ﰡ
مكية [إلا آيتي ٨١ و ٨٢ فمدنيتان] وآياتها ٩٦ وقيل ٩٧ آية [نزلت بعد طه] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ١ الى ٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤)وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧)
وَقَعَتِ الْواقِعَةُ كقولك: كانت الكائنة، وحدثت الحادثة، والمراد القيامة: وصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة، فكأنه قيل: إذا وقعت التي لا بدّ من وقوعها، ووقوع الأمر: نزوله.
يقال: وقع ما كنت أتوقعه، أى: نزل ما كنت أترقب نزوله. فإن قلت: بم انتصب إذا؟
قلت: بليس. كقولك يوم الجمعة ليس لي شغل. أو بمحذوف، يعنى: إذا وقعت كان كيت وكيت: أو بإضمار اذكر كاذِبَةٌ نفس كاذبة، أى: لا تكون حين تقع نفس تكذب على الله وتكذب في تكذيب الغيب، لأنّ كل نفس حينئذ مؤمنة صادقة مصدّقة، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذبات، كقوله تعالى فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ، وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً واللام مثلها في قوله تعالى يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي أو: ليس لها نفس تكذبها وتقول لها: لم تكوني كما لها اليوم نفوس كثيرة يكذبنها، يقلن لها: لن تكوني. أو هي من قولهم: كذبت فلانا نفسه في الخطب، بعظيم، إذا شجعته على مباشرته وقالت له: إنك تطيقه وما فوقه فتعرّض له ولا تبال به، على معنى: أنها وقعة لا تطاق شدّة وفظاعة. وأن لا نفس حينئذ تحدث صاحبها بما تحدثه به عند عظائم الأمور وتزين له احتمالها وإطاقتها، لأنهم يومئذ أضعف من ذلك وأذل. ألا ترى إلى قوله تعالى كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ والفراش مثل في الضعف. وقيل كاذِبَةٌ مصدر كالعاقبة بمعنى التكذيب، من قولك: حمل على قرنه فما كذب، أى: فما جبن وما ثبط. وحقيقته:
................. إذا... ما اللّيث كذّب عن أقرانه صدقا «١»
أى: إذا وقعت لم تكن لها رجعة ولا ارتداد خافِضَةٌ رافِعَةٌ على: هي خافضة رافعة، ترفع أقواما وتضع آخرين: إما وصفا لها بالشدّة، لأنّ الواقعات العظام كذلك:
يرتفع فيها ناس إلى مراتب ويتضع ناس، وإما لأنّ الأشقياء يحطون إلى الدركات، والسعداء يرفعون إلى الدرجات، وإما أنها تزلزل الأشياء وتزيلها عن مقارّها، فتخفض بعضا وترفع بعضا:
حيث تسقط السماء كسفا وتنتثر الكواكب وتنكدر وتسير الجبال فتمرّ في الجوّ مرّ السحاب، وقرئ: خافضة رافعة بالنصب على الحال رُجَّتِ حرّكت تحريكا شديدا حتى ينهدم كل شيء فوقها من جبل وبناء وَبُسَّتِ الْجِبالُ وفتت «٢» حتى تعود كالسويق، أو سيقت من بس العنم إذا ساقها، كقوله وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ، مُنْبَثًّا متفرقا. وقرئ بالتاء أى:
منقطعا. وقرئ: رجت وبست، أى: ارتجت وذهبت. وفي كلام بنت الخس «٣» : عينها هاج، وصلاها راج. وهي تمشى وتفاج. فإن قلت: بم انتصب إذا رجت؟ قلت: هو بدل من إذا وقعت. ويجوز أن ينتصب بخافضة رافعة. أى: تخفض وترفع وقت رج الأرض، وبس الجبال لأنه عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع ويرتفع ما هو منخفض أَزْواجاً أصنافا، يقال للأصناف التي بعضها مع بعض أو يذكر بعضها مع بعض: أزواج.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٨ الى ٩]
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩)
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ الذين يؤتونها بشمائلهم. أو أصحاب المنزلة السنية وأصحاب المنزلة الدنية، من قولك: فلان منى باليمين، فلان منى بالشمال: إذا وصفتهما بالرفعة عندك والضعة، وذلك لتيمنهم بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل،
ليث يعثر يصطاد الرجال إذا | ما الليث كذب عن أقرانه صدقا |
(٢). قوله «وفتت حتى تعود كالسويق» عبارة النسفي: وفتتت. (ع)
(٣). قوله «وفي كلام بنت الخس» في الصحاح: الخس بالفتح: بقلة. والخس بالضم: اسم رجل. ومنه:
هند بنت الخس. وعين هاجة: أى غائرة. والصلا: ما عن يمين الذنب ويساره. وفججت ما بين رجلي أفجهما: إذا فتحت. يقال: هو يمشى مفاجا. (ع)
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ١٠ الى ٢٦]
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤)
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩)
وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤)
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦)
وَالسَّابِقُونَ المخلصون الذين سبقوا إلى ما دعاهم الله إليه وشقوا الغبار في طلب مرضاة الله عز وجل وقيل: الناس ثلاثة فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه، ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا، فهذا السابق المقرّب، ورجل ابتكر عمره بالذنب وطول الغفلة، ثم تراجع بتوبة، فهذا صاحب اليمين، ورجل ابتكر الشر في حداثة سنه، ثم يزل عليه حتى خرج من الدنيا، فهذا صاحب الشمال ما أصحاب الميمنة. ما أصحاب المشأمة؟ تعجيب من حال الفريقين في السعادة والشقاوة «٢».
(٢). قال محمود: «ما» تعجيب من حال الفريقين... الخ» قال أحمد: اختار ما هو المختار، لأنه أقعد بالفصاحة، لكن بقي التنبيه على المخالفة بين المذكورين في السابقين وفي أصحاب اليمين، مع أن كل واحد منهما إنما أريد به التعظيم والتهويل لحال المذكورين، فنقول: التعظيم المؤدى بقوله السَّابِقُونَ أبلغ من قرينه، وذلك أن مؤدى هذا: أن أمر السابقين وعظمة شأنه ما لا يكاد يخفى، وإنما تحير فهم السامع فيه مشهور. وأما المذكور في قوله فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ فانه تعظيم على السامع بما ليس عنده منه علم سابق. ألا ترى كيف سبق بسط حال السابقين بقوله أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فجمع بين اسم الاشارة المشار به إلى معروف، وبين الاخبار عنه بقوله الْمُقَرَّبُونَ معرفا بالألف واللام العهدية، وليس مثل هذا مذكورا في بسط حال أصحاب اليمين، فانه مصدر بقوله فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ.
خبرا وليس بذاك. ووقف بعضهم على: والسابقون، وابتدأ السابقون أولئك المقرّبون، والصواب أن يوقف على الثاني، لأنه تمام الجملة، وهو في مقابلة: ما أصحاب الميمنة، وما أصحاب المشأمة الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ الذين قربت درجاتهم في الجنة من العرش وأعليت مراتبهم.
وقرئ: في جنة النعيم. والثلة: الأمة من الناس الكثيرة. قال:
وجاءت إليهم ثلّة خندفيّة | بجيش كتيّار من السّيل مزبد «٢» |
أنا أبو النجم وشعري شعري | لله درى ما أجن صدري |
تنام عينى وفؤادي يسرى | مع العفاريت بأرض قفر |
والنبت: طال والتف. والذباب: كثرت أصواته. وجنه الليل: ستره، وأجنه الصدر: أكنه. وما تعجبية.
وأجن: فعل تعجب، أى: شيء عظيم جعل صدري محيطا بالمعاني الغريبة، ويحتمل أن «ما» يدل من درى.
وأجن: فعل ماض صلة أو صفة له، ومؤادى: قلبي أو عقلى. يسرى: يسير ليلا. أى: يبيت فكرى كأنه ذاهب مع العفاريت بأرض فضاء لا نبات بها، لا بعاده في المعاني. والبيت الثاني بيان للأول.
(٢).
وجاءت إليهم ثلة خندفية | بحيش كتيار من السيل مزيد |
(٣). أخرجه الطبري وابن عدى من رواية أبان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال في هذه الآية ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ قال قال رسول الله ﷺ «هما جميعا من أمتى» وأبان هو ابن أبى عياش متروك. ورواه إسحاق وسنده إلى الطيالسي وإبراهيم الحربي والطبراني من رواية زيد بن صهبان عن أبى بكرة مرفوعا وموقوفا. والموقوف أولى بالصواب. وعلى ضعيف.
فإن قلت: فقد روى أنها لما نزلت شق ذلك على المسلمين، فما زال رسول الله ﷺ يراجع ربه حتى نزلت ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ. قلت: هذا لا يصح لأمرين، أحدهما: أنّ هذه الآية واردة في السابقين ورودا ظاهرا، وكذلك الثانية في أصحاب «١» اليمين.
ألا ترى كيف عطف أصحاب اليمين ووعدهم، على السابقين ووعدهم، والثاني: أنّ النسخ في الأخبار غير جائز. وعن الحسن رضى الله عنه: سابقو الأمم أكثر من سابقي أمّتنا، وتابعو الأمم مثل تابعي هذه الأمّة. وثلة: خبر مبتدإ محذوف، أى: هم ثلة مَوْضُونَةٍ مرمولة بالذهب، «٢» مشبكة بالدرّ والياقوت، قد دوخل بعضها في بعض كما توضن حلق الدرع.
قال الأعشى:
ومن نسج داود موضونة «٣»
وقيل: متواصلة، أدنى بعضها من بعض. مُتَّكِئِينَ حال من الضمير في على، وهو العامل فيها، أى: استقرّوا عليها متكئين مُتَقابِلِينَ لا ينظر بعضهم في أقفاء بعض. وصفوا بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق والآداب مُخَلَّدُونَ مبقون أبدا على شكل الولدان وحدّ الوصافة، «٤» لا يتحوّلون عنه. وقيل: مقرّطون، والخلدة: القرط. وقيل: هم أولاد أهل الدنيا: لم تكن لهم حسنات فيثابوا عليها، ولا سيئات فيعاقبوا عليها. روى عن على رضى الله عنه وعن الحسن.
وفي الحديث: «أولاد الكفار خدّام أهل الجنة» «٥». الأكواب: أوان بلا عرى وخراطيم،
(٢). قوله «مرمولة بالذهب» في الصحاح: رملت الحصير، أى: سففته. وفيه أيضا: سففت الخوص: أى نسجته. (ع)
(٣).
ومن نسج داود موضونة | تساق مع الحي عيرا فعيرا |
السيد، أى سيدا بعد سيد متربين، ويطلق العير على طائر يطير فوق القافلة السائرة، وتبعد إرادته هنا.
(٤). قوله «وحد الوصافة» هي بلوغ الغلام حد الخدمة. أفاده الصحاح. (ع)
(٥). أخرجه البزار والطبراني في الأوسط من رواية عباد بن منصور عن أبى رجاء العطاردي عن سمرة بن جندب قال «سألنا رسول الله ﷺ عن أولاد المشركين فقال هم خدم أهل الجنة» ورواه البزار من براية على بن زيد بن جدعان والطيالسي والطبراني وأبو يعلى من رواية يزيد الرقاشي كلاهما عن أنس بهذا وأتم منه قلت: قد يعارضه حديث سمرة في صحيح البخاري. فقيه أنه رأى أولاد الناس تحت شجرة يكفلهم إبراهيم عليه السلام قال فقلنا: وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين» أخرجه بهذا اللفظ. ويمكن الجمع بينهما بأن لا منافاة بينهما لاحتمال أن يكونوا في البرزخ كذلك، ثم بعد الاستقرار يستقرون في الجنة خدما لأهلها.
إلّا رواكد جمرهنّ هباء... ومشجّج.......... «١»..
أو للعطف على ولدان، وبالجر: عطفا على جنات النعيم، كأنه قال: هم في جنات النعيم، وفاكهة ولحم وحور. أو على أكواب، لأن معنى يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ ينعمون بأكواب، وبالنصب على: ويؤتون حورا جَزاءً مفعول له، أى: يفعل بهم ذلك كله جزاء بأعمالهم سَلاماً سَلاماً إما بدل من قِيلًا بدليل قوله لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً وإما مفعول به لقيلا، بمعنى: لا يسمعون فيها إلا أن يقولوا سلاما سلاما. والمعنى:
أنهم يفشون السلام بينهم، فيسلمون سلاما بعد سلام. وقرئ سلام سلام، على الحكاية.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٢٧ الى ٤٠]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١)
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦)
عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠)
بادت وغير آيهن مع البلى | إلا رواكد جمرهن هباء |
ومشجج إما سواء قذاله | فبدا وغير ساره المغراء |
أرض يخالط ترابها حجارة وحصى، يقول هلكت لك الديار وبليت آثارها، ولم يبق إلا محل النار وبقية وتد الخباء. ويروى: رواكد بالنصب، فعطف المرفوع على المنصوب اعتمادا على المعنى.
الموقر الذي تثنى أغصانه كثرة حمله، من خضد الغصن إذا ثناء وهو رطب. والطلح: شجر الموز. وقيل: هو شجر أم غيلان، وله نوار كثير طيب الرائحة. وعن السدى: شجر يشبه طلح الدنيا، ولكن له ثمر أحلى من العسل. وعن على رضى الله عنه أنه قرأ: وطلع، وما شأن الطلح، «٢» وقرأ «٣» قوله لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ فقيل له: أو نحوّلها؟ فقال: آي القرآن لا تهاج اليوم ولا تحوّل. وعن ابن عباس نحوه. والمنضود: الذي نضد «٤» بالحمل من أسفله إلى أعلاه، فليست له ساق بارزة وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ممتدّ منبسط لا يتقلص، كظلّ ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس مَسْكُوبٍ يسكب لهم أين شاءوا وكيف شاءوا لا يتعنون فيه. وقيل: دائم الجرية لا ينقطع. وقيل: مصبوب يجرى على الأرض في غير أخدود لا مَقْطُوعَةٍ هي دائمة لا تنقطع في بعض الأوقات كفواكه الدنيا وَلا مَمْنُوعَةٍ لا تمنع عن متناولها بوجه، ولا يحظر عليها كما يحظر على بساتين الدنيا. وقرئ: وفاكهة كثيرة، بالرفع على: وهناك فاكهة، كقوله: وحور عين وَفُرُشٍ جمع فراش. وقرئ: وفرش، بالتخفيف مَرْفُوعَةٍ نضدت حتى ارتفعت. أو مرفوعة على الأسرة. وقيل: هي النساء، لأن المرأة يكنى عنها بالفراش مرفوعة على الأرائك. قال الله تعالى هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ، ويدل عليه قوله تعالى إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً وعلى التفسير الأول أضمر لهنّ، لأنّ ذكر الفرش وهي المضاجع دلّ عليهن أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً أى ابتدأنا خلقهن ابتداء جديدا من غير ولادة، فإما أن يراد. اللاتي ابتدئ إنشاؤهن، أو اللاتي أعيد إنشاؤهن. وعن رسول الله ﷺ «٥». أنّ أمّ سلمة رضى الله عنها سألته عن قوله الله تعالى. إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ فقال: يا أم سلمة
(٢). قوله «وما شأن الطلح» لعله: وقال ما شأن الطلح. (ع)
(٣). قوله «وقرأ» أى: استشهادا على قراءته. (ع)
(٤). قوله «والمنضود الذي نضد» في الصحاح: أنه المرصوص بعضه فوق بعض. (ع)
(٥). أخرجه الثعلبي بتمامه من طريق الحسن بن علوية القطان عن إسماعيل بن عيسى عن المسيب بن شريك فذكره ولم يرفع إلا قصة عائشة. ومن طريق غنجار حدثنا إسماعيل بن أبى الباد عن يونس عن الحسن عن أم سلمة مرفوعا دون قصة عائشة. وروى الطبري والطبراني وابن مردويه من طريق عمر بن هاشم البيروتى عن سليمان بن أبى كريمة عن هشام عن الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله، أخبرنى عن قوله تعالى عُرُباً أَتْراباً فذكره. وفيه «فجعلهن عذارى عربا متعشقات متحببات إلى أزواجهن، أترابا على ميلاد واحد» وروى الترمذي من طريق موسى بن عبيدة عن يزيد الزقاش طرفا منه واستضعفه.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٤١ الى ٥٦]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥)
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥)
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦)
(٢). قوله «ميلاد واحد في الاستواء» لعله متعلق بمعنى التشبيه، أى: كأنهن على ميلاد واحد في استواء الخلق. (ع)
(٣). أخرجه الترمذي في الشمائل من رواية مبارك بن فضالة عن الحسن بهذا مرسلا وسياقه أتم. وله طرق أخرى. منها في البعث البيهقي من رواية ليث بن أبى سليم عن مجاهد عن عائشة. ومنها في الأوسط من رواية مسعدة ابن اليسع عن سعيد عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة. ورواه خارجة بن مصعب عن سعيد عن قتادة عن أنس. وكلها ضعيفة.
(٤). أخرجه أحمد وابن أبى شبية وأبو يعلى والطبراني في الأوسط من رواية حماد بن سلمة عن على بن زيد عن سعيد بن المسيب عن أبى هريرة بهذا. وزاد على خلق آدم ستون ذراعا عرض سبعة أذرع. وذكر ابن أبى حاتم في العلل أن أباه قال: رواه أبو سلمة عن حماد مرسلا ولم يذكر فيه أبا هريرة وكذا أخرجه ابن سعد عن يحيى بن السكن عن حماد. وعلى بن زيد ضعيف. وفي الباب عن معاذ بن جبل. أخرجه الترمذي وقال: غريب.
وبعض أصحاب قتادة أرسلوه. وأخرجه البيهقي موصولا، ثم أخرجه موقوفا على قتادة. [.....]
ومنه: حنث في يمينه، خلاف: برّ فيها. ويقال: تحنث إذا تأثم وتحرج أَوَآباؤُنَا دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف. فإن قلت: كيف حسن العطف على المضمر في لَمَبْعُوثُونَ من غير تأكيد بنحن؟ قلت: حسن للفاصل الذي هو الهمزة، كما حسن في قوله تعالى ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا لفصل لا المؤكدة النفي. وقرئ: أو آباؤنا. وقرئ: لمجمعون «١» إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم، والإضافة بمعنى من، كخاتم فضة. والميقات:
ما وقت به الشيء، أى: حدّ. ومنه مواقيت الإحرام: وهي الحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرما أَيُّهَا الضَّالُّونَ عن الهدى الْمُكَذِّبُونَ بالبعث، وهم أهل مكة ومن في مثل حالهم مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ من الأولى لابتداء الغاية، والثانية لبيان الشجر وتفسيره. وأنث ضمير الشجر على المعنى، وذكره على اللفظ في قوله مِنْهَا وعَلَيْهِ ومن قرأ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فقد جعل الضميرين للشجرة، وإنما ذكر الثاني على تأويل الزقوم، لأنه تفسيرها وهي في معناه شُرْبَ الْهِيمِ قرئ بالحركات الثلاث، فالفتح والضم: مصدران.
وعن جعفر الصادق رضى الله عنه، أيام أكل وشرب، بفتح الشين. وأما المكسور فبمعنى المشروب، أى: ما يشربه الهيم وهي الإبل التي بها الهيام، وهو داء تشرب منه فلا تروى:
جمع أهيم وهيماء. قال ذو الرمّة:
فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد | صداها ولا يقضى عليها هيامها «١» |
أمر عجيب أيضا، فكانتا صفتين مختلفتين. النزل: الرزق الذي يعدّ للنازل تكرما له. وفيه تهكم، كما في قوله تعالى فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وكقول أبى الشعر الضبي.
وكنّا إذا الجبّار بالجيش ضافنا | جعلنا القنا والموهفات له نزلا «٢» |
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٥٧ الى ٦٢]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (٦٢)
وقد زودت مى على النأى قبلة | علاقات حاجات طويل سقامها |
فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد | صداها ولا يقضى عليها هيامها |
مصدر سقم كتعب تعبا، أى: عناؤها طويل المدة لا يبرأ. ويقال للجمل: أهيم. وللناقة هيماء، إذا أصابهما الهيام بالضم: وهو داء تغلى منه قلوب الإبل كالعطش الشديد، أى: فأصبحت كالناقة الهيماء. وقوله «لا الماء مبرد» استئناف مبين لوجه الشبه فيها. أو حال منها، أى: لا يبرد الماء ظمأها ولا يقضى عليها، أى: لا يمينها هيامها، فأنا كذلك لا وصال فيشفينى، ولا التلهف يميتني. ويروى: ولا يقضى على هيامها، ولعل معناه: لا الماء يبرد الحرقة التي حصلت لي منها، ولا يميتني الهيام الذي حصل لي منها، ولكن الأولى أقعد وأجود معنى.
(٢). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٤٥٨ فراجعه إن شئت اه مصححه.
وقرئ: قدرنا بالتخفيف. سبقته على الشيء: إذا أعجزته عنه وغلبته عليه ولم تمكنه منه، فمعنى قوله وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ أنا قادرون على ذلك لا تغلبوننا عليه، وأمثالكم جمع مثل: أى على أن نبدل منكم ومكانكم أشباهكم من الخلق، وعلى أن نُنْشِئَكُمْ
في خلق لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها، يعنى: أنا نقدر على الأمرين جميعا: على خلق ما يماثلكم، وما لا يماثلكم، فكيف نعجز عن إعادتكم. ويجوز أن يكون أَمْثالَكُمْ
جمع مثل، أى: على أن نبدل ونغير صفاتكم التي أنتم عليها في خلقكم وأخلاقكم، وننشئكم في صفات لا تعلمونها.
قرئ النشأة والنشاءة. وفي هذا دليل على صحة القياس حيث جهّلهم في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٦٣ الى ٦٧]
أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧)
أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ من الطعام، أى: تبذرون حبه وتعملون في أرضه أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ تنبتونه وتردونه نباتا، يرف وينمى «١» إلى أن يبلغ الغاية. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لا يقولن أحدكم: زرعت، وليقل: حرثت» «٢» قال أبو هريرة: أرأيتم إلى «٣» قوله:
(٢). أخرجه ابن حبان والبزار والطبراني من طريق مخلد بن حسين عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبى هريرة بهذا قال: ثم قرأ أبو هريرة أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ.
(٣). قوله «قال أبو هريرة: أرأيتم» أى استشهد على الحديث بالآية، وهي قوله تعالى أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ وقوله «أرأيتم» خطاب لمن يسمع منه، وأراد معنى النظر، فعداء بإلى كقوله أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ. (ع)
يتندمون إِنَّا لَمُغْرَمُونَ لملزمون غرامة ما أنفقنا. ومهلكون لهلاك رزقنا، من الغرام:
وهو الهلاك بَلْ نَحْنُ قوم مَحْرُومُونَ محارفون محدودون، لاحظ لنا ولا بخت لنا، ولو كنا مجدودين، لما جرى علينا هذا. وقرئ: أئنا.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (٧٠)
الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ يريد: الماء العذب الصالح للشرب. والْمُزْنِ السحاب: الواحدة مزنة. وقيل: هو السحاب الأبيض خاصة، وهو أعذب ماء أُجاجاً ملحا زعاقا «٣» لا يقدر على شربه. فإن قلت: لم أدخلت اللام على جواب لَوْ في قوله لَجَعَلْناهُ حُطاماً ونزعت منه هاهنا؟ قلت: إنّ «لو» لما كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعلق الجزاء بالشرط، ولم تكن مخلصة للشرط كإن ولا عاملة مثلها، وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقا من حيث إفادتها في مضمونى جملتيها أنّ الثاني امتنع لامتناع الأوّل: افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علما على هذا التعلق، فزيدت هذه اللام لتكون علما على ذلك، فإذا حذفت بعد ما صارت علما مشهورا مكانه، فلأن الشيء إذا علم وشهر موقعه وصار مألوفا ومأنوسا به: لم يبال بإسقاطه عن اللفظ، استغناء بمعرفة السامع. ألا ترى إلى ما يحكى عن رؤبة أنه كان يقول: خير، لمن قال له: كيف أصبحت؟ فحذف الجار لعلم كل أحد بمكانه. وتساوى حالى حذفه وإثباته لشهرة أمره. وناهيك بقول أوس:
حتى إذا الكلّاب قال لها | كاليوم مطلوبا ولا طلبا «٤» |
(٢). لم أجده
(٣). قوله «ملحا زعاقا» في الصحاح «الماء الزعاق» : الملح. وطعام مزعوق: إذا كثر ملحه. (ع)
(٤). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ٢٨٨ فراجعه إن شئت اه مصححه.
إذا سقيت ضيوف النّاس محضا | سقوا أضيافهم شبما زلالا «١» |
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٧١ الى ٧٤]
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤)
تُورُونَ تقدحونها وتستخرجونها من الزناد والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما على الآخر، ويسمون الأعلى: الزند، والأسفل: الزندة، شبهوهما بالفحل والطروقة «٢» شَجَرَتَها التي منها الزناد تَذْكِرَةً تذكيرا لنار جهنم، حيث علقنا بها أسباب المعايش كلها، وعممنا بالحاجة إليها البلوى لتكون حاضرة للناس ينظرون إليها ويذكرون ما أو عدوا به. أو جعلناها تذكرة وأنموذجا من جهنم، لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزأ من حرّ جهنم» «٣» وَمَتاعاً ومنفعة لِلْمُقْوِينَ للذين ينزلون القواء وهي القفر. أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام. يقال: أقويت من
والمخض- بمعجمتين-: اللبن المنزوع زبده، فهو بمعنى الممخوض. ويروى: محضا، بالحاء المهملة، أى: خالصا حلوا أو حامضا. والشبم- كحذر-: البارد. والزلال: العقب. هذا وحيث جعل علماء البلاغة للمقام مدخلا في الدلالة على المراد فنقول: إن معنى البيت: إذا عجلت الناس اللبن لأضيافهم واكتفوا به عن الاسراع بالطعام:
عجلوا هم بالطعام لضيوفهم لاستعدادهم للضيفان، فيحتاجون لشرب الماء، فيسقونهم ماء قبل إطعام غيرهم الضيفان، فسقيهم الماء يفيد تعجيل الطعام قبله بمعونة المقام، لأنه يلزمه عادة فلا عيب فيه.
(٢). قوله «بالفحل والطروقة» أنثى الفحل، كما في الصحاح. (ع)
(٣). متفق عليه من حديث أبى هريرة.
الذكر، أى: بذكر ربك. والْعَظِيمِ صفة للمضاف أو للمضاف إليه. والمعنى: أنه لما ذكر ما دل على قدرته وإنعامه على عباده قال: فأحدث التسبيح وهو أن يقول: سبحان الله، إمّا تنزيها له عما يقول الظالمون الذين يجحدون وحدانيته ويكفرون نعمته، وإما تعجبا من أمرهم في غمط آلائه «١» وأياديه الظاهرة، وإما شكرا لله على النعم التي عدّها ونبه عليها.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٧٥ الى ٨٠]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠)
فَلا أُقْسِمُ معناه فأقسم. ولا مزيدة مؤكدة مثلها في قوله لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ وقرأ الحسن: فلأقسم. ومعناه: فلأنا أقسم: اللام لام الابتداء «٢» دخلت على جملة من مبتدإ وخبر، وهي: أنا أقسم، كقولك «لزيد منطلق» ثم حذف المبتدأ، ولا يصح أن نكون اللام لام القسم لأمرين، أحدهما: أن حقها أن يقرن بها النون المؤكدة، والإخلال بها ضعيف قبيح. والثاني: أن «لأفعلن» في جواب القسم للاستقبال، وفعل القسم يجب أن يكون للحال بِمَواقِعِ النُّجُومِ بمساقطها ومغاربها، لعل لله تعالى في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى المغرب أفعالا مخصوصة عظيمة، أو للملائكة عبادات موصوفة، أو لأنه وقت قيام المتهجدين والمبتهلين إليه من عباده الصالحين، ونزول الرحمة والرضوان عليهم، فلذلك أقسم بمواقعها، واستعظم ذلك بقوله وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ أو أراد بمواقعها: منازلها ومسايرها، وله تعالى في ذلك من الدليل على عظيم القدرة والحكمة ما لا يحيط به الوصف.
وقوله وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ اعتراض في اعتراض، لأنه اعترض به بين المقسم والمقسم «٣» عليه، وهو قوله إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ واعترض ب لَوْ تَعْلَمُونَ بين الموصوف وصفته.
(٢). قال محمود: «لا زائدة مؤكدة مثلها في قوله لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ قال: وقرأ الحسن فلأقسم» واللام في هذه للابتداء... الخ» قلت: تلخيص الرد بهذا الوجه الثاني: أن سياق الآية يرشد إلى أن القسم بمواقع النجوم واقع، ويدل عليه القراءة الأخرى على زيادة لا: ومقتضى جعلها جوابا لقسم محذوف أن لا يكون القسم بمواقع النجوم واقعا، بل مستقبلا، فتتنافس القراءتان إذا، والله الموفق للصواب.
(٣). قال محمود: «قوله وإنه لقسم لو تعلمون عظيم: اعتراض في اعتراض فالجملة الكبرى اعتراض بين القسم والجواب... الخ» قال أحمد: وعلى هذا التفسير يكون جواب القسم مناسبا للمقسم، مثل قوله حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ومن واديه:
وثناياك إنها إغريض
كما تقدم.
وقرئ: المتطهرون، والمطهرون بالإدغام. والمطهرون، من اطهره بمعنى طهره. والمطهرون بمعنى: يطهرون أنفسهم أو غيرهم بالاستغفار لهم والوحى الذي ينزلونه تَنْزِيلٌ صفة رابعة للقرآن، اى: منزل من رب العالمين. أو وصف بالمصدر، لأنه نزل نجوما من بين سائر كتب الله تعالى، فكأنه في نفسه تنزيل، ولذلك جرى مجرى بعض أسمائه، فقيل: جاء في التنزيل كذا، ونطق به التنزيل. أو هو تنزيل على حذف المبتدإ. وقرئ: تنزيلا، على: نزل تنزيلا،
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٨١ الى ٨٢]
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢)
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ يعنى القرآن أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ اى: متهاونون به، كمن يدهن في الأمر، أى يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونا به وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ على حذف المضاف، يعنى: وتجعلون شكر رزقكم التكذيب، أى: وضعتم التكذيب موضع الشكر.
وقرأ على رضى الله عنه: وتجعلون شكركم أنكم تكذبون. وقيل: هي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمعنى وتجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به. وقيل: نزلت في الأنواء ونسبتهم السقيا إليها. والرزق: المطر، يعنى: وتجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله، حيث تنسبونه إلى النجوم. وقرئ: تكذبون وهو قولهم في القرآن: شعر وسحر وافتراء. وفي المطر: وهو من الأنواء، ولأنّ كل مكذب بالحق كاذب.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٨٣ الى ٩٦]
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧)
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢)
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦)
الروح الرحمة، لأنها كالحياة للمرحوم. وقيل: البقاء، أى: فهذان له معا، وهو الخلود مع الرزق «٣» والنعيم. والريحان: الرزق فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ أى: فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، أى: يسلمون عليك، كقوله تعالى إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً.
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ كقوله تعالى هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ وقرئ بالتخفيف وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ قرئت بالرفع والجر عطفا على نزل وحميم إِنَّ هذا الذي أنزل في هذه السورة لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ أى الحق الثابت من اليقين.
(٢). أخرجه الترمذي والنسائي وإسحاق والحاكم من رواية بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن عائشة، زاد إسحاق «برفع الراء».
(٣). قوله «وهو الخلود مع الرزق» لعله: وهما. (ع)