تفسير سورة القلم

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة القلم من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ نۤ ﴾ يقرأ بفك الإدغام من واو القسم وبإدغامه، وهما قراءتان سبعيتان، وهو بسكون النون عند السبعة، وقرئ شذوذاً بالفتح والكسر والضم. قوله: (أحد حروف الهجاء) غرضه بهذه العبارة الرد على المخالف، لأن منهم من قال: إنه اسم مقتطع من اسمه الرحمن أو النصير أو الناصر أو النور، فهو كسائر حروف الهجاء التي افتتح بها كثير من السور فهو من المتشابه، وقل: إنه الحوت الذي على ظهره الأرض، وعليه فحرف القسم مقدر تقديره ونون والقلم، قال أصحاب السير والأخبار: لما خلق الله الأرض وفتقها سبع أرضين، بعث من تحت العرش ملكاً، فهبط إلى الأرض حتى دخل الأرضين السبع حتى ضبطها، فلم يكن لقديمه موضع قرار، فأهبط الله تعالى من الفردوس ثوراً له أربعون ألف قرن، وأربعون ألف قائمة، وجعل قرار قدم الملك على سنامه، فلم تستقر قدمه، فأخذ الله ياقوتة خضراء من أعلى درجة الفردوس، غلظها مسيرة خمسمائة سنة، فوضعها بين سنام الثور إلى أذنه، فاستقر عليها قدما الملك، وقرون ذلك خارجة من اقطار الأرض، ومنخاراه في البحر، فهو يتنفس كل يوم نفساً فإذا تنفس مد البحر، وإذا رد نفسه جزر البحر، فلم يكن لقوئم الثور قرار، فخلق الله صخرة كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين، فاستقرت قوئم الثور عليها، وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه: فتكون في صخرة، فلم يكن للصخرة مستقر، فخلق الله تعالى نوناً وهو الحوت العظيم، فوضع الصخرة على ظهره وسائر جسده خال، والحزوت على البحر، والبحر على متن الريح، والريح على القدرة، فقيل: كل الدنيا بما عليها حرفان، قال لها الجبار سبحانه وتعالى وتنزه وتقدس: كوني فكانت. قوله: (الذي كتب به الكائنات) الخ، هذا أحد قولين، والآخر أن المراد به الجنس، وهو واقع على كل قلم يكتب به في السماء والأرض، قال تعالى:﴿ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ * ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ ﴾[العلق: ٣-٤] لأن القلم نعمة كاللسان عن ابن عباس: أول ما خلق القلم ثم قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، من عمل أو أجل أو رزق أو أثر، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة. قال: ثم ختم فم القلم، فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة، وهو من نور طوله كما بين السماء والأرض. قوله: (أي الملائكة) يصح أن يراد بهم الملائكة الذين ينسخون المقادير من اللوح المحفوظ، وأن يراد بهم الحفظة الذين يكتبون عمل الإنسان، فأقسم أولاً بالقلم، ثم بسطر الملائكة على ثلاثة أشياء: نفى الجنون عنه، وثبوت الأجر له، وكونه على خلق عظيم، فالمقسم به شيئان أو ثلاثة: بزيادة نون، على أن المراد به الحوت.
قوله: ﴿ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ﴾ الخ، جواب القسم، والباء في ﴿ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ﴾ سببية وفي ﴿ بِمَجْنُونٍ ﴾ زائدة، ومجنون خبر ﴿ مَآ ﴾.
قوله: (وهذا رد لقولهم) أي كما حكاه الله عنهم في قوله: (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون). قوله: ﴿ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴾ أي بل هو دائم جار مستمر لا ينقطع، فهو صلى الله عليه وسلم دائماً يترقى في الكمالات، فمقامه بعد وفاته أعظم منه في حال حياته، ومقامه في الآخرة أعلى من مقامه في الدنيا. قوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ قال ابن عباس: معناه على دين عظيم، لا دين أحب إلي ولا أرضى عندي منه، وهو دين الإسلام، وقال الحسن: هو آداب القرآن، بدليل أن عائشة لما سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن، ولذا قال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أوامر الله، وينتهي عنه من نهي الله تعالى، والمعنى: إنك على الخلق الذي أمرك الله به في القرآن، وهذا أعظم مدح له صلى الله عليه وسلم، ولذا قال العارف البوصيري رضي الله عنه: فهو الذي تم معناه وصوته   ثم اصطفاه حبيباً بارئ النسمقوله: ﴿ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ﴾ أي فستعلم ويعلمون في الدنيا، بظهور عاقبة أمرك، واستيلائك عليهم بالقتل والنهب، ويوم القيامة حين يتميز الحق من الباطل. قوله: ﴿ بِأَييِّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ ﴾ ﴿ بِأَييِّكُمُ ﴾ خبر مقدم، و ﴿ ٱلْمَفْتُونُ ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة في محل نصب تنازعها كل من تبصر ويبصرون، أعمل الثاني وأضمر في الأول وحذف لأنه فضلة، وليس قوله: ﴿ بِأَييِّكُمُ ﴾ متعلقاً بيبصرون، لأنه معلق بالاستفهام عن العمل. قوله: (مصدر كالمعقول) أي جاء على صيغة مفعول، كالمعقول والميسور قوله: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ ﴾ الخ، تعليل لما قبله، وتأكيد الوعد والوعيد. قوله: (له) أي للسبيل. قوله: (وأعلم بمعنى عالم) أشار بذلك إلى أن اسم التفضيل ليس على بابه، وإلا لاقتضى مشاركة الحادث للقديم وهو باطل.
قوله: ﴿ فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ ﴾ مرتب على ما تقدم من اهتدائه صلى الله عليه وسلم وضلالهم، أو على جميع ما تقدم من أول السورة. قوله: (تلين لهم) أي بترك نهيم عن الشرك، أو بأن توافقهم فيه أحياناً، وقوله: (يلينون لك) أي يتركون ما هم عليه من الطعن ويوافقونك. والمعنى: تمنوا لو تترك ببعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم، فيفعلوا مثل ذلك، ويتركوا بعض ما لا ترضى به، فتلين لهم ويلينون لك. قوله: (وهو معطوف) الخ، أي فهو من جملة المتمني، وحينئذ فيكون المتمني شيئين، ثانيهما مسبب عن الأول، قوله: (قدر قبله بعد الفاء هم) أي فيكون الجواب جملة اسمية لا محل لها من الإعراب، وهذا جواب عما يقال: حيث جعل قوله: ﴿ فَيُدْهِنُونَ ﴾ جواب التمني والفاء سببية، فمقتضاه حذف النون للناصب، فأجاب: بأن الفاء داخلة على مبتدأ مقدر، وجملة يدهنون خبره، والجملة جواب التمني. قوله: ﴿ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ﴾ الخ، هذه الأوصاف من هنا إلى قوله:﴿ سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ ﴾[القلم: ١٦] نزلت في الوليد بن المغيرة، وعليه جمهور المفسرين، واقتصر عليه المفسر، وقيل: من الأسود بن عبد يغوث، وقيل: في الأخنس بن شريق، وقيل: في أبي جهل بن هشام. قوله: (كثير الحلف بالباطل) تفسير مراد آخذاً له من قوله: ﴿ ٱلْمُكَذِّبِينَ ﴾ ومن سياق الذم، وإلا فالحلاف كثير الحلف بحق أو باطل. قوله: (حقير) أي في رأيه وتدبيره عند الله تعالى، فلا ينافي أنه كان معظماً في قومه. قولهِ (عياب) أي كثير العيب للناس، بمعنى أنه يعيبهم في حضورهم وغيبتهم، وقوله: (أي المغتاب) المناسب كما في بعض النسخ أن يقول: أو مغتاب، فيكون تفسيراً ثانياً من الغيبة، وهي ذكرك أخاك بما يكره، وقيل: الهماز الذي يهمز الناس بيده ويضربهم. قوله: ﴿ بِنَمِيمٍ ﴾ متعلق بمشاء، والنميم مصدر كالنميمة أو اسم جنس للنميمة. قوله: ﴿ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ ﴾ أي من نفسه وغيره. قوله: (عن الحقوق) أي الواجبة والمندوبة. قوله: (ظالم) أي بتعدي الحق. قوله: ﴿ أَثِيمٍ ﴾ أي فاجر يتعاطى الإثم. قوله: (غليظ) أي في الطبع أو الجسم، وقوله: (جاف) أي قاسي القلب، وقيل العتل الذي يعتل الناس، أي يحملهم ويجرهم إلى ما يكرهون من حبس وضرب، ومنه خذوه فاعتلوه. قوله: ﴿ بَعْدَ ذَلِكَ ﴾ أي ما ذكر من الأوصاف السابقة وهي ثمانية، و ﴿ بَعْدَ ﴾ هنا كثم التي للتراخي في الرتبة، والمعنى: أن هذا الوصف وهو ﴿ زَنِيمٍ ﴾ متأخر في الرتبة والشناعة عن الصفات السابقة، أي وهو أشنع منها وأقبح. قوله: ﴿ زَنِيمٍ ﴾ الزنمة في الأصل شيء يكون للمعز في أذنها كالقرط، فأطلق على المستحلق في قوم ليس منهم، فكأنه فيهم زنمة. قوله: (ادعاه أبوه) أي وهو المغيرة. والمعنى: كمعناه ونسبة لنفسه، بعد أن كان لا يعرف له أب. قول: (بعد ثمان عشرة سنة) أي من ولادته، ولما نزلت الآية قال لأمه: إن محمداً وصفني بتسع صفات أعرفها غير التاسع منها، فإن لم تصدقيني الخبر ضربت عنقك، فقالت له: إن أباك عنين، فخفت على المال، فمكنت الراعي من نفسي، فأنت منه، فلم يعرف أنه ابن زنا حتى نزلت الآية، وإنما ذم بذلك، لأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الولد، لما ورد في الحديث:" لا يدخل الجنة ولد زنا، ولا ولده ولا ولا ولده ". وورد:" أن أولاد الزنا، يحشرون يوم القيامة في صورة القردة والخنازير ". وورد:" لا تزال أمتي بخير، ما لم يفش فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا، أوشك أن يعمهم الله بعذابه ". وقال عكرمة: إذا كثر ولد الزنا قحط المطر. قوله: (من العيوب) بيان لما.
قوله: ﴿ أَن كَانَ ذَا مَالٍ ﴾ الخ، سيأتي في المدثر الكلام على ماله وبينه. قوله: (وهو متعلق بما دل) الخ، أي وقد بينه بقوله: (أي كذب بها) ولا يصح أن يكون معمولاً لفعل الشرط، لأن ﴿ إِذَا ﴾ تضاف للجملة بعدها، والمضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف، ولا يصح أن يكون معمولاً لجواب الشرط، لأن ما بعده أداة الشرط. لا يعمل فيما قبلها. قوله: ﴿ قَالَ أَسَاطِيرُ ﴾ جمع أسطورة كأكاذيب جمع أكذوبة، وزنا ومعنى. قوله: (بما ذكر) أي من المال والبنين. قوله: (وفي قراءة) أي سبعية (أأن بهمزتين مفتوحتين) الأولى همزة الاستفهام التوبيخي، والثانية أن همزة المصدرية، واللام مقدرة، والمعنى أكذب بها لأن كان ذا مال وبنين، أي لا ينبغي ولا يليق ذلك منه، لأن المال والبنين من النعم، فكان ينبغي مقابلتهما بالشكر، وقراءة الاستفهام فيها، التحقق من غير ألف والتسهيل مع إدخال ألف بينهما وتركه. قوله: ﴿ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ ﴾ عبر به استهزاء بهذا اللعين، لأن الخرطوم أنف السباع، وغالب ما يستعمل في أنف الفيل والخنزير. قوله: (فخطم أنفه) أي جرح أنف هذا اللعين يوم بدر، فبقي أثر الجرح في أنفه بقية عمره. قوله: ﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ﴾ هي بستان باليمن يقال له الصروان دون صنعاء، بفرسخين، وكان صاحبه ينادي الفقراء وقت الجذاذ، ويترك لهم ما اخطأ المنجل من الزرع أو ألقته الريح، أو بعد عن البساط الذي يبسط تحت الثمر، وكان يجتمع لهم في ذلك شيء كثير، فلما مات ورثه بنوه وكانوا ثلاثة، وشحوا بذلك قالوا: إن فعلنا ما كان يفعل أبونا، ضاق علينا الأمر ونحن ذوو عيال، فحلفوا أن يجذوه قبل الشمس، حتى لا تأتي الفقراء إلا بعد فراغهم، وكانت قصتهم بعد عيسى أبن مريم بزمن يسير. قوله: (بالقحط) أي وهو احتباس المطر الذي دعا به صلى الله عليه وسلم عليهم، حتى أكلوا الجيفة. قوله: ﴿ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ﴾ الكاف في موضع نصب لمصدر محذوف، وما مصدرية أو بمعنى الذي. قوله: ﴿ إِذْ أَقْسَمُواْ ﴾ ﴿ إِذْ ﴾ تعليلية متعلقة ببلونا، والمراد معظمهم، وإلا فالأوسط نهاهم عن ذلك وقال لهم: اصنعوا من الإحسان ما كان يصنعه أوبكم. قوله: (يقطعون) أي فالصرم القطع، والانصرام الانقطاع. قوله: ﴿ مُصْبِحِينَ ﴾ حال من فاعل ﴿ لَيَصْرِمُنَّهَا ﴾ وهو من أصبح التامة أي داخلين في الصباح. قوله: (فلا يعطونهم) معطوف على النفي، ولذا رفع (لا) على المنفي لفساد المعنى: قوله: (ما كان أبوهم) أي القدر الذي كان أبوهم الخ، وتقدم بيانه. قوله: (بمشيئة الله تعالى) أي لا يقولون في يمينهم إن شاء الله، وقيل: لا يستثنون شيئاً للمساكين. قوله: (والجملة مستأنفة) أي وجوز بعضهم الحالية، وهي أظهر في المعنى، وإنما عدل المفسر عنه، لأن المضارع المنفي بلا، كالمثبت في أنه لا يقع حالاً مقروناً بالواو، إلا بإضمار مبتدأ وفيه كلفة. قوله: ﴿ وَهُمْ نَآئِمُونَ ﴾ الجملة حالية. قوله: (كالليل) سمى الليل صريماً لا نصرامه وانفصاله من النهار، كما يسمى النهار صريماً أيضاً لا نفصاله من الليل.
قوله: ﴿ فَتَنَادَوْاْ ﴾ معطوف على ﴿ أَقْسَمُواْ ﴾ وما بينهما اعتراض. قوله: ﴿ مُصْبِحِينَ ﴾ حال. قوله: ﴿ أَنِ ٱغْدُواْ ﴾ أي بكروا وقت الغدو، وعداه بعلى لتضمنه معنى اقبلوا. قوله: (تفسير لتنادوا) أي فأن بمعنى أي. قوله: (دل عليه ما قبله) أي وتقديره فاغدوا. قوله: ﴿ فَٱنطَلَقُواْ ﴾ معطوف على ﴿ فَتَنَادَوْاْ ﴾ وقوله: ﴿ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ﴾ حال. قوله: ﴿ أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ﴾ الخ، أصل الكلام أن لا تدخلوها مسكيناً، فأوقع النهي على دخول المساكين لأنه أبلغ، لأن دخولهم أهم من أن يكون بإدخالهم أو بدونه. قوله: ﴿ وَغَدَوْاْ ﴾ أي ساروا إليها غدوة، وقوله: ﴿ قَادِرِينَ ﴾ خبر ﴿ غَدَوْاْ ﴾ إن كان بمعنى أصبح الناقصة وإن كانت تامة، يكون منصوباً على الحال، قوله: ﴿ عَلَىٰ حَرْدٍ ﴾ الحرد فيه أقوال كثيرة أشهرها ما قاله المفسر، ومنها أن معناه الغضب، ومنها السنة التي قل مطرها. قوله: (في ظنهم) أي وأما في الواقع فليس كذلك، لهلاك الثمر عليهم ليلاً. قوله: ﴿ قَالُوۤاْ إِنَّا لَضَآلُّونَ ﴾ أي قالوا ذلك في بادئ الرأي. قوله: (لما علموها) أي بعد التأمل والتفتيش. قوله: (بمنعها) الباء سببية. قوله: (خيرهم) أي رأياً وعقلاً ونفساً، أنكر عليهم بقوله: ﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ ﴾ الخ، في مفعوله محذوف، أي ألم أقل لكم أن ما فعلتموه لا يرضى به الله؟ قوله: (هلا) ﴿ تُسَبِّحُونَ ﴾ (الله) أي تستغفرونه وتتوبون إليه من حيث عزمكم. قوله: ﴿ قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ ﴾ أي فامتثلوا وتابوا. قوله: ﴿ يَتَلاَوَمُونَ ﴾ أي يلوم بعضهم بعضاً، على ما صدر منهم سابقاً. قوله: (هلاكنا) أي إن لم يعف عنا ربنا، فقد حضر هلاكنا. قوله: ﴿ عَسَىٰ رَبُّنَآ ﴾ رجوع منهم إلى الرجاء في رحمة الله بعد التوبة. قوله: (بالتشديد والتخفيف) قراءتان سبعيتان. قوله: (روي أنهم أبدلوا) الخ، أي فأمر الله جبريل أن يقتلع تلك الجنة المحترقة فيجعلها بزغر، بالزاي والغين والمعجمتين، بلدة بالشام بها عين غور مائها علامة خروج الدجال، ويأخذ من الشام جنة فيجعلها مكانها، قال ابن مسعود: إن القوم اخلصوا، وعلم الله منهم الصدق، فأبدلهم جنة يقال لها الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منه عنقوداً واحداً، وقال اليماني أبو خالد: دخلت تلك الجنة، فرأيت منها محل العنقود كالرجل القائم الأسود.
قوله: ﴿ كَذَلِكَ ﴾ خبر مقدم، و ﴿ ٱلْعَذَابُ ﴾ مبتدأ مؤخر. قوله: (أي مثل العذاب لهؤلاء) أي الذي بلونا به أصحاب الجنة من إهلاك ما كان عندهم يحصل لأهل مكة، قال ابن عباس: هذا مثل لأهل مكة، حين خرجوا إلى بدر وحلفوا ليقتلون محمداً وأصحابه، ويرجعون إلى مكة، ويطوفون بالبيت، ويشربون الخمر، وتضرب القينات على رؤوسهم، فأخلف الله ظنهم، فقتلوا وأسروا وانهزموا، كأهل هذه الجنة لما خرجوا عازمين على الصرام، فخابوا وضاعت صفقتهم، وفيه تلطف بأهل مكة، حيث ضرب لهم المثل بأهل الجنة كما لا يخفى. قوله: (ونزل لما قالوا) الخ، ظاهره أن قولهم سببب لنزول ﴿ إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ الخ، وليس كذلك، بل الآية سبب لقولهم المذكور، فلما صدر منهم ذلك القول أنزل رداً عليهم ﴿ أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ ﴾ الخ، قال مقاتل: لما نزل ﴿ إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ الخ، قال كفار مكة للمسلمين: إن الله فضلنا عليكم في الآخرة، فإن لم يحصل التفضيل، فلا أقل من المساواة، فأجابهم الله تعالى بقوله: ﴿ أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ ﴾ الخ. قوله: ﴿ جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ ﴾ أضيفت إلى ﴿ ٱلنَّعِيمِ ﴾ لأنه ليس فيها إلا النعيم الخالص الذي لا يشوبه كدر ولا نقص كجنات الدنيا. قوله: ﴿ أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة عليه، والتقدير: أنحيف في الحكم، فنجعل المسلمين، وفي العبارة قلب، والأصل: أفنجعل المجرمين كالمسلمين، لأنهم جعلوا أنفسهم كالمسلمين بل أفضل؟ فحينئذ يكون الإنكار متوجهاً لجعلهم المذكور، وقد وبخوا باستفهامات سبعة تنتهي لقوله:﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ ﴾[القلم: ٤١] أولها ﴿ أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ ﴾ ثانيها ﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ ثالثها. رابعها ﴿ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ ﴾ الخ، خامسها﴿ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ ﴾[القلم: ٣٩] الخ، سادسها ﴿ أَنَّهُمْ ﴾ الخ، سابعها﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ ﴾[القلم: ٤١] الخ. قوله: (أي تابعين لهم في العطاء) المناسب أن يقول: أي مساوين لهم في العطاء، بقي أن الآية إنما دلت على نفي المساواة، مع أن المشركين ادعوا الأفضلية، فلم تحصل الموافقة. أجيب: أنها دلت على نفي الأفضلية بالأولى، لأنه إذا انتفت المساواة فالأفضلية أولى. قوله: ﴿ مَا لَكُمْ ﴾ مبتدأ وخبر، والمعنى: أي شيء ثبت واستقر لكم من هذه الأحكام البعيدة عن الصواب. قوله: ﴿ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ جملة أخرى، فالوقف على ﴿ لَكُمْ ﴾ استفيد من هذه الجملة السؤال عن كيفية الحكم، هل هو عن عقل أولا؟ قوله: ﴿ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ ﴾ ﴿ أَمْ ﴾ منقطعة تفسر ببل والهمزة، وقيل للاضراب ا لانتقالي، والهمزة للاستفهام التوبيخي التقريعي، وكذا يقال فيما يأتي.
قوله: ﴿ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ﴾ ﴿ لَكُمْ ﴾ خبر ﴿ إِنَّ ﴾ مقدم، وما اسمها مؤخر، واللام للتوكيد، وهذه الجملة هي المدروسة في الكتاب، فهي في المعنى مفعول لتدرسون، وكسر همزة إن لوقوع اللام المعلقة للفعل عن العمل بعدها، قال ابن مالك: وكسروا من بعد فعل علقا   باللام كاعلم إنه لذو تقىقوله: (تختارون) أي تشتهون وتطلبون. قوله: (عهود) أي مؤكدة بالأيمان لأن العهد كلام مؤكد بالقسم. قوله: ﴿ بَالِغَةٌ ﴾ بالرفع في قراءة العامة نعت لأيمان، وقرئ شذوذاً بالنصب على الحال، إما من ﴿ أَيْمَانٌ ﴾ أو من الضمير في ﴿ عَلَيْنَا ﴾.
قوله: (متعلق معنى بعلينا) أي متصل به، وليس المراد التعلق الصناعي، فإنه مختص بالفعل، أو ما فيه رائحة الفعل، أو بالمقدر في الظرف، أي هي ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة، ولا تخرج عن عهدتها إلا يومئذ إذا حكمناكم. قوله: (وفي هذا الكلام) أي قوله: ﴿ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ ﴾ الخ. قوله: (أي أقسمنا لكم) مفعوله محذوف، أي اقسمنا لكم أيماناً موثقة. قوله: ﴿ سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ ﴾ الخ ﴿ سَلْهُمْ ﴾ ينصب مفعولين الأول الضمير المتصل، والثاني جملة ﴿ أَيُّهُم ﴾، وأي مبتدأ، و ﴿ زَعِيمٌ ﴾ خبره، و ﴿ بِذَلِكَ ﴾ متعلق بزعيم. قوله: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ ﴾ ﴿ لَهُمْ ﴾ خبر مقدم، و ﴿ شُرَكَآءُ ﴾ مبتدأ مؤخر، وهذه كالجملة معطوفة معنى على جملة أيهم زعيم، واختلف في الشركاء فقيل: المراد بهم ناس يشاركونهم في القول المذكور، وقيل المراد بها الأصنام وكلام المفسر محتمل لهما. قوله: (يكلفون لهم به) أي بصحته ونفوذه. قوله: ﴿ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ ﴾ شرط حذف جوابه لدلالة ماقبله عليه.
قوله: (اذكر) أشار بذلك إلى أن ﴿ يَوْمَ ﴾ معمول لمحذوف، والجملة مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها، وهذا أحد قولين، والآخر أن الظرف متعلق بيأتوا، والمعنى: فليأتوا بشركائهم في ذلك اليوم، تنفعهم وتشفع لهم. قوله: (هو عبارة) الخ، أي هذا التركيب، و ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ﴾ كناية عن الشدة، فأصل هذا الكلام يقال لمن شمر عن ساقه عند العمل الشاق، ويقال إذا اشتد الأمر في الحرب: كشف الحرب عن ساق. وسئل ابن عباس عن هذه الآية فقال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فاتبعوه في الشعر، فإنه ديوان العرب، أما سمعتم قول الشاعر: سن لنا قومك ضرب الأعناق   وقامت الحرب بنا على ساقوقال الآخرألا رب ساهي الطرف من آل مازن   إذا شمرت عن ساقها الحرب شمراوقيل: المراد الحقيقة وعليه فاختلف فقيل: يكشف عن ساق جهنم، وقل: عن ساق العرش، وقيل: يكشف لهم الحجاب فيرون الله تعالى. ففي مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه،" أن ناساً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم قال: هل يضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحواً ليس فيها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فما تضارون في رؤية الله تعالى يوم القيامة، إلا كما تضارون في رؤية أحدهما، أذا كان يوم القيامة أذن مؤذن، لنتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، حتى لا يبقى إلا من كان يعبد الله، من بر وفاجر وغير أهل الكتاب، فتدعى اليهود فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيراً ابن الله، فيقال: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبه ولا ولد، فماذا تبغون؟ قالوا: عطشنا يا ربنا فاسقنا، فيشار إليهم ألا تردون؟ فيحشرون إلى النار، كأنهم سراب يحطم بعضها بعضاً، فيتساقطون في النار، ثم يدعى النصارى فيقال لهم: ماذا تعبدون؟ قالو: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبه ولا ولد، فيقال لهم: ماذا تبغون؟ فيقولون: عطشنا يا ربنا فاسقنا، فيشار إ ليهم ألا تردون؟ فيحشرون إلى جهنم كأنهم سراب عظيم بعضها بعضاً، فيتساقطون في النار، حتى لا يبقى إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر، أتاهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها، قال: فماذا تنتظرون؟ لتتبع كل أمة ما كانت تبعد، قالوا: يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئاً، مرتين أو ثلاثاً، حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفوه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه، إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء، إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه، ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة، فقال: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون: اللهم سلم سلم، قالوا: يا رسول الله وما الجسر. قال: دحض مزلقة فيها خطاطيف وكلاليب وحسكة تكون بنجد، فيها شويكة قال لها السعدان، فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير، وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في نار جهنم، حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده، ما من أحد منكم بأشد من شدة الله في استفياء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين هم في النار، فيقولون: ربنا كانوا يصومون معنا، ويصلون ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقاً كثيراً، قد أخذت النار إلى نصف ساقه وإلى ركبته ثم يقولون: ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقال لهم: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، وثم يقولون: ربنا لم ندر فيها أحداً ممن أمرتنا به، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: يا ربنا لم نذر فيها مم أمرتنا به أحداً، ثم يقولن: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: يا ربنا لم نذر فيها خيراً ". وكان أبو سعيد يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرأوا إن شئتم﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَٰعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ﴾[النساء: ٤٠] فيقول الله: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط، قد عادوا حمماً، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر، ما تكون إلى الشمس أصفر أو أخضر، وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض، قال: فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة، بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه، ثم يقول: ادخلوا الجنة فيما رأيتموه فهو لكم، فيقولون: ربنا أعطتينا ما لم تعط أحداً من العالمين، فيقول: لكم عندي ما هو أفضل من هذا، فيقولون: ربنا أي شيء أفضل من هذا. فيقول: رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبداً.- تنبيه - قوله في الحديث: " أتاهم الله في أدنى صورة رأوه فيها " الخ، هو من المتشابه يجري فيه مذهب السلف والخلف، فالسلف يقولون: يجب علينا أن نؤمن بها، ونعتقد أن لها معنى يليق بجلال الله تعالى، مع اعتقادنا أن الله تعالى ليس كمثله شيء، والخلف يؤولون الإتيان إما بالرؤية لأن العادة أن من غاب عن غيره لا يمكنه رؤيته، أو بإتيان ملك فيقول: أنا ربكم على سبيل الامتحان وهذا آخر امتحان المؤمنين، ومعنى الصورة الصفة، فمعنى " في أدنة صورة " الخ، في غير الصفة التي يعرفونه في الدنيا بها، وقولهم: " فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم "، أي فارقنا الناس من أجل توحيدك، حال كوننا مع المفارقة أفقر من أنفسنا عند صحبتهم، فهو اخبار منهم بمزيد صبرهم على المشاق لأجل الله، وقولهم " نعوذ بالله منك "، إنما استعاذوا منه لكونهم رأوا سمات المخلوق، وقوله: " فيكشف عن ساق "، معناه كشف الحزن وإزالة الرعب عنهم وما كان غلب على عقولهم من الأهوال، فتطمئن حنيئذ نفوسهم عند ذلك، ويتجلى لهم بالصفة التي يعرفونها فيخرون سجداً، وهذه الرؤية غير الرؤية التي هي في الجنة لكرامة أوليائه، وإنما هذه الرؤية امتحان لعباده، وقوله: " وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة "، معناه أنه تحجب عنهم بالصفة التي رأوه فيها أول مرة، وقوله: " ثم يضرب الجسر " معناه الصراط، وتحل الشفاعة بكسر الحاء وضمها معناه تقع ويؤذن فيها، وقوله: " دحض مزلقة " أي طريق تزلق فيه الأقدام ولا تثبت، وقوله: " فيه خطاطيف " جمع خطاف، وهو الذي يخطف الشيء، والكلاليب جمع كلوب وهو الحديدة التي يعلق بها اللحم والحسك الذي يقال له السعدان، ثبت له شوك عظيم من كل جانب، ومعنى " الخبر " اليقين، ومعنى " قبض قبضة " أي جمع جماعة، وقوله: " قد عادوا حمماً " أي صاروا فحماً، وقوله: " في أفواه الجنة " جمع فوهة وهي أول النهر، وقوله: " فيخرجون كاللؤلؤ " أي في الصفاء، وقوله: " في رقابهم الحواتيم "، قيل: معناه أنهم يعلقون أشياء من ذهب أو غير ذلك مما يعرفون بها، والله أعلم. قوله: ﴿ وَيُدْعَوْنَ ﴾ أي الكفار. قوله: (امتحاناً لإيمانهم) أي لا تكليفاً بالسجود، لأنها ليست دار تكليف. قوله: (طبقاً واحداً) أي عظماً واحداً.
قوله: ﴿ أَبْصَٰرُهُمْ ﴾ فاعل بـ ﴿ خَٰشِعَةً ﴾، ونسب الخشوع والذل إليها، لأن ما في القلب يعرف في العين، وفي ذلك المقام يسجد المؤمنون شكراً لله تعالى على ما أعطوه من النعيم، فيرفعون رؤوسهم من السجود، ووجوههم أضوأ من الشمس، ووجوه الكفارين والمنافقين سوداء مظلمة له. قوله: ﴿ تَرْهَقُهُمْ ﴾ حال أخرى. قوله: ﴿ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ ﴾ أي دعوى تكليف والجملة حالية، وكذا قوله: ﴿ وَهُمْ سَٰلِمُونَ ﴾.
قوله: (بأن لا يصلوا) أشار بذلك إلى أن المراد بالسجود الثاني هو الصلاة، واتفق المفسرون على أن المراد بالسجود الأول حقيقته. قوله: ﴿ فَذَرْنِي ﴾ تسلية له صلى الله عليه وسلم وتخويف للكافرين، والمعنى: أترك أمر المكذبين إلى أكفك ذلك. قوله: ﴿ وَمَن يُكَذِّبُ ﴾ في محل نصب إما معطوف على الياء في ذرني، أو مفعول معه، والأول أرجح، قال ابن مالك: والعطف إن يمكن بلا ضعف أحق   والنصب مختار لدى عطف النسققوله: ﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ ﴾ استئناف مسوق لبيان كيفية التعذيب المستفاد إجمالاً من قوله ذرني الخ، قوله: (نأخذهم قليلاً قليلاً) أي فالاستدراج: الأخذ بالتدريج شيئاً فشيئاً، والمعنى: لما أنعمنا عليهم، اعتقدوا أن ذلك الإنعام تفضيل لهم على المؤمنين، وهو في الحقيقة سبب لهلاكهم. قوله: ﴿ وَأُمْلِي لَهُمْ ﴾ عطف على ﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ ﴾ عطف تفسير. قوله: ﴿ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾ الكيد في الأصل الاحتيال، وهو أن تفعل ما فيه نفع ظاهر، أو تريد به الضر، وإنما سمى إنعامه عليهم استدراجاً بالكيد لأنه في صورته، فما وقع لهم من سعة الأرزاق وطول الأعمار وعافية الأبدان بإحسان ونفع ظاهري فقط، والمقصود به معاقبتهم وتعذيبهم على ذلك، ووصف الكيد بالمتانة، إشارة إلى أنه لا يتأتى إفلات المستدرجين مما أراده بهم، بخلاف كيد المخلوق، فتارة يقع وتارة لا يتمكن منه. قوله: ﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً ﴾ هو في المعنى مرتبط بقوله سابقاً﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ ﴾[القلم: ٤١] الخ، والمعنى: أم تلتمس منهم ثواباً على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله تعالى. قوله: ﴿ مُّثْقَلُونَ ﴾ أي مكلفون حملاً ثقيلاً. قوله: (فلا يؤمنون لذلك) أي لسؤال الأجر المرتب عليه الغرم، وهو ثقيل على النفس، لأن شأن النفس أن تستثقل ما يطلب منها. قوله: (أي اللوح) الخ، هذا قول ابن عباس، وقيل: ﴿ ٱلْغَيْبُ ﴾ هو علم ما غاب عنهم. قوله: (ما يقولون) أي ما يحكمون به ويستغنون به عن اعلمك.
قوله: ﴿ فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ﴾ الخ، نزلت هذه الآية بأحد، حين فر أصحاب رسول الله بإغراء المنافقين، فأراد أن يدعو على الذين انهزموا، وقيل: نزلت حين ضاق صدره من أهل مكة، خرج يدعو ثقيفاً، فأغروا به سفهاءهم، وصاروا يضربونه بالحجارة حتى أدموا قدمه الشريف، فأراد أن يدعو عليهم، فعلى الأول تكون مدنية، وعلى الثاني تكون مكية. قوله: ﴿ إِذْ نَادَىٰ ﴾ منصوب بمضاف محذوف، والتقدير: ويكن حالك كحاله في وقت ندائه. قوله: ﴿ وَهُوَ مَكْظُومٌ ﴾ الجملة حال من ضمير ﴿ نَادَىٰ ﴾.
قوله: (مملوء غماً) أي من أجل خوفه من الله تعالى حيث خرج من غير إذن، فظن أن الله آخذه بذلك، وقيل: معنى مكظوم محبوس، ومنه قولهم فلان يكظم غيظه أي يحبس غضبه. قوله: ﴿ نِعْمَةٌ ﴾ اختلف في المراد بها، فقيل: الرحمة وهو الذي اختاره المفسر، وقيل: هي العصمة، وقيل: نداؤه بقوله﴿ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ ﴾[الأنبياء: ٨٧].
قوله: (بالأرض الفضاء) أي الخالية من النبات والأشجار والجبال. قوله: ﴿ وَهُوَ مَذْمُومٌ ﴾ أي مؤاخذ بذنبه، والجملة حال من نائب فاعل نبذ، وهو محط النفي المستفاد من ﴿ لَّوْلاَ ﴾.
قوله: (لكنه رحم) الخ، أشار بذلك إلى أن ﴿ لَّوْلاَ ﴾ حرف امتناع لوجود، والممتنع الذم، والمعنى: امتنع ذمه لسبق العصمة له، فجتباه ربه وجعله في الصالحين فيونس لم تحصل منه معصية أبداً، لا صغيرة ولا كبيرة، وإنما خروجه من بينهم، باجتهاد منه، وعتابه من الله من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، وتقدم ذلك مفصلاً. قوله: ﴿ فَٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ ﴾ عطف على مقدر، والمعنى: فأدركته نعمة من ربه فاجتباه. قوله: (بالنبوة) هذا مبني على أنه وقت هذه الواقعة لم يكن نبياً، وإنما نبئ بعدها وهو أحد قولين، والآخر أنه كان نبياً، ومعنى اجتباه اختاره واصطفاه ورقاه مرتبة أعلى من التي كان فيها. قوله: ﴿ فَجَعَلَهُ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾ أي الكاملين في الصلاح، قال ابن عباس: رد الله عليه الوحي، وشفعه في نفسه وفي قومه، وقبل توبته وجعله من الصالحين، بأن أرسله إلى مائة ألف أو يزيدون، فهداهم الله بسبب صبره. قوله: ﴿ وَإِن يَكَادُ ﴾ ﴿ وَإِن ﴾ مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. قوله: (بضم الياء وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان، فالضم من أزلق، والفتح من زلق. قوله: ﴿ بِأَبْصَارِهِمْ ﴾ الباء إما للتعدية أو السببية. قوله: (أي ينظرون إليك نظراً شديداً) أي فليس المراد أنهم يصيبونه بأعينهم، كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه. وإنما المراد أنهم ينظرون إليه نظراً شديداً بالعداوة والبغضاء، وهذا ما مشى عليه المفسر، وقيل: أرادوا أن يصيبوه بالعين، فنظر إليه قوم من قريش المجربة اصابتهم، فعصمه الله وحماه من أعينهم فلم تؤثر فيه فنزلت، وذكر العلماء أن العين كانت في بني أسد من العرب، وكان إذا أراد أحد منهم أن يصيب أحداً وفي نفسه أو ماله، جوع نفسه ثلاثة أيام، ثم يتعرضون للمعيون أو ماله فيقول: ما رأيت أقوى منه ولا أشجع ولا أكبر ولا أحسن، فيهلك المعيون هو وماله، وهذه الآية تنفع كتابه وقراءة للمعيون، فلا تضره العين. قوله: ﴿ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكْرَ ﴾ ظرف ﴿ لَيُزْلِقُونَكَ ﴾.
قوله: (حسداً) أي وبغضاً وتنفيراً عنه. قوله: ﴿ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ﴾ الجملة حالية من فاعل ﴿ يَقُولُونَ ﴾ مفيدة لبطلان قولهم، وتعجب السامعين حيث جعلوا عظة للعالمين، ويذكرهم سبباً لجنون من أتى به، وهذا دليل على سخافة عقلهم وسوء رأيهم، لأن هذا القرآن لا يدركه إلا من كان كامل العقل، فكيف بمن نزل على قلبه؟
Icon