ﰡ
وهي مكية على الصحيح، وعدد آياتها سبع وتسعون آية وقد ورد في فضلها آثار كثيرة، منها
حديث ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا»
وروى عن أنس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «سورة الواقعة سورة الغنى فاقرأوها وعلموها أولادكم»
ويمكن أن نفهم أنها سورة تحبب في العمل للآخرة، والعزوف عن الدنيا فتولد بها القناعة والرضاء وهما الغنى والسعادة.
وتشتمل على الكلام على القيامة وأحوالها، ثم بيان ما أعد للمؤمنين السابقين وأصحاب اليمين في الجنة، ثم ما أعد لأصحاب الشمال في النار، ثم ذكرت خلق الإنسان، والنبات والماء، والنار، ثم ذكرت النجوم والميزان إلى غير ذلك من دلائل القدرة، وآيات البعث والقوة.
قيام القيامة [سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤)وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦)
المفردات:
الْواقِعَةُ: علم بالغلبة على القيامة، وسميت بذلك لتحقق وقوعها لا محالة كاذِبَةٌ والمراد: نفس كاذبة رُجَّتِ: زلزلت وحركت تحريكا شديدا وَبُسَّتِ الْجِبالُ: فتتت حتى صارت كالسويق الملتوت هَباءً: غبارا مُنْبَثًّا: متفرقا.
إذا كانت القيامة، ووقعت الواقعة التي تحقق وقوعها بلا شك فكأنها واقعة في نفسها مع قطع النظر عن الإخبار بوقوعها، إذا وقعت الواقعة كان الجزاء والثواب والعقاب «١» حالة كونها ليس لوقعتها «٢» نفس كاذبة، والواقعة هي السقطة القوية، وشاعت في وقوع الأمر العظيم- بمعنى أنه لا يكون حين وقوعها نفس تكذب على الله تعالى- كما في هذه الدنيا- وتكذب في تكذيبه سبحانه في خبره بها، أليس منكر الساعة الآن مكذبا له تعالى في أنها واقعة؟ وهو كاذب في تكذيبه لأنه- أى: المنكر- قد أخبر بخبر على خلاف الواقع، فلا يبقى هناك كاذب بل الكل صادق مصدق.
هي خافضة لأقوام كانوا أعزة بالباطل، رافعة لأقوام كانت عزتهم بالله ورسوله وإن كانوا في الدنيا فقراء المال والجاه، هي خافضة رافعة، إذا رجت الأرض رجا ينهدم ما فوقها من بناء ومساكن، وبست الجبال بسّا فصارت غبارا متفرقا، وذرات متناثرة، وكنتم أيها الناس ساعتها أصنافا ثلاثة: أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والسابقون المقربون.
هؤلاء هم السابقون، وذلك جزاؤهم [سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٧ الى ٢٦]
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦)
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١)
وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦)
(٢) - اللام هنا للتوقيت.
أَزْواجاً: أصنافا ثلاثة. الْمَيْمَنَةِ: وأصحابها هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة. الْمَشْئَمَةِ: هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار.
وَالسَّابِقُونَ والمراد بهم: السابقون إلى الإيمان والعمل الصالح. ثُلَّةٌ:
جماعة. مَوْضُونَةٍ أى: منسوجة بإحكام، وفي كتب اللغة أن الوضن: النسج المضاعف. وِلْدانٌ: كصبيان في الوزن والمعنى. مُخَلَّدُونَ: باقون على حالتهم لا يهرمون كأولاد الدنيا. بِأَكْوابٍ: جمع كوب، وهي الآنية التي ليس لها مقبض ولا خرطوم، والأباريق: أوان لها مقابض وخراطيم، وأقرب الأشباه بهما ما نستعملهما الآن في مصر ونطلق عليهما لفظ- كوب وإبريق. وَكَأْسٍ: لفظ الكأس يطلق على الإناء الذي فيه الخمر أو على نفس الخمر، فإذا خلا الإناء من الخمر فهو قدح. مَعِينٍ المعين حقيقة: هو النهر الجاري على وجه الأرض الظاهر للعيون، أو الخارج من العيون «١». يُنْزِفُونَ من نزف الشارب أو من أنزف الشارب: إذا سكر. لا يُصَدَّعُونَ عَنْها أى: لا تنصدع رءوسهم من شربها فلا يصابون بصداع. عِينٌ: كبار الأعين حسانها. الْمَكْنُونِ: المستور لا يصل إليه غبار. لَغْواً: فاحشا من القول. تَأْثِيماً: ما يؤثم.
وهذا تفصيل للأزواج الثلاثة، وبدأ بذكر السابقين.
وكنتم- والخطاب لأمة النبي صلّى الله عليه وسلّم والأمم السابقة من باب التغليب- أصنافا ثلاثة:
أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، والسابقون، فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة «١» نعم هم في غاية حسن الحال، كما أن أصحاب المشأمة في نهاية سوء الحال، والسابقون السابقون أولئك- والإشارة لبعد مركزهم وعلو مكانتهم- المقربون «٢» في جنات النعيم بمعنى السابقون هم الذين سبقوا في الإيمان غيرهم وسارعوا إلى عمل الصالحات، وكأن سائلا سأل وقال: وما جزاء هؤلاء؟؟ فأجيب: أولئك المقربون من الحضرة القدسية المتمتعون بالرضا السامي في جنات النعيم.
هم جماعة كثيرة من الأمم السابقة وقليل من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم ممن جاءوا أخيرا، فالقلة والكثرة راجعة إلى العدد، هم جميعا في الجنة حالة كونهم على سرر منسوجة بالذهب نسجا محكما، حالة كونهم متكئين عليها، متقابلين فوجوههم متقابلة، وهكذا الأدب العالي، وقلوبهم صافية نقية، ولذا تراهم متقابلين يطوف عليهم في الجنة ولدان مخلدون لا يعتريهم هرم ولا ضعف بل هم دائما في طراوة الشباب ورقته ونشاطه، يطوفون عليهم بأكواب من فضة وأباريق من ذهب، ويطوفون بخمر جارية من العيون فلا تنقطع، ظاهرة للعيون، فليست كخمر الدنيا التي تعصر وتحجز، ولا يصيبهم بسببها صداع ولا ألم، ولا يتفرقون عنها بسبب من الأسباب، ولا هم عنها ينزفون، أى: لا تذهب عقولهم، ولا تبيد أموالهم، ولا تهدم صحتهم، ولا تضيع كرامتهم، خمر الجنة، وكفى أنها من صنع الخلاق الحكيم! ويطوفون عليهم بفاكهة كثيرة يأخذون منها ما يختارون، وبلحم من جميع الأشكال والأنواع يأكلون منه ما يشتهون، ولعلك معى في أن تقديم الفاكهة على اللحم مما يدعو إليه الطب.
(٢) - أحسن الأعاريب أن (السابقون) مبتدأ و (السابقون) الثانية خبر- من باب شعري شعري- وفي هذا تفخيم لشأنهم، وجملة (أولئك المقربون) مبتدأ وخبر، واقعة استئنافا بيانيا.
هؤلاء هم أصحاب اليمين وهذا جزاؤهم [سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٢٧ الى ٤٠]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١)
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦)
عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠)
المفردات:
سِدْرٍ مَخْضُودٍ السدر: نوع من الشجر يمتاز بكثرة أوراقه وأغصانه إلا أن له شوكا فقيل: سدر مخضود أى: مقطوع الشوك. وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ الطلح: شجر الموز ومنضود: متراكب الثمر، أى: نضد أوله وآخره بالحمل فليست له سوق ظاهرة بل ثمره مرصوص بعضه فوق بعض بنظام. مَمْدُودٍ أى: دائم باق
وهذا هو الصنف الثاني، المتوسط في المرتبة، وهو يشمل عصاة المؤمنين بعد أخذهم جزاء المعصية أو العفو عنهم.
المعنى:
وأصحاب اليمين، ما أصحاب اليمين؟! وهذا أسلوب يدل على التفخيم لشأنهم، والتعجب من حالهم «١» هم في سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود، أى:
منبسط دائم، لا يزول بشمس، فهو كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس وماء مسكوب منساب لا ينقطع، يجرى بين أيديهم، وفاكهة كثيرة، ليست مقطوعة ولا ممنوعة في أى وقت، وما أروع هذا البيان! وما أرقه حيث وصف السابقين بأقصى ما يتصور لأهل المدن من كونهم على سرر مصفوفة، تطوف عليهم خدامهم بأنواع الملاذ، ووصف هنا جزاء أصحاب اليمين بأقصى ما يتصور لأهل البوادي، وبأغلى شيء عندهم، من نزولهم في أماكن مخصبة، بين الماء المنسكب المتدفق الذي لا ينقطع، والشجر الكثيف، والظلال الوارفة والثمار الكثيرة فإن وصفها بالنظام يشير إلى الكثرة والجودة، والفرق بين الصنفين كالفرق بين عيشة البوادي والحواضر.
لهم هذا كله، وهم في فراش مرفوع على الأسرة، وقيل: إن هذا كناية عن النساء المرتفعات الأقدار والمنازل، إنا أنشأناهن، أى: النساء إنشاء وأبدعناهن إبداعا على أتم صورة، وأكمل وضع، فجعلناهن أبكارا لا ثيبات، وكن عربا متحببات إلى أزواجهن، أترابا، أى: مستويات في سن واحدة فليست الواحدة منهن عجوزا شمطاء، ولا طفلة بلهاء بل هن المستويات الكاملات في باب النساء أنشأهن ربك
هؤلاء هم أصحاب الشمال، وهذا هو جزاؤهم [سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٤١ الى ٥٦]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥)
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥)
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦)
المفردات:
سَمُومٍ السموم: الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن، أو التي تؤثر تأثير السم. وَحَمِيمٍ: ماء حار شديد الحرارة. يَحْمُومٍ اليحموم: دخان أسود
الْحِنْثِ: الذنب العظيم، وعليه الحديث: كان يتحنث في حراء، أى: يفعل ما يزيل الذنب العظيم، وقيل الحنث: عدم البر بالقسم، وكانوا يقسمون على أنه لا بعث، وأن لله شريكا. مِنْ زَقُّومٍ: هو شجر كريه الطعم والشكل. شُرْبَ الْهِيمِ: جمع أهيم وهيماء، والمراد بالهيم الإبل العطاش التي لا تروى لداء أصابها.
وهذا هو جزاء أصحاب الشمال، الذين حقت عليهم كلمة العذاب بعد ذكر السابقين وأصحاب اليمين ليظهر الفرق جليا بين عاقبة الطاعة ونهاية المعصية.
المعنى:
وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال؟! هم في ريح حارة تفعل فعل السموم، وتدخل إلى البدن من مسام الجسم، هم في سموم وحميم، أى: ماء شديد الحرارة وظل من دخان أسود من نار جهنم، وتسميته ظلا من باب التهكم، هذا الظل ليس باردا بل حارّا، ولا كريما، أى: ليس كريم المنظر، ولا كريم المخبر لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [سورة الزمر آية ١٦].
وما سبب هذا؟ إنهم كانوا قبل ذلك في الدنيا مترفين، أتبعوا أنفسهم هواها، ولم يكن لهم رادع يردعهم بل ظلوا يتنعمون بالحرام، ويتكبرون عن الحق والحلال، وكانوا يصرون على فعل الذنب العظيم، وهو الشرك، وكل منكر قبيح، وكانوا كذلك يقسمون بالأيمان على أنه لا بعث ولا ثواب، وعلى أنه لله شركاء وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ «١» وكانوا يقولون منكرين ومتعجبين: أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون «٢» ؟!! والمعنى: أنبعث إذا متنا وكنا ترابا؟! وتقييد الإنكار والاستبعاد للبعث بوقت كونه ترابا ليس للتخصيص، فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت وإن كان البدن يظل كما هو، أنبعث نحن وآباؤنا الأولون؟ مع أنهم أقدم منا فبعثهم أبعد وأشد إنكارا.
وقد ذكر الله هنا سبب عقابهم في قوله: إِنَّهُمْ كانُوا... الآية، ولم يذكر
(٢) - الهمزة للإنكار والتعجب وتكريرها في أإذا وأ إنا لتأكيد الإنكار.
قل لهم يا محمد ردّا على افتراءاتهم وإنكارهم للبعث: إن الأولين والآخرين من الأمم كلها، ومن جملتهم أنتم وآباؤكم لمجموعون بعد البعث من القبور إلى ميقات يوم معلوم وهو يوم القيامة، ويوم الجزاء والحساب، ثم إنكم أيها الضالون عن الحق، المكذبون بالبعث والوحدانية وإرسال الرسل لآكلون يوم القيامة أكلا مبتدأ من شجر هو زقوم، شجرة تنبت في قعر جهنم جعلت فتنة للظالمين، وهي كريهة المنظر والمخبر، فيملأ الكفار منها بطونهم من شدة الجوع، فإنه هو الذي اضطرهم إلى الأكل منها، وعقب الأكل يشربون عليها من ماء حار لشدة العطش، فشاربون منه شرابا كثيرا كشرب الإبل الهيم التي تشرب حتى تموت أو تسقم، ولا ترتوى، عجبا لهم يأكلون من الزقوم ثم يشربون من الحميم، ثم هم لا يرتوون!! هذا- الذي ذكر من ألوان العذاب- نزلهم الذي أعد لهم يوم الدين، وهو أشبه بما يقدم للضيف ساعة قدومه، فما بالك بما أعد لهم من بعد ذلك!!
بعض الأدلة على إثبات قدرة الله الكاملة على البعث وغيره [سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٥٧ الى ٧٤]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١)
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤)
ما تُمْنُونَ: ما تصبونه من المنى في الأرحام. قَدَّرْنا: قضينا به وأوجبناه عليكم. تَحْرُثُونَ الحرث: تهيئة الأرض للزراعة وإلقاء البذور فيها.
تَزْرَعُونَهُ الزرع: يطلق على نفس الإنبات. حُطاماً: هو الهشيم الهالك المتكسر الذي لا ينتفع به. تَفَكَّهُونَ أصل التفكه: أكل الفاكهة ثم استعمل مجازا في التلذذ بالحديث، وتفكه قد يستعمل مرادا به إلقاء الفكاهة عن النفس، ولا تلقى الفكاهة إلا من الحزن وعلى هذا فيكون تفكه مثل تحرج وتأثم: إذا أزال الحرج والإثم عنه وقد يطلق التفكه ويراد به التعجب لأن عدم التفكه حيث تطلب الفاكهة يدعو إلى العجب، وفي كتاب الأساس للزمخشري: فظلتم تفكهون: وارد على سبيل التهكم، أى: تجعلون فاكهتكم وما تتلذون به قولكم: إنا لمغرمون. الْمُزْنِ: هو السحاب. أُجاجاً: ملحا ولا يمكن شربه. تُورُونَ: تخرجونها نارا.
لِلْمُقْوِينَ أى: المسافرين، مأخوذ من قولهم: أقوى القوم إذا نزلوا بالقوى أى:
الأرض الخالية القفراء البعيدة عن العمران، وقيل المراد بالمقوين: المقيمين والمسافرين جميعا، ويقال: الفقر مقو لخلوه من المال، وللغنى مقو لقوته على ما يريد، ولا شك أن النار يحتاج إليها الكل.
وتلك حجج وبراهين على إمكان البعث وإثبات أنه في مقدور الله بضرب الأمثلة والنظائر المشاهدة المحسوسة التي لا يمكن إنكارها.
نحن خلقناكم أول مرة وحدنا فهلا تصدقون بذلك تصديقا مقرونا بالطاعة والأعمال الصالحة! فإنهم أقروا ظاهرا بأن الله خلقهم، ولكنه إقرار لم يتبع بالطاعة الصحيحة فنزل منزلة العدم، ولذا حضهم الله على الإقرار بالخلق فقال: فلولا تصدقون!، وقيل المعنى: نحن خلقناكم أول مرة فهلا تصدقون بأنا قادرون على الخلق ثانيا يوم القيامة! ثم أخذ يسوق الأدلة والحجج التي تثبت ذلك فقال: أفرأيتم ما تصبون في رحم النساء من المنى! أأنتم تخلقونه وتصورونه بشرا تام الخلقة؟ أم نحن الخالقون له وحدنا «١» ؟ لم يخلق بالطبيعة، ولم يخلق وحده، ولم تخلقوه أنتم، وهذا المنى تحول من حال إلى حال، ومن صفة إلى صفة فكيف تستبعدون الخلق يوم البعث؟ وإحياءكم بعد أن كنتم ترابا أنتم وآباؤكم؟! نحن قدرنا بينكم الموت، ووقتنا موت كل واحد بزمن لا يتقدم ولا يتأخر، وما نحن بمغلوبين في ذلك أبدا، وما نحن بمغلوبين أيضا على أن نذهبكم، ونأتى مكانكم بأمثالكم من الخلق، وننشئكم فيما لا تعلمون من الخلق والأطوار، فنحن قادرون على كل ذلك، ولقد علمتم النشأة الأولى لكم حيث خلقتم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة... إلخ ما هو معروف، وقيل المعنى: لقد علمتم النشأة الأولى لخلق أبيكم آدم من تراب، وبين التراب والحياة البشرية بون شاسع، فهلا تذكرون ذلك؟ وتعلمون أن من قدر على ذلك كله قادر على إحياء الموتى؟!.
أفرأيتم ما تحرثون؟ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون؟ نعم الله هو الذي يحيى الأرض بالنبات بعد موتها، وهو القادر على إخراج النبات الأخضر المثمر من البذور والطين مع أن الحب في الطين قابل للعفونة، ولكن الله بقدرته يخرج منه نباتا أصفر طريا غضا أفلا يدل هذا على القدرة؟
في موضع المفعول الثاني على أن الرؤية علمية، وعلى أنها بصرية تكون مستأنفة لا محل لها، وقوله: أم نحن الخالقون إنها متصلة، وقيل: إنها منقطعة لأن ما بعدها جملة الاستفهام المقدر للتقرير.
أفرأيتم الماء الذي تشربونه؟ أأنتم أنزلتموه من السحاب أم نحن المنزلون؟ نعم هو الله وحده القادر على إنزال المطر، وإخراج الماء من البحار على هيئة البخار حالة كونه نقيّا صافيا من كل شيء ثم جمعه في السحاب، ثم إنزاله مطرا يصيب به من يشاء من عباده.
ولو شاء ربك أنزل «١» المطر من السماء ملحا أجاجا لا يصلح للرى، ولكنه اللطيف الخبير فهلا تشكرون ربكم على ذلك ولا تكفرون! أفرأيتم النار التي تورونها، وتستخرجونها من الزند أو ثقاب الكبريت، أو على أى صورة أأنتم أنشأتم شجرها؟ أأنتم خلقتم مادتها؟ أم نحن الخالقون؟ نعم هو ربك وحده الذي خلق فقدر كل ذلك، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
نحن جعلنا النار تذكرة لجهنم، وعبرة لمن يعتبر، وجعلناها متاعا يتمتع بها الخلق جميعا المقيم والمسافر، والغنى والفقير، والحاضر والبادي، ولا غرابة فالنار أحد العناصر المهمة كالماء والتراب والهواء.
إذ كان الأمر كذلك فسبح باسم ربك العظيم، ونزهه عن كل نقص. وإذا كان الأمر بتقديس الاسم فما بال المسمى جل شأنه؟!
إن هذا لهو حق اليقين [سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٧٥ الى ٩٦]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤)
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩)
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤)
إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦)
بِمَواقِعِ النُّجُومِ: بمساقطها للغروب. مَكْنُونٍ: محفوظ ومصون.
مُدْهِنُونَ الإدهان: جعل الأديم- الجلد- مدهونا بمادة زيتية ليلين ليونة حسية، ثم استعمل الإدهان في الليونة المعنوية، ولذا سميت المداراة والملاينة مداهنة على سبيل المجاز، وهو لشهرته صار حقيقة عرفية، ورشح هذا أن المتهاون في الأمر لا يتصلب فيه ولا يتشدد. رِزْقَكُمْ أى: شكركم. الْحُلْقُومَ: مجرى الطعام.
مَدِينِينَ من دان بمعنى حاسب وجازى، أى: محاسبين ومجزيين، وعليه قولهم:
كما تدين تدان، وقيل المراد مربوبين. فَرَوْحٌ أى: استراحة. وَرَيْحانٌ:
رزق حسن. وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ: احتراق بها.
تلك حقائق ختمت بها السورة الكريمة تتعلق بالقرآن الكريم، وبمناقشة المنكرين وما يكون عند خروج الروح، وما يلاقيه السابقون وأصحاب اليمين، والمكذبون الضالون، تلك حقائق من رب العالمين.
لله أن يقسم بما يشاء من خلقه، فهو تعظيم له بالدليل، ولفت لأنظار المخلوقين حتى يروا ما في هذه الأشياء المقسم بها من عظمة تدل على القدرة الكاملة لله- سبحانه وتعالى- وأما نحن فليس لنا أن نقسم بغير الله وصفاته القديمة.
المعنى:
فلأنا أقسم بمواقع النجوم، أى: مساقطها عند الغروب «١» - وإن هذا القسم عظيم لو تعلمونه لعظمتموه إنه لقرآن كريم... الآية.
أما القسم بالنجوم عند غروبها، وذهاب أثرها، فلأنها والحالة هذه تكون أكثر دلالة على وجود خالقها والمؤثر فيها، وأن هذا النجم الذي بزغ بعد غروب الشمس لا يصح
لا، وشفاك الله، وأيضا يصح المعنى على أصالة النفي كما ذكرنا ذلك في الشرح.
إنه لقرآن كريم، البحر مثله، من أى النواحي أتيته تجد هدى ونورا وعلما وخيرا وبركة قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «١».
إنه لقرآن كريم كائن في كتاب مصون من غير المقربين من الملائكة «هذا الكتاب المصون هو اللوح المحفوظ، فلا يطلع عليه سواهم، ولا يمسه إلا الطاهرون المطهرون من كدر الطبيعة البشرية ودنس الغرائز النفسية ومطهرون من دنس الأجسام وقذارة الأحداث»، ومن غير الملائكة الأطهار يوصف بهذا؟ والطهارة على ذلك معنوية.
هذا كتاب لا ينبغي أن يمسه إلا المطهرون من كل حدث ولذا فهم بعض الأئمة أن القرآن ينبغي ألا يمسه إلا طاهر من الحدث الأصغر والأكبر، وبعضهم رأى أن سند هذا الحكم هو
الحديث عن رسول الله «لا يمسّ القرآن إلّا طاهر»
هو تنزيل من رب العالمين، لا يأتيه باطل، ولا يقرب منه شك، وهو هدى للعالمين.
أفهذا الحديث الذي ذكرت نعوته هنا أنتم أيها الكفار مدهنون، ومتهاونون؟! لا يصح هذا ولا يليق، وأنتم تجعلون شكر رزقكم وما أنعم الله به عليكم أنكم تكذبون؟ تكذبون بما يجب عليكم تصديقه، وبما أنزل في هذا القرآن.
فلولا إذا بلغت الروح الحلقوم عند الحشرجة وأنتم حينئذ بلغت هذا الحد تنظرون ونحن أقرب إلى هذا الشخص منكم قرب علم وقدرة، ولكن لا تبصرون، فهلا إن كنتم غير مؤمنين بالبعث يمكنكم أن ترجعوا روحه، وتمنعوا موته كما تظنون أن لا بعث ولا عقاب!! والمعنى باختصار: إن صدقتم نفى البعث فردوا روح المحتضر إلى جسده لينتفى عنه الموت فينتفى البعث أى إن تحقق الشرطان وهما: إن كنتم غير مدينين إن كنتم
ولكن البعث أمر محقق نطق به الحق- تبارك وتعالى- ومن أصدق من الله حديثا! والناس فيه ثلاثة أنواع فأما إن كان من السابقين المقربين فله روح وريحان وجنة نعيم، وأما إن كان من أصحاب اليمين فله السلامة من العذاب لأنه من أصحاب اليمين، أو فعليه سلام من إخوانه أصحاب اليمين، وأما إن كان من المكذبين الضالين فله نزل من حميم يشربه بعد أكل الزقوم- وهذا تهكم به- وله تصلية جحيم واحتراق بها.
إن هذا الذي ذكر في هذه السورة وخاصة في أواخرها لهو اليقين الحق والخبر الصدق الذي لا شك فيه ولا ريب، وإذا كان الأمر كذلك فسبح مستعينا باسم ربك العظيم، وقدسه ونزهه عن كل نقص وعيب فتعالى الله عما يشركون!