تفسير سورة سورة القلم من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
المعروف بـتفسير أبي السعود
.
لمؤلفه
أبو السعود
.
المتوفي سنة 982 هـ
سورة ن مكية وآياتها ثنتان وخمسون.
ﰡ
! (ن) بالسُّكون على الوقفِ وقُرىء بالكسرِ وبالفتحِ لالتقاءِ السَّاكنينِ ويجوزُ أنْ يكونَ الفتحُ بإضمارِ حرفِ القسمِ في موضعِ الجرِّ كقولِهم الله لأفعلنَّ بالجرِّ وأنْ يكونَ ذلك نصباً أذكُرْ لا فتحاً كما سبقَ في فاتحةِ سُورةِ البقرةِ وامتناعُ الصرَّفِ للتَّعريفِ والتَّانيثِ على أنَّهُ علمٌ للسورةِ ثمَّ إنْ جُعل إسماً للحرفِ مسروداً على نمطِ التعديدِ للتحدِّي بأحدِ الطريقينِ المذكورينِ في موقِعِه أو إسماً للسورةِ منصوباً على الوجهِ المذكورِ أو مرفوعاً على أنه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ فالواوُ في قولِه تعالَى ﴿والقلم﴾ للقسمِ وإنْ جعلَ مُقسَماً بهِ فهي للعطفِ عليهِ وأيَّاً ما كانَ فإنْ أُريدَ بهِ قلمُ اللوحِ والكرامِ الكاتبينَ فاستحقاقُهُ للإعظامِ بالإقسامِ بهِ ظاهرٌ وإنْ أُريدَ بهِ الجنسُ فاستحقاقُ ما في أيدي النَّاسِ لذلكَ لكثرةِ منافعِهِ ولو لم يكُنْ له مزيةٌ سوى كونِهِ آلةً لتحريرِ كتبِ الله عزَّ قائلاً لكَفَى بهِ فضلاً موجباً لتعظيمِهِ وقُرِىءَ بإدغامِ النونِ في الواوِ ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ الضميرُ لأصحابِ القلمِ المدلول عليهم بذكره وقيل للقلم على أن المرادَ به أصحابه كأنه قيل وأصحاب القلم ومسطوراتِهِم على أنَّ ما موصولةٌ او وسطرهم على أنَّها مصدريةٌ وقيلَ للقلمِ نفسِهِ بإسنادِ الفعلِ إلى الآلةِ وإجرائِهِ مَجْرَى العقلاءِ لإقامتِهِ مقامَهُم وقيلَ المرادُ بالقلمِ ما خُطَّ اللوحِ خاصَّةً والجمعُ للتعظيمِ وقولُهُ تعالَى
﴿مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ جوابُ القسمِ والباءُ متعلقةٌ بمضمرٍ هو حالٌ من الضميرِ في خبرِهَا والعاملُ فيها مَعْنَى النَّفي كأنَّه قيلَ أنتَ بريءٌ من الجنونِ ملتبساً بنعمةِ الله التي هيَ النبوةُ والرياسةُ العامةُ والتعرضُ لوصفِ الربوبيةِ المنبئةِ عن التبليغِ إلى معارجِ الكمالِ مع الإضافة إلى ضميره ﷺ لتشريفه ﷺ والإيذانِ بأنَّه تعالَى يُتمُّ نعمتَهُ عليهِ ويبلغُه من العلوِّ إلى غايةٍ لا غايةَ وراءَهَا والمرادُ تنزيهُهُ ﷺ عما كانوا ينسبونه ﷺ إليهِ من الجنونِ حَسَداً وعداوةً ومكابرةً مع جزمِهِم بأنه ﷺ في غايةُ الغاياتِ القاصيةِ ونهايةُ
11
٦٨ سورة القلم (٣ ٨)
النهاياتِ النائيةِ من حَصانةِ العقلِ ورَزَانَةِ الرأيِ
12
﴿وَإِنَّ لَكَ﴾ بمقابلةِ مقاساتِكَ ألوانَ الشدائدِ منْ جهتِهِم وتحملِك لأعباءِ الرسالةِ ﴿لأَجْرًا﴾ لثواباً عظيماً لا يُقادَرُ قَدرُهُ ﴿غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ معَ عظمِهِ كقولِهِ تعالَى عَطَاء غير مجذوذ او غير ممنونٍ عليكَ من جهةِ الناسِ فإنَّهُ عطاؤُه تعالى بلاَ توسطٍ
﴿وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ لا يُدرِكُ شأوَهُ أحدٌ منَ الخلقِ ولذلكَ تحتملُ من جهتهم مالا يكادُ يحتملُهُ البشرُ وسُئلتْ عائشةَ رضيَ الله عنها عن خلقه ﷺ فقالتْ كان خُلُقه القُرآنَ ألستَ تقرأُ القُرآنَ قَدْ افلح المؤمنون والجملتان معطوفتنا على جوابِ القسمِ
﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ﴾ قالَ ابنُ عباس رضي الله عنهما فستعلمُ ويعلمونَ يومَ القيامةِ حينَ يتبينَ الحقُّ من الباطلِ وقيل فستبصرُ ويبصرونَ في الدُّنيا بظهورِ عاقبةِ أمرِكُم بغلبةِ الإسلامِ واستيلائِكَ عليهِم بالقتلِ والنهبِ وصيرورتِكَ مهيباً مُعظماً في قلوبِ العالمينَ وكونِهِم أذلةً صاغرينَ قالَ مقاتلٌ هَذا وعيدٌ بعذابِ يومِ بدرٍ
﴿بِأَيّكُمُ المفتون﴾ أي أيكم الذي فُتنَ بالجنونِ والباءُ مزيدةٌ أو بأيكم الجنونُ على أنَّ المفتونَ مصدرٌ كالمعقولِ والمجلودِ أو بأيِّ الفريقينِ منكُم المجنونُ أبفريقِ المؤمنينَ أم بفريقِ الكافرينَ أي في أيِّهما يوجدُ من يستحقُّ هَذا الإسمَ وهو تعريضٌ بأبي جهلِ بن هشام والوليد ابن المغيرة واضربهما كقولِهِ تعالَى سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر وقولُه تعالَى
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ﴾ تعليلٌ لما ينبىءُ عنهُ ما قبلَهُ من ظهورِ جنونِهِم بحيثُ لا يَخْفى على أحد وتأكيدا لما فيهِ من الوعدِ والوعيدِ أي هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عن سبيله تعالَى المؤدِّي إلى سعادةِ الدارينِ وهامَ في تيهِ الضلالِ متوجهاً إلى ما يفيضه إلى الشقاوةِ الأبديةِ وهذا هُو المجنونُ الذي لا يفرقُ بين النفعِ والضررِ بل يحسبُ الضررَ نفعاً فيؤثرهُ والنفعَ ضرراً فيهجُرهُ ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين﴾ إلى سبيلِهِ الفائزينَ بكلِّ مطلوبٍ الناجين عن كل محذوروهم العقلاءُ المراجيحُ فيجزِي كلاً من الفريقينِ حسبَما يستحقُّهُ من العقابِ والثوابِ وإعادةُ هو أعلمُ لزيادةِ التقريرِ والفاء في قوله تعالى
﴿فَلاَ تُطِعِ المكذبين﴾ لترتيبِ النهْيِ على ما يُنبىء عنهُ ما قبلَه من اهتدائه ﷺ وضلالِهِم أو على جميعِ ما فُصّل من أوَّلِ السورة وهذا
12
٦٨ سورة القلم (٩ ١٣)
تهييجٌ وإلهابٌ للتصميمِ على معاصاتِهِم أيْ دُمْ على ما أنت عليه من عدمِ طاعتِهِم وتصلَّبْ في ذَلك أو نهيٌ عن مداهنَتِهِم ومداراتِهِم بإظهارِ خلافِ ما في ضميرِه ﷺ استجلاباً لقلوبِهِم لا عن طاعتهم كما ينبىء عنه قوله تعالَى
13
﴿وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ﴾ فإنَّه تعليلٌ للنهي أو الانتهاءِ وإنما عبَّر عنها بالطاعةِ للمبالغةِ في الزجرِ والتنفيرِ أيْ أَحبُوا لو تلاينُهُم وتسامحُهُم في بعضِ الأمورِ ﴿فَيُدْهِنُونَ﴾ أي فهُم يُدهِنُونَ حينئذٍ أو فهُم الآنَ يُدْهِنُونَ طمعاً في إدهانِكَ وقيل هو معطوفٌ على تُدهنُ داخلٌ في حيزِ لَوْ والمَعْنَى ودُّوا لو يُدهنُونَ عقيبَ إدهانِكَ ويأباهُ ما سيأتِي من بدئِهِم بالادهان على إدهانَهُم أمرٌ محققٌ لا يناسبُ إدخالَهُ تحت التمنِّي وأيَّاً ما كانَ فالمعتبرُ في جانبِهِم حقيقةُ الإدهانِ الذي هُو إظهارُ الملاينةِ وإضمارُ خلافِهَا وأمَّا في جانبه ﷺ فالمعتبرُ بالنسبةِ إلى ودادتِهِم هو إظهارُ الملاينةِ فَقَطْ وأمَّا إضمارُ خلافِهَا فليسَ في حيزِ الاعتبارِ بلْ هُم في غايةِ الكراهةِ له وانما اعتباره بالنسبة اليه ﷺ وفي بعضِ المصاحفِ فيُدهنُوا على أنَّه جواب التمني المفهوم من ودُّوا أو أن ما بعده حكاية لودادتهم وقيل على أنَّه عطفٌ على تُدهنُ بناءً على أنَّ لَوْ بمنزلةِ أَن الناصبةِ فلا يكونُ لها جوابٌ وينْسبكُ منها ومما بعدها مصدرٌ يقع مفعولا لو دوا كأنَّه قيلَ ودُّوا أنْ تُدهنَ فيدهنوا وقيلَ لَوْ على حقيقتها وجوابُها محذوف وكذا مفعولُ ودُّوا أي ودُّوا إدهانَكَ لو تُدهنُ فيدهنون لسرُّوا بذلكَ
﴿وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ﴾ كثيرِ الحِلفِ في الحقِّ والباطِلِ تقديمُ هذا الوصفِ على سائرِ الأوصافِ الزاجرةِ عن الطاعةِ لكونِهِ أدخلَ في الزجرِ ﴿مُّهِينٌ﴾ حقيرِ الرَّأي والتدبيرِ
﴿هَمَّازٍ﴾ عيابٍ طعَّانٍ ﴿مَّشَّاء بِنَمِيمٍ﴾ مضربٍ نقالٍ للحديثِ من قومٍ إلى قومٍ على وجهِ السِّعايةِ والإفسادِ بينهُم فإنَّ النميمِ والنميمةَ السِّعايةُ
﴿مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ﴾ أي بخيلٍ أو مناعٍ للناسِ من الخيرِ الذي هُو الإيمانُ والطاعةُ والإنفاقُ ﴿مُعْتَدٍ﴾ متجاوزٍ في الظلمِ ﴿أَثِيمٍ﴾ كثيرِ الآثامِ
﴿عُتُلٍ﴾ جافٍ غليظٍ من عتلَهُ إذَا قادَهُ بعنفٍ وغلظةٍ
﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾ بعدَ ما عُدّ من مثالبهِ
﴿زَنِيمٍ﴾ دَعيَ مأخوذٌ من الزَّنمَةِ وهي الهَنةُ من جلد الماعزة تُقطعُ فتخلَّى متدليةً في حَلقِهَا وفي قولِه تعالَى بعد ذلكَ دلالةٌ على أنَّ دعوتَهُ أشدُّ معايبِهِ وأقبحُ قبائِحِه قيلَ هُو الوليدُ بنُ المغيرةِ فإنَّهُ كانَ دَعِيَّاً في قريشٍ وليسَ من سِنْخِهِم ادعاهُ المغيرةُ بعد ثمانِي عشرةَ من مولِدِه وقيلَ هو الأخنسُ بنُ شُريقٍ أصلُه من ثقيفٍ وعدادُه في زهرة
13
﴿أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ﴾ متعلقٌ بقولِه تعالَى لا تُطِعْ أي لا تُطِعْ من هَذِه مثالبُه لأن كان متمو لا مستظهراً بالبنينَ وقولُه تعالَى
﴿إذا تتلى عليه آياتنا قَالَ أساطير الأولين﴾ استئنافٌ جارٍ مَجْرَى التَّعليلِ للنَّهي وقيلَ متعلقٌ بما دلَّ عليهِ الجملةُ الشرطيةُ من معنى الجحود ذو التكذيب لا بجوابِ الشرطِ لأنَّ ما بعدَ الشَّرطِ لا يعملُ فيما قبله كأنه قيلَ لكونِه مُستظهراً بالمالِ والبنينَ كذَّبَ بآياتِنَا وفيهِ انه بدل أنَّ مدارَ تكذيبِهِ كونُه ذا مالٍ وبنينَ من غيرِ أنْ يكونَ لسائرِ قبائِحِه دخلٌ في ذلكَ وقُرِىءَ أَأَنْ كانَ على مَعْنَى ألأنْ كانَ ذَا مالٍ كذَّبَ بهَا أو أتطيعُه لأن كانَ ذا مالٍ وقُرِىءَ إِنْ كانَ بالكسرِ والشرطُ للمخاطبِ أي لا تُطعْ كلَّ حلاَّفٍ شارطاً يسارَهُ لأنَّ إطاعةَ الكافرِ لغناهُ بمنزلةِ اشتراطِ غناهُ في الطاعةِ
﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم﴾ بالكَيِّ على أكرمِ مواضعِه لغايةِ إهانتِه وإذلالِه قيلَ أصابَ أنفَ الوليدِ جراحةٌ يومَ بدرٍ فبقيتْ علامتُهَا وقيلَ معناهُ سنعلِّمُه يومَ القيامةِ بعلامةٍ مشوِّهةٍ يُعلم بها عن سائرِ الكفرةِ
﴿إِنَّا بلوناهم﴾ أي أهلَ مكةَ بالقحطِ بدعوةِ رسولِ الله ﷺ ﴿كَمَا بَلَوْنَآ أصحاب الجنة﴾ وهم قومٌ من أهلِ الصلاةِ كانتْ لأبيهِم هذِه الجنَّةُ دونَ صنعاءَ بفرسخينِ فكانَ يأخذُ منها قوتَ سنةٍ ويتصدقُ بالباقي وكانَ يُنادِي الفقراءَ وقتَ الصِّرامِ ويتركُ لهم ما أخطأهُ المنجلُ وما في أسفلِ الأكداسِ وما أخطأهُ القطافُ من العنبِ وما بقيَ على البساطِ الذي يُبسطُ تحتَ النخلةِ إذَا صُرمتْ فكانَ يجتمعُ لهم شيءٌ كثيرٌ فلمَّا ماتَ أبُوهُم قال بنُوه إنْ فعلنَا ما كانَ يفعلُ أبُونا ضاقَ علينا الأمرُ فحلفُوا فيمَا بينهُم وذلكَ قولُه تعالى ﴿إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ﴾ ليقطَعُنَّها داخلينَ في الصباحِ
﴿وَلاَ يَسْتَثْنُونَ﴾ أي لا يقولونَ إنْ شاءَ الله وتسميتُه استثناءٌ مع أنَّه شرطٌ من حيثُ أنَّ مؤدَّاهُ مُؤدَّى الاستثناءِ فإن قولَكَ لأخرُجنَّ إنْ شاءَ الله ولا أخرجُ إلا أنْ يشاءُ الله بمَعْنَى واحد او ولا يستثنُونَ حِصَّةَ المساكينِ كما كانَ يفعلُهُ أبُوهُم والجملةُ مستأنفةٌ
﴿فَطَافَ عَلَيْهَا﴾ أي على الجنَّةِ
﴿طَآئِفٌ﴾ بلاءٌ طائفٌ وقُرِىءَ طيفٌ
﴿مِن رَبّكَ﴾ مبتدأ من جهته تعالى
﴿وَهُمْ نَآئِمُونَ﴾ غافلونَ عمَّا جرت به المقادير
14
﴿فَأَصْبَحَتْ كالصريم﴾ كالبستانِ الذي صُرمتْ ثمارُه بحيثُ لم يبقَ منها شيءٌ فعيلٌ بمَعْنَى مفعولٍ وقيلَ كالليلِ أي احترقتْ فاسودَّتْ وقيلَ كالنَّهارِ أي يبستْ وابيضتْ سُمِّيا بذلكَ لأنَّ كلاً منهُما ينصرمُ عن صاحبِهِ وقيلَ الصَّريمُ الرمالُ
﴿فَتَنَادَوْاْ﴾ أي نادَى بعضُهُم بعضاً ﴿مُّصْبِحِينَ﴾ داخلينَ في الصَّباحِ
﴿أَنِ اغدوا﴾ أي اغدُوا على أنَّ أنْ مفسرةٌ أو بأنِ اغدُوا على أنَّها مصدريةٌ أي اخرجُوا غُدوةً ﴿على حَرْثِكُمْ﴾ بستانِكُم وضَيعتِكُم وتعديةُ الغدوِّ بعَلَى لتضمينِه مَعْنَى الإقبالِ أو الاستيلاءِ ﴿إِن كُنتُمْ صارمين﴾ قاصدينَ للصَّرمِ
﴿فانطلقوا وَهُمْ يتخافتون﴾ أي يتشاورُون فيما بينَهُم بطريقِ المُخافتةِ وخَفيَ وخَفتَ وخَفَدَ ثلاثتُهَا في مَعْنَى الكتمِ ومنْهُ الخُفْدودُ للخُفَّاشِ
﴿أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا﴾ أي الجنةَ ﴿اليوم عَلَيْكُمْ مّسْكِينٌ﴾ أن مفسرة لما في التخافتِ من مَعْنَى القولِ وقُرِىءَ بطرحِهَا على إضمارِ القولِ والمرادُ بنهيِ المسكينِ عن الدخولِ المبالغةُ في النَّهيِ عن تمكينِه من الدخولِ كقولِهم لا أرينَّك هَهُنا
﴿وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ قادرين﴾ أي على نكدٍ لا غير من جاردت السَّنةُ إذَا لم يكُنْ فيها مطرٌ وحاردتِ الإبلُ إذا منعتْ دَرَّهَا والمَعْنَى أنَّهم أرادُوا أنْ يتنكدُوا على المساكينِ ويحرمُوهُم وهم قادرونَ على نفعِهِم فغَدوا بحالٍ لا يقدرونَ فيها إلا على النكدِ والحرمانِ وذلكَ أنَّهُم طلبُوا حرمانَ المساكينِ فتعجلُوا الحرمانَ والمسكنَةَ أوْ وغَدَوا على مُحاردةِ جَنَّتِهِم وذهابِ خيرِهَا قادرينَ بدلَ كونِهِم قادرينَ على إصابةِ خيرِهَا ومنافِعِهَا أي غَدَوا حاصلينَ على النكدِ والحرمانِ مكانَ كونِهِم قادرينَ على الانتفاعِ وقيلَ الحردِ الحردِ وقدْ قُرِىءَ بذلكَ أي لم يقدرُوا إلا على حنقِ بعضِهِم لبعضٍ لقولِه تعالَى يتلاومون وقيل الحرْدُ القصدُ والسرعةُ أي غَدَوا قاصدينَ إلى جنتهِم بسرعةٍ قادرينَ عند أنفسِهِم على صِرامِهَا وقيلَ هو علمٌ للجنةِ
﴿فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُواْ﴾ في بديهةِ رؤيتِهِم
﴿إِنَّا لَضَالُّونَ﴾ أي طريقَ جنتِنَا وما هي بها
15
﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ قالُوه بعد ما تأملوا ووقفوا على حقيقةِ الأمرِ مُضربينَ عن قولِهِم الأولِ أي لسنا ضالينَ بل نحنُ محرمون حُرِمنَا خيرَهَا بجنايتِنَا على أنفسِنَا
﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ﴾ أي رأياً أو سِناً ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ﴾ لولا تذكرون الله تعالى وتنوبون إليهِ من خُبثِ نيتِكُم وقد كانَ قالَ لهم حينَ عزمُوا على ذلكَ اذكرُوا الله وتوبُوا إليهِ عن هذهِ العزيمةِ الخبيثةِ من فورِكُم وسارِعُوا إلى حسمِ شرِّها قبلَ حُلولِ النقمةِ فعَصُوه فعيَّرهُم كمَا ينبىء عنه قوله تعالى
﴿قَالُواْ سبحان رَبّنَا إِنَّا كُنَّا ظالمين﴾ وقيلَ المرادُ بالتسبيحِ الاستثناءُ لاشتراكهِما في التعظيمِ أو لأنَّه تنزيهٌ لهُ تعالَى عن أنْ يجري في ملكه مالا يشاؤُه
﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يتلاومون﴾ أي يلومُ بعضُهم بعضاً فإنَّ منهُم مَن أشارَ بذلكَ ومنهُم من استصوبَهُ ومنهُم من سكتَ راضياً بهِ ومنهُم من انكره
﴿قالوا يا ويلنا إِنَّا كُنَّا طاغين﴾ متجاوزينَ حدودَ الله
﴿عسى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا﴾ وقُرِىءَ بالتشديدِ أي يُعطينا بدلاً منها ببركةِ التوبةِ والاعترافِ بالخطيئةِ
﴿خَيْراً مّنْهَا إنا إلى ربنا راغبون﴾ راجعون العفوَ طالبونَ الخيرَ وإلى لانتهاء الرغبة او لتضمنها مَعْنَى الرجوعِ عن مُجَاهدٍ تابوا فأُبدِلُوا خَيراً منهَا ورُويَ أنَّهم تعاقَدُوا وقالُوا إنْ أبدلنَا الله خيراً منها لنصنعنَّ كما صنعَ أبُونا فدَعَوا الله تعالَى وتضرعُوا إليهِ فأبدَلهُم الله تعالَى من ليلتِهِم ما هو خيرٌ منها قالُوا إنَّ الله تعالَى أمرَ جبريلُ عليهِ السَّلامُ أنْ يقتلعَ تلكَ الجنةَ المحترقةَ فيجعلَهَا بِزُغَرَ من أرضِ الشامِ ويأخذَ من الشامِ جنةً فيجعلَهَا مكانَهَا وقالَ ابن مسعود رضي الله تعالَى عنهُ إنَّ القومَ لمَّا أخلصُوا وعرفَ الله منهُم الصدقَ أبدلَهُم جنةً يقالُ لها الحيوانُ فيها عنبٌ يحملُ البغلُ منهُ عُنقوداً وقالَ أبُو خالدٍ اليمانيُّ دخلتُ تلكَ الجنَّةَ فرأيتُ كلَّ عنقودٍ منهَا كالرجلِ الأسودِ القائمِ وسُئِلَ قَتَادَةُ عن أصحابِ الجنَّةِ أهُم مِنْ أهلِ الجنَّةِ أم مِنْ أهلِ النارِ فقالَ لقد كلفتني تعباً وعنِ الحسنِ رحمَهُ الله تعالَى قولُ أصحابِ الجنةِ إنا إلى ربنا راغبون لا أدرِي إيماناً كانَ ذلكَ منهُم أو على حدِّ ما يكونُ من المشركينَ إذا أصابتْهُم الشدةُ فتوقفَ في أمرِهِم والأكثرونَ على أنَّهُم تابُوا وأخلصُوا حكاه القشيري
16
﴿كَذَلِكَ العذاب﴾ جملةٌ منْ مبتا وخبرٍ مُقدمٍ لإفادةِ القصرِ والألفُ واللامُ للعهدِ أي مثلُ الذي بلونَا بهِ أهلَ مكةَ وأصحابَ الجنةِ عذابُ الدنيَا ﴿وَلَعَذَابُ الأخرة أَكْبَرُ﴾ أعظمُ وأشدُّ ﴿لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ أنَّه أكبرُ لاحترَزُوا عمَّا يؤدِّيهِم إليهِ
﴿إِنَّ لّلْمُتَّقِينَ﴾ أي منَ الكفرِ والمَعَاصِي ﴿عِندَ رَبّهِمْ﴾ أي في الآخرةِ أو في جوارِ القُدسِ ﴿جنات النعيم﴾ جناتٍ ليسَ فيها إلاَّ التنعمُ الخالصُ عن شائبةِ ما يُنغّصهُ من الكدوراتِ وخوفِ الزوالِ كما عليهِ نعيمُ الدُّنيا وقولُه تعالَى
﴿أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين﴾ تقريرٌ لما قبلَهُ من فوزِ المُتقينَ بجنَّاتٍ النعيمِ وردٌّ لما يقولَهُ الكفرةُ عند سماعِهِم بحديثِ الآخرةِ وما وعدَ الله المسلمينَ فيهَا فإنهم كانُوا يقولونَ إنْ صحَّ أنا نُبعثُ كما يزعمُ محمدٌ ومَنْ معَهُ لم يكُنْ حالُنَا وحالُهُم إلا مثلَ ما هيَ في الدّنيا وإلا لم يزيدُوا علينَا ولم يفضلونَا وأقصى أمرِهِم أنْ يساوونَا والهمزةُ للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أنحيفُ في الحكمِ فنجعلَ المسلمينَ كالكافرينَ ثم قيلَ لهُم بطريقِ الالتفاتِ لتأكيدِ الردِّ وتشديدِه
﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ تعجبيا من حُكمِهِم واستبعاداً له وإيذاناً بأنَّه لا يصدرُ عن عاقلٍ
﴿أَمْ لَكُمْ كتاب﴾ نازلٌ من السماءِ ﴿فِيهِ تَدْرُسُونَ﴾ أي تقرؤن
﴿إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ﴾ أي ما تتخيرونَهُ وتشتهونَهُ وأصلُهُ أنَّ لكُم بالفتحِ لأنَّهُ مدروسٌ فلمَّا جِيءَ باللامِ كُسرتْ ويجوزُ أنْ يكونَ حكايةً للمدروسِ كما هُو كقولِهِ تعالَى وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الأخرين سلامٌ على نُوحٍ فِى العالمين وتخيرُ الشيءِ واختيارُهُ أخذُ خيرِهِ
﴿أَمْ لَكُمْ أيمان عَلَيْنَا﴾ أي عهودٌ مؤكدةٌ بالأيمانِ
﴿بالغة﴾ متناهيةٌ في التوكيدِ وقُرِئتْ بالنصبِ على الحالِ والعاملُ فيها أحدُ الظرفينِ
﴿إلى يَوْمِ القيامة﴾ متعلقٌ بالمقدرِ في لكم أي ثابتةٌ لكُم إلى يومِ القيامةِ لا نخرجُ عن عُهدتِهَا حتى نحكمكم يومئذٍ ونعطيكُم ما تحكمونَ أو ببالغةٍ أي أيمانٌ تبلغُ ذلكَ اليومَ وتنتهِي إليهِ وافرةً لم تبطُلْ منها يمينٌ
﴿إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ﴾ جوابُ القسمِ لأنَّ معنَى أمْ لكُم علينَا ايمان
17
٦٨ سورة القلم (٤٠ ٤٤)
أمْ أقسمنَا لكُم
18
﴿سَلْهُمْ﴾ تلوينٌ للخطابِ وتوجيهٌ لهُ إلى رسولِ الله ﷺ بإسقاطهم عن رتبة الخطاب أي سلهُم مُبكتاً لهُمْ ﴿أَيُّهُم بذلك﴾ الحكمِ الخارجِ عن العقولِ ﴿زَعِيمٌ﴾ أي قائمٌ يتصدَّى لتصحيحِه
﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء﴾ يشاركونهم في هَذا القولِ ويذهبونَ مذهبَهُم ﴿فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُواْ صادقين﴾ في دعواهُم إذْ لا أقلَّ من التقليدِ وقد نبَّه في هذِه الآياتِ الكريمةِ على أنْ ليسَ لهُم شيءٌ يُتوهمُ أنْ يتشبثُوا بهِ حتَّى التقليدُ الذي لا يُفلِحُ من تشبثَ بذيلِه وقيلَ المَعْنَى أمْ لهُم شركاءُ يجعلونَهُم مثلَ المسلمينَ في الآخرةِ
﴿يوم يكشف عن ساق﴾ أي يومَ يشتدُّ الأمرُ ويصعبُ الخطبُ وكشفُ الساقِ مَثَلٌ في ذلكَ وأصلُهُ تشميرُ المُخدَّراتِ عن سُوقهِنَّ في الهربِ قالَ حاتمٌ أخُو الحربِ إنْ عضَّتْ بهِ الحربُ عَضَّها وإنْ شمَّرتْ عنْ ساقِهَا الحربُ شَمَّرا وقيلَ ساقُ الشيءِ أصلُهُ الذي بهِ قوامُه كساقِ الشجرِ وساقِ الإنسانِ أي يوم يكشف عن أصلِ الأمرِ فتظهرُ حقائقُ الأمورِ وأصولُهَا بحيثُ تصيرُ عياناً وتنكيرُهُ للتهويلِ أو التعظيمِ وقُرِىءَ تَكْشِفُ بالتاءِ على البناءِ للفاعلِ والمفعولِ والفعلُ للساعةِ أو الحالِ وقرىء نكشف بالنون ويكشف بالتاءِ المضمومةِ وكسرِ الشِّينِ من أكشفَ الأمرُ أي دخلَ في الكشفِ وناصبُ الظرفِ فليأتُوا أو مضمرٍ مقدمٍ أي اذْكُر يومَ الخ أو مؤخرٍ أي يوم مشكف عن ساقٍ الخ يكونُ من الأهوالِ وعظائمِ الأحوالِ مالا يبلغُه الوصفُ ﴿وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود﴾ توبيخاً وتعنيفاً على تركهِم إيَّاهُ في الدُّنيا وتحسيراً لهُم على تفريطِهِم في ذلكَ ﴿فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ﴾ لزوال القدرة عليه وفي دلالةٌ على أنَّهُم يقصدونَ السجودَ فلا يتأتَّى منهُم عن ذلكَ عنِ ابنِ مسعودٍ رضيَ الله عنْهُ تعقمُ أصلا بهم أي تُردُّ عظاماً بلا مفاصل لا تنثني عندَ الرَّفعِ والخفضِ وفي الحديثِ وتبقَى أصلابُهُم طَبقاً واحِداً أي فَقارةٌ واحدةٌ
﴿خاشعة أبصارهم﴾ حالٌ من مرفوعِ يُدعونَ على أنَّ أبصارَهُم مرتفعٌ بهِ على الفاعليةِ ونسبةُ الخشوعِ إلى الأبصارِ لظهورِ أثرِهِ فيهَا ﴿تَرْهَقُهُمْ﴾ تلحقُهُم وتغشاهُم ﴿ذِلَّةٌ﴾ شديدةٌ ﴿وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود﴾ في الدُّنيا والاظهار في موضوع الإضمارِ لزيادة التقريرِ أو لأنَّ المرادَ بهِ الصلاةُ أو ما فيها من السجودِ والدعوةُ دعوةُ التكليفِ ﴿وَهُمْ سالمون﴾ متمكنُونَ منْهُ أقوَى تمكنٍ أي فلا يُجيبونَ إليهِ ويأبَونَهُ وإنَّما تُرك ذكرُه ثقةً بظهورِهِ
﴿فذرنى ومن يكذب بهذا الحديث﴾ أي كِلْهُ إليَّ فإِنِّي أكفيكَ أمرَهُ أيْ حسبك في الايقاع
18
٦٨ سورة القلم (٤٥ ٥٠)
به والا نتقام منهُ أنْ تَكِلَ امرَهُ إليَّ وتُخلِّي بينِي وبينَهُ فإنِّي عالمٌ بمَا يستحقُّه من العذابِ ومطيقٌ لهُ والفاءُ لترتيبِ الأمرِ على ما قبلَهَا من أحوالِهِم المحكيةِ أيْ وإذَا كانِ حالُهم في الآخرةِ كذلكَ فذرنى ومن يكذب بهذا القرآنِ وتوكلْ عليَّ في الانتقامِ منْهُ وقولُه تعالَى
﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم﴾ استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ كيفيةِ التعذيبِ المُستفادِ من الأمرِ السابقِ إجمالاً والضميرُ لمَنْ والجمعُ باعتبارِ معناهَا كما أن الإفراد في يكذِّبُ باعتبارِ لفظِهَا أي سنستنزِلُهُم إلى العذابِ درجةً فدرجةً بالإحسانِ وإدامةِ الصحةِ وازديادِ النعمةِ
﴿مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أنه استدراجٌ وهو الإنعامُ عليهِم بلْ يزعمونَ أنه إيثارٌ لهُم وتفضيل على المؤمينين مع أنَّهُ سببٌ لهلاكِهِم
19
﴿وَأُمْلِى لَهُمْ﴾ وأُمْهِلُهُم ليزدادُوا إِثماً وهم يزعمونَ أنَّ ذلكَ لإرادةِ الخيرِ بهِم ﴿إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ﴾ لا يُوقفُ عليهِ ولا يُدفعُ بشيءٍ وتسميةُ ذلكَ كيداً لكونِهِ في صورةِ الكيدِ
﴿أم تسألهم﴾ على الإبلاغِ والإرشادِ ﴿أَجْراً﴾ دنيوياً ﴿فَهُمُ﴾ لأجلِ ذلكَ ﴿مّن مَّغْرَمٍ﴾ أي غرامةٍ ماليةٍ ﴿مُّثْقَلُونَ﴾ مكلفونَ حملاً ثقيلاً فيُعرضونَ عنْكَ
﴿أَمْ عِندَهُمُ الغيب﴾ أي اللوحُ أو المغيباتُ ﴿فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾ منْهُ ما يحكمُون ويستغنُونَ بهِ عن علمِكَ
﴿فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ﴾ وهو إمهالُهُم وتأخيرُ نصرتِكَ عليهِم ﴿وَلاَ تَكُن كصاحب الحوت﴾ أي يونسُ عليهِ السَّلامُ ﴿إِذ نادى﴾ في بطنِ الحوتِ ﴿وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ مملوءٌ غيظاً والجملةُ حالٌ من ضميرِ نادَى وعليها يدورُ النهي لا على النداءِ فإنه أمرٌ مستحسنٌ ولذلكَ لم يُذكرِ المُنادَى وإذْ منصوبٌ بمضافٍ محذوفٍ أي لا يكُن حالُك كحالِه وقتَ ندائِهِ أي لا يُوجدُ منكَ ما وُجدَ منْهُ من المضجر والمُغاضبةِ فتبتلى ببلائِهِ
﴿لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مّن رَّبّهِ﴾ وقُرِىءَ رحمةٌ وهُو توفيقُهُ للتوبةِ وقبولُهَا منْهُ وحسُنَ تذكيرُ الفعلِ للفصلِ بالضميرِ وقُرِىءَ تداركتْهُ وتَداركُهُ أي تتداركهُ على حكايةِ الحالِ الماضيةِ بمَعْنَى لولا أنْ كانَ يقالُ تتداركه ﴿لَنُبِذَ بالعراء﴾ بالأرضِ الخاليةِ من الأشجارِ ﴿وَهُوَ مَذْمُومٌ﴾ مُليمٌ مطرودٌ من الرحمةِ والكرامةِ وهو حالٌ من مرفوعِ نُبذَ عليهَا يعتمدُ جوابُ لولا لأنَّها هي المنتفية لا النبذُ بالعراءِ كما مرَّ في الحالِ الأُولى والجملة الشرطية استئناف وارد لبيانِ كونِ المنهيِّ عنْهُ أمراً محذوراً مستتبعاً للغائلةِ وقولُهُ تعالَى
﴿فاجتباه رَبُّهُ﴾ عطفٌ على مقدرٍ أي فتداركتْهُ نعمةٌ من ربِّه فاجتباهُ بأنْ ردَّ إليهِ الوحيَ وأرسلَهُ الى
19
٦٨ سورة القلم (٥١ ٥٢)
مائةِ ألفٍ أو يزيدونَ وقيل استنبأَهُ إنْ صحَّ أنَّه لم يكُنْ نبياً قبلَ هذهِ الواقعةِ
﴿فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين﴾ من الكاملينَ في الصلاحِ بأنْ عصمَهُ منْ أنْ يفعلَ فعلاً يكونُ تركُهُ أَوْلَى رُوِيَ أنَّها نزلتْ بأُحُدٍ حينَ هم رسول الله ﷺ أن يدعوَ على المنهزمينَ من المؤمنينَ وقيلَ حينَ أرادَ أنْ يدعوَ على ثقيفٍ
20
﴿وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بأبصارهم﴾ وقُرِىءَ ليَزلقونَكَ بفتحِ الياءِ من زَلَقه بمعنى أَزْلَقه ويُزهقونَكَ وإنْ هيَ المخففةُ واللامُ دليلُهَا والمَعْنَى أنَّهم من شدَّةِ عداوتِهِم لكَ ينظرونَ إليكَ شَزْراً بحيثُ يكادونَ يُزلّونَ قدمكَ فيرمونكَ من قولِهِم نظر الى نظرا يكاد يصر عني أي لو أمكنَهُ بنظرِهِ الصرعُ لفعلَهُ أو أنَّهُم يكادونَ يُصيبونَكَ بالعينِ إذ قَد رُوي أنَّهُ كانَ في بني أسدٍ عيَّانونَ فأرادَ بعضُهُم أن يعينَ رسول الله ﷺ فنزلتْ وفي الحديثِ إنَّ العينَ لتُدخِلُ الرجلَ القبرَ والجملَ القدرَ ولعله من خصائصِ بعضِ النفوسِ وعن الحسنِ دواءُ الإصابةِ بالعينِ أنْ تقرأَ هَذِه الآية ﴿لَمَّا سَمِعُواْ الذكر﴾ أي وقتَ سماعِهِم بالقرآنِ على أنَّ لمَّا ظرفيةٌ منصوبةٌ بيُزلقونَكَ وذلكَ لاشتدادِ بُغضِهِم وحسدِهِم عندَ سماعِهِ ﴿وَيَقُولُونَ﴾ لغايةِ حيرتِهِم في أمرِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ونهايةِ جهلِهِم بمَا في تضاعيفِ القرآنِ من تعاجيبِ الحِكَمِ وبدائعِ العلومِ المحجوبةِ عن العقولِ المُنغمسةِ بأحكامِ الطبائعِ ولتنفيرِ النَّاسِ عنْهُ ﴿إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾ وحيثُ كانُ مدارُ حُكمِهِم الباطلِ ما سمعُوه منه عليه الصلاة والسلام رد ذلك يبيان عُلوِّ شأنةِ وسطوعِ بُرهانِهِ فقيلِ
﴿وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ﴾ على أنَّه حالٌ من فاعل يقولون مفيدة لغايةِ بُطلانِ قولِهِم وتعجيبِ السامعينَ من جرأتِهِم على تفوهِ تلكَ العظيمةِ أي يقولونَ ذلكَ والحالُ أنَّه ذكرٌ للعالمينَ أي تذكيرٌ وبيانٌ لجميعِ ما يحتاجونَ إليهِ من أمورِ دينِهِم فأينَ مَنْ أنزلَ عليهِ ذلكَ وهو مُطلعٌ على أسرارِهِ طُرَّاً ومحيطٌ بجميعِ حقائِقِه خُبراً ممَّا قالُوا وقيلَ معناهُ شرفٌ وفضلٌ لقولِهِ تعالَى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وقيلَ الضَّميرُ لرسول الله ﷺ وكونُه مذكِراً وشرفاً للعالمينَ لا ريبَ فيهِ عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سُورةَ القلمِ أعطاهُ الله ثوابَ الذينَ حسَّن الله اخلاقهم
20
٦٩ سورة الحاقة (١ ٤)
سورة الحافة مكية وآياتها اثنتان وخمسون آية
﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم﴾
21