هذه السورة مكية كلها. وقيل : مكية باستثناء آية واحدة فمدنية.
والسورة مثل كثير من السور وغيرها، في الحديث عن أخبار النبيين المرسلين الذين بعثهم الله في أمم شتى، يدعونهم إلى توحيد الله وإفراده بالألوهية والربوبية، وإلى نبذ الأوثان والأنداد الموهومة المفتراة ظلما وسفاهة، وفي طليعة ذلك كله تأتي قصة موسى عليه السلام لتحتل بها مساحة كبيرة من التبيين والتفصيل بدءا بولادة موسى والتقاط آل فرعون له، ثم استبقاؤه حيا ليكون قرة عين لفرعون وامرأته المؤمنة. لكنه كان مقدورا في علم الله المكنون أن يكون هذا المولود من بني إسرائيل سببا في هلاك فرعون وقومه المجرمين والظالمين ؛ وذلك بعد أن خرج إلى مدين هاربا من فرعون وجنوده حتى استقر به المقام لدى شعيب الذي استأجره ثماني حجج أو أكثر لينكحه إحدى ابنتيه. وبعد إتمام المدة التي اتفقا عليها، كرّ موسى راجعا بأهله إلى مصر. وفي طريقهما ألفيا نارا متأججة، فحسب موسى أن يجد عندها من يهديه وزوجه السبيل ؛ إذ ضلا الطريق، فضلا عن أخذ جذوة من النار للاصطلاء، لكنه بوغت بالصوت المذهل يهتف به مدويا ﴿ يا موسى إني أنا الله رب العالمين ﴾ فأمره ربه عقب ذلك أن يبادر الذهاب إلى فرعون ؛ لتبليغه رسالة ربه دون خوف أو تردد. لكن فرعون طغى وعتا واستكبر، فأخذه الله وجنوده في البحر أخذ عزيز مقتدر. إلى غير ذلك من المواعظ والحقائق والأخبار والعبر مما نبينه في حينه تفصيلا بمشيئة الله وتوفيقه.
ﰡ
قوله :﴿ يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ ﴾ المراد بهذه الطائفة بنو إسرائيل، فقد كان فرعون بطغيانه وظلمه يقتل المواليد الذكور من بني إسرائيل ويستبقي إناثهم. وفي سبب ذبح الأبناء وجوه وأقوال ذكرها كثير من أهل العلم. ونحسب أن معظم هذه الوجوه والأقوال لا ترقى إلى القبول وقناعة العقول.
ولعل الأولى بالتصديق ما ذكره، أن الأنبياء الذين كانوا قبل موسى قد بشّروا بمجيئه. وقد سمع فرعون ذلك ؛ فمن أجل هذا أخذ يذبّح أبناء بني إسرائيل دون نسائهم.
قوله :﴿ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ لقد كان فرعون من الذين يفسدون في الأرض وذلك بما جناه من الفظائع وكبريات الخطايا، كدعوى الألوهية وتقتيل الأبرياء ظلما وعدوانا، وجعل الناس فرقا وأحزابا وطوائف ليثير فيهم العداوات والمباغضات.
٢ مختار الصحاح ص ٣٥٣..
قوله :﴿ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ﴾ الضمير في ﴿ وَنَجْعَلَهُمْ ﴾، و ﴿ أَئِمَّةً ﴾، مفعولان للفعل نجعل ؛ لأن جعل بمعنى صيّر١ أي : يريد الله أن يجعل هؤلاء المستضعفين المقهورين ولاة وملوكا وسادة بعد أن كانوا أذلة صاغرين.
قوله :﴿ وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ أي يرثون مصر بعد مهلك فرعون وجنوده.
قوله :﴿ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ أي : يريد الله أن يري فرعون ورِدْأه هامان وهو وزيره وشريكه في الظلم والفساد، وجنودهما ﴿ منهم ﴾ أي من بني إسرائيل ما كانوا يخافونه منهم : وهو هلاكه على يد واحد منهم١.
ذكر أن فرعون كان له ناس وقوابل يدرون على النساء حتى إذا رأوا إحداهن قد حملت أحصوا اسمها، فإذا كانت ولادتها لا يقوم بتوليدها إلا نساء قوابل من نساء القبط فإن ولدت جارية تركنها، وإن ولدت غلاما دخل عليها الذباحون وبأيديهم الشفار فذبحوه مضوا.
وقد ذكر أن فرعون ذبح في طلب موسى سبعين ألفا من مواليد بني إسرائيل الذكور. وقيل : تسعون ألفا. ولما حملت أم موسى به لم تظهر عليها علائم الحمل كغيرها من النساء. فلما وضعته ذكرا ضاقت به ذرعا، وخافت عليه خوفا شديدا وأحبته حبا عظيما، وكان موسى –عليه السلام- لا يراه أحد إلا أحبه حبا شديدا، وما كان يحبه إلا سعيد، فقد قال سبحانه :﴿ وألقيت عليك محبة مني ﴾ ولما ضاقت أم موسى به ذرعا وغشيها من الخوف عليه ما غشيها، ألهمها الله ونفث في روعها أن ترضعه ثم تلقيه في اليم إن خافت عليه من جنود فرعون. وهو قوله :﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ الوحي من الله إلى أم موسى ليس وحي نبوة ؛ فقد أجمعوا على أن أم موسى لم تكن نبية. بل كان ذلك إلهاما من الله لها ؛ فقد قذف في قلبها أو ألقى في خلدها١ ونفث في روعها٢ ما ذكره في الآية ؛ فقد أمرها الله إلهاما أو نفثا في الروع بأن توضع ولدها موسى وأن تلقيه في بحر النيل إن خشيت عليه من جنود فرعون عقب الولادة، وأمرها أيضا أن لا تخاف عليه من الغرق في الماء أو الضيعة.
٢ الروع: بالضم، يعني القلب والعقل. انظر مختار الصحاح ص ٢٦٣..
والتقطه : يعني أخذه. والمراد بالالتقاط : إصابة الشيء من غير طلب٢.
فقد أصاب آل فرعون موسى وأخذوه من غير طلب له ولا إرادة. والمراد بآل فرعون. جواري امرأته آسية، فقد وجدن التابوت فأدخلنه إلى آسية فلما فتحته ونظرت فيه إلى وجه موسى أحبته بالغ المحبة لما رأت فيه من جمال السمت وإشراق الطلعة وبهاء الوجه.
لقد قيّض الله تعالى آل فرعون لأخذ موسى ليجعلوه عدوا لهم وحزنا. سنة الله في الظالمين العتاة الذين يظلمون الناس ويسعون في الأرض فسادا ؛ إذ يسفكون الدماء ويزهقون الأرواح البريئة بغير حق. فأولئك يملي لهم الله حتى إذا حانت ساعة العقاب الأليم أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
قوله :﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾ كانوا عصاة آثمين، غلاة في الإجرام والطغيان.
٢ أساس البلاغة للزمخشري ص ٥٧٠، ومختار الصحاح ص ٦٠٢..
قوله :﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ أي : لا يدرون أن هلاكهم وتدميرهم، بسببه وعلى يديه٣.
٢ أساس البلاغة للزمخشري ص ٥٠١، والمعجم الوسيط جـ ٢ ص ٧٢٥..
٣ تفسير الرازي جـ ٢٤ ص ٢٢٦-٢٢٩ والكشاف جـ ٣ ص ١٦٦ وتفسير القرطبي جـ ١٣ ص ٢٥٢-٢٥٤..
عندما سمعت أم موسى أن ولدها موسى وقع في يد فرعون غشيها من الغم والجزع والدهش ما غشيها. فأصبح بذلك قلبها فارغا، أي خاليا من ذكر كل شيء من أشياء الدنيا إلا من ذكر ولدها موسى.
قوله :﴿ إن كادت لَتبدي به ﴾ ﴿ إن ﴾ المخففة من الثقيلة ؛ أي أنها كادت لتظهر خبره، وذلك من شدة وجدها وحزنها. أو كادت تصيح قائلة : هذا ابني، لفرط ما نابها من الدهش والخوف عليه.
قوله :﴿ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ﴾ وذلك بإلهامها الصبر فيطمئن قلبها ويهدأ. كما يربط على الشيء المنفلت ليستقر ويثبت ﴿ لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي لتكون من الواثقين بنصر الله وتأييده، المصدقين بوعده ؛ إذ قال لها ﴿ إنا رادوه إليك ﴾.
قوله :﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ أي لا يدرون بحالها وغرضها، أو أنها أخته.
قوله :﴿ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ ﴾ أرادت أخت موسى أن تدل آل فرعون على آل بيت يضمنون رضاعه والقيام بما يصلحه تماما ﴿ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴾ أي لا يخونونه ولا يفرّطون فيه، بل يبذلون له كامل النصح والرعاية وإخلاص العمل.
فلما قالت أخت موسى ذلك سألوها أن تدلهم عليه، فذهبت بهم إلى منزل أهلها ومعهم موسى. ولما دخلوا به على أمه فأعطته ثديها التقمه ففرحوا بذلك فرحا كبيرا. فاستدعتها امرأة فرعون ثم سألتها أن تمكث عندها فترضعه، فاعتذرت لها بأن لها بعلا وأولادا فلا تقدر أن تبرحهم لتقيم عندها بجانب فرعون، فقبلت منها أن تعود بموسى إلى بيتها لتمكث فيه وتقوم بإرضاعه ورعايته وإصلاح شأنه، وفي مقابل ذلك أجرت عليها امرأة فرعون النفقة والعطاء وجزيل الإحسان. وبذلك قد أنجز الله وعده له برده إليها وهو قوله :﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ﴾
قوله :﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ أي أن أكثر المشركين لا يعلمون أن وعد الله حق ؛ فهم أولوا طبائع سقيمة وبصائر غلف قد ران عليها الجحود والهوى فلا ينفذ إليها الإيمان ولا اليقين.
قوله :﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ أي كما جزينا موسى وأمه على طاعتنا والصبر على قضائنا والاستسلام لأمرنا، كذلك نجزي كل من أحسن فأطاع وصبر والتزم شرع الله١.
دخل موسى مدينة فرعون ﴿ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا ﴾ عند القائلة، نصف النهار. وكان قد دخلها مستخفيا من فرعون وقومه ؛ لأنه كان مخالفا لهم في دينهم وعبادتهم، ومن أجل قتله القبطي بالوكزة التي قضى بها عليه. وهنالك وجد ﴿ رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ ﴾ أي يتضاربان ويتنازعان، وكان أحدهما من شيعة موسى، أي من أهل دينه من بني إسرائيل، والآخر ﴿ مِنْ عَدُوِّهِ ﴾ أي من أعدائه، قوم فرعون وهم القبط.
قوله :﴿ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ﴾ أي طلب المؤمن الإسرائيلي النصرة والعون من موسى ﴿ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ﴾ أي من أعدائه القبط ﴿ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ﴾ ( وكزه )، أي، ضربه بجمع كفه. نقول : فلان لكاز، وكاز١ والمقصود : أن موسى – وقد كان شديد البطش- استشاط غضبا فدفع القبطي في صدره فقتله، وهو ما كان يبتغي قتله بل كان يريد زجره ودفعه عن الإسرائيلي المؤمن.
قوله :﴿ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ﴾ أي هذا الذي عمله وهو قتل القبطي، كان من إغواء الشيطان وإضلاله، لأنه لم يكن ؛ إذ ذاك مأمورا بقتل الكفار.
قوله :﴿ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ﴾ الشيطان كائن خبيث، وهو ظاهر العداوة للإنسان ؛ يسعى على الدوام جاهدا ناصبا من أجل إضلاله وإفساده.
قوله :﴿ إِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ﴾ أي فإذا صاحبه الإسرائيلي الذي استغاثه بالأمس على القبطي يقاتل قبطيا آخر ويستصرخه ؛ أي يستغيثه، من الصراخ وهو صوت المستغيث، وصوت الغيث إذا صرخ بقومه للإغاثة١
قوله :﴿ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ ﴾ غوي، أي مغو. وقيل : الغوي بمعنى الغاوي. والمراد أنك ظاهر الغواية، كثير الشر، فعزم موسى على البطش بالقبطي، فتوهم الإسرائيلي بما جبل عليه من ذلة وضعف وخور أن موسى إنما يريد قتله وهو قوله :﴿ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ ﴾
قوله :﴿ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ ﴾ قال الإسرائيلي لموسى :﴿ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ ﴾ والجبار، الذي يقتل ظلما، أو المتعظم الذي لا يتواضع.
قوله :﴿ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ أي ما تريد أن تكون من الذين يصلحون في الأرض. أو ما هكذا يكون الإصلاح١.
المراد بالرجل الذي جاء يسعى، مؤمن من آل فرعون ؛ فقد جاء هذا من أقصى مدينة فرعون، أي من آخرها وأبعدها ﴿ يسعى ﴾ أي يمشي مسرعا ليقول لموسى ناصحا ومشفقا ومحذرا ﴿ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ﴾ ﴿ يَأْتَمِرُونَ ﴾ : من الائتمار وهو التشاور، نقول تآمر القوم وأتمروا مثل تشاوروا واشتوروا١
والمعنى : يتشاورون فيما بينهم بسببك، فقد قال المؤمن لموسى : إن أشراف قوم فرعون ورؤساؤهم يتآمرون بالانتقام منك ويتشاورون في قتلك بالقبطي الذي قتلته بالأمس ﴿ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ أي أخرج من هذه المدينة التي يتشاور أهلها لقتلك ؛ فإني لك ناصح مشفق أمين.
قوله :﴿ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ سأل موسى ربه النجاة من هؤلاء الظالمين الذين أرسلوا في طلبه ليقتلوه أو يعذبوه. وهذه ساعة من ساعات الكرب البالغ الذي يشتد فيه الهول والفزع، وتحيط فيها المخاوف بالمؤمنين الداعين إلى دين الله فلا يجدون حينئذ مناص ولا ملاذ يلجئون إليه سوى الله فيدعونه لكشف الضر عنهم وتنجيتهم من ظلم الظالمين وشرورهم ومكائدهم.
سار موسى في طريقه فرارا من ظلم فرعون حتى بلغ ماء مدين. وهي بئر يردها رعاء الشاء، فوجد عندها جماعة من الناس يسقون أنعامهم ومواشيهم ﴿ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ ﴾ أي وجد امرأتين تحبسان غنمها وتمنعانها من ورد الماء والاستسقاء فتختلط بغنم الناس لئلا تتأذيا بالمزاحمة. وكأنهما رغبتا في الانتظار ريثما يفرغ الناس من سقي مواشيهم وتخلو لهم البئر. فلما رآهما موسى رقّ لهما وكان من طبعه الغيرة والحماسة وسرعة التأثر والنخوة فسألهما ﴿ مَا خَطْبُكُمَا ﴾ أي ما شأنكما معتزلين لا تسقيان مع الناس، فأجابتاه في خلق رفيع وأدب بالغ جم ﴿ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾ ﴿ يُصْدِرَ ﴾ أي يرجع١ و ﴿ الرِّعَاء ﴾، أو الرعاة والرعيان جمع راع. والمعنى : أننا نظل معتزلتين عن مزاحمة الرجال خشية التأذي حتى يفرغ هؤلاء الرعاة من سقي مواشيهم فيتركوا الماء ليقفلوا راجعين وبعد ذلك نسقي غنمنا ﴿ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾ لا يقوى أبونا على سقي الغنم لكبره وضعفه.
قوله :﴿ فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ لما جاء موسى أباها وقص عليه خبره وما جرى له من آل فرعون، أجابه الشيخ –وهو شعيب على الراجح- ﴿ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ أي لا تخش من فرعون، فإنه ليس له على مدين سلطان.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص٢٣١..
ويستدل من قوله :﴿ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ ﴾ على أن النكاح موقوف على لفظ التزويج والإنكاح. وهو قول الشافعية، خلافا للمالكية ؛ إذ قالوا : ينعقد النكاح بكل لفظ. وعند الإمام أبي حنيفة، ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأييد٣.
واختلفوا في النكاح بالإجازة، فهو جائز عند الشافعية، واصبغ وسحنون من المالكية. والمشهور عند مالك الكراهة. ومنعه أبو حنيفة وبعض المالكية. وسبب اختلافهم في ذلك : الاختلاف في المسألة الأصولية : هل شرع من قبلنا شرع لنا فمن قال : إنه شرع لنا أجاز كون الإجازة مهرا لقوله تعالى :﴿ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ﴾ ومن قال : ليس شرعا لنا قال : لا يجوز النكاح بالإجازة٤.
قوله :﴿ إِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ﴾ يعني إن أتممت من الرعي عشر سنين فذلك تفضل منك وليس إلزاما لك ؛ فقد جعل الزيادة على الثمانية إلى العشرة موكولا إلى مروءته، أي إن تبرعت بزيادة سنتين ترعى فيهما غنمي فذلك إليك ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ﴾ أي ما أبتغي لك المشقة بإلزامك إتمام عشر حجج ﴿ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ أي ستجدني إن شاء الله من أهل الوفاء والصلاح في حسن المعاملة ولين الجانب.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص٢٣١..
٣ أحكام القرآن لابن العربي جـ ٣ ص ١٤٥٥، وتفسير القرطبي جـ ١٣ ص ٢٧١، وبداية المجتهد جـ ٢ ص ٥..
٤ بداية المجتهد جـ ٢ ص ١٩، وأحكام القرآن لابن العربي جـ ٣ ص ١٤٥٩..
قوله :﴿ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى ﴾ أيّ، منصوب بالفعل ﴿ قَضَيْتُ ﴾ وما، زائدة. والأجلين مجرور بالإضافة وتقديره : أيَّ الأجلين قضيت. وقضيت في موضع جزم، جملة شرط بأيما. والفاء وما بعدها في موضع جزم جواب الشرط١.
والمعنى : أن موسى قال لصاحبه شعيب : أي الأجلين من الثماني حجج والعشر ﴿ قَضَيْتُ ﴾ أي أتممت وأوفيت في رعي الغنم ﴿ فلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَيّ ﴾ العدوان معناه الظلم الصراح. ومنه التعدي، وهو التجاوز، أو مجاوزة الشيء إلى غيره٢. والمعنى : أن لا تعتدي علي فتطالبني بأكثر مما قضيت.
قوله :﴿ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ الوكيل بمعنى الشاهد والحفيظ ؛ وذلك إشهاد بالله على ما اتفقا عليه٣.
٢ مختار الصحاح ص ٤١٩، وأساس البلاغة ص ٤١١..
٣ فتح القدير جـ ٣ ص ١٦٩، وتفسير الرازي جـ ٢٤ ص ٢٣٤، وتفسير البضاوي ص ٥١٤..
قال : قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل.
ولما أتم موسى ذلك الأجل سافر بزوجته نحو مصر. وسواء ذهب لزيارة الأهل وأولي القربى أو غير ذلك من الحاجات والمقاصد ؛ فإن موسى قد سيق على مصر بمشيئته وتقديره لتنجيز ما كان مسطورا في علم الله من المعجزات والأحداث الهائلة. وفي طريقه ﴿ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا ﴾ أي أبصر نارا من الجهة التي تلي الطور، وعندئذ ﴿ قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا ﴾ أي أقيموا مكانكم ﴿ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ ﴾ أي أجد عند النار من يخبرني عن السبيل ؛ لأنه ضل الطريق. وقيل : كان معه زوجه وولدان، وقيل : ولد واحد ﴿ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ ﴾ الجذوة، العود الغليظ، سواء كان في رأسه نار أو لم يكن، وقيل : للجذوة عود من حطب فيه النار ﴿ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ أي تستدفئون ؛ وذلك لما أصابهم من برد الطريق.
والشاطئ صفة الوادي والنهر، أي حافته، وكذلك الشط والساحل بمعنى١. لقد جاء النداء من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمين موسى ﴿ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ ﴾ أي في القطعة من الأرض التي خصت بالبركة، لما جعل الله فيا من الآيات.
قوله :﴿ مِنَ الشَّجَرَةِ ﴾ ﴿ الشَّجَرَةِ ﴾، بدل اشتمال من شاطئ. فالشاطئ كان مشتملا على الشجرة ؛ لأنها كانت نابتة فيه.
قوله :﴿ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ ﴿ أن ﴾، مخففة من الثقيلة. والأصل بأنه يا موسى. وقيل :﴿ أن ﴾ تفسيرية ؛ فقد ناداه الله النداء الكريم المبارك المجلجل ﴿ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ أي اعلم أني مالك كل شيء، وبيدي مقاليد السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن. لقد سمع موسى ذلك من الله مباشرة من غير توسيط ملك أو غيره. فصار بذلك كليما ؛ إذ كلمه ربه تكليما، تكريما له وتعظيما ؛ ولا حاجة بعد ذلك إلى التكلف في تأويل المراد بالكلام أو النداء الذي سمعه موسى. وما ينبغي في مثل ذلك إلا الركون إلا ظاهر العبارة القرآنية وكفى٢.
٢ روح المعاني جـ ١٠ ص ٧٣، ٧٤ وتفسير النسفي جـ ٣ ص ٢٣٤.
هاتان معجزتان أخريان أوتيهما موسى عليه السلام تصديقا له وشهادة بصدق نبوته وما جاء به من رسالة وبلاغ للناس. وهو قوله :﴿ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ﴾ معطوف على قوله :﴿ أَن يَا مُوسَى ﴾ أمره ربه أن يلقي عصاه فألقاها ﴿ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ ﴾ الفاء فصيحة ؛ أي مفصحة عن جمل حذفت تعويلا على دلالة الحال عليها ؛ أي فألقاها فصارت حية فاهتزت ﴿ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ ﴾ أي تتحرك وتضطرب ﴿ كَأَنَّهَا جَانٌّ ﴾ شبّهها بالجان لسرعة حركتها وخفتها ؛ فقد كانت حية عظيمة الخلقة، مخُوفة الشكل والهيئة. فلما رآها موسى على هذه الحالة من الترويع والإفراغ ﴿ وَلَّى مُدْبِرًا ﴾ أي ولى هاربا مذعورا ﴿ وَلَمْ يُعَقِّبْ ﴾ أي لم يرجع ولم يلتفت لفرط ما أصابه من الذعر والفزع. وحينئذ تولته عناية الله بالكلاءة وإشاعة الأمن في قلبه ؛ إذ ناداه ربه ﴿ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ﴾ أي ارجع إلينا ولا تخيفنك الحية ؛ فأنت لدينا من الآمنين، ولن يمسك من هذه الحية مكروه.
قوله :﴿ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ﴾ المراد بالجناح، اليد ؛ فإن اليدين بمنزلة جناحي الطائر. و ﴿ الرَّهْبِ ﴾ معناه الخوف والفزع ؛ فقد أمر الله نبيه موسى أن يضم عضده وذراعه، وهو الجناح، إلى صدره ليهون بذلك فزعه من الحية أو غيرها. وذلك هو شأن المسلم إذا أصابه خوف أو فزع أن يضع يده على صدره ليسكن ويهدأ ويخف ذعره. وعن ابن عباس قال : كل خائف إذا وضع يده على صدره زال خوفه.
قوله :﴿ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ﴾ ( ذلك )، إشارة إلى العصا واليد، وهما مثنى ذاك. فهما ﴿ بُرْهَانَانِ ﴾ أي حجتان ظاهرتان نيرتان من الله إلى فرعون وقومه الظالمين المشركين. وإحدى الحجتين : انقلاب العصا حية مفزعة مخوفة، وصيرورة اليد مشعة تتلألأ.
قوله :﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ أي عصاة مستكبرين خارجين عن طاعة الله، مخالفين لأمره٢.
أمر الله نبيه موسى عليه السلام أن يذهب إلى فرعون فيدعوه أن يعبد الله خالقه وخالق كل شيء، وأن يكف عن طغيانه وتجبره وظلمه، وأن يرعوي عما انحدر إليه من بالغ الكفران باصطناعه لنفسه الألوهية الموهومة، لكن موسى كان يعلم حقيقة فرعون من حيث غلظته وعناده وقسوة قلبه وأنه جحود وغشوم ومستكبر. وقد خشي موسى على نفسه من فرعون أن يَفرُط عليه فيقتله. وهو قوله :﴿ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ﴾ خشي موسى أن يقتله فرعون وجنوده الظالمين في مقابلة القبطي الذي قتل موسى من قبل.
قوله :﴿ فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ﴾ ﴿ رِدْءًا ﴾، منصوب على الحال. والردء معناه العون ؛ ردأته على عدوه : أي أعنته عليه. ردأت الحائط : أي دعمته بخشبة كيلا يسقط٢.
لقد سأل موسى ربه أن يرسل معه أخاه هارون معينا ومعززا يتقوّى به على إبلاغ القوى دعوة الله، فيؤيده ويصدقه فيما يقوله لهم. وكان موسى يخشى أن يكذبه فرعون وقومه ؛ لضعف نطقه الذي لا يطاوعه عند الحاجة.
٢ الدر المصون جـ ٨ ص ٦٧٦..
قوله :﴿ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا ﴾ أي نجعل لكما تسلطا وغلبة ومهابة في قلوب أعدائكم ﴿ فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا ﴾ يعني لا سبيل لهم على الوصول إليكما بإيذاء أو إساءة بسبب آيات الله. أو تمتنعون من أعدائكم بآياتنا، فتكون لكم العاقبة وحسن المصير في الدنيا والآخرة ﴿ أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ﴾ وهذا إخبار من الله بأن المؤمنين صائرون إلى الفوز والغلبة، وأن الظالمين مهزومون خاسرون لا محالة١.
جاء موسى فرعون وقومه الظالمين بما خوله ربه من المعجزات الظاهرة ؛ كانقلاب العصا واليد، شهادة له بصدق نبوته وأنه مرسل من عند الله. لكن الظالمين قابلوه بالتكذيب والعناد غير عابئين بحجة أو برهان وقالوا له :﴿ مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى ﴾ أي ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر تصنعه أنت وتفتريه على الله. والافتراء معناه الاختلاق، وقيل : التمويه. وعلى هذا فالسحر ضرب من ضروب التمويه لا حقيقة له.
قوله :﴿ وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ﴾ أي ما سمعنا بمثل هذا الدين أو بمثل هذه النبوة من قبل. وقيل : ما سمعنا من قبل بمثل هذا السحر الذي جاء به موسى.
هذه مقالة سوء تندلق من فم هذا المتجبر العُتُّل، فرعون، وهو يصرخ في قومه المأفونين المضللين المستخَفين أنه ليس ثم إله ! !
لقد أسرف هذا الشقي المقبوح إسرافا أفضى به إلى الانحدار في الأذلين ليكون أسفل سافلين، وليكون يوم القيامة على رأس المجرمين والمنبوذين من شياطين الإنس بعد أن تفيض عليه أفواه المؤمنين في مختلف العصور والأجيال باللعائن وسوء الذكر. وكذلك الذين هم على شاكلة فرعون من طواغيت البشرية على مرّ الزمن. الذين يحكمون بغير ما أنزل الله ويدوسون الناس بالظلم والقهر والإذلال.
ولئن نفى فرعون وجود الله وأنكره صراحة مجاهرا بذلك على الملأ ؛ فإن بقية الطغاة وأكابر المجرمين من الساسة والحكام العتاة المتجبرين لا يجترئون على إنكار الله علانية وبمثل ذلكما الصلف والحماقة اللذين تلبس بهما فرعون. ولكنهم يتلبسون بظواهر شتى من أشكال الكفر والجحود والاستكبار/ وهم يسوسون الأمم والشعوب بشرائع الضلال والباطل وينبذون شرائع الله ومنهجه أشد نبذ ؛ بل ينظرون إلى منهج الله ودينه بمنظار التهكم والاستهتار والسخرية ويعلنون عليه الحرب الضروس بمختلف الأسباب والأساليب من التشويه والتشكيك واختلاق الأكاذيب والافتراءات والشبهات التي تسيء إلى دين الله وتثير في أذهان الناس –ومنهم الدارسون والمثقفون خاصة- النفور والاشمئزاز، فضلا عن مخططات الكيد والخيانة والتآمر على الإسلام والمسلمين ؛ لإضعافهم وإذلالهم والتنكيل بهم أو إبادتهم أو تقتيل الدعاة إلى الله على هوى وبصيرة منهم، أولئك جميعا وفرعون صنوان في المنبت والهوى ؛ فهم منبتهم الضلال والتكذيب والعماية وانغلاق القلوب والبصائر، وهواهم الشهوات والملذات ومتاع الحياة الدنيا. أولئك جميعا جزاؤهم في الآخرة جهنم وبئس المصير، وجزاؤهم في الدنيا أن تتفزز منهم الأجيال وتتعوذ من سوء صنيعهم وما فعلوه في البشرية وقيمها ومقوماتها من تدمير وتخريب وإفساد.
قوله :﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ فقد نفى فرعون علمه بإله غيره، ولم ينف وجود إله، إذ لم يجزم فرعون بالعدم كليا. فيكون المعنى : أن إلها غيري غير معلوم عندي. وذلك ظاهر اللفظ في الآية. وقيل : قصد بنفي علمه بإله غيره نفي وجوده. أما ما لكم من إله غيري.
قوله :﴿ فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ ﴾ أمر فرعون وزيره هامان بالإيقاد على الطين ليطبخ له الآجر.
قوله :﴿ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ﴾ أي ابن لي بالآجرُ قصرا شامخا منيفا ؛ لعلي أصعد إلى السماء فأجد إله موسى. وذلك منه استكبار ومعاندة وإفراط في الجحود والضلالة والاغترار، وهو كذلك إيهان لنفسه وخداع لقومه الذين استخفهم ؛ إذ كانوا جميعا يتصورون إله موسى جسما موجودا في السماء. وذلك ظن الواهمين المضللين السخفاء.
قوله :﴿ وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ يجزم فرعون في مكابرة وعناد أن موسى كاذب في دعواه أن له إلها وأنه أرسله للناس رسولا وهاديا ومبلغا.
قوله :﴿ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ ﴾ ظن هؤلاء المجرمون الطغاة –واهمين مضللين- أنهم لا يُردون إلى الله يوم القيامة فهم مكذبون بالبعث والمعاد.
قوله :﴿ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ أي انظر يا محمد كيف تكون عاقبة الكافرين والعصاة المفرطين، من الهلاك والهوان والتحقير. وحذر قومك ؛ ليعتبروا ويتعظوا كيلا يحيق بهم ما حاق بالمجرمين السابقين.
قوله :﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ ﴾ أي من المطرودين المبعدين من الرحمة، أو من المشوهين في الخلقة بسواد الوجوه مما يمسهم من النار١
والمعنى : أن الله أتى نبيه موسى التوراة لتكون أنوارا للقلوب ؛ إذ كانت عُميا لا تبصر ولا تميز بين حق وباطل. بل كانت تائهة في ظلمة الباطل، سادرة في الغي والضلال. وكذلك أنزلها الله عليه ﴿ هدى ورحمة ﴾ فهي تهدي الناس إلى الصواب وتسلكهم سبيل الهداية والرشاد.
وهي كذلك رحمة لمن التزمها واستمسك بها وعمل بأحكامها ؛ فإنه يحظى بالرحمة من الله، والفوز بالسعادة في الدارين ﴿ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ أي لكي يتعظوا ويعتبروا.
ذلك برهان من الله يشهد بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبصدق رسالته ؛ إذ أخبر قومه بالأحداث الماضية مما هو مستور في بطن الغيب. لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بغيوب سلفت قبل زمانه بدهر طويل، مع أنه صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يعرف القراءة ولا الكتابة، وقد بُعث في أمة لا تقرأ ولا تكتب وهو عليه الصلاة والسلام لم يعلمه إنس ولا جان، ولم يتلق أيما درس في التاريخ وأخبار السابقين الأولين، بل تلقى ذلك كله من ربه. لقد تلقى منه الخبر الصادق اليقين الذي أذهل العقول ونبّه إلى حقيقة هذا الرجل الصدوق، على أنه مرسل من ربه، وأنه لا ينطق عن الهوى. وذلك كإخباره في القرآن الحكيم عن أخبار السابقين والغابرين، كقوم نوح وعاد وثمود ولوط وقوم شعيب، وقصة موسى مع الطاغية فرعون، ومولد عيسى المسيح من أمه مريم البتول وغير ذلك من أخبار النبيين والمرسلين. وهي أخبار دقيقة ومستفيضة ومفصلة جاءت على أكمل ما يكون عليه القَصَص من الصدق والبيان. وفي ذلكم دليل قاطع على نبوة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
وهنا يبين الله في خطابه لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، أنك لم تشهد قصة موسى وهو يكلمه ربه عند الطور بل أخبرك ربك بذلك وحيا، حتى تبينه للناس وهو قوله :﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ أي ما كنت يا محمد حاضرا بجانب الجبل الغربي أو المكان الغربي الذي وقع فيه الميقات لموسى ؛ إذ أعطاه الله فيه ألواح التوراة ﴿ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ ﴾ أي علمناه وعهدنا إليه واحكمنا أمر نبوته بالوحي وإنزال التوراة عليه ﴿ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ أي لم تكن ؛ إذ ذاك من الحاضرين نزول الوحي إليه حتى تعاين بالمشاهدة ما جرى من أمر موسى في ميقاته فتخبر به الناس. ولكن الله عز وعلا قد أوحى إليك ليكون لك حجة وبرهانا تواجه بهما الناس.
قوله :﴿ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴾ ﴿ ثَاوِيًا ﴾، مقيما. والمثوى، معناه المنزل وجمعه المثاوي. ثوي المكان يثوي به ثواء ؛ أي أطال الإقامة فيه١ والمعنى : ما كنت يا محمد مقيما في ﴿ أَهْلِ مَدْيَنَ ﴾ وهم قوم شعيب عليه السلام، والمؤمنون معه تقرأ عليهم آياتنا حين أخبرت عن نبيها شعيب وما قصه على قومه وما كان من ردهم عليه ﴿ وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴾ لكنا نحن أرسلناك وقصصنا عليك من أخبارهم وحيا.
قوله :﴿ وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ ﴿ رحمة ﴾، منصوب على المصدر، أي ولكن رحمناك رحمة. وقيل : منصوب على أنه خبر كان مقدرة. وتقديره : ولكن كان رحمة من ربك. وقيل : منصوب على أنه مفعول لأجله. وتقديره : ولكن فعل ذلك لأجل الرحمة١ والمعنى : ولكن أرسلناك يا محمد بالقرآن وفيه إخبار لقومك عن أنباء النبيين السابقين وقصص الأمم الغابرة، رحمة من الله بك وبالعباد، إذ تنذرهم بالقرآن وتعلمهم ما لم يكونوا يعلمون من قبل أن تأتيهم ؛ إذ لم يأتهم قبلك من نذير وذلك في زمان الفترة بينك وبين المسيح وهي خمسمائة وخمسون سنة.
قوله :﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ أي يعتبرون ويتعظون بإنذارك لهم وبما تتلوه عليهم من الآيات البينات.
٢ روح المعاني ج ١٠ ص ٩٠ وتفسير البيضاوي ص ٥١٧..
يخبر الله عن ظلم المشركين وشدة عنادهم وجحودهم عقب نزول القرآن هدية لهم وإخراجا لهم من الظلمات إلى النور، فلجوا في التعنت والخصام والتكذيب وقالوا :﴿ لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى ﴾ أي هلا أوتي محمد من الآيات مثل ما أوتي موسى، وهم يعنون بذلك : المعجزات التي آتيها موسى عليه السلام كالعصا، واليد، والطوفان، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، وغير ذلك من الدلائل الظاهرة التي جعلها الله لنبيه وكليمه موسى ؛ ليُحاج بها فرعون وملأه من الظالمين. فرد الله عليهم مشعرا بأن ما قالوه ليس إلا التعنت المجرد والخصومة الفاجرة ﴿ أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى ﴾ يعني : أو لم يكفر أبناء جنسهم في الملة والمذهب، وهم الذين كفروا من قبلهم في زمن موسى، فكان مذهبهم كمذهبهم في التكذيب والعناد. فهؤلاء وأولئك جميعا بعضهم من بعض في الكفر وفي الإعراض عن دين الله. فقد قال الذين من قبلهم ﴿ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ﴾ يعنون موسى وهارون أو التوراة والقرآن ﴿ تظاهرا ﴾ أي تعاونا بتصديق كل واحد منهما الآخر وتأييده. وقد ذكر أن أهل مكة بعثوا رهطا منهم إلى رؤساء اليهود فسألوهم عن شأن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا نجده في التوراة بنعته وصفته. فلما رجع الرهط وأخبروا قريشا بقول اليهود، قالوا ذلك، وهو أن ما أوتيه محمد وما أوتيه موسى قد تعاونا في توافقهما ليصدق كل منهما الآخر ﴿ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ﴾ أي كفرنا بالاثنين أو بكل واحد من الكتابين.
قوله :﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أي فيما تزعمون أن التوراة والقرآن سحران.
قوله :﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ﴾ الاستفهام للإنكار بمعنى النفي، أي ليس أحد أضل ممن اتبع هواه الزائغ عن طريق الله، والمجانب لهداه ومنهجه المستقيم.
قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ لم يكن الله ليهدي الذين ظلموا أنفسهم باتباعهم الشهوات وسلوكهم مسالك الضلال والباطل، والذين أعرضوا عن دين الله عنادا واستكبارا فأبوا إلا اتباع الشياطين على اختلاف مسمياتهم.
نزلت هذه الآية في قوم من بني إسرائيل آمنوا برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، منهم : عبد الله بن سلام. وكذلك أسلم آخرون من علماء النصارى ؛ فقد قيل : قدم أربعون رجلا منهم مع جعفر بن أبي طالب إلى المدينة مسلمين. وقيل : نزلت في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي ؛ فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم ﴿ يس ( ١ ) والقرآن الحكيم ﴾ حتى ختمها فجعلوا يبكون وأسلموا ونزلت فيهم هذه الآية. وكذلك نزلت فيهم هذه الآية الأخرى ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي أن فريقا من الذين أوتوا الكتاب وهو التوراة أو الإنجيل ﴿ مِن قَبْلِهِ ﴾ أي من قبل القرآن، قد آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالقرآن الذي أنزله الله عليه.
قوله :﴿ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ﴾ أي كنا من قبل نزول هذا القرآن، أو من قبل البعثة المحمدية مصدقين بأن الله سيبعث محمدا صلى الله عليه وسلم، لما كنا نعلمه من ذكره في التوراة والإنجيل، من التبشير به وبعثه آخر الزمان لهداية الناس واستنقاذهم من الضلال والباطل.
قوله :﴿ وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ﴾ أي يدفعون بالصبر وبالكلمة الطيبة وطول الاحتمال، كل ما يجدونه في طريقهم من أذى الجاهلين وسفاهاتهم. وفي هذا المعنى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ :" وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن " ومن الخلق الحسن : دفع المكروه والأذى بالصبر والحلم والأناة والصفح عن المسيئين.
قوله :﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ أثنى الله عليهم بأنهم ينفقون من أموالهم في طاعة الله، كالجهاد في سبيله أو الصدقة على المعوزين والمحاويج، أو في صلة الأرحام.
قوله :﴿ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ وذلك في قوم من أهل الكتاب.
وقيل : من المشركين، أسلموا فكان المشركون يؤذونهم فكانوا يصفحون عنهم ويقولون :﴿ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ أي لكم منا أمنة فإنا لا نُسابّكم ولا نشاتمكم ولا نبتغي محاورة أهل الجهل. وذلك هو خلق المؤمنين الصابرين في كل زمان : " إذا خاطبهم أهل السفه والجهالة والفسق ترفعوا عن مسابتهم أو الرد عليهم بالمثل. بل قالوا لهم :﴿ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ " ١.
وفي رواية أنه لما مات ولم يؤمن اشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا : ما تنفع قرابة أبي طالب منك. فقال : " بلى ؛ والذي نفسي بيده إنه الساعة لفي ضحضاح من النار ؛ عليه نعلان من نار تغلي منهما أم رأسه. وما من أهل النار من إنسان هو أهون عذابا منه ". والمراد بالآية : أنك يا محمد لا تستطيع أن تهدي من أحببت هدايته ؛ ولكن الله يهدي من يشاء أن يهديه من خلقه بتوفيقه للإيمان. ﴿ وهو أعلم بالمهتدين ﴾ أي الله أعلم بمن سبق له في علمه أنه مهتد للحق والصواب١
نزلت هذه الآية في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف القرشي، قال للنبي صلى الله عليه وسلم :" إنا لنعلم أن قولك حق ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك ونؤمن بك مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا ".
والتخطف معناه الانتزاع بسرعة. والمعنى : إن نتبع ما جئتنا به من الحق ونتبرأ من الأنداد والشركاء يتخطفنا العرب من أرضنا، مكة ؛ لأنهم مجتمعون على خلافنا وحربنا، فرد الله زعمهم وما احتجوا به، إذ قال :﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا ﴾ أي ألم نعطكم مسكنا لا خوف عليكم فيه. وذلك أن العرب كانوا يحترمون الحرم بالغ الاحترام فما كانوا يعرضون لسكانه البتة. وقد كانوا بغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضا، وأهل مكة آمنون، إذ كانوا بحرمة الحرم فلا يمسهم أحد. بسوء أو أذى، فهم بذلك آمنون يذهبون حيث شاءوا فلا يتعرض لهم أحد.
قوله :﴿ يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ يجبى من الجباية وهي الجمع١ أي يجمع إلى الحرم ثمرات كل بلد. والمراد بالكلية هنا الكثرة.
قوله :﴿ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا ﴾ رزقا، منصوب على المصدر. لأن معنى تجبى، ترزق. وقيل : مفعول لأجله لفعل محذوف. أي نسوقه إليهم رزقا من لدنا. وقيل : منصوب على الحال، أي رازقين. والمعنى : رزقناهم رزقا من عندنا ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ﴾ أي قليل منهم يقرون بأن ذلك رزق من عند الله، وأكثرهم جهلة لا يعلمون ولا يفطنون له. ولو علموا أنه من عند الله ؛ لعلموا أن الخوف والأمن من عنده، ولما خافوا التخطف إذ آمنوا بالله وخلعوا أنداده، وهو قول الزمخشري.
قوله :﴿ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلا ﴾ أي تلك بيوت القوم الذين أهلكناهم بكفرهم وذنوبهم، لم تُسكن من بعدهم إلا قليلا. فقد خربت من بعدهم ولم يُعمر منها إلا أقلها وأكثرها خراب، وعلى هذا فالاستثناء يرجع إلى المساكن ؛ أي بعض مساكن الهالكين يسكن وأكثرها خراب.
وقيل : الاستثناء يرجع إلى السكان، فالمعنى : فتلك مساكنهم لم يسكنها إلا المسافرون أو مارّ الطريق يوما أو ساعة. أي لم تسكن من بعدهم إلا سكونا قليلا. وهو قول ابن عباس.
قوله :﴿ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ﴾ أي لم يكن لمساكنهم وبيوتهم التي أتى عليها الخراب والدمار وارث، بل عادت وليس لها من مالك سوى الله الذي له ميراث كل شيء٢.
٢ الكشاف ج ٣ ص ١٨٦، وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٣٩٥، وتفسير الطبري ج ٢٠ ص ٦١..
ذلك إخبار من الله لعباده عن عدله المطلق في العقاب، فإنه سبحانه منزه عن الظلم وهو لا يظلم من عباده أحدا إلا عقب قيام الحجة عليه. ولذلك قال هنا :﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً ﴾ أي ما كان ربك يا محمد مهلك أهل القرى التي حول مكة حتى يبعث في أعظمها رسولا يبلغ الناس الحق وينذرهم شديد بأسه وعقابه. والمراد بأمها أو أعظمها : مكة ؛ فهي أعظم القرى من حولها أو أصلها وقصبتها. فقد بعث الله في مكة رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ﴿ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ﴾ بعثه الله بقرآنه الحكيم هداية للناس واستنقاذا للبشرية من وهدة الباطل والشر.
قوله :﴿ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾ وذلك إعلان من الله للبشرية عن كامل عدله الذي لا يبلغه عدل. وهو أنه لا يأخذ أهل القرى من الكافرين بهلاك حتى يلزمهم الحجة بإرسال رسوله إليهم ؛ فهو لا يهلكهم إلا إذا استحقوا الإهلاك بظلمهم وعصيانهم، أي لا يهلكهم بكونهم ظالمين إلا بعد أن تتأكد الحجة والإلزام ببعث المرسلين فإن أبوا وأعرضوا فقد استحقوا العقاب.
قوله :﴿ أفلا تعقلون ﴾ أليست لكم عقول تميزون بها بين الحق والباطل، أو بين الحقير الفاني والعظيم الباقي ؟.
قوله :﴿ تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ ﴾ أي تبرأ بعضهم من بعض، وصار بعضهم لبعض عدو. فالشياطين ورؤساء الضلال والغواية قد تبرئوا ممن أطاعهم من الأتباع، والرعاع والمضللين والمستخفين، وقالوا :﴿ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ﴾ ﴿ ما ﴾ : فيها وجهان : أحدهما : أن تكون نافية. وثانيهما : أن تكون مصدرية، والتقدير : تبرأنا إليك من عبادتهم إيانا. والأول أوجه٢. والمعنى : أنهم ما كانوا يعبدوننا، بل كانوا يعبدون أهواءهم.
٢ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٣٥..
قوله :﴿ فَهُمْ لا يَتَسَاءلُونَ ﴾ أي لا يسأل بعضهم بعضا، ولا يدرون ما يجيبون به لفرط الدهش ومن هول ما يرون ويعاينون في هذا اليوم الرهيب. وقيل : لا يتساءلون بالأنساب والقرابة.
ذلك جواب لما قاله الوليد بن المغيرة ﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ﴾ يريد نفسه، ثم عروة بن مسعود الثقفي من الطائف. والمعنى : أن الله يخلق ما يشاء من خلقه، ويختار من يشاء لنبوته، فالله المالك المطلق، وله أن يخص من شاء بما شاء دون اعتراض عليه البتة.
قوله :﴿ ما كان لهم الخيرة ﴾ ﴿ ما ﴾ : نافية، و ﴿ الخيرة ﴾ : اسم من الاختيار قام مقام المصدر. و ﴿ الخيرة ﴾ أيضا اسم للمختار. يقال : محمد خيرة الله في خلقه. والمعنى : أن الله يخلق من يشاء من خلقه ويختار منهم من يريد فليس لهم الخيرة ؛ إذ ليس لهم أن يختاروا على الله أن يفعل ما يبتغون.
قوله :﴿ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ أي تنزه الله عن النقائص والعيوب، وتعالى علوا كبيرا عما أضافه إليه المشركون من الأنداد والشركاء، وما تخرصوه عليه من الكذب والباطل.
قوله :﴿ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالآخِرَةِ ﴾ الله الذي يستحق الحمد والثناء في الدنيا بما خوّل عباده من نعمة الحياة وما فيها من صنوف العطاء والنعم. وهو سبحانه يستحق الحمد والثناء في الآخرة بما أسبغه على عباده المؤمنين من رحمته وإحسانه وغفرانه، وبما أنزله بالظالمين من عقاب، جزاء ظلمهم وتفريطهم وما فعلوه في حياتهم من الآثام والشرور.
قوله :﴿ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ لا حكم إلا لله، فهو يقضي بين عباده وهم جميعا صائرون إليه لا محالة١.
قوله :﴿ أَفَلا تَسْمَعُونَ ﴾ أي سماع تدبر وتفكر واستبصار فتتعظوا وتوقنوا أن الله هو الحق، وأنه الخالق القادر وحده دون سواه.
قوله :﴿ أَفَلا تُبْصِرُونَ ﴾ أفلا ترون بأبصاركم ما في تعاقب الليل والنهار من النعم عليكم والرحمة بكم، لتستيقنوا أن الله وحده الخالق المدبر المنان، الجدير وحده بالعبادة والإفراد بالوحدانية.
قوله :﴿ ولعلكم تشكرون ﴾ أي لتشكروا الله على ما من به عليكم من أصناف النعم ؛ فتفردوه بالعبادة دون غيره من الأصنام والأنداد.
قوله :﴿ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ ﴾ أيقن الظالمون الخاسرون يوم القيامة صدق ما جاءهم به النبيون المرسلون، وأن الحجة البالغة لله عليهم، وأنهم محجوجون خاسرون هلكى.
قوله :﴿ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ أي ذهب عنهم وزال ما كانوا يتخرّصونه من الكذب على الله، وما كانوا يفترونه من الآلهة الموهومة المصطنعة ؛ فأيقنوا أن الله وحده لهو الحق، وأن ما دونه من الأرباب المفتراة محض باطل١.
﴿ قارون ﴾ كان ابن عم موسى. وقيل : كان عم موسى بن عمران. والراجح أنه ابن عمه وهو قول أكثر أهل العلم. وقد كان يقرأ التوراة، وكان حسن الصوت فيها لكنه نافق السامري فأهلكه الطغيان والبطر والاغترار بمتاع الحياة الدنيا ﴿ فبغى عليهم ﴾ من البغي ؛ وهو التعدي وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حد الشيء فهو بغي. وأهل البغي، يعني أهل الفساد١.
والمعنى : أن قارون بطغيانه وفساده قد بغى على قوم موسى ؛ أي جاوز الحد في الكبر والتجبر والتفاخر بكثرة ماله.
قوله :﴿ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ﴾ ﴿ مآ ﴾ : اسم موصول بمعنى الذي في موضع نصب بالفعل، آتيناه٢. وتنوء، تنهض. تنوء بالحمل، تنهض به مثقلا. وناء به الحمل، أي أثقله٣ ومفاتح : جمع مفتح ؛ وهو ما يفتح به الباب فالمراد به المفاتيح.
والمعنى : وآتينا قارون من كنوز الأموال ما إن مفاتيح صناديقه أو خزائنه ﴿ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ﴾ أي يثقلهم حمل المفاتح، أو تميله المفاتح بثقلها. أو ينهضون بها متثاقلين. والعصبة : الجماعة من الناس.
قوله :﴿ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ قال له قومه ناصحين مذكرين : لا تبطر ولا تهلك الدنيا بزينتها عن الآخرة، فإن الله لا يحب الأشرين البطرين. أو لا يحب المتبذخين السادرين في اللهو، والذين لا يشكرون الله على ما آتاهم من فضله.
٢ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٣٦..
٣ مختار الصحاح ص ٦٨٣، وأساس البلاغة ص ٦٥٦..
قوله :﴿ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ أي لا تترك أن تطلب حظك في الدنيا من الرزق. أو لا تترك ما أحل الله لك منها فإن فيه لك غنى وكفاية. والمراد به : طلب الحلال، وعدم تضييع الحظ من الدنيا في التمتع بالحلال منها. وفي ذلك من الرفق بالإنسان لتحصيل ما يشتهيه بالمعروف والاعتدال ما لا يخفى. وفي جملة ذلك قال ابن عمر : " احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ".
قوله :﴿ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ أي أحسن في الدنيا بالشكر لله وجميل الطاعة لجلاله العظيم كما تفضل عليك بجزيل النعم.
قوله :﴿ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ﴾ أي لا تطلب ما حرمه الله عليك من المعاصي والبغي والعدوان وكل وجوه الفساد ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِين ﴾ الله لا يحب أهل البغي والتجبر والكبر، الذين يشيعون في الأرض المعاصي والفتن ويسعون في الأرض فسادا١.
قوله :﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ﴾ وذلك رد من الله لاحتجاج قارون، إذ يزعم فيه أنه أوتي هذا المال بفضل علمه، ولأنه يستحقه، فبين الله سبحانه أنه أهلك من قبله من الأمم من هو أشد منه بطشا وأكثر أموالا، ولو أن المال يدل على فضل صاحبه وأنه مرضيّ عند ربه لما أهلك الله السابقين من أولي الأموال.
قوله :﴿ وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِ الْمُجْرِمُونَ ﴾ المراد بالسؤال هنا : ما كان للتقريع والتبكيت وليس للاستعتاب ؛ أي لا يُسأل المجرمون سؤال استعتاب، كما قال سبحانه :﴿ ولا هم يستعتبون ﴾ فهم يعذبونه بغتة دون معاتبة، ولا يُسألون سؤال استفهام فإن الله مطلع على قلوبهم وأعمالهم١.
خرج هذا المغرور يوما على قومه من بني إسرائيل في زينته من متاع الحياة الدنيا وزخرفها، وهو متجمل بالحلي وفاخر الديباج والمعصفرات من أصناف الملابس، ومن حوله الخدم والحشم ومختلف صور الزينة مما يثير في الضعفاء والخائرين حب الدنيا ولذائد الحياة. حينئذ ﴿ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ ﴾ هكذا يتمنى الفارغون من وازع العقيدة الرادع، الجانحون للحياة الدنيا وزينتها وزخرفها، والذين تستهويهم الطيبات واللذات في هذه الحياة فيركنون إليها في الغالب وهم يهوون أن يأخذوا منها بحظ كبير، خلافا لأهل العقيدة الراسخة المكينة وأهل العزيمة والتقوى من المؤمنين، فإنهم لا تستخفهم الأهواء ولا الشهوات ولا خيرات الدنيا وما حوته من مباهج وملذات. وإنما يميل المؤمنون الصادقون لإعلاء كلمة الله ورفع شأن الإسلام، ويسعون على الدوام لإعزاز دين الله ونشره وإشاعته في الآفاق حبا في هذا الدين الكريم العظيم وطمعا في رضوان الله أولا وأخيرا.
لقد تمنى أولوا الشهوات من بني إسرائيل-سواء فيهم المؤمنون أو الذين كفروا- لو أنهم أوتوا مثل ما أوتي قارون من الأموال وقالوا :﴿ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ وصفوه بأنه رجل حفيظ أو محظوظ ؛ أي لذو نصيب وافر من زينة الحياة الدنيا وزخرفها.
قوله :﴿ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ﴾ ثواب الله، وهو الجنة وما أعده الله فيها من صنوف الطيبات والنعم، فذلك خير للذين يعملون الصالحات من المؤمنين.
قوله :﴿ وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾ أي لا يلقى الجنة وما فيها من خيرات حسان ونعيم مقيم إلا الصابرون، القائمون على منهج الله فلا يتحولون ولا يتغيرون، والذين يحبسون أنفسهم عن المعاصي والمنكرات والفتن١.
وهذا جزاء المتكبرين العتاة الذين يسرفون في البغي والعتو والباطل، لا جرم أن الله لهؤلاء بالمرصاد ؛ فهو يملي لهم حتى إذا حان أجل الانتقام أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
قوله :﴿ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ ليس له حين خسف الله به الأرض من معين ولا مجير غير الله، من يبذل له العون أو يدرأ عنه ما حاق به من الهلاك ﴿ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ ﴾ أي ليست له منَعة يمتنع بها من نقمة الله.
قوله :﴿ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ﴾ يعني لولا أن الله قد تفضل علينا برحمته ولطفه فصرف عنا ما كنا نتمناه من مكان الفاسق الباغي قارون لحاق بنا من الخسف والدمار ما حاق به.
قوله :﴿ وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ أي ألم تر أن الكافرين لا فوز لهم ولا منجاة وأنهم صائرون إلى التَّعس والخسران٢.
٢ تفسير الرازي ج ٢٥ ص ٢٠، وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٠١، وفتح القدير ج ٣ ص ١٨٨..
اسم الإشارة ﴿ تلك ﴾ تعظيم للدار الآخرة وتفخيم لشأنها، والمراد بها الجنة، حيث النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، فقد جعل الله ذلك كله لعباده المؤمنين المتواضعين ﴿ لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ ﴾ أي لا يبتغون أن يترفعوا استكبارا على عباد الله وتعاظما عليهم وتجبرا بهم. ولا يبتغون الإفساد في الأرض بفعل المعاصي والسيئات وكل وجوه المنكر من ظلم وقتل وأخذ لأموال الناس بالباطل.
قوله :﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ المراد بالعاقبة الجنة، فقد جعلها الله للمتقين وهم : الذين اجتنبوا المعاصي، وأدوا فرائض ربهم، وخافوا الله في السر والعلن.
يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن الذي أنزل عليك القرآن يا محمد وأوجب عليك تبليغه للناس ﴿ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ﴾ أي لمُصَيّرك إلى الجنة. وقيل : رادك على يوم القيامة، أو يجيء بك يوم القيامة. وقيل : رادك إلى الموت. وقيل : رادك إلى الموضع الذي خرجت منه وهو مكة. أي رادك إلى مكة ظاهرا على قومك الذين أخرجوك، منتصرا عليهم، وهو قول كثير من المفسرين.
قوله :﴿ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ﴾ ﴿ مَن ﴾، في موضع نصب بفعل مقدر دل على قوله :﴿ أعلم ﴾ وتقديره : يعلم من جاء بالهدى١ والمعنى : قل لهؤلاء المشركين الضالين : ربي أعلم منكم بالذي جاء بالهدى، وهو نفسه صلى الله عليه وسلم، وأعلم من هو سادر في الغي، جائر عن سواء السبيل.
قوله :﴿ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ ﴾ ادع الناس إلى دين الله وسلوك طريقه المستقيم واتباع منهجه الحكيم وما تضمنه من هداية للناس وترشيد.
قوله :﴿ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ يحذره ربه إغراء المشركين وإغواءهم ؛ إذ كانوا يدعونه إلى تعظيم أوثانهم في مقابل توليته عليهم أو جعله أكثرهم مالا.
قوله :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾، منصوب على الاستثناء١
والمعنى : أن كل شيء في الوجود صائر إلى الفناء والهلاك لا محالة، باستثناء وجه الله الكريم. وقد عبّر عن الذات بالوجه ؛ فهو سبحانه الدائم الباقي الذي لا يفنى ولا يزول، وما دونه من الخلائق كافة صائر إلى الموت المحتوم.
قوله :﴿ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ الله يقضي في الخلق بما يشاء وكيف يشاء، ثم مردهم إلى جميعا إليه يوم القيامة ليلاقوا جزاءهم الموعود٢.
٢ تفسير الرازي ج ٢٥ ص ٢٣، وتفسير الطبري ج ٢٠ ص ٨١، وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٠٣..