تفسير سورة سورة الواقعة من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
.
لمؤلفه
حسنين مخلوف
.
المتوفي سنة 1410 هـ
مكية، وآياتها ست وتسعون
ﰡ
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ إذا وقعت الواقعة ﴾ أي اذكر لهم إذا نزلت القيامة ؛ فإن في ذكر أحوالها وأهوالها عظة ؛ من وقع الطائر : نزل عن طيرانه. والواقعة من أسمار القيامة ؛ وسميت بذلك للإيذان بتحقق وقوعها.
﴿ ليس لوقعتها كاذبة ﴾ أي لا تكون حين تقع نفس تكذب على الله، وتكذب في تكذيبه سبحانه في خبره بها ؛ كما كان ذلك من المنكرين لها في الدنيا. بل كل نفس حينئذ مؤمنة، صادقة مصدقة بها لتحقق وقوعها بالمشاهدة. واللام للتوقيت ؛ كما في : كتبته لخمس خلون من كذا.
﴿ خافضة رافعة ﴾ أي هي خافضة للأشقياء إلى الدركات، رافعة للسعداء إلى الدرجات. والرفع والخفض يستعملان عند العرب في المكان والمكانة، والعز والإهانة ؛ ونسبتهم إلى القيامة مجاز.
﴿ إذا رجت الأرض رجا ﴾ أي زلزلت وحركت تحريكا شديدا. يقول : رجه يرجه رجا، حركه وزلزله ؛ فارتج. ومنه : ارتج البحر وغيره، اضطرب. والرجرجة للاضطراب. و " إذا " بدل من " إذا " الأولى أو منصوبة ب " خافضة رافعة ".
﴿ وبست الجبال بسا ﴾ فتتت تفتيتا حتى صارت كالسويق الملتوت ؛ من بس السويق : إذا لته.
﴿ فكانت هباء ﴾ فصارت غبارا. أو كالهباء، وهو ما يثور مع شعاع الشمس إذا دخل من كوة. أو ما يتطاير من النار على هيئة الشرر إذا أضرمت. ﴿ منبتا ﴾ متفرقا.
﴿ وكنتم أزواجا ثلاثة ﴾ أي وصرتم في ذلك اليوم بما كان في جبلاتكم وطبائعكم، وما كان من أعمالكم في الدنيا أصنافا ثلاثة. صنفان سعداء، وهم السابقون وأصحاب الميمنة. والثالث أشقياء، وهم أصحاب المشأمة. والخطاب للأمة الحاضرة والأمم السابقة على سبيل التغليب. وقيل للأمة الحاضرة فقط. والزوج : يطلق على كل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا ؛ كما يطلق على كل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوان المتزاوج. وعل كل قرينين فيه وفي غيره كالخف والنعل.
﴿ فأصحاب الميمنة ﴾ أي ناحية اليمين، وهم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة. أو يؤتون صحائفهم بأيمانهم. ﴿ ما أصحاب الميمنة ﴾ أي أيّ شيء هم في أحوالهم وصفاتهم ! والجملة مبتدأ وخبر. وهي خبر قوله " فأصحاب الميمنة " وضع فيها الظاهر موضع الضمير للتفخيم. ومثله يقال في : " وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة " وقد وضع فيها الظاهر موضع الضمير للتفظيع. والمقصود فيهما : تعجيب السامعين من شأن الفريقين في الفخامة والفظاعة.
﴿ وأصحاب المشأمة ﴾ أي ناحية الشمال، وهم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال وإلى النار. أو يؤتون صحائفهم بشمالهم.
﴿ والسابقون السابقون ﴾ هم الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة، وهم الذين سارعوا إلى كل ما دعا الله إليه. والجملة مبتدأ وخبر ؛ على حد :*أنا أبو النجم وشعري شعري *
أي والسابقون هم الذين اشتهرت أحوالهم وعرفت فخامتهم.
﴿ ثلة من الأولين ﴾ أي أولئك السابقون المقربون جماعة كثيرة من الأمم الماضية، وهم الذين عاصروا الأنبياء وآمنوا بهم.
﴿ وقيل من الآخرين ﴾ وهم الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به. ولا شك أن جملة الذين عاصروا الأنبياء السابقون وآمنوا بهم : أكثر ممن عاصروا نبينا صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ؛ ولذلك عبر عن الأولين بالثلة وهي الجماعة الكثيرة، وقوبلت بالقليل من
الآخرين. وهذا لا ينافى كون أمته صلى الله عليه وسلم على الإطلاق أكثر من الأمم الماضية كذلك. وقيل – بناء على أن الخطاب لهذه الأمة خاصة - : إن الثلة والقليل : منها ؛ أي السابقون المقربون ثلة من صدر هذه الأمة وقليل ممن بعدهم. روي عن الحسن أنه قال في هذه الآية : أما السابقون فقد مضوا، ولكن اللهم اجعلنا من أصحاب اليمين.
﴿ على سرر موضونة ﴾ أي مستقرين على سرر منسوجة بالذهب نسجا محكما للراحة والكرامة. يقال : وضن الغزل يضنه، نسجه. ودرع موضونة : أي منسوجة أو متقاربة النسج، أو منسوجة حلقتين حلقتين.
﴿ يطوف عليهم ولدان مخلدون ﴾ أي يدور حولهم للخدمة غلمان مبقون أبدا على شكل الولدان وحد الوصافة.
﴿ بأكواب ﴾ بأقداح لا عرا لها.
﴿ وأباريق ﴾ أوان ذات عرا وخراطيم. ﴿ وكأس من معين ﴾ إناء من خمر [ آية ٤٥ الصافات ص ٢٢٨ ].
﴿ لا يصدّعون عنها ﴾ لا يصيبهم شربها. و " عن " بمعنى باء السببية.
﴿ ولا ينزفون ﴾ بضم الياء وكسر الزاي، أي لا تذهب الخمر عقولهم من السكر كما خمر الدنيا ؛ من أنزف الشارب : إذا ذهب عقله. وقرئ بفتح الزاي ؛ من نزف الشارب – كعنى - : ذهب عقله [ آية ٤٧ الصافات ص ٢٢٨ ]
﴿ وحور عين ﴾﴿ آية ٥٤ الدخان ص ٣١٠ ﴾.
﴿ كأمثال اللؤلؤ المكنون ﴾ أي هن في صفاء بياضهن وحسنهن كاللؤلؤ الذي صين في أصدافه فلم تمسسه الأيدي، ولم تقع عليه الشمس والهواء ؛ فكان في نهاية الصفاء.
﴿ لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما ﴾ لا يسمعون في الجنة مالا يعتد به من الكلام، أو كلاما قبيحا، ولا نسبة إلى الإثم [ آية ٢٣ الطور ص ٣٦١ ].
سدر } أي هم في سدر هو شجر النبق، واحده سدرة. ﴿ مخضود ﴾ خضد شوكه. يقال : خضد الشجر – من باب ضرب – قطع شوكه ؛ فهو خضيد ومخضود. أو موقر حملا حتى تثنت أغصانه ؛ من خضدت الغصن : ثنيته.
﴿ وطلح ﴾ هو شجر الموز، واحده طلحة.
﴿ منضود ﴾ متراكب بعضه فوق بعض، قد نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه ؛ فليست له ساق بارزة ؛ من النضد، وهو الرص. يقال : نضد متاعه – من باب ضرب – وضع بعضه على بعض ؛ فهو نضيد ومنضود.
﴿ وظل ممدود ﴾ ممتد منبسط لا يزول، وهو ظل أشجارها. والعرب تقول لكل ما لا انقطاع له : ممدود. والجنة كلها ظل لا شمس معه.
﴿ وماء مسكوب ﴾ مصبوب يجري على وجه الأرض من غير حفر بالليل والنهار حيث شاءوا. يقال : سكبه سكبا، صبه. وأعرف الناس بهذه النعمة أهل البوادي والبلاد الحارة.
﴿ إنا أنشأناهن... ﴾ أي نساء الدنيا. أو الحور العين.
﴿ عربا ﴾ متحببات إلى أزواجهن، يحسن التبعل. جمع عروب ؛ كرسل ورسول. من أعرب إذا بين. ﴿ أترابا ﴾ مستويات في سن واحدة ؛ كأنهن أشبهن في التساوي الترائب، وهي ضلوع الصدر. جمع ترب ؛ كشبه وأشباه.
﴿ ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ﴾ أي أصحاب اليمين – وهم دون السابقين منزلة – جماعة كثيرة من الأمم الماضية، وجماعة كثيرة من هذه الأمة. وإذا قيل إن الثلتين من هذه الأمة فالمعنى : أن أصحاب اليمين جماعة ممن شاهد النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به، وجماعة ممن لم يشاهده وآمن به.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٩:﴿ ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ﴾ أي أصحاب اليمين – وهم دون السابقين منزلة – جماعة كثيرة من الأمم الماضية، وجماعة كثيرة من هذه الأمة. وإذا قيل إن الثلتين من هذه الأمة فالمعنى : أن أصحاب اليمين جماعة ممن شاهد النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به، وجماعة ممن لم يشاهده وآمن به.
﴿ في سموم ﴾ ريح حارة تدخل في مسام البدن، وتفعل فيه فعل السم. ﴿ وحميم ﴾ ماء متناه
في الحرارة.
﴿ وظل من يحموم ﴾ أي دخان شديد السواد. والعرب تقول لكل شيء وصفته بشدة السواد : أسود يحموم ؛ من الأحم أو من الحمم، وهما الأسود من كل شيء ؛ كما اللسان وتسميته ظلا على سبيل التهكم. { كسائر الظلال يستروح به.
﴿ ولا كريم ﴾ نافع لمن يأوي إليه من أذى الحر.
﴿ إنهم كانوا قبل ذلك مترفين ﴾ متنعمين بطرين، متبعين هوى أنفسهم، ليس لهم رادع عن معاصي الله ؛ من الترفة [ آية ١١٦ هود ٣٧٧ ].
﴿ وكانوا يصرون على الحنث العظيم ﴾ يداومون على الذنب العظيم البالغ الغاية في العظم ؛ وهو الشرك. وقيل : على القسم على إنكار البعث المشار إليه بقوله : " وأقسموا بالله جهدا أيمانهم لا يبعث الله من يموت " .
﴿ وكانوا يقولون... ﴾ بيان لاستدلالهم الفاسد على عدم البعث.
﴿ أو أباؤنا الأولون ﴾ [ آية ١٧ الصافات ص ٢٢٦ ].
﴿ من شجر من زقوم ﴾ أي لآكلون من شجر، أو شجرا هو الزقوم ؛ ف " من " الأولى ابتدائية أو زائدة، والثانية بيانية. والزقوم : تقدم في [ آية ٦٢ الصافات ص ٢٢٩ ]. فطعامهم الزقوم، وشرابهم الحميم ؛ كما قال تعالى :﴿ فشاربون عليه من الحميم ﴾
﴿ فشاربون عليه من الحميم ﴾ أي الماء البالغ نهاية الحرارة.
﴿ فشاربون شرب الهيم ﴾ الإبل العطاش التي لا تروى بالماء ؛ لداء يصيبها يشبه الاستسقاء يسمى الهيام، فلا تزال تشرب حتى تهلك، أو تسقم سقما شديدا. جمع أهيم للمذكر، وهيماء للمؤنث.
﴿ هذا نزلهم يوم الدين ﴾ هذا المذكور من أنواع العذاب هو ما أعد لهم أول قدومهم يوم الجزاء ؛ كالنزل الذي يعد للضيف أول نزوله تكرمة له ؛ وتسميته نزلا تهكم بهم.
﴿ فلولا تصدقون ﴾ أي فهلا تصدقون بالخلق. ولما كان إقرارهم بأن الخالق هو الله مقترنا بما ينبئ عن خلافه وهو الشرك والعصيان – كان بمنزلة العدم والإنكار ؛ فحضوا على التصديق بذلك. وقيل : إنه حث على التصديق بالبعث وترك إنكاره. ثم ذكر في الآيات التالية أربعة أدلة على القدرة على البعث : الأول – خلقه الإنسان. والثاني – خلقه النبات. والثالث – خلقه الماء العذب، وهو سبب حياتهما. والرابع – خلقه النار وهي ضد الماء، وفيها الإنذار والنفع العظيم.
﴿ أفرأيتم ما تمنون... ﴾ أخبروني ؟ ما تقذفونه من النطف في الأرحام ؟ أأنتم تقدرونه وتصورونه بشرا سويا ! بل أنحن لا غيرنا المقدرون له ؟ يقال : أمنى النطفة ومناها – من باب رمى – قذفها. ومفعول " أرأيتم " الأول الاسم الموصول، والثاني الجملة الاستفهامية بعده. و " أم " منقطعة لوقوع جملة بعدها، وتقدر ببل وهمزة الاستفهام التقريري ؛ فيكون الكلام مشتملا على استفهامين : الأول " أأنتم تخلقونه " ؟ وجواه لا. والثاني مأخوذ من " أم " ؛ أي بل أنحن الخالقون ؟ وجوابه نعم. وكذا يقول في نظائره بعد.
﴿ وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم ﴾ أي وما نحن بمغلوبين عاجزين عن إهلاككم وأن نبدل منكم أشباهكم.
﴿ أفرأيتم ما تحرثون... ﴾ أخبروني ! البذر الذي تلقونه في الأرض : أأنتم تنبتونه وتنشئونه حتى يشتد ويقوم على ساقه، بل أنحن المنبتون له ! ؟ وأصل الحرث : تهيئة الأرض للزراعة وإلقاء البذر فيها. والمناسب هنا : حمله على البذر الذي يلقى. والزرع : الإنبات. يقال : ذرعه الله، أي أنبته.
﴿ لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون ﴾ أي لجعلنا ذلك الزرع متكسرا متفتتا لشدة يبسه، لا نفع فيه بعد ما أنبتناه ؛ فأنتم بسبب ذلك تتعجبون من سوء حاله بعد خضرته ونضارته. أو تندمون على ما تعبتم فيه وأنفقتم عليه من غير طائل. وأصل التفكه : التنقل بصنوف الفاكهة، ثم استعير للتنقل بالحديث ؛ وهو هنا ما يكون بعد هلاك الزرع، وكنى به في الآية عن التعجب أو الندم.
﴿ إنا لمغرمون ﴾ أي تقولون إنا لمهلكون بهلاك أقواتنا ؟ ؛ من الغرام وهو الهلاك. أو لملزمون غرامة بنقص رزقنا ؛ من الغرم وهو ذهاب المال بلا عوض.
﴿ من المزن ﴾ أي السحاب أو أبيضه. جمع مزنة.
﴿ جعلناه أجاجا ﴾ ملحا زعاقا، لا يطاق لشدة مرارته [ آية ٥٣ الفرقان ص ١٠١ ].
﴿ أفرأيتم النار التي تورون ﴾ أخبروني ! النار التي تقدحونها وتستخرجونها من الشجر الرطب، أأنتم خلقتم شجرتها التي منها الزناد، واخترعتم أصلها، بل أنحن الخالقون لها بقدرتنا ! ؟ والعرب تقدح بعودين، يحك أحدهما على الآخر، ويسمون الأعلى الزند والأسفل الزندة ؛ تشبيها بالفحل والطروقة فيورى. يقال : ورى الزند – كوعى وولى – يرى وريا، خرجت ناره. وأوراه غيره : استخرج ناره. وجمعه زناد ؛ كسهم وسهام.
﴿ نحن جعلناها تذكرة ﴾ لنار جهنم الكبرى ؛ ليعتبر بها الناس، ويحذروا ما أوعدوا به من عذاب الآخرة. ﴿ ومتاعا للمقوين ﴾ أي ومنفعة للمسافرين ؛ من أقوى الرجل : دخل في القواء – بالمد والقصر – وهو القفر الخالي من العمران. وإطلاق المقوين على المسافرين لأنهم كثيرا ما يسلكون القفراء والمفاوز ؛ وتخصيصهم بالذكر لأن منفعتهم بها أكثر من المقيمين، وخاصة في البوادي ليلا. أو منفعة
للمحتاجين، ينتفعون بها في سفرهم وإقامتهم وسائر شئونهم ؛ كأنه تصور من حال الحاصل في القفر : الفقر، فقيل : أقوى فلان، أي افتقر. كقولهم : أترب وأرمل ؛ ثم أريد منه مطلق المحتاج إليها بعلاقة اللزوم.
﴿ فسبح باسم ربك العظيم ﴾ أي وإذ قد علمت ما عدد من بدائع الصنعة وجلائل النعم، فدم على التسبيح بذكر اسم ربك، أو بذكر ربك العظيم ؛ منزها له تعالى عما يقول الجاحدون لوحدانيته وقدرته، الكافرون بنعمه مع عظمها وكثرتها. أو شاكرا له على تلك النعم. أو متعجبا من غمط هؤلاء الكفار لها مع جلالة قدرها. وأقبل على إنذارهم بالقرآن والاحتجاج عليهم به ؛ فأقسم إنه لقرآن كريم.
﴿ فلا أقسم بمواقع النجوم ﴾ أي فأقسم بمواقع النجوم. و " لا " مزيدة للتأكيد في قول أكثر المفسرين ؛ مثلها في قوله : " لئلا يعلم أهل الكتاب ". وقيل : زيدت جريا على سنن العرب من زيادتها قبل القسم بها، كما ف : لا وأبيك ! كأنهم ينفون ما سوى المقسم عليه فيفيد التأكيد. وقيل : هي للنفي ؛ أي لا أقسم بها، إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم ؛ أي أنه لا يحتاج إلى قسم أصلا فضلا عن هذا القسم العظيم. ومواقع النجوم : مساقطها ومغاربها في السماء. جمع موقع ؛ من الوقوع بمعنى السقوط والغروب. وأقسم بها لما فيها من الدلالة على وجود مؤثر دائم لا يزول تأثيره. وجواب القسم
﴿ إنه لقرآن كريم ﴾ أي نفاع، جم الفوائد والمنافع ؛ لاشتماله على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش والمعاد.
﴿ في كتاب مكنون ﴾ مصون عن غير المقربين من الملائكة، لا يطلع عليه سواهم ؛ وهو اللوح المحفوظ. أو مصون عن التبديل والتغيير ؛ وهو المصحف. ويتضمن ذلك الإخبار بالغيب ؛ لأنه لم يكن إذ ذاك مصاحف.
﴿ لا يمسه إلا المطهرون ﴾ أي لا يطلع عليه قبل نزوله إلا الملائكة المقربون ؛ وكنى عن ذلك بالمس للزومه له. أو لا يمس القرآن إلا المطهرون من الأحداث ؛ وهو خبر بمعنى النهي. أو لا يجد طعمه وحلاوته ونفعه وبركته إلا المؤمنون به، الذين طهروا أنفسهم من الشرك والنفاق، ورذائل الأخلاق.
﴿ أفبهذا الحديث أنتم مدهنون ﴾ أتعرضون ! فبهذا القرآن الذي ذكرت نعوته الجليلة أنتم متهاونون ! كمن يدهن في الأمر ؛ أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونا به. والإدهان في الأصل : جعل الأديم ونحوه مدهونا بشيء من الدهن ليلين ؛ ثم صار حقيقة عرفية في المداراة والملاينة. ثم تجوز به هنا عن التهاون ؛ لأن المتهاون في الأمر يلين جانبه ولا يتصلب فيه. أو أنتم مكذبون إذ التكذيب من فروع التهاون. أو المنافقون. والمدهن : المنافق يلين جانبه ليخفى كفره ؛ فهو شيبه بالدهن في سهولة ظاهره.
﴿ وتجعلون رزقكم ﴾ شكر رزقكم إذا مطرتم وسقيتم. ﴿ أنكم تكذبون ﴾ بكونه من الله تعالى ! فتقولون : مطرنا بنوء كذا ؛ وهو سقوط النجم في المغرب مع الفجر. أو وتجعلون شكركم لنعمة القرآن التكذيب له.
﴿ فلولا إذا بلغت الحلقوم... ﴾ توبيخ لهم على تكذيبهم الآيات الدالة على أنهم تحت سلطانه وقهره سبحانه، من حيث ذواتهم وطعامهم وشرابهم وسائر أسباب معايشهم. أي إن كنتم أيها الجاحدون لآياتنا، المكذبون لرسولنا، المنكرون لقدرتنا على سائر شئونكم – غير مربوبين لنا، ولا مقهورين بسلطاننا، وكنتم صادقين في اعتقادكم ذلك ؛ فهلا تردون إلى المحتضر روحه إذا بلغت حلقومه، وشارفت الخروج من جسده ! ؟ وأنتم تشاهدون ما يقاسيه من هول الفزع وسكرات الموت ! وتحرصون كل الحرص على إنجائه منه ؟ ونحن أقرب منكم بعلمنا وقدرتنا، حيث لا تعرفون كنه حالته، ولا تفقهون أسبابها الحقيقية، ولا تقدرون على دفعها. ونحن العالمون بها، المسيطرون عليها، النازعون لروحه من هيكلها الجسماني. ولكنكم لا تدركون ذلك لفرط جهالتكم بربكم ؟ وحاصل المعنى : أنكم إن كنتم غير مربوبين كما تقتضيه أقوالكم وأعمالكم، فمالكم لا ترجعون الروح إلى البدن إذا بلغت الحلقوم ! وتردونها كما كانت بقدرتكم وسلطانكم ! و " لولا " حرف تحضيض بمعنى هلا. و " لولا " الثانية تأكيد لها و " إذا " ظرف لقوله : " ترجعونها " أي تردونها، وهو جواب الشرطين : " إن كنتم غير مدينين – إن كنتم صادقين ". " غير مدينين " أي غير مربوبين لنا ؛ من دان السلطان الرعية : إذا سامهم وتعبدهم. وجملة " وأنتم تنظرون " حال من فاعل
" بلغت ". وجملة " ونحن أقرب إليه " مستأنفة لتأكيد توبيخهم على صدور ما يدل على سوء اعتقادهم في ربهم.
﴿ فأما إن كان من المقربين ﴾ أي فأما إن كان المتوفى الذي بين حاله من السابقين.
﴿ فروح ﴾ أي فله رحمة أو فرح وسرور. ﴿ وريحان ﴾ استراحة، أو طيب رائحة عند قيض روحه وفي قبره، وعند بعثه، وجنة ذات تنعم في آخرته.
﴿ فسلام لك من أصحاب اليمين ﴾ أي فيقول الملائكة للمتوفى من أصحاب اليمين عند قبض روحه وفي قبره وفي الجنة : سلام لك يا صاحب اليمين من أصحاب اليمين ؟ !
﴿ فنزل من حميم وتصلية جحيم ﴾ أي فله قرى وإكرام عذاب شديد في البرزخ بحرارة المار ودخانها، وإدخال في النار في الآخرة، ومقاساه لألوان عذابها.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٣:﴿ فنزل من حميم وتصلية جحيم ﴾ أي فله قرى وإكرام عذاب شديد في البرزخ بحرارة المار ودخانها، وإدخال في النار في الآخرة، ومقاساه لألوان عذابها.
﴿ إن هذا هو الحق اليقين ﴾ أي إن الذي قصصناه عليك في هذه السورة لهو الحق الثابت من اليقين. واليقين : هو كل العلم المتيقن الذي لا شك فيه. و الله أعلم.