مكية، في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء ؛ وقال ابن عباس وقتادة : إلا آية منها نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى :﴿ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ﴾ وقال الكلبي : مكية إلا أربع آيات ؛ منها آيتان ﴿ أفبهذا الحديث أنتم مدهنون وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ﴾ نزلتا في سفره إلى مكة ؛ وقوله تعالى :﴿ ثلة من الأوّلين وثلة من الآخرين ﴾ نزلتا في سفره إلى المدينة، وقدّمنا أنّ في المدني والمكي اصطلاحين، وأنّ المشهور أنّ المكي ما نزل قبل الهجرة ؛ والمدني ما نزل بعدها وهي ست وتسعون آية ؛ قال الجلال المحلي : وهي ست أو سبع أو تسع وتسعون آية وثلاثمائة وثمان وتسعون كلمة، وألف وسبع مئة وثلاثة أحرف.
﴿ بسم الله ﴾ الذي له الكمال كله ففاوت بين الناس في الأحوال ﴿ الرحمن ﴾ الذي عم بنعمة البيان وفاضل في قبولها بين أهل الإدبار وأهل الإقبال ﴿ الرحيم ﴾ الذي قرب أهل حزبه ففازوا بمحاسن الأقوال والأفعال.
ولما قسم سبحانه الناس في تلك السورة إلى ثلاثة أصناف مجرمين وسابقين ولاحقين، شرح أحوالهم في هذه السورة وبين الوقت الذي يظهر فيه إكرامه وانتقامه بقوله تعالى :﴿ إذا وقعت الواقعة ﴾.
ﰡ
﴿ إذا وقعت الواقعة ﴾ أي : التي لا بد من وقوعها ولا واقع يستحق أن يسمى الواقعة بلام الكمال وتاء المبالغة غيرها، وهي النفخة الثانية التي يكون عنها البعث الأكبر الذي هو القيامة الجامعة لجميع الخلق، فسميت واقعة لتحقق وقوعها، وقيل : لكثرة ما يقع فيها من الشدائد، وانتصاب إذا بمحذوف مثل اذكر أو كان كيت وكيت، وقال الجرجاني : إذا صلة كقوله تعالى :﴿ اقتربت الساعة ﴾ [ القمر : ١ ] و﴿ أتى أمر الله ﴾ [ النحل : ١ ] وهو كما يقال : جاء الصوم أي دنا وقرب.
وقوله تعالى :﴿ ليس لوقعتها كاذبة ﴾ مصدر بمعنى الكذب والعرب قد تضع الفاعل والمفعول موضع المصدر كقوله تعالى :﴿ لا تسمع فيها لاغية ﴾ [ الغاشية : ١١ ] أي : لغو والمعنى : ليس لها كذب قاله الكسائي، أو صفة والموصوف محذوف أي : ليس لوقعتها حال كاذبة، أي : كل من يخبر عن وقعتها صادق، أو نفس كاذبة بأن تنفيها كما نفتها في الدنيا وقال الزجاج : ليس لوقعتها كاذبة أي : لا يردها شيء، وقيل : إنّ قيامها جد لا هزل.
وقوله تعالى :﴿ خافضة رافعة ﴾ تقرير لعظمتها وهو خبر لمبتدأ محذوف أي : هي، قال عكرمة ومقاتل : خفضت الصوت فأسمعت من دنا، ورفعت الصوت فأسمعت من نأى يعني : أسمعت القريب والبعيد. وعن السدى خفضت المتكبرين ورفعت المستضعفين.
وقال قتادة : خفضت أقواماً في عذاب الله تعالى ورفعت أقواماً إلى طاعة الله تعالى. وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : خفضت أعداء الله تعالى في النار ورفعت أولياء الله تعالى في الجنة. وقال ابن عطاء : خفضت قوماً بالعدل ورفعت آخرين بالفضل. ولا مانع أنّ كل ذلك موجود فيها والرفع والخفض يستعملان عند العرب في المكان والمكانة والعز والإهانة ؛ ونسب سبحانه وتعالى الخفض والرفع إلى القيامة توسعاً ومجازاً على عادة العرب في إضافتها الفعل إلى المحل والزمان وغيرهما مما لا يمكن منه الفعل، يقولون : ليل قائم ونهار صائم وفي التنزيل :﴿ بل مكر الليل والنهار ﴾ [ سبأ : ٣٣ ] والخافض والرافع في الحقيقة هو الله تعالى، واللام في قوله تعالى :﴿ لوقعتها ﴾ إمّا للتعليل أي : لا تكذب نفس في ذلك اليوم لشدّة وقعتها، وإمّا للتعدية كقولك ليس لزيد ضارب، فيكون التقدير إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها أمر يوجد لها كاذب إذا أخبر عنه.
قال الرازي : وعلى هذا لا تكون ليس عاملة في إذا وهي بمعنى ليس لها كاذب.
﴿ إذا رجت الأرض ﴾ أي : كلها على سعتها وثقلها بأيسر أمر ﴿ رجاً ﴾ أي : حركت تحريكاً شديداً بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل، قال بعض المفسرين : ترتج كما يرتج الصبي في المهد حتى ينهدم ما عليها وينكسر كل شيء عليها من الجبال وغيرها، والرجرجة : الاضطراب، وارتج البحر وغيره واضطرب وفي الحديث :«من ركب البحر حين يرتج فلا ذمة له ». يعني إذا اضطربت أمواجه والظرف متعلق بخافضة أو بدل من إذا وقعت.
ولما ذكر حركتها المزعجة أتبعها غايتها بقوله تعالى :
﴿ وبست الجبال بساً ﴾ أي : فتتت حتى صارت كالسويق الملتوت من بس السويق إذا لتّه ؛ قال ابن عباس ومجاهد : كما يبس الدقيق أي : يلت، والبسيسة السويق، أو الدقيق يلت بالسمن أو الزيت ثم يؤكل ولا يطبخ وقد يتخذ زاداً قال الراجز :
لا تخبزا خبزاً وبسّا بسّا | ولا تطيلا بمناخ حبساً |
أو سيقت وسيرت من بس الغنم إذا ساقها وبست الإبل وأبسستها لغتان إذا زجرتها، وقلت : بس بس قاله أبو زيد ؛ وقال الحسن : بست قلعت من أصلها فذهبت، ونظيرها ينسفها ربي نسفاً.
وقال عطية : بسطت بالرمل والتراب ﴿ فكانت ﴾ أي : بسبب ذلك ﴿ هباء ﴾ أي : غباراً هو في غاية الانسحاق وإلى شدّة لطافته أشار بصفته فقال تعالى :﴿ منبثاً ﴾ أي : منتشر متفرّقاً بنفسه من غير حاجة إلى هواء يفرقه، فهو كالذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل من كوّة ؛ وعن ابن عباس : هو ما تطاير من النار إذا أضرمت يطير منها شرر، فإذا وقع لم يكن شيئاً.
﴿ وكنتم ﴾ أي : قسمتم بما كان في جبلاتكم وطبائعكم في الدنيا ﴿ أزواجاً ﴾ أي : أصنافا ﴿ ثلاثة ﴾ كل صنف يشاكل ما هو منه كما يشاكل الزوج الزوجة ؛ قال البيضاوي : وكل صنف يكون أو يذكر مع صنف آخر زوج.
ثم بين من هم بقوله تعالى :﴿ فأصحاب الميمنة ﴾ وهم الذين يؤتون كتبهم بإيمانهم مبتدأ، وقوله تعالى :﴿ ما ﴾ استفهام فيه تعظيم مبتدأ ثان، وقوله تعالى :﴿ أصحاب الميمنة ﴾ خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر الأوّل، وتكرير المبتدأ بلفظه مغن عن الضمير، ومثله ﴿ الحاقة ١ ما الحاقة ﴾ [ الحاقة : ١ ٢ ] ﴿ القارعة ١ ما القارعة ﴾ [ القارعة : ١ ٢ ] ولا يكون ذلك إلا في مواضع التعظيم.
ولما ذكر الناجين بقسميهم أتبعهم أضدادهم بقوله تعالى :﴿ وأصحاب المشأمة ﴾ أي : الشمال وهم الذي يؤتون كتبهم بشمائلهم وقوله تعالى :﴿ ما أصحاب المشأمة ﴾ تحقير لشأنه بدخولهم النار، وقال السدي :﴿ أصحاب الميمنة ﴾ هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، ﴿ وأصحاب المشأمة ﴾ هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، والمشأمة الميسرة وكذا الشامة والعرب تقول لليد الشمال : الشؤمي، قال البغوي : ومنه سمى الشأم واليمن، لأنّ اليمن عن يمين الكعبة، والشام عن شمالها ؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما :﴿ أصحاب الميمنة ﴾ هم الذين كانوا عن يمين آدم حين أخرجت الذرّية من صلبه، فقال الله تعالى لهم : هؤلاء في الجنة ولا أبالي ؛ وقال زيد بن أسلم : هم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن ؛ وقال ابن جريج :﴿ أصحاب الميمنة ﴾ هم أصحاب الحسنات ﴿ وأصحاب المشأمة ﴾ هم ﴿ أصحاب السيئات ﴾.
وفي صحيح مسلم من حديث الإسراء عن أبي ذر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة قال : فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى قال : فقال : مرحباً بالنبيّ الصالح والابن الصالح، قال : قلت : يا جبريل من هذا ؟ قال : آدم عليه السلام وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه، فأهل اليمين أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار ». وذكر الحديث وقال المبرّد : أصحاب الميمنة : أصحاب التقدّم وأصحاب المشأمة : أصحاب التأخر والعرب تقول اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك، أي : اجعلني من المتقدّمين، ولا تجعلني من المتأخرين.
تنبيه : الفاء في قوله تعالى :﴿ فأصحاب ﴾ تدل على التقسيم وبيان ما ورد عليه التقسيم، كأنه قال : أزواجاً ثلاثة أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون، ثم بين حال كل قسم فقال : فأما أصحاب الميمنة وترك التقسيم أولاً واكتفى بما يدل عليه بأنّ ذكر الأقسام الثلاثة مع أحوالها، فإن قيل : ما الحكمة في اختيار لفظ المشأمة في مقابلة الميمنة مع أنه قال في بيان أحوالهم : وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال ؟ أجيب : بأنّ اليمين وضع للجانب المعروف، واستعملوا منه ألفاظاً في مواضع، فقالوا : هذا ميمون تيمناً به، ووضعوا مقابلة اليمين اليسار من الشيء اليسير إشارة إلى ضعفه، واستعملوا منه ألفاظاً تشاؤماً به فذكر المشأمة في مقابلة الميمنة، وذكر الشمال في مقابلة اليمين، فاستعمل كل لفظ مع مقابلة.
ولما ذكر تعالى القسمين وكان كل منهما قسمين ذكر أعلى أهل القسم الأوّل ترغيباً في حسن حالهم ولم يقسم أهل المشأمة ترهيباً في سوء حالهم فقال تعالى :﴿ والسابقون ﴾ أي : إلى أعمال الطاعة مبتدأ وقوله تعالى :﴿ السابقون ﴾ تأكيد عن المهدوي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«السابقون الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سُئِلوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم ». وقال محمد بن كعب القرظي : هم الأنبياء عليهم السلام، وقال الحسن وقتادة : السابقون إلى الإيمان من كل أمّة ؛ وقال محمد بن سيرين : هم الذين صلوا إلى القبلتين قال تعالى :﴿ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ﴾ [ التوبة : ١٠٠ ] وقال مجاهد والضحاك : هم السابقون إلى الجهاد وأوّل الناس رواحاً إلى الصلاة ؛ وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : هم السابقون إلى الصلوات الخمس ؛ وقال سعيد بن جبير : إلى التوبة وأعمال البرّ، قال تعالى :﴿ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ﴾ [ آل عمران : ١٣٣ ] ثم أثنى عليهم فقال تعالى :﴿ أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ﴾ [ المؤمنون : ٦١ ] وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هم أربعة : منهم سابق أمّة موسى عليه السلام وهو حز قيل مؤمن آل فرعون، وسابق أمّة عيسى عليه السلام وهو حبيب النجار صاحب أنطاكية، وسابقا أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهما : أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال سميط بن عجلان : الناس ثلاثة : رجل ابتكر الخير في حداثة سنه ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا فهذا هو السابق المقرب، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم طول الغفلة ثم رجع بتوبته حتى ختم له بها فهذا من أصحاب اليمين، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم لم يزل عليها حتى ختم له بها فهذا من أصحاب الشمال. وروي عن كعب قال : هم أهل القرآن المتوجون يوم القيامة، وقيل : هم أوّل الناس رواحاً إلى المسجد وأولهم خروجاً في سبيل الله.
وخبر المبتدأ ﴿ أولئك ﴾ أي : العالو الرتبة جداً ﴿ المقرّبون ﴾ أي : الذين قربت درجاتهم في الجنة من العرش وأعليت مراتبهم واصطفاهم الله تعالى للسبق، فأرادهم لقربه ولولا فضله في تقريبهم لم يكونوا سابقين ؛ قال الرازي في اللوامع : المقرّبون تخلصوا من نفوسهم وأعمالهم كلها الله تعالى ديناً ودنيا من حق الله تعالى، وحق الناس وكلاهما عندهم حق الله تعالى، والدنيا عندهم آخرتهم لأنهم يراقبون ما يبدو لهم من ملكوته فيتلقونه بالرضا والانقياد، وهم صنفان : صنف قلوبهم في جلاله وعظمته هائمة قد ملكتهم هيبته فالحق يستعملهم في وصف آخر قد أرخى من عنانه والأمر عليه أسهل لأنه قد جاوز بقلبه هذه الخطة، ومحله أعلى فهو أمين الله تعالى في أرضه فيكون عليه أوسع ا. ه.
ثم بين تقريبه لهم بقوله تعالى :﴿ في جنات النعيم ﴾ أي : الذي لا كدر فيه بوجه ولا منغص.
ولما ذكر السابقين فصلهم بقوله تعالى :
﴿ ثلة ﴾ أي : جماعة وقيدها الزمخشري بالكثيرة وأنشد :
وجاءت إليهم ثلة خندفية | تجيش كتيار من السيل مزبد |
قال ابن عادل : ولم يقيدها غيره بل صرّح بأنها الجماعة ؛ قلت : أو كثرت ثم قال : والكثرة التي فهمها الزمخشري قد تكون من السياق ا. ه. لكن قال البغوي : والثلة جماعة غير محصورة العدد
﴿ من الأولين ﴾ أي : من الأمم السابقة من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم من النبيين عليهم السلام ومن آمن بهم.
﴿ وقليل من الآخرين ﴾ وهم من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كان الأنبياء عليهم السلام مئة ألف ونيفاً وعشرين ألفاً، وكان من خرج مع موسى عليه السلام من مصر وهو مؤمن به من الرجال المقاتلين ممن هو فوق العشرين ودون الثمانين ست مئة ألف، فما ظنك بمن عداهم من الشيوخ ومن دون العشرين من البالغين الصبيان ومن النساء، فكيف بمن عداه من سائر النبيين عليهم السلام المجدّدين من بني إسرائيل وغيرهم. قال البيضاوي : ولا يخالف ذلك قوله عليه الصلاة والسلام :«أمتي يكثرون سائر الأمم ». لجواز أن يكون سابقو سائر الأمم أكثر من سابقي هذه الأمة، وتابعوا هذه الأمّة أكثر من تابعيهم.
قيل : لما نزلت هذه الآية شق على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت ﴿ ثلة من الأوّلين وثلة من الآخرين ﴾ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة بل نصف أهل الجنة وتقاسمونهم في النصف الثاني ». رواه أبو هريرة رضي الله عنه. ذكره الماوردي وغيره ومعناه ثابت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود وكأنه أراد أنها منسوخة ؛ قال الرازي : وهذا في غاية الضعف لأنّ عدد أمة محمد صلى الله عليه وسلم كان في ذلك الزمان بل إلى آخر الزمان بالنسبة إلى ما مضى في غاية القلة والمراد بالأولين الأنبياء وكبار أصحابهم وهم إذا اجتمعوا كانوا أكثر من السابقين من هذه الأمّة ولأنّ هذا خبر والخبر لا ينسخ، وقال الحسن : سابقوا من مضى أكثر من سابقينا فلذا قال تعالى :﴿ وقليل من الآخرين ﴾ وقال في أصحاب اليمين : وهم سوى السابقين ﴿ ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ﴾ ولذا قال صلى الله عليه وسلم «إني لأرجو أن تكون أمتي شطر أهل الجنة ثم تلا ﴿ ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ﴾ ». وروى الطبراني : أنّ الثلة والقليل كلاهما من هذه الأمة فتكون الصحابة كلهم من هذه الثلة، وكذا من تبعهم بإحسان إلى رأس القرن الثالث وهم لا يحصيهم إلا الله تعالى ؛ ومن المعلوم أنه تناقص الأمر بعد ذلك إلى أن صار السابق في الناس أقل من القليل لرجوع الإسلام إلى الحال التي بدأ عليها من الغربة، «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء أي وهم الذين إذا فسد الناس صلحوا، كما فسر به النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال أبو بكر : كلا الثلتين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فمنهم من هو في أول أمته، ومنهم من هو في آخرها، وهو مثل قوله تعالى :﴿ فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ﴾ [ فاطر : ٣٢ ] وقيل : المراد بالأولين ﴿ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ وبالآخرين ﴿ ذرياتهم ﴾ الملحقون بهم في قوله تعالى :﴿ وأتبعتهم ذريتهم بإيمان ﴾ [ الطور : ٢١ ] ألحقنا بهم ذرياتهم، واشتقاق الثلة وهي مبتدأ من الثل وهو القطع والخبر.
﴿ على سرر ﴾ جمع سرير وهو ما يجعل الإنسان من المقاعد العالية المصنوعة للراحة والكرامة
﴿ موضونة ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : منسوجة بالذهب، وقال عكرمة : مشبكة بالدرّ والياقوت ؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً : موضونة، أي : مصفوفة لقوله تعالى في موضع آخر :
﴿ على سرر مصفوفة ﴾ وقيل : منسوجة بقضبان الذهب مشبكة بالدرّ والياقوت، والموضونة المنسوجة، وأصله : من وضنت الشيء أي : ركبت بعضه على بعض، ومنه قيل للدرع موضونة لتركب حلقها قال الأعشى :
ومن نسج داود موضونة | تسير مع الحيّ عيراً فعيراً |
ومنه أيضاً وضين الناقة وهو حزامها لتراكب طاقاته، قال عمر رضي الله عنه : وهو مار بواد محسر.
إليك تعد وقلقاً وضينها | معترضاً في بطنها جنينها |
مخالفاً دين النصارى دينها ***
رواه البيهقي. ومناه أن ناقتي تعدو إليك مسرعة في طاعتك قلقاً، وضينها وهو حبل كالحزام من كثرة السير والإقبال التام والاجتهاد البالغ في طاعتك ؛ والمراد : صاحب الناقة فيسنّ للمار بوادي محسر أن يقول هذا الكلام الذي قاله عمر رضي الله تعالى عنه.
ولما ذكر تعالى السرر وبين عظمتها ذكر غايتها فقال سبحانه :﴿ متكئين عليها ﴾ أي : السرر على الجنب أو غيره كحال من يكون على كرسي فيوضع تحته شيء آخر للاتكاء عليه ﴿ متقابلين ﴾ فلا ينظر بعضهم إلى قفا بعض، وقال مجاهد وغيره : هذا في المؤمن وزوجته وأهله أي : يتكؤون متقابلين، قال الكلبي طول كل سرير ثلث مئة ذراع، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت فإذا جلس عليها ارتفعت وقيل : إنهم صاروا أرواحاً نورانية صافية ليس لهم أدبار ولا ظهور.
تنبيه :﴿ متكئين عليها متقابلين ﴾ حالان من الضمير في على سرر، ويجوز أن تكون حالاً متداخلة فيكون متقابلين حالاً من ضمير متكئين، ثم بين تعالى أنهم في غاية الراحة بقوله تعالى :﴿ يطوف عليهم ولدان مخلدون ﴾.
﴿ يطوف عليهم ﴾ أي : لكفاية كل ما يحتاجون إليه
﴿ ولدان ﴾ أي : على أحسن صورة وزي وهيئة
﴿ مخلدون ﴾ قد حكم الله تعالى ببقائهم على ما هم عليه من الهيئة على شكل الأولاد قال الحسن والكلبي : لا يهرمون ولا يتغيرون، ومنه قول امرئ القيس :
وهل ينعمن إلا سعيد مخلد | قليل الهموم ما يبيت بأوجال |
وقال سعيد بن جبير : مخلدون مقرّطون، يقال للقرط : الخلد، والقرط ما يجعل في الأذنين من الحلق ؛ وقيل : مقرطون أي ممنطقون من المناطق والمنطقة ما يجعل في الوسط ؛ وأكثر المفسرين أنهم على سن واحد أنشأهم الله تعالى لأهل الجنة، يطوفون عليهم نشؤاً من غير ولادة فيها لأنّ الجنة لا ولادة فيها ؛ وقال عليّ بن أبي طالب والحسن البصري رضي الله عنهم : الولدان هاهنا ولدان المسلمين الذي يموتون صغاراً ولا حسنة لهم ولا سيئة ؛ وقال سلمان الفارسي : أطفال المشركين هم خدم أهل الجنة ؛ قال الحسن : لم تكن لهم حسنات يجازون بها ولا سيئات يعاقبون عليها فوضعوا هذا الموضع. والمقصود أن أهل الجنة على أتم السرور والنعمة.
وقوله تعالى :﴿ بأكواب ﴾ متعلق بيطوفون، والأكواب جمع كوب وهي كيزان مستديرة الأفواه بلا عرى ولا خراطيم، لا يعوق الشارب منها عائق عن شرب من أي موضع. أراد منها، فلا يحتاج أن يحول الإناء عن الحالة التي تناوله بها ليشرب، وقوله تعالى :﴿ وأباريق ﴾ جمع إبريق، وهي أوان لها عرى وخراطيم فيها من أنواع المشارب ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، سمى بذلك لبريق لونه من صفائه ﴿ وكأس ﴾ أي : إناء شراب الخمر ﴿ من معين ﴾ أي : خمر صافية صفاء الماء ليس يتكلف عصرها جارية من منبع لا ينقطع أبداً.
فإن قيل : كيف جمع الأكواب والأباريق وأفرد الكأس ؟ أجيب : أنّ ذلك على عادة أهل الشرب فإنهم يعدون الخمر في أوان كثيرة ويشربون بكأس واحد، وفيها مباينتهم أهل الدنيا من حيث أنهم يطوفون بالأكواب والأباريق ولا تثقل عليهم بخلاف أهل الدنيا ﴿ لا يصدّعون عنها ولا ينزفون ﴾.
﴿ لا يصدّعون عنها ﴾ أي : بسببها قال الزمخشري وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها، والصداع : هو الداء المعروف الذي يلحق الإنسان في رأسه، والخمر تؤثر فيه ؛ قال علقمة بن عبدة في وصف الخمر :
تشفى الصداع ولا يؤذيك صالتها | ولا يخالطها في الرأس تدويم |
قال أبو حيان : هذه صفة خمر الجنة كذا قال لي الشيخ أبو جعفر بن الزبير ؛ والمعنى : لا تتصدّع رؤوسهم من شربها فهي لذة بلا أذى بخلاف خمر الدنيا ؛ وقيل : لا يتفرقون عنها
﴿ ولا ينزفون ﴾ أي : تذهب بعقولهم بوجه من الوجوه أي : يفرغ شرابهم من نزفت البئر إذا نزح ماؤها كله ؛ وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بكسر الزاي والباقون بفتحها.
﴿ وفاكهة مما يتخيرون ﴾ أي : يختارون ما يشتهون من الفواكه لكثرتها ؛ وقيل : المعنى : وفاكهة متخيرة مرضية والتخير الاختيار.
﴿ ولحم طير مما يشتهون ﴾ أي : يتمنون ؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما : يخطر على قلبه لحم الطير فيصير ممثلاً بين يديه على ما اشتهى، ويقال : إنه يقع على صحفة الرجل فيأكل منه ما يشتهي ثم يطير فيذهب ؛ فإن قيل : ما الحكمة في تخصيص الفاكهة بالتخيير، واللحم بالاشتهاء ؟ أجيب : بأنّ اللحم والفاكهة إذا حضرا عند الجائع تميل نفسه إلى اللحم، وإذا حضرا عند الشبعان تميل نفسه إلى الفاكهة، فالجائع مشته، والشبعان غير مشته بل هو مختار، وأهل الجنة إنما يأكلون لا من جوع بل للتفكه فميلهم للفاكهة أكثر فيتخيرونها، ولهذا ذكرت في مواضع كثيرة في القرآن بخلاف اللحم، وإذا اشتهاه حضر بين يديه على ما يشتهيه فتميل نفسه إليه أدنى ميل، ولهذا قدم الفاكهة على اللحم.
فإن قيل : الفاكهة واللحم لا يطوف بهما الولدان، والعطف يقتضي ذلك ؟ أجيب : بأنّ الفاكهة واللحم في الدنيا يطلبان في حال الشرب فجاز أن يطوف بهما الولدان فيناولونهم الفواكه الغريبة واللحوم العجيبة لا للأكل بل للإكرام كما يضع المكرم للضيف أنواع الفواكه بيده، أو يكون معطوفاً على المعنى في قوله :﴿ جنات النعيم ﴾ أي : مقرّبون في جنات النعيم وفاكهة ولحم، أي : في هذا النعيم يتقلبون.
ولما لم يكن بعد الأكل والشراب أشهى من النساء قال تعالى :﴿ وحور ﴾ أي : نساء شديدات سواد العيون وبياضها ﴿ عين ﴾ أي : ضخام العيون وقرأ حمزة والكسائي بخفض الاسمين عطفاً على سرر، فإنّ النساء في معنى المتكأ لأنهن يسمين فراشاً، والباقون بالرفع عطفاً على ولدان.
﴿ كأمثال اللؤلؤ المكنون ﴾ أي : المخزون في الصدف المصون الذي لم تمسه الأيدي ولم تقع عليه الشمس والهواء، فيكون في نهاية الصفاء ؛ قال البغوي : ويروى أنه يسطع نور في الجنة فيقولون : ما هذا ؟ فيقال : ثغر حوراء ضحكت في وجه زوجها ويروى أنّ الحوراء إذا مشت يسمع تقديس الخلاخل من ساقها، وتمجيد الأسورة من ساعديها، وأنّ عقد الياقوت يضحك في نحرها، وفي رجليها نعلان من ذهب شراكهما من لؤلؤ يصران بالتسبيح.
ولما بالغ في وصف جزائهم بالحسن والصفاء دل على أنّ أعمالهم كانت كذلك لأنّ الجزاء من جنس العمل فقال تعالى :﴿ جزاء ﴾ أي : فعل ذلك لهم لأجل الجزاء ﴿ بما كانوا يعملون ﴾ أي : يجدّدون عمله على جهة الاستمرار، قالت المعتزلة : هذا يدل على أنّ إيصال الثواب واجب على الله تعالى، لأنّ الجزاء لا يجوز الإخلال به، وأجيبوا بأنه لو صح ما ذكروه لما كان في الوعد بهذه الأشياء فائدة، لأنّ العقل إذا حكم بأنّ ترك الجزاء قبيح، وعلم بالعقل أنّ القبيح من الله تعالى لا يوجد علم أنّ الله تعالى يعطى هذه الأشياء لأنها جزاؤه، وإيصال الجزاء واجب، فكان لا يصح التمدح به.
﴿ لا يسمعون فيها لغواً ﴾ أي : شيئاً مما لا ينفع واللغو الساقط ﴿ ولا تأثيماً ﴾ أي : ما يحصل به الإثم أو النسبة إلى الأثم بل حركاتهم وسكناتهم كلها في رضا الله تعالى ؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما : باطلاً وكذباً ؛ قال محمد بن كعب : ولا تأثيماً أي : لا يؤثم بعضهم بعضاً ؛ وقال مجاهد : لا يسمعون شتماً ولا مأثماً.
وقوله تعالى :﴿ إلا قيلاً ﴾ فيه قولان أحدهما : أنه استثناء منقطع وهذا واضح لأنه لم يندرج تحت اللغو والتأثيم، والثاني : أنه متصل وفيه بعد ؛ قال ابن عادل فكان هذا رأى أنّ الأصل لا يسمعون فيها كلاماً فاندرج عنده فيه ؛ ثم بين تعالى ذلك بقوله :﴿ سلاماً سلاما ﴾ أي قولاً سلاماً، قال عطاء : يحيى بعضهم بعضاً بالسلام، أو تحيهم الملائكة، أو يحييهم ربهم ؛ ودل على دوامه بتكريره فقال تعالى :﴿ سلاما ﴾ ففيه إشارة إلى كثرة السلام عليهم ولهذا لم يكرر في قوله تعالى ﴿ سلام قولاً من رب رحيم ﴾ [ يس : ٥٨ ] وقال القرطبي : السلام الثاني بدل من الأوّل، والمعنى : إلا قولاً يسلم فيه من اللغو.
ولما بين حال السابقين شرع في بيان حال أصحاب اليمين فقال تعالى :﴿ وأصحاب اليمين ﴾ ثم فخم أمرهم وأعلى مدحهم لتعظيم جزائهم فقال تعالى :﴿ ما أصحاب اليمين ﴾ فإن قيل : ما الحكمة في ذكرهم بلفظ أصحاب الميمنة عند تقسيم الأزواج الثلاثة وبلفظ أصحاب اليمين عند ذكر الإنعام ؟ أجيب : بأن ذلك تفنن في العبارة والمعنى واحد.
﴿ في سدر ﴾ أي : شجر نبق
﴿ مخضود ﴾ أي : لا شوك فيه كأنه خضد شوكه أي : قطع ونزع منه ؛ قال ابن المبارك : أخبرنا صفوان عن سليم بن عامر قال : كان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يقولون : إنا لينفعنا الأعراب ومسائلهم ؛ قال : أقبل أعرابي يوماً فقال : يا رسول الله لقد ذكر الله تعالى في القرآن شجرة مؤذية، وما كنت أرى في الجنة شجرة تؤذى صاحبها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
«وما هي ؟ » قال : السدر فإن له شوكاً مؤذياً ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
«أو ليس يقول سدر مخضود خضض الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة، فإنها تنبت ثمراً على اثنين وسبعين لوناً من الطعام ما فيه لون يشبه الآخر » ؛ وقال أبو العالية والضحاك : نظر المسلمون إلى وج وهو واد بالطائف مخصب فأعجبهم سدره فقالوا يا ليت لنا مثل هذا فنزلت. قال أمية بن أبي الصلت يصف الجنة وما فيها :
إن الحدائق في الجنان ظليلة | فيها الكواعب سدرها مخضود |
قال مجاهد :
﴿ في سدر مخضود ﴾ هو الموقر حملاً الذي تنثني أغصانه كثرة حمله من خضض الغصن إذا ثناه وهو رطب ؛ وقال سعيد بن جبير : ثمرها أعظم من القلال.
﴿ وطلح منضود ﴾ أي : منظوم بالجمل من أعلاه إلى أسفله ليست له ساق بارزة متراكم يتركب بعضه على بعض على ترتيب هو في غاية الإعجاب، والطلح جمع الطلحة ؛ قال عليّ وابن عباس رضي الله عنهم وأكثر المفسرين : الطلح شجر الموز واحده طلحة ؛ وقال الحسن : ليس هو موزاً ولكنه شجر له ظل بارد رطب ؛ وقال الفرّاء وأبو عبيدة : شجر عظيم كثير الشوك والطلح كل شجر عظيم له شوك ؛ وقال الزجاج : هو شجر أم غيلان ؛ قال مجاهد : ولكن ثمرها أحلى من العسل، وقال الزجاج : لها نور طيب جدّاً خوطبوا ووعدوا بما يحبون مثله إلا أنّ فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا ؛ وقال السدي : طلح الجنة يشبه طلح الدنيا لكن له ثمر أحلى من العسل ؛ وقال مسروق : أشجار الجنة من عروقها إلى أفنانها نضيدة ثمر كله كلما أكلت ثمرة عاد مكانها أحسن منها.
﴿ وظل ممدود ﴾ أي : دائم لا يزول ولا تنسخه الشمس لقوله تعالى :
﴿ ألم تر إلى ربك كيف مد الظلّ ولو شاء لجعله ساكناً ﴾ [ الفرقان : ٤٥ ] كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس ؛ وقيل : الظل ليس ظلّ أشجار بل ظلّ يخلقه الله تعالى، قال الربيع بن أنس رضي الله عنه : يعني ظلّ العرش ؛ وقال عمرو بن ميمون رضي الله عنه : مسيرة سبعين ألف سنة ؛ وقال أبو عبيدة : تقول العرب للدهر الطويل والعمر الطويل والشيء الذي لا ينقطع ممدود قال الشاعر :
غلب العزاء وكان غير مغلب | دهر طويل دائم ممدود |
وفي صحيح الترمذي وغيره، عن أبي هريرة رضي الله عنه : عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :
«في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مئة عام لا يقطعها، واقرؤوا إن شئتم ﴿ وظلّ ممدود ﴾ » في هذا الحديث ردّ على من يقول : إنّ الأشجار لا ظل لها وقد سئل السبكي عن الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولاً إذا تراءت له شجرة يقول : يا رب أدنني من هذه لأستظل في ظلها، الحديث من أيّ شيء يستظل والشمس قد كورت ؟ أجاب بقوله تعالى :
﴿ وظلّ ممدود ﴾ وبقوله تعالى :
﴿ هم وأزواجهم في ظلال ﴾ [ يس : ٥٦ ] إذ لا يلزم من تكوير الشمس عدم الظل لأنه مخلوق لله تعالى وليس بعدم بل أمر وجودي له نفع بإذن الله تعالى في الأبدان وغيرها. فليس الظل عدم الشمس كما قد يتوهم ؛ وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى :
﴿ وظلّ ممدود ﴾ قال شجرة في الجنة يخرج إليها أهل الجنة فيتحدّثون، ويشتهي بعضهم لهو الدنيا فيرسل الله تعالى عليهم ريحاً من الجنة فتتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا.
﴿ وماء مسكوب ﴾ أي : جار في منازلهم في غير أخدود لا يحتاجون فيه إلى جلب ماء من الأماكن البعيدة ولا إدلاء في بئر كأهل البوادي، فإن العرب كانت أصحاب بادية وبلاد حارّة، وكانت الأنهار في بلادهم عزيزة لا يصلون إلى الماء إلا بالدلو والرشاء فوعدوا في الجنة خلاف ذلك.
﴿ فاكهة كثيرة ﴾ أي : أجناسها وأنواعها وأشخاصها.
﴿ لا مقطوعة ولا ممنوعة ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا تنقطع إذا جنيت، ولا تمتنع من أحد إذ أراد أخذها، وقال بعضهم : لا مقطوعة بالأزمان ولا ممنوعة بالأثمان كما تنقطع أكثر ثمار الدنيا إذا جاء الشتاء، ولا يتوصل إليها إلا بالثمن ؛ وقيل : لا يمنع من أرادها شوك ولا بعد ولا حائط بل إذا اشتهاها العبد دنت منه حتى يأخذها، قال تعالى ﴿ قطوفها دانية ﴾ [ الحاقة : ٢٣ ] وجاء في الحديث :«ما قطع من ثمار الجنة إلا أبدل الله تعالى مكانها ضعفين ».
ولما كان التفكه لا يكمل الالتذاذ به إلا مع الراحة قال تعالى :﴿ وفرش مرفوعة ﴾ أي : رفيعة القدر يقال : ثوب رفيع، أي : عزيز مرتفع القدر والثمن بدليل قوله تعالى :﴿ متكئين على فرش بطائنها من إستبرق ﴾ [ الرحمن : ٥٤ ] فكيف ظهائرها أو مرفوعة فوق السرر بعضها فوق بعض ؛ روى الترمذي عن أبي سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى :﴿ وفرش مرفوعة ﴾ قال :«ارتفاعها كما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام ». قال : حديث غريب ؛ وقيل : هي كناية عن النساء كما كنى عنهن باللباس، أي : ونساء مرتفعات الأقدار في حسنهن وكمالهن، والعرب تسمى المرأة فراشاً ولباساً على الاستعارة.
دليل هذا التأويل قوله تعالى :﴿ إنا ﴾ أي : بمالنا من العظمة التي لا يتعاظمها شيء ﴿ أنشاناهن ﴾ أي : الفرش التي معناها النساء من أهل الدنيا بعد الموت بالبعث وزاد في التأكيد فقال تعالى :﴿ إنشاء ﴾ أي : خلقاً جديداً من غير ولادة بل جمعناهن من التراب كسائر بني آدم، ليكونوا كأبيهم آدم عليه السلام في خلقه من تراب، لتكون الإعادة كالبداءة ولذلك يكون الكل عند دخول الجنة على شكله عليه السلام، وروى النحاس بإسناده أن أم سلمة سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى :﴿ إنا أنشأناهن إنشاء ﴾ فقال :«هن اللواتي قبضن في الدنيا عجائز شمطاً عمشاً رمصاً جعلهن الله تعالى بعد الكبر أتراباً على ميلاد واحد في الاستواء ». وروى أنس بن مالك رضي الله عنه يرفعه في قوله تعالى ﴿ إنا أنشأناهن إنشاء ﴾ قال : هن العجائز العمش الرمص كنّ في الدنيا عمشاً رمصاً. وعن المسيب بن شريك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى :﴿ إنا أنشأناهن إنشاء ﴾ قال :«هن عجائز الدنيا أنشأهن الله تعالى خلقاً جديداً كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكاراً » فلما سمعت عائشة رضي الله عنها ذلك قالت واوجعاه فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ليس هناك وجع ». وعن الحسن رضي الله عنه قال : أتت عجوز النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة فقال :«يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز، قال : فولت تبكي، فقال : أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله تعالى يقول ﴿ إنا أنشأناهن إنشاء ﴾ »
﴿ فجعلناهن ﴾ أي : الفرش المنشآت وغيرهن بعظمتنا المحيطة بكل شيء ﴿ أبكاراً ﴾ أي عذارى كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن عذارى ولا وجع ؛ وذكر المسيب عن غيره : أنهن فضلن على الحور العين بصلاتهن في الدنيا ؛ وقال مقاتل وغيره : هن الحور العين أنشأهن الله تعالى لم تقع عليهن الولادة.
وقوله تعالى :
﴿ عرباً ﴾ جمع عروب كصبور وصبر وهي الغنجة المحببة إلى زوجها، وقال الرازي في اللوامع : الفطنة بمراد الزواج كفطنة العرب ؛ وقيل : الحسناء ؛ وقيل : المحسنة لكلامها ؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هن العواتق. وأنشدوا
وفي الخباء عروب غير فاحشة | ريا الروادف يعشى دونها البصر |
وقرأ حمزة وشعبة : بسكون الراء والباقون بضمها كرسل ورسل وفرش وفرش وقوله تعالى :
﴿ أتراباً ﴾ جمع ترب، وهو المساوي لك في سنك لأنه يمس جلدهما التراب في وقت واحد، وهو آكد في الائتلاف، وهو من الأسماء التي لا تتعرّف بالإضافة، لأنه في معنى الصفة إذ معناه مساويك، ومثله : خدنك لأنه بمعنى مصاحبك ؛ قال القرطبي : سن واحد وهو ثلاث وثلاثون سنة ؛ يقال في النساء : أتراب، وفي الرجال : أقران ؛ وكانت العرب تميل إلى من جاوزت حدّ الفتى من النساء، وانحطت عن الكبر ؛ وقال مجاهد : الأتراب الأمثال والأشكال. وقال السدّي : أتراب في الأخلاق لا تباغض فيهن ولا تحاسد، وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
«يدخل أهل الجنة الجنة جرداً مرداً بيضاً محجلين أبناء ثلاثين أو قال ثلاثاً وثلاثين على خلق آدم عليه السلام ستون ذراعاً في سبعة أذرع ». وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :
«من مات من أهل الجنة من صغير وكبير يردون بنى ثلاثين سنة في الجنة لا يزيدون عليها أبداً وكذلك أهل النار ». وعن أبي سعيد الخدري : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
«أدنى أهل الجنة الذي له ثمانون ألف خادم، واثنان وسبعون ألف زوجة، وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية وصنعاء، ينظر وجهه في خدّها أصفى من المرآة وإن أدنى لؤلؤة عليها تضئ ما بين المشرق والمغرب، وأنه ليكون عليها سبعون ثوباً ينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك ». وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن أدنى أهل الجنة منزلة وما منهم دنيء لمن يغدو عليه ويروح عشرة آلاف خادم مع كل واحد منهم ظريفة ليست مع صاحبه.
«وفي تعلق اللام في قوله تعالى :﴿ لأصحاب اليمين ﴾ وجهان أحدهما : أنّها متعلقة بأنشأناهن أي : لأجل أصحاب اليمين والثاني : أنها متعلقة بأتراباً كقولك : هذا ترب لهذا أي : مساو له.
ثم بينهم بقوله تعالى :﴿ ثلة من الأولين ﴾ أي : من أصحاب اليمين.
﴿ وثلة ﴾ أي : منهم ﴿ من الآخرين ﴾ فلم يبين فيهم قلة ولا كثرة، قال البقاعي : والظاهر أنّ الآخرين أكثر فإن وصف الأولين بالكثرة لا ينافي كون غيرهم أكثر ليتفق مع قول النبيّ صلى الله عليه وسلم «أن هذه الأمة ثلثا أهل الجنة فإنهم عشرون ومائة صف هذه الأمة منهم ثمانون صفاً وأربعون من سائر الأمم ». وعن عروة بن رويم قال : لما نزل قوله تعالى :﴿ ثلة من الأوّلين وقليل من الآخرين ﴾ بكى عمر وقال : يا نبيّ الله آمنا برسول الله وصدقناه ومن ينجو منّا قليل فأنزل الله تعالى :﴿ ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ﴾ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر فقال : قد أنزل الله تعالى فيما قلت فقال عمر : رضينا عن ربنا وتصديق نبينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من آدم إلينا ثلة ومنا إلى يوم القيامة ثلة ولا يستتمها الأسود من رعاة الإبل ممن قال لا إله إلا الله ».
وعن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه : قال :«عرضت عليّ الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد، ورفع إلي سواد عظيم فقلت إنهم أمتي، فقيل لي : هذا موسى وقومه ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي : هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب فتفرق الناس، ولم يبين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكر أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : أما نحن فولدنا في الشرك ولكنّا آمنا بالله ورسوله، ولكن هؤلاء هم أبناؤنا، فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك فقال :«هم الذين لا يتطيرون، ولا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة ابن محصن فقال : ادع الله تعالى أن يجعلني منهم، فقال : أنت منهم ثم قام رجل آخر فقال ادع الله أن يجعلني منهم، فقال : سبقك بها عكاشة ». والرهط دون العشرة وقيل إلى الأربعين. وعن عبد الله بن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«عرضت عليّ الأنبياء الليلة باتباعها حتى أتى على موسى في كبكبة بني إسرائيل فلما رأيتهم أعجبوني فقلت : أي رب من هؤلاء ؟ قيل : هو أخوك موسى ومن معه من بني إسرائيل، قلت : يا رب وأين أمتي ؟ قيل : انظر عن يمينك فنظرت فإذا ظراب مكة قد سدّ بوجوه الرجال، فقال : هؤلاء أمتك أرضيت ؟ فقلت : رضيت رب، قيل : انظر عن يسارك فنظرت فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال، فقيل : هؤلاء أمتك أرضيت ؟ قلت : رب رضيت فقيل : إن مع هؤلاء سبعين ألفاً يدخلون الجنة لا حساب عليهم، فقال صلى الله عليه وسلم إن استطعتم أن تكونوا من السبعين فكونوا، وإن عجزتم وقصرتم فكونوا من أهل الظراب، فإن عجزتم فكونوا من أهل الأفق، فإني قد رأيت أناساً يتهاوشون كثيراً ». وعن عبد الله بن مسعود قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة نحواً من أربعين فقال :«أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة ؟ قلنا : نعم، قال : أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟ قلنا : نعم، قال : والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر ». وتقدم في الحديث المار أنهم ثلثا أهل الجنة ولا منافاة لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أولاً بالقليل ثم أطلعه الله تعالى على الزيادة.
ولما أتم وصف أصحاب الجنة أتبعه أضدادهم بقوله تعالى :﴿ وأصحاب الشمال ﴾ أي : الجهة التي تتشاءم العرب بها ويعبر بها عن الشيء الأخس والحظ الأنقص قال البقاعي : والظاهر أنهم أدنى أصحاب المشأمة كما أن أصحاب اليمين دون السابقين من أصحاب الميمنة ثم عظم ذمهم ومصابهم فقال تعالى :﴿ ما أصحاب الشمال ﴾ أي : أنهم بحال من الشؤم هو جدير بأن يسأل عنه وسماهم بذلك لأنهم يأخذون كتبهم بشمالهم.
ثم بين متقلبهم وما أعدّ لهم من العذاب فقال تعالى :﴿ في سموم ﴾ أي : ريح حارة من النار تنفذ في المسام ﴿ وحميم ﴾ أي : ماء حار بالغ في الحرارة إلى حدّ يذيب اللحم.
﴿ وظل من يحموم ﴾ أي : دخان أسود كالحمم أي الفحم شديد السواد ؛ وقيل : النار سوداء وأهلها سود وكل شيء فيها أسود ؛ وقيل : اليحموم اسم من أسماء النار ؛ قال الرازي : وفي الأمور الثلاثة إشارة إلى كونهم في العذاب دائماً لأنهم إن تعرضوا لمهب الهواء أصابهم السموم، وإن استكنوا كما يفعل الذي يدفع عن نفسه السموم بالاستكنان بالكن يكونون في ظلّ من يحموم، وإن أرادوا التبرّد بالماء من حرّ السموم يكون الماء من حميم فلا انفكاك لهم من العذاب ؛ أو يقال : أن السموم تضربه فيعطس وتلتهب نار السموم في أحشائه فيشرب الماء فيقطع أمعاءه فيريد الاستظلال بظل فيكون ذلك الظل اليحموم ؛ وذكر السموم والحميم دون النار تنبيهاً بالأدنى على الأعلى كأنه قال أبرد الأشياء في الدنيا حارّ عندهم فكيف أحرّها ؟
وقوله تعالى ﴿ لا بارد ﴾ أي : ليروح النفس ﴿ ولا كريم ﴾ أي : ليؤنس به ويلجأ إليه صفتان للظل كقوله تعالى :﴿ من يحموم ﴾ وقال الضحاك : لا بارد أي : كغيره من الظلال بل حار لأنه من دخان شفير جهنم ولا كريم عذب ؛ وقال سعيد بن المسيب : ولا حسن منظره وكل شيء لا خير فيه ليس بكريم فسماه ظلاً ونفى عنه برد الظل وروحه ونفعه من يأوى إليه من أذى الحرّ، وذلك كرمه ليمحو ما في مدلول الظن من الاسترواح إليه، والمعنى : أنه ظل حارّ ضارّ إلا أن للنفي في نحو هذا شأناً ليس للإثبات وفيه تهكم بأصحاب المشأمة
وأنهم لا يستأهلون الظل البارد الكريم الذي هو لأضدادهم في الجنة.
ثم بين استحقاقهم لذلك بقوله تعالى :﴿ إنهم كانوا ﴾ أي : في الدنيا ( قبل ذلك ) أي الأمر العظيم الذي وصلوا إليه ﴿ مترفين ﴾ أي : أنهم إنما استحقوا هذه العقوبة لأنهم كانوا في الدنيا في سعة من العيش متمكنين في الشهوات مستمتعين بها متمكنين منها.
﴿ وكانوا يصرّون ﴾ أي : يقيمون ويديمون على سبيل التجديد لما لهم من الميل الجبلي إلى ذلك ﴿ على الحنث ﴾ أي : الذنب ويعبر بالحنث عن البلوغ ومنه قولهم : لم يبلغوا الحنث، وإنما قيل ذلك لأنّ الإنسان عند بلوغه إليه يؤاخذ بالحنث أي : الذنب، وتحنث فلان أي : جانب الحنث، وفي الحديث :«كان يتحنث بغار حراء » أي : يتعبد لمجانبة الإثم نحو خرج فتفعل في هذه كلها للسلب.
ولما كان ذلك قد يكون من الصغائر التي تغفر قال تعالى :﴿ العظيم ﴾ أي : وهو الشرك قاله الحسن والضحاك ؛ وقال مجاهد : هو الذنب الذي لا يتوبون منه ؛ وقال الشعبي : هو اليمين الغموس وهو من الكبائر يقال حنث في يمينه، أي : لم يبرها ورجع فيها، وكانوا يقسمون أن لا بعث وأنّ الأصنام أنداد الله تعالى فذلك حنثهم، فإن قيل : الترفه هو التنعم وذلك لا يوجب ذمّاً ؟ أجيب : بأنّ الذمّ إنما حصل بقوله تعالى :﴿ وكانوا يصرّون على الحنث العظيم ﴾ فإن صدور المعاصي ممن كثرت النعم عليه أقبح القبائح وفي الآية مبالغات، لأنّ قوله تعالى :﴿ يصرون ﴾ يقتضي أنّ ذلك عادتهم والإصرار مداومة المعصية ولأنّ الحنث أبلغ من الذنب لأن الذنب يطلق على الصغيرة ويدل على ذلك قولهم : بلغ الحنث أي : بلغ مبلغاً تلحقه فيه الكبيرة، ووصفه بالعظيم يخرج الصغائر فإنها لا توصف بذلك ؛ قال الرازي : والحكمة في ذكره سبب عذابهم ولم يذكر في أصحاب اليمين سبب ثوابهم فلم يقل إنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين وذلك تنبيه على أنّ الثواب منه فضل والعقاب منه عدل، والفضل سواء ذكر سببه أو لم يذكر يتوهم بالتفضل نقص وظلم، وأما العدل إن لم يعلم سبب العقاب يظن أنّ هناك ظلماً، ويدل على ذلك أنه تعالى لم يقل في حق أصحاب اليمين ﴿ جزاء بما كانوا يعملون ﴾ كما قال في السابقين لأنّ أصحاب اليمين نجوا بالفضل العظيم لا بالعمل بخلاف من كثرت حسناته يحسن إطلاق الجزاء في حقه.
﴿ وكانوا ﴾ أي : زيادة على ما ذكر ﴿ يقولون ﴾ أي : إنكاراً مجددين لذلك دائماً عناداً ﴿ أئذا ﴾ أي أنبعث إذا ﴿ متنا وكنا ﴾ أي كوناً ثابتاً ﴿ تراباً وعظاماً ﴾ ثم أعادوا الاستفهام تأكيداً لإنكارهم فقالوا :﴿ أئنا لمبعوثون ﴾ أي : كائن وثابت بعثنا ساعة من الدهر وأكدوا ليكون إنكارهم لما دون ذلك بطريق الأولى وقرأ قالون أئذا بتحقيق الهمزة الأولى، المفتوحة وتسهيل الثانية المكسورة وإدخال ألف بينهما وكسر الميم من متنا وهمزة واحدة مكسورة في أئنا، وقرأ ورش بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية ولا إدخال بينهما وكسر ميم متنا وهمزة واحدة مكسورة في أئنا مع النقل عن أصله ؛ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : بالاستفهام فيهما مع تسهيل الثانية إلا أنّ أبا عمرو يدخل بينهما ألفاً فيهما وابن كثير لا يدخل ألفاً وضما ميم متنا.
﴿ أو آباؤنا ﴾ أي : أو تبعث آباؤنا ﴿ الأولون ﴾ أي : الذين قد بليت مع لحومهم عظامهم فصاروا كلهم تراباً ولاسيما أن حملتهم السيول ففرّقت أعضاءهم وذهبت بها في الآفاق ؛ فإن قيل : كيف حسن العطف على المضمر في لمبعوثون من غير تأكيد بنحن ؟ أجيب بأنه حسن للفاصل الذي هو الهمزة كما حسن في قوله تعالى :﴿ ما أشركنا ولا آباؤنا ﴾ [ الأنعام : ١٤٨ ] لفصل لا المؤكدة للنفي، وقرأ قالون وابن عامر : بسكون الواو من أو والباقون بفتحها.
ثم ردّ الله تعالى عليهم قولهم ذلك بقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ﴾.
﴿ قل ﴾ أي : لهؤلاء ولكل من كان مثلهم وأكد لإنكارهم ﴿ إن الأولين ﴾ أي : الذين جعلتم الاستبعاد فيهم وهم الآباء ﴿ والآخرين ﴾ وهم الأبناء.
﴿ لمجموعون ﴾ أي : في المكان الذي يكون فيه الحساب ﴿ إلى ميقات يوم ﴾ أي : زمان ﴿ معلوم ﴾ أي : معين عند الله تعالى وهو يوم القيامة إذ هو من شأنه أن يعلم بما عليه من الأمارات والميقات ما وقت به الشيء من زمان أو مكان إلى حد.
﴿ ثم إنكم ﴾ أي : بعد هذا الجمع ﴿ أيها الضالون ﴾ أي : الذين غلبت عليهم الغباوة فهم لا يفهمون فضلوا عن الهدى ثم اتبع ذلك ما أوجب الحكم عليهم بالضلال فقال تعالى :﴿ المكذبون ﴾ بالبعث والخطاب لأهل مكة ومن في مثل حالهم.
﴿ لآكلون من شجر من زقوم ﴾ وهو من أخبث الشجر المر بتهامة ينبتها الله تعالى في الجحيم فهو في غاية الكراهة وبشاعة المنظر ونتن الرائحة وقد مرّ الكلام على ذلك في الصافات.
تنبيه : من الأولى لابتداء الغاية والثانية لبيان الشجر
﴿ فمالؤن ﴾ أي : ملأ هو في غاية الثبات وأنتم في غاية الإقبال عليه مع ما هو عليه من عظيم الكراهة ﴿ منها ﴾ أي : الشجر وأنثه لأنه جمع شجرة وهو اسم جنس، قال البقاعي : وهم يكرهون الإناث فتأنيثه والله أعلم زيادة في تنفيرهم ؛ وقال الزمخشري : أنت ضمير الشجر على المعنى وذكره على اللفظ في قوله :﴿ منها ﴾ وعليه وهو لف ونشر مرتب ﴿ البطون ﴾ أي : يضطركم إلى تناول هذا الكريه حتى تملؤا بطونكم منه.
ثم لما بين أكلهم أتبعه مشربهم فقال تعالى :﴿ فشاربون عليه ﴾ أي : الأكل أو الزقوم ﴿ من الحميم ﴾ لأجل مرارته وحرارته يحتاجون إلى شرب الماء فيشربون من الماء الحار.
﴿ فشاربون ﴾ أي : منه ﴿ شرب الهيم ﴾ أي : الإبل العطاش وهو جمع هيمان للذكر وهيمى للأنثى كعطشان وعطشى، والهيام : داء معطش تشرب الإبل منه إلى أن تموت أو تسقم سقماً شديداً ؛ وقيل : إنه جمع هائم وهائمة من الهيام أيضاً إلا أن جمع فاعل وفاعلة على فعل قليل نحو نازل ونزل وعائد وعود ؛ وقيل : إنه جمع هيام بفتح الهاء وهو الرمل غير المتماسك الذي لا يروى من الماء أصلاً فيكون مثل سحاب وسحب بضمتين ثم خفف بإسكان عينه ثم كسرت فاؤه لتصح الباء كما فعل بالذي قبله، والمعنى : أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرّهم إلى أكل الزقوم الذي هو كالمهل فإذا ملؤوا منه البطون سلط عليهم من العطش ما يضطرّهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاؤهم فيشربون منه شرب الهيم.
فإن قيل : كيف صح عطف الشاربين على الشاربين وهما لذوات متفقة وصفتان متفقتان فكان عطفاً للشيء على نفسه ؟ أجيب : بأنهما ليستا بمتفقتين من حيث أن كونهم شاربين الحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة وقطع أمعائهم أمر عجيب فشربهم له على ذلك كما يشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضاً فكانتا صفتين مختلفتين ؛ وقرأ نافع وعاصم وحمزة : بضم الشين والباقون بفتحها.
﴿ هذا ﴾ أي : ما ذكر ﴿ نزلهم ﴾ أي : ما يعدّ لهم أول قدومهم مكان ما يعد للضيف أول حلوله كرامة له ﴿ يوم الدين ﴾ أي : الجزاء الذي هو حكمة القيامة وإذا كان هذا نزلهم فما ظنك بما يأتي بعدما استقرّوا في الجحيم وفي هذا تهكم كما في قوله تعالى :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾ [ آل عمران : ٢١ ] فإن النزل ما يعد للنازل تكرمة له.
ثم استدل على منكري البعث بقوله تعالى :﴿ نحن ﴾ أي : لا غيرنا ﴿ خلقناكم ﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿ فلولا ﴾ تحضيض، أي : فهلا ﴿ تصدقون ﴾ أي : بالبعث فإن الإعادة أسهل من الابتداء ؛ وقيل : نحن خلقنا رزقكم فهلا تصدقون أن هذا طعامكم إن لم تؤمنوا ؛ ومتعلق التصديق محذوف تقديره : فلولا تصدّقون بخلقنا.
﴿ أفرأيتم ﴾ أي : أخبروني هل رأيتم بالبصر والبصيرة ﴿ ما تمنون ﴾ أي : تصبون من المنيّ في أرحام النساء.
﴿ أأنتم تخلقونه ﴾ أي : توجدونه مقدراً على ما هو عليه من الاستواء، والحكمة بعد خلقه من صورة النطفة إلى صورة العلقة ثم من صورة العلقة إلى صورة المضغة ثم منها إلى صورة العظام والأعصاب ﴿ أم نحن ﴾ أي : خاصة ﴿ الخالقون ﴾ أي الثابت لنا ذلك وقرأ أفرأيتم في الثلاثة مواضع نافع بتسهيل الهمزة التي هي عين الكلمة، ولو رش وجه ثان وهو أبدالها ألفاً، وأسقطها الكسائي، والباقون بالتحقيق، وقرأ أأنتم في الثلاثة المواضع نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بخلاف عن هشام، وأدخل بينهما ألفاً، قالون وأبو عمرو وهشام، ولم يدخل بينهما ورش وابن كثير ولو رش وجه ثان وهو إبدال الثانية ألفا والباقون بتحقيقهما مع عدم الإدخال بينهما.
ولما كان الجواب قطعاً أنت الخالق وحدك أكد ذلك بقوله تعالى :﴿ نحن ﴾ أي : بمالنا من العظمة لا غيرنا ﴿ قدرنا ﴾ أي : تقديراً عظيماً لا يقدر سوانا على نقص شيء منه، ﴿ بينكم الموت ﴾ أي قسمنا عليكم فلم نترك أحداً منكم بغير حصة منه، وأقتنا موت كل بوقت معين لا يتعداه، فقصرنا عمر هذا وربما كان في الأوج من قوّة البدن وصحة المزاج فلو اجتمع الخلق لهم على إطالة عمره ما قدروا أن يؤخروه لحظة، وأطلنا عمر هذا وربما كان في الحضيض من ضعف البدن واضطراب المزاج فلو تمالؤا على تقصيره طرفة عين لعجزوا.
وقرأ ابن كثير بتخفيف الدال والباقون بالتشديد ﴿ وما نحن ﴾ أي : على ما لنا من العظمة ﴿ بمسبوقين ﴾ أي : بالموت أي : لا عاجزين ولا مغلوبين.
﴿ على ﴾ أي : عن ﴿ أن نبدّل ﴾ أي تبديلاً عظيماً ﴿ أمثالكم ﴾ أي : صوركم وأشخاصكم ﴿ وننشئكم ﴾ أي إنشاء جديداً بعد تبديل ذواتكم ﴿ في ما لا تعلمون ﴾ فإنّ بعضكم تأكله الحيتان أو السباع أو الطيور فننشئ أبدانه منها، وبعضهم يصير تراباً فربما نشأ منه نبات فأكلته الدواب فنشأت منه أبدانها وربما صار ترابه من معادن الأرض الذهب والفضة والحديد والنحاس والحجر ونحو ذلك وقد لمح إلى ذلك قوله تعالى :﴿ قل كونوا حجارة أو حديداً ﴾ [ الإسراء : ٥٠ ] إلى آخرها ويكون المعنى كما قال البغوي : نأت بخلق مثلكم بدلاً منكم ونخلقكم فيما لا تعلمون من الصور أي : بتغيير أوصافكم وصوركم إلى صور أخرى بالمسخ ومن قدر على ذلك قدر على الإعادة وقال الطبري : معنى الآية نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم بعد موتكم بآخرين من جنسكم، وما نحن بمسبوقين في آجالكم أي : لا يتقدّم متأخر ولا يتأخر متقدم، وننشئكم فيما لا تعلمون من الصور وقال الحسن : أي نجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بأقوام قبلكم، وقيل : المعنى : ننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا فنجمل المؤمن ببياض وجهه ونقبح الكافر بسواد وجهه «فائدة » في ما مقطوعة في الرسم.
﴿ ولقد علمتم النشأة الأولى ﴾ أي : الترابية لأبيكم آدم عليه السلام، واللحمية لأمكم حواء رضي الله عنها والنطفية لكم وكل منها تحويل من شيء إلى آخر غيره، فما الذي شاهدتم قدرته على ذلك لا يقدر على تحويلكم بعد أن تصيروا تراباً إلى ما كنتم عليه أولاً من الصور ولهذا سبب عما تقدم قوله تعالى :﴿ فلولا ﴾ أي : فهلا ولم لا ﴿ تذكرون ﴾ أي تذكراً عظيماً تكرهون أنفسكم عليه فتعلمون أن من قدر على النشأة الأولى قدر على الثانية فإنها أقل ضعفاً لحصول المواد وتخصيص الأجزاء وسبق المثال وفيه دليل على صحة القياس، وفي الخبر عجباً كل العجب للمكذب بالنشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى، وعجباً للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور ؛ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو النشأة بفتح الشين وبعدها ألف قبل الهمزة والباقون بسكونها ولا ألف بعدها، فإذا وقف حمزة نقل حركة الهمزة إلى الشين وخفف ذال تذكرون حمزة والكسائي وحفص، وشدّدها الباقون.
ثم ذكر لهم حجة أخرى بقوله تعالى :﴿ أفرأيتم ﴾ أي : أخبروني هل رأيتم بالبصر والبصيرة ما نبهنا كم عليه فيما تقدم فتسبب عن تنبيهكم لذلك أنكم رأيتم ﴿ ما تحرثون ﴾ أي : تجددون حرثه على الاستمرار من أراضيكم فتطرحون فيه البذر.
﴿ أأنتم تزرعونه ﴾ أي : تنشئونه بعد طرحكم وتجعلونه زرعاً فيكون فيه السنبل والحب ﴿ أم نحن ﴾ خاصة ﴿ الزارعون ﴾ أي : المنبتون له والحافظون ؛ روى أنه عليه الصلاة والسلام قال :«لا يقولنّ أحدكم زرعت وليقل حرثت ». قال أبو هريرة أرأيتم إلى قوله تعالى :﴿ أفرأيتم ﴾ الآية.
ولما كان الجواب قطعاً أنت الفعال لذلك وحدك قال تعالى موضحاً لأنه ما زرعه غيره ﴿ لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون ﴾.
﴿ لو نشاء ﴾ أي : لو عاملناكم بصفة العظمة ﴿ لجعلناه ﴾ أي : بتلك العظمة ﴿ حطاما ﴾ أي : مكسوراً مفتتاً لا حب فيه قبل النبات حتى لا يقبل الخروج أو بعده ببرد مفرط أو حر مهل أو غير ذلك فلا ينتفع به ﴿ فظلتم ﴾ أي فأقمتم بسبب ذلك نهاراً في وقت الأشغال العظيمة وتركتم ما يهمكم ﴿ تفكهون ﴾ حذفت منه إحدى التائين في الأصل تخفيفاً أي تتعجبون مما نزل بكم في زرعكم وقيل : تندمون على ما سلف منكم من المعاصي التي أوجبت تلك العقوبة قال الزمخشري : ومنه الحديث :«مثل العالم كمثل الحمة يأتيها البعداء ويتركها القرباء فبينما هم إذ غار ماؤها فانتفع بها قوم وبقي قوم يتفكهون ». أي : يتندمون. وقال الكسائي : التفكة التلهف على ما فات من الأضداد، تقول العرب : تفكهت أي تنعمت وتفكهت أي حزنت وتقولون :﴿ أنا لمغرمون ﴾.
﴿ أنا لمغرمون ﴾ بحذف القول ومعنى الغرم ذهاب المال بغير عوض من الغرام وهو الهلاك ومن مجيء الغرام بمعنى الهلاك قول القائل :
أن يعذب يكن غراماً وإن يع | ط جزيلاً فإنه لا يبالي |
وقال ابن عباس : الغرام العذاب، أي : عذبوا بذهاب أموالهم، والمعنى : أن غرمنا الحب الذي بذرناه فذهب بغير عوض ومن الغرام بمعنى العذاب قول القائل :
وثقت بأنّ الحلم منك سجية | وأنّ فؤادي مبتلى بك مغرم |
وقرأ شعبة : أئنا بهمزة مفتوحة بعدها همزة مكسورة على الاستفهام والباقون بهمزة واحدة مكسورة على الخبر ﴿ بل نحن ﴾ أي : خاصة ﴿ محرومون ﴾ أي : ممنوعون رزقنا حرمنا من لا يرد قضاؤه فلاحظ لنا في الاكتساب فلو كان الزارع ممن له خط لأفلح زرعه.
ثم ذكر تعالى لهم حجة أخرى بقوله تعالى :﴿ أفرأيتم الماء ﴾ أي : أخبروني هل رأيتم بالبصر والبصيرة ما نبهنا عليه فيما مضى من المطعم وغيره فرأيتم الماء ﴿ الذي تشربون ﴾ فتحيوا به أنفسكم وتسكنوا به عطشكم، ذكرهم بنعمه التي أنعم بها عليهم بإنزال المطر الذي لا يقدر عليه أحد إلا الله عز وجل.
﴿ أأنتم أنزلتموه من المزن ﴾ أي : السحاب وهو اسم جنس واحد مزنة قال القائل :
فلا مزنة ودقت ودقها | ولا أرض أبقل إبقالها |
وعن ابن عباس والثوري : المزن السماء والسحاب، وقال أبو زيد : المزنة : السحابة البيضاء أي خاصة وهي أعذب ماء والجمع مزن والمزنة المطرة
﴿ أم نحن ﴾ أي : خاصة
﴿ المنزلون ﴾ أي : له بمالنا من العظمة.
﴿ لو نشاء ﴾ أي : حال إنزاله وبعده قبل أن ينتفع به ﴿ جعلناه ﴾ أي بما تقتضيه صفة العظمة ﴿ أجاجاً ﴾ أي : ملحاً مراً محرقاً كأنه في الأحشاء لهيب النار المؤجج فلا يبرد عطشاً ولا ينبت نبتاً ينتفع به، وقال ابن عادل : الأجاج المالح الشديد الملوحة ﴿ فلولا ﴾ أي : فهلا ولم لا ﴿ تشكرون ﴾ أي : تجددون الشكر على سبيل الاستمرار باستعمال ما أفادكم ذلك من القوى في طاعة الله الذي أوجده لكم ومكنكم منه.
ثم ذكر تعالى لهم حجة أخرى بقوله تعالى :﴿ أفرأيتم النار ﴾ أي : أخبروني هل رأيتم بالبصر والبصيرة ما تقدم فرأيتم النار ﴿ التي تورون ﴾ أي : تخرجون من الشجر الأخضر.
﴿ أأنتم أنشأتم ﴾ أي : اخترعتم وأوجدتم وأحييتم وربيتم ورفعتم ﴿ شجرتها ﴾ أي : التي يقدح منها النار وهي المرخ والعقار وهما شجرتان قدح منهما النار وهما رطبتان، وقيل : أراد جميع الشجر الذي توقد به النار ﴿ أم نحن ﴾ أي : خاصة وأكد بقوله تعالى :﴿ المنشؤون ﴾ أي : لها بمالنا من العظمة على تلك الهيئة فمن قدر على إيجاد النار التي هي أيبس ما يكون في الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادّة لها كان أقدر على إعادة الطراوة في تراب الجسد الذي كان غضاً طرياً فيبس.
ولما كان الجواب قطعاً أنت وحدك قال تعالى دالاً على ذلك تنبيهاً على عظم هذا الخبر
﴿ نحن ﴾ أي : خاصة
﴿ جعلناها ﴾ أي : لما اقتضته عظمتنا
﴿ تذكرة ﴾ أي : شيئاً يتذكر به تذكراً عظيماً جليلاً كما أخبرنا به من البعث وعذاب النار الكبرى وما ينشأ فيها من شجرة الزقوم وغير ذلك، وقيل : موعظة يتعظ بها المؤمن ؛ وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
«ناركم التي توقدون جزء من سبعين جزأ من نار جهنم، قالوا : والله إن كانت لكافية يا رسول الله قال : فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزأ كلها مثلها مثل حرّها ».
﴿ ومتاعاً ﴾ أي : بلغة ومنفعة
﴿ للمقوين ﴾ أي : المسافرين والمقوى النازل في أرض القوا بالكسر والقصر والمدّ وهي القفر البعيدة من العمران، والمعنى : أنه ينتفع بها أهل البوادي والأسفار فإن منفعتهم بها أكثر من المقيم فإنهم يوقدونها بالليل لتهرب السباع ويهتدي الضال إلى غير ذلك من المنافع ؛ وقال مجاهد : للمقوين أي : المنتفعين بها من الناس أجمعين يستضيئون بها في الظلمة ويصطلون بها من البرد وينتفعون بها في الطبخ والخبز إلى غير ذلك من المنافع، ويتذكر بها نار جهنم فيستجار بالله تعالى منها ؛ وقال ابن زيد : للجائعين في إصلاح طعامهم يقال : أقويت منذ كذا وكذا أي : ما أكلت شيئاً قال الشاعر :
وإني لاختار القوا طاوي الحشى | محافظة من أن يقال لئيم |
وقال قطرب : المقوي من الأضداد يقال للفقير : مقو لخلوه من المال ويقال للغني : مقو لقوته على ما يريد، والمعنى : فيها متاعاً ومنفعة للفقراء والأغنياء لا غنى لأحد عنها، وقال المهدوي : الآية تصلح للجميع لأنّ النار يحتاج إليها المسافر والمقيم والغني والفقير.
ولما ذكر تعالى ما يدل على وجوب وحدانيته وقدرته وإنعامه على سائر الخلق خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم أو كل أحد من الناس بقوله تعالى :﴿ فسبح ﴾ أي : أوقع التنزيه العظيم من كل شائبة نقص من ترك البعث وغيره ولاسيما بعد بلوغ هذه الأدلة ﴿ باسم ﴾ أي : ملتبساً بذكر اسم ﴿ ربك ﴾ أي : المحسن إليك بهذا البيان الأعظم.
فائدة : أثبتوا ألف الوصل هنا في اسم ربك لأنه لم يكثر دوره كثرته في البسملة وحذفوه منها لكثرة دورها وهم شأنهم الإيجاز وتقليل الكثير إذا عرف معناه وهذا معروف لا يجهل، وإثبات ما أثبت من أشكاله مما لا يكثر دليل على الحذف منه، ولذا لا تحذف مع غير الباء في اسم الله ولا مع الباء في غير الجلالة الكريمة من الأسماء وقد أوضحت ذلك في مقدمتي على البسملة والحمدلة.
ولما كان المقام للعظمة قال الله تعالى :﴿ العظيم ﴾ أي : الذي ملأ الأكوان كلها عظمة فلا شيء منها إلا وهو مملوء بعظمته تنزيهاً عن أن يلحقه شائبة نقص أو يفوته شيء من كمال، فالعظيم صفة للاسم أو الرب، والاسم قيل : بمعنى الذات وقيل : زائد أي : فسبح ربك واختلف في «لا » في قوله تعالى :﴿ فلا أقسم ﴾ فقال أكثر المفسرين : معناه فاقسم ولا صلة مؤكدة بدليل قوله تعالى بعد ذلك :﴿ وإنه لقسم ﴾ ومثلها في قوله تعالى :﴿ لئلا يعلم أهل الكتاب ﴾ [ الحديد : ٢٩ ] والتقدير : ليعلم وقال بعضهم أنها حرف نفي وإنّ المنفي بها محذوف وهو كلام الكافر الجاهل والتقدير فلا حجة بما يقوله الكافر ؛ ثم ابتدأ قسماً بما ذكر وضعف هذا بأنّ فيه حذف اسم لا وخبرها قال أبو حيان : ولا ينبغي فإنّ القائل بذلك مثل سعيد بن جبير تلميذ حبر القرآن وهو عبد الله بن عباس، ويبعد أن يقول سعيد إلا بتوقيف، وقال بعضهم : إنها لام الابتداء والأصل : فلأقسم فأشبعت الفتحة فتولد منها ألف كقول بعضهم : أعوذ بالله من العقراب قال الزمخشري : ولا يصح أن تكون اللام لام القسم لأمرين : أحدهما : أن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة والإخلال بها ضعيف قبيح، والثاني : أن لأفعلنّ في جواب القسم للاستقبال وفعل القسم يجب أن يكون للحال.
واختلف أيضاً في معنى قوله عز وجلّ :﴿ بمواقع النجوم ﴾ فقال أكثر المفسرين : بمساقطها لغروبها، قال الزمخشري : ولعل الله تعالى في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى المغرب أفعالاً عظيمة مخصوصة وللملائكة عبادات موصوفة، أو لأنه وقت قيام المجتهدين والمبتهلين إليه من عباده الصالحين ونزول الرحمة والرضوان عليهم، فلذلك أقسم بمواقعها واستعظم ذلك بقوله تعالى :﴿ وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ﴾
﴿ وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ﴾ وقال عطاء بن رباح : أراد بمواقعها منازلها، قال الزمخشري : وله في ذلك من الدليل على عظيم القدرة والحكمة ما لا يحيط به الوصف، وقال الحسن : مواقعها انكدارها وانتثارها يوم القيامة ؛ وقال ابن عباس والسدي : المراد نجوم القرآن أي أوقات نزولها ؛ وقال الضحاك : هي الأنواء التي كانت الجاهلية تقول إذا مطروا : مطرنا بنوء كذا، وقال القشيري : هو قسم ولله أن يقسم بما يريد وليس لنا أن نقسم بغير الله تعالى وصفاته القديمة فإن قيل لو تعلمون جوابه ماذا ؟ أجيب : بأنه مقدّر تقديره لعظمتموه أي : لو كنتم من ذوي العلم لعلمتم عظم هذا القسم ولكنكم ما علمتموه فعلم أنكم لا تعلمون، وقرأ بموقع حمزة والكسائي بسكون الواو ولا ألف بعدها والباقون بفتح الواو ألف بعدها.
وقوله تعالى :﴿ إنه ﴾ أي : القرآن الذي أفهمته النجوم بعموم إفهامها ﴿ لقرآن ﴾ أي : جامع سهل ذو أنواع جليلة ﴿ كريم ﴾ أي : بالغ الكرم منزه عن كل شائبة لؤم ودناءة هو المقسم عليه، وفي الكلام اعتراضان أحدهما : الاعتراض بقوله تعالى :﴿ وإنه لقسم ﴾ بين القسم والمقسم عليه، والثاني الاعتراض بقوله تعالى :﴿ لو تعلمون ﴾ بين الصفة الموصوف.
تنبيه : من كرم هذا القرآن العظيم كونه من الملك الأعلى إلى خير الخلق بسفارة روح القدس، مشتملاً على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش والمعاد وبلسان العرب الذين اتفقت علماء الفرق على أنّ لسانهم أفصح الألسن، وعلى وجه أعجز العرب كافة وبقية الخلق أجمعين.
واختلف في معنى قوله تعالى :﴿ في كتاب ﴾ أي : مكتوب ﴿ مكنون ﴾ أي : مصون فالذي عليه الأكثر أنه المصحف سمي قرآنا لقرب الجوار على الاتساع ولأنّ النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدوّ ». أراد به المصحف.
وقوله تعالى :﴿ لا يمسه ﴾ خبر بمعنى النهي ولو كان باقياً على خبرتيه لزم منه الخلف لأنّ غير المطهر يمسه وخبر الله تعالى لا يقع فيه خلف لأنّ المراد بقوله تعالى :﴿ إلا المطهرون ﴾ لا المحدثون وهو قول عطاء وطاوس وسالم والقاسم وأكثر أهل العلم وبه قال مالك والشافعي رضي الله عنهما ؛ وقال ابن عادل : والصحيح أنّ المراد بالكتاب : المصحف الذي بأيدينا لما روى مالك وغيره أن كتاب عمرو بن حزم «لا يمس القرآن إلا طاهر »، وقال ابن عمر قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر » وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه وقد دخل عليها ودعا بالمصحف ﴿ لا يمسه إلا المطهرون ﴾ فقام فاغتسل وأسلم، وعلى هذا قال قتادة وغيره معناه لا يمسه إلا المطهرون من الأحداث والأنجاس انتهى.
وقال ابن عباس :﴿ مكنون ﴾ محفوظ عن الباطل والكتاب هنا كتاب في السماء، وقال جابر : هو اللوح المحفوظ، أي : لقوله تعالى :﴿ بل هو قرآن مجيد ٢١ في لوح محفوظ ﴾ [ البروج : ٢١ ٢٢ ] وقال عكرمة : التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن، وقال السدي : الزبور وقيل : لا من «لا يمسه » نافية والضمة في لا يمسه ضمة إعراب وعلى هذا ففي الجملة وجهان : أحدهما : أن محلها الجرّ صفة لكتاب، والمراد به : إمّا اللوح المحفوظ والمطهرون حينئذ الملائكة، أو المراد به المصحف والمراد بالمطهرون الملائكة كلهم، والثاني : محلها رفع صفة لقرآن والمراد بالمطهرين : الملائكة فقط أي : لا يطلع عليه، لأنّ نسبة المس إلى المعاني متعذرة وقيل : إنها ناهية والفعل بعدها مجزوم لأنه لو فك عن الإدغام لظهر ذلك فيه كقوله تعالى :﴿ لم يمسسهم سوء ﴾ [ آل عمران : ١٧٤ ] ولكنه أدغم، ولما أدغم حرّك بالضم لأجل هاء ضمير المذكر الغائب، وفي الحديث :«إنا لم نرده عليكما إلا أنا حرم » بضم الدال، وإن كان القياس يقتضي جواز فتحها تخفيفاً، وبهذا ظهر فساد رد من رد بأنّ هذا لو كان نهياً كان يقال لا يمسه بالفتح لأنه خفي عليه وانضم ما قبل الهاء في هذا التحويل لا يجوّز سيبويه غيره.
واختلفوا في المس المذكور في الآية فقال أنس وسعيد بن جبير : لا يمس ذلك إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة وقال أبو العالية وابن زيد : هم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم، وقال الكلبي : هم السفرة الكرام البررة وهذا كله قول واحد وهو اختيار مالك، وقال الحسن : هم الملائكة الموصوفون في سورة عبس في قوله تعالى :﴿ صحف مكرمة ١٣ مرفوعة مطهرة ١٤ بأيدي سفرة ١٥ كرام بررة ﴾ [ عبس : ١٣ ١٦ ] وقيل : معنى لا يمسه لا ينزل به إلا المطهرون أي : إلا الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء ولا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون، ولو كان المراد طهر الحدث لقال المتطهرون أو المطهرون بتشديد الطاء ومن قال بالأوّل قال : المطهرون يعني المتطهرون.
تنبيه : اختلف العلماء في مس المصحف وحمله على غير وضوء فالجمهور على المنع من مسه على غير طهارة لحديث عمرو بن حزم وهو مذهب عليّ وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي، وأما الحمل فلأنه أبلغ من المس سواء حمله بعلاقته أم في كمه أم على رأسه وسواء مس نفس الأسطر أم ما بينها أم الحواشي أم الجلد أم العلاقة أم الخريطة أم الصندوق إذا كان المصحف فيهما، وسواء مس بأعضاء الوضوء أم بغيرها ؛ وقال جماعة بجواز مسه وحمله واحتجوا بأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل كتاباً فيه قرآن، وهرقل محدث يمسه هو وأصحابه، وبأنّ الصبيان يحملون الألواح محدثين بلا إنكار، وبأنه إذا لم تحرم القراءة فالحمل والمس أولى، وبأنه يجوز حمله في أمتعة.
وأجيب عن الأوّل : بأنّ ذلك الكتاب كان فيه آيتان ولا يسمى مصحفاً ولا ما في معناه وبأنه لو كان كتاباً قد تضمن مع القرآن دعاء إلى الإسلام فلم يكن القرآن بانفراده مقصوداً فجاز تغليباً للمقصود فيه، وعن الثاني : بأنه أبيح للصبيان للضرورة لأنهم غير مكلفين، وعن الثالث : بأن القراءة أبيحت للحاجة وعسر الوضوء لها كل وقت وبأنا لا نسلم الأولوية المذكورة بدليل أن الكافر لا يمنع من القراءة ويمنع من حمل المصحف ومسه، وعن الرابع : بأن جواز حمل المصحف في الأمتعة محله إذا لم يكن المصحف مقصود بالحمل.
وقال آخرون بحرمة المس دون الحمل واحتجوا بأنّ المحرم يحرم عليه مس الطيب دون حمله، وأجيب عنه : بأنه غير صحيح لأنّ حمل المصحف أبلغ في الاستيلاء عليه من مسه، فلما حرم الأدنى كان تحريم الأعلى أولى ولأن تحريم المصحف إنما هو لحرمته فاستوى فيه مسه وحمله بخلاف طيب المحرم فإنّ تحريمه مقصور على الاستمتاع به وليس في حمله استمتاع به، ولو لف كمه على يده وقلب به أوراق المصحف حرم عليه لأنّ القلب يقع باليد لا بالكم بخلاف قلب ذلك بعود، ويحرم كتب شيء من القرآن أو من أسماءه تعالى بنجس أو على نجس ومسه به إذا كان غير معفو عنه، ولو خاف على المصحف من حرق أو غرق أو وقوع نجاسة عليه أو وقوعه في يد كافر جاز حمله مع الحدث بل يجب ذلك صيانة للمصحف، ولو لم يجد من يودعه المصحف وعجز عن الوضوء فله حمله مع الحدث ويلزمه أن يتيمم إن وجد التراب ولا يجوز المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه في أيديهم للنهي عنه في الصحيحين، وخرج المصحف غيره نحو كتب الفقه والحديث وكتب التفسير، فلا يحرم حملها ولا مسها إلا أن يكون القرآن أكثر من التفسير أو مساوياً له فيحرم الحمل والمس لأنه حينئذ في معنى المصحف وفي ذلك زيادة ذكرتها في شرح المنهاج وغيره.
وقوله تعالى :﴿ تنزيل ﴾ أي : منزل إليكم بالتدريج بحسب الوقائع والتقريب للإفهام والتأني والترقية من حال إلى حال وحكم إلى حكم بوسائط الرسل من الملائكة ﴿ من رب العالمين ﴾ أي : الخالق العالم بتربيتهم صفة القرآن أي : القرآن منزل من عند رب العالمين سمى المنزل تنزيلاً على اتساع اللغة كقوله تعالى :﴿ هذا خلق الله ﴾ [ لقمان : ١١ ] وأوثر المصدر لأن تعلق المصدر بالفاعل أكثر، وفي ذلك رد على قول من قال : بأن القرآن شعر أو سحر أو كهانة.
﴿ أفبهذا الحديث ﴾ أي : القرآن الذي تقدمت أوصافه العالية وهو يتجدد إليكم إنزاله وقتاً بعد وقت ﴿ أنتم مدهنون ﴾ أي : متهاونون كمن يدهن في الأمر أي : يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاوناً به، قال ابن برّجان : الأدهان والمداهنة : الملاينة في الأمور والتغافل والركون إلى التجاوز ا. ه.
قال البقاعي : فهو على هذا إنكار على من سمع أحداً يتكلم في القرآن بما لا يليق ثم لا يجاهره بالعداوة، وأهل الاتحاد كابن عربي الطائي صاحب الفصوص، وابن الفارض صاحب التائية، أول من صوبت إليه هذه الآية فإنهم تكلموا في القرآن على وجه يبطل الدين أصلاً ورأساً ويحله عروة عروة، فهم أضر الناس على هذا الدين ومن يتأوّل لهم أو ينافح عنهم أو يعتذر لهم أو يحسن الظنّ بهم مخالف لإجماع الأمّة أنجس حالاً منهم فإنّ مراده إبقاء كلامهم الذي لا أفسد للإسلام منه من غير أن يكون لإبقائه مصلحة ما بوجه من الوجوه ا. ه. وجرى ابن المقري في روضه على كفر من شك في كفر طائفة ابن العربي الذين ظاهر كلامهم عند غيرهم الاتحاد، وهو بحسب ما فهمه من ظاهر كلامهم، ولكن كلام هؤلاء جار على اصطلاحهم إذا اللفظ المصطلح عليه حقيقة في معناه الاصطلاحي مجاز في غيره، والمعتقد منهم لمعناه معتقد لمعنى صحيح ؛ وأمّا من اعتقد ظاهره من جهلة الصوفية الذين لا علم عندهم بل أكثرهم يدعي أنّ العلم حجاب ومدعي ذلك هو المحجوب فإنه يعرّف فإن استمرّ على ذلك بعد معرفته صار كافراً. فنسأل الله تعالى التوفيق والعصمة.
ولما كان هذا القرآن متكفلاً بسعادة الدارين قال تعالى :﴿ وتجعلون رزقكم ﴾ أي : حظكم ونصيبكم وجميع ما تنتفعون به من هذا الكتاب وهو نفعكم كله ﴿ أنكم تكذبون ﴾ فتضعون الكذب مكان الشكر كقوله تعالى :﴿ وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ﴾ [ الأنفال : ٣٥ ] أي : لم يكونوا يصلون ولكنهم كانوا يصفرون ويصفقون مكان الصلاة، قال القرطبي : وفيه بيان أنّ ما أصاب العباد من خير فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسباباً بل ينبغي أن يروه من قبل الله تعالى ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة أو صبر إن كان مكروهاً تعبداً له وتذللاً، وعن ابن عباس : أنّ المراد به الاستسقاء بالأنواء، وهو قول العرب مطرنا بنوء كذا ؛ ورواه علي بن أبي طالب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال :«مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر فقال بعضهم : هذه رحمة الله تعالى وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا قال : فنزلت هذه الآية ﴿ فلا أقسم بمواقع النجوم ﴾ حتى بلغ ﴿ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ﴾ ».
وفيه أيضاً «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج في سفر فعطشوا فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم أرأيتم إن دعوت الله تعالى لكم فسقيتم لعلكم أن تقولوا هذا المطر بنوء كذا فقالوا : يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء فصلى ركعتين ودعا الله تعالى، فهاجت ريح ثم هاجت سحابة فمطروا، فمر النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه عصابة من أصحابه برجل يغترف بقدح له وهو يقول سقينا بنوء كذا ولم يقل هذا من رزق الله تعالى فنزلت ﴿ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ﴾ ». أي : شكراً الله على رزقه إياكم أنكم تكذبون بالنعمة، وتقولون : سقينا بنوء كذا كقول القائل : جعلت إحساني إليك إساءة منك إليّ وجعلت إنعامي لديك أن اتخذتني عدوّاً، قال الشافعي : لا أحب لأحد أن يقول مطرنا بنوء كذا وإن كان النوء عندنا الوقت لا يضرّ ولا ينفع ولا يمطر ولا يحبس شيئاً من المطر، والذي أحب أن يقول : مطرنا وقت كذا كما يقول مطرنا شهر كذا، ومن قال مطرنا بنوء كذا وهو يريد أن النوء أنزل الماء كما يقول أهل الشرك فهو كافر حلال دمه إن لم يتب. وحاصله إن اعتقد أنّ النوء هو الفاعل حقيقة فهو كافر وإلا فيكره له ذلك كراهة تنزيه، وسبب الكراهة : أنها كلمة مترددة بين الكفر وغيره فيساء الظنّ بقائلها ولأنها من شعار الجاهلية ومن سلك مسلكهم.
ثم بين سبحانه أنه لا فاعل لشيء في الحقيقة سواه بقوله تعالى :﴿ فلولا ﴾ وهي : أداة تفهم طلباً بزجر وتوبيخ وتقريع بمعنى فهلا ولم لا ﴿ إذا بلغت الحلقوم ﴾ أي : بلغت الروح منكم ومن غيركم عند الاحتضار الحلقوم، أضمرت من غير ذكر لدلالة الكلام عليها دلالة ظاهرة، وفي الحديث :«أن ملك الموت له أعوان يقطعون العروق ويجمعون الروح شيئاً فشيئاً حتى تنتهي إلى الحلقوم فيتوفاها ملك الموت ». والحلقوم مجرى الطعام في الحلق والحلق مساغ الطعام والشراب معروف فكان الحلقوم أدنى الحلق إلى جهة اللسان.
﴿ وأنتم ﴾ أي : والحال أنكم أيها العاكفون حول المحتضر المتوجعون له ﴿ حينئذ ﴾ أي : بلغت الروح ذلك الموضع ﴿ تنظرون ﴾ أي : إلى أمري وسلطاني، أو إلى الميت ولا حيلة لكم ولا فعل بغير النظر ولم يقل : تبصرون لئلا يظنّ أنّ لهم إدراكاً بالبصر لشيء من البواطن من حقيقة الروح ونحوها.
﴿ ونحن ﴾ أي : والحال أنا نحن بما لنا من العظمة ﴿ أقرب إليه ﴾ أي : المحتضر بعلمنا وقدرتنا ﴿ منكم ﴾ على شدّة قربكم منه، قال عامر بن قيس : ما نظرت إلى شيء إلا رأيت الله أقرب إليّ منه ﴿ ولكن لا تبصرون ﴾ من البصيرة أي : لا تعلمون ذلك.
﴿ فلولا ﴾ أي : فهلا ﴿ إن كنتم ﴾ أيها المكذبون بالعبث ﴿ غير مدينين ﴾ أي : مربوبين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم، أو مقهورين مملوكين مجزيين محاسبين بما عملتم في دار البلاء التي أقامكم فيها أحكم الحاكمين، من دانه إذا ذله واستعبده، وأصل تركيب دان للذل والانقياد قاله البيضاوي.
﴿ ترجعونها ﴾ أي : الروح إلى ما كانت عليه ﴿ إن كنتم ﴾ كوناً ثابتاً ﴿ صادقين ﴾ فيما زعمتم فلولا الثانية تأكيد للأولى، وإذ ظرف لترجعون المتعلق به الشرطان ؛ والمعنى : أنكم في جحودكم أفعال الله تعالى وآياته في كل شيء أن أنزل عليكم كتاباً معجزاً قلتم سحر وافتراء، وإن أرسل إليكم رسولاً صادقاً قلتم ساحر كذاب، وإن رزقكم مطراً يحييكم به قلتم صدق نوء كذا على مذهب يؤدي إلى الإهمال والتعطيل، فما لكم لا
ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثم قابض وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدئ المعيد.
ثم ذكر تعالى طبقات الخلق عند الموت وبين درجاتهم فقال عز من قائل :﴿ فأما إن كان ﴾ المتوفى ﴿ من المقرّبين ﴾ السابقين الذين اجتذبهم الحق من أنفسهم فقرّبهم منه فكانوا مرادين قبل أن يكونوا مريدين، وليس القرب قرب مكان لأنه تعالى منزه عنه وإنما هو بالتخلق بالصفات الشريفة على قدر الطاقة البشرية ليصير الإنسان روحاً خالصاً كالملائكة لا سبيل إلى الحظوظ والشهوات عليها.
وقوله تعالى :﴿ فروح ﴾ مبتدأ خبره مقدّر قبله أي : فله روح، أي : راحة ورحمة وما ينعشه من نسيم الريح. وقال سعيد بن جبير : فله فرج، وقال الضحاك : مغفرة ورحمة ﴿ وريحان ﴾ أي : رزق عظيم ونبات حسن بهيج وأزاهير طيبة الرائحة، وقال مقاتل : هو بلسان حمير رزق، يقال : خرجت أطلب ريحان الله أي : رزقه ؛ وقيل : هو الريحان الذي يشم ؛ قال أبو العالية : لا يفارق أحد من المقربين الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمه ثم تقبض روحه ؛ وقال أبو بكر الوراق : الروح النجاة من النار والريحان دخول دار القرار ﴿ وجنت ﴾ أي : بستان جامع الفواكه والرياحين ﴿ نعيم ﴾ أي : ذات تنعم ليس فيها غيره وأهله مقصورة عليهم.
تنبيه : جنت هنا مجرورة التاء ووقف عليها بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي، فالكسائي بالإمالة في الوقف على أصله، والباقون بالتاء على المرسوم.
﴿ وأما إن كان ﴾ المتوفى ﴿ من أصحاب اليمين ﴾ أي : الذين هم في الدرجة الثانية من أصحاب الميمنة.
﴿ فسلام لك ﴾ أي : يا صاحب اليمين ﴿ من ﴾ إخوانك ﴿ أصحاب اليمين ﴾ أي : يسلمون عليك كقوله تعالى :﴿ إلا قيلاً سلاماً سلاما ﴾ وقال القرطبي : فسلام لك من أصحاب اليمين أي : لست ترى منهم إلا ما تحبّ من السلامة فلا تهتم لهم فإنهم يسلمون من عذاب الله تعالى ؛ وقيل المعنى : سلام لك منهم، أي : أنت سالم من الاعتمام لهم والمعنى واحد ؛ وقيل : أصحاب اليمين يدعون لك يا محمد بأن يصلي الله عليك ويسلم ؛ وقيل معناه : سلمت أيها العبد مما تكره فإنك من أصحاب اليمين فحذف إنك ؛ وقيل : إنه يحيى بالسلام تكرّماً ؛ وعلى هذا في محل السلام ثلاثة أقوال : أحدها : عند قبض روحه في الدنيا يسلم عليه ملك الموت قاله الضحاك، وقال ابن مسعود : إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال : ربك يقرئك السلام، الثاني : عند مسألته في القبر يسلم عليه منكر ونكير، الثالث : عند بعثه في القيامة تسلم عليه الملائكة قبل وصوله إليها ؛ قال القرطبي : ويحتمل أن يسلم عليه في المواطن الثلاثة ويكون ذلك إكراماً بعد إكرام.
ولما ذكر تعالى الصنفين الناجيين أتبعهما الهالكين جامعاً لهم في صنف واحد لأنّ من أريدت له السعادة يكفيه ذلك ومن ختم له بالشقاوة والعياذ بالله تعالى لا ينفعه الإغلاظ والإكثار فقال تعالى :﴿ وأما إن كان ﴾ المتوفى ﴿ من المكذبين ﴾ الذين أخذناه من أصحاب المشأمة وأنتم حوله تتقطع أكبادكم له ولا تقدرون له على شيء أصلاً ﴿ الضالين ﴾ أي : عن الهدى وطريق الحق.
﴿ فنزل من حميم ﴾ كما قال تعالى :﴿ ثم إنكم أيها الضالون المكذبون ﴾ [ الواقعة : ٥١ ] إلى أن قال :﴿ فشاربون شرب الهيم ﴾ [ الواقعة : ٥٤ ] وقال تعالى :﴿ ثم إنّ لهم عليها لشوباً من حميم ﴾ [ الصافات : ٦٧ ] أي : ماء متناه في الحرارة بعد ما نالوا من العطش كما يرد أصحاب الميمنة الحوض كما يبادر به للقادم ليبرد به غلة عطشه ويغسل به وجهه ويديه.
﴿ وتصلية جحيم ﴾ أي : ونزل من تصلية جحيم، والمعنى : إدخال في النار ؛ وقيل : إقامة في الجحيم ومقاساة لأنواع عذابها، يقال : أصلاه النار وصلاه أي : جعله يصلاها والمصدر هنا مضاف إلى المفعول كما يقال : لفلان إعطاء ما له أي : يعطي المال.
﴿ إن هذا ﴾ أي : الذي ذكر في هذه السورة من أمر البعث الذي كذبوا به في قولهم : إننا لمبعوثون ومن قيام الأدلة عليه ﴿ لهو حق اليقين ﴾ أي : حق الخبر اليقين أي : لما عليه من الأدلة القطعية المشاهدة كأنه مشاهد مباشر، وقيل : إنما جاز إضافة الحق إلى اليقين وهما واحد لاختلاف لفظهما وذلك من باب إضافة المترادفين.
ولما حقق له تعالى إلى هذا اليقين سبب عن أمره لنبيه صلى الله عليه وسلم بالتنزيه عما وصفوه به مما يلزم منه وصفه بالعجز فقال تعالى :﴿ فسبح ﴾ أي : أوقع التنزيه كله عن كل شائبة نقص بالاعتقاد والقول والفعل بالصلاة وغيرها بأن تصفه بكل ما وصف به نفسه من الأسماء الحسنى وتنزهه عن كل ما نزه نفسه عنه ﴿ باسم ربك ﴾ أي : المحسن إليك بما خصك به مما لم يعطه أحداً غيرك وإذا كان هذا لاسمه فكيف بما هو له ﴿ العظيم ﴾ الذي ملأت عظمته جميع الأقطار والأكوان وزادت على ذلك بما لا يعلمه حق العلم سواه، لأنّ من له هذا الخلق على هذا الوجه المحكم وهذا الكلام الأعز الأكرم لا ينبغي لشائبة نقص أن تلم بجنابه أو تدنو من فناء بابه، وعن عقبة بن عامر قال :«لما نزلت ﴿ فسبح باسم ربك العظيم ﴾ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت ﴿ سبح اسم ربك الأعلى ﴾ قال النبي صلى الله عليه وسلم اجعلوها في سجودكم ». خرجه أبو داود وعن أبي ذر قال :«قال لي عليه الصلاة والسلام : ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله تعالى سبحان الله وبحمده ». وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم » هذا الحديث آخر حديث في البخاري وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال :«سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة ».