تفسير سورة القلم

اللباب
تفسير سورة سورة القلم من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة ( ن ) القلم
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة : من أولها إلى قوله :﴿ سنسمه على الخرطوم ﴾ [ القلم : ١٦ ] مكي، ومن بعد ذلك إلى قوله :﴿ فهم يكتبون ﴾ [ القلم : ٤٧ ] مكي، ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى :﴿ من الصالحين ﴾ [ القلم : ٥٠ ] مدني، وباقيها. قاله الماوردي١.
وهي اثنتان وخمسون آية، وثلاثمائة كلمة، وألف ومائتان وستة وخمسون حرفا.
١ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/٥٩)..

وهي اثنتان وخمسون آية، وثلاثمائة كلمة، وألف ومائتان وستة وخمسون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى «ن» كقوله ﴿ص والقرآن﴾ [ص: ١]، وجواب القسم الجملة المنفية بعدها.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هو الحوت الذي على ظهره الأرض، وهو قول مجاهدٍ ومقاتل والسدي والكلبي.
وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال: أول ما خلق الله القلم، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره فتحرك النون، فمارت الأرض
261
فأثبتت بالجبال وإن الجبال لتفخر على الأرض، ثم قرأ ابن عباس: ﴿ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ﴾.
قال الواقديُّ: اسم النون ليوثا.
وقال كعب الأحبار: لوثوثا.
وعن علي: اسمه تلهوت.
وقيل: إنه أقسم بالحوت الذي ابتلع يونس - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.
وقيل: الحوت الذي لطخ سهم نمروذ بدمه.
وقال الكلبي ومقاتل: اسم الحوت الذي على ظهر الأرض: البَهْمُوت.
قال الراجز: [الرجز]
٤٨٠٥ - مَا لِي أرَاكُمْ كُلَّكُمْ سُكُوتَا واللَّهُ ربِّي خَلقَ البَهْمُوتَا
وروى عكرمة عن ابن عباس: أن نون آخر حروف الرحمن.
وقيل: إنه اسم للدواةِ، وهو أيضاً مروي عن ابن عباس.
قال القرطبيُّ: وروى أبو هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «أوّلُ ما خَلَقَ اللَّهُ القَلمَ، ثُمَّ خلقَ النُّون، وهي الدَّواةُ، وذلك قوله تعالى» ن «والقلم» ومنه قول الشاعر: [الوافر]
٤٨٠٦ - إذَا مَا الشَّوْقُ يَبْرَحُ بِي إليْهِمْ وألفَى النُّون بالدَّمْعِ السِّجامِ
ويكون على هذا قسماً بالدواة والقلم، فإن المنفعة بهما عظيمة بسبب الكتابةِ. فإن التفاهم يحصل تارة بالنطق، وتارة بالكتابة.
وقيل: النون لوح من نون تكتب فيه الملائكةُ ما يؤمرون به، رواه معاوية بن قرة مرفوعاً.
وقيل: النون هو المداد الذي تكتب به الملائكة.
وقال عطاء وأبو العالية: هو افتتاح اسمه تعالى ناصر ونور ونصير، وقال محمد بن كعب: أقسم الله - تعالى - بنصره للمؤمنين.
262
وقال جعفر الصادق: هو نهر من أنهار الجنَّة يقال له: نون.
وقيل: هو الحرف المعروف من حروف المعجم، قاله القشيري.
قال: لأنه حرف لم يعرب فلو كان كلمة تامة أعرب به القلمُ، فهو إذن حرف هجاء، كما في أوائل السور.
قال الزمخشريُّ: «وأما قولهم: هو الدواة فما أدري أهو وضع لغوي، أو شرعي، ولا يخلو إذا كان اسماً للدواة من أن يكون جنساً، أو علماً، فإن كان جنساً فأين الإعراب والتنوينُ وإن كان علماً فأين الإعراب؟ وأيهما كان فلا بد له من موقع في تأليف الكلام؛ لأنك إذا جعلته مقسماً به وجب إن كان جنساً أن تجره وتنونه، ويكون القسم بدواة منكرة مجهولة، كأنه قيل: ودواة والقلم، وإن كان علماً أن تصرفه وتجره أو لا تصرفه وتفتحه للعلمية والتأنيث، وكذلك التفسير بالحوت إما أن يراد نون من النينان، أو يجعل علماً للبهموت الذي يزعمون، والتفسير باللوح من نور أو ذهب والنهر في الجنَّة نحو ذلك».
قال شهاب الدين: «وهذا الذي أورده أبو القاسم من محاسن علم الإعراب، وقلَّ من يتقنه».
وقال ابن الخطيب بعد ذكر القول بأنه آخر حروف اسم الرحمن: وهذا ضعيف، لأن تجويزه يفتح باب ترهات الباطنية بل الحق هاهنا أنه اسم للسورة، أو يكون الغرض منه التحدي، وسائر الوجوه المذكورة في أول سورة البقرة.

فصل في قراءات «ن»


قرأ العامة: «نُونْ» ساكن النون كنظائره.
وأدغم ابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم بلا خلاف، وورش بخلاف عنه النون في الواو، وأظهرها الباقون.
قال الفراء: «وإظهارها أعجب إليَّ، لأنها هجاء، والهجاء كالموقوف عليه وإن اتصل» ونقل عمن أدغم الغنَّة، وعدمها.
وقرأ ابن عباس والحسن وأبو السِّمال وابن أبي إسحاقَ: بكسر النون.
263
وسعيد بن جبير وعيسى بخلاف عنه: بفتحها.
فالأولى على التقاء الساكنين، ولا يجوز أن يكون مجروراً على القسم حذف حرف الجر وبقي عمله، كقولهم «اللَّهِ لأفعلَنَّ»، لوجهين:
أحدهما: أنه مختص بالجلالة المعظمة نادر فيما عداها.
والثاني: أنه كان ينبغي أن ينون، ولا يحسن أن يقال: هو ممنوع الصرف اعتباراً بتأنيث السورة، لأنه كان ينبغي ألاَّ يظهر فيه الجر بالكسر ألبتة.
وأما الفتح، فيحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون بناء، وأوثر على الأصل للخفة ك «أين وكيف».
الثاني: أن يكون مجروراً بحرف القسم المقدر على لغة ضعيفة، وقد تقدم ذلك في قراءة «فالحقّ والحقِّ» [ص: ٨٤]، بجرّ «الحقّ»، ومنعت الصرف اعتباراً بالسورة.
والثالث: أن يكون منصوباً بفعل محذوف، أي: ، اقرأوا نوناً ثم ابتدأ قسماً بقوله: «والقَلمِ» أو يكون منصوباً بعد حذف حرف القسم؛ كقوله: [الوافر]
- ٤٨٠٧............................ فَذَاكَ أمَانَةَ اللَّهِ الثَّريدُ
ومنع الصرف لما تقدم، وهذا أحسن لعطف العلم على محله.
قوله: ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ﴾.
«ما» موصولة، اسمية أو حرفية، أي: والذي يسطرونه من الكتب، وهم الكتَّاب والحفظة من الملائكة وسطرهم.
والضمير عائد على من يسطر لدلالة السياق عليه ولذكر الآلة المكتتب بها.
وقال الزمخشري يجوز أن يراد بالقلم أصحابه فيكون الضمير في «يَسْطُرونَ» لهم.
يعني فيصير كقوله: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ﴾ [النور: ٤٠] تقديره: أو كذي ظلمات فالضمير في «يغْشَاه» يعود على «ذي» المحذوف.

فصل في المراد بالقلم


في «القلم» المقسم به قولان:
أحدهما: أن المراد به الجنس، وهو واقع على كل قلم يكتب به في السماء والأرض، قال تعالى:
﴿وَرَبُّكَ الأكرم الذى عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: ٣، ٤، ٥]،
264
ولأنه ينتفع به كما ينتفع بالنطق كما قال تعالى: ﴿خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان﴾ [الرحمن: ٣، ٤]، فالقلم يبين كما يبين اللسان في المخاطبة بالكتابة للغائب والحاضر.
والثاني: أنه القلم الذي جاء في الخبر، عن ابن عباسٍ: أول ما خلق الله القلم ثم قال له: اكتب قال: ما أكتب؟ قال: ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عملٍ، أو أجلٍ، أو رزقٍ، أو أثرٍ، فجرى القلمُ بما هو كائن إلى يوم القيامة، قال: ثم ختم في القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة، قال: وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض.
وروى مجاهد، قال: أول ما خلق الله القلم، فقال: اكتب القدر، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه.
قال القاضي: هذا الخبر يجب حمله على المجاز؛ لأن القلم آلة مخصوصة للكتابة، ولا يجوز أن يكون حياً عاقلاً فيؤمر وينهى؛ فإن الجمع بين كونه حيواناً مكلفاً وبين كونه آلة للكتابة محال بل المراد منه أنه تعالى أجراه بكل ما يكون وهو كقوله تعالى ﴿إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: ٤٧] فإنه ليس هناك أمر، ولا تكليف، وهو مجرد نفاذ القدرةِ في المقدور من غير منازعة، ولا مدافعة.
وقيل: القلم المذكور هو العقل وأنه شيء هو كالأصل لجميع المخلوقات، قالوا: والدليل عليه أنه قد روي في الأخبار: أن أول ما خلق الله القلم.
وفي خبر آخر: أول ما خلق الله العقل، فقال الجبار: ما خلقت خلقاً أعجب إلي منك، وعزتي وجلالي لأكلمنك فيمن أحببت ولأبغضنك فيمن أبغضت، قال: ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أكمل النَّاسِ عقلاً أطوْعهُمْ للَّهِ وأعْلمُهُمْ بطاعته.
وفي خبر آخر: أول ما خلق الله جوهرة، فنظر إليها بعين الهيبة فذابت، وسخنت، فارتفع منها دخان وزبد، فخلق من الدخان السموات، ومن الزبد الأرض.
قالوا: فهذه الأخبار بمجموعها تدل على أن القلم والعقل وتلك الجوهرة التي هي أصل المخلوقات شيء واحد، وإلا حصل التناقض.
قوله: ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ﴾، أي: وما يكتبون، يريد: الملائكة يكتبون أعمال بني آدم.
قال ابن عباس.
وقيل: وما يكتبون الناس ويتفاهمون به.
وقال ابن عباس: معنى ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ وما يعملون.
؟؟؟؟
265
قال ابن الخطيب: ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ مع ما بعدهما في تقدير المصدر فيحتمل أن يكون المراد وسطرهم، فيكون القسم واقعاً بنفس الكتابةِ، ويحتمل أن يكون المرادُ به المسطور والمكتوب، فإن حمل القلم على كل قلم في مخلوقات الله تعالى، فكأنه تعالى أقسم بكل قلم، وبكل ما يكتب بكل قلم وقيل: المرادُ ما يسطرهُ الحفظة الكرام، ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه، فيكون الضمير في «يَسْطرُونَ» لهم، كأنه قيل: وأصحاب القلم، وسطرهم، أو مسطوراتهم، وإن حمل على القلم المعين، فيحتمل أن يكون المراد بقوله «ومَا يَسْطُرونَ»، أي: وما يسطرون فيه، وهو اللوح المحفوظ ولفظ الجمع في قوله «يَسْطُرونَ» ليس المراد منه الجمع بل التعظيم، ويكون المراد تلك الأشياء التي سطرت فيه من جميع الأمور الكائنة إلى يوم القيامة.
قوله ﴿مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾.
قد تقدم الكلام على نظيره في «الطُّور» في قوله ﴿فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ﴾ [الطور: ٢٩].
إلا أن الزمخشري قال هنا: «فإن قلت: بم تتعلق الباء في» بِنعْمَةِ ربِّك «وما محله؟ قلت: متعلق بمجنون منفياً كما يتعلق بعاقل مثبتاً كقولك: أنت بنعمة ربِّك عاقل، مستوياً في ذلك الإثبات والنفي استواءهما في قولك: ضرب زيد عمراً، وما ضرب زيد عمراً، فعمل الفعل منفياً ومثبتاً إعمالاً واحداً، ومحله النصب على الحال كأنه قال: ما أنت مجنوناً منعماً عليك بذلك، ولم تمنع الباء أن يعمل» مَجْنُون «فيما قبله، لأنها زائدة لتأكيد النفي».
قال أبو حيَّان: «وما ذهب إليْهِ الزمخشريُّ، من أن الباء يتعلق بمجنون، وأنه في موضع الحال يحتاج إلى تأمل، وذلك أنه إذا تسلط النفي في محكوم به، وذلك له معمول، ففي ذلك طريقان:
أحدهما: أن النفي يسلط على المعمول فقط.
والآخر: أن يسلط النفي على المحكوم به فينتفي معموله لانتفائه، ببيان ذلك أن تقول: ما زيد قائم مسرعاً، فالمتبادر إلى الذهن أنه منتف إسراعه دون قيامه، فيكون قد قام غير مسرع، والوجه الآخر: أنه انتفى قيامه فانتفى إسراعه، أي: لا قيام، فلا إسراع، وهذا الذي قررناه لا يتأتى معه قول الزمخشري، بل يؤدي إلى ما لا يجوز النطق به في حق المعصوم»
انتهى.
266
واختار أبو حيان أن يكون «بِنعمَةِ» قسماً معترضاً به بين المحكوم عليه والحكم على سبيل التأكيد والتشديد والمبالغة في انتفاء الوصف الذميم.
وقال ابن عطية: «بنِعْمةِ ربِّك» اعتراض، كما تقول للإنسان: أنت بحمد الله فاضل، قال: ولم يبين ما تتعلق به الباء في «بِنعْمَةِ».
قال شهاب الدين: والذي تتعلق به الباء في هذا النحو معنى مضمون الجملة نفياً وإثباتاً كأنه قيل: انتفى عنك ذلك بحمد الله، والباء سببية، وثبت ذلك الفضل بحمد الله تعالى، وأما المثال الذي ذكره، فالباء تتعلق فيه بلفظ «فاضل» وقد نحا صاحب «المُنَتخَب» إلى هذا فقال: المعنى انتفى عنك الجنون بنعمة ربك.
وقيل: معناه مَا أنْتَ مجنُونٌ والنعمة لربك، كقولهم: سبحانك اللهم وبحمدك، أي: والحمد لله؛ وقول لبيد: [الطويل]
٤٨٠٨ - وأفْرِدْتُ في الدُّنْيَا بفقْدِ عشِيرَتِي وفَارقَنِي جارٌ بأربدَ نَافِعُ
أي وهو أربد، وهذا ليس بتفسير إعراب بل تفسير معنى.

فصل في إعراب الآية


قوله تعالى: ﴿مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾. هذا جواب القسم، وهو نفي.
قال الزجاج: «أنت» هو اسم «مَا» و «مَجْنُون» الخبر، وقوله: ﴿بِنِعْمَةِ رَبِّكَ﴾ كلام وقع في الوسط، أي: انتفى عنك الجنون بنعمة ربك، كما يقال: أنت بحمد الله عاقل.
روى ابن عباس: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غاب عن خديجة إلى حراء، وطلبته، فلم تجده، فإذا به ووجهه متغير بلا غبار، فقالت: ما لك؟.
فذكر جبريل - عليه السلام - وأنه قال له: ﴿اقرأ باسم رَبِّكَ﴾ [العلق: ١]، فهو أول من نزل من القرآن، قال: ثم نزل بي إلى قرار الأرض، فتوضأ، وتوضأت، ثم صلى، وصليت معه ركعتين، وقال: هكذا الصلاة - يا محمد - فذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك لخديجة، فذهبت خديجة إلى ورقة بن نوفل - وهو ابن عمها - وكان قد خالف دين قومه ودخل في النصرانية، فسألته فقال: أرسلي إليّ محمداً، فأرسلته فقال: هل أمرك جبريل - عليه
267
السلام - أن تدعو أحداً؟ فقال: لا فقال: والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنك نصراً عزيزاً، ثم مات قبل دعاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووقعت تلك الواقعة في ألسنة كفار قريش، فقالوا: إنه مجنون، فأقسم الله تعالى على أنه ليس بمجنون، وهو خمس آياتٍ من أول هذه السورة، قال ابن عباسٍ: أول ما نزل قوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسم رَبِّكَ﴾ [الأعلى: ١]، وهذه الآية هي الثانية، نقله ابن الخطيب.
وذكر القرطبيُّ: أن المشركين كانوا يقولون للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: مجنون به شيطان وهو قوله ﴿يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: ٦] فأنزل الله تعالى رداً عليهم وتكذيباً لقولهم ﴿فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ﴾ [الطور: ٢٩] أي: برحمة ربك، والنعمة هاهنا الرحمة. وقال عطاء وابن عباس: يريد بنعمة ربِّك عليك بالإيمان والنبوة.
قال القرطبي: «ويحتمل أن النعمة - هاهنا - قسم، تقديره: ما أنت، ونعمة ربك بمجنون لأن الواو والباء من حروف القسم» وقد تقدم.

فصل


قال ابن الخطيب: اعلم أنه تعالى وصفه - هاهنا - بصفات ثلاث:
الأولى: نفي الجنون عنه ثم قرن بهذه الدعوى ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها، لأن قوله: ﴿بِنِعْمَةِ رَبِّكَ﴾ يدل على أن نعم اللَّه تعالى ظاهرة في حقه من الفصاحة التامة، والعقل الكامل، والسيرة المرضية، والبراء من كل عيب، والاتصاف بكل مكرمة، وإذا كانت هذه النعم ظاهرة محسوسة ووجودها ينافي حصول الجنونِ، فالله تعالى نبه على أن هذه الحقيقة جارية مجرى الدلالة اليقينية على كذبهم في قولهم: «إنه مجنُون».
الصفة الثانية: قوله: ﴿وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ أي: ثواباً على ما تحملت غير منقوص ولا مقطوع منه، يقال: منَّ الشيء إذا ضعف، ويقال: مننت الحبل إذا قطعته، وحبل منين إذا كان غير متين.
قال لبيدٌ: [الكامل]
٤٨٠٩ -......................... غُبْسٌ كَواسِبُ مَا يُمَنُّ طَعَامُهَا
268
أي: لا يقطع، يصف كلاباً ضارية، ونظيره قوله تعالى ﴿غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ [هود: ١٠٨]، وقال مجاهد ومقاتل والكلبي: «غَيْرَ مَمْنُونٍ» أي: غير محسوب عليك، قالت المعتزلة: لأنك تستوجبه على [عملك]، وجوابهم: إن حملهم على هذا يقتضي التكرار، لأن قوله «أجراً» يفيده، وقال الحسنُ: غير مكدر بالمن.
وقال الضحاك: أجراً بغير عمل، واختلفوا في هذا الأجرِ على أي شيء حصل؟ فقيل: معناه إن لك على احتمال هذا الطعن، والقول القبيح أجراً عظيماً دائماً.
وقيل: إن لك في إظهار النبوةِ، والمعجزات في دعاء الخلق إلى الله تعالى وفي بيان الشرع لهم هذا الأجر الخالص الدائم فلا يمنعك نسبتهم إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا المهم العظيم فإن لك بسببه المنزلةَ العالية.
الصفة الثالثة: قوله: ﴿وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.
قال ابن عباس ومجاهدٌ: «على خُلقٍ» على دين عظيمٍ من الأديان، ليس دين أحب إلى الله، ولا أرضى عنده منه.
وروى مسلم عن عائشة: أن خلقه كان القرآن.
وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هو أدب القرآن.
وقيل: رفقه بأمته، وإكرامه إياهم.
وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أمر اللَّهِ، وينتهي عنه مما نهى الله عنه.
وقيل: إنَّك على طبع كريم.
وقال الماوردي: حقِيقَةُ الخُلقِ في اللُّغةِ ما يأخذُ بِهِ الإنسانُ في نفْسِهِ من الأدبِ
269
يُسَمَّى خُلُقاً، لأنَّه يصير كالخلقة فيه فأما ما طُبع عليه من الأدبِ فهو الخِيمُ، فيكون الخلق: الطبع المتكلف، والخِيم: الطبع الغريزي.
قال القرطبي: «ما ذكره مسلم في صحيحه عن عائشة أصح الأقوالِ، وسئلت أيضاً عن خلقه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فقرأت ﴿قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون﴾ [المؤمنون: ١] إلى عشر آياتٍ».
قال ابن الخطيب: وهذا إشارة إلى أن نفسه القدسية كانت بالطبع منجذبة إلى عالم الغيبِ وإلى كل ما يتعلق بها، وكانت شديدة النفرة من اللذات البدنية، والسعادات الدنيوية بالطبع، ومقتضى الفطرة، وقالت: مَا كَانَ أحدٌ أحْسنَ خُلُقاً من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما دعاه أحدٌ من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال: لبيك، ولذلك قال الله تعالى ﴿وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ ولم يذكر خلق محمود إلا وكان للنبي الحظ الأوفر.
وقال الجنيد: سمى خلقه عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، بدليل قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إنَّ اللَّه بَعَثنِي لأتمِّمَ مكارِمَ الأخْلاق».

فصل


قال ابن الخطيب: قوله: ﴿وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ كالتفسير لما تقدم من قوله تعالى: ﴿بِنِعْمَةِ رَبِّكَ﴾ وتعريف لمن رماه بالجنون بأن ذلك كذب وخطأ؛ لأن الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية كانت ظاهرة منه، وإذا كان موصوفاً بتلك الأخلاق والأفعال، لم يجز إضافة الجنون إليه؛ لأن أخلاق المجانين سيئة، ولما كانت أخلاقه الحميدة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كاملة لا جرم وصفها الله بأنها عظيمة، ولهذا قال:
﴿مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين﴾ [ص: ٨٦] أي: لست مكلفاً فيما يظهر لكم من الأخلاق، لأنه تعالى قال: ﴿أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده﴾ [الأنعام: ٩٠] فهذا الهدي الذي أمر الله محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالاقتداءِ به ليس هو
270
معرفة الله تعالى؛ لأن ذلك تقليداً، وهو غير لائق بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وليس هو الشرائع؛ لأن شريعته كشرائعهم، فتعين أن يكون المراد منه أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يقتدي بكل واحد من الأنبياء فيما اختص به من الخلقِ الكريمِ، وكان كل واحد منهم مختصاً بنوع واحدٍ، فلما أمر محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يقتدي بالكل، فكأنه أمر بمجموع ما كان متفرقاً فيهم، ولما كان ذلك درجة عالية لم تتيسر لأحدٍ من الأنبياء قبله - لا جرم - وصف الله خلقه بأنه عظيم، وكلمة «عَلَى» للاستعلاءِ فدل اللفظ على أنه مستعل على هذه الأخلاقِ، ومستول عليها، وأنه بالنسبة إلى هذه الأخلاق الحميدة كالمولى بالنسبة إلى العبد، وكالأمير بالنسبة إلى المأمور.
وقد ورد أحاديث كثيرةٌ صحيحةٌ في مدح الخلق الحسن، وذم الخلق السّيّىء.
قوله: ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ﴾.
قال ابن عباس: معناه فستعلم ويعلمون يوم القيامة.
وقيل: فسترى وترون يوم القيامة حتى يتبين الحق والباطل.
وقيل: ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ﴾ في الدنيا كيف تكون عاقبة أمرك وأمرهم فإنك تصير معظماً في القلوب، ويصيرون ذليلين ملعونين ويستولى عليهم بالقتل والنهب.
قال مقاتل بن حيان: هذا وعيد العذاب ببدر.
قوله ﴿بِأَيِّكُمُ المفتون﴾ فيه أربعة أوجه:
أحدها: أن الباء مزيدة في المبتدأ، والتقدير: أيكم المفتون، فزيدت كزيادتها في نحو «بحسبك زيد»، وإلى هذا ذهب قتادة وأبو عبيدة معمر بن المثنى.
إلا أنه ضعيف من حيث إن الباء لا تزاد في المبتدأ إلا في «حَسْبُك» فقط.
الثاني: أن الباء بمعنى «فِي» فهي ظرفية، كقولك: «زيْدٌ بالبصرةِ» أي: فيها، والمعنى: في أي فرقة، وطائفة منكم المفتون: أي المجنون في فرقة الإسلام أم في فرقة الكفار؟ وإليه ذهب مجاهد والفراء.
ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة: «فِي أيكمُ».
والثالث: أنه على حذف مضاف، أي «بأيكم فتن المفتون» فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وإليه ذهب الأخفش. وتكون الباء سببية.
والرابع: أن المفتون مصدر جاء على «مفعول» ك «المعقول» و «الميسور»، والتقدير: «بأيكمُ المفْتُونُ».
فعلى القول الأول يكون الكلام تاماً عند قوله: «ويُبْصرُونَ»، ويبتدأ بقوله «بأيكمُ المفتُونُ».
271
وعلى الأوجه بعده تكون الباء متعلقة بما قبلها، ولا يوقف على «يُبْصِرُونَ».
وعلى الأوجه الأول الثلاثة يكون «المَفْتُونُ» اسم مفعول على أصله، وعلى الوجه الرابع يكون مصدراً، وينبغي أن يقال: إن الكلام إنما يتم على قوله «المَفْتُونُ» سواء قيل: بأن الباء مزيدة أم لا، لأن قوله ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ﴾ معلق بالاستفهام بعده، لأنه فعل بمعنى الرؤية البصرية تعلق على الصحيحِ، بدليل قولهم: أما ترى أن برق هاهنا، فكذلك الإبصار، لأنه هو الرؤية بالعين، فعلى القول بزيادة الباء، تكون الجملة الاستفهامية في محل نصب؛ لأنها واقعة موضع مفعول الإبصار.

فصل


قال القرطبيُّ: ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ﴾ بأيكم المفتون، الذي فتن بالجنون، كقوله تعالى: ﴿تَنبُتُ بالدهن﴾ [المؤمنون: ٢٠] و ﴿يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله﴾ [الإنسان: ٦]، وهو قول قتادة وأبي عبيدة كما تقدم وقيل: الباء ليست مزيدة، والمعنى «بأيكم المفتون» أي: الفتنة، وهو مصدر على وزن المفعول ويكون المعنى: المفتون، كقولهم: ما لفلان مجلود ولا معقول، أي: عقل ولا جلادة، قاله الحسن والضحاك وابن عباس.
قال الراعي: [الكامل]
٤٨١٠ - حَتَّى إذَا لَمْ يَتركُوا لِعظامِهِ لَحْماً ولا لفُؤادِهِ مَعْقُولا
أي عقلاً، والمفتون المجنون الذي فتنه الشيطانُ.
وقيل: المفتون المعذب من قول العرب فتنت الذهب بالنار، إذا حميته، قال تعالى ﴿فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً﴾ [الجن: ١٣] أي: يعذبون وقيل: المفتون: الشيطان؛ لانه مفتون في دينه، وكانوا يقولون: إن به شيطاناً، وعنوا بالمجنون هذا فقال الله تعالى لهم: فسيعلمون غداً بأيهم [المجنون] أي: الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل. قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ﴾. أي: إن الله هو العالم بمن حاد عن دينه ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِ الْمُهْتَدِينَ﴾، أي: الذين هم على الهدى، فيجازي كلاًّ غداً.
272
قوله ﴿ مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾.
قد تقدم الكلام على نظيره في «الطُّور » في قوله ﴿ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ ﴾[ الطور : ٢٩ ].
إلا أن الزمخشري قال هنا١ :«فإن قلت : بم تتعلق الباء في " بِنعْمَةِ ربِّك " وما محله ؟ قلت : متعلق بمجنون منفياً كما يتعلق بعاقل مثبتاً كقولك : أنت بنعمة ربِّك عاقل، مستوياً في ذلك الإثبات والنفي استواءهما في قولك : ضرب زيد عمراً، وما ضرب زيد عمراً، فعمل الفعل منفياً ومثبتاً إعمالاً واحداً، ومحله النصب على الحال كأنه قال : ما أنت مجنوناً منعماً عليك بذلك، ولم تمنع الباء أن يعمل " مَجْنُون " فيما قبله، لأنها زائدة لتأكيد النفي ».
قال أبو حيَّان٢ :«وما ذهب إليْهِ الزمخشريُّ، من أن الباء تتعلق بمجنون، وأنه في موضع الحال يحتاج إلى تأمل، وذلك أنه إذا تسلط النفي في محكوم به، وذلك له معمول، ففي ذلك طريقان :
أحدهما : أن النفي يسلط على المعمول فقط.
والآخر : أن يسلط النفي على المحكوم به فينتفي معموله لانتفائه، ببيان ذلك أن تقول : ما زيد قائم مسرعاً، فالمتبادر إلى الذهن أنه منتف إسراعه دون قيامه، فيكون قد قام غير مسرع، والوجه الآخر : أنه انتفى قيامه فانتفى إسراعه، أي : لا قيام، فلا إسراع، وهذا الذي قررناه لا يتأتى معه قول الزمخشري، بل يؤدي إلى ما لا يجوز النطق به في حق المعصوم » انتهى.
واختار أبو حيان أن يكون «بِنعمَةِ » قسماً معترضاً به بين المحكوم عليه والحكم على سبيل التأكيد والتشديد والمبالغة في انتفاء الوصف الذميم٣.
وقال ابن عطية٤ :«بنِعْمةِ ربِّك » اعتراض، كما تقول للإنسان : أنت بحمد الله فاضل، قال : ولم يبين ما تتعلق به الباء في «بِنعْمَةِ ».
قال شهاب الدين٥ : والذي تتعلق به الباء في هذا النحو معنى مضمون الجملة نفياً وإثباتاً كأنه قيل : انتفى عنك ذلك بحمد الله، والباء سببية، وثبت ذلك الفضل بحمد الله تعالى، وأما المثال الذي ذكره، فالباء تتعلق فيه بلفظ «فاضل » وقد نحا صاحب «المُنَتخَب » إلى هذا فقال : المعنى انتفى عنك الجنون بنعمة ربك.
وقيل : معناه مَا أنْتَ مجنُونٌ والنعمة لربك، كقولهم : سبحانك اللهم وبحمدك، أي : والحمد لله ؛ وقول لبيد :[ الطويل ]
٤٨٠٨ - وأفْرِدْتُ في الدُّنْيَا بفقْدِ عشِيرَتِي***وفَارقَنِي جارٌ بأربدَ نَافِعُ٦
أي وهو أربد، وهذا ليس بتفسير إعراب بل تفسير معنى.

فصل في إعراب الآية


قوله تعالى :﴿ مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾. هذا جواب القسم، وهو نفي.
قال الزجاج٧ :«أنت » هو اسم «مَا » و «مَجْنُون » الخبر، وقوله :﴿ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ﴾ كلام وقع في الوسط، أي : انتفى عنك الجنون بنعمة ربك، كما يقال : أنت بحمد الله عاقل.
روى ابن عباس : أنه صلى الله عليه وسلم غاب عن خديجة إلى حراء، وطلبته، فلم تجده، فإذا به ووجهه متغير بلا غبار، فقالت : ما لك ؟.
فذكر جبريل - عليه السلام - وأنه قال له :﴿ اقرأ باسم رَبِّكَ ﴾[ العلق : ١ ]، فهو أول ما نزل من القرآن، قال : ثم نزل بي إلى قرار الأرض، فتوضأ، وتوضأت، ثم صلى، وصليت معه ركعتين، وقال : هكذا الصلاة - يا محمد - فذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لخديجة، فذهبت خديجة إلى ورقة بن نوفل - وهو ابن عمها - وكان قد خالف دين قومه ودخل في النصرانية، فسألته فقال : أرسلي إليّ محمداً، فأرسلته فقال : هل أمرك جبريل - عليه السلام - أن تدعو أحداً ؟ فقال : لا فقال : والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنك نصراً عزيزاً، ثم مات قبل دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ووقعت تلك الواقعة في ألسنة كفار قريش، فقالوا : إنه مجنون، فأقسم الله تعالى على أنه ليس بمجنون، وهو خمس آياتٍ من أول هذه السورة٨، قال ابن عباسٍ : أول ما نزل قوله تعالى :﴿ سَبِّحِ اسم رَبِّكَ ﴾[ الأعلى : ١ ]، وهذه الآية هي الثانية٩، نقله ابن الخطيب١٠.
وذكر القرطبيُّ١١ : أن المشركين كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : مجنون به شيطان وهو قوله ﴿ يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾ [ الحجر : ٦ ] فأنزل الله تعالى رداً عليهم وتكذيباً لقولهم ﴿ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ ﴾ أي : برحمة ربك، والنعمة هاهنا الرحمة. وقال عطاء وابن عباس : يريد بنعمة ربِّك عليك بالإيمان والنبوة.
قال القرطبي١٢ :«ويحتمل أن النعمة - هاهنا - قسم، تقديره : ما أنت، ونعمة ربك بمجنون لأن الواو والباء من حروف القسم » وقد تقدم.

فصل


قال ابن الخطيب١٣ : اعلم أنه تعالى وصفه - هاهنا - بصفات ثلاث :
الأولى : نفي الجنون عنه ثم قرن بهذه الدعوى ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها، لأن قوله :﴿ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ﴾ يدل على أن نعم اللَّه تعالى ظاهرة في حقه من الفصاحة التامة، والعقل الكامل، والسيرة المرضية، والبراءة من كل عيب، والاتصاف بكل مكرمة، وإذا كانت هذه النعم ظاهرة محسوسة ووجودها ينافي حصول الجنونِ، فالله تعالى نبه على أن هذه الحقيقة جارية مجرى الدلالة اليقينية على كذبهم في قولهم :«إنه مجنُون ».
١ ينظر: الكشاف ٤/٥٨٤..
٢ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٠٢..
٣ ينظر السابق..
٤ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٤٦..
٥ ينظر: الدر المصون ٦/٣٥٠..
٦ البيت للبيد بن ربيعة، ينظر ديوانه (١٦٨)، القرطبي ١٨/١٤٨، والبحر ٨/٣٠٣ والدر المصون ٦/٣٥٠ ورواية الديوان:
وقد كنت في أكناف جار مضنة *** ففارقني جار بأربد نافع..

٧ ينظر معاني القرآن للزجاج ٥/٢٠٤..
٨ ذكره الرازي في "تفسيره" (٣٠/٧٠)..
٩ ينظر المصدر السابق..
١٠ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/٧٠..
١١ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٤٨..
١٢ السابق..
١٣ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/٧٠..
الصفة الثانية : قوله :﴿ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴾ أي : ثواباً على ما تحملت غير منقوص ولا مقطوع منه، يقال : منَّ الشيء إذا ضعف، ويقال : مننت الحبل إذا قطعته، وحبل منين إذا كان غير متين.
قال لبيدٌ :[ الكامل ]
٤٨٠٩ -. . . *** غُبْسٌ كَواسِبُ مَا يُمَنُّ طَعَامُهَا١
أي : لا يقطع، يصف كلاباً ضارية، ونظيره قوله تعالى ﴿ غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾ [ هود : ١٠٨ ]، وقال مجاهد ومقاتل والكلبي :«غَيْرَ مَمْنُونٍ »٢ أي : غير محسوب عليك، قالت المعتزلة٣ : لأنك تستوجبه على [ عملك ]٤، وجوابهم : إن حملهم على هذا يقتضي التكرار، لأن قوله «أجراً » يفيده، وقال الحسنُ : غير مكدر بالمن.
وقال الضحاك : أجراً بغير عمل٥، واختلفوا في هذا الأجرِ على أي شيء حصل ؟ فقيل : معناه إن لك على احتمال هذا الطعن، والقول القبيح أجراً عظيماً دائماً.
وقيل : إن لك في إظهار النبوةِ، والمعجزات في دعاء الخلق إلى الله تعالى، وفي بيان الشرع لهم هذا الأجر الخالص الدائم، فلا يمنعك نسبتهم إياك إلى الجنون، عن الاشتغال بهذا المهم العظيم، فإن لك بسببه المنزلةَ العالية.
١ عجز بيت وصدره:
لمعفر قهد تنازع شلوه ***...
ينظر: ديوانه (٣٠٨)، والخصائص ١/٢٩٧، والقرطبي ١٨/١٤٨، والبحر ٨/٣٠٣، واللسان (قهد)، (منن)، ومحاضرات الراغب ٢/٢٩٤، والحيوان ٣/١٦٢، والرازي ٣٠/٧١، ومجمع البيان ١٠/٧٠٢..

٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٧٩) عن مجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٨٩) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر..
٣ ينظر الفخر الرازي ٣٠/٧١..
٤ في أ: ذلك..
٥ ذكره الماوردي (٦/٦١) والقرطبي (١٨/١٤٨)..
الصفة الثالثة : قوله :﴿ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾.
قال ابن عباس ومجاهدٌ :«على خُلقٍ » على دين عظيمٍ من الأديان، ليس دين أحب إلى الله، ولا أرضى عنده منه١.
وروى مسلم عن عائشة : أن خلقه كان القرآن٢.
وقال علي - رضي الله عنه - : هو أدب القرآن٣.
وقيل : رفقه بأمته، وإكرامه إياهم.
وقال قتادة : هو ما كان يأتمر به من أمر اللَّهِ، وينتهي عنه مما نهى الله عنه٤.
وقيل : إنَّك على طبع كريم.
وقال الماوردي٥ : حقِيقَةُ الخُلقِ في اللُّغةِ ما يأخذُ بِهِ الإنسانُ في نفْسِهِ من الأدبِ يُسَمَّى خُلُقاً، لأنَّه يصير كالخلقة فيه، فأما ما طُبع عليه من الأدبِ فهو الخِيمُ، فيكون الخلق : الطبع المتكلف، والخِيم : الطبع الغريزي.
قال القرطبي٦ :«ما ذكره مسلم٧ في صحيحه عن عائشة أصح الأقوالِ، وسئلت أيضاً عن خلقه - عليه الصلاة والسلام - فقرأت ﴿ قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون ﴾ [ المؤمنون : ١ ] إلى عشر آياتٍ »٨.
قال ابن الخطيب٩ : وهذا إشارة إلى أن نفسه القدسية كانت بالطبع منجذبة إلى عالم الغيبِ وإلى كل ما يتعلق بها، وكانت شديدة النفرة من اللذات البدنية، والسعادات الدنيوية، بالطبع ومقتضى الفطرة، وقالت : مَا كَانَ أحدٌ أحْسنَ خُلُقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحدٌ من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال : لبيك، ولذلك قال الله تعالى ﴿ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ ولم يذكر خلق محمود إلا وكان للنبي الحظ الأوفر.
وقال الجنيد : سمى خلقه عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، بدليل قوله - عليه الصلاة والسلام - :«إنَّ اللَّه بَعَثنِي لأتمِّمَ مكارِمَ الأخْلاق »١٠.

فصل :


قال ابن الخطيب١١ : قوله :﴿ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ كالتفسير لما تقدم من قوله تعالى :﴿ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ﴾ وتعريف لمن رماه بالجنون بأن ذلك كذب وخطأ ؛ لأن الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية كانت ظاهرة منه، وإذا كان موصوفاً بتلك الأخلاق والأفعال، لم يجز إضافة الجنون إليه ؛ لأن أخلاق المجانين سيئة، ولما كانت أخلاقه الحميدة صلى الله عليه وسلم كاملة، لا جرم وصفها الله بأنها عظيمة، ولهذا قال :﴿ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَا مِنَ المتكلفين ﴾[ ص : ٨٦ ] أي : لست مكلفاً فيما يظهر لكم من الأخلاق، لأنه تعالى قال :﴿ أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده ﴾[ الأنعام : ٩٠ ] فهذا الهدي الذي أمر الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالاقتداءِ به ليس هو معرفة الله تعالى ؛ لأن ذلك تقليداً، وهو غير لائق بالرسول صلى الله عليه وسلم، وليس هو الشرائع ؛ لأن شريعته كشرائعهم، فتعين أن يكون المراد منه أمره صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بكل واحد من الأنبياء فيما اختص به من الخلقِ الكريمِ، وكان كل واحد منهم مختصاً بنوع واحدٍ، فلما أمر محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بالكل، فكأنه أمر بمجموع ما كان متفرقاً فيهم، ولما كان ذلك درجة عالية لم تتيسر لأحدٍ من الأنبياء قبله - لا جرم - وصف الله خلقه بأنه عظيم، وكلمة «عَلَى » للاستعلاءِ فدل اللفظ على أنه مستعل على هذه الأخلاقِ، ومستول عليها، وأنه بالنسبة إلى هذه الأخلاق الحميدة كالمولى بالنسبة إلى العبد، وكالأمير بالنسبة إلى المأمور.
وقد ورد أحاديث كثيرةٌ صحيحةٌ في مدح الخلق الحسن، وذم الخلق السيئ.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٧٩) عن ابن عباس ومجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٩٠) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه..
٢ تقدم..
٣ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٩٠) عن عطية العوفي وعزاه إلى ابن المبارك وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في "الدلائل".
وقد أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٨٠)..

٤ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٤٨)..
٥ ينظر النكت والعيوب ٦/٦١..
٦ ينظر مسلم ٢/٥١٢-٥١٣ في صلاة المسافرين (١٣٩-٧٤٦)..
٧ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٤٩..
٨ أخرجه النسائي في "الكبرى" (٦/٤١٢) والحاكم (٢/٣٩٢) عن يزيد بن بابنوس قال: قلنا لعائشة: كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرته.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي..

٩ ينظر الفخر الرازي ٣٠/٧٢..
١٠ أخرجه أحمد (٢/٣٩٨) والبخاري في "الأدب المفرد" (٢٧٣) والحاكم (٢/٦١٣) والبيهقي(١٠/١٩١، ١٩٤) والقضاعي في "مسند الشهاب" (١١٦٥) من طريق القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة إلا أن أحمد قال: "صالح الأخلاق".
ورواه مالك في "الموطأ" (٢/٢١١) بلاغا عن النبي صلى الله عليه وسلم..

١١ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/٧١..
قوله :﴿ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ﴾.
قال ابن عباس : معناه فستعلم ويعلمون يوم القيامة.
وقيل : فسترى وترون يوم القيامة حتى يتبين الحق والباطل.
وقيل :﴿ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ﴾ في الدنيا كيف تكون عاقبة أمرك وأمرهم، فإنك تصير معظماً في القلوب، ويصيرون ذليلين ملعونين، ويستولى عليهم بالقتل والنهب.
قال مقاتل بن حيان : هذا وعيد العذاب ببدر.
قوله :﴿ بِأَيِّكُمُ المفتون ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن الباء مزيدة في المبتدأ، والتقدير : أيكم المفتون، فزيدت كزيادتها في نحو «بحسبك زيد »، وإلى هذا ذهب قتادة وأبو عبيدة معمر بن المثنى.
إلا أنه ضعيف من حيث إن الباء لا تزاد في المبتدأ إلا في «حَسْبُك » فقط.
الثاني : أن الباء بمعنى «فِي » فهي ظرفية، كقولك :«زيْدٌ بالبصرةِ » أي : فيها، والمعنى : في أي فرقة، وطائفة منكم المفتون : أي المجنون في فرقة الإسلام أم في فرقة الكفار ؟ وإليه ذهب مجاهد والفراء١.
ويؤيده قراءة٢ ابن أبي عبلة :«فِي أيكمُ ».
والثالث : أنه على حذف مضاف، أي «بأيكم فتن المفتون » فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وإليه ذهب الأخفش٣. وتكون الباء سببية.
والرابع : أن المفتون مصدر جاء على «مفعول » ك «المعقول » و «الميسور »، والتقدير :«بأيكمُ المفْتُونُ ».
فعلى القول الأول يكون الكلام تاماً عند قوله :«ويُبْصرُونَ »، ويبتدأ بقوله «بأيكمُ المفتُونُ ».
وعلى الأوجه بعده تكون الباء متعلقة بما قبلها، ولا يوقف على «يُبْصِرُونَ ».
وعلى الأوجه الأول الثلاثة يكون «المَفْتُونُ » اسم مفعول على أصله، وعلى الوجه الرابع يكون مصدراً، وينبغي أن يقال : إن الكلام إنما يتم على قوله :«المَفْتُونُ » سواء قيل : بأن الباء مزيدة أم لا، لأن قوله :﴿ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ﴾ معلق بالاستفهام بعده، لأنه فعل بمعنى الرؤية البصرية، تعلق على الصحيحِ، بدليل قولهم : أما ترى أن برق هاهنا، فكذلك الإبصار، لأنه هو الرؤية بالعين، فعلى القول بزيادة الباء، تكون الجملة الاستفهامية في محل نصب ؛ لأنها واقعة موضع مفعول الإبصار.

فصل :


قال القرطبيُّ٤ :﴿ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ﴾ بأيكم المفتون، الذي فتن بالجنون، كقوله تعالى :﴿ تَنبُتُ بالدهن ﴾[ المؤمنون : ٢٠ ] و﴿ يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله ﴾ [ الإنسان : ٦ ]، وهو قول قتادة وأبي عبيدة٥ كما تقدم وقيل : الباء ليست مزيدة، والمعنى «بأيكم المفتون » أي : الفتنة، وهو مصدر على وزن المفعول، ويكون المعنى : المفتون، كقولهم : ما لفلان مجلود ولا معقول، أي : عقل ولا جلادة، قاله الحسن والضحاك وابن عباس.
قال الراعي :[ الكامل ]
٤٨١٠ - حَتَّى إذَا لَمْ يَتركُوا لِعظامِهِ*** لَحْماً ولا لفُؤادِهِ مَعْقُولا٦
أي عقلاً، والمفتون المجنون الذي فتنه الشيطانُ.
وقيل : المفتون المعذب، من قول العرب فتنت الذهب بالنار، إذا حميته، قال تعالى ﴿ يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ ﴾[ الذاريات : ١٣ ] أي : يعذبون، وقيل : المفتون : الشيطان ؛ لأنه مفتون في دينه، وكانوا يقولون : إن به شيطاناً، وعنوا بالمجنون هذا، فقال الله تعالى لهم : فسيعلمون غداً بأيهم [ المجنون ]٧ أي : الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل.
١ ينظر: معاني القرآن ٣/١٧٣..
٢ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٠٣، والدر المصون ٦/٣٥١..
٣ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٠٣..
٤ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٥٠..
٥ زاد في أ: والضحاك..
٦ ينظر: القرطبي (١٨/١٥٠)..
٧ في أ: المفتون..
قوله :﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ﴾ أي : إن الله هو العالم بمن حاد عن دينه ﴿ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين ﴾ أي : الذين هم على الهدى، فيجازي كلاًّ غداً.
قوله: ﴿فَلاَ تُطِعِ المكذبين﴾ نهاه عن ممايلة المشركين وكانوا يدعونه إلى أن يكف
272
عنهم ليكفوا عنه، فبين الله تعالى أن ممايلتهم كفر، وقال تعالى: ﴿وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً﴾ [الإسراء: ٧٤] وقيل: فلا تطع المكذبين فيما دعوك إليه من دينهم الخبيث، نزلت في مشركي قريش حين دعوه إلى دين آبائه.
قوله: ﴿وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾.
المشهور في قراءة الناس ومصاحفهم: «فَيُدهِنُونَ» بثبوت نون الرفع وفيه وجهان: أحدهما: أنه عطف على «تُدهِنُ» فيكون داخلاً في حيز «لَوْ».
والثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: فهم يدهنون.
وقال الزمخشريُّ: «فإن قلت: لم رفع» فَيُدْهنُونَ «ولم ينصب بإضمار» أن «وهو جواب التمني؟.
قلت: قد عدل به إلى طريق آخر وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف، أي فهم يدهنون، كقوله: ﴿فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً﴾ [الجن: ١٣] على معنى ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ، أو ودوا إدهانك، فهم الآن يدهنون لطمعهم في إدهانك قال سيبويه: وزعم هارون أنها في بعض المصاحف: ودُّوا لو تُدهِنُ فيُدْهِنُوا»
انتهى.
وفي نصبه على ما وجد في بعض المصاحف وجهان:
أحدهما: أنه عطف على التوهم، كأنه توهم أن نطق ب «أنْ» فنصب الفعل على هذا التوهم وهذا إنما يجيء على القول بمصدرية «لَوْ»، وفيه خلاف تقدم تحقيقه في «البقرة».
والثاني: أنه نُصِبَ على جواب التمني المفهوم من «ودّ».
والظاهر أن «لَوْ» حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وأن جوابها محذوف ومفعول الودادة أيضاً محذوف، تقديره: ودوا إدهانك، فحذف إدهانك، لدلالة «لَو» وما بعدها عليه وتقدير الجواب: لسروا بذلك.

فصل في معنى الآية


قال ابن عباس وعطية والضحاك والسديُّ: ودوا لو تكفر فيتمادون على كفرهم، وعن ابن عباس أيضاً: ودوا لو ترخص لهم فيرخصون لك.
وقال الفراء والكلبي: لو تلين فيلينون لك. والإدهان: التليين لمن لا ينبغي له التليين. قاله الفراء والليث.
273
وقال مجاهدٌ: ودوا لو ركنت إليهم وتركت الحق فيمالئونك.
وقال الربيع بن أنس: ودوا لو تكذب، فيكذبون.
وقال قتادة: ودوا لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبوا.
وقال الحسنُ: ودوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم، وعنه أيضاً: ودوا لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم.
وقال زيد بن أسلم: ودّوا لو تنافق وترائي، فينافقون ويراءون.
وقيل: ودُّوا لو تضعف فيضعفون. قاله أبو جعفر.
وقال القتيبي: ودوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم، وعنه: طلبوا منه أن يعبد آلهتهم مدة ويعبدوا إلهه مدة.
وهذان القولان الأخيران هما المتقدمان في معنى ﴿لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ [النساء: ٨٩] ومعنى: لو تصانعهم وقال ابن العربي: ذكر المفسرون فيها نحو عشرة أقوالٍ، كلها دعاوى على اللغة والمعنى، وأمثلها قولهم «ودُّوا لو تكذبُ فيكذبون، ودوا لو تكفر فيكفرون».
وقال القرطبيُّ: كلها إن شاء الله تعالى صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى، فإن الإدهان اللين والمصانعة.
وقيل: المقاربة في الكلام والتليين في القول، وقال المفضل: النفاق وترك المناصحةِ، فهي على هذا الوجه مذمومة، وعلى الوجه الأول غير مذمومة وكل شيء منها لم يكن.
وقال المبردُ: أدهن في دينه، وداهن في أمره أي: خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر.
وقال قوم: داهنت بمعنى واريت، وأدهنت بمعنى غششت، قاله الجوهري، وقوله «
274
فيُدْهِنُونَ» ساقه على العطف، ولو جاء به جواباً للنهي لقال: «فيُدْهِنُوا»، وإنما أراد أنهم تمنوا لو فعلت فيفعلون مثل فعلك عطفاً لا جزاء عليه ولا مكافأة، وإنما هو تمثيل وتنظير.
قوله: ﴿وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ﴾.
قال السديُّ والشعبي وابن إسحاق: يعني الأخنس بن شريق.
وقال مجاهدٌ: يعني الأسود بن عبد يغوث، أو عبد الرحمن بن الأسود.
وقال مقاتل: يعني الوليد بن المغيرة عرض على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مالاً، وحلف أنه يعطيه إن رجع عن دينه.
وقال ابن عباس: هو أبو جهل بن هشام.
والحلاف: الكثير الحلف. و «المَهين» قال مجاهد: هو الضعيف القلب.
وقال ابن عباس: هو الكذاب، والكذاب مهين.
وقال الحسن وقتادة: هو المكثار في الشر.
وقال الكلبي: المهين: الفاجر.
وقال عبد الله: هو الحقير.
وقال ابن بحر: هو الذليل.
وقال الرماني: هو الوضيع لإكثاره من القبيح.
وهو «فعيل» من المهانة بمعنى القلة، وهي هنا القلة في الرأي والتمييز، أو هو «فعيل» بمعنى «مُفْعَل» والمعنى «مُهَان».
قوله ﴿هَمَّازٍ﴾، الهماز: مثال مبالغة من الهمز، وهو في اللغة الضرب طعناً باليد والعصا، واستعير للمغتاب الذي يغتاب الناس كأنه يضربهم بإيذائه.
275
قال ابن زيد: الهمَّاز: الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللمّاز: باللسان.
وقيل الهمَّاز الذي يذكر الناس في وجوههم، واللمَّازُ: الذي يذكرهم في مغيبهم.
وقال مقاتل بالعكس، وقال مرة: هما سواء، ونحوه عن ابن عباس وقتادة.
قال الشاعر: [البسيط]
٤٨١١ - تُدْلِي بودٍّ إذَا لاقَيْتنِي كَذِباً وإنْ تغَيَّبْتُ كُنْتَ الهَامِزَ اللُّمَزَهْ
والنميم: قيل: هو مصدر النميمة.
وقيل: هو جمعها أي اسم جنس ك «تمرةٍ وتمرٍ»، وهو نقل الكلام الذي يسوء سامعه، ويحرش بين الناس.
وقال الزمخشري: والنميم والنميمة: السعاية، وأنشدني بعض العرب: [الرجز]
٤٨١٢ - تَشَبَّبِي تَشَبُّبَ النَّميمهْ تَمْشِي بِهَا زَهْراً إلى تَمِيْمَه
والمشاء: مثال مبالغة من المشي، أي: يكثر السعاية بين الناس ليفسد بينهم، يقال: نَمَّ يَنِمُّ نميماً ونَمِيمَة، أي: يمشي ويسعى بالفسادِ.
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا يَدخُلُ الجَنَّة نَمَّامٌ».
والعتل: الذي يعتل الناس، أي: يحملهم، ويجرهم إلى ما يكرهون من حبس وضربٍ ومنه: ﴿خُذُوهُ فاعتلوه﴾ [الدخان: ٤٧].
وقيل: العتل: الشديد الخصومة.
وقال أبو عبيدة: هو الفاحش اللئيم.
وأنشد:
٤٨١٣ - بِعُتُلٍّ مِنَ الرِّجالِ زَنِيمٍ غيْرِ ذِي نَجْدةٍ وغَيْرِ كَريمِ
وقيل: الغليظ الجافي.
ويقال: عَتَلْتُه وعَتنتُهُ باللام والنون. نقله يعقوب.
وقيل: العتل: الجافي الشديد في كفره.
276
وقال الكلبيُّ والفراء: هو الشديد الخصومة بالباطل.
قال الجوهري: ويقال: عَتَلْتُ الرجل أعْتِلُهُ وأعْتُلُهُ إذا جذبته جذباً عنيفاً. ورجل مِعْتَل - بالكسر -، والعَتَل أيضاً: الرمح الغليظ، ورجل عَتِلٌ - بالكسر - بين العتل، أي سريع إلى الشَّر ويقال: لا أنعتل معك، أي: لا أبرح مكاني.
وقال عبيد بن عمير: العتل: الأكول الشروب القوي الشديد يوضع في الميزان فلا يزن شعيرة، يدفع الملك من أولئك في جهنم بالدفعة الواحدة سبعين ألفاً.
والزنيم: الدعي بنسب إلى قوم ليس منهم.
قال حسانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: [الطويل]
٤٨١٤ - أ - زَنِيمٌ تَداعَاهُ الرِّجالُ زِيادَةً كَمَا زيدَ في عَرْضِ الأديمِ الأكَارعُ
وقال أيضاً: [الوافر]
٤٨١٤ - ب - زَنِيمُ ليسَ يُعْرَفُ مَنْ أبُوهُ بَغِيُّ الأمِّ ذُو حسب لَئِيمُ
وقال أيضاً: [الطويل]
٤٨١٥ - وأنْتَ زَنِيمٌ نيطَ في آلِ هَاشمٍ كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكبِ القَدَحُ الفَرْد
وأصله: من الزنمةِ، وهي ما بقي من جلد الماعز معلقاً في حلقها يترك عند القطع، فاستعير للدعي، لأنه كالمعلق بما ليس منه.

فصل فيمن هو الحلاف المهين


تقدم القول في «الحلاف المَهين»، عن الشعبي والسديِّ وابن إسحاقَ: أنه الأخنس بن شريق، وعلى قول غيرهم: أنه الأسود بن عبد يغوث، أو عبد الرحمن بن الأسود، أو الوليد بن المغيرة، أو أبو جهل بن هشام، وتقدم تفسير «الهَمَّاز والمشَّاء بنميمٍ».
وأما قوله «منَّاعٍ للخَيْرِ» أي: للمال أن ينفق في وجوهه.
وقال ابن عباس: يمنع عن الإسلام ولده وعشيرته.
قيل: كان للوليد بن المغيرة عشرةٌ من الولد، وكان يقول لهم ولأقاربه: من تبع منكم محمداً منعته رفدي.
وقال الحسنُ: يقول لهم: من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبداً.
وقوله «مُعْتَدٍ» أي: على الناس في الظلم، متجاوز للحد، صاحب باطل، وقوله «
277
أثيمٍ» أي: ذا إثمٍ، ومعناه «أثُوم»، فهو «فعيل» بمعنى «فَعُول».
قال البغوي: «أثيم فاجر». وأما العتل فتقدم الكلام عليه في اللغة.
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «ألاْ أخْبرُكمْ بأهْلِ الجنَّةِ؟ قالوا: بَلَى، قال: كُلُّ ضعيفٍ مُتضعَّفٍّ، لَوْ أقسمَ على اللَّهِ لأبرَّهُ، ألا أخْبركُمْ بأَهْلِ النَّارِ؟ قالوا: بَلَى، قال: كُل عُتُلٍّ جواظٍ مستكبرٍ»
وفي رواية: «كُلُّ جوَّاظٍ زَنيمٍ مُستَكْبرٍ».
«الجوَّاظ» الجموع المنوع.
وقيل: الكثير اللحم، المختال في مشيته.
وقيل: القصير البطين.
وذكر الماورديُّ عن ابن مسعود أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا يَدخُل الجنَّة جوَّاظ ولا جَعْظَرِي ولا العُتلُ الزَّنِيمُ».
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الجوَّاظ: الذي جمع ومنع، والجعظري: الفظ الغليظ المتكبر».
قال ابن الأثير: «وقيل: هو الذي ينتفخ بما ليس عنده، وفيه قصر».
قال القرطبيُّ: وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «الشَّدِيدُ الخُلقِ، الرَّحيبُ الجوْفِ، المصحُّ الأكولُ، الشَّروبُ، الواجدُ للطعامِ، الظَّلُومُ للنَّاسِ».
وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾ قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «تَبْكِي السَّماءُ على رجُلٍ أصحَّ اللَّهُ جِسْمهَ ورحَبَ جوفه، وأعطاهُ من الدُّنْيَا بعضاً، فكانَ للنَّاسِ ظلُوماً، فذلك العُتُلَّ الزَّنِيمُ».
278
وقوله «بَعْدَ ذلِكَ» أي مع ذلك، يريد ما وصفناه به «زنيم» وتقدم معنى الزنيم. وعن ابن عباس: أنه رجل من قريش كانت له زنمة كزنمة الشاة.
وروى عنه ابن جبير: أنه الذي يعرف بالشر، كما تعرف الشاة بزنمتها.
وقال عكرمة: هو الذي يعرف بلؤمه، كما تعرف الشاة بزنمتها.
وقيل: إنه الذي يعرف بالأبنة، وهو مروي عن ابن عباس، وعنه: إنه الظلوم.
وقال مجاهدٌ: «زَنِيمٍ» كانت له ستة أصابع في يده في كل إبهام له أصبع زائدة.
وعنه أيضاً وسعيد بن المسيب وعكرمة: هو ولد الزنا الملحق في النسب بالقوم.
وكان الوليد دعياً في قريش ليس من سنخهم، ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده.
قال الشاعر: [الوافر]
٤٨١٦ - زَنِيمٌ ليْسَ يُعرفُ من أبُوهُ بَغِيُّ الأمِّ ذُو حسبٍ لَئِيم
قيل: بغتْ أمه ولم يعرف حتى نزلت الآية، وهذا لأن الغالب أن المنطقة إذا خبثت خبث الولدُ، كا روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا يَدْخلُ الجنَّة ولدُ زِنَا، ولا ولَدُ وَلدِهِ».
وقال عبد الله بن عمر: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّ أوْلادَ الزِّنَا يُحشَرُونَ يومَ القِيامةِ في صُورةِ القِرَدةِ والخَنازِيرِ».
وقالت ميمونة: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «لا تَزالُ أمَّتِي بخيْرٍ، مَا لَمْ يَفْشُ فِيهِمْ ولدُ الزِّنَا، فإذا فَشَى فيهِمْ ولدُ الزِّنَا أوشَكَ أنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بعذابٍ».
279
وقال عكرمة: إذا كثر ولد الزنا قحط المطر.
قال القرطبي: ومعظم المفسرين على أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وكان يطعم أهل منى حيساً ثلاثة أيام، وينادي ألا لا يوقدن أحدكم تحت بُرمةٍ، ألا لا يدخلن أحد بكُراع، ألا ومن أراد الحيس فليأت الوليد بن المغيرة، وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفاً، أو أكثر، ولا يعطي المسكين درهماً واحداً؛ فقيل: «منَّاعٍ للخَيرِ»، وفيه نزل:
﴿وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة﴾ [فصلت: ٦، ٧].
وقال محمد بن إسحاق: نزلت في الأخنس بن شريق؛ لأنه حليف ملحق في بني زهرة، فلذلك سمي زنيماً. وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: في هذه الآية نُعت، فلم يعرف، حتى قتل زنيم فعرف، وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها.
قال ابن قتيبة: لا نعلم أن الله وصف أحداً، ولا ذكر من عيوبه ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة وألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة.

فصل


قرأ الحسن: «عُتُلٌّ» بالرفع، أي هو عتل.
وحقه أن يقرأ ما بعده بالرفع أيضاً، لأنهم قالوا في القطع: إنه يبدأ بالإتباع، ثم بالقطع من غير عكس، وقوله: «بَعْدَ ذلِكَ» أي: بعدما وصفناه به.
قال ابن عطية: فهذا الترتيب إنما هو في قول الواصفِ لا في حصول تلك الصفات في الموصوف، وإلا فكونه عتلاًّ هو قبل كونه صاحب خير يمنعه.
وقال الزمخشريُّ: «بَعْدَ ذَلِكَ» أي: بعدما عد له من المثالب، والنقائصِ، ثم قال: جعل جفاءه ودعوته أشد معايبه، لأنه إذا غلظ وجفا طبعه قسا قلبُه واجترأ على كل معصية.
ونظير قوله: ﴿بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾ ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين﴾ [البلد: ١٧].
قوله: ﴿أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ﴾.
العامة: على فتح همزة «أن» ثم اختلفوا بعد، فقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر
280
وأضاف القرطبي معهم أبا جعفر وأبا حيوة والمغيرة والأعرج: بالاستفهام.
وباقي السبعة بالخبر.
والقارئون بالاستفهام على أصولهم من تحقيق، وتسهيل، وإدخال ألف بين الهمزتين وعدمه، ولا بد من بيان ذلك فنقول: قرأ حمزة وأبو بكر وذكر القرطبي معهم المفضل: بتحقيق الهمزتين، وعدم إدخال ألف بينهما، وهذا هو أصلهما.
وقرأ ابن ذكوان: بتسهيل الثانية، وعدم إدخال ألف.
وهشام بالتسهيل المذكور إلا أنه أدخل ألفاً بينهما.
فقد خالف كل منهما أصله، أما ابن ذكوان فإنه يحقق الهمزتين فقد سهل الثانية هنا، وأما هشام فإن أصله أن يجري في الثانية من هذا النحو وجهين من التحقيق كرفيقه، والتسهيل وقد التزم التسهيل هنا، وأما إدخال الألف فإنه فيه على أصله، كما تقدم أول البقرة.
وقرأ نافع في رواية اليزيدي عنه: «إن» بكسر الهمزة على الشرط.
فأما قراءة «أنْ» - بالفتح - على الخبر، ففيه أربعة أوجه:
أحدها: أنها «أن» المصدرية في موضع المفعول به مجرورة بلام مقدرة، واللام متعلقة بفعل النهي، أي: ولا تطع من هذه صفاته، لأن كان متمولاً وصاحب بنين.
الثاني: أنها متعلقة ب «عُتُل» وإن كان قد وصف.
قاله الفارسي.
وهذا لا يجوز عند البصريين، وكأن الفارسي اغتفره في الجار.
الثالث: أن يتعلق ب «زَنِيمٍ»، ولا سيما عند من يفسره بقبيح الأفعال.
الرابع: أن يتعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده من الجملة الشرطية تقديره لكونه متمولاً، مستظهراً بالبنين كذب بآياتنا، قاله الزمخشريُّ.
قال: ولا يعمل فيه، قال: الذي هو جواب «إذا» لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله، ولكن ما دلت عليه الجملةُ من معنى التكذيب.
وقال مكيٌّ، وتبعه أبو البقاء: «لا يجوز أن يكون العامل» تُتْلَى «لأن ما بعد»
281
إذَا «لا يعمل فيما قبلها، لأن» إذَا «تضاف إلى الجمل، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف» انتهى.
وهذا يوهم أن المانع من ذلك ما ذكره فقط، والمانع أمرٌ معنوي، حتى لو فقد هذا المانع الذي ذكره لامتنع من جهة المعنى، وهو لا يصلح أن يعلل تلاوة آياتِ اللَّهِ عليه بكونه ذا مالٍ وبنين.
وأما قراءة «آنْ كان» على الاستفهام، ففيها وجهان:
أحدهما: أن يتعلق بمقدر يدل عليه ما قبله، أي: أتطيعه لأن كان، أو الكون طواعية لأن كان.
والثاني: أن يتعلق بمقدر يدل عليه ما بعده، أي: لأن كان كذب وجحد.
وأما قراءة «إنْ كَانَ» - بالكسر - فعلى الشرط، وجوابه مقدر، تقديره: إن كان كذا يكفر ويجحد، دل عليه ما بعده.
وقال الزمخشريُّ: والشرط للمخاطب، أي: لا تطع كل حلاف شارطاً يساره، لأنه إن أطاع الكافر لغنائه فكأنه اشترط في الطاعة الغنى، ونحو صرف الشرط للمخاطب صرف الترجي إليه في قوله ﴿لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى﴾ [طه: ٤٤].
وجعله أبو حيَّان من دخول شرط على شرط، يعني «إن، وإذا» إلا أنه قال: ليسا من الشروط المترتبة الوقوع. وجعل نظير ذلك قول ابن دُريْدٍ: [الرجز]
٤٨١٧ - فإن عَثَرتُ بعْدها إنْ وألَتْ نَفْسِيَ مِنْ هَاتَا فَقُولاَ لاَ لَعَا
قال: «لأن الحامل على تدبر آياتِ اللَّهِ كونه ذا مالِ وبنينَ، وهو مشغول القلب بذلك غافل عن النظر قد استولت عليه الدُّنيا وأنظرته».
وقرأ الحسن بن أبزى: بالاستفهام، وهو استفهام تقريعٍ وتوبيخٍ، على قوله حين تليت عليه آيات الله: ﴿أَسَاطِيرُ الأولين﴾.

فصل في توجيه قراءة الآية


قال القرطبيُّ: فمن قرأ بهمزة مُطوَّلةٍ، أو بهمزتين محققتين، فهو استفهام والمراد به التوبيخ، ويحسن له أن يقف على «زَنِيمٍ»، ويبتدىء «أنْ كَانَ» على معنى: لأن كان ذا
282
مال وبنين تطيعه، ويجوز أن يكون التقدير: لأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر، ودل عليه ما تقدم من الكلامِ، فصار كالمذكور بعد الاستفهام، ومن قرأ «أن كَانَ» بغير استفهام، فهو مفعول من أجله، والعامل فيه فعل مضمر والتقدير: يكفر لأن كان ذا مال وبنين، ودل على هذا الفعل: ﴿إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين﴾ ولا يعمل في «أن» :«تُتْلَى» ولا «قَالَ»، لأن ما بعد «إذَا» لا يعمل فيما قبلها؛ لأن «إذَا» تضاف إلى الجمل التي بعدها، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف و «قال» جواب الجزاء، ولا يعمل فيما قبل الجزاء، إذ حكم العامل أن يكون قبل المعمول فيه، وحكم الجواب أن يكون بعد الشرط، فيكون مقدماً مؤخراً في حالة واحدةٍ، ويجوز أن يكون المعنى: لا تطعه لأن كان ذا يسار وعدد.
قال ابن الأنباريُّ: ومن قرأ بلا استفهام لم يحسن أن يقف على «زَنيمٍ» لأن المعنى: لأن كان ذا مالٍ كان، ف «أنْ» متعلقة بما قبلها.
وقال غيره: يجوز أن يتعلق بقوله «مشَّاءٍ بنمِيمٍ»، والتقدير: يمشي بنميم، لأن كان ذا مال وبنين، وأجاز أبو علي أن يتعلق ب «عُتُلٍّ» ومعنى «أسَاطيرُ الأوَّليْنَ» أباطيلهم، وتُرهاتُهُم.
قوله: «سَنَسِمُهُ». أي: نجعل له سمة، أي: علامة يعرف بها.
قال جرير: [الكامل]
٤٨١٨ - لمَّا وضَعْتُ عَلى الفَرَزْدَقِ مِيسَمِي وعَلَى البَعيثِ جَدَعْتُ أنْفَ الأخْطَلِ
والخرطوم: الأنف، وهو هنا عبارة عن الوجه كله من التعبير عن الكل بالجزء؛ لأنه أظهر ما فيه وأعلاه، والخرطوم أيضاً: الخمر، وكأنه استعاره لها لأن الشنتمري قال: هي الخمر أول ما يخرج من الدَّن؛ فجعلت كالأنف لأنه أول ما يبدو من الوجه فليست الخرطومُ الوجه مطلقاً، ومن مجيء الخرطوم بمعنى الخمر، قول علقمة بن عبدة: [البسيط]
٤٨١٩ - قَدْ أشْهَدَ الشَّرْبَ فِيهِمْ مِزْهَرٌ رَنِمٌ والقَوْمُ تَصْرعُهُمْ صَهْبَاءُ خرْطُومُ
وأنشد نضر بن شميل: [البسيط]
283

فصل في تفسير «سنسمه»


قال ابن عباس: «سَنَسِمُهُ» سنحطمه بالسَّيفِ، قال: وقد حطم الذي نزلت فيه يوم بدرِ بالسيف، فلم يزل محطوماً إلى أن مات.
وقال قتادةُ: سنسمهُ يوم القيامة على أنفه سِمَةً يعرفُ بها، يقال: وسمه وسماً وسمة إذا أثرت فيه بسمة وكيّ.
قال الضحاك: سنكويه على وجهه، وقد قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران: ١٠٦] فهي علامة ظاهرة، وقال تعالى: ﴿وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً﴾ [طه: ١٠٢] وهذه علامة أخرى ظاهرة. وأفادت هذه الآية علامة ثالثة، وهي الوسم على الأنف بالنار، وهذا كقوله: ﴿يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ﴾ [الرحمن: ٤١].
قاله الكلبي وغيره وقال أبو العالية ومجاهدٌ: ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم﴾ أي على أنفه، ويسودُّ وجهه في الآخرة، فعرف بسواد وجهه.
قال القرطبيُّ: «والخرطوم: الأنف من الإنسان، ومن السباع موضع الشفة، وخراطيم القوم: سادتهم».
قال الفراء: وإن كان الخرطومُ قد خُصَّ بالسِّمة فإنَّهُ في الوجه لأن بعض الشيء يعبر به عن الكل.
وقال الطبريُّ: نبين أمره تبياناً واضحاً، فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السِّمةُ على الخراطيم.
وقال: المعنى: سنلحق به عاراً وسبة حتى يكون كمن وسم على أنفه.
قال القتيبي: تقول العرب للرجل يُسَبُّ سبة سوءٍ قبيحة باقية قد وسم ميسم سوء، أي: ألصق به عار لا يفارقه، كما أن السمة لا يمحى أثرها.
وهذا كلهُ نزل في الوليد بن المغيرة، ولا شك أنَّ المبالغة العظيمة في ذمه بقيت على وجه الأرض الدهر، ولا يعلم أن اللَّه تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغ منه، فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة كالوسم على الخرطوم.
284
وقيل: ما ابتلاه اللَّهُ به في الدنيا في نفسه؛ وأهله وماله من سوء، وذل وصغار، قاله ابن بحر.
وقال النضر بن شميل: المعنى سنحده على شرب الخمر، والخرطوم: الخمر، وجمعه: خراطيم، وأنشد البيت المتقدم.
قال ابن الخطيب: «وهذا تعسفٌ».
285
قوله :﴿ وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ﴾.
المشهور في قراءة الناس ومصاحفهم :«فَيُدهِنُونَ » بثبوت نون الرفع وفيه وجهان : أحدهما : أنه عطف على «تُدهِنُ » فيكون داخلاً في حيز «لَوْ ».
والثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر، أي : فهم يدهنون.
وقال الزمخشريُّ١ :«فإن قلت : لم رفع " فَيُدْهنُونَ " ولم ينصب بإضمار " أن " وهو جواب التمني ؟.
قلت : قد عدل به إلى طريق آخر وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف، أي فهم يدهنون، كقوله :﴿ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً ﴾[ الجن : ١٣ ] على معنى ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ، أو ودوا إدهانك، فهم الآن يدهنون لطمعهم في إدهانك، قال سيبويه٢ : وزعم هارون أنها في بعض المصاحف : ودُّوا لو تُدهِنُ فيُدْهِنُوا » انتهى.
وفي نصبه على ما وجد في بعض المصاحف وجهان :
أحدهما : أنه عطف على التوهم، كأنه توهم أن نطق ب «أنْ » فنصب الفعل على هذا التوهم وهذا إنما يجيء على القول بمصدرية «لَوْ »، وفيه خلاف تقدم تحقيقه في «البقرة »٣.
والثاني : أنه نُصِبَ على جواب التمني المفهوم من «ودّ ».
والظاهر أن «لَوْ » حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وأن جوابها محذوف، ومفعول الودادة أيضاً محذوف، تقديره : ودوا إدهانك، فحذف إدهانك، لدلالة «لَو » وما بعدها عليه، وتقدير الجواب : لسروا بذلك.

فصل في معنى الآية :


قال ابن عباس وعطية والضحاك والسديُّ : ودوا لو تكفر فيتمادون على كفرهم٤، وعن ابن عباس أيضاً : ودوا لو ترخص لهم فيرخصون لك٥.
وقال الفراء والكلبي : لو تلين فيلينون لك. والإدهان : التليين لمن لا ينبغي له التليين. قاله الفراء٦ والليث.
وقال مجاهدٌ : ودوا لو ركنت إليهم وتركت الحق فيمالئونك٧.
وقال الربيع بن أنس : ودوا لو تكذب، فيكذبون٨.
وقال قتادة : ودوا لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبوا٩.
وقال الحسنُ : ودوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم، وعنه أيضاً : ودوا لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم١٠.
وقال زيد بن أسلم : ودّوا لو تنافق وترائي، فينافقون ويراءون١١.
وقيل : ودُّوا لو تضعف فيضعفون. قاله أبو جعفر١٢ ١٣.
وقال القتيبي : ودوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم، وعنه : طلبوا منه أن يعبد آلهتهم مدة ويعبدوا إلهه مدة.
وهذان القولان الأخيران هما المتقدمان في معنى ﴿ لَوْ تَكْفُرُونَ ﴾[ النساء : ٨٩ ] ومعنى : لو تصانعهم وقال ابن العربي١٤ : ذكر المفسرون فيها نحو عشرة أقوالٍ، كلها دعاوى على اللغة والمعنى، وأمثلها قولهم «ودُّوا لو تكذبُ فيكذبون، ودوا لو تكفر فيكفرون ».
وقال القرطبيُّ١٥ : كلها إن شاء الله تعالى صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى، فإن الإدهان اللين والمصانعة.
وقيل : مجاملة العدو وممايلته.
وقيل : المقاربة في الكلام والتليين في القول، وقال المفضل : النفاق وترك المناصحةِ، فهي على هذا الوجه مذمومة، وعلى الوجه الأول غير مذمومة، وكل شيء منها لم يكن.
وقال المبردُ : أدهن في دينه، وداهن في أمره، أي : خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر.
وقال قوم : داهنت بمعنى واريت، وأدهنت بمعنى غششت، قاله الجوهري، وقوله «فيُدْهِنُونَ » ساقه على العطف، ولو جاء به جواباً للنهي لقال :«فيُدْهِنُوا »، وإنما أراد أنهم تمنوا لو فعلت فيفعلون مثل فعلك، عطفاً لا جزاء عليه ولا مكافأة، وإنما هو تمثيل وتنظير.
١ ينظر: الكشاف ٤/٥٨٦..
٢ ينظر: الكتاب ١/٤٢٢..
٣ آية (٢٠)..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٨٢) عن ابن عباس والضحاك..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٨٢) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٩١) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم..
٦ ينظر: معاني القرآن للفراء ٣/١٧٣..
٧ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٨٢) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٩١) عن مجاهد وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر..
٨ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٥١)..
٩ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٨٢) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٩١) وعزاه إلى عبد بن حميد..
١٠ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٥١)..
١١ ينظر المصدر السابق..
١٢ ينظر الطبري ١٢/١٨٢..
١٣ ينظر القرطبي (١٨/١٥١)..
١٤ ينظر أحكام القرآن (٤/١٨٥٥)..
١٥ ينظر الجامع لأحكام القرآن (١٨/١٥١)..
قوله :﴿ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ﴾.
قال السديُّ والشعبي وابن إسحاق : يعني الأخنس بن شريق١.
وقال مجاهدٌ : يعني الأسود بن عبد يغوث، أو عبد الرحمن بن الأسود٢.
وقال مقاتل : يعني الوليد بن المغيرة عرض على النبي صلى الله عليه وسلم مالاً، وحلف أنه يعطيه إن رجع عن دينه٣.
وقال ابن عباس : هو أبو جهل بن هشام٤.
والحلاف : الكثير الحلف. و «المَهين » قال مجاهد : هو الضعيف القلب٥.
وقال ابن عباس : هو الكذاب، والكذاب مهين٦.
وقال الحسن وقتادة : هو المكثار في الشر٧.
وقال الكلبي : المهين : الفاجر٨.
وقال عبد الله : هو الحقير٩.
وقال ابن بحر : هو الذليل.
وقال الرماني : هو الوضيع لإكثاره من القبيح.
وهو «فعيل » من المهانة بمعنى القلة، وهي هنا القلة في الرأي والتمييز، أو هو «فعيل » بمعنى «مُفْعَل » والمعنى «مُهَان ».
١ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٩١) عن الشعبي وعزاه إلى عبد بن حميد. وذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/٦٣) والقرطبي (١٨/١٥١)..
٢ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/٦٣) والقرطبي (١٨/١٥١) عن مجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٩١) عن ابن عباس وعزاه إلى ابن مردويه..
٣ ذكره الماوردي (٦/٦٣) والقرطبي (١٨/١٥١)..
٤ ينظر تفسير القرطبي (١٨/١٥١)..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٨٣) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٩٢) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٨٣)..
٧ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٨٣) عن قتادة والحسن وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٩٢) عن قتادة وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر..
٨ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٥١) عن الكلبي..
٩ ينظر المصدر السابق..
قوله ﴿ هَمَّازٍ ﴾، الهماز : مثال مبالغة من الهمز، وهو في اللغة الضرب طعناً باليد والعصا، واستعير للمغتاب الذي يغتاب الناس كأنه يضربهم بإيذائه.
قال ابن زيد : الهمَّاز : الذي يهمز الناس بيده ويضربهم١، واللمّاز : باللسان.
وقيل الهمَّاز الذي يذكر الناس في وجوههم، واللمَّازُ : الذي يذكرهم في مغيبهم.
وقال مقاتل بالعكس، وقال مرة : هما سواء، ونحوه عن ابن عباس وقتادة.
قال الشاعر :[ البسيط ]
٤٨١١ - تُدْلِي بودٍّ إذَا لاقَيْتنِي كَذِباً*** وإنْ تغَيَّبْتُ كُنْتَ الهَامِزَ اللُّمَزَهْ٢
والنميم : قيل : هو مصدر النميمة.
وقيل : هو جمعها أي اسم جنس ك «تمرةٍ وتمرٍ »، وهو نقل الكلام الذي يسوء سامعه، ويحرش بين الناس.
وقال الزمخشري : والنميم والنميمة : السعاية، وأنشدني بعض العرب :[ الرجز ]
٤٨١٢ - تَشَبَّبِي تَشَبُّبَ النَّميمهْ*** تَمْشِي بِهَا زَهْراً إلى تَمِيْمَه
والمشاء : مثال مبالغة من المشي، أي : يكثر السعاية بين الناس ليفسد بينهم، يقال : نَمَّ يَنِمُّ نميماً ونَمِيمَة، أي : يمشي ويسعى بالفسادِ.
وقال عليه الصلاة والسلام :«لا يَدخُلُ الجَنَّة نَمَّامٌ ».
والعتل : الذي يعتل الناس، أي : يحملهم، ويجرهم إلى ما يكرهون من حبس وضربٍ ومنه :﴿ خُذُوهُ فاعتلوه ﴾[ الدخان : ٤٧ ].
وقيل : العتل : الشديد الخصومة.
وقال أبو عبيدة : هو الفاحش اللئيم.
وأنشد :
٤٨١٣ - بِعُتُلٍّ مِنَ الرِّجالِ زَنِيمٍ*** غيْرِ ذِي نَجْدةٍ وغَيْرِ كَريمِ
وقيل : الغليظ الجافي.
ويقال : عَتَلْتُه وعَتنتُهُ باللام والنون. نقله يعقوب.
وقيل : العتل : الجافي الشديد في كفره.
وقال الكلبيُّ والفراء : هو الشديد الخصومة بالباطل.
قال الجوهري : ويقال : عَتَلْتُ الرجل أعْتِلُهُ وأعْتُلُهُ إذا جذبته جذباً عنيفاً. ورجل مِعْتَل - بالكسر -، والعَتَل أيضاً : الرمح الغليظ، ورجل عَتِلٌ - بالكسر - بين العتل، أي سريع إلى الشَّر ويقال : لا أنعتل معك، أي : لا أبرح مكاني.
وقال عبيد بن عمير : العتل : الأكول الشروب القوي الشديد يوضع في الميزان فلا يزن شعيرة، يدفع الملك من أولئك في جهنم بالدفعة الواحدة سبعين ألفاً.
والزنيم : الدعي بنسب إلى قوم ليس منهم.
قال حسانُ رضي الله عنه :[ الطويل ]
٤٨١٤ أ- زَنِيمٌ تَداعَاهُ الرِّجالُ زِيادَةً*** كَمَا زيدَ في عَرْضِ الأديمِ الأكَارعُ
وقال أيضاً :[ الوافر ]
٤٨١٤ ب - زَنِيمُ ليسَ يُعْرَفُ مَنْ أبُوهُ*** بَغِيُّ الأمِّ ذُو حسب لَئِيم
وقال أيضاً :[ الطويل ]
٤٨١٥ - وأنْتَ زَنِيمٌ نيطَ في آلِ هَاشمٍ*** كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكبِ القَدَحُ الفَرْد
وأصله : من الزنمةِ، وهي ما بقي من جلد الماعز معلقاً في حلقها يترك عند القطع، فاستعير للدعي، لأنه كالمعلق بما ليس منه.

فصل فيمن هو الحلاف المهين


تقدم القول في «الحلاف المَهين »، عن الشعبي والسديِّ وابن إسحاقَ : أنه الأخنس بن شريق، وعلى قول غيرهم : أنه الأسود بن عبد يغوث، أو عبد الرحمن بن الأسود، أو الوليد بن المغيرة، أو أبو جهل بن هشام، وتقدم تفسير «الهَمَّاز والمشَّاء بنميمٍ ».
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٨٣)..
٢ البيت لزياد الأعجم ويروى صدره كما في الديوان (٧٨):
إذا لقيتك عن شمط تكاشرني ***...
وينظر مجاز القرآن ١/٢٦٣ برواية:
إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة ***...
ينظر القرطبي ١٨/١٥٢ ولسان العرب (حمز)، ومجمع البيان ١٠/٨١٧..

وأما قوله «منَّاعٍ للخَيْرِ » أي : للمال أن ينفق في وجوهه.
وقال ابن عباس : يمنع عن الإسلام ولده وعشيرته١.
قيل : كان للوليد بن المغيرة عشرةٌ من الولد، وكان يقول لهم ولأقاربه : من تبع منكم محمداً منعته رفدي.
وقال الحسنُ : يقول لهم : من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبداً٢.
وقوله «مُعْتَدٍ » أي : على الناس في الظلم، متجاوز للحد، صاحب باطل، وقوله «أثيمٍ » أي : ذا إثمٍ، ومعناه «أثُوم »، فهو «فعيل » بمعنى «فَعُول ».
قال البغوي٣ :«أثيم فاجر ». وأما العتل فتقدم الكلام عليه في اللغة.
وقال - عليه الصلاة والسلام - :«ألا أخْبرُكمْ بأهْلِ الجنَّةِ ؟ قالوا : بَلَى، قال : كُلُّ ضعيفٍ مُتضعَّفٍّ، لَوْ أقسمَ على اللَّهِ لأبرَّهُ، ألا أخْبركُمْ بأَهْلِ النَّارِ ؟ قالوا : بَلَى، قال : كُل عُتُلٍّ جواظٍ مستكبرٍ »٤ وفي رواية :«كُلُّ جوَّاظٍ زَنيمٍ مُستَكْبرٍ ».
«الجوَّاظ » الجموع المنوع.
وقيل : الكثير اللحم، المختال في مشيته.
وقيل : القصير البطين.
وذكر الماورديُّ٥ عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«لا يَدخُل الجنَّة جوَّاظ ولا جَعْظَرِي ولا العُتلُ الزَّنِيمُ »٦.
وقال صلى الله عليه وسلم :«الجوَّاظ : الذي جمع ومنع، والجعظري : الفظ الغليظ المتكبر »٧.
قال ابن الأثير٨ :«وقيل : هو الذي ينتفخ بما ليس عنده، وفيه قصر ».
قال القرطبيُّ٩ : وقال - عليه الصلاة والسلام - :«الشَّدِيدُ الخُلقِ، الرَّحيبُ الجوْفِ، المصحُّ الأكولُ، الشَّروبُ، الواجدُ للطعامِ، الظَّلُومُ للنَّاسِ »١٠.
١ ينظر القرطبي (١٨/١٥٢)..
٢ ذكره البغوي في "تفسيره" (٤/٣٧٨)..
٣ ينظر: معالم التنزيل ٤/٣٧٨..
٤ أخرجه البخاري ١٠/٥٠٤ كتاب الأدب، باب الكبر (٦٠٧١) ومسلم ٤/٢١٩٠ كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب: النار يدخلها الجبارون (٤٦-٢٨٥٣)..
٥ ينظر النكت والعيون ٦/٦٤..
٦ أخرجه أبو داود رقم (٤٨٠١) من حديث ابن مسعود..
٧ أخرجه أحمد (٤/٢٢٧) من طريق شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم مرفوعا.
وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (٧/١٣١) وقال: رواه أحمد وفيه شهر وثقه جماعة وفيه ضعف وعبد الرحمن بن غنم ليس له صحبة على الصحيح.
والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٩٣) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر من طريق شهر..

٨ ينظر: النهاية ١/١٧٦..
٩ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٥٢..
١٠ تقدم..
وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى ﴿ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ﴾ قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :«تَبْكِي السَّماءُ على رجُلٍ أصحَّ اللَّهُ جِسْمهَ ورحَّبَ جوفه، وأعطاهُ من الدُّنْيَا بعضاً، فكانَ للنَّاسِ ظلُوماً، فذلك العُتُلَّ الزَّنِيمُ »١.
وقوله :«بَعْدَ ذلِكَ » أي مع ذلك، يريد ما وصفناه به «زنيم » وتقدم معنى الزنيم. وعن ابن عباس : أنه رجل من قريش كانت له زنمة كزنمة الشاة٢.
وروى عنه ابن جبير : أنه الذي يعرف بالشر، كما تعرف الشاة بزنمتها٣.
وقال عكرمة : هو الذي يعرف بلؤمه، كما تعرف الشاة بزنمتها٤.
وقيل : إنه الذي يعرف بالأبنة، وهو مروي عن ابن عباس، وعنه : إنه الظلوم.
وقال مجاهدٌ :«زَنِيمٍ » كانت له ستة أصابع في يده في كل إبهام له أصبع زائدة٥.
وعنه أيضاً وسعيد بن المسيب وعكرمة : هو ولد الزنا الملحق في النسب بالقوم٦.
وكان الوليد دعياً في قريش ليس من سنخهم، ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده.
قال الشاعر :[ الوافر ]
٤٨١٦ - زَنِيمٌ ليْسَ يُعرفُ من أبُوهُ*** بَغِيُّ الأمِّ ذُو حسبٍ لَئِيم٧
قيل : بغتْ أمه ولم يعرف حتى نزلت الآية، وهذا لأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الولدُ، كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«لا يَدْخلُ الجنَّة ولدُ زِنَا، ولا ولَدُ وَلدِهِ »٨.
وقال عبد الله بن عمر : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إنَّ أوْلادَ الزِّنَا يُحشَرُونَ يومَ القِيامةِ في صُورةِ القِرَدةِ والخَنازِيرِ »٩.
وقالت ميمونة : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :«لا تَزالُ أمَّتِي بخيْرٍ، مَا لَمْ يَفْشُ فِيهِمْ ولدُ الزِّنَا، فإذا فَشَى فيهِمْ ولدُ الزِّنَا أوشَكَ أنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بعذابٍ »١٠.
وقال عكرمة : إذا كثر ولد الزنا قحط المطر١١.
قال القرطبي١٢ : ومعظم المفسرين على أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان يطعم أهل منى حيساً ثلاثة أيام، وينادي ألا لا يوقدن أحدكم تحت بُرمةٍ، ألا لا يدخنن أحد بكُراع، ألا ومن أراد الحيس فليأت الوليد بن المغيرة، وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفاً، أو أكثر، ولا يعطي المسكين درهماً واحداً ؛ فقيل :«منَّاعٍ للخَيرِ »، وفيه نزل :﴿ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة ﴾[ فصلت : ٦، ٧ ].
وقال محمد بن إسحاق : نزلت في الأخنس بن شريق ؛ لأنه حليف ملحق في بني زهرة، فلذلك سمي زنيماً. وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : في هذه الآية نُعت، فلم يعرف، حتى قتل زنيم فعرف، وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها١٣.
قال ابن قتيبة : لا نعلم أن الله وصف أحداً، ولا ذكر من عيوبه ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة، وألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة.

فصل :


قرأ الحسن :«عُتُلٌّ » بالرفع، أي هو عتل.
وحقه أن يقرأ ما بعده بالرفع أيضاً، لأنهم قالوا في القطع : إنه يبدأ بالإتباع، ثم بالقطع من غير عكس، وقوله :«بَعْدَ ذلِكَ » أي : بعدما وصفناه به.
قال ابن عطية١٤ : فهذا الترتيب إنما هو في قول الواصفِ، لا في حصول تلك الصفات في الموصوف، وإلا فكونه عتلاًّ هو قبل كونه صاحب خير يمنعه.
وقال الزمخشريُّ١٥ :«بَعْدَ ذَلِكَ » أي : بعدما عد له من المثالب، والنقائصِ، ثم قال : جعل جفاءه ودعوته أشد معايبه، لأنه إذا غلظ وجفا طبعه، قسا قلبُه واجترأ على كل معصية.
ونظير قوله :﴿ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ﴾ ﴿ ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ﴾[ البلد : ١٧ ].
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٨٠) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٩٣) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر عن زيد بن أسلم..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٨٦) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٩٣) وزاد نسبته إلى ابن مردويه..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٨٦)..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٨٨)..
٥ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٥٣) عن مجاهد..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٨٦) عن سعيد بن المسيب..
٧ ينظر القرطبي (١٨/١٥٣) والدر المنثور ٦/٣٩٢..
٨ أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (٨/٢٤٩) من حديث أبي هريرة وذكره الشيخ علي القاري في "الأسرار المرفوعة" (ص٢٦٨) وقال: زعم ابن طاهر وابن الجوزي أن هذا الحديث موضوع لكن رواه أبو نعيم في "الحلية" عن مجاهد عن أبي هريرة مرفوعا وأعله الدارقطني بأن مجاهدا لم يسمعه من أبي هريرة..
٩ ذكره الشوكاني في "الفوائد المجموعة" (ص ٢٠٤) وقال: موضوع..
١٠ أخرجه أحمد (٦/٣٣٣) من حديث ميمونة.
وأخرجه أيضا أبو يعلى (١٣/٦) رقم (٧٠٩١) والطبراني في "الكبير" (٢٤/٢٣) رقم (٥٥).
والحديث ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (٦/٢٦٠) وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني... وفيه محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة وثقه ابن حبان وضعفه ابن معين ومحمد بن إسحاق قد صرح بالسماع فالحديث صحيح أو حسن..

١١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٥٣)..
١٢ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٥٤..
١٣ ينظر: الكشاف ٤/٥٨٧، ٥٨٨، والبحر المحيط ٨/٣٠٤، والدر المصون ٦/٣٥٢..
١٤ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٤٨..
١٥ ينظر: الكشاف ٤/٥٨٧..
قوله :﴿ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ﴾.
العامة : على فتح همزة «أن » ثم اختلفوا بعد، فقرأ ابن عامر وحمزة١ وأبو بكر وأضاف القرطبي٢ معهم أبا جعفر وأبا حيوة والمغيرة والأعرج : بالاستفهام.
وباقي السبعة بالخبر.
والقارئون بالاستفهام على أصولهم من تحقيق، وتسهيل، وإدخال ألف بين الهمزتين وعدمه، ولا بد من بيان ذلك فنقول : قرأ حمزة وأبو بكر وذكر القرطبي٣ معهم المفضل : بتحقيق الهمزتين، وعدم إدخال ألف بينهما، وهذا هو أصلهما.
وقرأ ابن ذكوان : بتسهيل الثانية، وعدم إدخال ألف.
وهشام بالتسهيل المذكور إلا أنه أدخل ألفاً بينهما.
فقد خالف كل منهما أصله، أما ابن ذكوان فإنه يحقق الهمزتين فقد سهل الثانية هنا، وأما هشام فإن أصله أن يجري في الثانية من هذا النحو وجهين من التحقيق كرفيقه، والتسهيل وقد التزم التسهيل هنا، وأما إدخال الألف فإنه فيه على أصله، كما تقدم أول البقرة٤.
وقرأ نافع في رواية٥ اليزيدي عنه :«إن » بكسر الهمزة على الشرط.
فأما قراءة «أنْ » - بالفتح - على الخبر، ففيه أربعة أوجه :
أحدها : أنها «أن » المصدرية في موضع المفعول به مجرورة بلام مقدرة، واللام متعلقة بفعل النهي، أي : ولا تطع من هذه صفاته، لأن كان متمولاً وصاحب بنين.
الثاني : أنها متعلقة ب «عُتُل » وإن كان قد وصف. قاله الفارسي٦.
وهذا لا يجوز عند البصريين، وكأن الفارسي اغتفره في الجار.
الثالث : أن يتعلق ب «زَنِيمٍ »، ولا سيما عند من يفسره بقبيح الأفعال.
الرابع : أن يتعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده من الجملة الشرطية تقديره لكونه متمولاً، مستظهراً بالبنين كذب بآياتنا، قاله الزمخشريُّ٧.
قال : ولا يعمل فيه، قال : الذي هو جواب «إذا » لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله، ولكن ما دلت عليه الجملةُ من معنى التكذيب.
١ ينظر: السبعة ٦٤٦، ٦٤٧، والحجة ٦/٣١٠، وإعراب القراءات ٢/٣٨٢، وحجة القراءات ٧١٧، والعنوان ١٩٥، وإتحاف ٢/٥٥٤..
٢ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٥٤..
٣ السابق..
٤ آية رقم (٦)..
٥ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٠٥، والدر المصون ٦/٣٥٣..
٦ لم أعثر عليه في الحجة..
٧ ينظر: الكشاف ٤/٥٨٨..
وقال مكيٌّ١، وتبعه أبو البقاء٢ :«لا يجوز أن يكون العامل » " تُتْلَى " لأن ما بعد " إذَا " لا يعمل فيما قبلها، لأن " إذَا " تضاف إلى الجمل، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف » انتهى.
وهذا يوهم أن المانع من ذلك ما ذكره فقط، والمانع أمرٌ معنوي، حتى لو فقد هذا المانع الذي ذكره لامتنع من جهة المعنى، وهو لا يصلح أن يعلل تلاوة آياتِ اللَّهِ عليه بكونه ذا مالٍ وبنين.
وأما قراءة «آنْ كان » على الاستفهام، ففيها وجهان :
أحدهما : أن يتعلق بمقدر يدل عليه ما قبله، أي : أتطيعه لأن كان، أو الكون طواعية لأن كان.
والثاني : أن يتعلق بمقدر يدل عليه ما بعده، أي : لأن كان كذب وجحد.
وأما قراءة «إنْ كَانَ » - بالكسر - فعلى الشرط، وجوابه مقدر، تقديره : إن كان كذا يكفر ويجحد، دل عليه ما بعده.
وقال الزمخشريُّ : والشرط للمخاطب، أي : لا تطع كل حلاف شارطاً يساره، لأنه إن أطاع الكافر لغنائه فكأنه اشترط في الطاعة الغنى، ونحو صرف الشرط للمخاطب صرف الترجي إليه في قوله :﴿ لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى ﴾[ طه : ٤٤ ].
وجعله أبو حيَّان٣ من دخول شرط على شرط، يعني «إن، وإذا » إلا أنه قال : ليسا من الشروط المترتبة الوقوع. وجعل نظير ذلك قول ابن دُريْدٍ :[ الرجز ]
٤٨١٧ - فإن عَثَرتُ بعْدها إنْ وألَتْ*** نَفْسِيَ مِنْ هَاتَا فَقُولاَ لاَ لَعَا٤
قال :«لأن الحامل على تدبر آياتِ اللَّهِ كونه ذا مالِ وبنينَ، وهو مشغول القلب بذلك غافل عن النظر، قد استولت عليه الدُّنيا وأنظرته ».
وقرأ الحسن بن أبزى : بالاستفهام، وهو استفهام تقريعٍ وتوبيخٍ، على قوله حين تليت عليه آيات الله :﴿ أَسَاطِيرُ الأولين ﴾.

فصل في توجيه قراءة الآية


قال القرطبيُّ٥ : فمن قرأ بهمزة مُطوَّلةٍ، أو بهمزتين محققتين، فهو استفهام والمراد به التوبيخ، ويحسن له أن يقف على «زَنِيمٍ »، ويبتدئ «أنْ كَانَ » على معنى : لأن كان ذا مال وبنين تطيعه، ويجوز أن يكون التقدير : لأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر، ودل عليه ما تقدم من الكلامِ، فصار كالمذكور بعد الاستفهام، ومن قرأ «أن كَانَ » بغير استفهام، فهو مفعول من أجله، والعامل فيه فعل مضمر والتقدير : يكفر لأن كان ذا مال وبنين، ودل على هذا الفعل :﴿ إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين ﴾ ولا يعمل في «أن » :«تُتْلَى » ولا «قَالَ »، لأن ما بعد «إذَا » لا يعمل فيما قبلها ؛ لأن «إذَا » تضاف إلى الجمل التي بعدها، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف، و «قال » جواب الجزاء، ولا يعمل فيما قبل الجزاء، إذ حكم العامل أن يكون قبل المعمول فيه، وحكم الجواب أن يكون بعد الشرط، فيكون مقدماً مؤخراً في حالة واحدةٍ، ويجوز أن يكون المعنى : لا تطعه لأن كان ذا يسار وعدد.
قال ابن الأنباريّ : ومن قرأ بلا استفهام لم يحسن أن يقف على «زَنيمٍ » لأن المعنى : لأن كان ذا مالٍ كان، ف «أنْ » متعلقة بما قبلها.
وقال غيره : يجوز أن يتعلق بقوله :«مشَّاءٍ بنمِيمٍ »، والتقدير : يمشي بنميم، لأن كان ذا مال وبنين، وأجاز أبو علي أن يتعلق ب «عُتُلٍّ »، ومعنى «أسَاطيرُ الأوَّليْنَ » أباطيلهم، وتُرهاتُهُم.
١ ينظر: المشكل ٢/٧٤٩..
٢ ينظر الإملاء ٢/١٢٣٤..
٣ ينظر: البحر المحيط ٨/٣١٠..
٤ البيت لابن دريد الأزدي، ينظر شرح مقصورة ابن دريد (٣٣) والخزانة ٤/٥٤٨، والدر المصون ٦/٣٥٤..
٥ ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٥٤..
قوله :«سَنَسِمُهُ ». أي : نجعل له سمة، أي : علامة يعرف بها.
قال جرير :[ الكامل ]
٤٨١٨- لمَّا وضَعْتُ عَلى الفَرَزْدَقِ مِيسَمِي*** وعَلَى البَعيثِ جَدَعْتُ أنْفَ الأخْطَلِ١
والخرطوم : الأنف، وهو هنا عبارة عن الوجه كله من التعبير عن الكل بالجزء ؛ لأنه أظهر ما فيه وأعلاه، والخرطوم أيضاً : الخمر، وكأنه استعاره لها لأن الشنتمري قال : هي الخمر أول ما يخرج من الدَّن ؛ فجعلت كالأنف، لأنه أول ما يبدو من الوجه، فليست الخرطومُ الوجه مطلقاً، ومن مجيء الخرطوم بمعنى الخمر، قول علقمة بن عبدة :[ البسيط ]
٤٨١٩ - قَدْ أشْهَدَ الشَّرْبَ فِيهِمْ مِزْهَرٌ رَنِمٌ*** والقَوْمُ تَصْرعُهُمْ صَهْبَاءُ خرْطُومُ٢
وأنشد نضر بن شميل :[ البسيط ]
٤٨٢٠ - تَظَلُّ يَومَكَ في لَهْوٍ وفِي طَرَبٍ***وأنْتَ باللَّيْلِ شَرَّابُ الخَراطِيمِ٣

فصل في تفسير «سنسمه »


قال ابن عباس :«سَنَسِمُهُ » سنحطمه بالسَّيفِ، قال : وقد حطم الذي نزلت فيه يوم بدرِ بالسيف، فلم يزل محطوماً إلى أن مات٤.
وقال قتادةُ : سنسمهُ يوم القيامة على أنفه سِمَةً يعرفُ بها٥، يقال : وسمه وسماً وسمة إذا أثرت فيه بسمة وكيّ.
قال الضحاك : سنكويه على وجهه٦، وقد قال الله تعالى :﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾[ آل عمران : ١٠٦ ] فهي علامة ظاهرة، وقال تعالى :﴿ وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً ﴾[ طه : ١٠٢ ] وهذه علامة أخرى ظاهرة. وأفادت هذه الآية علامة ثالثة، وهي الوسم على الأنف بالنار، وهذا كقوله :﴿ يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ ﴾[ الرحمن : ٤١ ].
قاله الكلبي وغيره وقال أبو العالية ومجاهدٌ :﴿ سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم ﴾ أي على أنفه، ويسودُّ وجهه في الآخرة، فعرف بسواد وجهه٧.
قال القرطبيُّ٨ :«والخرطوم : الأنف من الإنسان، ومن السباع موضع الشفة، وخراطيم القوم : سادتهم ».
قال الفراء : وإن كان الخرطومُ قد خُصَّ بالسِّمة فإنَّهُ في الوجه، لأن بعض الشيء يعبر به عن الكل.
وقال الطبريُّ : نبين أمره تبياناً واضحاً، فلا يخفى عليهم، كما لا تخفى السِّمةُ على الخراطيم.
وقال : المعنى : سنلحق به عاراً وسبة حتى يكون كمن وسم على أنفه.
قال القتيبي : تقول العرب للرجل يُسَبُّ سبة سوءٍ قبيحة باقية، قد وسم ميسم سوء، أي : ألصق به عار لا يفارقه، كما أن السمة لا يمحى أثرها.
وهذا كلهُ نزل في الوليد بن المغيرة، ولا شك أنَّ المبالغة العظيمة في ذمه، بقيت على وجه الأرض الدهر، ولا يعلم أن اللَّه تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغ منه، فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة، كالوسم على الخرطوم.
وقيل : ما ابتلاه اللَّهُ به في الدنيا في نفسه ؛ وأهله وماله من سوء، وذل وصغار، قاله ابن بحر.
وقال النضر بن شميل : المعنى سنحده على شرب الخمر، والخرطوم : الخمر، وجمعه : خراطيم، وأنشد البيت المتقدم.
قال ابن الخطيب٩ :«وهذا تعسفٌ ».
١ ينظر ديوانه ٣٣٥، والقرطبي ١٨/١٥٥ وروح المعاني ٢٩/٣٥، والدر المصون ٦/٣٥٤..
٢ ينظر ديوانه (١١٣)، والبحر ٨/٣٠٠، والدر المصون ٦/٣٥٤..
٣ البيت للأعرج، ينظر القرطبي ١٨/١٥٥، والبحر ٨/٣٠٠ والدر المصون ٦/٣٥٤، وروح المعاني ٢٩/٢٦..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٨٨) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٩٤) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٨٨) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٩٤) وعزاه إلى عبد بن حميد وعبد الرزاق..
٦ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٥٥)..
٧ ينظر المصدر السابق..
٨ ينظر السابق..
٩ ينظر الفخر الرازي ٣٠/٧٧..
قوله ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة﴾. يريد أهل مكة، والابتلاء: الاختبار. والمعنى: أعطيناهم الأموال ليشكروا لا ليبطروا، فلما بطروا وعادوا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ابتليناهم بالجوع والقحط كما بلونا أصحاب الجنَّة المعروف خبرها عندهم، وذلك أنها كانت بأرض اليمن بالقرب منهم على فراسخ من «صنعاء»، ويقال: بفرسخين، كانت لرجل يؤدي حقَّ الله منهما، فلما مات صارت إلى ولده، فمعنوا الناس خيرها، وبخلوا بحق الله فيها؛ فأهلكها الله من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بها.
قال الكلبيُّ: كان بينهم وبين «صنعاء» فرسخان ابتلاهم اللَّهُ بأن أحرق جنتهم.
وقيل: جنة بصوران على فراسخ من صنعاء، وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بيسير.
وقيل: كانوا من بني إسرائيل.
وقيل: وكانوا من ثقيف، وكانوا بخلاء، وكانوا يجذون النخل ليلاً من أجل المساكين، فأرادوا حصاد زرعها، وقالوا: ﴿لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليوم عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ﴾ فغدوا عليها فإذا هي قد اقتلعت من أصلها ﴿فَأَصْبَحَتْ كالصريم﴾ أي: الليل، ويقال أيضاً للنهار: صريم، فإن كان أراد الليل، فلاسوداد مواضعها وكأنهم وجدوا مواضعها حمأة، وإن كان أراد بالصريم النهار، فلذهاب الشجر والزَّرْع وخلو الأرض منه،
285
وكان الطائف الذي طاف عليها جبريل - عليه السلام - فاقتلعها.
فقيل: إنه طاف بها حول البيت ثم وضعها حيثُ مدينة الطائف اليوم، ولذلك سميت الطائف، وليس في أرض الحجازِ بلدة فيها الماء، والشجر [والزرع] والأعناب غيرها.
وقال البكريُّ في المعجم: سميت الطائف، لأن رجلاً من العرب يقالُ له: الدَّمُون، بَنَى حائطاً، وقال: إني قد بنيت لكم حائطاً حول بلدكم، فسميت الطائف. والله أعلم.
قوله «إذ أقْسَمُوا»، أي: حلفوا فيما بينهم «ليَصْرِمُنَّهَا» أي: ليجذُّنها «مُصْبحِيْنَ» أي: وقت الصباح قبل أن يخرج المساكين «ولا يَسْتَثْنُونَ»، أي: لم يقولوا: إن شاء الله.
قوله: «مُصْبحِيْنَ» حال من فاعل «ليَصْرمُنَّها» وهو من «أصبح» التامة، أي داخلين في الصباح، كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ﴾ [الصافات: ١٣٧] وقوله: إذا سمعت بِسُرَى القين فاعلم بأنه مصبح والكاف في «كما» في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف، أي: بلوناهم ابتلاء كما بلونا، و «ما» مصدرية، أو بمعنى «الذي» و «إذَا» منصوبة ب «بَلَوْنَا» و «ليَصْرمُنَّهَا» جواب للقسم، وجاء على خلاف منطوقهم، ولو جاء لقيل: «لنَصْرمُنَّهَا» بنون المتكلم.
قوله: ﴿وَلاَ يَسْتَثْنُونَ﴾.
هذه مستأنفة، ويضعف كونها حالاً من حيث إن المضارع المنفي ب «لا» كالمثبت في عدم دخول الواو عليه وإضمار مبتدأ قبله، كقولهم: «قمت وأصك عينه» مستغنى عنه.
ومعنى: «لا يَسْتثْنُونَ» لا يستثنون للمساكين من جملة ذلك القدر الذي كان يدفعه أبوهم للمساكين، من الثني، وهو الكف والرد؛ لأنَّ الحالف إذا قال: واللَّهِ لأفعلن كذا إلا أن يشاء اللَّهُ غيره فقد رد انعقاد تلك اليمين.
وقيل: المعنى: لا يستثنون عزمهم عن الحرماتِ.
وقيل: لا يقولون، إن شاء الله.
قال الزمخشريُّ: وسمي استثناء وهو شرط؛ لأن معنى: لأخرجن إن شاء الله، ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد.
قوله ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ﴾. أي هلاك، أو بلاء طائف، والطائف غلب في الشر.
قال الفراء: هو الأمر الذي يأتي ليلاً.
ورد عليه بقوله ﴿إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان﴾ [الأعراف: ٢٠١] وذلك لا يختص بليلٍ، ولا نهارٍ.
286
وقرأ النخعيُّ: «طَيْفٌ».
قوله «مِن ربِّك». يجوز أن يتعلق ب «طاف» وأن يتعلق بمحذوف صفة ل «طَائِفٌ».
قوله: ﴿فَأَصْبَحَتْ كالصريم﴾. والصرام: جذاذ النخلِ، وأصل المادة الدلالة على القطع، ومنه الصُّرم، والصَّرْم - بالضم والفتح - وهو القطيعة؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
٤٨٢٠ - تَظَلُّ يَومَكَ في لَهْوٍ وفِي طَرَبٍ وأنْتَ باللَّيْلِ شَرَّابُ الخَراطِيمِ
٤٨٢١ - أفَاطِمُ مَهْلاً بَعْضَ هذا التَدلُّلِ وإنْ كنتِ قَدْ أزمَعْتِ صَرْمِي فأجْملِي
ومنه الصريمة، وهي قطعة منصرمة عن الرمل لا تنبت شيئاً؛ قال: [البسيط]
٤٨٢٢ - وبالصَّريمَةِ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ خَلَقٌ عَافٍ تَغَيَّرَ، إلاَّ النُّؤيُ والوتِدُ
والصارم: القاطع الماضي، وناقة مصرمة: انقطع لبنها، وانصرم الشهر والسنة، أي: قرب انفصالهما، وأصرم زيد: ساءت حاله، كأنه انقطع سعده.
فقوله «كالصَّريمِ». قيل: هي الأشجار المنْصَرِم حملها.
وقال ابن عباس: كالليل؛ لأنه يقال له: الصريم، لسواده، والصريم أيضاً: النهار وقيل: الصُّبحُ؛ لأنه انصرم من الليلة، قاله الأخفش. فهو من الأضداد.
وقال شمر: الصريم الليل، والصريم النهار.
وقيل: الصريم: رملة معروفة باليمنِ لا تنبت شيئاً.
وقال الثوريُّ: كالزرع المحصود، فالصريم بمعنى المصروم، أي: المقطوع ما فيه.
وقال الحسنُ: صرم عنها الخير، أي: قطع، فالصريم مفعول أيضاً.
وقال المؤرج: كالرملة انصرمت من معظم الرمل، يقال: صريمة وصرائم، فالرملة لا تنبت شيئاً ينتفع به.
وقيل: سمي الليل صريماً؛ لأنه يقطع بظلمته عن التصرف، ولهذا يكون «فَعِيْل»، بمعنى «فاعل».
287
قال القشيريُّ: وفي هذا نظر؛ لأن النهار يسمى صريماً، ولا يقطع عن التصرف.
وقيل: سمي الليل صريماً؛ لأنه يصر نور البصر ويقطعه.

فصل في بيان أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان.


قال القرطبيُّ: في الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان. لأنهم عزموا على أن يفعلوا، فعوقبوا على فعلهم؛ ونظيره قوله تعالى: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج: ٢٥].
وفي الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«إذَا التَقَى المُسلِمَانِ بِسيْفِهِمَا فالقَاتِلُ والمَقْتُولُ في النَّارِ، قيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنَّه كَانَ حريصاَ على قَتْلِ صاحِبهِ» وقد مضى في آل عمران عند قوله: ﴿وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ﴾ [آل عمران: ١٣٥].
قوله: ﴿فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ﴾.
قال مقاتل: لما أصبحوا قال بعضهم لبعض: ﴿اغدوا على حَرْثِكُمْ﴾ يعني بالحرث الثِّمار والزروع والأعناب، ولذلك قال: «صَارمِيْنَ»، لأنهم أرادوا قطع الثمار من الأشجار.
«أن اغْدُوْا» يجوز أن تكون المصدرية، أي: تنادوا بهذا الكلام، وأن تكون المفسرة، لأنه تقدمها ما هو بمعنى القول.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: هلاَّ قيل: اغدوا إلى حرثكم، وما معنى على؟.
قلت: لما كان الغدو إليه ليصرموه، ويقطعوه كان غدواً عليه كما تقول: غدا عليهم العدو ويجوز أن يضمن الغدو معنى الإقبال كقولهم: يغدى عليهم بالجفنة ويراح»
انتهى.
فجعل «غَدَا» متعدياً في الأصل ب «إلى» فاحتاج إلى تأويل تعديه ب «عَلَى»، وفيه نظر؛ لورود تعديه ب «عَلَى» في غير موضع؛ كقوله: [الوافر]
٤٨٢٣ - وقَدْ أغْدُو على ثُبَةٍ كِرامٍ نَشَاوَى واجِدينَ لَمَا نَشَاءُ
وإذا كانوا قد عدوا مرادفه ب «عَلَى» فليعدوه بها، ومرادفه «بكر» تقول: بكرتُ عليه و «غدوتُ عليه» بمعنى واحد؛ قال: [الطويل]
288
٤٨٢٤ - بَكَرْتُ عَليْهِ غُدْوةً فَرأيْتُهُ قُعُوداً إليْهِ بالصَّريمِ عَواذِلُه
قوله ﴿إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ﴾. جوابه محذوف، أي فاغدوا و «صارمين» : قاطعين حادين.
وقيل: ماضين العزم من قولك: سيف صارم.
قوله ﴿فانطلقوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ﴾. أي: يتشاورون فيما بينهم، والمعنى يخفون كلامهم، ويسرونه لئلا يعلم بهم أحد، قاله عطاء وقتادة.
وهو من خفت يخفت إذا سكت، ولم يبين.
قال ابن الخطيب: «وخَفَى وخَفَت، كلاهما في معنى الكتم، ومنه الخمود والخفاء».
وقيل: يخفون أنفسهم من الناس، حتى لا يروهم، وكان أبوهم يخبر الفقراء والمساكين فيحضروا وقت الحصاد والصرام.
وقوله: ﴿وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ﴾ جملة حالية من فاعل «انْطَلقُوا».
قوله: ﴿أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليوم عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ﴾.
«أنْ» مفسرة، ويجوز أن تكون مصدرية، أي: يتخافتون بهذا الكلام، أي: يقوله بعضهم لبعض: ﴿لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليوم عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ﴾.
قال ابن الخطيب: والنهي للمسكين عن الدخول نهيٌ لهم عن تمكينه منه، أي: لا تمكنوه من الدخول.
وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة: «لا يدْخُلنَّهَا» بإسقاط «أنْ» إما على إضمار القولِ كمذهب البصريين، وإما على إجراء «يَتَخافتُونَ» مجراه كقول الكوفيين.
قوله: ﴿وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ قَادِرِينَ﴾.
يجوز أن يكون «قَادِريْنَ» حالاً من فاعل «غَدَوْا» و «عَلى حَرْدٍ» متعلق به وأن يكون «على حَردٍ» هو الحال و «قَادِريْنَ» إما حال ثانية، وإما حال من ضمير الحالِ الأول.
والحرد: قيل: الغضب والحنق. قاله السديُّ وسفيان.
289
وأنشد للأشهب بن رميلة: [الطويل]
٤٨٢٥ - أسُودُ شَرًى لاقَتْ أسُودَ خَفيَّةٍ تَساقَوْا على حَرْدٍ دِماءَ الأسَاوِدِ
قيل: ومثله: [الرجز]
٤٨٢٦ - إذَا جِيادُ الخَيْلِ جَاءتْ تَرْدِي مَملُوءةً مِنْ غضَبٍ وحَرْدِ
عطف لما تغاير اللفظان؛ كقوله: [الوافر]
٤٨٢٧ -.............................. وألْفَى قوْلهَا كذِباً ومَيْنَا
قال أبو عبيدة والقتيبي: «عَلى حَرْدٍ» على منع من حاردت الناقة حراداً، أي: قل لبنها.
والحرود من النوق القليلة الدر، وحاردت السَّنةُ: قل مطرها، وخيرها.
ويقال: حرد - بالكسر - يحرد حرداً، وقد تفتح فيقال: حَرَدَ فهو حردان وحارد، وليوث حوارد.
وقيل: الحرد، والحرود: الانفراد، يقال: حَرَدَ - بالفتح - يَحْرُدُ - بالضم - حروداً وحرداً، أي: انعزل. ومنه كوكب حارد، أي: منفرد.
قال الأصمعي: هي لغة هذيل.
وقال القرطبيُّ: يقال: حرد يحرد حروداً، أي: تنحى عن قومه، ولم يخالطهم.
وقال أبو زيدٍ: رجل حريد من قوم حرداء، وقد حَرَدَ يَحْرِدُ حُرُوداً إذا ترك قومه، وتحول عنهم.
قال الأصمعي: رجل حريد، أي: فريد وحيد، قال: والمنفرد والمنحرد في لغة هذيل وأنشد لأبي ذؤيب: [البسيط]
٤٨٢٨ -.............................. كأنَّهُ كَوكَبٌ في الجَوِّ مُنْحِرِدُ
290
ورواه أبو عمرو: بالجيم، قال: وهو سهيل.
وقيل: الحردُ القصد، يقال: حَرَد يحْرِدُ - بالكسر - حرداً، قصداً، تقول: حردت حردك، أي: قصدت قصدك؛ قال الراجز: [الرجز]
٤٨٢٩ - أقْبَلَ سَيْلٌ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّه يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنَّةِ المُغِلَّهْ
وقال قتادة ومجاهدٌ: «عَلى حَرْدٍ»، أي: على جد وجهد.
وقال القرطبيُّ ومجاهد وعكرمة: أي: على أمر مجتمع قد أسموه بينهم.
قال البغويُّ: «وهذا معنى القصدِ».
وقال الحسنُ: على حاجةٍ وفاقةٍ.
وقيل: الحرد اسم جنتهم بعينها، قاله السديُّ.
وقال الأزهريُّ: حرد اسم قريتهم. وفيهما بعد. و «قَادِريْنَ» إما من القدرة وهو الظاهرُ، وإما من التقدير، وهو التضييق، أي: مضيقين على المساكين.
وقرأ العامة: بالإسكان.
وقرأ أبو العالية وابن السميفع: بالفتح، وهما لغتان.

فصل في تفسير «قادرين»


قال الفرَّاء: ومعنى «قادرين» قد قدروا أمرم، وبنوا عليه.
وقال قتادة: قادرين على جنتهم عند أنفسهم.
وقال الشعبيُّ: قادرين على المساكين.
وقيل: معناه من الوجود، أي: منعوا وهم واجدون.
ومعنى الآيةِ: وغدوا، وكانوا عند أنفسهم، وفي ظنهم أنهم قادرون على منع المساكينَ.
قوله ﴿فَلَمَّا رَأَوْهَا﴾. يعني الجنة محترقة، لا شيء فيها قد صارت كالليل الأسود ينظرون إليها كالرماد أنكروها، وشكوا فيها، وقال بعضهم لبعض: «إنَّا لضالُّونَ» أي:
291
ضللنا الطريق إلى جنتنا، ثم لما تأملوا وعرفوا أنها هي، قالوا: ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ حرمنا خيرها بشؤم عزمنا على البخل ومنعنا الفقراء، قاله قتادة.
وقيل: «إنَّا لضالُّون» عن الصَّواب في غدونا على نية منع المساكين، فلذلك عوقبنا ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ أي: حرمنا جنتنا بما صنعنا.
روى ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «» إيَّاكم والمَعاصِي إنَّ العَبْدَ ليذْنبُ الذَّنْبَ فيُحرَمُ بِهِ رِزْقاً كان هُيِّىء له «ثم تلا: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ﴾ » الآيتين.
قوله: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ﴾، يعني أعدلهم، وأفضلهم وأعقلهم ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ: لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ﴾ أي: هلا تستثنون، وكان استثناؤهم تسبيحاً. قاله مجاهدٌ وغيره، وهذا يدل على أن هذا الأوسط كان يأمرهم بالاستثناء، فلم يطيعوه.
قال أبو صالحٍ: كان استثناؤهم سبحان الله، فقال لهم: «هَلاَّ تسبِّحُونَ اللَّهَ»، أي تقولون: سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم.
وقال النحاس: أصل التسبيحِ التنزيه لله - عَزَّ وَجَلَّ -، فجعل مجاهد التسبيح في موضع إن شاء اللَّهُ؛ لأن المعنى تنزيه الله أن يكون شيء إلا بمشيئته.
وقال ابن الخطيب: التسبيحُ عبارة عن تنزيهه عن كل سوء فلو دخل شيء في الوجود على خلاف إرادة الله تعالى، لوجب عود النقص إلى قدرة الله تعالى، فقولك: «إن شاء الله» مزيل هذا النقص، فكان ذلك تسبيحاً.
وقيل: المعنى: هلاَّ تَسْتغفرونهُ من فِعْلكُم، وتتوبون إليه من خبث نيتكم.
قيل: إنَّ القوم لمَّا عزموا على منع الزكاةِ واغتروا بالمال والقوة، قال لهم أوسطهم: توبوا عن هذه المعصية قبل نزول العذابِ، فلما رأوا العذاب ذكرهم أوسطهم كلامهُ الأول، وقال: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ﴾ فحينئذ اشتغلوا بالتوبة وقالوا: ﴿ِسُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ قال ابن عباس في قولهم سبحان ربنا أي نستغفر ربنا من ذنوبنا لأنا كنا ظالمين لأنفسنا في منعنا المساكين.
وقال الحسنُ: هذا التسبيحُ هُو الصَّلاةُ كأنهم كانوا يتكاسلون في الصلاة، وإلا لكانت ناهية لهم [عن الفحشاء والمنكر، ولكانت داعية لهم] إلى أن يواظبوا على ذكر الله، وعلى قول إن شاء الله.
قوله ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ﴾. أي: يلوم بعضهم بعضاً، يقول هذا لهذا: أنت أشرت علينا بهذا الرأي، ويقول ذلك لهذا: أنت خوفتنا بالفقر، ويقول الثالث لغيره: أنت
292
رغبتني في جمع المال، ثم نادوا على أنفسهم بالوَيْلِ فقالوا: ﴿ياويلنا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ﴾ أي: عاصين بمنع حق الفقراءِ، وترك الاستثناء.
وقال ابنُ كيسان: طغينا نعم اللَّهِ، فلم نشكرهَا كما شكرها آباؤنا من قبل ﴿عسى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ﴾ تعاقدوا وقالوا: إن أبدلنا الله خيراً منها لنصنعنّ كما صنع آباؤنا فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم الله من ليلتهم ما هو خير منها.
قرىء: «يبدلنا» بالتخفيف والتشديد، وهما لغتانِ.
وقيل: التبديلُ تغير الشيء، أو تغير حاله وعين الشيء قائم، والإبدال رفع الشيء ووضع آخر مكانه، ثم قال: ﴿إِنَّآ إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ﴾ أي: طالبون منه الخير راجعون لعفوه.
قال المفسرون: إن الله أمر جبريل عليه السلام أن يقتلع تلك الجنة، بزغر من أرض الشام، ويأخذ من أرض الشام جنة، فيجعلها مكانها.
وقال ابن مسعود: إن القوم لما أخلصوا وعرف الله منهم صدقهم أبدلهم اللَّهُ جنة يقال لها: الخيوان فيها عنب يحمل البغل منها عنقوداً واحداً.
وقال أبو خالد اليماني: دخلت تلك الجنة، فرأيت كُلَّ عنقودٍ منها كالرَّجلِ الأسودِ القائمِ.
وقال الحسنُ: قول أهل الجنة: ﴿إِنَّآ إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ﴾ لا أدري إيماناً كان ذلك منهم، أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابهم الشدة. فتوقف في كونهم مؤمنين.
وسئل قتادةُ عن أهل الجنَّة، أهم من أهل الجنَّة أم من أهل النَّارِ؟.
قال: لقد كلفتني تعباً.
والأكثرون يقولون: إنهم تابوا وأخلصوا. حكاه القشيري.
قوله: ﴿كَذَلِكَ العذاب﴾. مبتدأ وخيره مقدم، أي: مثل ذلك العذاب عذاب الدنيا وأما عذاب الآخرة فأكبر منه ﴿لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾.
قال ابنُ زيدٍ: «كذَلكَ العَذابُ» أي: عذاب الدنيا وهلاك الأموال.
وقيل: هذا وعظٌ لأهل مكة بالرجوعِ إلى اللَّه لما ابتلاهم بالجدب لدعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: كفعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا في الدنيا ﴿وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾.
293
قال ابنُ عباسٍ: هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إلى بدر، وحلفوا ليقتلنَّ محمداً، وأصحابه، وليرجعوا إلى أهل مكة، حتى يطوفوا بالبيت، ويشربوا الخمر، وتضرب القيانُ على رءوسهم، فأخلف الله ظنهم، وقتلوا وأسروا وانهزموا كأهل هذه الجنة لما خرجوا عازمين على الصرم، فخابوا.

فصل في العبرة من هذه الآية بضرب المثل


قال ابن الخطيب: قوله تعالى ﴿أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين﴾ [القلم: ١٤ - ١٥]، والمعنى: لأجل أن أعطاه الله المال والبنين كفر بالله، كلا، بل الله تعالى إنما أعطاه ذلك للابتلاء، فإذا صرفه إلى الكفر دمر الله عليه، بدليل أن أصحاب الجنة لما أتوا بهذه المعصيةِ اليسيرةِ دمر الله جنتهم، فكيف حال من عاند الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأصرَّ على الكفر والمعصيةِ.

فصل في بيان هل كان الحق واجباً عليهم أم لا؟


قيل: إن الحق الذي منعه أهل الجنَّة المساكين كان واجباً عليهم، ويحتمل أنه كان تطوعاً، والأول أظهر.
وقيل: السورة مكية، فبعد حمل الآية على ما أصاب أهل مكة من القحطِ، وعلى قتال بدر.
294
«ولا يَسْتَثْنُونَ»، أي : لم يقولوا : إن شاء الله.
قوله :﴿ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ ﴾.
هذه مستأنفة، ويضعف كونها حالاً من حيث إن المضارع المنفي ب «لا » كالمثبت في عدم دخول الواو عليه وإضمار مبتدأ قبله، كقولهم :«قمت وأصك عينه » مستغنى عنه.
ومعنى :«لا يَسْتثْنُونَ » لا يستثنون للمساكين من جملة ذلك القدر الذي كان يدفعه أبوهم للمساكين، من الثني، وهو الكف والرد ؛ لأنَّ الحالف إذا قال : واللَّهِ لأفعلن كذا إلا أن يشاء اللَّهُ غيره، فقد رد انعقاد تلك اليمين.
وقيل : المعنى : لا يستثنون عزمهم عن الحرماتِ.
وقيل : لا يقولون، إن شاء الله.
قال الزمخشريُّ : وسمي استثناء وهو شرط ؛ لأن معنى : لأخرجن إن شاء الله، ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد.
قوله ﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ ﴾. أي هلاك، أو بلاء طائف، والطائف غلب في الشر.
قال الفراء : هو الأمر الذي يأتي ليلاً.
ورد عليه بقوله ﴿ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان ﴾[ الأعراف : ٢٠١ ] وذلك لا يختص بليلٍ، ولا نهارٍ.
وقرأ النخعيُّ١ :«طَيْفٌ ».
قوله «مِن ربِّك ». يجوز أن يتعلق ب «طاف » وأن يتعلق بمحذوف صفة ل «طَائِفٌ ».
١ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٠٦، والدر المصون ٦/٣٥٥..
قوله :﴿ فَأَصْبَحَتْ كالصريم ﴾. والصرام : جذاذ النخلِ، وأصل المادة الدلالة على القطع، ومنه الصُّرم، والصَّرْم - بالضم والفتح - وهو القطيعة ؛ قال امرؤ القيس :[ الطويل ]
٤٨٢١ - أفَاطِمُ مَهْلاً بَعْضَ هذا التَدلُّلِ*** وإنْ كنتِ قَدْ أزمَعْتِ صَرْمِي فأجْملِي١
ومنه الصريمة، وهي قطعة منصرمة عن الرمل لا تنبت شيئاً ؛ قال :[ البسيط ]
٤٨٢٢ - وبالصَّريمَةِ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ خَلَقٌ*** عَافٍ تَغَيَّرَ، إلاَّ النُّؤيُ والوتِدُ٢
والصارم : القاطع الماضي، وناقة مصرمة : انقطع لبنها، وانصرم الشهر والسنة، أي : قرب انفصالهما، وأصرم زيد : ساءت حاله، كأنه انقطع سعده.
فقوله «كالصَّريمِ ». قيل : هي الأشجار المنْصَرِم حملها.
وقال ابن عباس : كالليل ؛ لأنه يقال له : الصريم، لسواده٣، والصريم أيضاً : النهار وقيل : الصُّبحُ ؛ لأنه انصرم من الليلة، قاله الأخفش. فهو من الأضداد.
وقال شمر : الصريم الليل، والصريم النهار.
وقيل : الصريم : رملة معروفة باليمنِ لا تنبت شيئاً.
وقال الثوريُّ : كالزرع المحصود، فالصريم بمعنى المصروم، أي : المقطوع ما فيه.
وقال الحسنُ : صرم عنها الخير، أي : قطع٤، فالصريم مفعول أيضاً.
وقال المؤرج : أي : كالرملة انصرمت من معظم الرمل، يقال : صريمة وصرائم، فالرملة لا تنبت شيئاً ينتفع به.
وقيل : سمي الليل صريماً ؛ لأنه يقطع بظلمته عن التصرف، ولهذا يكون «فَعِيْل »، بمعنى «فاعل ».
قال القشيريُّ : وفي هذا نظر ؛ لأن النهار يسمى صريماً، ولا يقطع عن التصرف.
وقيل : سمي الليل صريماً ؛ لأنه يصر نور البصر ويقطعه.

فصل في بيان أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان.


قال القرطبيُّ : في الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان. لأنهم عزموا على أن يفعلوا، فعوقبوا على فعلهم ؛ ونظيره قوله تعالى :﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾[ الحج : ٢٥ ].
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم :«إذَا التَقَى المُسلِمَانِ بِسيْفِهِمَا فالقَاتِلُ والمَقْتُولُ في النَّارِ، قيل : يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنَّه كَانَ حريصاَ على قَتْلِ صاحِبهِ »٥. وقد مضى في آل عمران عند قوله :﴿ وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ ﴾[ آل عمران : ١٣٥ ].
١ ينظر ديوانه (١٢) والجنى الداني ص ٣٥، وخزانة الأدب ١١/٢٢٢، والدر ٣/١٦، وشرح شواهد المغني ١/٢٠، والمقاصد ٤/٢٨٩ وأوضح المسالك ٤/٦٧، ورصف المباني ص٥٢، وشرح الأشموني ٢/٤٦٧، ومغني اللبيب ١/١٣، وهمع الهوامع ١/١١٢..
٢ تقدم..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٩٠) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٩٤) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم..
٤ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٥٧) عن الحسن..
٥ أخرجه البخاري ١٤/١٩٩، كتاب الديات، باب قول الله (ومن أحياها) (٦٨٧٥)، ومسلم ٤/٢٢١٣، كتاب الفتن، باب إذا توجه المسلمان (١٤-٢٨٨٨)..
قوله :﴿ فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ ﴾.
قال مقاتل : لما أصبحوا قال بعضهم لبعض :﴿ اغدوا على حَرْثِكُمْ ﴾ يعني بالحرث الثِّمار والزروع والأعناب، ولذلك قال :«صَارمِيْنَ »، لأنهم أرادوا قطع الثمار من الأشجار.
«أن اغْدُوْا » يجوز أن تكون المصدرية، أي : تنادوا بهذا الكلام، وأن تكون المفسرة، لأنه تقدمها ما هو بمعنى القول.
قال الزمخشريُّ :«فإن قلت : هلاَّ قيل : اغدوا إلى حرثكم، وما معنى على ؟.
قلت : لما كان الغدو إليه ليصرموه، ويقطعوه كان غدواً عليه كما تقول : غدا عليهم العدو ويجوز أن يضمن الغدو معنى الإقبال كقولهم : يغدى عليهم بالجفنة ويراح » انتهى.
فجعل «غَدَا » متعدياً في الأصل ب «إلى » فاحتاج إلى تأويل تعديه ب «عَلَى »، وفيه نظر ؛ لورود تعديه ب «عَلَى » في غير موضع ؛ كقوله :[ الوافر ]
٤٨٢٣ - وقَدْ أغْدُو على ثُبَةٍ كِرامٍ*** نَشَاوَى واجِدينَ لَمَا نَشَاءُ١
وإذا كانوا قد عدوا مرادفه ب «عَلَى » فليعدوه بها، ومرادفه «بكر » تقول : بكرتُ عليه و «غدوتُ عليه » بمعنى واحد ؛ قال :[ الطويل ]
٤٨٢٤ - بَكَرْتُ عَليْهِ غُدْوةً فَرأيْتُهُ*** قُعُوداً إليْهِ بالصَّريمِ عَواذِلُه٢
قوله ﴿ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ ﴾. جوابه محذوف، أي فاغدوا و «صارمين » : قاطعين حادين.
وقيل : ماضين العزم من قولك : سيف صارم.
١ البيت لزهير ينظر ديوانه (١٧)، واللسان (ثبا) والدر المصون ٦/٣٥٥..
٢ البيت لزهير ينظر ديوانه ص ١٤٠، والأضداد ص ٤٢، ١٩٥، وشرح شواهد المغني ٢/٩٤٠، ولسان العرب (صرم)، ومغني اللبيب ٢/٦٥٢، والبحر ٨/٣٠٧ والدر المصون ٦/٣٥٦..
قوله ﴿ فانطلقوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ﴾. أي : يتشاورون فيما بينهم، والمعنى يخفون كلامهم، ويسرونه لئلا يعلم بهم أحد، قاله عطاء وقتادة.
وهو من خفت يخفت إذا سكت، ولم يبين.
قال ابن الخطيب١ :«وخَفَى وخَفَت، كلاهما في معنى الكتم، ومنه الخمود والخفاء ».
وقيل : يخفون أنفسهم من الناس، حتى لا يروهم، وكان أبوهم يخبر الفقراء والمساكين فيحضروا وقت الحصاد والصرام.
وقوله :﴿ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ﴾ جملة حالية من فاعل «انْطَلقُوا ».
١ الفخر الرازي ٣٠/٧٨، ٧٩..
قوله :﴿ أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليوم عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ ﴾.
«أنْ » مفسرة، ويجوز أن تكون مصدرية، أي : يتخافتون بهذا الكلام، أي : يقوله بعضهم لبعض :﴿ لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليوم عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ ﴾.
قال ابن الخطيب١ : والنهي للمسكين عن الدخول نهيٌ لهم عن تمكينه منه، أي : لا تمكنوه من الدخول.
وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة٢ :«لا يدْخُلنَّهَا » بإسقاط «أنْ » إما على إضمار القولِ كمذهب البصريين، وإما على إجراء «يَتَخافتُونَ » مجراه كقول الكوفيين.
١ ينظر السابق..
٢ ينظر: الكشاف ٤/٥٩٠، والمحرر الوجيز ٥/٣٥٠، والبحر المحيط ٨/٣٠٨، والدر المصون ٦/٣٥٦..
قوله :﴿ وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ قَادِرِينَ ﴾.
يجوز أن يكون «قَادِريْنَ » حالاً من فاعل «غَدَوْا » و «عَلى حَرْدٍ » متعلق به وأن يكون «على حَردٍ » هو الحال و «قَادِريْنَ » إما حال ثانية، وإما حال من ضمير الحالِ الأول.
والحرد : قيل : الغضب والحنق. قاله السديُّ وسفيان.
وأنشد للأشهب بن رميلة :[ الطويل ]
٤٨٢٥ - أسُودُ شَرًى لاقَتْ أسُودَ خَفيَّةٍ*** تَساقَوْا على حَرْدٍ دِماءَ الأسَاوِدِ١
قيل : ومثله :[ الرجز ]
٤٨٢٦ - إذَا جِيادُ الخَيْلِ جَاءتْ تَرْدِي*** مَملُوءةً مِنْ غضَبٍ وحَرْدِ٢
عطف لما تغاير اللفظان ؛ كقوله :[ الوافر ]
٤٨٢٧ -. . . *** وألْفَى قوْلهَا كذِباً ومَيْنَا٣
قال أبو عبيدة والقتيبي :«عَلى حَرْدٍ » على منع من حاردت الناقة حراداً، أي : قل لبنها.
والحرود من النوق القليلة الدر، وحاردت السَّنةُ : قل مطرها، وخيرها.
ويقال : حرد - بالكسر - يحرد حرداً، وقد تفتح فيقال : حَرَدَ فهو حردان وحارد، وليوث حوارد.
وقيل : الحرد، والحرود : الانفراد، يقال : حَرَدَ - بالفتح - يَحْرُدُ - بالضم - حروداً وحرداً، أي : انعزل. ومنه كوكب حارد، أي : منفرد.
قال الأصمعي : هي لغة هذيل.
وقال القرطبيُّ٤ : يقال : حرد يحرد حروداً، أي : تنحى عن قومه، ولم يخالطهم.
وقال أبو زيدٍ : رجل حريد من قوم حرداء، وقد حَرَدَ يَحْرِدُ حُرُوداً إذا ترك قومه، وتحول عنهم.
قال الأصمعي : رجل حريد، أي : فريد وحيد، قال : والمنفرد والمنحرد في لغة هذيل وأنشد لأبي ذؤيب :[ البسيط ]
٤٨٢٨ -. . . *** كأنَّهُ كَوكَبٌ في الجَوِّ مُنْحِرِدُ٥
ورواه أبو عمرو : بالجيم، قال : وهو سهيل.
وقيل : الحردُ القصد، يقال : حَرَد يحْرِدُ - بالكسر - حرداً، قصداً، تقول : حردت حردك، أي : قصدت قصدك ؛ قال الراجز :[ الرجز ]
٤٨٢٩ - أقْبَلَ سَيْلٌ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّه*** يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنَّةِ المُغِلَّهْ٦
وقال قتادة ومجاهدٌ :«عَلى حَرْدٍ »، أي : على جد وجهد٧.
وقال القرطبيُّ ومجاهد وعكرمة : أي : على أمر مجتمع قد أسموه بينهم٨.
قال البغويُّ :«وهذا معنى القصدِ ».
وقال الحسنُ : على حاجةٍ وفاقةٍ٩.
وقيل : الحرد اسم جنتهم بعينها، قاله السديُّ.
وقال الأزهريُّ : حرد اسم قريتهم. وفيهما بعد. و «قَادِريْنَ » إما من القدرة وهو الظاهرُ، وإما من التقدير، وهو التضييق، أي : مضيقين على المساكين.
وقرأ العامة : بالإسكان.
وقرأ أبو العالية١٠ وابن السميفع : بالفتح، وهما لغتان.

فصل في تفسير «قادرين »


قال الفرَّاء : ومعنى «قادرين » قد قدروا أمرهم، وبنوا عليه.
وقال قتادة : قادرين على جنتهم عند أنفسهم١١.
وقال الشعبيُّ : قادرين على المساكين.
وقيل : معناه من الوجود، أي : منعوا وهم واجدون.
ومعنى الآيةِ : وغدوا، وكانوا عند أنفسهم، وفي ظنهم أنهم قادرون على منع المساكينَ.
١ البيت للأشهب بن رميلة، ويروى الشطر الثاني:
... *** تساقت على لوح دماء الأساود
ينظر أمالي القالي ١/٨، والحماسة البصرية ١/٢٦٩، وخزانة الأدب ٦/٢٧، وسمط الآلي ص ٣٥، وشرح شواهد المغني ٢/٥١٧، ولسان العرب (حرد)، (خفا) ومعجم ما استعجم ٢/٥٠٦، والمقاصد النحوية ١/٤٨٣، والمنصف ١/٦٧، والحيوان ٤/٢٤٥، والمقتضب ٢/٢٢٨..

٢ البيت للأعرج ينظر: اللسان (حرد) والبحر ٨/٣٠١ والدر المصون ٦/٣٥٦..
٣ تقدم..
٤ الجامع لأحكام القرآن (١٨/١٥٨)..
٥ عجز بيت لأبي ذؤيب كما قال المصنف وصدره:
من وحش حوضى يراعي الصيد مبتقلا ***...
ينظر القرطبي ١٨/١٥٩ وديوان الهذليين ١/١٢٦..

٦ تقدم..
٧ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٩١) عن مجاهد وقتادة والحسن..
٨ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٩٢) عن مجاهد وعكرمة.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٩٦) وعزاه إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن مجاهد..

٩ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٩٢) عن الحسن..
١٠ ينظر: القرطبي ١٨/١٥٩..
١١ ينظر تفسير البغوي (٨/٣٨٠)..
قوله ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهَا ﴾. يعني الجنة محترقة، لا شيء فيها قد صارت كالليل الأسود ينظرون إليها كالرماد أنكروها، وشكوا فيها، وقال بعضهم لبعض :«إنَّا لضالُّونَ » أي : ضللنا الطريق إلى جنتنا،
ثم لما تأملوا وعرفوا أنها هي، قالوا :﴿ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴾ حرمنا خيرها بشؤم عزمنا على البخل ومنعنا الفقراء، قاله قتادة.
وقيل :«إنَّا لضالُّون » عن الصَّواب في غدونا على نية منع المساكين، فلذلك عوقبنا ﴿ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴾ أي : حرمنا جنتنا بما صنعنا.
روى ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إيَّاكم والمَعاصِي إنَّ العَبْدَ ليذْنبُ الذَّنْبَ فيُحرَمُ بِهِ رِزْقاً كان هيئ له " ثم تلا :﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ﴾١ » الآيتين.
١ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٩٥) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود..
قوله :﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ ﴾، يعني أعدلهم، وأفضلهم وأعقلهم ﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ : لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ ﴾ أي : هلا تستثنون، وكان استثناؤهم تسبيحاً. قاله مجاهدٌ وغيره، وهذا يدل على أن هذا الأوسط كان يأمرهم بالاستثناء، فلم يطيعوه.
قال أبو صالحٍ : كان استثناؤهم سبحان الله، فقال لهم :«هَلاَّ تسبِّحُونَ اللَّهَ »، أي تقولون : سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم.
وقال النحاس : أصل التسبيحِ التنزيه لله - عز وجل -، فجعل مجاهد التسبيح في موضع إن شاء اللَّهُ ؛ لأن المعنى تنزيه الله أن يكون شيء إلا بمشيئته.
وقال ابن الخطيب١ : التسبيحُ عبارة عن تنزيهه عن كل سوء فلو دخل شيء في الوجود على خلاف إرادة الله تعالى، لوجب عود النقص إلى قدرة الله تعالى، فقولك :«إن شاء الله » مزيل هذا النقص، فكان ذلك تسبيحاً.
وقيل : المعنى : هلاَّ تَسْتغفرونهُ من فِعْلكُم، وتتوبون إليه من خبث نيتكم.
قيل : إنَّ القوم لمَّا عزموا على منع الزكاةِ واغتروا بالمال والقوة، قال لهم أوسطهم : توبوا عن هذه المعصية قبل نزول العذابِ، فلما رأوا العذاب ذكرهم أوسطهم كلامهُ الأول، وقال :﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ ﴾ فحينئذ اشتغلوا بالتوبة
١ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/٧٩..
وقالوا :﴿ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ قال ابن عباس في قولهم سبحان ربنا أي نستغفر ربنا من ذنوبنا لأنا كنا ظالمين لأنفسنا في منعنا المساكين.
وقال الحسنُ : هذا التسبيحُ هُو الصَّلاةُ كأنهم كانوا يتكاسلون في الصلاة، وإلا لكانت ناهية لهم [ عن الفحشاء والمنكر، ولكانت داعية لهم ] إلى أن يواظبوا على ذكر الله، وعلى قول إن شاء الله.
قوله ﴿ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ ﴾. أي : يلوم بعضهم بعضاً، يقول هذا لهذا : أنت أشرت علينا بهذا الرأي، ويقول ذلك لهذا : أنت خوفتنا بالفقر، ويقول الثالث لغيره : أنت رغبتني في جمع المال،
ثم نادوا على أنفسهم بالوَيْلِ فقالوا :﴿ يا ويلنا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ﴾ أي : عاصين بمنع حق الفقراءِ، وترك الاستثناء.
وقال ابنُ كيسان : طغينا نعم اللَّهِ،
فلم نشكرهَا كما شكرها آباؤنا من قبل ﴿ عسى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَا ﴾ تعاقدوا وقالوا : إن أبدلنا الله خيراً منها لنصنعنّ كما صنع آباؤنا فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم الله من ليلتهم ما هو خير منها.
قرئ١ :«يبدلنا » بالتخفيف والتشديد، وهما لغتانِ.
وقيل : التبديلُ تغير الشيء، أو تغير حاله وعين الشيء قائم، والإبدال رفع الشيء ووضع آخر مكانه، ثم قال :﴿ إِنَّا إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ﴾ أي : طالبون منه الخير راجعون لعفوه.
قال المفسرون : إن الله أمر جبريل عليه السلام أن يقتلع تلك الجنة، بزغر من أرض الشام، ويأخذ من أرض الشام جنة، فيجعلها مكانها.
وقال ابن مسعود : إن القوم لما أخلصوا وعرف الله منهم صدقهم أبدلهم اللَّهُ جنة يقال لها : الخيوان فيها عنب يحمل البغل منها عنقوداً واحداً٢.
وقال أبو خالد اليماني : دخلت تلك الجنة، فرأيت كُلَّ عنقودٍ منها كالرَّجلِ الأسودِ القائمِ.
وقال الحسنُ : قول أهل الجنة :﴿ إِنَّا إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ﴾ لا أدري إيماناً كان ذلك منهم، أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابهم الشدة. فتوقف في كونهم مؤمنين٣.
وسئل قتادةُ عن أهل الجنَّة، أهم من أهل الجنَّة أم من أهل النَّارِ ؟.
قال : لقد كلفتني تعباً٤.
والأكثرون يقولون : إنهم تابوا وأخلصوا. حكاه القشيري.
١ ينظر: الكشاف ٤/٥٩٢، والمحرر الوجيز ٥/٣٥، وقال ابن عطية: وقرأ "يبدلنا" بسكون الباء وتخفيف الدال جمهور القراء والحسن وابن محيصن والأعمش، وقرأ نافع وأبو عمرو بالتثقيل وفتح الباء..
٢ ذكره البغوي في "تفسيره" (٤/٣٨١)..
٣ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٨/١٦٠)..
٤ ينظر المصدر السابق..
قوله :﴿ كَذَلِكَ العذاب ﴾. مبتدأ وخبره مقدم، أي : مثل ذلك العذاب عذاب الدنيا وأما عذاب الآخرة فأكبر منه ﴿ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾.
قال ابنُ زيدٍ :«كذَلكَ العَذابُ » أي : عذاب الدنيا وهلاك الأموال١.
وقيل : هذا وعظٌ لأهل مكة بالرجوعِ إلى اللَّه لما ابتلاهم بالجدب لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم أي : كفعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا في الدنيا ﴿ وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾.
قال ابنُ عباسٍ : هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إلى بدر، وحلفوا ليقتلنَّ محمداً، وأصحابه، وليرجعوا إلى أهل مكة، حتى يطوفوا بالبيت، ويشربوا الخمر، وتضرب القيانُ على رءوسهم، فأخلف الله ظنهم، وقتلوا وأسروا وانهزموا كأهل هذه الجنة لما خرجوا عازمين على الصرم، فخابوا٢.

فصل في العبرة من هذه الآية بضرب المثل


قال ابن الخطيب٣ : قوله تعالى ﴿ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين ﴾، والمعنى : لأجل أن أعطاه الله المال والبنين كفر بالله، كلا، بل الله تعالى إنما أعطاه ذلك للابتلاء، فإذا صرفه إلى الكفر دمر الله عليه، بدليل أن أصحاب الجنة لما أتوا بهذه المعصيةِ اليسيرةِ دمر الله جنتهم، فكيف حال من عاند الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصرَّ على الكفر والمعصيةِ.

فصل في بيان هل كان الحق واجباً عليهم أم لا ؟


قيل : إن الحق الذي منعه أهل الجنَّة المساكين كان واجباً عليهم، ويحتمل أنه كان تطوعاً، والأول أظهر.
وقيل : السورة مكية، فبعد حمل الآية على ما أصاب أهل مكة من القحطِ، وعلى قتال بدر.
١ ينظر المصدر السابق..
٢ ينظر: المصدر السابق..
٣ ينظر: الفخر الرازي (٣٠/٨٠)..
قوله: ﴿إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النعيم﴾، أي: جناتٌ ليس فيها إلا النعيمُ الخالصُ لا يشوبه ما ينغصُه كما يشوب جناتِ الدنيا.
قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية، قال كفَّارُ مكة للمسلمين: إن الله تعالى فضَّلنا عليكم في الدنيا فلا بد وأن يُفضِّلنا عليكم في الآخرة، فإن لم يحصل التفضيلُ، فلا أقل من المساواةِ. فأجاب الله عن هذا الكلام بقوله: ﴿أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين﴾، أي: إن التسوية بين المُطيع والعاصي غيرُ جائزة ثم وبَّخهُمْ فقال: ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ هذا الحكم الأعوج كأن أمر الجزاءِ مفوضٌ إليكم حتى تحكموا فيه.
294
قوله: «عِندَ ربِّهِمْ». يجوز أن يكون منصوباً بالاستقرار، وأن يكون حالاً من «جنَّاتِ».

فصل في رد كلام القاضي


قال القاضي: في الآية دليل واضح على أن وصف الإنسان بأنه مسلم ومجرم كالمتنافي، والفاسق لما كان مجرماً، وجب أن لا يكون مسلماً.
وأجيب بأنه تعالى أنكر جعل المسلم مثلاً للمجرم، ولا شك أنه ليس المراد إنكار المماثلة في جميع الأمور، فإنهما متماثلان في الجوهرية، والجسمية، والحدوث، والحيوانية، وغيرها من الأمور الكثيرة، بل المراد: إنكارُ استوائهما في الإسلام والجرم، أو في آثارِ هذين الأمرينِ، فالمراد: أن يكون إنكار أثر الإسلام مساوياً لأثر جرم المجرم عند الله، وهذا لا نزاع فيه، فمن أين يدل على أن الشخص الواحد يمتنع فيه كونه مسلماً ومجرماً؟.

فصل في رد كلام الجبائي


قال الجبائيُّ: دلت الآية على أن المجرم لا يكون ألبتةَ في الجنةِ؛ لأنه تعالى أنكر حصول التسوية بينهما في الثواب، بل لعله يكون ثواب المجرم أزيد من ثواب المسلم، إذا كان المجرمُ أطول عمراً من المسلم، وكانت طاعته غير محبطةٍ. والجوابُ: هذا ضعيفٌ، لأنا بينا التسوية في درجة الثوابِ، ولعلهما لا يستويان فيه بل يكون ثواب المسلمِ الذي لم يعص أكثر من ثواب من عصى، على أنا نقول: لم لا يجوز أن يكون المراد من المجرمين هم الكفار الذين حكى الله عنهم هذه الواقعة، لأن حمل الجمع المحلى بالألف واللام على المعهود السابق مشهور في اللغة والعرفِ.
قوله: ﴿أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ﴾. أي: ألكم كتاب تجدون فيه المطيع كالعاصِي. وهذا كقوله ﴿أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ﴾ [الصافات: ١٥٦ - ١٥٧].
قوله: ﴿إِنَّ لَكُمْ فِيهِ﴾.
العامة على كسر الهمزة، وفيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها معمولة ل «تَدْرُسُونَ»، أي: تدرسون في الكتاب أن لكم ما تحتاجونه، فلما دخلت اللامُ كسرت الهمزة، كقولك: علمت أنك عاقل - بالفتح - وعلمت إنك لعاقل - بالكسر -.
والثاني: أن تكون على الحكايةِ للمدروسِ كما هو، كقوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين
295
سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين}
[الصافات: ٧٨، ٧٩]، قالهما الزمخشري.
وفي الفرق بين الوجهين عسرٌ، قال: «وتخير الشيء واختاره، أخذ خيره، كتنخله وانتخله، أخذ منخوله».
الثالث: أنها على الاستئناف على معنى «إن كَان لَكُمْ كتابٌ فلكُمْ متخير».
قال القرطبي: تم الكلام عند قوله «تَدْرسُونَ» ثم ابتدأ فقال: ﴿إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لمَا تَخَيَّرُونَ﴾ أي: إن لكم في هذا الكتاب إذن ما تخيرون، أي: ليس لكم ذلك، والكناية في «فِيْهِ» الأولى والثانية راجعة إلى الكتاب.
وقرأ طلحة والضحاك: «أنَّ لَكُمْ» بفتح الهمزة. وهو منصوب ب «تَدْرسُونَ» إلا أن فيه زيادة لام التأكيد، وهي نظير قراءة ﴿إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام﴾ [الفرقان: ٢٠] بالفتح.
وقرأ الأعرج وابن هرمز: «أإنَّ لَكُمْ» في الموضعين، يعني «أإنَّ لكُمْ فيْهِ لمَا تخيَّرُونَ» «أإنَّ لَكُمْ لمَا تَحْكُمونَ» بالاستفهام فيهما جميعاً.
ثم إنه تعالى زاد في التوبيخ فقال: ﴿أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ﴾، أي: عهود ومواثيق ﴿عَلَيْنَا بَالِغَةٌ﴾ مؤكدة والبالغة المؤكدة بالله تعالى، أي: أم لكم عهود على الله تعالى استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة.
قال ابن الخطيب: والمعنى: أم ضمنا لكم، وأقسمنا لكم بأيمان مغلطة متناهية في التوكيد.
قوله: «بَالِغَةٌ».
العامة على رفعها نعتاً ل «أيْمَانٌ» و ﴿إلى يَوْمِ القيامة﴾ متعلق بما تعلق به «لَكُمْ» زمن الاستقرار أي كائنة لكم إلى يوم، أو «ببالغة»، أي: تبلغ إلى ذلك اليوم، وتنتهي إليه.
وقرأ زيد بن علي والحسن: بنصبها.
فقيل: على الحال من «أيْمَانٌ» لأنها تخصصت بالعمل، أو بالوصف.
وقال القرطبيُّ: «على الحال من الضمير في» لَكُمْ «لأنه خبر عن» أيمانٌ «ففيه ضمير منه، وإما من الضمير في» عليْنَا «إن قدرت» علينا «وصفاً للأيمان لا متعلقاً بنفس
296
الأيمانِ؛ لأن فيه ضميراً منه كما يكون إذا كان خبراً عنه.
وقيل: من الضمير في» علينا إن قدرت علينا «وصفاً للأيمان».
وقوله: ﴿إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ﴾. أي: لأنفسكم من الخير والكرامة.
قوله: ﴿إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ﴾، جواب القسم في قوله: «أيْمانٌ» لأنها بمعنى أقسام.
قوله: ﴿سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ﴾. أي: سل - يا محمد - هؤلاء المتقولين عليَّ: أيهم كفيل بما تقدم ذكره، والزعيم: الكفيل والضمين، قاله ابن عباس وقتادة، لقوله تعالى: ﴿وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ﴾ [يوسف: ٧٢].
وقال ابنُ كَيْسَان: الزعيم هنا: القائم بالحجة والدعوى.
وقال الحسن: الزعيم: الرسول.
قوله: «أَيُّهم» متعلق ب «سَلْهُمْ» و «بذلك» متعلق ب «زعيمٌ»، أي: ضمين وكفيل وقد تقدم أن «سَألَ» تعلق لكونه سبباً في العلم، وأصله أن يتعدى ب «عَنْ»، أو الباء كقوله:
﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً﴾ [الفرقان: ٥٩]، وقوله: [الطويل]
٤٨٣٠ - فإنْ تَسْألُونِي بالنِّساءِ...................................
والجملة في موضع نصب بعد إسقاط الخافض كما تقدم تقريره.
قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ﴾. هذه قراءة العامة.
وقرأ عبد الله: ﴿أم لهم شرك فليأتوا بشركهم﴾ بلفظ المصدرِ.
قال القرطبيُّ: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ﴾، أي: ألهم، والميم صلة، ومعنى: شركاءُ، أي: شهداء ﴿فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ﴾ يشهدون على ما زعموا ﴿إِن كَانُواْ صَادِقِينَ﴾ في دعواهم.
وقيل: فليأتوا بشركائهم إن أمكنهم، فهو أمر تعجيز.
وقال ابن الخطيب: «في تفسيره وجهان:
الأول: أن المعنى أم لهم أشياء يعتقدون أنها شركاء لله ويعتقدون أن أولئك شركاء يجعلونهم في الآخرة مثل المؤمنين في الثواب، والخلاص من العقابِ، وإنما إضاف الشركاء إليهم؛ لأنهم جعلوها شركاء للَّهِ، كقوله: ﴿هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ﴾ [الروم: ٤٠].
297
الثاني: أم لهم أناسٌ يشاركونهم في هذا المذهب، وهو التسوية بين المسلمين والمجرمين فليأتوا بهم إن كانوا صادقينَ في دعواهم، والمراد بيان أنه كما ليس لهم دليل عقلي، ولا دليل من كتاب يدرسونه، فليس لهم من يوافقهم من العقلاء على هذا القولِ، فدل ذلك على بطلانه».
298
فأجاب الله عن هذا الكلام بقوله :﴿ أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين ﴾، أي : إن التسوية بين المُطيع والعاصي غيرُ جائزة
ثم وبَّخهُمْ فقال :﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ هذا الحكم الأعوج كأن أمر الجزاءِ مفوضٌ إليكم حتى تحكموا فيه١.
قوله :«عِندَ ربِّهِمْ ». يجوز أن يكون منصوباً بالاستقرار، وأن يكون حالاً من «جنَّاتِ ».

فصل في رد كلام القاضي


قال القاضي : في الآية دليل واضح على أن وصف الإنسان بأنه مسلم ومجرم كالمتنافي، والفاسق لما كان مجرماً، وجب أن لا يكون مسلماً.
وأجيب بأنه تعالى أنكر جعل المسلم مثلاً للمجرم، ولا شك أنه ليس المراد إنكار المماثلة في جميع الأمور، فإنهما متماثلان في الجوهرية، والجسمية، والحدوث، والحيوانية، وغيرها من الأمور الكثيرة، بل المراد : إنكارُ استوائهما في الإسلام والجرم، أو في آثارِ هذين الأمرينِ، فالمراد : أن يكون إنكار أثر الإسلام مساوياً لأثر جرم المجرم عند الله، وهذا لا نزاع فيه، فمن أين يدل على أن الشخص الواحد يمتنع فيه كونه مسلماً ومجرماً ؟.

فصل في رد كلام الجبائي


قال الجبائيُّ : دلت الآية على أن المجرم لا يكون ألبتةَ في الجنةِ ؛ لأنه تعالى أنكر حصول التسوية بينهما في الثواب، بل لعله يكون ثواب المجرم أزيد من ثواب المسلم، إذا كان المجرمُ أطول عمراً من المسلم، وكانت طاعته غير محبطةٍ. والجوابُ : هذا ضعيفٌ٢، لأنا بينا التسوية في درجة الثوابِ، ولعلهما لا يستويان فيه بل يكون ثواب المسلمِ الذي لم يعص أكثر من ثواب من عصى، على أنا نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد من المجرمين هم الكفار الذين حكى الله عنهم هذه الواقعة، لأن حمل الجمع المحلى بالألف واللام على المعهود السابق مشهور في اللغة والعرفِ.
١ ذكره القرطبي ١٨/١٦٠ عن ابن عباس..
٢ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/٨١..
قوله :﴿ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ ﴾. أي : ألكم كتاب تجدون فيه المطيع كالعاصِي. وهذا كقوله ﴿ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ ﴾[ الصافات : ١٥٦ - ١٥٧ ].
قوله :﴿ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ ﴾.
العامة على كسر الهمزة، وفيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها معمولة ل «تَدْرُسُونَ »، أي : تدرسون في الكتاب أن لكم ما تحتاجونه، فلما دخلت اللامُ كسرت الهمزة، كقولك : علمت أنك عاقل - بالفتح - وعلمت إنك لعاقل - بالكسر -.
والثاني : أن تكون على الحكايةِ للمدروسِ كما هو، كقوله :﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين ﴾[ الصافات : ٧٨، ٧٩ ]، قالهما الزمخشري.
وفي الفرق بين الوجهين عسرٌ، قال :«وتخير الشيء واختاره، أخذ خيره، كتنخله وانتخله، أخذ منخوله ».
الثالث : أنها على الاستئناف على معنى «إن كَان لَكُمْ كتابٌ فلكُمْ متخير ».
قال القرطبي١ : تم الكلام عند قوله «تَدْرسُونَ » ثم ابتدأ فقال :﴿ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لمَا تَخَيَّرُونَ ﴾ أي : إن لكم في هذا الكتاب إذن ما تخيرون، أي : ليس لكم ذلك، والكناية في «فِيْهِ » الأولى والثانية راجعة إلى الكتاب.
وقرأ طلحة٢ والضحاك :«أنَّ لَكُمْ » بفتح الهمزة. وهو منصوب ب «تَدْرسُونَ » إلا أن فيه زيادة لام التأكيد، وهي نظير قراءة ﴿ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام ﴾[ الفرقان : ٢٠ ] بالفتح.
وقرأ الأعرج وابن٣ هرمز :«أإنَّ لَكُمْ » في الموضعين، يعني «أإنَّ لكُمْ فيْهِ لمَا تخيَّرُونَ » «أإنَّ لَكُمْ لمَا تَحْكُمونَ » بالاستفهام فيهما جميعاً.
١ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٦١..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٥١، والبحر المحيط ٨/٣٠٨، والدر المصون ٦/٣٥٧..
٣ ينظر السابق..
ثم إنه تعالى زاد في التوبيخ فقال :﴿ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ ﴾، أي : عهود ومواثيق ﴿ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ ﴾ مؤكدة والبالغة المؤكدة بالله تعالى، أي : أم لكم عهود على الله تعالى استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة.
قال ابن الخطيب١ : والمعنى : أم ضمنا لكم، وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد.
قوله :«بَالِغَةٌ ».
العامة على رفعها نعتاً ل «أيْمَانٌ » و ﴿ إلى يَوْمِ القيامة ﴾ متعلق بما تعلق به «لَكُمْ » زمن الاستقرار أي كائنة لكم إلى يوم، أو «ببالغة »، أي : تبلغ إلى ذلك اليوم، وتنتهي إليه.
وقرأ زيد٢ بن علي والحسن : بنصبها.
فقيل : على الحال من «أيْمَانٌ » لأنها تخصصت بالعمل، أو بالوصف.
وقال القرطبيُّ٣ :«على الحال من الضمير في " لَكُمْ " لأنه خبر عن " أيمانٌ " ففيه ضمير منه، وإما من الضمير في " عليْنَا " إن قدرت " علينا " وصفاً للأيمان لا متعلقاً بنفس الأيمانِ ؛ لأن فيه ضميراً منه كما يكون إذا كان خبراً عنه.
وقيل : من الضمير في " علينا إن قدرت علينا " وصفاً للأيمان ».
وقوله :﴿ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ﴾. أي : لأنفسكم من الخير والكرامة.
قوله :﴿ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ﴾، جواب القسم في قوله :«أيْمانٌ » لأنها بمعنى أقسام.
١ الفخر الرازي ٣٠/٨٢..
٢ ينظر: الكشاف ٤/٥٩٣، والبحر المحيط ٨/٣٠٨، والدر المصون ٦/٣٥٧..
٣ الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٦١..
قوله :﴿ سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ ﴾. أي : سل - يا محمد - هؤلاء المتقولين عليَّ : أيهم كفيل بما تقدم ذكره، والزعيم : الكفيل والضمين١، قاله ابن عباس وقتادة، لقوله تعالى :﴿ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ ﴾[ يوسف : ٧٢ ].
وقال ابنُ كَيْسَان : الزعيم هنا : القائم بالحجة والدعوى.
وقال الحسن : الزعيم : الرسول٢.
قوله :«أَيُّهم » متعلق ب «سَلْهُمْ » و «بذلك » متعلق ب «زعيمٌ »، أي : ضمين وكفيل وقد تقدم أن «سَألَ » تعلق لكونه سبباً في العلم، وأصله أن يتعدى ب «عَنْ »، أو الباء كقوله :﴿ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً ﴾[ الفرقان : ٥٩ ]، وقوله :[ الطويل ]
٤٨٣٠ - فإنْ تَسْألُونِي بالنِّساءِ ***. . . ٣
والجملة في موضع نصب بعد إسقاط الخافض كما تقدم تقريره.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٩٦) عن ابن عباس وقتادة.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٩٧) عن قتادة وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر..

٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٦١)..
٣ تقدم..
قوله :﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ ﴾. هذه قراءة العامة.
وقرأ عبد الله١ :" أم لهم شرك فليأتوا بشركهم " بلفظ المصدرِ.
قال القرطبيُّ٢ :﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ ﴾، أي : ألهم، والميم صلة، ومعنى : شركاءُ، أي : شهداء ﴿ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ ﴾ يشهدون على ما زعموا ﴿ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ ﴾ في دعواهم.
وقيل : فليأتوا بشركائهم إن أمكنهم، فهو أمر تعجيز.
وقال ابن الخطيب٣ :«في تفسيره وجهان :
الأول : أن المعنى أم لهم أشياء يعتقدون أنها شركاء لله ويعتقدون أن أولئك شركاء يجعلونهم في الآخرة مثل المؤمنين في الثواب، والخلاص من العقابِ، وإنما إضاف الشركاء إليهم ؛ لأنهم جعلوها شركاء للَّهِ، كقوله :﴿ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ ﴾[ الروم : ٤٠ ].
الثاني : أم لهم أناسٌ يشاركونهم في هذا المذهب، وهو التسوية بين المسلمين والمجرمين فليأتوا بهم إن كانوا صادقينَ في دعواهم، والمراد بيان أنه كما ليس لهم دليل عقلي، ولا دليل من كتاب يدرسونه، فليس لهم من يوافقهم من العقلاء على هذا القولِ، فدل ذلك على بطلانه ».
١ ينظر: الدر المصون ٦/٣٥٨..
٢ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٦١..
٣ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/٨٢..
ثم إنه تعالى لما أبطل قولهم شرح بعده عظمة يوم القيامة، وهو قوله:
﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ﴾ «يَوْمَ» منصوب بقوله «فليَأتُوا» أي: فليأتوا بشركائهم يوم يكشفُ عن ساق ليشفع الشركاء لهم وحينئذ لا يوقف على «صَادِقينَ».
أو بإضمارِ «اذْكُرْ» فيكون مفعولاً به، أو بمحذوفٍ وهو ظرف، أي: يوم يكشف يكون كيت وكيت. أو ب «خَاشِعةً». قاله أبو البقاء.
و «عَنْ ساقٍ» قائم مقام الفاعل.
وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة: «تكشف» بالتاء من فوق مبنياً للفاعل، أي: الشدة والساعة. وعنه أيضاً كذلك: مبنياً للمفعول.
وهي مشكلة، لأن التأنيث لا معنى له هاهنا إلا أن يقال: إن المفعول مستتر، أي: تكشف هي، أي: الشدة، ويتعلق «عَنْ ساقٍ» بمحذوف، أي: تكشف عن ساقها.
ولذلك قال الزمخشري: «وتكشف» بالتاء مبنياً للفاعل والمفعول جميعاً، والفعل للساعة، أو الحال: أي يشتد الحال، أو الساعة.
وقرىء: «ويُكشِفُ» - بضم التاء أو الياء وكسر الشين - من «أكشف» إذا دخل في الكشف، وأكشف الرجل إذا انقلبت شفته العليا لانكشاف ما تحتها. ويقال له أيضاً: أخلع وكشف الساق كناية عن الشدة.
قال الراجز: [الرجز]
298
٤٨٣١ - عَجِبْتُ مِنْ نَفْسِي ومِنْ إشْفَاقِهَا ومِنْ طِرَادِي الطَّيْرَ عَنْ أرْزَاقِهَا
في سَنةٍ قَدْ كشَفَتْ عَنْ سَاقِهَا حَمْرَاءِ َبْرِي اللَّحْمَ عَنْ عُراقِهَا
وقال حاتم الطائيُّ: [الطويل]
٤٨٣٢ - أخُو الحَرْبِ إنْ عَضَّتْ به الحَرْبُ عضَّهَا وإنْ شَمَّرْتَ عَنْ سَاقهَا الحَرْبُ شَمَّرَا
وقال الآخر: [مجزوء الكامل]
٤٨٣٣ - كَشفَتْ لَهُمْ عَنْ سَاقِهَا وبَدَا مِنَ الشَّرِّ البَواحُ
وقال الراجز: [الرجز]
٤٨٣٤ - أ - قَدْ شَمرَتْ عَنْ سَاقِهَا فشُدُّوا وجَدَّتِ الحَرْبُ بِكُمْ فَجِدُّوا
وقال الآخر: [السريع، أو الرجز]
٤٨٣٤ - ب - صَبْراً أُمامُ إنَّهُ شَرُّ بَاقْ وقَامتِ الحَرْبُ بِنَا على سَاقْ
قال الزمخشريُّ: الكشفُ عن الساق والإبداء عن الخدام مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب، وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدراتِ عن سوقهن في الهرب وإبداء خدامهن عند ذلك؛ قال حاتم:
٤٨٣٥ - أ - أخو الحَرْبِ..........................................
وقال ابن قيس الرُّقيَّاتِ: [الخفيف]
٤٨٣٥ - ب - تُذِهِلُ الشَّيْخَ عنْ بنيهِ وتُبْدِي عَنْ خِدَامِ العَقيلَةُ العَذْراءُ
انتهى.

فصل في «الساق»


قال ابن عباس في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ﴾، قال: كرب وشدة.
299
وعن مجاهد: شدة الأمر وحده.
وروى مجاهد عن ابن عباس قال: أشد ساعةٍ في القيامة.
وقال أبو عبيدة: إذا اشتد الأمر، أو الحرب قيل كشف الأمر عن ساقه.
والأصل فيه: أن من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد، شمر عن ساقه، فاستعير الساق والكشف عنها في موضع الشدة.
وقيل: ساق الشيء: أصله الذي به قوامه كساق الشجرة، وساق الإنسان، أي: يوم يكشفُ عن أصل الأمر، فتظهر حقائق الأمور، وأصلها.
وقيل: يكشف عن ساق جهنم.
وقيل: عن ساق العرش.
وقيل: يريد وقت اقتراب الأجل وضعف البدن، أي: يكشف المريض عن ساقه ليبصر ضعفه، ويدعوه المؤذنون إلى الصلاة، فلا يمكنه أن يقوم، ويخرج.

فصل في تأويل «الساق»


قال القرطبيُّ: فأما ما روي الله تعالى يكشف عن ساقه، فإنه - عَزَّ وَجَلَّ - يتعالى عن الأعضاء، والأبعاض، وأن ينكشف، ويتغطى، ومعناه أن يكشف عن العظيم من أمره وقيل: «يكشف عن نوره عَزَّ وَجَلَّ».
؟؟؟ وروى أبو موسى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قوله تعالى ﴿عَنْ سَاقٍ﴾ قال: يكشف عن نورٍ عظيمٍ يخِرُّونَ لهُ سُجَّداً.
300
وروى أبو بردة عن أبي موسى قال: حدثني أبي قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامةِ مثِّل لِكُلِّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبدُونَ فِي الدُّنيَا فيَذْهبُ كُل قَوْمٍ إلى مَا كَانُوا يَعَبْدُون ويبقى أهلُ التَّوحيدِ، فيقال لهم: ما تَنْتَظِرُونَ، وقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ، فيقولون: لنَا رَبٌّ كنَّا نَعْبدُهُ في الدُّنيَا، ولَمْ نَرَهُ، قال: وتعْرِفُونهُ إذَا رأيتمُوهُ؟ فيقولون: نَعَم، فيُقَالُ لَهُمْ: فَكيْفَ تعرفونه، ولَمْ تَرَوهُ؟ قالوا: إنه لا شبيهَ لَهُ، فيكشفُ لَهُم الحجابُ، فينْظُرونَ إلى اللَّهِ تعالى، فيخِرُّونَ لَهُ سُجَّداً، ويبقى أقوامٌ ظُهُورُهُمْ كَصَياصِي البَقرِ، فينْظرُونَ إلى اللَّهِ تعالى فيريدون السُّجُودَ، فلا يَسْتطِيْعُونَ، فَذلكَ قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ﴾ فيقول الله تعالى: عبادي ارفعوا رءوسكم، فقد جعلت بدل كل رجل منكم رجلاً من اليهود والنصارى في النار»، قال أبو بردةُ: فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فقال: الله الذي لا إله إلا هو لقد حدثك أبوك بهذا الحديث؟ فحلف له ثلاثة أيمانٍ، فقال عمر: سمعتُ في أهل التوحيد حديثاً هو أحب إليَّ من هذا.
قوله ﴿خَاشِعَةٌ﴾. حال من مرفوع «يُدْعَونَ» و «أبْصَارهُمْ» فاعل به، ونسب الخشوع للأبصار وإن كانت الأعضاء كُلها كذلك لظهور أثره فيها.
وقوله: «وهُمْ سَالِمُونَ». حال من مرفوع «يُدعَونَ» الثانية.
ومعنى ﴿خَاشِعَةٌ أَبْصَارُهُمْ﴾، أي: متواضعةٌ «تَرْهقُهُمْ ذلَّةٌ» وذلك أن المؤمنين يرفعون رءوسهم، ووجوههم أشد بياضاً من الثلج، وتسود وجوه الكافرين والمنافقين حتى ترجع أشد سواداً من القار.

فصل في تقرير كلام أهل اللغة في الساق


قال ابن الخطيب بعد أن حكى أقوال أهلِ اللغةِ في الكشف عن الساق: واعلم أن هذا اعتراف من أهل اللغة بأن استعماله في الشدة مجاز، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز صرف الكلامِ إلى المجاز إلا بعد تعذر حمله على الحقيقة، فإذا أقمنا الدلائل القاطعة على أنه تعالى يستحيل أن يكون جسماً، فيجب حينئذٍ صرف هذا اللفظ إلى المجاز.
واعلم أن صاحب الكشَّاف أورد هذا التأويل في معرض آخر، فقال: الكشف عن السَّاق مثلٌ في شدَّة الأمر، فمعنى ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ﴾ يوم يشتد، ويتعاظم، ولا كشف ثمَّ ولا ساقَ، كما تقول: الشحيح يده مغلولة، ولا يد ثمَّ، ولا غل، وإنما هو مثل في البخلِ، ثم أخذ يعظم علم البيانِ ويقول: لولاه ما وقفنا على هذه الأسرارِ، وأقولُ: إما أن يدعي أنه يجوز صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل، أو تقول: لا يجوز ذلك إلا بعد امتناع حمله على الحقيقة، والأول باطل بالإجماع، ولأنا إن جوزنا ذلك انفتحت
301
أبواب تأويلات الفلاسفةِ في أمر المعاد، فإنهم يقولون في قوله: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ [الحج: ٢٣] ليس هناك أنهار ولا أشجار، وإنما هو مثل للّذة والسعادة ويقولون في قوله تعالى: ﴿اركعوا واسجدوا﴾ [الحج: ٧٧] وليس هناك ركوع ولا سجود وإنما هو مثل للتعظيم، ومعلوم أن ذلك يفضي إلى رفع الشرائع، وفساد الدينِ، وأما من قال: إنه لا يصار إلى التأويل، إلا عند قيام الدليل على أنه لا يجوز حمله على ظاهره، فهذا قولُ كُلِّ أحد من المتكلمين، فأين الدقائق التي استند هو بمعرفتها والاطلاع عليها بواسطةِ علم البيان، ثم إن قال بعد أن حكى القول بأن المراد بالساق جهنم، أو ساق العرش، أو ساق ملك عظيم إن اللفظ لا يدل إلا على ساق، وأما أي شيء هو فليس في اللفظ ما يدل عليه، ثم ذكر حديث ابن مسعود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أنَّهُ تعالى يتَمثَّلُ للخَلْق يَوْمَ القِيامةِ حِيْنَ يَمُرُّ المُسْلمُونَ فيقول: مَنْ تَعْبُدُونَ؟ فيقولون: نَعْبُدُ اللَّهَ فيُشْهدُهمْ مرَّتينِ، أو ثلاثاً، ثُمَّ يقُولَ: هَلْ تَعْرفُون ربَّكُمْ؟ فيقولون: لَوْ عرَّفنَا نَفسَهُ عرفْناهُ، فعِنْدَ ذلِكَ يُكْشَفُ عن سَاقٍ فَلا يَبْقَى مُؤمِنٌ إلاَّ خَرَّ للَّه ساجِداً، ويَبْقَى المُنافِقُونَ ظُهُورهُمْ كالطَّبَقِ الوَاحدِ، كأنَّما فيهَا السَّفافِيدُ».
قال: واعلم أن هذا القول باطل لوجوه:
أحدها: أن الدلائل دلت على أن كل جسم متناهي وكل متناهٍ محدث، وأنّ كلَّ جسم ممكن وكل ممكن محدث.
وثانيها: أنه لو كان المراد ذلك لكان من حق الساق أن يعرف أنها ساق مخصوصة معهودة عنده، وهي ساق الرحمن، أما إذا أجملت ففائدة التنكير: الدلالة على التعظيم، كأنه قال: يوم يكشف عن شدة، وأي شدة لا يمكن وصفها.
وثالثها: أن التعريف لا يحصل بالكشف عن الساق، وإنما يحصل بكشف الوجه، ثم حكى قول أبي مسلم: بأنه لا يمكن حمله على يوم القيامة؛ لأنه تعالى قال في وصفه: ﴿وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود﴾ ويوم القيامة ليس فيها تعبد، ولا تكليف، بل المراد منه إما آخر أيام الرجل في دنياه، كقوله تعالى:
﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ﴾ [الفرقان: ٢٢]، وقوله: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ﴾ [الأنعام: ١٥٨] الآية لأنه الوقت الذي لا تنفع نفساً إيمانها، وإما حال المرض والهرم والعجز، ثم إنه يرى الناس يدعون إلى
302
الصلاة إذا حضرت أوقاتها، وهو لا يستطيع الصلاة ﴿وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود وَهُمْ سَالِمُونَ﴾ مما بهم الآن من الشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت، أو من العجز والهرم، ونظير هذه الآية ﴿فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم﴾ [الواقعة: ٨٣]. ثم قال: واعلم أنه لا نزاع في أنه يمكن حمل اللفظ على ما قال أبو مسلم، ثم قال: فأما قوله: «إنه لا يمكن حمله على يوم القيامة بسبب أن الأمر بالسجود حاصل في الدنيا والتكاليف زائلة يوم القيامة».
فجوابه: أن ذلك لا يكون على سبيل التكليف بل على سبيل التقريع والتخجيل فلم قلت: إن ذلك غير جائزٍ.
قوله ﴿وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود﴾ في الدنيا ﴿وَهُمْ سَالِمُونَ﴾ معافون أصحاء.
قال إبراهيم التيمي: أي: يدعون بالأذان، والإقامة، فيأبون.
وقال سعيد بن جبيرٍ: كانوا يسمعون حيّ على الفلاح، فلا يجيبون، وهم سالمون أصحاء.
وقال كعبُ الأحبار: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات.
وقيل: أي: بالتكليف الموجه عليهم في الشرع.
قوله: ﴿فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث﴾، أي: فدعني والمكذبين بالقرآن وخلّ بيني وبينهم.
وقال الزجاجُ: لا تشغل بالك به كِلْهُ إليّ، فإني أكفيك أمره.
و «مَنْ» منصوب إما نسقاً على ضمير المتكلم، أو مفعول معه، وهو مرجوح؛ لإمكان النسق من غير ضعف، وتقدم إعراب ما بعده.

فصل في مناسبة الآية لما قبلها


لما خوف الكفار بعظمة يوم القيامة زاد في التخويف مما عنده، وفي قدرته من القهر، يقال: ذَرْنِي وإياه أي كِلْهُ إليّ، فأنا أكفيكه.
قال السديُّ: والمراد بالحديث القرآن.
وقيل: يوم القيامةِ، وهذا تسلية للنبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ﴾، أي: سنأخذهم على غفلة، وهم لا يعرفون، فعذبوا يوم بدر.
303
وقال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعم، وننسيهم الشكر.
وقال الحسن: كم مستدرجٍ بالإحسان إليه، وكم مفتون بالثناء عليه، وكم مغرورٍ بالستر عليه.
وقال أبو روق: كلما أحدثوا الخطيئة جددنا لهم نعمة، وأنسيناهم الاستغفار.
قال ابن عباسٍ: سنمكر بهم، وروي أن رجلاً من بني إسرائيل قال: يا ربِّ، كم أعصيك وأنت لا تعاقبني، فأوحى اللَّهُ إلى نبي زمانهم أن قُلْ له: كَمْ مِنْ عقُوبَةٍ لِي عليكَ وأنْتَ لا تَشْعرُ أنَّ جُمُودَ عَيْنِك، وقساوة قلبك استدراجٌ منِّي، وعقُوبةٌ لو عقَلْتَ.
والاستدراج: ترك المعالجة، وأصله النقل من حال إلى حال كالتدريج.
ومنه قيل: درجات، وهي منزلة واستدرج فلان فلاناً، أي: استخرج ما عنده قليلاً قليلاً، ويقال: درجه إلى كذا، واستدرجه بمعنى أدناه على التدريج، فتدرج.
ومعنى الآية: إنا لما أنعمنا عليهم اعتقدوا أن ذلك الإنعام تفضيل لهم على المؤمنين، وهو في الحقيقة يسبب هلاكهم.
قوله: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ﴾ أي: أمهلهم، وأطيل لهم المدة، كقوله ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً﴾ [آل عمران: ١٧٨] والملاوة: المدة من الدهر، وأملى الله له، أي: أطال له، والملوان: الليل والنهار.
وقيل: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ﴾، أي: لا أعاجلهم بالموت، والمعنى واحد، والملا مقصور: الأرضِ الواسعة سميت بها لامتدادها ﴿إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ أي: إن عذابي لقوي شديد؛ فلا يفوتني أحد، وسمى إحسانه كيداً كما سماه استدراجاً في صورة الكيدِ ووصفه بالمتانة لقوة أثر استحسانه في السبب للهلاك.

فصل في إرادة الكائنات


قال ابن الخطيبِ: تمسك الأصحاب بهذه الآية في مسألة إرادة الكائنات، لأن هذا الاستدراج والكيد إن لم يكن لهما أثر في الطغيان، فليسا بكيد، ولا استدراج، وإن كان لهما أثر فيه لزم أن يكون الحق سبحانه مريداً له، لأن من فعل شيئاً لحصول شيء وأكده وقواه لا بد وأن يكون مريداً لحصول ذلك الشيء.
أجاب الكعبيُّ: بأن المراد استدراجهم إلى الموتِ، أي: يخفى عنهم زمن الموت من حيثُ لا يعلمون، وهو مقتضى الحكمة، وإلا لكان فيه إغراء بالمعاصي، لأنهم لو عرفوا الوقت الذي يموتون فيه أقدموا على المعاصي، ثم صاروا مفتنين.
304
قوله ﴿ خَاشِعَةٌ ﴾. حال من مرفوع «يُدْعَونَ » و «أبْصَارهُمْ » فاعل به، ونسب الخشوع للأبصار وإن كانت الأعضاء كُلها كذلك لظهور أثره فيها.
وقوله :«وهُمْ سَالِمُونَ ». حال من مرفوع «يُدعَونَ » الثانية.
ومعنى ﴿ خَاشِعَةٌ أَبْصَارُهُمْ ﴾، أي : متواضعةٌ «تَرْهقُهُمْ ذلَّةٌ » وذلك أن المؤمنين يرفعون رءوسهم، ووجوههم أشد بياضاً من الثلج، وتسود وجوه الكافرين والمنافقين حتى ترجع أشد سواداً من القار.

فصل في تقرير كلام أهل اللغة في الساق


قال ابن الخطيب١ بعد أن حكى أقوال أهلِ اللغةِ في الكشف عن الساق : واعلم أن هذا اعتراف من أهل اللغة بأن استعماله في الشدة مجاز، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز صرف الكلامِ إلى المجاز إلا بعد تعذر حمله على الحقيقة، فإذا أقمنا الدلائل القاطعة على أنه تعالى يستحيل أن يكون جسماً، فيجب حينئذٍ صرف هذا اللفظ إلى المجاز. واعلم أن صاحب الكشَّاف أورد هذا التأويل في معرض آخر، فقال : الكشف عن السَّاق مثلٌ في شدَّة الأمر، فمعنى ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ﴾ يوم يشتد، ويتعاظم، ولا كشف ثمَّ ولا ساقَ، كما تقول : الشحيح يده مغلولة، ولا يد ثمَّ، ولا غل، وإنما هو مثل في البخلِ، ثم أخذ يعظم علم البيانِ ويقول : لولاه ما وقفنا على هذه الأسرارِ، وأقولُ : إما أن يدعي أنه يجوز صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل، أو تقول : لا يجوز ذلك إلا بعد امتناع حمله على الحقيقة، والأول باطل بالإجماع، ولأنا إن جوزنا ذلك انفتحت أبواب تأويلات الفلاسفةِ في أمر المعاد، فإنهم يقولون في قوله :﴿ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾[ الحج : ٢٣ ] ليس هناك أنهار ولا أشجار، وإنما هو مثل للّذة والسعادة ويقولون في قوله تعالى :﴿ اركعوا واسجدوا ﴾[ الحج : ٧٧ ] وليس هناك ركوع ولا سجود وإنما هو مثل للتعظيم، ومعلوم أن ذلك يفضي إلى رفع الشرائع، وفساد الدينِ، وأما من قال : إنه لا يصار إلى التأويل، إلا عند قيام الدليل على أنه لا يجوز حمله على ظاهره، فهذا قولُ كُلِّ أحد من المتكلمين، فأين الدقائق التي استند هو بمعرفتها والاطلاع عليها بواسطةِ علم البيان، ثم إن قال بعد أن حكى القول بأن المراد بالساق جهنم، أو ساق العرش، أو ساق ملك عظيم إن اللفظ لا يدل إلا على ساق، وأما أي شيء هو فليس في اللفظ ما يدل عليه، ثم ذكر حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنَّهُ تعالى يتَمثَّلُ للخَلْق يَوْمَ القِيامةِ حِيْنَ يَمُرُّ المُسْلمُونَ فيقول : مَنْ تَعْبُدُونَ ؟ فيقولون : نَعْبُدُ اللَّهَ فيُشْهدُهمْ مرَّتينِ، أو ثلاثاً، ثُمَّ يقُولَ : هَلْ تَعْرفُون ربَّكُمْ ؟ فيقولون : لَوْ عرَّفنَا نَفسَهُ عرفْناهُ، فعِنْدَ ذلِكَ يُكْشَفُ عن سَاقٍ فَلا يَبْقَى مُؤمِنٌ إلاَّ خَرَّ للَّه ساجِداً، ويَبْقَى المُنافِقُونَ ظُهُورهُمْ كالطَّبَقِ الوَاحدِ، كأنَّما فيهَا السَّفافِيدُ »٢.
قال : واعلم أن هذا القول باطل لوجوه :
أحدها : أن الدلائل دلت على أن كل جسم متناهي وكل متناهٍ محدث، وأنّ كلَّ جسم ممكن وكل ممكن محدث.
وثانيها : أنه لو كان المراد ذلك لكان من حق الساق أن يعرف أنها ساق مخصوصة معهودة عنده، وهي ساق الرحمن، أما إذا أجملت ففائدة التنكير : الدلالة على التعظيم، كأنه قال : يوم يكشف عن شدة، وأي شدة لا يمكن وصفها.
وثالثها : أن التعريف لا يحصل بالكشف عن الساق، وإنما يحصل بكشف الوجه، ثم حكى قول أبي مسلم : بأنه لا يمكن حمله على يوم القيامة ؛ لأنه تعالى قال في وصفه :﴿ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود ﴾ ويوم القيامة ليس فيها تعبد، ولا تكليف، بل المراد منه إما آخر أيام الرجل في دنياه، كقوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ ﴾[ الفرقان : ٢٢ ]، وقوله :﴿ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ﴾[ الأنعام : ١٥٨ ] الآية لأنه الوقت الذي لا تنفع نفساً إيمانها، وإما حال المرض والهرم والعجز، ثم إنه يرى الناس يدعون إلى الصلاة إذا حضرت أوقاتها، وهو لا يستطيع الصلاة ﴿ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود وَهُمْ سَالِمُونَ ﴾ مما بهم الآن من الشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت، أو من العجز والهرم، ونظير هذه الآية ﴿ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم ﴾ [ الواقعة : ٨٣ ]. ثم قال : واعلم أنه لا نزاع في أنه يمكن حمل اللفظ على ما قال أبو مسلم، ثم قال : فأما قوله :«إنه لا يمكن حمله على يوم القيامة بسبب أن الأمر بالسجود حاصل في الدنيا والتكاليف زائلة يوم القيامة ».
فجوابه : أن ذلك لا يكون على سبيل التكليف بل على سبيل التقريع والتخجيل فلم قلت : إن ذلك غير جائزٍ.
قوله ﴿ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود ﴾ في الدنيا ﴿ وَهُمْ سَالِمُونَ ﴾ معافون أصحاء.
قال إبراهيم التيمي : أي : يدعون بالأذان، والإقامة، فيأبون.
وقال سعيد بن جبيرٍ : كانوا يسمعون حيّ على الفلاح، فلا يجيبون، وهم سالمون أصحاء٣.
وقال كعبُ الأحبار : والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات.
وقيل : أي : بالتكليف الموجه عليهم في الشرع.
١ ينظر الفخر الرازي ٣٠/٨٣..
٢ أخرجه الحاكم (٤/٥٩٨-٦٠٠) والطبراني كما في "مجمع الزوائد" (١٠/٣٣١-٣٣٣: من طريق أبي الزعراء عن ابن مسعود.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ورده الذهبي بقوله: قلت ما احتجا بأبي الزعراء.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٠١) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي في "البعث والنشور"..

٣ ذكره البغوي في "تفسيره" (٤/٣٨٣) والقرطبي (١٨/١٦٣)..
قوله :﴿ فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث ﴾، أي : فدعني والمكذبين بالقرآن وخلّ بيني وبينهم.
وقال الزجاجُ : لا تشغل بالك به كِلْهُ إليّ، فإني أكفيك أمره.
و«مَنْ » منصوب إما نسقاً على ضمير المتكلم، أو مفعول معه، وهو مرجوح ؛ لإمكان النسق من غير ضعف، وتقدم إعراب ما بعده.

فصل في مناسبة الآية لما قبلها


لما خوف الكفار بعظمة يوم القيامة زاد في التخويف مما عنده، وفي قدرته من القهر، يقال : ذَرْنِي وإياه أي كِلْهُ إليّ، فأنا أكفيكه.
قال السديُّ : والمراد بالحديث القرآن١.
وقيل : يوم القيامةِ، وهذا تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
قوله :﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾، أي : سنأخذهم على غفلة، وهم لا يعرفون، فعذبوا يوم بدر.
وقال سفيان الثوري : نسبغ عليهم النعم، وننسيهم الشكر.
وقال الحسن : كم مستدرجٍ بالإحسان إليه، وكم مفتون بالثناء عليه، وكم مغرورٍ بالستر عليه٢.
وقال أبو روق : كلما أحدثوا الخطيئة جددنا لهم نعمة، وأنسيناهم الاستغفار.
قال ابن عباسٍ : سنمكر بهم٣، وروي أن رجلاً من بني إسرائيل قال : يا ربِّ، كم أعصيك وأنت لا تعاقبني، فأوحى اللَّهُ إلى نبي زمانهم أن قُلْ له : كَمْ مِنْ عقُوبَةٍ لِي عليكَ وأنْتَ لا تَشْعرُ أنَّ جُمُودَ عَيْنِك، وقساوة قلبك استدراجٌ منِّي، وعقُوبةٌ لو عقَلْتَ٤.
والاستدراج : ترك المعالجة، وأصله النقل من حال إلى حال كالتدريج.
ومنه قيل : درجات، وهي منزلة واستدرج فلان فلاناً، أي : استخرج ما عنده قليلاً قليلاً، ويقال : درجه إلى كذا، واستدرجه بمعنى أدناه على التدريج، فتدرج.
ومعنى الآية : إنا لما أنعمنا عليهم اعتقدوا أن ذلك الإنعام تفضيل لهم على المؤمنين، وهو في الحقيقة يسبب هلاكهم.
١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٦٣)..
٢ ينظر المصدر السابق..
٣ ينظر المصدر السابق..
٤ ينظر المصدر السابق..
قوله :﴿ وَأُمْلِي لَهُمْ ﴾ أي : أمهلهم، وأطيل لهم المدة، كقوله ﴿ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً ﴾[ آل عمران : ١٧٨ ] والملاوة : المدة من الدهر، وأملى الله له، أي : أطال له، والملوان : الليل والنهار.
وقيل :﴿ وَأُمْلِي لَهُمْ ﴾، أي : لا أعاجلهم بالموت، والمعنى واحد، والملا مقصور : الأرضِ الواسعة سميت بها لامتدادها ﴿ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾ أي : إن عذابي لقوي شديد ؛ فلا يفوتني أحد، وسمى إحسانه كيداً كما سماه استدراجاً في صورة الكيدِ ووصفه بالمتانة لقوة أثر استحسانه في السبب للهلاك.

فصل في إرادة الكائنات


قال ابن الخطيبِ : تمسك الأصحاب بهذه الآية في مسألة إرادة الكائنات، لأن هذا الاستدراج والكيد إن لم يكن لهما أثر في الطغيان، فليسا بكيد، ولا استدراج، وإن كان لهما أثر فيه لزم أن يكون الحق سبحانه مريداً له، لأن من فعل شيئاً لحصول شيء وأكده وقواه لا بد وأن يكون مريداً لحصول ذلك الشيء.
أجاب الكعبيُّ : بأن المراد استدراجهم إلى الموتِ، أي : يخفى عنهم زمن الموت من حيثُ لا يعلمون، وهو مقتضى الحكمة، وإلا لكان فيه إغراء بالمعاصي، لأنهم لو عرفوا الوقت الذي يموتون فيه أقدموا على المعاصي، ثم صاروا مفتنين.
وأجاب الجبائيُّ : بأن معنى قوله :﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُم ﴾ أي : إلى العذاب ﴿ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ في الآخرة، ﴿ وَأُمْلِي لَهُمْ ﴾ في الدنيا توكيداً للحجة عليهم ﴿ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾ فأمهله، وأزيح الأعذار عنه ﴿ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ﴾[ الأنفال : ٤٢ ]، ويدل على هذا قوله قبل ذلك :﴿ فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث ﴾ ولا شك أن هذا التهديد إنما هو بعذاب الآخرة، فوجب أن يكون الاستدراج والكيد المذكور عقيبه هو عذاب الآخرة وأجاب الأصحاب : أن هنا الإمهال إذا كان مؤدياً إلى الطغيان كان الراضي بالإمهال العالم بتأديه إلى الطغيان لا بد وأن يكون راضياً بذلك الطغيان.
قوله :﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً ﴾. عاد الكلام إلى ما تقدم من قوله تعالى :﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ ﴾ أي : أم تلتمس منهم ثواباً على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله، والمغرم : الغرامة فهم من غرامة ذلك مثقلُون، أي : يثقل حمل الغرامات عليهم في بذل المال، فيثبطهم ذلك عن الإيمان.
والمعنى : ليس عليهم كلفة في متابعتك، بل يستولون بالإيمان على خزائن الأرض ويصلون إلى جنات النعيم.
قوله :﴿ أَمْ عِندَهُمُ الغيب ﴾، أي : علم ما غاب عنهم ﴿ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ﴾.
وقيل : أينزل عليهم الوحي بهذا الذي يقولون، وعن ابن عباسٍ : الغيب هنا هو اللوح المحفوظُ، فهم يكتبون منه ثوابَ ما هم عليه من الكفر، ويخاصمونك به، ويكتبون أنهم أفضل، وأنهم لا يعاقبون١.
وقيل :«يَكْتُبونَ » أي : يحكمون ما يريدون، وهذا استفهام على سبيل الإنكار.
١ ينظر المصدر السابق..
وأجاب الجبائيُّ: بأن معنى قوله: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم﴾ أي: إلى العذاب ﴿مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ في الآخرة، ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ﴾ في الدنيا توكيداً للحجة عليهم ﴿إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ فأمهله، وأزيح الأعذار عنه ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: ٤٢]، ويدل على هذا قوله قبل ذلك: ﴿فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث﴾ ولا شك أن هذا التهديد إنما هو بعذاب الآخرة، فوجب أن يكون الاستدراج والكيد المذكور عقيبه هو عذاب الآخرة وأجاب الأصحاب: أن هنا الإمهال إذا كان مؤدياً إلى الطغيان كان الراضي بالإمهال العالم بتأديه إلى الطغيان لا بد وأن يكون راضياً بذلك الطغيان.
قوله: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً﴾. عاد الكلام إلى ما تقدم من قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ﴾ أي: أم تلتمس منهم ثواباً على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله، والمغرم: الغرامة فهم من غرامة ذلك مثقلُون، أي: يثقل حمل الغرامات عليهم في بذل المال، فيثبطهم ذلك عن الإيمان.
والمعنى: ليس عليهم كلفة في متابعتك، بل يستولون بالإيمان على خزائن الأرض ويصلون إلى جنات النعيم.
قوله: ﴿أَمْ عِندَهُمُ الغيب﴾، أي: علم ما غاب عنهم ﴿فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾.
وقيل: أينزل عليهم الوحي بهذا الذي يقولون، وعن ابن عباسٍ: الغيب هنا هو اللوح المحفوظُ، فهم يكتبون منه ثوابَ ما هم عليه من الكفر، ويخاصمونك به، ويكتبون أنهم أفضل، وأنهم لا يعاقبون.
وقيل: «يَكْتُبونَ» أي: يحكمون ما يريدون، وهذا استفهام على سبيل الإنكار.
قوله
﴿فاصبر
لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾
أي: لقضاء ربِّك، والحكم هنا القضاء.
وقيل: اصبر على ما حكم به عليك ربُّك من تبليغ الرسالةِ.
وقال ابنُ بَحْرٍ: فاصبر لنصر ربك.
وقيل: منسوخ بآية السيف ﴿وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت﴾ يعني يونس - عليه السلام - أي: لا تكن مثله في الغضب، والضجر، والعجلة.
وقال قتادة: إن الله تعالى يعزي نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويأمره بالصبر، ولا يعجل كما عجل يونس -
305
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. وقد مضى الفرق بين «ذي» و «صاحب» في «يونس».
قوله: ﴿إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾.
«إذْ» منصوب بمضاف محذوف، أي: ولا يكن حالك كحاله، أو قصتك كقصته في وقت ندائه، ويدل على المحذوف أن الذوات لا ينصبُّ عليها النهي على أحوالها، وصفاتها.
وقوله: ﴿وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾. جملة حالية من الضمير في «نَادَى».
والمكظوم: الممتلىء حزناً وغيظاً، ومنه كظم السقاء إذا ملأه.
قال ذو الرمة: [البسيط]
٤٨٣٦ - وأنْتَ مِنْ حُبِّ مَيٍّ مُضْمِرٌ حَزَناً عَانِي الفُؤادِ قَريحُ القَلْبِ مَكْظُومُ

فصل في دعاء يونس


«إذْ نَادَى»، أي: حين دعا من بطن الحوتِ، فقال: ﴿لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين﴾ [الأنبياء: ٨٧].
قال القرطبي: ومعنى ﴿وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ أي: مملوء غمًّا.
وقيل: كرباً، فالأول قول ابن عباس ومجاهد، والثاني: قول عطاء وأبي مالك، قال الماورديُّ: والفرق بينهما أن الغمَّ في القلب، والكرب في الأنفاس.
وقيل: «مَكْظُومٌ» محبوس، والكظم: الحبس ومنه قولهم: كَظَمَ غَيْظَهُ، أي: حبس غضبه، قاله ابن بحر.
وقيل: «إنه المأخوذ بكظمه وهو مجرى النفس، قاله المُبرِّدُ».
والمعنى: لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر، والمغاضبة، فتبتلى ببلائه.
قوله: ﴿لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ﴾.
قال ابن الخطيب: لِمَ لَمْ يَقُلْ: تداركته نعمة؟ وأجاب: بأنه إنما حسن تذكير الفعل لفصل الضمير في «تَدَاركَهُ». ولأن التأنيث غير حقيقي.
306
وقرأ أبيّ وعبد الله بن عباس: «تَدارَكتْهُ» بتاء التأنيث لأجل اللفظِ.
والحسن وابن هرمز والأعمش: «تَدّارَكهُ» - بتشديد الدال -.
وخرجت على الأصل: تتداركه - بتاءين - مضارعاً، فأدغم، وهو شاذ؛ لأن الساكن الأول غير حرف لين؛ وهي كقراءة البزي ﴿إذْ تَلَّقَّوْنَهُ﴾ [النور: ١٥]، و ﴿ناراً تَلَّظَّى﴾ [الليل: ١٤]، وهذا على حكاية الحال، لأن المقصد ماضيه، فإيقاع المضارع هنا للحكاية، كأنه قال: لولا أن كان يقال فيه: تتداركه نعمة.
قوله: ﴿نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾.
قال الضحاكُ: النعمة هنا: النبوة.
وقال ابن جبيرٍ: عبادته التي سلفت.
وقال ابن زيدٍ: نداؤه بقوله ﴿لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين﴾
[الأنبياء: ٨٧].
وقال ابن بحرٍ: إخراجه من بطن الحوتِ.
وقيل: رحمة من ربِّه، فرحمه وتاب عليه.
قوله: ﴿لَنُبِذَ بالعرآء﴾، هذا جواب «لَوْلاَ»، أي: لنبذ مذموماً لكنه نبذ سقيماً غير مذموم.
وقيل: جواب «لَولاَ» مقدر، أي: لولا هذه النعمة لبقي في بطن الحوتِ.
ومعنى: «مَذْمُوم»، قال ابن عباس: مُليمٌ.
وقال بكر بن عبد الله: مُذنِبٌ.
وقيل: مبعدٌ من كل خير. والعراء: الأرض الواسعة الفضاء التي ليس فيها جبل، ولا شجر يستر.
وقيل: لولا فضلُ الله عليه لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة، ثم نبذ بعراء القيامة مذموماً، يدل عليه قوله تعالى ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات: ١٤٣، ١٤٤].

فصل في عصمة الأنبياء


قال ابن الخطيب: هل يدل قوله «وهُوَ مَذمُومٌ» على كونه فاعلاً للذنب؟ قال: والجوابُ من ثلاثة أوجه:
307
الأول: أن كلمة «لولا» دلت على أن هذه المذمومية لم تحصل.
الثاني: لعل المراد من المذموميةِ ترك الأفضلِ، فإن حسنات الأبرارِ سيئات المقربين.
الثالث: لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوة، لقوله «فاجْتبَاهُ رَبُّهُ» والفاء للتعقيب.
قيل: إن هذه الآية نزلت بأحدٍ حين حل برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما حل فأراد أن يدعو على الذين انهزموا.
وقيل: حين أراد أن يدعو على ثقيف.
قوله: ﴿فاجتباه رَبُّهُ﴾، أي: فاصطفاه واختاره. ﴿فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين﴾.
قال ابن عباس: رد الله إليه الوحي، وشفعه في نفسه، وفي قومه، وقبل توبته وجعله من الصالحين بأن أرسله إلى مائة ألفٍ، أو يزيدون.

فصل فيمن قال: إن يونس لم يكن نبياً قبل واقعة الحوت


قال ابن الخطيب: قال قوم: لعل صاحب الحوتِ ما كان رسولاً قبل هذه الواقعة، ثم بعد هذه الواقعة جعله الله رسولاً، وهو المرادُ من قوله ﴿فاجتباه رَبُّهُ﴾ والذين أنكروا الكرامات والإرهاص لا بد وأن يختاروا هذا القول، لأن الاحتباس في بطن الحوت، وعدم موته هناك لما لم يكن هناك إرهاص، ولا كرامة، فلا بد وأن تكون معجزة، وذلك يقتضي أنه كان رسولاً في تلك الحال.

فصل في خلق أفعال العباد


قال ابن الخطيب: احتج الأصحاب على أن فعل العبد خلق الله تعالى بقوله: ﴿فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين﴾ وهذا يدل على أن الصلاح إنما حصل بجعل الله وخلقه.
قال الجبائيُّ: يحتمل أن يكون معنى «جعلهُ» أنه أخبر بذلك، ويحتمل أن يكون لطف به حتى صلح، إذ الجعل يستعمل في اللغة في هذه المعاني.
والجواب: أن ذلك مجاز، والأصل في الكلامِ الحقيقة.
قوله: ﴿وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ﴾ «إنْ» المخففة من الثقيلة: «ليُزلقُونَكَ»، أي: يغتالونك بأبصارهم، قرأها نافع: بفتح الياء، والباقون: بضمها.
308
فأما قراءة الجماعة: فمن أزلقه، أي: أزال رجله، فالتعدية بالهمزة من أزلق يزلق.
وأما قراءة نافع، فالتعدية بالحركة، يقال: زَلِقَ - بالكسر - وزلقتُه - بالفتح، ونظيره: شترت عينه - بالكسر - وشترها الله - بالفتح. [وقد تقدم لذلك أخوات].
وقيل: زلقه وأزلقه - بمعنى واحد - إزلاقاً، إذا نحاه وأبعده، وأزلق برأسه يزلقه زلقاً، إذا حلقه.
قال القرطبي: «وكذلك أزلقه، وزلقهُ تزليقاً، ورجل زلقٌ وزُملق - مثال هُدَبِد - وزمالِق وزملِق - بتشديد الميم - وهو الذي ينزل قبل أن يجامع، حكاه الجوهري وغيره».
والباء في «بأبْصارهِمْ» إما للتعدية كالداخلة على الآلة، أي: جعلوا أبصارهم كالآلة المزلقة لك ك «عملت بالقدوم»، وإما للسببية، أي: بسبب عيونهم.
وقرىء: «ليُزْهقونَكَ» من زهقت نفسه، وأزهقها.
ثم فيه وجوه:
أحدها: أنهم من شدة تحديقهم، ونظرهم إليك شزراً بعيون العداوة، والبغضاء يكادون يزلقون قدمك من قولهم: نظر إليّ نظراً يكاد يصرعني ويكاد يأكلني، أنشد ابن عباسٍ لما مر بأقوام حددوا النظر فيه: [الكامل]
٤٨٣٧ - نَظَرُوا إليَّ بأعْيُنٍ مُحَمَرَّةٍ نَظَرَ التيُوسِ إلى شِفارِ الجَازِرِ

فصل في المراد بالنظر


أخبر الله تعالى بشدة عداوتهم للنبي صلى الله عليهم وسلم وأرادوا أن يصيبوه بالعين، فنظر إليه قوم من قريش وقالوا: ما رأينا مثله، ولا مثل حججه.
وقيل: كانت العين في بني أسد، حتى إن البقرة السمينة، أو الناقة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول: يا جارية، خذي المكتل والدرهم، فأتنا بلحم هذه الناقة فما تبرح حتى تقع الناقة للموت فتنحر.
وقال الكلبيُّ: كان رجل من العرب يمكث لا يأكل شيئاً يومين أو ثلاثة ثم يرجع جانب الخباء، فتمر به الإبل والغنم، فيقول: لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه فلا تذهب قليلاً حتى تسقط منها طائفة هالكة، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالعين، فأجابهم، فلما مر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنشد: [الكامل]
309
٤٨٣٨ - قَدْ كَانَ قَوْمُكَ يَحْسبُونَكَ سيِّداً وإخَالُ أنَّك سَيِّدٌ مَعْيُونُ
فعصم الله نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونزلت هذه الآية.
وذكر الماورديُّ: أن العرب كانوا إذا أراد أحدهم أن يصيب أحداً يعني في ماله ونفسه يجوع ثلاثة أيام ثم يتعرض لنفسه وماله، فيقول: بالله ما رأيتُ أقوى منه، ولا أشجع، ولا أكبر منه، ولا أحسن فيصيبه بعينه فيهلك هو وماله، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية.
قال القشيريُّ: وفي هذا نظرٌ؛ لأن الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان والإعجاب لا مع الكراهية والبغضِ، ولهذا قال: «ويقولون: إنه لمجْنُونٌ» أي: ينسبونك إلى الجنون إذا رأوك تقرأ القرآن.
قال القرطبيُّ: أقوال المفسرين واللغويين تدل على ما ذكرنا، وأن مرادهم بالنظر إليه قتله، ولا يمنع كراهة الشيء من أن يصاب بالعين عداوة حتى يهلك.
فمعنى الكلمة إذاً التنحية والإزالة، وذلك لا يكون في حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا بهلاكه وموته.
قال الهرويُّ: أراد ليغتالونك بعيونهم، فيزيلونك عن مقامك الذي أقامك الله فيه عداوة لك.
وقال ابن عباس: ينفذونك بأبصارهم، يقال: زلق السَّهم، وزهق إذا نفذ، وهو قول مجاهد أي: ينفذونك من شدة نظرهم.
وقال الكلبي: يصرعونك، وعنه أيضاً والسُّدي وسعيد بن جبير: يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة.
310
وقال العوفي: يرمونك.
وقال المؤرج: يزيلونك.
وقال النضر بن شميل والأخفش: يفتنونك.
وقال الحسن وابن كيسان: ليقتلونك كما يقال: صرعني بطرفه، وقتلني بعينه.
قوله: ﴿لَمَّا سَمِعُواْ الذكر﴾ من جعلها ظرفية جعلها منصوبة ب «يُزْلقُونكَ»، ومن جعلها حرفاً جعل جوابها محذوفاً للدلالة، أي: لما سمعوا الذِّكر كادوا يزلقونك، ومن جوز تقديم الجواب، قال: هو هنا متقدم.
والمراد بالذكر القرآن، ثم قال: ﴿وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾ وهو على ما افتتح به السُّورة، ثم قال: «ومَا هُوَ» يعني: القرآن.
﴿إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِين﴾ أي: الذين يزعمون أنه دلالة جنونه إلا ذكر للعالمين تذكير لهم، وبيان لهم على ما في عقولهم من أدلة التوحيد.
وقال الحسنُ: دَوَاء إصابةِ العيْنِ أنْ يَقْرَأ الإنسانُ هذه الآية.
وقيل: وما محمدٌ إلا ذكر للعالمين يتذكرون به.
وقيل: معناه شرف، أي: القرآن، كقوله: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف: ٤٤] والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شرف للعالمين أيضاً شرفوا باتباعه والإيمان به.
عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرأ سُورَةَ القلمِ أعْطَاهُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - ثوابَ الذينَ حسَّنَ اللَّهُ أخلاقهم».
311
سورة الحاقة
312
قوله :﴿ لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ ﴾.
قال ابن الخطيب١ : لِمَ لَمْ يَقُلْ : تداركته نعمة ؟ وأجاب : بأنه إنما حسن تذكير الفعل لفصل الضمير في «تَدَاركَهُ ». ولأن التأنيث غير حقيقي.
وقرأ أبيّ٢ وعبد الله بن عباس :«تَدارَكتْهُ » بتاء التأنيث لأجل اللفظِ.
والحسن وابن٣ هرمز والأعمش :«تَدّارَكهُ » - بتشديد الدال -.
وخرجت على الأصل : تتداركه - بتاءين - مضارعاً، فأدغم، وهو شاذ ؛ لأن الساكن الأول غير حرف لين ؛ وهي كقراءة البزي ﴿ إذْ تَلَّقَّوْنَهُ ﴾[ النور : ١٥ ]، و ﴿ ناراً تَلَّظَّى ﴾[ الليل : ١٤ ]، وهذا على حكاية الحال، لأن المقصد ماضيه، فإيقاع المضارع هنا للحكاية، كأنه قال : لولا أن كان يقال فيه : تتداركه نعمة.
قوله :﴿ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾.
قال الضحاكُ : النعمة هنا : النبوة٤.
وقال ابن جبيرٍ : عبادته التي سلفت٥.
وقال ابن زيدٍ : نداؤه بقوله ﴿ لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين ﴾٦ [ الأنبياء : ٨٧ ].
وقال ابن بحرٍ : إخراجه من بطن الحوتِ.
وقيل : رحمة من ربِّه، فرحمه وتاب عليه.
قوله :﴿ لَنُبِذَ بالعراء ﴾، هذا جواب «لَوْلاَ »، أي : لنبذ مذموماً لكنه نبذ سقيماً غير مذموم.
وقيل : جواب «لَولاَ » مقدر، أي : لولا هذه النعمة لبقي في بطن الحوتِ.
ومعنى :«مَذْمُوم »، قال ابن عباس : مُليمٌ.
وقال بكر بن عبد الله : مُذنِبٌ.
وقيل : مبعدٌ من كل خير. والعراء : الأرض الواسعة الفضاء التي ليس فيها جبل، ولا شجر يستر.
وقيل : لولا فضلُ الله عليه لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة، ثم نبذ بعراء القيامة مذموماً، يدل عليه قوله تعالى ﴿ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾[ الصافات : ١٤٣، ١٤٤ ].

فصل في عصمة الأنبياء


قال ابن٧ الخطيب : هل يدل قوله «وهُوَ مَذمُومٌ » على كونه فاعلاً للذنب ؟ قال : والجوابُ من ثلاثة أوجه :
الأول : أن كلمة «لولا » دلت على أن هذه المذمومية لم تحصل.
الثاني : لعل المراد من المذموميةِ ترك الأفضلِ، فإن حسنات الأبرارِ سيئات المقربين.
الثالث : لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوة، لقوله «فاجْتبَاهُ رَبُّهُ » والفاء للتعقيب.
قيل : إن هذه الآية نزلت بأحدٍ حين حل برسول الله صلى الله عليه وسلم ما حل فأراد أن يدعو على الذين انهزموا.
وقيل : حين أراد أن يدعو على ثقيف.
١ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/٨٧..
٢ ينظر: الكشاف ٤/٥٩٦، والمحرر الوجيز ٥/٣٥٤، والدر المصون ٦/٣١١..
٣ ينظر السابق..
٤ ذكره الماوردي (٦/٧٣) والقرطبي (١٨/١٦٥) عن الضحاك..
٥ ينظر المصدر السابق..
٦ ينظر المصدر السابق..
٧ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/٨٧..
قوله :﴿ فاجتباه رَبُّهُ ﴾، أي : فاصطفاه واختاره. ﴿ فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين ﴾.
قال ابن عباس : رد الله إليه الوحي، وشفعه في نفسه، وفي قومه١، وقبل توبته وجعله من الصالحين بأن أرسله إلى مائة ألفٍ، أو يزيدون.

فصل فيمن قال : إن يونس لم يكن نبياً قبل واقعة الحوت


قال ابن الخطيب٢ : قال قوم : لعل صاحب الحوتِ ما كان رسولاً قبل هذه الواقعة، ثم بعد هذه الواقعة جعله الله رسولاً، وهو المرادُ من قوله ﴿ فاجتباه رَبُّهُ ﴾ والذين أنكروا الكرامات والإرهاص لا بد وأن يختاروا هذا القول، لأن الاحتباس في بطن الحوت، وعدم موته هناك لما لم يكن هناك إرهاص، ولا كرامة، فلا بد وأن تكون معجزة، وذلك يقتضي أنه كان رسولاً في تلك الحال.

فصل في خلق أفعال العباد


قال ابن٣ الخطيب : احتج الأصحاب على أن فعل العبد خلق الله تعالى بقوله :﴿ فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين ﴾ وهذا يدل على أن الصلاح إنما حصل بجعل الله وخلقه.
قال الجبائيُّ : يحتمل أن يكون معنى «جعلهُ » أنه أخبر بذلك، ويحتمل أن يكون لطف به حتى صلح، إذ الجعل يستعمل في اللغة في هذه المعاني.
والجواب : أن ذلك مجاز، والأصل في الكلامِ الحقيقة.
١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٦٥)..
٢ ينظر الفخر الرازي ٣٠/٨٧..
٣ ينظر الفخر الرازي ٣٠/٨٨..
قوله :﴿ وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ ﴾ «إنْ » المخففة من الثقيلة :«ليُزلقُونَكَ »، أي : يغتالونك بأبصارهم، قرأها نافع١ : بفتح الياء، والباقون : بضمها.
فأما قراءة الجماعة : فمن أزلقه، أي : أزال رجله، فالتعدية بالهمزة من أزلق يزلق.
وأما قراءة نافع، فالتعدية بالحركة، يقال : زَلِقَ - بالكسر - وزلقتُه - بالفتح، ونظيره : شترت عينه - بالكسر - وشترها الله - بالفتح. [ وقد تقدم لذلك أخوات ].
وقيل : زلقه وأزلقه - بمعنى واحد - إزلاقاً، إذا نحاه وأبعده، وأزلق برأسه يزلقه زلقاً، إذا حلقه.
قال القرطبي :«وكذلك أزلقه، وزلقهُ تزليقاً، ورجل زلقٌ وزُملق - مثال هُدَبِد - وزمالِق وزملِق - بتشديد الميم - وهو الذي ينزل قبل أن يجامع، حكاه الجوهري وغيره ».
والباء في «بأبْصارهِمْ » إما للتعدية كالداخلة على الآلة، أي : جعلوا أبصارهم كالآلة المزلقة لك ك «عملت بالقدوم »، وإما للسببية، أي : بسبب عيونهم.
وقرئ٢ :«ليُزْهقونَكَ » من زهقت نفسه، وأزهقها.
ثم فيه وجوه :
أحدها : أنهم من شدة تحديقهم، ونظرهم إليك شزراً بعيون العداوة، والبغضاء يكادون يزلقون قدمك من قولهم : نظر إليّ نظراً يكاد يصرعني ويكاد يأكلني، أنشد ابن عباسٍ لما مر بأقوام حددوا النظر فيه :[ الكامل ]
٤٨٣٧ - نَظَرُوا إليَّ بأعْيُنٍ مُحَمَرَّةٍ*** نَظَرَ التيُوسِ إلى شِفارِ الجَازِرِ٣

فصل في المراد بالنظر


أخبر الله تعالى بشدة عداوتهم للنبي صلى الله عليهم وسلم وأرادوا أن يصيبوه بالعين، فنظر إليه قوم من قريش وقالوا : ما رأينا مثله، ولا مثل حججه.
وقيل : كانت العين في بني أسد، حتى إن البقرة السمينة، أو الناقة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول : يا جارية، خذي المكتل والدرهم، فأتنا بلحم هذه الناقة فما تبرح حتى تقع الناقة للموت فتنحر.
وقال الكلبيُّ : كان رجل من العرب يمكث لا يأكل شيئاً يومين أو ثلاثة ثم يرجع جانب الخباء، فتمر به الإبل والغنم، فيقول : لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه فلا تذهب قليلاً حتى تسقط منها طائفة هالكة، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعين، فأجابهم، فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم أنشد :[ الكامل ]
٤٨٣٨ - قَدْ كَانَ قَوْمُكَ يَحْسبُونَكَ سيِّداً***وإخَالُ أنَّك سَيِّدٌ مَعْيُونُ٤
فعصم الله نبيه صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية٥.
وذكر الماورديُّ : أن العرب كانوا إذا أراد أحدهم أن يصيب أحداً يعني في ماله ونفسه يجوع ثلاثة أيام ثم يتعرض لنفسه وماله، فيقول : بالله ما رأيتُ أقوى منه، ولا أشجع، ولا أكبر منه، ولا أحسن فيصيبه بعينه فيهلك هو وماله، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية.
قال القشيريُّ : وفي هذا نظرٌ ؛ لأن الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان والإعجاب لا مع الكراهية والبغضِ، ولهذا قال :«ويقولون : إنه لمجْنُونٌ » أي : ينسبونك إلى الجنون إذا رأوك تقرأ القرآن.
قال القرطبيُّ٦ : أقوال المفسرين واللغويين تدل على ما ذكرنا، وأن مرادهم بالنظر إليه قتله، ولا يمنع كراهة الشيء من أن يصاب بالعين عداوة حتى يهلك.
فمعنى الكلمة إذاً التنحية والإزالة، وذلك لا يكون في حق النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهلاكه وموته.
قال الهرويُّ : أراد ليغتالونك بعيونهم، فيزيلونك عن مقامك الذي أقامك الله فيه عداوة لك.
وقال ابن عباس : ينفذونك بأبصارهم٧، يقال : زلق السَّهم، وزهق إذا نفذ، وهو قول مجاهد أي : ينفذونك من شدة نظرهم.
وقال الكلبي : يصرعونك٨، وعنه أيضاً والسُّدي وسعيد بن جبير : يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة٩.
وقال العوفي : يرمونك.
وقال المؤرج : يزيلونك.
وقال النضر بن شميل والأخفش : يفتنونك.
وقال الحسن وابن كيسان : ليقتلونك كما يقال : صرعني بطرفه، وقتلني بعينه.
قوله :﴿ لَمَّا سَمِعُواْ الذكر ﴾ من جعلها ظرفية جعلها منصوبة ب «يُزْلقُونكَ »، ومن جعلها حرفاً جعل جوابها محذوفاً للدلالة، أي : لما سمعوا الذِّكر كادوا يزلقونك، ومن جوز تقديم الجواب، قال : هو هنا متقدم١٠.
والمراد بالذكر القرآن، ثم قال :﴿ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ﴾ وهو على ما افتتح به السُّورة،
١ ينظر: السبعة ٦٤٧، والحجة للقراء السبعة ٦/٣١٢، وإعراب القراءات ٢/٣٨٢، وحجة القراءات ٧١٨..
٢ ينظر: الكشاف ٤/٥٩٧، والمحرر الوجيز ٥/٣٥٤، ونسبها لابن مسعود، وينظر: البحر المحيط ٨/٣١١، وزاد: ابن عباس، والأعمش، وعيسى..
٣ ينظر الرازي ٣٠/٨٨..
٤ البيت للعباس بن مرداس. ينظر ديوانه ١٠٨ وجمهرة اللغة ص ٩٥٦، والحيوان ٢/١٤٢ وشرح التصريح ٢/٣٩٥، وشرح شواهد الشافية ص ٣٨٧، واللسان (عين)، والمقاصد النحوية ٤/٥٧٤، وأوضح المسالك ٤/٤٠٤، والخصائص ١/٢٦١، وشرح الأشموني ٣/٧٦٦، والمقتضب١/١٠٢.
وأمالي ابن الشجري ١١/١١٣، والقرطبي ١٨/١٦٦، والبحر ٨/٣١١، وروح المعاني ٢٩/٤٦..

٥ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٦٥)..
٦ الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٦٦..
٧ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٠٤) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٠٣) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه..
٨ ذكره القرطبي (١٨/١٦٦) وذكره الطبري (١٢/٢٠٤)..
٩ ينظر المصدر السابق..
١٠ ينظر: الدر المصون ٦/٣٦٠..
ثم قال :﴿ ومَا هُوَ ﴾ يعني : القرآن.
﴿ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِين ﴾ أي : الذين يزعمون أنه دلالة جنونه إلا ذكر للعالمين تذكير لهم، وبيان لهم على ما في عقولهم من أدلة التوحيد.
وقال الحسنُ : دَوَاء إصابةِ العيْنِ أنْ يَقْرَأ الإنسانُ هذه الآية١.
وقيل : وما محمدٌ إلا ذكر للعالمين يتذكرون به.
وقيل : معناه شرف، أي : القرآن، كقوله :﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾ [ الزخرف : ٤٤ ] والنبي صلى الله عليه وسلم شرف للعالمين أيضاً شرفوا بإتباعه والإيمان به.
١ ذكره البغوي ٤/٣٨٤..
Icon