ﰡ
(مكية غير آية وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ حروفها ألف وسبعمائة وثلاثة كلمها ثلاثمائة وثمان وتسعون آياتها ست وتسعون)
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ١ الى ٩٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤)وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤)
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩)
وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤)
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦) وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩)
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤)
إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩)
وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠) وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤)
إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩)
لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤)
فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦) نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩)
نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤)
لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩)
لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤)
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤)
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩)
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤)
إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦)
يُنْزِفُونَ من باب الأفعال: عاصم وحمزة وخلف. الباقون: بفتح الزاء حور عين بجرهما: يزيد وعلي وحمزة عربا بالسكون: حمزة وخلف ويحيى وحماد وإسماعيل أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا كما في «الرعد» إلا ابن عامر فإنه تابع عاصما، وإلا يزيد فإنه تابع قالون شُرْبَ بضم الشين: أبو جعفر ونافع وعاصم وحمزة وسهل. الباقون: بالفتح وكلاهما مصدر قدرنا بالتخفيف: ابن كثير اانا لمغرمون بهمزتين: أبو بكر وحماد.
الآخرون: بهمزة واحدة مكسورة على الخبر. بموقع على الوحدة: حمزة وعلي وخلف تكذبون بالتخفيف: المفضل فروح بضم الراء: قتيبة ويعقوب.
الوقوف:
الْواقِعَةُ هـ لا بناء على أن العامل في الظرف هو ليس ولو كان منصوبا بإضمار «أذكر» أو كان الجواب محذوفا أي إذا وقعت الواقعة كان كيت وكيت صح الوقف كاذِبَةٌ هـ م لئلا يصير ما بعدها صفة رافِعَةٌ هـ لا لتعلق الظرف بخافضة أو لكونه بدلا من الأول رَجًّا هـ لا بَسًّا هـ لا مُنْبَثًّا هـ ثَلاثَةً هـ ط ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ هـ ط لتناهي استفهام التعجب ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ هـ ط السَّابِقُونَ هـ لا بناء على أن السَّابِقُونَ تأكيد والجملة بعده خبر الْمُقَرَّبُونَ هـ ج لاحتمال أن ما بعده خبر مبتدأ محذوف أي هم في جَنَّاتِ النَّعِيمِ هـ الْأَوَّلِينَ هـ لا الْآخِرِينَ هـ لا مَوْضُونَةٍ هـ
هـ تَذَكَّرُونَ هـ تَحْرُثُونَ هـ ط الزَّارِعُونَ هـ تَفَكَّهُونَ هـ لَمُغْرَمُونَ هـ لا مَحْرُومُونَ هـ تَشْرَبُونَ هـ الْمُنْزِلُونَ هـ تَشْكُرُونَ هـ تُورُونَ هـ ط الْمُنْشِؤُنَ هـ لِلْمُقْوِينَ هـ ج الْعَظِيمِ هـ النُّجُومِ هـ لا عَظِيمٌ هـ لا كَرِيمٌ هـ لا مَكْنُونٍ هـ الْمُطَهَّرُونَ هـ ط الْعالَمِينَ هـ مُدْهِنُونَ هـ تُكَذِّبُونَ هـ الْحُلْقُومَ هـ لا تَنْظُرُونَ هـ لا تُبْصِرُونَ هـ مَدِينِينَ هـ لا صادِقِينَ هـ الْمُقَرَّبِينَ هـ لا نَعِيمٍ هـ الْيَمِينِ هـ لا الْيَمِينِ هـ لا الضَّالِّينَ هـ لا حَمِيمٍ هـ لا جَحِيمٍ هـ الْيَقِينِ هـ الْعَظِيمِ هـ
التفسير:
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ نظير قولك حدثت الحادثة «وكانت الكائنة» وهي القيامة التي تقع لا محالة. يقال: وقع ما كنت أتوقعه أي نزل ما كنت أترقب نزوله. واللام في لِوَقْعَتِها للوقت أي لا يكون حين تقع نفس تكذب على الله لأن الإيمان حينئذ بما هو غائب الآن ضروري إلا أنه غير نافع لأنه إيمان اليأس. ويجوز أن يراد ليس لها وقتئذ نفس تكذبها وتقول لها لم تكوني لأن إنكار المحسوس غير معقول. وجوز جار الله أن يكون من قولهم «كذبت فلانا نفسه في الخطب العظيم» إذا شجعته على مباشرته. وقالت له: إنك تطيقه. فيكون المراد أن القيامة واقعة لا تطاق شدة وفظاعة وأن الأنفس حينئذ تحدث صاحبها بما تحدثه به عند عظائم الأمور. وقيل: هي مصدر كالعافية فيؤل المعنى إلى الأول. وقال في الكشاف: هو بمعنى التكذيب من قولهم «حمل على قرنه فما كذب» أي فما جبن وما تثبط، وحقيقته فما كذب نفسه فيما حدثته به من طاقته له. والحاصل من هذا التوجيه أنها إذا وقعت لم تكن لها رجعة ولا ارتداد خافِضَةٌ رافِعَةٌ أي هي تخفض أقواما وترفع آخرين إما لأن الواقعات العظام تكون كذلك كما قال:
وما إن طبنا جبن ولكن | منايانا ودولة آخرينا |
روي أن أهل الجنة يؤخذ بهم إلى جانب اليمين وأهل النار يؤخذ بهم في الشمال
وَالسَّابِقُونَ عرف الخبر للمبالغة كقوله الذين سبقوا إلى ما دعاهم الله إليه من التوحيد والإخلاص والطاعة هم السَّابِقُونَ عرف الخبر للمبالغة كقوله «وشعري شعري» يريد والسابقون من عرف حالهم وبلغك وصفهم، وعلى هذا يحسن الوقف السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ إلى مقامات لا يكشف المقال عنها من الجمال والعارفون يقولون لهم إنهم أهل الله، وفي لفظ السبق أشار إلى ذلك فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ إخفاء حالهم وبيان محل أجسادهم أو هي الجنة الروحانية النورانية ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ أي جماعة كثيرة من لدن آدم إلى أول زمان نبينا صلى الله عليه وسلم. قال أهل الاشتقاق: أصل الثلة من الثل وهو الكسر كما أن الأمة من الأم وهو الشج كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم، ثم اشتق الإمام منه إذ به يحصل الأمة المقتدية به.
وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ أي من هذه الأمة. قال الزجاج: الذين عاينوا جميع النبيين وصدقوا بهم أكثر ممن عاين النبي ﷺ وهاهنا سؤال وهو أنه كيف قال هاهنا وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ وفيما بعده قال وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ والجواب أن الثلتين في آية أصحاب اليمين هما جميعا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. جواب آخر وهو أن يقال: الخطاب في قوله وَكُنْتُمْ أَزْواجاً لأمة محمد ﷺ والأولون منهم هم الصحابة والتابعون كقوله وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ [التوبة: ١] والآخرون منهم هم الذين يلونهم إلى يوم الدين، ولا ريب أن السابقين يكونون في الأولين أكثر منهم في الآخرين. وأما أصحاب اليمين فيوجدون في كلا القبيلين كثيرا وعلى هذا يكون الترتيب المذكور ساقطا ولا نسخ لإمكان اجتماع مضموني الخبرين في الواقع. قال الزجاج وهو قول مجاهد والضحاك يعني جماعة ممن تبع النبي ﷺ وعاينه وجماعة ممن
وروى الواحدي في تفسيره بإسناده عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال «جميع الثلتين من أمتي»
وأجاب بعضهم بأنه لما نزلت الآية الأولى شق على المسلمين فما زال رسول الله ﷺ يراجع ربه حتى نزلت ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ وزيفت هذه الرواية بظهور ورود الآية الأولى في السابقين والثانية في أصحاب اليمين، وبأن النسخ لا يتضح بل لا يصح في الأخبار، وبأن الآية الأولى لا توجب الحزن ولكنها تقتضي الفرح من حيث إنه إذا كان السابقون في هذه الأمة موجودين وإن كانوا قليلين وقد صح أنه لا نبي بعد محمد ﷺ لزم أن يكون بعض الأمة مع محمد ﷺ سابقين فيكونون في درجة الأنبياء والرسل الماضين، ولعل في
قوله «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»
إشارة إلى هذا.
وأقول: عندي أن الجواب الصحيح هو أن السابقين في الأمم الماضية يجب أن يكونوا أكثر لأن فيض الله سبحانه المقدر للنوع الإنساني إذا وزع على أشخاص أقل يكون نصيب كل منهم أوفر مما لو قسم على أشخاص أكثر، ولعلنا قد كتبنا في هذا المعنى رسالة وعسى أن يكون هذا سببا لخاتمة نبينا ﷺ أما أصحاب اليمين وهم أهل الجنة كما قلنا فإنهم كثيرون من هذه الأمة لأنهم كل من آمن بالله ورسوله وعمل صالحا هذا ما سنح في الوقت والله تعالى أعلم بمراده.
ثم وصف حال المقربين بقوله عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ قال المفسرون: أي منسوجة بقضبان الذهب مشبكة بالدر والياقوت وقد دوخل بعضها في بعض كما توضن حلق الدرع أي استقروا على السرر مُتَّكِئِينَ وقوله وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي غلمان لا يهرمون ولا يغيرون قال الفراء: والعرب تقول للرجل إذا كبر ولم يشمط إنه لمخلد. قال: ويقال مخلدون مقرطون من الخلدة وهو القرط. وقيل: هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها، ولا سيئات فيعاقبوا عليها.
قال جار الله: روي هذا عن علي رضي الله عنه.
والحسن قال الحديث «أولاد الكفار خدام أهل الجنة»
والأكواب الأقداح المستديرة الأفواه ولا آذان لها ولا عري، والأباريق ذوات الخراطيم الواحد إبريق وهو الذي يبرق لونه من صفائه. والباقي مفسر في «الصافات» إلى قوله مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ أي يختارون تخيرت الشيء أخذت خيره، قال ابن عباس: يخطر على قلبه الطير فيصير ممثلا بين يديه على ما اشتهى.
ومن قرأ وَحُورٌ عِينٌ بالرفع فمعناه ولهم أو عندهم حور. ومن خفضهما فعلى العطف المعنوي أي يكرمون أو يتنعمون بأكواب وبكذا وكذا. والكاف في قوله كَأَمْثالِ للمبالغة في التشبيه. قوله جَزاءً مفعول له أي يفعل بهم ذلك لأجل الجزاء. قوله وَلا تَأْثِيماً أي لا يقول بعضهم لبعض أثمت لأنهم لا يتكلمون بما فيه إثم. وانتصب سَلاماً على
شجر يشبه طلح الدنيا ولكن له ثمر أحلى من العسل. وفي الكشاف أن عليا عليه السلام أنكره وقال: ما شأن الطلح إنما هو طلع وقرأ قوله لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ فقيل: أو نحو لها؟
قال: آي القرآن لا تهاج اليوم ولا تحول قال: وعن ابن عباس نحوه. قلت: وفي هذه الرواية نظر لا يخفى. والمنضود الذي نضد بالحمل من أوله إلى آخره فليست له ساق بارزة وَظِلٍّ مَمْدُودٍ أي ممتد منبسط كظلي الطلوع والغروب لا يتقلص. ويحتمل أن يراد أنه دائم باق لا يزول ولا تنسخه الشمس، والعرب تقول لكل شيء طويل لا ينقطع إنه ممدود. والمسكوب المصبوب يسكب لهم أين شاؤا وكيف شاؤا، أو يسكبه الله في مجاريه من غير انقطاع، أو أراد أنه يجري على الأرض في خير أخدود لا مَقْطُوعَةٍ في بعض الأوقات وَلا مَمْنُوعَةٍ عن طالبيها بنحو حظيرة أو لبذل ثمن كما هو شأن البساتين والفواكه في الدنيا مَرْفُوعَةٍ أي نضدت حتى ارتفعت أو مرفوعة على الأسرة قاله علي رضي الله عنه. وقيل: هي النساء المرفوعة على الأرائك. والمرأة يكنى عنها بالفراش يدل على هذا قوله إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ وعلى التفسير الأول جعل ذكر الفرش وهي المضاجع دليلا عليهن. ومعنى الإنشاء أنه ابتدأ خلقهن من غير ولادة أو أعاد خلقهن إنشاء. روى الضحاك عن ابن عباس أنهن نساؤنا العجز الشمط يخلقهن الله بعد الكبر والهرم أَبْكاراً عُرُباً جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل أَتْراباً مستويات في السن بنات ثلاث وثلاثين كأزواجهن كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا من غير وجع. وقوله لِأَصْحابِ الْيَمِينِ متعلق بأنشأنا وجعلنا. ثم عجب من أصحاب الشمال. ومعنى فِي سَمُومٍ في حر نار ينفذ في المسام. والحميم الماء الكثير الحرارة. واليحموم الدخان الأسود «يفعول» من الأحم وهو الأسود. ثم نعت الظل بأنه حار ضار لا منفعة فيه ولا روح لمن يأوي إليه.
قال ابن عباس: لا بارد المدخل ولا كريم المنظر. قال الفراء: العرب تجعل الكريم تابعا لكل شيء ينوي به المدح في الإثبات أو الذم في النفي تقول: هو سمين كريم وما هذه الدار بواسعة ولا بكريمة. ثم ذكر أعمالهم الموجبة لهذا العقاب فقال إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ أي في الدنيا مُتْرَفِينَ متنعمين متكبرين عن التوحيد والطاعة والإخلاص وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ وهو الذنب الكبير ووصفه بالعظم مبالغة على مبالغة تقول: بلغ الغلام الحنث أي الحلم ووقت المؤاخذة بالمئاثم وحنث في يمينه خلاف بر فيها. وخص جمع من
الحديث القدسي «أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري»
ومنها أن ذكر السابقين وقع في الوسط باعتبار وخير الأمور أوسطها، وفي الأول باعتبار والأشراف بالتقديم أولى، وفي الآخر باعتبار ليكون إشارة إلى
قوله ﷺ «نحن الآخرون السابقون» «١»
ومنها أن مفهوم السابق متعلق بمسبوق، فما لم يعرف ذات المسبوق لم يحسن ذكر السابق من حيث هو سابق. فهذا ما سنح للخاطر وسمح به والله تعالى أعلم بمراده.
ثم أمر نبيه ﷺ بأن يقرر لهم ما شكوا فيه فقال قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ أي ينتهي أمر جميعهم إلى وقت يَوْمٍ مَعْلُومٍ عند الله وفيه رجوع إلى أول السورة. ولما كرر ذكر المعاد بعبارات شتى ذكر طرفا من حال المكذبين المعاصرين ومن ضاهاهم فقال ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ عن الهدى الْمُكَذِّبُونَ بالبعث لَآكِلُونَ أي في السموم المذكور مِنْ شَجَرٍ هو للابتداء مِنْ زَقُّومٍ هو للبيان فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ أنت الضمير بتأويل الشجرة قال جار الله: عطف الشاربين على الشاربين لاختلافهما اعتبارا وذلك أن شرب الماء المتناهي الحرارة عجيب وشربه كشرب الهيم أعجب. والهيم الإبل التي بها الهيام وإذا شربت فلا تروى واحدها أهيم والمؤنث هيماء وزنه «فعل» كبيض. وجوز أن يكون جمع الهيام بفتح الهاء وهو الرمل الذي لا يتماسك كسحاب وسحب. ثم خفف وفعل به ما فعل بنحو جمع أبيض والمعنى أنه يسلط عليهم الجوع حتى يضطروا إلى أكل الزقوم. ثم يسلط عليهم العطش إلى أن يضطروا إلى شرب الحمم كالإبل الهيم نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ بالبعث بعد الخلق فإن من قدر على البدء كان على الإعادة أقدر. ثم برهن على أنه لا خالق إلا هو فقال أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ
أي في خلق ما لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها، يريد بيان قدرته على إنشائنا في جملة خلق تماثلنا أو خلق لا تماثلنا. وجوز جار الله أن يكون جمع مثل بفتحتين والمعنى إنا قادرون على تغيير صفاتكم التي أنتم عليها وإنشاء صفات لا تعلمونها. ثم ذكرهم النشأة الأولى ليكون تذكيرا بعد تذكير فقال وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الآية. ثم دل على كمال عنايته ورحمته ببريته مع دليل آخر على قدرته قائلا أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ من الطعام أي تبذرون حبه أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أي تجعلونه بحيث يكون نباتا كاملا يستحق اسم الزرع.
وفي الكشاف عن رسول الله ﷺ «لا يقولن أحد زرعت وليقل حرثت»
والحطام ما تحطم وتكسر من الحشيش اليابس. وقوله فَظَلْتُمْ أصله فظللتم حذفت إحدى اللامين للتخفيف وهو مما جاء مستعملا غير مقيس عليه. ومعنى تَفَكَّهُونَ تعجبون كأنه تكلف الفكاهة. وعن الحسن: تندمون على الإنفاق عليه والتعب فيه أو على المعاصي التي تكون سببا لذلك. من قرأ إِنَّا بالخبر فواضح ويحسن تقدير القول أو لا بد منه، ومن قرأ بالاستفهام فللتعجب ولا بد من تقدير القول أيضا. ومعنى لَمُغْرَمُونَ لمهلكون من الغرام الهلاك لهلاك الرزق، أو من الغرامة أي لملزمون غرامة ما أنفقنا بَلْ نَحْنُ قوم مَحْرُومُونَ لا حظ لنا ولو كنا مجدودين لما جرى علينا ما جرى ورفضوا العجب من حالهم، ثم أسندوا ذلك إلى ما كتب عليهم في الأزل من الإدبار وسوء القضاء نعوذ بالله منهما. ثم ذكر دليلا آخر مع كونه نعمة أخرى وهو إنزال الماء من المزن وهو السحاب الأبيض خاصة. والأجاج الماء الملح اكتفى باللام الأولى في جواب «لو» عن إشاعة الثانية وهي ثابتة في المعنى لأن «لو» شرطية غير واضحة ليس إلا أن الثاني امتنع لامتناع الأول وهذا أمر وهمي فاحتيج في الربط إلى الكلام التوكيدي. ويمكن أن يقال: إن المطعوم مقدم على أمر المشروب والوعيد بفقده أشد وأصعب فلهذا خصت آية المطعوم باللام المفيدة
وأعلم أنه سبحانه بدأ في هذه الدلائل بذكر خلق الإنسان لأن النعمة فيه سابقة على جميع النعم. ثم أعقبه بذكر ما فيه قوام الناس وقيام معايشهم وهو الحب، ثم أتبعه الماء الذي به يتم العجين، ثم ختم بالنار التي بها يحصل الخبز، وذكر عقيب كل واحد ما يأتي عليه ويفسده فقال في الأولى نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وفي الثانية لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً وفي الثالثة لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً ولم يقل في الرابعة ما يفسدها بل قال نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً تتعظون بها ولا تنسون نار جهنم كما
روي عن رسول الله ﷺ «ناركم هذه التي يوقدها بنو آدم جزء من سبعين جزءا من جهنم» «١»
وَمَتاعاً وسبب تمتع ومنفعة لِلْمُقْوِينَ للذين ينزلون القواء وهي القفر أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام في السفر من أقوى الرجل إذا لم يأكل شيئا من أيام. وفي نسق هذه الآيات بشارة للمؤمنين وذلك أنه سبحانه بدأ بالوعيد الشديد وهو تغيير ذات الإنسان بالكلية في قوله وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ ثم ترك ذلك المقام إلى أسهل منه وهو تغير قوته ذاتا فقال لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً ثم عقبه بأسهل وهو تغيير مشروبه نعتا لا ذاتا ولهذا حذف اللام في قوله لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً ويحتمل عندي أن يكون سبب حذف اللام هو كون «لو» بمعنى «أن» وذلك أن الماء باق هاهنا فيكون التعليق حقيقة بخلاف الزرع فإنه بعد أن حصد صار التعليق المذكور وهميا فافهم. ثم ختم بتذكير النار وفيه وعد من وجه ووعيد من وجه. أما الأول فلأنه لم يبين ما يفسدها كما قلنا يدل على أن الختم وقع على الرأفة والرحمة. وأما الثاني فلأن عدم ذكر مفسدها يدل على بقائها في الآخرة. وفي قوله تَذْكِرَةً إشارة إلى ما قلنا. ثم أمر بإحداث التسبيح بذكره أو بذكر اسمه العظيم تنزيها له عما يقول الكافرون به وبنعمته وبقدرته على البعث، ثم عظم شأن القرآن بقوله فَلا أُقْسِمُ أي فأقسم والعرب تزيد لا قبل فعل أقسم كأنه ينفي ما سوى المقسم عليه فيفيد
وحين بين أنه لا قدرة لهم على رجع الحياة والنفس إلى البدن وأنهم مجزيون في دار الإقامة فصل حال المكلف بعد الموت قائلا فَأَمَّا إِنْ كانَ المتوفى مِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي من السابقين من الأزواج الثلاثة فَرَوْحٌ أي فله استراحة وهذا أمر يعم الروح والبدن وَرَيْحانٌ أي رزق وهذا للبدن وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وهذا للروح يتنعم بلقاء المليك المقتدر.
ويروى أن المؤمن لا يخرج من الدنيا إلا ويؤتى إليه بريحان من الجنة يشمه
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ أيها النبي مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ أي أنت سالم من شفاعتهم. هذا قول كثير من المفسرين. وقال جار الله: فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين كقوله وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [يونس: ١٠] إِنَّ هذا القرآن أو الذي أنزل في هذه السورة لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ أي الحق الثابت من اليقين وهو علم يحصل به ثلج الصدر ويسمى ببرد اليقين. وقد يسمى العلم الحاصل بالبرهان فالإضافة بمعنى «من» كقولك «خاتم فضة» وهذا في الحقيقة لا يفيد سوى التأكيد كقولك «حق الحق».
«وصواب الصواب» أي غايته ونهايته التي لا وصول فوقه. أو المراد هذا هو اليقين حقا لا اليقين الذي يظن أنه يقين ولا يكون كذلك في نفس الأمر. هذا ما قاله أكثر المفسرين.
وقيل: الإضافة فيه كما في «جانب الغربي» و «مسجد الجامع» أي حق الأمر اليقين. ويحتمل أن تكون الإضافة كما في قولنا «حق النبي أن يصلى عليه» و «حق المال أن تؤدى زكاته» ومنه
قوله ﷺ «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم
أي إلا بحق هذه الكلمة. ومن حقها أداء الزكاة والصلاة فكذلك حق اليقين الاعتراف بما قال الله سبحانه في شأن الأزواج الثلاثة. وعلى هذا يحتمل أن يكون اليقين بمعنى الموت كقوله وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: ٩٢] وقال أهل اليقين: للعلم ثلاث مراتب: أولها علم اليقين وهو مرتبة البرهان، وثانيها عين اليقين وهو أن يرى المعلوم عيانا فليس الخبر كالمعاينة، وثالثها حق اليقين وهو أن يصير العالم والمعلوم والعلم واحدا. ولعله لا يعرف حق هذه المرتبة إلا من وصل إليها كما أن طعم العسل لا يعرفه إلا من ذاقه بشرط أن لا يكون مزاجه ومذاقه فاسدين.
روى جمع من المفسرين أن عثمان بن عفان دخل على ابن مسعود في مرضه الذي مات فيه فقال له: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: ما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال: أفلا ندعو الطبيب؟ قال:
الطبيب أمرضني. قال: أفلا نأمر بعطائك؟ قال: لا حاجة لي فيه. قال: تدفعه إلى بناتك. قال: لا حاجة لهن فيه قد أمرتهن أن يقرأن سورة الواقعة فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول «من قرأ سورة الواقعة كل يوم لم تصبه فاقة أبدا»