ﰡ
﴿طسم تلك آيات الكتاب المبين﴾ يقال بان الشيء وأبان بمعنى واحد ويقال أبنته فأبان لازم ومتعدٍ أي مبين خيره وبركته أو مبين للحلال والحرام والوعد والوعيد والإخلاص والتوحيد
﴿نَتْلُواْ عَلَيْكَ﴾ نقرأ عليك أي يقرؤه جبريل بأمرنا ومفعول نتلوا ﴿من نبإ موسى وفرعون﴾ أي نتلوا عليك بعض خبرهما ﴿بالحق﴾ حال أي محقين ﴿لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ لمن سبق في علمنا أنه مؤمن لأن التلاوة إنما تنفع هؤلاء دون غيرهم
﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ﴾ جملة مستأنفة كالتفسير للجمل كأن قائلاً قال وكيف كان نبؤهما فقال إن فرعون ﴿عَلاَ﴾ طغى وجاوز الحد في الظلم واستكبر وافتخر بنفسه ونسي العبودية ﴿فِى الأرض﴾ أي أرض مملكته يعني مصر ﴿وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً﴾ فرقاً يشيعونه على ما يريد ويطيعونه لا يملك أحد منهم أن يلوي عنقه أو فرقاً مختلفة يكرم طائفة ويهين أخرى فأكرم القبطي وأهان الإسرائيلي ﴿يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ﴾ هم بنو إسرائيل ﴿يذبح أبناءهم ويستحيي نِسَاءهُمْ﴾ أي يترك البنات أحياء للخدمة
﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ﴾ نتفضل وهو دليل لنا في مسألة الأصلح وهذه الجملة معطوفة على إن فرعون علا في الأرض لأنها نظيرة تلك في وقوعها تفسير لنبأ موسى وفرعون واقتصاصاً له أو حال من يستضعف أي يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمن عليهم وإرادة اله تعالى كائنة فجعلت كالمقارنة لاستضعافهم ﴿عَلَى الذين استضعفوا فِى الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾ قادة يقتدى بهم في الخير
القصص (٨ - ٥)
أو قادة إلى الخير أو ولاة وملوكاً ﴿وَنَجْعَلَهُمْ الوارثين﴾ أي يرثون فرعون وقومه ملكهم وكل ما كان لهم
﴿وَنُمَكّنَ﴾ مكن له إذا جعل له مكاناً يقعد عليه أو يرقد ومعنى التمكين ﴿لَهُمْ فِى الأرض﴾ أي أرض مصر والشام أن يجعلها بحيث لا تنبو بهم ويسلطهم وينفذ أمرهم ﴿وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا﴾ بضم النون ونصب فرعون وما بعده وبالياء ورفع فرعون وما بعده على حمزة وأي يرون منهم ما حذروه من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم ويرى نصب عطف على المنصوب قبله كقراءة النون أو رفع على الاستئناف ﴿مِنْهُمْ﴾ من بني إسرائيل ويتعلق بنرى دون يحذرون لأن الصلة لا تتقدم على الموصول ﴿مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ﴾ الحذر التوقي من الضرر
﴿وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى﴾ بالإلهام أو بالرؤيا أو بإخبار ملك كما كان لمريم وليس هذا وحي رسالة ولا تكون هي رسولاً ﴿أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ أن
﴿فالتقطه آل فِرْعَوْنَ﴾ أخذه قال الزجاج كان فرعون من أهل فارس من اصطخر ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً﴾ أي ليصير الأمر إلى ذلك لا أنهم أخذوه لهذا كقولهم للموت ما تلده الوالدة وهي لم تلد لأن يموت ولدها ولكن المصير إلى ذلك كذا قاله الزجاج وعن هذا قال المفسرون إن هذه لام العاقبة والصيرورة وقال صاحب الكشاف هي لام كي التي معناها التعليل كقولك جئتك لتكرمني ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز لأن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له شبه بالداعي الذي بفعل الفاعل القتل لأجله وهو الإكرام الذي هو نتيجة المجيء ﴿وحزنا﴾ وحزنا
القصص (١٠ - ٨)
﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خاطئين﴾ خاطين بخفيف خاطئين أبو جعفر أي كانوا مذنبين فعاقبهم الله بأن ربى عدوهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم وكانوا خاطئين في كل شيء فليس خطؤهم في تربية عدوهم ببدع منهم
﴿وقالت امرأة فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ﴾ روي أنهم حين التقطوا التابوت عالجوا فتحه فلم يقدروا عليه فعالجوا كسره فأعياهم فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا فعالجته ففتحته فإذا بصبي نوره بين عينيه فأحبوه وكانت لفرعون بنت برصاء فنظرت إلى وجهه فبرأت فقالت الغواة من قومه هو الذي نحذر منه فأذن لنا في قتله فهمّ بذلك فقالت آسية قرة عين لي ولك فقال فرعون لك لا لي وفي الحديث لو قال كما قالت لهداه الله تعالى كما هداها وهذا على سبيل الفرض أي لو كان غير مطبوع على قلبه كآسية لقال مثل قولها وكان أسلم كما أسلمت وقرة خبر مبتدأ محذوف أي قرة ولي ولك صفتان لقرة ﴿لاَ تَقْتُلُوهُ﴾ خاطبته خطاب الملوك أو خاطبت الغواة ﴿عسى أَن يَنفَعَنَا﴾ فإن فيه مخايل اليمن ودلائل النفع وذلك لما عاينت من النور وبرء البرصاء ﴿أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ أو نتبناه فإنه أهل لأن يكون ولدا للمملوك ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ حال وذو حالها آل فرعون وتقدير الكلام فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً وقالت امرأة فرعون كذا وهم لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنيه وقوله إن فرعون الآية جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه مؤكدة لمعنى خطئهم وما أحسن نظم هذا الكلام عند أصحاب المعاني والبيان
﴿وَأَصْبَحَ﴾ وصار ﴿فُؤَادُ أُمّ موسى فَارِغاً﴾ صفراً من العقل لما دهمها من فرط الجزع لما سمعت بوقوعه في يد فرعون ﴿إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ﴾ لتظهر به والضمير لموسى والمراد بأمره وقصته وأنه ولدها قيل لما رأت الأمواج تلعب بالتابوت كادت تصيح وتقول واابناه وقيل لما سمعت أن فرعون أخذ التابوت لم تشك أنه قتله فكادت تقول واإبناه شفقة عليه وأن مخففة من الثقيلة أي إنها كادت ﴿لَوْلا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا﴾ لولا ربطنا على قلبها والربط على القلب تقويته بإلهام الصبر ﴿لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين﴾ من المصدقين بوعدنا وهو إنا رادوه إليك وجواب لولا محذوف أي لأبدته أو فارغاً من الهم حين سمعت أن فرعون تبناه إن كادت لتبدي بأنه ولدها لأنها لم تملك نفسها فرحاً وسروراً بما سمعت لولا أنا طامنا قلبها وسكنا قلقه الذي حدث به من شدة الفرح لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله لا بتبني فرعون قال يوسف بن الحسين أمرت أن موسى بشيئين ونهيت عن شيئين وبشرت ببشارتين فلم ينفعها الكل حتى تولى الله حياطتها فربط
القصص (١٤ - ١١)
على قلبها
﴿وَقَالَتْ لأُخْتِهِ﴾ مريم ﴿قُصّيهِ﴾ اتبعي أثره لتعلمي خبره ﴿فَبَصُرَتْ بِهِ﴾ أي أبصرته ﴿عَن جُنُبٍ﴾ عن بعد حال من الضمير في بِهِ أو مِّنَ الضمير في بصرت ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ أنها أخته
﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع﴾ تحريم منع لا تحريم شرع أي منعناه أن يرضع ثدياً غير ثدي أمه وكان لا يقبل ثدي مرضع حتى أهمهم ذلك والمراضع جمع مرضع وهي المرأة التي ترضع أو جمع مرضع وهم وموضع الرضاع وهو الثدي أو الرضاع ﴿مِن قَبْلُ﴾ من قبل قصها أثره أو من
﴿فرددناه إلى أُمّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا﴾ بالمقام معه ﴿وَلاَ تَحْزَنْ﴾ بفراقه ﴿وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾ أي وليثبت علمها مشاهدة كما علمت خبراً وقوله ولا تحزن معطوف على تقر وإنما حل لها ما تأخذه من الدينار كل يوم كما نال السدى لأنه مال حربي لا لأنه أجرة على إرضاع ولدها ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ هو داخل تحت علمها أي لتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثر الناس لا يعلمون انه حق فيرتابون ويشبه التعريض بما فرط منها حين سمعت بخبر موسى فجزعت
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ بلغ موسى نهاية القوة وتمام العقل وهو جمع شدة كنعمة وأنعم عند سيبويه ﴿واستوى﴾ واعتدل وتم استحكامه وهو أربعون سنة ويروى أنه لم يبعث نبي إلا على رأس أربعين سنة ﴿آتَيْنَاهُ حُكْمًا﴾ نبوة ﴿وَعِلْماً﴾ فقهاً أو علماً بمصالح الدارين ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين﴾ أي كما
القصص (١٨ - ١٥)
﴿وَدَخَلَ المدينة﴾ أي مصر ﴿على حِينِ غَفْلَةٍ مّنْ أَهْلِهَا﴾ حال من الفاعل أي مختفياً وهو ما بين العشاءين أو وقت الفائلة يعني انتصاف النهار وقيل لما شب وعقل أخذ يتكلم بالحق وينكر عليهم فأخافوه فلا يدخل المدينة إلا على تغفل ﴿فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذا مِن شِيعَتِهِ﴾ ممن شايعه على دينه من بني إسرائيل قيل هو السامري وشيعة الرجل أتباعه وأنصاره ﴿وهذا مِنْ عدوه﴾ من مخالفيه من القبط وهو فاتون وقيل فيهما هذا وهذا وإن كانا غائبين على جهة الحكاية أي إذا نظر إليهما الناظر قال هذا من شيعته وهذا من عدوه ﴿فاستغاثه﴾ فاستنصره ﴿الذى مِن شِيعَتِهِ عَلَى الذى مِنْ عَدُوّهِ فَوَكَزَهُ موسى﴾ ضربه بجمع كفه أو بأطراف أصابعه ﴿فقضى عَلَيْهِ﴾ فقتله ﴿قَالَ هذا﴾ إشارة إلى القتل الحاصل بغير قصد ﴿مِنْ عَمَلِ الشيطان﴾ وإنما جعل قتل الكافر من عمل الشيطان وسماه ظلماً لنفسه واستغفر منه لأنه كان مستأمناً فيهم ولا يحل قتل الكافر الحربي المستأمن أو لأنه قتله قبل أن يؤذن له في القتل وعن ابن جريح ليس لنبي أن يقتل ما لم يؤمر ﴿إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ﴾ ظاهر العداوة
﴿قال رب﴾ يارب ﴿إني ظلمت نفسي﴾ بفعل صار قتل ﴿فاغفر لِى﴾ زلتي ﴿فَغَفَرَ لَهُ﴾ زلته ﴿إِنَّهُ هو الغفور﴾ بإقالة الذلل ﴿الرحيم﴾ بإزالة الخجل
﴿قَالَ رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظهيرا﴾ معينا ﴿للمجرمين﴾ للكافرين
﴿فَأَصْبَحَ فِى المدينة خَائِفاً﴾ على نفسه من قتله القبطي أن يؤخذ به ﴿يَتَرَقَّبُ﴾ حال أي يتوقع نصرة ربه وفيه دليل على أنه لا بأس بالخوف من دون الله يخلاف ما يقوله بعض الناس أنه لا يسوغ الخوف من دون الله ﴿فَإِذَا الذى﴾ إذا للمفاجأة وما بعدها مبتدأ ﴿استنصره﴾ أي موسى ﴿بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ﴾ يستغيثه والمعنى أن الإسرائيلي الذي خلصه موسى استغاث به ثانياً من قبطي آخر
القصص (٢٢ - ١٨)
﴿قَالَ لَهُ موسى﴾ أي للإسرائيلي ﴿إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ﴾ أي ضال عن الرشد ظاهر الغي فقد قاتلت بالأمس رجلاً فقتلته بسببك والرشد في التدبير ان لا يفعل فعلا يقضي إلى البلاء على نفسه وعلى من يريد نصرته
﴿فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ﴾ موسى ﴿أَن يَبْطِشَ بالذى﴾ بالقبطي الذي ﴿هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا﴾ لموسى والإسرائيلي لأنه ليس على دينهما أو لأن القبط كانوا أعداء بني إسرائيل ﴿قَالَ﴾ الإسرائيلي لموسى عليه السلام وقد توهم أنه أراد أخذه لا أخذ القبطي إذ قال له إنك لغوي مبين ﴿يا موسى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً﴾ يعني القبطي ﴿بالأمس إِن تُرِيدُ﴾ ما تريد ﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً﴾ أي قتالاً بالغضب ﴿فِى الأرض﴾ أرض مصر ﴿وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين﴾ في كظم الغيظ وكان قتل القبطي بالأمس قد شاع ولكن خفي قاتله فلما أفشى على موسى
﴿وجاء رجل من أقصى المدينة﴾ هو مؤمن آل فرعون وكان ابن عم فرعون ﴿يسعى﴾ صفة لرجل أو حال من رجل لأنه وصف بقوله من أقصى المدينة ﴿قَالَ يَا موسى أَنِ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ﴾ أي يأمر بعضهم بعضاً بقتلك أو يتشاورون بسببك والائتمار التشارو يقال الرجلان يتآمران ويأتمران لأن كل واحد منهما يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمر ﴿فاخرج﴾ من المدينة ﴿إِنّى لَكَ مِنَ الناصحين﴾ لك بيان وليس بصلة الناصحين لأن الصلة لا تتقدم على الموصول كأنه قال إني من الناصحين ثم أراد أن يبين فقال لك كما يقال سقياً لك ومرحباً لك
﴿فَخَرَجَ﴾ موسى ﴿مِنْهَا﴾ من المدينة ﴿خَائِفاً يَتَرَقَّبُ﴾ التعرض له في الطريق أو أن يلحقه من يقتله ﴿قَالَ رَبّ نَجّنِى مِنَ القوم الظالمين﴾ أي قوم فرعون
﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ﴾ نحوها والتوجه الإقبال على الشيء ومدين قرية شعيب عليه السلام سميت بمدين بن إبراهيم ولم تكن في سلطان فرعون وبينها وبين مصر مسيرة ثمانية أيام قال ابن عباس رضي الله عنهما خرج ولم يكن له علم بالطريق إلا حسن الظن بربه ﴿قَالَ عسى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السبيل﴾ أي وسطه ومعظم نهجه فجاء ملك فانطلق به إلى مدين
القصص (٢٤ - ٢٣)
﴿وَلَمَّا وَرَدَ﴾ وصل ﴿مَاء مَدْيَنَ﴾ ماءهم الذي يسقون منه وكان بئراً ﴿وَجَدَ عَلَيْهِ﴾ على جانب البئر ﴿أمة﴾ جماعة ﴿مِنَ الناس﴾ من أناس مختلفين ﴿يُسْقَوْنَ﴾ مواشيهم ﴿وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ﴾ في مكان أسفل من
﴿فسقى لَهُمَا﴾ فسقى غنمهما لأجلهما رغبة في المعروف وإغاثة للملهوف روي أنه نحى القوم عن رأس البئر وسألهم دلواً فأعطوه دلوهم وقالوا استق بها وكانت لا ينزعها إلا أربعون فاستقى بها وصبها في الحوض ودعا بالبركة وترك المفعول في يسقون وتذودان ولا نسقي وفسقي لأن الغرض هو الفعل لا المفعول ألا ترى أنه رحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقي ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومسقيهم ابل مثلا وكذا في لا نسقي فسقى بالمقصود هو السقي لا المسقى ووجه مطايقة جوابهما سؤاله أنه سألهما عن سبب الذود فقالتا السبب في ذلك أنا امرأتان مستورتان ضعيفتان لا نقدر على مزاحمة الرجال ونستحي من الإختلاط بهم فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا وإنما رضي شعيب عليه السلام لابنتيه بسقي الماشية لأن هذا الأمر في نفسه ليس بمحظور والدين لا يأباه وأما المروءة فعادات الناس في ذلك متباينة وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر خصوصاً إذا كانت الحالة حالة ضرورة ﴿ثُمَّ تولى إِلَى الظل﴾ أي ظل سمرة وفيه دليل جواز الاستراحة في الدنيا بخلاف ما يقوله بعض المتقشفة ولما طال البلاء عليه أنس بالشكوى إذ لا نقص في الشكوى إلى المولى ﴿فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا﴾ لأي شيء
القصص (٢٧ - ٢٥)
لما ورد على سره من الأنوار
﴿فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى استحياء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾ على استحياء في موضع الحال أي مستحية وهذا دليل كمال إيمانها وشرف عنصرها لأنها كانت تدعوه إلى ضيافتها ولم تعلم أيجيبها أن لا فأتته مستحية قد استترت بكم درعها وما في ما سقيت مصدرية أي جزاء سقيك روى أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما حفّل قال لهما ما أعجلكما قالتا وجدنا رجلاً صالحاً رحمنا فسقى لنا فقال لإحداهما اذهبي فادعيه لي فتبعها موسى عليه السلام فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لها امشي خلفي وانعتي لي الطريق ﴿فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص﴾ أي قصته وأحواله مع فرعون والقصص مصدر كالعلل سمي به المقصوص ﴿قَالَ﴾ له ﴿لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين﴾ إذ لا سلطان لفرعون بأرضنا وفيه دليل جواز العمل بخبر الواحد ولو عبداً أو أنثى والمشي مع الأجنبية مع ذلك الاحتياط والتورع وأما أخذ الأجر على البر والمعروف فقيل إنه لا بأس به عند الحاجة كما كان لموسى عليه السلام على أنه روي أنها لما قالت ليجزيك كره ذلك وإنما وإنما أجابها لئلا يخيب قصدها لأن للقاصد حرمة ولما وضع شعيب الطعام بين
﴿قالت إحداهما يا أبت استأجره﴾ اتخذه أجيرا لرعي الغنم روى أن أكبرهما كانت تسمى صفراء والصغرى صفيراء وصفراء هي التي ذهبت به وطلبت إلى أبيها أن يستأجره وهي التي تزوجها ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوى الأمين﴾ فقال وما علمك بقوته وأمانته فذكرت نزع الدلو وأمرها بالمشي خلفه وورد الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أن أمانته وقوته أمران متحققان وقولها إن خير من استأجرت القوي الأمين كلام جامع لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان الكفاية والأمانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتم مرادك وقيل القوي في دينه الأمين في جوارحه وقد استغنت بهذا الكلام الجاري مجرى المثل عن أن تقول استأجره لقوته وأمانته وعن ابن مسعود رضي الله عنه أفرس الناس ثلاث بنت شعيب وصاحب يوسف في قوله عسى أن ينفعنا وأبو بكر في عمر
﴿قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ﴾ أزوجك ﴿إِحْدَى ابنتى هَاتَيْنِ﴾ قوله هاتين يدل على أنه كان له غيرهما وهذه مواعدة منه ولم يكن ذلك عقد نكاح إذ لو كان عقد لقال قد أنكحتك ﴿على أَن تَأْجُرَنِى﴾ تكون أجيرا
القصص (٢٩ - ٢٧)
لي من أجرته إذا كنت له أجيراً ﴿ثَمَانِىَ حِجَجٍ﴾ ظرف والحجة السنة وجمعها حجج والتزوج على رعي الغنم جائز بالإجماع لأنه من باب القيام بأمر الزوجية فلا مناقصة بخلاف التزوج على الخدمة ﴿فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً﴾ أي عمل عشر حجج ﴿فَمِنْ عِندِكَ﴾ فذلك تفضل منك ليس بواجب عليك أو فإتمامه من عندك ولا أحتمه عليك ولكنك إن فعلته فهو منك
﴿قال﴾ موسى ﴿ذلك﴾ مبتدأ وهوإشارة إلى ما عاهده عليه شعيب والخبر ﴿بَيْنِى وَبَيْنَكَ﴾ يعني ذلك الذي قلته وعاهدتني فيه وشارطتني عليه قائم بيننا جميعاً لا يخرج كلانا عنه لا أنا فيما شرطت علي ولا أنت فيما شرطت على نفسك ثم قال ﴿أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ﴾ أي أي أجل قضيت من الأجلين يعني العشرة أو الثمانية وأي نصب بقضيت وما زائدة ومؤكدة لا بهام أي وهي شرطية وجوابها ﴿فَلاَ عُدْوَانَ عَلَىَّ﴾ أي لا يعتدى علي في طلب الزيادة عليه قال المبرد قد علم أنه لا عدوان عليه في أيهما ولكن جمعهما ليجعل الأقل كالأتم في الوفاء وكما أن طلب الزيادة على الأتم عدوان فكذا طلب الزيادة على الأقل ﴿والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾ هو من وكل إليه الأمر وعدى بعلى لأنه استعمل في موضع الشاهد والرقيب رُوي أن شعيباً كانت عنده عصيّ الأنبياء عليهم السلام فقال لموسى بالليل أدخل ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصي فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة ولم يزل الأنبياء عليهم السلام يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب فمسها وكان مكفوفاً فضن بها فقال خذ غيرها فما وقع في يده إلا هي سبع مرات فعلم أن له شأناً ولما أصبح قال له شعيبا إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك فإن الكلأ وإن كان بها أكثر إلا أن فيها تنيناً أخشاه عليك وعلى الغنم فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر
﴿فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل﴾ قال عليه السلام قضى أوفاهما وتزوج صغراهما وهذا بخلاف الرواية التي مرت ﴿وسار بأهله﴾
القصص (٣٢ - ٢٩)
بامرأته نحو مصر قال ابن عطاء لما أتم أجل المحنة ودنا أيام الزلفة وظهرت أنوار النبوة سار بأهله ليشتركوا معه في لطائف صنع ربه ﴿آنس مِن جَانِبِ الطور نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم مِّنْهَا بِخَبَرٍ﴾ عن الطريق لأنه قد ضل الطريق ﴿أَوْ جَذْوَةٍ مّنَ النار لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾
﴿فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن﴾ بالنسبة إلى موسى ﴿فِى البقعة المباركة﴾ بتكليم الله تعالى فيها ﴿مِنَ الشجرة﴾ العناب أو العوسج ﴿أَن يا موسى﴾ أن مفسرة أو مخففة من الثقيلة ﴿إِنّى أَنَا الله رَبُّ العالمين﴾ قال جعفر أبصر ناراً دلته على الأنوار لأنه رأى النور في هيئة النار فلما دنا منها شملته أنوار القدس وأحاطت به جلابيب الأنس فخوطب بألطف خطاب واستدعى منه أحسن جواب فصار بذلك مكلماً شريفاً أعطى ما سأل وأمن مما خاف والجذوة باللغات الثلاث وقرىء بهن فعاصم فتح الجيم وحمزة وخلف بضمها
﴿وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ﴾ ونودي أن ألق عصاك فألقاها فقلبها الله ثعبانا ﴿فلما رآها تَهْتَزُّ﴾ تتحرك ﴿كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾ حية في سعيها وهي ثعبان في جثتها ﴿ولى مُدْبِراً وَلَمْ يعقب﴾ يرجع فقيل له ﴿يا موسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمنين﴾ أي أمنت من أن ينالك مكروه من الحية
﴿اسلك﴾ أدخل ﴿يَدَكَ فِى جَيْبِكَ﴾ جيب قميصك ﴿تَخْرُجْ بَيْضَاء﴾ لها شعاع كشعاع الشمس ﴿مِنْ غَيْرِ سُوء﴾ برص ﴿واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب﴾ حجازي بفتحتين وبصري الرَّهب حفص الرُّهب غيرهم ومعنى الكل الخوف والمعنى واضمم يدك إلى صدرك يذهب ما بك من فرق أي لأجل الحية عن ابن عباس رضي الله عنهما كل خائف إذا وضع يده على صدره زال خوفه وقيل معنى ضم الجناح أن الله تعالى لما قلب العصا حية فزع موسى وانقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء فقيل له اتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء فإذا ألقيتها فكما تنقلب حية فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران اجتناب ما هو غضاضة عليك وإظهار معجزة أخرى والمراد بالجناح اليد لأن يدي
القصص (٣٦ - ٣٢)
الإنسان بمنزلة جناحي الطائر وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى فقد ضم جناحه إليه أو أريد بضم جناحه إليه تجلده وضبطه نفسه عند انقلاب العصا حية حتى لا يضطرب ولا يرهب استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران ومعنى من الرهب من أجل الرهب أي إذا
﴿قَالَ رَبّ إِنّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أن يقتلون﴾ به بغير ياه والياء يعقوب
﴿وأخي هارون هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِىَ﴾ حفص ردا حال أي عونا يقال ردأته أعنته وبلا همز مدني ﴿يُصَدّقُنِى﴾ عاصم وحمزة صفة أي ردا مصدقا لي وغيرهما بالجزم جواب لأرسله ومعنى تصديقه موسى إعانته إياه بزيادة البيان في مظان الجدال إن احتاج إليه ليثبت دعواه لا أن يقول له صدقت ألا ترى إلى قوله هو أفصح مني لساناً فأرسله وفضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لتقرير البرهان لا لقوله صدقت فسبحان وباقل فيه يستويان ﴿إِنّى أَخَافُ أَنْ يُكَذّبُونِ﴾ يكذبوني في الحالتين يعقوب
﴿قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾ سنقويك به إذ اليد تشد بشدة العضد
﴿فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات﴾ واضحات ﴿قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى﴾ أي سحر تعمله
القصص (٣٨ - ٣٦)
أنت ثم تفتريه على الله أو سحر موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر وليس بمعجزة من عند الله ﴿وَمَا سَمِعْنَا بهذا فِى آبائنا الأولين﴾ حال منصوبة عن هذا أي كائناً في زمانهم يعني ما حدثنا بكونه فيهم
﴿وَقَالَ موسى رَبّى أَعْلَمُ بِمَن جَاء بالهدى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾ أي ربي أعلم منكم بحال من أهله الله الفلاح الأعظم حيث جعله نبياً وبعثه بالهدى ووعده حسن العقبى يعني نفسه ولو كان كما تزعمون ساحراً مفترياً لما أهله لذلك لأنه غني حكيم لا يرسل الكاذبين ولا ينبيء الساحرين ولا يفلح عنده الظالمون وعاقبة الدار هي العاقبة المحمودة لقوله أولئك تعالى لهم عقبى الدار جنات عدن والمراد بالدار الدنيا وعاقبتها أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان وتلقي الملائكة بالبشرى والغفران قال موسى بغير واو مكي وهو حسن لأن الموضع موضع سؤال وبحث عما أجابهم به موسى عند تسميتهم مثل تلك الآيات العظام سحراً مفترى ووجه الأخرى أنهم قالوا ذلك وقال موسى هذا ليوازن الناظر بين القول والمقول ويتبصر فساد أحدهما وصحة الآخر
﴿وقال فرعون يا أيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى﴾ قصد بنفي علمه بإله غيره نفي وجوده أي مالكم من إله غيري أو هو على ظاهره وأن إلهاً غيره غير معلوم عنده ﴿فَأَوْقِدْ لي يا هامان عَلَى الطين﴾ أي اطبخ لي الآجر واتخذه وإنما لم يقل مكان الطين هذا لأنه أول من عمل الآجر فهو يعلمه الصنعة بهذه العبارة ولأنه أفصح وأشبه بكلام الجبابرة إذ أمر هامان وهو وزيره بالإيقاد على الطين منادي باسمه بيافي وسط الكلام دليل التعظم والتجبر ﴿فاجعل لّى صَرْحاً﴾ قصراً عالياً ﴿لَّعَلّي أَطَّلِعُ﴾ أي أصعد والاطلاع الصعود ﴿إلى إله موسى﴾ حسب أنه تعالى في مكان كما كان هو في مكان ﴿وَإِنّى لأظُنُّهُ﴾ أي موسى ﴿مِنَ الكاذبين﴾ في دعواه أن له إلهاً وأنه أرسله إلينا رسولاً وقد تناقض المخذول فإنه قال مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى ثم أظهر حاجته إلى هامان وأثبت لموسى إلهاً وأخبر أنه غير متيقن بكذبه وكأنه تحصن من عصا موسى عليه السلام فليس وقال لعلى أطلع إلى إله موسى روي أن هامان جمع خمسين ألف بناء وبنى صرحاً لم يبلغه بناء أحد من الخلق فضرب الصرح جبريل عليه السلام بجناحه فقطعه ثلاث قطع وقعت على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل وقطعة في البحر وقطعة في المغرب
القصص (٤٤ - ٣٩)
ولم يبق أحد من عماله إلا هلك
﴿واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ﴾ تعظم ﴿فِى الأرض﴾ أرض مصر ﴿بغير الحق﴾ أي بالباطل فالاستكبار بالله تعالى وهو المتكبر على الحقيقة أي المتبالغ في كبرياء الشأن كما حكى رسولنا عن ربه الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار وكل مستكبر
﴿فأخذناه وَجُنُودَهُ فنبذناهم فِى اليم﴾ من الكلام المفحم الذي دل به على عظمة شأنه شبههم استقلالاً لعددهم وإن كانوا الجم الغفير بحصيات أخذنهن آخذ بكفه فطرحهن في البحر ﴿فانظر﴾ يا محمد ﴿كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين﴾ وحذر قومك فإنك منصور عليهم
﴿وجعلناهم أَئِمَّةً﴾ قادة ﴿يَدْعُونَ إِلَى النار﴾ أي عمل أهل النار قال ابن عطاء نزع عن أسرارهم التوفيق وأنوار التحقيق فهم في ظلمات نفوسهم لا يدلون على سبيل الرشاد وفيه دلالة خلق أفعال العباد ﴿وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ﴾ من العذاب
﴿وأتبعناهم في هذه الدنيا لَعْنَةٍ﴾ ألزمناهم طرداً وإبعاداً عن الرحمة وقيل هو ما يلحقهم من لعن الناس إياهم بعدهم ﴿وَيَوْمَ القيامة هُمْ مّنَ المقبوحين﴾ المطرودين المبعدين أو المهلكين المشوهين بسواد الوجوه وزرقة العيون ويوم ظرف للمقبوحين
﴿ولقد آتينا موسى الكتاب﴾ والتوراة ﴿من بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الأولى﴾ قوم نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام ﴿بَصَائِرَ لِلنَّاسِ﴾ حال من الكتاب والبصيرة نور القلب الذي يبصر به الرشد والسعادة كما أبصر نور العين الذي يبصر به الأجساد يريد آتيناه التوراة أنوارا للقلوب لأنها كانت عميا لا تستبصر ولا تعرف حقاً من باطل ﴿وهدى﴾ وإرشاداً لأنهم كانوا يخبطون في ضلال ﴿ورحمة﴾ أن اتبعها لأنهم إذا عملوا بها وصلوا إلى نيل الرحمة ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ يتعظون
﴿وَمَا كُنْتَ﴾ يا محمد ﴿بِجَانِبِ﴾ الجبل ﴿الغربى﴾ وهو المكان الواقع في شق الغرب وهو الذي وقع فيه ميقات موسى ﴿إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر﴾ أي كلمناه وقربناه نجياً ﴿وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين﴾ من جملة الشاهدين للوحي إليه حتى تقف من جهة المشاهدة على ما جرى من أمر موسى في ميقاته
القصص (٤٧ - ٤٥)
﴿وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا﴾ بعد موسى ﴿قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر﴾ أي طالت أعمارهم وفترت النبوة وكادت الأخبار تخفى واندرست العلوم ووقع التحريف في كثير منها فأرسلناك مجدداً لتلك الأخبار مبيناً ما وقع فيه من تحريف وأعطيناك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى كأنه قال ما كنت شاهداً لموسى وما جرى عليه ولكنا أوحيناه إليك فذكر سبب الوجي الذي هو إطالة الفترة ودل به على المسبب اختصاراً فإذا هذا الاستدراك شبيه الاستدراكين بعده ﴿وَمَا كُنتَ ثَاوِياً﴾ مقيماً ﴿فِى أَهْلِ مَدْيَنَ﴾ وهو شعيب والمؤمنين به ﴿تتلو عليهم آياتنا﴾ تقرؤها عليهم تعلماً منهم يريد الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه وتتلوا في موضع نصب خبرثان أو حال من الضمير في ثاويا ﴿وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ ولكنا أرسلناك وأخبرناك بها وعلمناكها
﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا﴾ موسى أن خذ الكتاب بقوة ﴿ولكن﴾ أعلمناك وأرسلناك ﴿رَحْمَةً﴾ للرحمة ﴿مّن رَّبِكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ﴾ في زمان الفترة بينك وبين عيسى وهو خمسمائة وخمسون سنة ﴿لعلهم يتذكرون﴾
﴿ولولا أن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ﴾ عقوبة ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ من الكفر والظلم ولما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدي نسبت الأعمال إلى الأيدي وإن كانت من أعمال القلوب تغليباً للأكثر على الأقل ﴿فيقولوا﴾ عند العذاب ﴿رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فنتبع آياتك وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين﴾ لولا الأولى امتناعية وجوابها محذوف والثانية تحضيضية والفاء الأولى للعطف والثانية جواب لولا لكونها في حكم الأمر إذ الأمر باعث على الفعل والباعث والمحضض من وادٍ واحد والفاء تدخل في جواب الأمر والمعنى لولا أنهم قائلون إذا عوقبوا بما قدموا من الشرك والمعاصي هلا أرسلت إلينا رسولاً محتجين علينا بذلك لما أرسلنا إليهم يعني أن ارسال الرسول إليهم إنما هو ليلزموا الحجة ولا يلزموها كقوله لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل فإن قلت كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا للقول لدخول لولا الامتناعية عليها دونه قلت القول هوالمقصود بأن يكون سبباً للإرسال ولكن العقوبة لما كانت سبباً للقول وكان وجوده بوجودها جعلت العقوبة كأنها سبب الارسال
القصص (٥٣ - ٤٨)
فأدخلت عليها لولا وجيء بالقول معطوفاً عليها بالفاء المعطية معنى السببية ويؤل معناه إلى قولك ولولا فولهم هذا إذا أصابتهم مصيبة لما أرسلنا
﴿فَلَمَّا جَاءهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا﴾ أي القرآن أو الرسول المصدق بالكتاب المعجز ﴿قَالُواْ﴾ أي كفار مكة ﴿لَوْلا أُوتِىَ﴾ هلا أعطي ﴿مِثْلَ مَا أُوتِىَ موسى﴾ من الكتاب المنزل جملة واحدة ﴿أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ﴾ يعني أبناء جنسهم ومن مذهبهم مذهبهم وعنادهم عنادهم وهم الكفرة في زمن موسى عليه السلام ﴿بِمَا أُوتِىَ موسى مِن قَبْلُ﴾ من قبل القرآن ﴿قَالُواْ﴾ في موسى وهارون
﴿قُلْ فَأْتُواْ بكتاب مّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَا﴾ مما أنزل على موسى ومما أنزل على ﴿أَتَّبِعْهُ﴾ جواب فأتوا ﴿إِن كُنتُمْ صادقين﴾ في أنهما سحران
﴿فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ﴾ فإن لم يستجيبوا دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى فاعلم أنهم قد ألزموا ولم يبق لهم حجة إلا اتباع الهوى ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ الله﴾ أي لا أحد أضل ممن اتبع في الدين هواه وبغير هدى حال أي مخذولا لا يخلى بينه وبين هواه ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين﴾
﴿ولقد وصّلنا لهم القول لعلّهم يتذكّرون﴾ التوصيل تكثير الوصل وتكريره يعني أن القرآن أتاهم متتابعاً متواصلاً وعدا ووعيدا وقصصا وعبرا ومواعظ ليذكروا فيفلحوا
﴿الذين آتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ﴾ من قبل القرآن وخبر الذين ﴿هُم بِهِ﴾ بالقرآن ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ نزلت في مؤمن أهل الكتاب
﴿وإذا يتلى﴾ القرآن ﴿عليهم قالوا آمنا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبّنَا إنَّا كُنَّا من قبله﴾
القصص (٥٧ - ٥٤)
من قبل نزول القرآن ﴿مُسْلِمِينَ﴾ كائنين على دين الإسلام مؤمنين بمحمد عليه السلام وقوله إنه تعليل للإيمان به لأن كونه حقاً من الله حقيق بأن يؤمن به وقوله إنا بيان لقوله آمنا لأنه يحتمل أن يكون إيماناً قريب العهد وبعيده فأخبروا بأن إيمانهم به متقادم
﴿أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ﴾ بصبرهم على الإيمان بالتوراة والإيمان بالقرآن أو بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله وبعد نزوله أو بصبرهم على أذى المشركين وأهل الكتاب ﴿ويدرؤون بالحسنة السيئة﴾ يدفعون بالطاعة المعصية أو بالحلم الأذى ﴿وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ﴾ يزكون
﴿وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو﴾ الباطل أو الشتم من المشركين ﴿أعرضوا عنه وقالوا﴾ للاعنين ﴿لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم سلام عَلَيْكُمْ﴾ أمان منا لكم بأن نقابل لغوكم بمثله ﴿لاَ نَبْتَغِى الجاهلين﴾ لا نريد مخالطتهم وصحبتهم
﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل فيه من قومك وغيرهم ﴿ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء﴾ يخلق فعل الاهتداء فيمن يشاء ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين﴾ بمن يختار الهداية ويقبلها ويتعظ بالدلائل والآيات قال الزجاج أجمع المفسرون لى أنها نزلت في أبي طالب وذلك أنه قال عند موته يا معشر بني هاشم صدقوا محمد تفلحوا فقال عليه السلام يا عم تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك قال فما
﴿وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أرضنا أو لم نمكن لهم حرما آمنا﴾ قالت قريش نحن نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب بذلك أن يتخطفونا من أرضنا فألقمهم الله الحجر بأنه مكن لهم في الحرم الذي أمنه بحرمة البيت وأمن قطانه بحرمته والثمرات تجيء إليه من كل أوب وهم كفرة فأنّى يستقيم أن يعرضهم للتخطف ويسلبهم الأمن إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام وإسناد الأمن إلى أهل الحرم حقيقة وإلى الحرم مجاز ﴿يجبى إِلَيْهِ﴾ وبالتاء مدني ويعقوب وسهل أي تجلب وتجمع ﴿ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء﴾ معنى الكلية الكثرة كقوله وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء
القصص (٦١ - ٥٧)
﴿رّزْقاً مّن لَّدُنَّا﴾ هو مصدر لأن معنى يجيء إليه يرزق أو مفعول له أو حال من الثمرات إن كان بمعنى مرزوق لتخصصها بالإضافة كما تنصب عن النكرة المتخصصة بالصفة ﴿ولكن أكثرهم لا يعلمون﴾ متعلق بمن لدنا أي قليل منهم يقرون بأن ذلك رزق من عند الله وأكثرهم جهلة لا يعلمون ذلك ولو علموا أنه من عند الله لعلموا أن الخوف والأمن عنده ولما خافوا التخطف إذا آمنوا به
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾ هذا تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم بإنعام الله عليهم فلم يشكروا النعمة وقابلوها بالبطر فأهلكوا وكم نصب أهلكنا ومعيشتها بحذف الجار وإيصال الفعل أي في معيشتها والبطر سوء احتمال الغني وهو أن لا يحفظ حق الله فيه ﴿فَتِلْكَ مساكنهم﴾ منازلهم باقية الآثار يشاهدونها في الأسفار كبلاد ثمود وقوم شعيب وغيرهم ﴿لَمْ تُسْكَن﴾ حال والعامل فيها الإشارة ﴿مّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ من السكنى أي لم يسكنها إلا المسافر ومار الطريق يوماً أو ساعة ﴿وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين﴾ لتلك المساكن من ساكنيها أي لا يملك التصرف فيها غيرنا
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى﴾ في كل وقت ﴿حتى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا﴾ وبكسر الهمزة حمزة وعلي أي في القرية التي هي أمها أي أصلها ومعظمها ﴿رَسُولاً﴾ لإلزام الحجة وقطع المعذرة أو وما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أم القرى يعني مكة لأن الأرض دحيت من تحتها رسولاً يعني محمدا عليه السلام ﴿يتلو عليهم آياتنا﴾ أي القرآن ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظالمون﴾ أي وما أهلكناهم للانتقام إلا وأهلها مستحقون العذاب بظلمهم وهو إصرارهم على كفرهم وعنادهم ومكابرتهم بعد الاعذار إليهم
﴿وَمَا أُوتِيتُم مّن شَىْء فمتاع الحياة الدنيا وَزِينَتُهَا﴾ وأي شيء أصبتموه من أسباب الدنيا فما هو إلا تمتع وزينة أياماً قلائل وهي مدة الحياة الفانية ﴿وَمَا عِندَ الله﴾ وهو ثوابه ﴿خَيْرٌ﴾ في نفسه من ذلك ﴿وأبقى﴾ لأنه دائم ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ أن الباقي خير من الفاني وخير أبو عمرو وبين الياء والتاء والباقون
﴿أَفَمَن وعدناه وَعْداً حَسَناً﴾
أي الجنة فلا شيء أحسن منها دائمة ولذا سميت الجنة بالحسنى ﴿فَهُوَ لاَقِيهِ﴾ أي رائيه ومدركه ومصيبه ﴿كَمَن مَّتَّعْنَاهُ متاع الحياة الدنيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين﴾ من الذين أحضروا النار ونحوه فكذبوه فإنهم لمحضرون نزلت في رسول الله ﷺ وأبي جهل لعنه الله أو في علي وحمزة وأبي جهل أو في المؤمن والكافر ومعنى الفاء الأولى أنه لما ذكر التفاوت بين متاع الحياة الدنيا وما عند الله عقبه بقوله أفمن وعدناه أي أبعد هذا التفاوت الجلي يسوي بين أبناء الدنيا وأبناء الآخرة والفاء الثانية للتسبيب لأن الفاء الموعود مسبب عن الوعد وثم لتراخي حال الإحضار عن حال التمتع ثم هو عليّ كما قيل عضدّ في عضد شبه المنفصل بالمتصل
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ﴾ ينادي الله الكفار نداء توبيخ وهو عطف على يَوْمُ القيامة أو منصوب باذكر ﴿فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ﴾ بناء على زعمهم ﴿الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ ومفعولا تزعمون محذوفان تقديره كنتم تزعمونهم شركائي ويجوز حذف المفعولين في باب ظننت ولا يجوز الاقتصار على أحدهما
﴿قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول﴾ أي الشياطين أو أئمة الكفر ومعنى حق عليهم القول وجب عليهم مقتضاه وثبت وهو قوله لأمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أجمعين ﴿رَبَّنَا هَؤُلاء﴾ مبتدأ ﴿الذين أَغْوَيْنَا﴾ أي دعوناهم إلى الشرك وسولنا لهم الغي صفة والراجع إلى الموصول محذوف والخبر ﴿أغويناهم﴾ والكاف في ﴿كَمَا غَوَيْنَا﴾ صفة مصدر
﴿وَقِيلَ﴾ للمشركين ﴿ادعوا شُرَكَاءكُمْ﴾ أي الأصنام لتخلصكم من العذاب ﴿فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ﴾ فلم يجيبوهم ﴿وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ﴾ وجواب لو محذوف أي لما
القصص (٧٠ - ٦٥)
رأوا العذاب
﴿وَيَوْمَ يناديهم فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المرسلين﴾ الذين أرسلوا إليكم حكى أولاً ما يوبخهم به من اتخاذهم له شركاء ثم ما يقوله الشياطين هم الذين استغو وهم ثم ما يشبه الشماتة بهم لاستغاثتم آلهتهم وعجزهم عن نصرتهم ثم ما يبكتون به من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل
﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنباء يَوْمَئِذٍ﴾ خفيت عليهم الحجج أو الأخبار وقيل خفي عليهم الجواب فلم يدروا بماذا يجيبون إذ لم يكن عندهم جواب ﴿فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ﴾ لا يسأل بعضهم بعضاً عن العذر والحجة رجاء أن يكون عنده عذر وحجة لأنهم يتساوون في العجز عن الجواب
﴿فأما من تاب﴾ من الشرك ﴿وآمن﴾ بربه وبما جاء من عنده
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء﴾ وفيه دلالة خلق الأفعال ويوقف على ﴿وَيَخْتَارُ﴾ أي وربك يخلق مايشاء وربك يختار ما يشاء ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة﴾ أي ليس له من يختاروا على الله شيئاً ما وله الخيرة عليهم ولم يدخل العاطف فيما كان لهم الخيرة لأنه بيان لقوله ويختار إذ المعنى أن الخيرة لله وهو أعلم بوجود الحكمة في أفعاله فليس لأحد من خلقه أن يختار عليه ومن وصل على معنى ويختار الذي لهم فيه الخيرة فقد أبعد بل ما لنفي إختيار الخلق تقديرا لاختيار الحق ومن قال ومعناه ويختار للعباد ما هو خير لهم وأصلح فهو مائل إلى الاعتزال والخيرة من التخير يستعمل بمعنى المصدر وهو التخير وبمعنى التخير كقولهم محمد خيرة الله من خلقه ﴿سبحان الله وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي الله بريء من إشراكهم وهو منزه عن أن يكون لأحد عليه اختيار
﴿وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ﴾ تضمر ﴿صُدُورُهُمْ﴾ من عداوة رسول الله ﷺ وحسده ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ من مطاعنهم فيه وقولهم هلا اختيرا عليه غيره في النبوة
﴿وَهُوَ الله﴾ وهو المستأثر بالإلهية المختص بها ﴿لا إله إلا هو﴾ تقدير لذلك كقولك القبلة الكعبة لا قبلة إلا هي ﴿لَهُ الحمد فِى الأولى﴾ الدنيا والآخرة هو قولهم الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن
القصص (٧٦ - ٧٠)
صدقنا وعده وقيل الحمد لله رب العالمين والتحميد ثمة على وجه اللذة لا الكلفة ﴿وَلَهُ الحكم﴾ القضاء بين عباده ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ بالبعث والنشور وبفتح التاء وكسر الجيم يعقوب
﴿قل أرأيتم﴾ أريتم محذوف الهمزة علي ﴿إِن جَعَلَ الله عليكم الليل سرمدا﴾ هو مفعول ثان لجعل أي دائماً من السرد وهو المتابعة ومنه قولهم في الأشهر الحرم ثلاثة سرد وواحد فرد والميم مزيدة ووزنه فعمل ﴿إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء أَفَلاَ تَسْمَعُونَ﴾ والمعنى أخبروني من يقدر على هذا
﴿قل أرأيتم إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾ ولم يقل بنهار تتصرفون فيه كما قال بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ بل ذكر الضياء وهو ضوء الشمس لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة ليس التصرف في المعاش وحده والظلام ليس بتلك المنزلة ومن ثم قرن بالضياء أفلا تسمعون لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده وقرن بالليل أفلا تبصرون لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره من السكون ونحوه
﴿ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾ أي لتسكنوا بالليل ولتبتغوا من فضل الله في النهار فيكون من باب اللف والنشر ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ الله على نعمه وقال الزجاج يجوز أن يكون معناه لتسكنوا فيهما ولتبتغوا من فضل من الله فيهما ويكون المعنى جعل لكم الزمان ليلاً ونهاراً لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله فيه
﴿وَيَوْمَ يناديهم فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ كرر التوبيخ لاتخاذ الشركاء ليؤذن أن لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به كما لاشيء أدخل في مرضاته من توحيده
﴿وَنَزَعْنَا﴾ وأخرجنا ﴿مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾ يعني نبيهم لأن الأنبياء للأمم شهداء عليهم يشهدون بما كانوا عليه ﴿فَقُلْنَا﴾ للأمم ﴿هَاتُواْ برهانكم﴾ فيما كنتم عليه من الشرك ومخالفة الرسل ﴿فَعَلِمُواْ﴾ حينئذ ﴿أَنَّ الحق لِلَّهِ﴾ التوحيد ﴿وَضَلَّ عَنْهُم﴾ وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع ﴿مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ من ألوهية غير الله والشفاعة لهم
﴿إِنَّ قارون﴾ لا ينصرف للعجمة والتعريف ولو كان فاعولامن قرنت الشيء لانصرف ﴿كَانَ مِن قَوْمِ موسى﴾ كان إسرائيلياً ابن عم لموسى فهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب وموسى بن
القصص (٧٨ - ٧٦)
عمران بن قاهث وكان يسمى المنور لحسن صورته وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة ولكنه نافق كما نافق السامري ﴿فبغى عَلَيْهِمْ﴾ من البغي وهو الظلم قيل ملكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم أو من البغي الكبر تكبر عليهم بكثرة ماله وولده أو زاد عليهم في الثياب شبرا ﴿وآتيناه من الكنوز ما إِنْ مَفَاتِحَهُ﴾ ما بمعنى الذي في موضع نصب بآيتنا وأن واسمها وخبرها صلة الذي ولهذا كسرت إن والمفاتح جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به أو مفتح بالفتح وهو الخزانة والأصوب أنها المقاليد ﴿لتنوء بالعصبة﴾ لتثقل العصبة فالباء للتعدية يقال ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله والعصبة الجماعة الكثيرة وكانت تحمل مفاتيح خزائنه ستون بغلاً لكل خزانة مفتاح ولا يزيد المفتاح على أصبع وكانت من جلود ﴿أُوْلِى القوة﴾ الشدة ﴿إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ﴾ أي المؤمنون وقيل القائل موسى عليه السلام
﴿وابتغ فيما آتاك الله﴾ من الغنى والثروة ﴿الدار الأخرة﴾ بأن تتصدق على الفقراء وتصل الرحم ونصرف إلى أبواب الخير ﴿وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا﴾ وهو أن تأخذ ما يكفيك ويصلحك وقيل معناه وأطاب بدنياك آخرتك فإن ذلك حظ المؤمن منها ﴿وَأَحْسَنُ﴾ إلى عباد الله ﴿كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ﴾ أو أحسن بشكرك وطاعتك لخالق الأنام كما أحسن إليك بالإنعام ﴿وَلاَ تَبْغِ الفساد فِى الأرض﴾ بالظلم والبغي ﴿إِنَّ الله لاَ يحب المفسدين﴾
﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ﴾ أي المال ﴿على عِلْمٍ عِندِى﴾ أي على استحقاق لما فيّ من العلم الذي فضلت به الناس وهو علم التوراة أو علم الكيمياء وكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهباً أو العلم بوجوه المكاسب من التجارة والزراعة وعندي صفة لعلم قال سهل ما نظر أحد إلى نفسه فأفلح والسعيد من صرف بصره عن أفعاله وأقواله وفتح له سبيل رؤية منة الله تعالى عليه في جميع الأفعال والأقوال والشقي من زين في عينه أفعاله وأقواله وأحواله ولا فتح له سبيل رؤية منة الله فافتخر بها وادعاها لنفسه فشؤمه يهلكه يوماً كما خسف بقارون لما ادّعى لنفسه فضلاً ﴿أَوَ لَمْ يَعْلَمْ﴾ قارون ﴿أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً﴾ هو إثبات لعلمه بأن الله قد أهلك من القرون قبله من هو أقوى منه وأغنى لأنه قد قرأه في التوراة كأنه قيل أو لم يعلم في جملة
القصص (٨١ - ٧٨)
ما عنده من العلم هذا حتى لا يغتر بكثرة ماله
﴿فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ﴾ في الحمرة والصفرة وقيل خرج يوم السبت على بغلة شهباء عليها الأرجوان وعليها سرج من ذهب ومعه أربعة الاف على زيه وقيل عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر وعن يمينه ثلثمائة غلام وعن يساره ثلثمائة جارية بيض عليهن الحلي والديباج وفي زِينَتِهِ حال من فاعل خرج أي متزيناً ﴿قَالَ الذين يُرِيدُونَ الحياة الدنيا﴾ قيل كانوا مسلمين وغنما تمنوا على سبيل الرغبة في اليسار كعادة البشر وقيل كانوا كفارا ﴿يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون﴾ قالوه غبطة والغابط هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه من غير أن تزول عنه كهذه الآية والحاسد هو الذي يتمنى أن تكون نعمة صاحبه له دونه وهو كقوله تعالى ولا تتمنو اما فضل الله به بعضكم على بعض وقيل لرسول الله ﷺ هل تضر الغبطة قال لا إلا كما يضر العضاه الخبط ﴿إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ﴾ الحظ الجد وهو البخت والدولة
﴿وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم﴾ بالثواب والعقاب وفناء الدنيا وبقاء
﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض﴾ كان قارون يؤذي موسى عليه السلام كل وقت وهو يداريه للقرابة التي بينهما حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف دينار على دينار وعن كل ألف درهم على درهم فحسبه فاستكثره فشحت به نفسه فجمع بني إسرائيل وقال إن موسى يريد أن يأخذ أومالكم فقالوا أنت كبيرنا فمر بما شئت قال نبرطل فلانة البغي حتى ترميه بنفسها فترفضه بنو اسرائيل فجعل لها الف دينار أو طستا من ذهب أو حكمها فلما كان يوم عيد قام موسى فقال يا بني إسرائيل من سرق قطعناه ومن افترى جلدناه ومن زنى وهو غير محصن جلدناه وإن أحصن رجمناه فقال قارون وإن كنت أنت قال وإن كنت أنا قال فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة فأحضرت
القصص (٨٣ - ٨١)
فناشدها بالذي فلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق فقالت جعل لي قارون جعلاً على أن أقذفك بنفسي فخر موسى ساجداً يبكي وقال يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى اللع إليه أن مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك فقال يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلزم مكانه ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا جميعاً غير رجلين ثم قال يا أرض خذوهم فأخذتهم إلى الركب ثم قال خذوهم فأخذتهم إلى الأوساط ثم قال خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى ويناشدونه بالله والرحم وموسى لا يلتفت إليهم لشدة غضبه ثم قال
﴿وَأَصْبَحَ﴾ وصار ﴿الذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ﴾ منزلته من الدنيا ﴿بالأمس﴾ ظرف لتمنوا ولم يرد به اليوم الذي قبل يومك ولكن الوقت القريب استعارة ﴿يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ﴾ وي منفصلة عن كأن عند البصريين قال سيبويه وي كلمة تنبه على الخطأ وتندم يستعملها النادم بإظهار ندامته يعني ان القوم تنبهوا على خطئهم في تمنيهم وقولهم يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون وتندموا ﴿لَوْلاَ أَن مَنَّ الله عَلَيْنَا﴾ بصرف ما كنا نتمناه بالأمس ﴿لخسف بنا﴾ وبفتحتين حفص ويعقوب وسهل وفيه ضمير الله تعالى ﴿وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون﴾ أي تندموا ثم قالوا كأنه لا يفلح الكافرون
﴿تِلْكَ الدار الآخرة﴾ تلك تعظيم لها وتفخيم لشأنها يعني تلك التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها وقوله ﴿نجعلها﴾ خبر تلك والدار نعتها ﴿لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الأرض﴾ بغيا ابن جبير أو ظلما
﴿مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا﴾
مر في النمكل ﴿وَمَن جَاء بالسيئة فَلاَ يُجْزَى الذين عَمِلُواْ السيئات﴾ معناه فلا يجزون فوضع الذين عملوا السيئات موضع الضمير لأن في إسناد عمل السيئة إليهم مكررا فضل تهجين بحالهم وزيادة تبغيض للسيئة إلى قلوب السامعين ﴿إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ إلا مثل ما كانوا يعملون ومن فضله العظيم أن لا يجزي السيئة إلا بمثلها ويجزي الحسنة بعشر أمثالها وبسبعمائة
﴿إن الذي فرض عليك القرآن﴾ أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه ﴿لَرَادُّكَ﴾ بعد الموت ﴿إلى مَعَادٍ﴾ أيّ معاد وإلى معاد ليس لغيرك من البشر فلذا نكره أو المرادبه مكة والمراد رده إليها يوم الفتح لأنها كانت في ذلك اليوم ميعادا له شأن ومرجعا له واعتداد لغلبة رسول الله وقهره لأهلها ولظهور عز الإسلام وأهله وذل الشرك وحزبه والسورة مكية ولكن هذه الآية نزلت بالجحفة لا بمكة ولابالمدينة حين اشفتاق إلى مولده
﴿وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يلقى﴾ يوحى ﴿إِلَيْكَ الكتاب﴾ القرآن ﴿إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ﴾ هو محمول على المعنى أي وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمة من ربك أو إلا بمعنى لكن للاستدراك أي ولكن لرحمة من ربك ألقي إليك الكتاب ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين﴾ معيناً لهم على دينهم
﴿ولا يصدنك عن آيات الله﴾ هو على الجمع أي ألا يمنعنك هؤلاء عن العمل بآيات الله أي القرآن ﴿بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ﴾ الآيات أي بعد وقت انزاله واذ يضاف إليه أسماء الزمان كقولك حينئذ وتومئذ ﴿وادع إلى رَبّكَ﴾ إلى توحيده وعبادته ﴿وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين﴾
﴿ولا تدع مع الله إلها آخر﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما الخطاب في الظاهر للنبي ﷺ والمراد أهل دينه ولأن العصمة لا تمنع النهي والوقف على آخر لازم لأنه لو وصل لصار ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ صفة لآلها آخر وفيه من الفساد ما فيه ﴿كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ أي إلا إياه فالوجه يعبر به عن الذات وقال مجاهد يعني علم العلماء إذا أريد به وجه الله ﴿لَهُ الحكم﴾ القضاء في خلقه ﴿وَإِلَيْهِ يرجعون﴾ بفتح التاء وكسر الجيم يعقوب والله أعلم
سورة العنكبوت مكية وهي تسع وستون آية
بسم الله الرحمن الرحيم