبه فاستكثره فعَمدَ إلى أنْ يفضحَ موسى عليه السلام بين بني إسرائيلَ فجعل لبغيَ من بَغَايا بني إسرائيلَ ألفَ دينارٍ وقيل طَشتاً من ذهبٍ مملوءةٍ ذهباً فلما كان يومُ عيدٍ قام مُوسى عليه السَّلام حطيبا فقال من سرق قطعناهُ ومن زنَى غيرَ محصنٍ جلدناهُ ومن زنَى محصناً رجمناهُ فقال قارونُ ولو كنتَ قال ولو كنتُ قال إنَّ بني إسرائيلَ يزعمُون أنَّك فجرت بفلانةٍ فأحضرت فناشدها عليه السَّلام أنُ تصدقَ فقالت جعل لي قارونُ جُعْلاً على أنْ أرميك بنفسي فخرَّ مُوسى ساجداً لربِّه يبكي ويقول يا ربُّ إنْ كنتُ رسولَك فاغضبْ لي فأُوحي إليه أنْ مرِ الأرضَ بما شئت فإنَّها مطيعةٌ لك فقال يا بني إسرائيلَ إنَّ الله بعثني إلى قارونَ كما بعثني إلى فرعونَ فمن كان معه فليلزم مكانَه ومن كان معي فليعتزلْ
26
القصص ٨٢ ٨٤ عنه فاعتزلُوا جميعاً غيرَ رجلينِ ثم قال يا أرضُ خُذيهم فأخذتهُم إلى الرُّكبِ ثم قال خُذيهم فأخذتُهم إلى الأوساطِ ثم قال خذيهم فأخذتهم إلى الأعناقِ وهم يُناشدونَهُ عليه الصَّلاة والسَّلام بالله تعالى وبالرَّحِم وهو لا يلتفتُ إليهم لشدَّةِ غيظِه ثم قال خُذيهم فانطبقتْ عليهم فأصبحتْ بنُو إسرائيلَ يتناجَون بينهم إنَّما دعا عليه موسى عليه الصلاة والسلام ليستبدَّ بدارِه وكنوزِه فدعا الله تعالى حتى خُسفَ بدارِه وأموالِه ﴿فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ﴾ جماعةٍ مشفقةٍ ﴿يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله﴾ بدفع العذابَ عنه ﴿وَمَا كَانَ مِنَ المنتصرين﴾ أي الممتنعين منه بوجهٍ من الوجوهِ يقال نصره من عدِّوه فانتصَر أي منعه فامتنع
27
﴿وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ﴾ منزلتَه ﴿بالأمس﴾ منذ زمانٍ قريبٍ ﴿يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ﴾ أي يفعلُ كلَّ واحدٍ من البسطِ والقدرِ بمحضِ مشيئتهِ لا لكرامةٍ تُوجب البسطَ ولا لهوانٍ يقتضِي القبضَ وويكأن عند البصريينَ مركبٌ من وى للتعجيب وكأنَّ للتشبيهِ والمعنى ما أشبَه الأمرَ أنَّ الله يبسط الخ وعند الكوفيينَ من وَيْكَ بمعنى ويلك وأنَّ وتقديرُه وَيكَ أعلَم أنَّ الله وإنَّما يستعملُ عند التنبهِ على الخطأِ والتندُّم والمعنى أنَّهم قد تنبهوا على خطئهم في تمنِّيهم وتندَّموا على ذلك ﴿لَوْلا أَن مَّنَّ الله عَلَيْنَا﴾ بعدم إعطائِه إيانَّا ما تمنيناهُ وإعطائنا مثلَ ما أعطاه إيَّاه وقُرىء لولا مَنَّ الله علينا ﴿لَخَسَفَ بِنَا﴾ كما خسفَ بهِ وقُرىء لخُسِف بنا على البناء للمفعولِ وبنا هُو القائمُ مقامَ الفاعلِ وقُرىء لا تْخسفَ بنا كقولِك أنقطعَ بهِ وقرُىء لتُخْسف بنا ﴿وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون﴾ لنعمةِ الله تعالى أو المكذَّبون برسلِه وبما وعدُوا من ثوابِ الآخرةِ
﴿تِلْكَ الدار الاخرة﴾ إشارةُ تعظيمٍ وتفخيمٍ كأنَّه قيل تلك التي سمعتَ خبَرها وبلغَك وصفُها ﴿نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الارض﴾ أي غلبةً وتسلطاً ﴿وَلاَ فَسَاداً﴾ أي ظُلماً وعدُواناً على العبادِ كدأبِ فرعونَ وقارونَ وفي تعليق الموعد بترك إرادتهما لا بتركِ أنفسهما مزيدُ تحذير منهما وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه أنَّ الرَّجلَ ليعجبه أنْ يكونَ شِراكُ نعلِه أجودَ من شراكَ نعلِ صاحبِه فيدخلُ تحتَها ﴿والعاقبة﴾ الحميدة ﴿لّلْمُتَّقِينَ﴾ أي الذين يتَّقون مالا يرضاه الله تعالى من الأفعالِ والأقوالِ
﴿مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ﴾ بمقابلتِها ﴿خَيْرٌ مّنْهَا﴾ ذاتاً ووصفاً وقدراً ﴿وَمَن جَاء بالسيئة فَلاَ يُجْزَى الذين عملوا السيئات﴾ وُضع فيه الموصولُ والظَّاهرُ موضعَ الضَّميرِ لتهجينِ حالِهم بتكريرِ إسنادِ السَّيئةِ إليهم ﴿إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي إلا مثل ما كانُوا يعملون فحُذفَ المثلُ وأُقيم مقامَه ما كانُوا يعملون مبالغةً في المماثلة
27
القصص
28
٨٥ - ٨٨ ﴿إِنَّ الذى فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن﴾ أوجبَ عليك تلاوتَه وتبليغَه والعملَ به ﴿لَرَادُّكَ إلى معاد﴾ أي معاد معادٍ تمتدُّ إليه أعناقُ الهممِ وترنُو إليه أحداقُ الأممِ وهو المقامُ المحمودُ الذي وعدك أنْ يبعثك فيه وقيل هو مكَّةُ المعظَّمةُ على أنَّه تعالى قد وعدَه وهو بمكَّةَ في أذيَّةِ وشدَّة من أهلها أنَّه يُهاجرُ به منها ثم يعيدُه إليها بعزَ ظاهرٍ وسلطانٍ قاهرٍ وقيل نزلتْ عليه حينَ بلغ الجُحْفةَ في مهاجرهِ وقد اشتقاق إلى مولده ومولدِ آبائِه وحرمِ إبراهيمَ عليه السَّلام فنزلَ جبريلُ عليه السَّلامُ فقال له أتشتاقُ إلى مكَّةَ قال نعمَ فأَوحاها إليهِ ﴿قُل رَّبّى أَعْلَمُ مَن جَاء بالهدى﴾ وما يستحقُّه من الثَّوابِ والنَّصرِ ومَن منتصبٌ بفعلٍ يدلُّ عليهِ أعلمُ أي يعلُم وقيل بأعلُم على أنَّه بمعنى عالمٍ ﴿وَمَنْ هُوَ فِى ضلال مُّبِينٍ﴾ وما استحقَّه من العذابِ والإذلالِ يعني بذلك نفسَه والمشركينَ وهو تقريرٌ للوعيدِ السَّابقِ وكذا قولُه تعالى
﴿وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب﴾ أي سيردُّك إلى معادِك كما القي اليك الكتابَ وما كنتَ ترجُوه ﴿إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ﴾ ولكن الفاه إليك رحمةً منه ويجوزُ أنْ يكون استثناءً محمُولاً على المعنى كأنه قيل وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمةً أي لأجلِ التَّرحُّمِ ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين﴾ بمداراتهم والتحملِ عنهم والإجابةِ إلى طلبتِهم
﴿وَلاَ يَصُدُّنَّكَ﴾ أي الكافرون ﴿عن آيات الله﴾ أي عن قراءتِها والعملِ بها ﴿بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ﴾ وفُرضت عليكَ وقُرىء يُصِدُّنك من أَصَدَ المنقولِ من صَدَّ اللازمِ ﴿وادع﴾ النَّاسَ ﴿إلى رَبّكَ﴾ إلى عبادتِه وتوحيدِه ﴿وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين﴾ بمساعدتِهم في الأمورِ
﴿وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخر﴾ هذا وما قبلَهُ للتَّهييجِ والألهابِ وقطعِ أطماعِ المُشركينَ عن مساعدتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لهم وإظهارِ أنَّ المنهيَّ عنه في القُبحِ والشرِّية بحيثُ يُنهى عنْهُ من لا يمكن صدروه عنه أصلاً ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ وحدَهُ ﴿كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ إلا ذاتَه فإنَّ ما عداهُ كائناً ما كان ممكنٌ في حدِّ ذاتِه عرضةٌ للهلاكِ والعدمِ ﴿لَهُ الحكم﴾ أي القضاء النافذ في الخلقِ ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ عندَ البعثِ للجزاءِ بالحقِّ والعدل عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ طسم القصصَ كان له من الأجر بعددِ مَن صدَّق مُوسى وكذَّب ولم يبقَ مَلَكٌ في السَّمواتِ والأرضِ إلا شهدَ له يومَ القيامةِ أنَّه كانَ صادقاً
28
سورة العنكبوت ١ ٣
مكية وهي تسع وستون آية ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم﴾
29
Icon