تفسير سورة سورة القلم من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
.
لمؤلفه
حسنين مخلوف
.
المتوفي سنة 1410 هـ
مكية، وآياتها ثنتان وخمسون
بسم الله الرحمان الرحيم
وتسمى سورة ن
ﰡ
﴿ ن ﴾ من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه. أو هي اسم للسورة. أو للقرآن.
﴿ والقلم وما يسطرون ﴾ أقسم الله تعالى – على براءة النبي صلى الله عليه وسلم مما نسب إليه المشركون من الجنون ؛ حسدا وعداوة ومكابرة. وعلى ثبوت الأجر الدائم له على قيامه بأعباء الرسالة، وعلى كونه على دين الإسلام والتوحيد – بجنس القلم الذي يخط به في السماء في اللوح المحفوظ، وفي صحف الملائكة والحفظة، وفي الأرض بما ينفع الناس. وأقسم بما يكتبه الكاتبون مما هو خير ونفع.
﴿ ما أنت بنعمة ربك بمجنون ﴾ رد لقولهم : " يأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون " .
أي لا تكون مجنونا وقد أنعم الله عليك بالنبوة والحكمة.
﴿ وإن لك لأجرا غير ممنون ﴾ أي غير منقوص ولا مقطوع على صبرك وتحملك أعباء الرسالة ؛ من مننت الحبل : إذا قطعته. أو غير ممنون به عليك.
﴿ وإنك لعلى خلق عظيم ﴾ دين عظيم ؛ لا دين أحب إلي ولا أرضى عندي منه وهو دين الإسلام. وقيل : آداب القرآن. وعن عائشة رضي الله عنها : كان خلقه القرآن، يرضى لرضاه ويسخط لسخطه.
﴿ فستبصر ويبصرون ﴾ وعد له صلى الله عليه وسلم، ووعيد لأهل مكة.
﴿ بأييكم المفتون ﴾ أي في أي فريق منكم الذي فتن بالجنون. أبفريق المؤمنين أم بفريق الكافرين ؟ أي في أيهما من يستحق هذا الوصف. والباء بمعنى في ؛ وهو تعريض بغلاة المشركين الذين وصفوه صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف القبيح.
﴿ فلا تطع المكذبين ﴾ أي لا تداهنهم ولا تدارهم استجلابا لقلوبهم. ثم علل ذلك بقوله تعالى.
﴿ ودوا لو تدهن ﴾ أي أحبوا لو تلاينهم وتسامحهم في بعض الأمور بترك مالا يرضونه مصانعة لهم. ﴿ فيدهنون ﴾ فهم الآن يدهنون بترك بعض مالا ترضى به ؛ فجواب التمني المفهوم من " ودوا " جملة اسمية. والإدهان : اللين والمصانعة والمقاربة في الكلام.
﴿ ولا نطع كل حلاف ﴾ كثير الحلف في الحق والباطل﴿ مهين ﴾ حقير ذليل وضيع.
﴿ هماز ﴾ عياب. أو مغتاب للناس ؛ من الهمز، وهو اللمز الضرب طعنا باليد أو العصا ونحوها ؛ ثم استعير للذي ينال الناس بلسانه وبعينه وإشارته، ويقع فيهم بالسوء. ﴿ مشاء بنميم ﴾ نقال للحديث للإفساد بين الناس. والنميم والنميمة : مصدران بمعنى السعاية والإفساد. يقال : نم الحديث – من بابي قتل وضرب – سعى به فتنة أو وحشة ؛ فالرجل نم ونمام. وأصلها الهمس والحركة الخفيفة ؛ ثم استعملت فيما ذكر مجازا.
﴿ عتل ﴾ جاف غليظ ؛ من عتله يعتله ويعتله : إذا جره بعنف وغلظة. أو شديد الخصومة بالباطل. ﴿ زنيم ﴾ ملصق بالقوم، دعي فيهم ؛ كأنه فيهم زنمة، وهي ما يتدلى من الجلد في حلق المعز تحت لحيتها. وقيل : الزنيم هو الذي يعرف بالشر أو باللؤم بين الناس ؛ كما تعرف الشاة بزنمتها. أو هو الفاجر. وقيل : العتل الزنيم : الفاحش اللئيم.
﴿ أساطير الأولين ﴾ أباطيلهم وخرافاتهم التي سطروها في كتبهم السابقة. جمع أسطورة.
﴿ سنسمه على الخرطوم ﴾ سنبين أمره بيانا واضحا، حتى يعرفه الناس فلا يخفى عليهم ؛ كما لا تخفى السمة على الخرطوم. أو سنلحق به عارا لا يفارقه. تقول العرب للرجل يسب سبة سوء قبيحة باقية : قد وسم ميسم سوء.
أي ألصق به عار لا يفارقه ؛ كما أن السمة وهي العلامة لا يمحى أثرها. والخرطوم : الأنف من الإنسان ؛ والوسم عليه يكون بالنار، وكنى به عما ذكر.
﴿ إنا بلوناهم ﴾ أي امتحنا أهل مكة بالقحط والجوع ؛ حتى أكلوا الجيف بدعوته صلى الله عليه وسلم.
﴿ كما بلونا أصحاب الجنة ﴾. المعروف خبرهم عندهم "، وهم أصحاب بستان بأرض اليمن، قريبا من صنعاء ورثوه عن أبيهم، وكان يؤدي للمساكين حق الله فيه ؛ فلما مات بخلوا به، فكان من أمرهم ما قصه الله في هذه السورة. ﴿ إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ﴾ ليقطعن ثمارها بعد استوائها، داخلين في وقت الصباح الباكر قبل أن تخرج المساكين ؛ من الصرم وهو القطع. يقال : صرم النخل – من باب ضرب – جزه ؛ ومنه الانصرام، أي الانقطاع. ويقال : أصبح، أي دخل وقت الصباح.
﴿ ولا يستثنون ﴾ حصة المساكين كما كان يفعل أبوهم، والجملة عطف على " ليصرمنها " ومقسم عليه.
﴿ فطاف عليها طائف.... ﴾ نزل بها بلاء محيط من عند الله تعالى. والطائف غلب في الشر.
﴿ كالصريم ﴾ كالبستان الذي صرمت ثماره ؛ بحيث لم يبق منها شيء.
﴿ وهم يتخافتون ﴾ يتسارون بينهم، يقول بعضهم لبعض :﴿ لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين ﴾.
يقال : خفت يخفت خفوتا، إذا سكت ولم يبين.
﴿ وغدوا على حرد قادرين ﴾ ساروا إلى جنتهم غدوة على أمر قد قصدوه واعتمدوه، واستسروه بينهم قادرين عليه في أنفسهم، وهو حرمان المساكين والحرد : القصد ؛ من قولهم : حرد فلان حرد فلان – من باب ضرب – أي قصد قصده. أو غدوا إلى جنتهم منفردين عن المساكين ليس أحد منهم معهم، قادرين على صرامها ؛ من حرد عن قومه : إذا تنحى عنهم ونزل منفردا ؛ ومنه رجل حريد : أي وحيد.
﴿ قالوا إنا لضالون.. ﴾ أي عن طريق جنتنا وما هي بها. ثم قالوا بعد التأمل : لسنا ضالين عنها
﴿ بل نحن محرومون ﴾ حرمنا منفعتها بذهاب حرثها ؛ جزاء حرماننا المساكين من حظهم منها.
﴿ قال أوسطهم ﴾ أعدلهم وأرجحهم رأيا. ﴿ لولا تسبحون ﴾ أي هلا تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيتكم. وكان قد قال ذلك لهم من قبل فعصوه.
﴿ يتلاومون ﴾ يلوم بعضهم بعضا على القسم، وقصد حرمان المساكين.
﴿ كذلك العذاب ﴾ أي مثل الذي بلونا به أصحاب الجنة من إهلاك حرثهم وهم في غاية القدرة عليه والثقة به – عذاب من خالف أمرنا من كفر مكة وغيرهم.
﴿ أفنجعل المسلمين كالمجرمين ﴾ لما سمع المشركون قوله تعالى : " إن المتقين عند ربهم جنات النعيم " قالوا : إن الله فضلنا عليكم في الدنيا، فإن صح أن هناك بعثا فلا بد أن يفضلنا عليكم في الآخرة، وإن لم يحصل تفضيل فلا أقل من المساواة ؛ فنزلت الآية. أي أنحيف في الحكم فنجعل الذين خضعوا لنا بالطاعة والعبادة، كالذين اكتسبوا المآثم وارتكبوا المعاصي ؟ كلا ! وقد وبّخهم الله باستفهامات سبعة : أولها – هذا. والثاني – " مالكم ". والثالث – " " كيف تحكمون. والرابع – " أم لكم كتاب ". والخامس – " أم لكم أيمان ". والسادس – " أيهم بذلك زعيم ". والسابع – " أم لهم شركاء ".
﴿ فيه تدرسون ﴾ أي تقرءون فيه.
﴿ إن لكم فيه لما تخيرون ﴾ أي إن لكم في حكمه للذي تختارون. وهذه الجملة حكاية للمدروس على ما هو عليه.
﴿ أيمان ﴾ عهود مؤكدة بالإيمان. ﴿ بالغة ﴾ متناهية في التوكيد.
﴿ أيهم بذلك زعيم ﴾ كفيل بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين. والزعيم : الضامن والمتكلم عن القوم.
﴿ يوم يكشف عن ساق ﴾ اذكر لهم يوم يشتد الأمر ويعظم الخطب... ، وهو يوم القيامة. وكشف الساق والتشمير عنها : مثل في ذلك. وأصله في الروع والهزيمة، وتشمير المخدرات عن سوقهن، وإبداء حزامهن عند الهرب واشتداد الخطب. فكنى به عما ذكر ؛ فلا ساق ولا كشف ثمة. وهو كما يقال للأقطع الشحيح : يده مغلولة. ولا يد ثمة ولا غل ؛ وإنما هو كناية عن البخل. ﴿ ويدعون إلى السجود توبيخا لهم وتحسيرا على تفريطهم في طاعة الله في الدنيا. { فلا يستطيعون ﴾لصيرورة أصلابهم عظما واحدا.
﴿ خاشعة أبصارهم ﴾ ذليلة أبصارهم. ونسبة الخشوع للإبصار لظهور أثره فيها﴿ ترهقهم ذلة ﴾ تغشاهم ذلة شديدة من عذاب الله. يقال : رهقه، غشيه ؛ وبابه طرب. وأرهقه طغيانا : أغشاه.
﴿ فذرني ومن يكذب بهذا الحديث ﴾ كل إلي من يكذب بالقرآن ! وخلّ بيني وبينه ! فإني عالم بما ينبغي أن يفعل به مطيق له، وسأكفيكه ؛ ففرّع بالك، وخل همك منه، وتوكل عليّ في الانتقام منه. وهو من بليغ الكلام، وفيه تسلية للرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهديد للمكذبين. ﴿ سنستدرجهم ﴾ سنستنزلهم إلى العذاب درجة درجة، بالإمهال والإحسان وإسباغ النعم ؛ حتى يظنوا ذلك تفضيلا لهم على المؤمنين، فيتمادوا في الطغيان والكفر، ثم نأخذهم أخذ عزيز مقتدر [ آية ١٨٢ الأعراف ص ٢٨٩ ].
﴿ وأملي لهم ﴾ أمهلهم وأنسي في آجالهم مدة طويلة على كفرهم وتمردهم ؛ لتتكامل
الحجج عليهم. ﴿ إن كيدي متين ﴾ إن إنعامي عليهم – استدراجا لهم – كيد قوي شديد لا يدفع ولا يطاق. وتسميته كيدا لكونه في صورته حيث كان سببا في هلاكهم.
﴿ فهم من مغرم مثقلون ﴾ أي فهم من غرم ذلك الأجر مثقلون ؛ قد أثقلهم القيام بأدائه فتحاموا قبول دعوتك ؛ وتجنبوا الدخول في دينك.
﴿ ولا تكن كصاحب الحوت... ﴾ أي لا يوجد منك ما وجد من يونس عليه السلام، من الضجر والغضب على قومه الذين لم يؤمنوا ؛ إذ دعا ربه في بطن الحوت وهو مملوء غيظا عليهم ؛ حتى لا تبتلى بنحو ما ابتلى به. بل ادرع الصبر حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. وكان قد هم صلى الله عليه وسلم أن يدعو على ثقيف.
﴿ لنبذ بالعراء ﴾ لطرح من بطن الحوت بالأرض الفضاء الخالية من النبات والأشجار والجبال. ﴿ وهو مذموم ﴾ ملوم مؤاخذ بذنبه. وهو ترك الأفضل بالنسبة لمنصب النبوة.
﴿ فاجتباه ربه ﴾ أي اصطفاه فرد عليه الوحي بعد انقطاعه، وشفّعه في نفسه وقومه، وقبل توبته. ﴿ فجعله من الصالحين ﴾ الكاملين في الصلاح لأداء رسالة ربه إلى قومه.
﴿ ليزلقونك بأبصارهم ﴾ ليهلكونك. أو يزلون قدمك. أو يصرعونك بأبصارهم من شدة نظرهم إليك شزرا بعيون العداوة والبغضاء. وقرئ بفتح الياء، وهما لغتان بمعنى واحد. يقال : زلقه يزلقه. وأزلقه يزلقه إزلاقا : نحاه وأبعده. والباء للتعدية أو السببية.
والله أعلم.