تفسير سورة الواقعة

البسيط للواحدي
تفسير سورة سورة الواقعة من كتاب التفسير البسيط المعروف بـالبسيط للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

تفسير سورة الواقعة

بسم الله الرحمن الرحيم

١ - ﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ قال أهل المعاني (١): اذكر إذا وقعت الواقعة، وقال "صاحب النظم": إذا هاهنا صفة وفضل ولغو، كما قال -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ﴾ [الانشقاق: ١] وتأويله: انشقت السماء، كما قال: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ﴾ [القمر: ١] و ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾ [النحل: ١]، ونظيره في الكلام: قد جاء الشتاء وجاء الصوم بمعنى اقترب ودنا، وإنما قلنا: إن (إذا) ملغاة، لأنه لم يجيء لها خبر ولا جواب، ومنه قول الهذلي (٢):
حتى إذا أسلكوهم في قتائدهم شلَّا كما يطرد الجمالة الشردا
(١) انظر: "الكشاف" ٤/ ٥٥، و"الجامع" للقرطبي ١٧/ ١٩٤، و"فتح القدير" ٥/ ١٤٧.
(٢) هو عبد مناف بن ربع الهذلي، جاهلي، والبيت ورد في "ديوان الهذليين" ٢/ ٤٢، وروايته (فتائدة)، و"الأمالي" لابن الشجري ٢/ ١٢٢، و"الإنصاف" ص ٤٦١، و"الخزانة" ٧/ ٣٩، ٤١. وانظر أيضًا: "اللسان" ٣/ ١٦ (قتد)، ٢/ ١٨٨ (سلك)، و"تهذيب اللغة" ١٠/ ٦٣ (سلك) ونسبه لابن أحمر.
والقتائد: ثنية معروفة، وقيل: اسم عقبة، والشُّرد جمع شرود.
يريد حتى أسلكوهم واليت آخر القصيدة ولم يجيء لـ (إذا) جواب هذا كلامه (١)، والأول الوجه.
قال المبرد: (وَقَعَتِ) معناه: تقع؛ لأن إذا للاستقبال ومعنى الوقوع هاهنا ظهور بالحدوث كظهور الساقط يحضره الرأي (٢).
وقال أبو إسحاق: يقال لكل (٣) آت كان يتوقع: قد وقع، تقول: قد وقع الأمر، كقولك: قد جاء الأمر (٤).
قال ابن عباس: إذا قامت القيامة (٥).
قال أبو عبيدة والأخفش: الواقعة: اسم للقيامة كالآزفة وغيرها (٦)، وهذا هو الصحيح (٧)؛ لأن المعنى أنها ستقع، وأما ما قال مقاتل في تفسير الواقعة أنها الصيحة وهي النفخة الأخيرة (٨) فبعيد، لأن الله تعالى وصفها بعد بقوله: ﴿خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ﴾ وهي من صفة القيامة لا من صفة الصيحة.
٢ - قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ﴾ الكاذبة هاهنا مصدر بمعنى الكذب، كالخائنة، واللاغية، والخاطئة، والعافية، والعاقبة، عند أكثر
(١) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٩٥.
(٢) انظر: "الكشاف" ٤/ ٥٥، و"روح المعاني" ٢٧/ ١٢٩.
(٣) في (ك): (كل).
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٠٧.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٢٩، و"الوسيط" ٤/ ٢٣١، و"زاد المسير" ٨/ ١٣٠.
(٦) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٧.
(٧) وبه قال ابن قتيبة واعتمده ابن كثير وغيره من المفسرين.
انظر: "تفسير غريب القرآن" ص ٤٤٥، و"ابن كثير" ٤/ ٢٨٢، و"فتح القدير" ٥/ ١٤٧.
(٨) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٧ أ، وفيه (.. النفخة الأولى) وبقول مقاتل قال الضحاك. انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٩٦، و"روح المعاني" ٢٧/ ١٢٩.
210
أهل المعاني (١)، والمعنى: ليس لها كذب، أي أنها تقع صدقًا وحقًا فليس فيها ولا الإخبار عن وقوعها كذب.
وقال بعض أهل المعاني: يجوز أن تكون الكاذبة صفة والموصوف محذوفًا، على تقدير: ليس لوقعتها قضية كاذبة أي أن كل ما أخبر الله من أحكامها وقضاياها صادقة غير كاذبة، ويجوز أن يكون التقدير ليس لوقعتها نفس كاذبة (٢) أي أن كل من يخبر عن وقوعها صادق غير كاذب لم تكذب نفس أخبرت عن وقوعها.
وأما الكسائي والفراء والزجاج فإنهم جعلوا الكاذبة هاهنا بمعنى التكذيب وفسروها بالرد، قال الكسائي: كاذبة تكذيب، وزاد الفراء: المكذوبة بمعنى التكذيب، وحكاها عن أبي ثروان (٣).
وقال أبو إسحاق: كاذبة أي لا يردها شيء، كما تقول حملة فلان لا تكذب، أي لا يرد حملته شيء (٤)، وعلى هذا المعنى دل كلام ابن عباس في رواية عطاء والكلبي قال: ليس لوقعتها رادة، وقال الكلبي عنه
(١) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٢١، و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٣١٨ - ٣١٩.
(٢) انظر: "الكشاف" ٤/ ٥٥، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٩٥، و"البحر المحيط" ٨/ ٢٠٣.
(٣) أبو ثروان العكلي من الأعراب الذين شايعوا الكسائي على سيبويه في المسألة الزنبورية المعروفة، تعلم في البادية، وأكثر الفراء من الرواية عنه. له كتاب "خلق الفرس"، و"معاني الشعر".
انظر: "طبقات الزبيدي" ص ٧١، و"معجم الأدباء" ٧/ ١٤٨، و"همع الهوامع" ١/ ٢١٠، وانظر: "تهذيب اللغة" ١٠/ ١٦٧ (كذب).
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٢١، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٠٧، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٩٥.
211
مردودة (١).
والردة هاهنا بمعنى المصدر، أي: رد، وعلى هذا القول يجب أن تكون (الكاذبة) بمعنى التكذيب ويكون التكذيب بمعنى الرد، ولم أر الفاعلة في مصادر التفعيل ولا الكذب بمعنى الرد لغيرهم فالله أعلم.
ويكون كذب بمعنى ارتد وولى، يقال: ما كذب عن قرنه أي ما جبن ولا رجع. ومنه قول زهير: (٢)
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ما الليث كذَّب عن أقرانه صدقا
فإن صحت الكاذبة بهذا المعنى كان تفسير ليس لوقعتها ارتداد، وهذا قول قتادة ومقاتل. قالا: ليس لوقعتها مثنوية ولا ارتداد (٣).
٣ - قوله تعالى ﴿خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ﴾ قال أبو إسحاق: هي خافضة رافعة (٤). روى عكرمة عن ابن عباس قال تخفض ناسًا وترفع (٥) آخرين (٦).
وقال عطاء عنه: تخفض أقوامًا كانوا في الدنيا مرتفعين، وترفع أقوامًا كانوا في الدنيا متَّضعين (٧).
(١) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٢٩، وفيه (راد ولا خلف ولا مثنوية).
وانظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٩٦، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٩٥.
(٢) انظر: "ديوان زهير" ص ٥٤، و"شرح المفصل" ١/ ٦١، و"المنصف" ٣/ ١٢١، وقوله "بعثر" هي موضع في اليمن. وقيل: هي أرض مأسدة بناحية تبالة، و"اللسان" ٢/ ٦٨٤ (عثر).
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٧ أ، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٦٩، و"الطبري" ٢٧/ ٩٦.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٠٧.
(٥) في (ك): (وتضع).
(٦) انظر: "المصنف" ١٣/ ٣٧٢، و"الوسيط" ٤/ ٢٣٢، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٨٢، ونسب تخريجه لابن أبي حاتم.
(٧) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٣٢، و"معالم التزيل" ٤/ ٢٧٩، و"زاد المسير" ٨/ ١٣١.
وقال قتادة: خفضت أقوامًا في عذاب الله، ورفعت أقوامًا في كرامة الله (١)، والمعنى أنها تخفض أقوامًا إلى أسفل سافلين في النار، وترفع آخرين إلى أعلى عليين في الجنة، وقال أهل المعاني: تخفض بالمعصية وترفع بالطاعة (٢)، وقال ابن عطاء: خفضت قومًا بالعدل ورفعت قومًا بالفضل (٣).
٤ - قوله: ﴿إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا﴾ الوجه أن تجعل إذا مضمنًا بالذكر كما قلنا في ﴿إِذَا وَقَعَتِ﴾ وقال الجرجاني: إذا ظرف لقوله: ﴿وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ لأنه وقت لها، أي أن الواقعة تقع إذا رجت الأرض رجًا، قال: وفي هذا دليل على أن تأويل قوله: ﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ ستقع الواقعة إذا رجت (٤)، ونحو هذا قال أبو إسحاق: موضع إذا نصب المعنى: إذا وقعت في ذلك الوقت ومعنى (رُجَّتِ) حركت حركة شديدة (٥) يقال: رججته فارتج، والسهم يرتج في الغرض (٦)، قال قتادة ومقاتل: زلزلت زلزالاً (٧).
وقال الكلبي وجماعة المفسرين: ترج كما يرج الصبي في المهد حتى يتهدم كل بناء عليها وينكسر كل ما عليها من الجبال (٨)، فذلك قوله تعالى:
٥ - ﴿وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا﴾ ذكر أهل المعاني واللغة فيه قولين:
(١) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٦٩، و"جامع البيان" ٢٧/ ٩٦.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٠٧.
(٣) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٥٠ ب، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٩٥.
(٤) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ١٤٢، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٩٦.
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٠٨.
(٦) الرَّجُّ: التحريك؛ والرجرجة: الاضطراب. والرَّجُّ: تحريكك شيئًا كحائط إذا حركته "اللسان" ١/ ١١٢٥ (رَجج).
(٧) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٦٩، و"تفسير مقاتل" ١٣٧ أ.
(٨) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٣٢، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٩، و"زاد الميسر" ٨/ ١٣١.
213
أحدهما: أن معنى: (بُسَّتِ) خلطت فصارت كالدقيق المبسوس، وهو الملتوت بشيء من الماء، هذا قول أبي عبيدة، والفراء، وأنشدا (١):
لا تخبزا خبزًا وبسا بسَّا
أي: اخلطا الدقيق بالماء فكلاه، والمعنى على هذا أن الجبال تصير ترابًا تخلي بعضها ببعض.
القول الثاني: أن معنى البس الفت، روى عمرو عن أبيه: بس الشيء إذا فتته حتى يصير فتاتًا (٢).
وذكر أبو إسحاق في البس قولاً آخر وهو السوق والطرد، ومعنى (بُسَّتِ) سيقت، وأنشد (٣):
وانبس حيَّاتُ الكثيب الأهيل
قال اللحياني (٤): يقال بُسَّهم عنك، أي: اطردهم، وانبس الرجل إذا ذهب، وانبست الحيات إذا جرت على الأرض (٥)، وأقوال المفسرين غير خارجة عن هذه الأقسام.
(١) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٧ - ٢٤٨، و"معاني القرآن" ٣/ ١٢١، والبيت من الرجز، قيل إنه للص من غطفان. وتمامه:
ولا تطيلا بمناخ حبسا
وانظر: "اللسان" ١/ ٢١٢ (بسس)، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٠٨، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٩٦، وفي تمامه اختلاف. وذكره الأزهري عن الأصمعي حيث قال: وسمعت العرب تنشد.. ، انظر: "تهذيب اللغة" ١٢/ ٣١٦ (بس).
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ١٢/ ٣١٥، و"اللسان" ١/ ٢١٢ (بسس).
(٣) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٠٨، والبيت في "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٠٨. و"اللسان" ١/ ٢١٢ (بسس)، ومعناه أن الحيات تذهب وتنساب على وجه الأرض.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" ١٢/ ٣١٦ (بس).
(٥) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٩٧، و"تفسير مجاهد" ٢/ ٦٤٥، و"تفسير مقاتل" ١٣٧ ب.
214
قال ابن عباس في رواية عطاء: فُتَّت فتا، وهذا قول مقاتل ومجاهد في رواية ابن أبي نجيح (١) وروى منصور عنه: لُتَّت لتًّا كما يبس السويق (٢). وقال السدي: كسرت كسرًا (٣)، وهذا كقول من قال: فتت.
وقال الكلبي: سيرت عن وجه الأرض (٤)، ونحو هذا قال الحسن: قلعت من أصلها (٥).
وقال قتادة: نسفت نسفًا، وقول الكلبي والحسن وقتادة معنى قول من يفسر البس بالطرد (٦).
٦ - قوله تعالى: ﴿فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا﴾ يعني صارت غبارًا متفرقًا كالذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل من الكوة وهو الهباء (٧).
والمنبث المتفرق، هذا قول ابن عباس ومقاتل ومجاهد (٨).
(١) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٤٥، و"جامع البيان" ٢٧/ ٩٧.
(٢) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٥١ ب، و"الوسيط" ٤/ ٢٣٢، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٩.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٣١، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٩.
(٤) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٥ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٣٢، و"فتح القدير" ٥/ ١٤٧.
(٥) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٦٩، قال الشنقيطي: وقوله تعالى: ﴿وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا﴾ في معناه لأهل العلم أوجه متقاربة لا يكذب بعضها بعضًا، وكلها حق، وكلها يشهد له القرآن. ثم ذكر الأقوال وشواهدها، انظر: "أضواء البيان" ٧/ ٤٦٤.
(٦) في (ك): (اللبس بالطردة).
(٧) الهباء: التراب الذي تُطيره الريح فتراه على وجوه الناس وجلودهم وثيابهم يلزق لزوقًا. وقيل: غبار شبه الدخان ساطع في الهواء. "اللسان" ٣/ ٧٦٦ (هبا).
(٨) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٧ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٩.
وروي عن علي -رضي الله عنه- قال: يعني رهج الدواب الذي يسطع من حوافرها (١).
ثم ذكر أحوال الناس فقال:
٧ - قوله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً﴾، قال المفسرون: أصنافًا ثلاثة، قال أبو إسحاق: يقال للأصناف التي بعضها مع بعض أزواج (٢).
ثم فسر الأزواج بقوله: ﴿فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ يعني اليمين، وجمعها الميامن، وهي جوانب اليمين، وفي أصحاب الميمنة أربعة أقوال:
قال عطاء، عن ابن عباس: هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم، وهو قول الضحاك (٣).
وعن ابن عباس أيضًا: هم الذين كانوا على يمين آدم حين أخرجت الذرية من صلبه (٤).
وقال الحسن والربيع: هم الذين كانوا ميامين مباركين على أنفسهم، وكانت أعمارهم في طاعة الله -عَزَّ وَجَلَّ- (٥).
(١) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٩٧، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٩٧، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٨٢.
(٢) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٠٨.
(٣) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٥١ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٩، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٩٧.
(٤) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٥١ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٩، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٨٢.
(٥) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٥١ أ - ب، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٩٧، و"فتح القدير" ٥/ ١٤٨.
القول الرابع: أنهم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة (١).
٨ - قوله تعالى: ﴿مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ قال جميع أهل المعاني (٢) (مَا) هاهنا تفخيم لقصتهم وتعظيم لشأنهم وتعجيب منهم، كما تقول: زيد ما زيد؟ أي: أي شيء هو؟ للتعجب منه، وهذا كقوله: ﴿الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ﴾ [الحاقة: ١، ٢] و ﴿الْقَارِعَةُ (١) مَا الْقَارِعَةُ﴾ [القارعة: ١، ٢].
٩ - قوله تعالى: ﴿وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ﴾ يعني أصحاب الشمال والمشئمة اليسرى. يقال: اليد اليمنى واليد الشومى، ومن هذا اللفظ أخذ اليُمْن والشؤم، واليَمَن والشأم.
وفي أصحاب المشئمة أربعة أقوال تضاد الأقوال التي ذكرناها في أصحاب الميمنة (٣).
ثم ذكر الصنف الثالث فقال:
١٠، ١١ - قوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ قال الفراء والزجاج يجوز أن يكون (وَالسَّابِقُونَ) ابتداء، وخبره الثاني، ويكون المعنى: والسابقون إلى طاعة الله السابقون إلى رحمة الله، ويكون ﴿أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ من صفتهم. ويجوز أن يكون الأول ابتداء والثاني توكيده، ويكون الخبر ﴿أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ (٤).
(١) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٩٨، و"الجامع" للقرطبي ١٧/ ١٩٧، ونسبه للسدي.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٧٠١، و"معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٢٢، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٠٨.
(٣) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٥١ ب.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٢٢، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٠٩.
أورد النحاس قولهما أن ﴿أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ صفة، قال: ولكن يكون بدلاً أو خبرًا بعد خبر. انظر: "إعراب القرآن" ٣/ ٣٢١.
217
واختلفوا في تفسير السابقين فقال ابن عباس (١): يريد الذين سبقوا إلى توحيد الله والإيمان برسوله كما قال: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ﴾ [التوبة: ١٠٠] الآية.
وقال ابن سيرين: هم الذين صلوا القبلتين (٢)، وهذا كقول ابن عباس؛ لأن الذين صلوا القبلتين كانوا هم الأولين من الصحابة، ونحو هذا قال عكرمة: السابقون إلى الإسلام (٣)، وهو معنى قول الربيع: إلى إجابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- (٤).
وقال مقاتل: إلى الأنبياء بالإيمان (٥). وهذا القول يوجب تخصيص السابقين بأوائل هذه الأمة. وقال الكلبي: السابقون إلى الرسول من كل أمة السابقون في الآخرة إلى الجنة (٦).
وأكثر المفسرين جعلوا هذا السبق إلى الطاعات، فمنهم من أجملها وهو القرظي فقال: إلى كل خير وإلى كل ما دعا الله إليه، وهو اختيار ابن كيسان (٧).
ومنهم من فصَّل فقال سعيد بن جبير: إلى التوبة (٨)، وقال علي -رضي الله عنه-:
(١) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٣٢، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٥.
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٩٩، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٨٣.
(٣) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٥٢ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٥، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٩٩.
(٤) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٥٢ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٠.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٧ ب.
(٦) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٣٢، و"الوسيط" ٤/ ٢٣٢.
(٧) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٥٢ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٠.
(٨) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٠، و"زاد المسير" ٨/ ١٣٣.
218
إلى الصلوات الخمس (١)، وقال عثمان بن أبي سودة (٢): إلى المسجد، إلى الجهاد، يخرجون في الرعيل الأول من المصلين والمجاهدين (٣).
ثم وصفهم وأخبر عنهم فقال: ﴿أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ قال ابن عباس: مثل النبيين والمرسلين (٤). وقال الكلبي: إلى عَدَن (٥). وقال أهل المعاني: جزيل ثواب الله وعظيم كرامته (٦).
ثم أخبر أين محلهم فقال:
١٢ - ﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ وقوله: ﴿أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ إلى قوله: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ﴾ [الواقعة: ٢٧] كله من صفة السابقين وبيان حالهم، وذلك أن الله تعالى صنف الخلق ثلاثة أصناف كما ذكر، ثم بين هناك كل صنف وحاله في الآخرة فذكر صفة السابقين أولاً، ثم وصف
(١) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٥٢ أ، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٩٩، و"روح المعاني" ٢٧/ ١٣٢.
(٢) هو عثمان بن أبي سودة المقدسي، روى عن أبي الدرداء وأبي هريرة وغيرهما، وعنه الأوزاعي وجابر بن زيد وغيرهما، وثقه مروان بن محمد وذكره ابن حبان في "الثقات".. انظر: "تهذيب التهذيب" ٧/ ١٢٠، و"تقريب التهذيب" ٢/ ٩.
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٩٩، و"المصنف" ٥/ ٢٦٧، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٩٩، ونسبه لمجاهد وغيره.
قال ابن كثير بعد ذكره للأقوال: وهذه الأقوال كلها صحيحة، فإن المراد بالسابقين هم المبادرون إلى فعل الخيرات كما أمروا، كما قال تعالى ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [آل عمران: ١٣٣] فمن سابق في هذه الدنيا وسبق إلى الخير كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة، فإن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان. "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٨٣.
(٤) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٣٢.
(٥) لم أجده، وذكر المفسرون نحوه، فقالوا: (عند الله).
(٦) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٣٢.
الفريقين الآخرين فيما بعد.
قوله تعالى: ﴿ثُلَّةٌ﴾ الثلة: الفرقة والجماعة من (١) الناس غير محصوري العدد في قلة ولا كثرة (٢).
قوله تعالى: ﴿مِنَ الْأَوَّلِينَ﴾ يعني من لدن آدم إلى زمان نبينا -صلى الله عليه وسلم-. قاله الكلبي (٣)، وقال عطاء: يريد كثيرًا من الأولين (٤)، وقال مقاتل: يعني سابقي الأمم الخالية.
١٤ - ﴿وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ﴾ يريد من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.
قال مقاتل: يعني سابقي هذه الأمة أقل من سابقي الأمم الخالية (٥).
وقال أبو إسحاق: الذين عاينوا جميع النبيين وصدقوا بهم أكثر ممن عاين النبي -صلى الله عليه وسلم- (٦).
١٥ - قوله: ﴿عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ﴾ معنى الوضن في اللغة: النضد والنسج المضاعف، يقال: وضن فلان الحجر والآجر بعضه فوق بعض فهو موضون.
وقال الليث: الوضن نسج السرير وأشباهه، ويقال: درع موضونة مقاربة في النسج مثل مرصوفة، وقال رجل من العرب لامرأته: ضنيه -يعني متاع البيت- أي قاربي بعضه من بعض.
(١) (من) ساقطة من (ك)، وبزيادتها تستقيم العبارة.
(٢) وقال أبو عبيدة: (تجيء جماعة وأمة وتجيء بقية). "مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٨. وانظر: "تهذيب اللغة" ١٥/ ٦٣، و"اللسان" ١/ ٣٧١ (ثلل).
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٣٢، و "معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٠.
(٤) لم أجده. وهو ظاهر المعنى.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٧ ب.
(٦) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٠٩.
قال أبو عبيدة، والفراء، والمبرد، وابن قتيبة (١): موضونة: منسوجة مضاعفة متداخلة بعضها على بعض كما يوضن حلق الدروع، ومنه سمي الوضين، وهو بطان من سيور منسوجة مضاعفة تنسج فيدخل بعضه في بعض، وأنشدوا للأعشى (٢):
ومن نسج داوود موضونة تساق مع الحي عيرًا فعيرا
قال المفسرون: مرمولة منسوجة بقضبان الذهب مشبكة بالدر والياقوت والزبرجد، وهو قول الكلبي، ومجاهد، ومقاتل (٣).
وقال الضحاك: مصفوفة، وهو قول ابن عباس في رواية الوالبي (٤).
١٧ - قوله تعالى: ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ﴾ قال أبو عبيدة: لا يهرمون ولا يتغيرون (٥)، ونحو ذلك قال الفراء، قال: والعرب تقول للرجل إذا كبر ولم يشمط: إنه لمخلد، وإذا لم تذهب أسنانه من الكبر قيل: إنه لمخلد، قال: ويقال مخلدون: مقرَّطون، ويقال مسورون (٦).
وأنشد غيره:
(١) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٨، و"معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٢٢، و"تفسير غريب القرآن" ص ٤٤٦.
(٢) "ديوانه" ص ٩٠، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١١٠، و"اللسان" ٣/ ٩٤٤ (وضن)، و"تفسير غريب القرآن" ص ٤٠٩.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٣٢، و"تفسير مجاهد" ٢/ ٦٤٦، و"تفسير مقاتل" ١٣٧ ب، و"جامع البيان" ٢٧/ ٩٩، و"المصنف" ١٣/ ١٣٩.
(٤) انظر: "جامع الييان" ٢٧/ ١٠٠، و"الثعلبي" ١٢/ ٥٣ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٠.
(٥) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٩.
(٦) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ١٢٢ - ١٢٣.
221
ومخلداتٍ باللجين كأنما أعجازهن أقاوز الكثبان (١)
وهذا قول ابن الأعرابي قال: مخلدون مقرَّطون بالخلدة، وجمعها خلد، وهي القرطة.
وروى عمرو عن أبيه: خلَّد جاريته إذا حلَّاها بالخلد وهي القرطة، وخلَّد إذا أسنَّ ولم يشب (٢).
قال ابن عباس: غلمان لا يموتون وهو قول مجاهد (٣)، وعلى هذا هو من الخلود الذي هو البقاء بلا موت.
وقال الكلبي ومقاتل: لا يكبرون ولا يهرمون ولا يتغيرون (٤).
وقال سعيد بن جبير والمؤرج: مقرطون (٥).
والمراد بالولدان: الغلمان، وهم وإن لم يولدوا ولم يحصلوا عن ولادة أطلق عليهم هذا الاسم، لأن العرب تسمي الغلمان ولدانًا، وبعضهم احترز فجعل الولدان هاهنا ولدان المسلمين الذين يموتون ولا حسنة لهم ولا سيئة، وهذا القول يروى عن علي والحسن، قالا: لأن الجنة لا ولادة فيها (٦)،
(١) البيت في "تهذيب اللغة" ٧/ ٢٧٧، و"اللسان" ١/ ٨٧٦ (خلد) و٣/ ١٨٦ (قوز)، و"تفسير غريب القرآن" ص ٤٤٧، ولم ينسب لقائل، واللجين هي الفضة.
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ٧/ ٢٧٩ (خلد).
(٣) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٤٦، و"تنوير المقباس" ٥/ ٣٣٣.
(٤) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٨١، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٠٢، ولم أقف عليه في "تفسير مقاتل".
(٥) "الكشف والبيان" ١٢/ ٥٣ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٨١، و"اللسان" ص ٨٧٦ (خلد). قال الألوسي: أي مبقون أبدًا على شكل الولدان، وحد الوصافة لا يتحولون عن ذلك، وإلا فكل أهل الجنة مخلد لا يموت "روح المعاني" ٢٧/ ١٣٦.
(٦) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٥٣ أ، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٠٣.
222
والقول هو الأول (١)
١٨ - قوله تعالى: ﴿بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ﴾ قالوا الأكواب المستديرة الأفواه لا آذان لهما ولا عُرى، والأباريق ذات الخراطيم واحدها إبريق، وهو الذي يبرق لونه من صفائه (٢). وأباريق الجنة من الفضة في صفاء القوارير، يرى من ظاهرها ما في باطنها، ذكر ذلك عطاء، ومقاتل (٣)، والعرب تسمي السيف إبريقًا لبريق لونه، ومنه قول ابن أحمر (٤):
تعلَّقت إبريقًا وعلقت جعبةً ليهلك حيا ذا زهاء وجامل (٥)
وقال اللحياني: امرأة إبريق إذا كانت برَّاقة. وما بعد هذا مفسر في سورة الصافات [آية: ٤٥].
٢٠ - قوله تعالى: ﴿مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ﴾ تخيرت الشيء أخذت خيره.
٢١ - قوله تعالى: ﴿وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ قال ابن عباس: يخطر على قلبه الطير فيصير ممثلًا بين يديه على ما اشتهى (٦).
٢٢ - قوله تعالى: ﴿حُورٌ عِينٌ﴾ أكثر القراءة بالرفع، وقرأ حمزة والكسائي بالخفض (٧).
(١) وقال الشوكاني: ولا يبعد أن يكونوا مخلوقين في الجنة للقيام بهذه الخدمة، و"فتح القدير" ٥/ ١٤٩.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٢٣، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١١٠.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٧ ب.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" ٩/ ١٣٣ (برق).
(٥) ورد البيت في "اللسان" ٢/ ٨٦٣ (علق)، ولم ينسبه.
(٦) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٨١، و"زاد المسير" ٨/ ١٣٧.
(٧) قرأ حمزة، والكسائي، وأبو جعفر ﴿وَحُورٌ عِينٌ﴾ بالخفض. وقرأ الباقون برفعهما. انظر: "النشر" ٢/ ٣٨٣، و"الإتحاف" ص ٤٠٧ - ٤٠٨
223
قال أبو عبيد: هي عندنا بالرفع بمعنى: وعندهم حور عين، ولا أحب الخفض لأنه ليس يطاف عليهم بالحور، هذا كلامه (١)، ووجه الرفع علي مذهب سيبويه (٢) أن قوله: ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ﴾ إلي قوله: ﴿وَحُورٌ عِينٌ﴾ دل على أن معنى الكلام لهم كذا ولهم كذا، فحمل: (حُورٌ) على المعنى كأنه قيل: ولهم حور، ومثله مما حمل على المعنى قول الشاعر (٣):
إلا رواكد جمرهن هباء
ومشجج............
فحمل ومشجج على المعنى لأن المعنى إلا رواكد ومشجج. ذكر ذلك المبرد والزجاج وأبو علي (٤).
وأما الخفض فقال الفراء: هو وجه الكلام على أن تتبع آخر الكلام أوله وان لم يحسن في آخره ما حسن في أوله، وأنشد:
(١) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٣٢٤، و"حجة القراءات" ص ٦٩٥.
(٢) انظر: "الكتاب" ١/ ١٧٣.
(٣) البيت الأول بتمامه:
بادت وغير آيهن مع البلى... إلا رواكد جمرهن هباء
والبيت الثاني:
ومشجج أما سواء قذاله فبدا... وغير سارة المعزاء
والبيتان ينسبان إلى ذي الرمة، كما في "ملحقات ديوانه" ٣/ ١٨٤٠.
وينسبان إلى الشماخ كما في "ملحقات ديوانه" ص ٤٢٧، ٤٢٨، و"الكتاب" ١/ ١٧٣، و"اللسان" ٢/ ٣٥٤ (شجج)، و"الحجة" ٦/ ٢٥٦، والرواكد الأثافي، والمشجج هو الوتد، وتشجيجه ضرب رأسه لثبت، وسواء قذالة: وسطه. والمعزاء. أرض صلبة ذات حصى.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١١١، ١/ ٢٥٤، و"الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٥٥ - ٢٥٦، و"البغداديات" ص ٢١٩ - ٢٢٠.
224
إذا ما الغانيات برزن يومًا وزججن الحواجب والعيونا (١)
والعين لا تزجج إنما تكحل، فردها على الحواجب لأن المعنى يعرف، قال: وكان ينبغي لمن رفع -لأنهن لا يطاف بهن- أن يرفع ﴿فَاكِهَةٍ﴾ ﴿وَلَحْمِ طَيْرٍ﴾. لأن الفاكهة واللحوم لا يطاف بها وفي ذلك بيان أن الخفض وجه الكلام (٢)، يعني أن الحور أَتبع في الخفض اللحم والفاكهة، فلما خفضا كذلك خفض الحور، وبين الزجاج هذا الوجه فقال: وحور مخفوض على غير ما ذهب إليه من ظن أن معنى الخفض فيه أنه يطاف به ولا يطاف بالحور، ولكن معنى ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوَابٍ﴾ ينعمون بها، وكذلك ينعمون بلحم طير وينعمون بحور عين (٣). وهذا معنى قول الفراء وإن لم يحسن في آخره ما حسن في أوله يعني لا يحسن الطوف في الحور كما حسن في الكأس، ولكن يعطف عليه في الظاهر؛ لأن المعنى يعرف كما عطف الشاعر العيون على الحواجب وأراد وكحلن العيون كذلك هاهنا يراد ويكرمون، أو وينعمون بفاكهة ولحم طير وحور عين.
(١) البيت للراعي النميري، انظر: "ديوانه" ص ١٥٠، و"الخصائص" ٢/ ٤٣٢، و"شرح شواهد المغني" ٢/ ٧٧٥، و"الدرر اللوامع" ١/ ١٩١، و"الإنصاف" ص ٦١٠، و"الخزانة" ٩/ ١٤١.
(٢) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ١٢٣ - ١٢٤.
قلت: قوله: (لأن الفاكهة واللحوم لا يطاف بها) تعقبه النحاس بقوله: (وهذا الاحتجاج لا ندري كيف هو إذ كان القراء قد أجمعوا على القراءة بالخفض في قوله جل وعز ﴿وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ فمن أين له أنه لا يطاف بهذه الأشياء التي ادعى أنه لا يطاف بها؟ وإنما يسلم في هذا لحجة قاطعة، أو خبر يجب التسليم به. "إعراب القرآن" ٣/ ٣٢٤ - ٣٢٥.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١١١.
225
وقال أبو علي: وجه الجر أن تحمله على قوله: ﴿أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ التقدير: في جنات النعيم، وفي حور عين أي في مقام به حور عين أو معاشرة حور عين، ثم حذف المضاف (١).
وتفسير اللؤلؤ المكنون سبق في سورة الطور (٢) [آية: ٢٤].
٢٤ - قوله تعالى: ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ذكر أبو إسحاق في نصب جزاء قولين: أحدهما: أنه مصدر ودل ما قبله على يجزون.
والثاني: أنه مفعول له، المعنى: يفعل ذلك بهم لجزاء أعمالهم (٣). قوله تعالى: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا﴾ قال المبرد: اللغو ما يرغب عنه من الكلام ويستحق أن يلغى (٤). والمعنى: ليس فيها لغو فيسمع.
٢٥ - [قوله: ﴿وَلَا تَأْثِيمًا﴾] (٥) يقال أثَّمه إذا قال أثمت، وللتأثيم هاهنا معنيان:
أحدهما: أن بعضهم لا يقولون لبعض أثمت لأنهم لا يتكلمون بالإثم كما يتكلم أهل الدنيا (٦).
الثاني: ولا يأتون تأثيمًا أي ما هو سبب التأثيم من فعل أو قول قبيح (٧)، وهذا معنى قول أبي عبيدة، قال في هذه الآية: مجازها مجاز: أكلت خبزًا ولبنًا، واللبن لا يؤكل فجاز إذا كان معها شيء يؤكل، والتأثيم
(١) انظر: "الحجة" ٦/ ٢٥٧.
(٢) في (ك): (الذاريات).
(٣) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١١١ - ١١٢.
(٤) انظر: "اللسان" ٣/ ٣٧٨ (لغا).
(٥) ما بين المعقوفين زيادة من المحقق.
(٦) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٣٤، ونسبه لابن عباس، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٨٨.
(٧) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١٠٢.
لا يسمع إنما يسمع اللغو (١)، وهذا معني قول الكلبي، يقول: ولا إثم فيها (٢).
٢٦ - قوله تعالى: ﴿إِلَّا قِيلًا﴾ من الاستثناء المنقطع، المعنى: لكن يقولون قيلا أو يسمعون قيلا ﴿سَلَامًا سَلَامًا﴾ وانتصب سلامًا على النعت لقوله: قيلا، والسلام الآخر بدل الثاني، والمعنى: إلا قيلا يسلم فيه من اللغو والإثم، وإن شئت جعلت القيل يعمل في السلام الأول والآخر بدل، والمعنى: إلا أنهم يقولون الخير، هذا قول الأخفش والفراء والزجاج (٣).
قال عطاء عن ابن عباس: يريد: يحيي بعضهم بعضًا بالسلام (٤)، وزاد الكلبي عنه: وتحييهم الملائكة بالسلام ويرسل إليهم ربهم بالسلام (٥).
وقال مقاتل: يعني كثرة السلام من الملائكة (٦).
فالمفسرون: جعلوا السلام هاهنا بمعنى التحية والوجه ما قال الزجاج من أن المراد بالسلام أن قولهم يسلم من اللغو (٧)، ويدل على ذلك أن مسموع أهل الجنة لا يكون مقصورًا على التحية فقط، بل يسمعون
(١) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٩.
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٢/ ٣٣٥.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٤٠١ - ٧٠٢، و"معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٢٤، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١١٢.
(٤) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٣٤، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٢.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٣٥، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٠٦.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٨ أ.
(٧) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١١٢.
غيرها مما لا لغو فيه ولا تأثيم (١).
٢٧ - ثم ذكر أصحاب اليمين وعجب من شأنهم فقال: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ﴾ وقد تقدم تفسيره.
ثم ذكر منازلهم فقال:
٢٨ - قوله تعالى: ﴿فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ﴾ تفسير السدر قد تقدم في سورتين (٢).
والمخضود المنزوع الشوك في قول جميع أهل اللغة، والخضد: كسر (٣) الشيء اللين، وإذا كسرت عودًا لينًا ولم تبنه قلت: خضدته فاتخضد (٤)، ومعنى مخضود. خضد شوكه، أي قطع فلا شوك فيه.
قال ابن عباس في رواية الكلبي، ومجاهد، ومقاتل، وقتادة، وأبو الأحوص، وقسامة بن زهير (٥):
(١) قلت: وهو أيضًا ما اختاره ابن جرير ٢٧/ ١٠٢، حيث قال: (لا يسمعون فيها من القول إلا قليلاً سلامًا. أي: أسلم مما تكره). ويرى ابن كثير ٤/ ٢٨٨ شمول الآية للمعنيين حيث قال: (أي إلا التسليم منهم بعضهم على بعض، كما قال تعالى ﴿تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ﴾ [إبراهيم: ٢٣] وكلامهم أيضًا سالم من اللغو، الإثم).
(٢) عند تفسيره الآية [سبأ: ١٦] حيث قال: السدر من الشجر سدران. أحدهما: سدر بري لا ينتفع بثمره، ولا يصلح ورقه لغسول، وربما خبط للراعية، وله ثمر عفص لا يؤكل، والعرب تسميه الضال.. يتفكه به. وقال الفراء: ذكروا أنه السمر.
(٣) في (ك): (بكسر).
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" ٧/ ٩٧، و"اللسان" ١/ ٨٤٦ (خضد).
(٥) قسامة بن زهير المازني البصري، ثقة، حدث عن أبي موسى وأبي هريرة وروى عنه قتادة وهشام ابن حسان. قال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله. وتوفي في إمرة الحجاج. انظر: "تقريب التهذيب" ٢/ ١٢٦، و"تاريخ الإسلام" ٥/ ٤٥٧، و"طبقات ابن سعد" ٧/ ١٥٢، و"تهذب التهذيب" ٨/ ٣٧٨.
خضد شوكه فلا شوك فيه (١)، يدل عليه ما روي عن سليم (٢) ابن عامر (٣) قال: أقبل أعرابي يومًا فقال: يا رسول الله لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية، وما كنت أرى أن في الجنة شجرة تؤذى (٤) صاحبها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وما هي؟ " قال: السدر، فقال رسول الله: "أو ليس يقول (في سدر مخضود) خضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة، تنفتق الثمرة عن اثنتين وسبعين لونًا من الطعام، ما فيه لون يشبه الآخر" (٥).
وذكر جماعة من المفسرين في تفسير المخضود: أنه الموقر حملا (٦)، ولا وجه له، وكأنهم ذهبوا إلى أن الله تعالى لما خضد شوكه أوقره بالحمل كما هو في الخبر الذي ذكرنا، ولا يكون ذلك مما يفسر به المخضود، وأما ذكر من أنه لا يعقر اليد ولا يرد اليد منه شوك، ولا أذى
(١) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٧٠، و"تنوير المقباس" ٥/ ٣٣٥، و"تفسير مقاتل" ١٣٨ أ، و"جامع البيان" ٢٧/ ١٠٣، و"الثعلبي" ١٢/ ٥١ ب، و"ابن كثير" ٤/ ٢٨٨.
(٢) في (ك): (سليمان).
(٣) هو: سليم بن عامر الكلاعي، تقدمت ترجمته في سورة النور.
(٤) (تؤذي) ساقطة من (ك).
(٥) ذكره ابن كثير من رواية البغوي، و"تفسير ابن كثير" ٤/ ٢٨٨. وأخرجه الحاكم في التفسير، سورة الواقعة ٢/ ٤٧٦ وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والبيهقي عن أبي أمامة قال:.. وذكر الحديث. وأخرجه ابن المبارك في "الزهد" (٧٤)، عن صفوان بن عمرو، عن سليم بن عامر مرسلاً من غير ذكر لأبي أمامة. وانظر: "إحياء علوم الدين" ٤/ ٥٣٨، وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" ٦/ ١٠٣، والهيثمي في "مجمع الزوائد" ١٠/ ٤١٤ عن الطبراني.
(٦) روي عن مجاهد، والضحاك، وسعيد بن جبير، ومقاتل بن حيان. انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١٠٣، و"الثعلبي" ١٢/ ٥٤ ب، و"القرطبي" ١٧/ ٢٠٧.
فيه فكل هذا من معاني المخضود لا من تفسيره (١).
٢٩ - قوله: ﴿وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ﴾ قال الليث: الطلح شجر أم غيلان، له شوك أحجن (٢)، وهو من أعظم العضاه شوكًا وأصلبه عودًا وأجوده صمغًا، والواحدة طلحة، وهذا قول جميع أهل اللغة في الطلح (٣). والمفسرون كلهم قالوا في الطلح إنه الموز (٤).
قال أبو إسحاق: جائز أن يكون يعني به شجر أم غيلان، لأن له نورًا طيب الرائحة جدًا، فخوطبوا ووعدوا ما يحبون مثله إلا أن فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على سائر ما في الدنيا (٥)، ويؤكد هذا ما ذكر في التفسير أنه ليس شيء في الجنة مما في الدنيا إلا الأسامي.
وقال مجاهد: أعجبهم طلح وج (٦) وحسنه، فقيل لهم: ﴿وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ﴾ (٧).
(١) انظر: "الكشف والبيان" للثعلبي ١٢/ ٥٤ ب.
(٢) الأحجن والمحجنة والمحجن العصا المعوجة. وقوله شوك أحجن أي معوج.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٣، و"اللسان" ٢/ ٦٠١ (طلح).
(٤) في (ك): (المر)، وممن روي عنه هذا القول: علي، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وابن عباس، وغيرهم. انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٤٧، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٧٠، و"صحيح البخاري" ٦/ ١٨٢، و"جامع البيان" ٢٧/ ١٠٤.
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١١٢.
(٦) وج: وادٍ بالطائف، سمي بهذا الاسم نسبة لوج بن عبد الحق من العمالقة، وقيل من خزاعة. انظر: "معجم البلدان" ٥/ ٤١٦.
(٧) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٤٧، وقال أبو عبيدة: زعم المفسرون أنه الموز، وأما الحرب: فالطلح عندهم شجر عظيم كثير الشوك.. "مجاز القرآن" ٢/ ٢٥٠.
قلت: والمرجح عندي -والله أعلم- ما قاله النحاس رحمه الله، حيث قال: (وسمعت علي بن سليمان يقول: يجوز أن يكون هذا مما لم ينقله أصحاب =
وتفسير المنضود قد تقدم (١)، قال الكلبي حمله بعضه على بعض (٢).
قال ابن قتيبة: المنضود الذي نضد بالحمل من أوله إلى آخره، أو بالورق والحمل، فليست له سوق بارزة كما قال مسروق: أنهار الجنة تجري في غير أخدود وشجرها نضيد من أسفلها إلى أعلاها (٣).
٣٠ - قوله: ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ أي: دائم تام باق لا يزول ولا تنسخه الشمس كظل أهل الدنيا، هذاَ قول ابن عباس ومقاتل والمفسرين (٤).
قال أبو عبيدة (٥): والعرب تقول لكل شيء طويل لا ينقطع: ممدود.
قال لبيد (٦):
غلب العزاء وكان غير مغلب دهر طويل دائم ممدود
وأما ما ذكر بعضهم في هذا الظل أنه مسيرة سبعين سنة ومائة سنة، فهو وهم، وذلك أن ظل الجنة أمد من أن يحد، والجنة كلها ظل لا شمس معه (٧).
= الغريب وأسماء النبت كثيرة، حتى أن أهل اللغة يقولون: ما يعاب على من صحف في أسماء النبت لكثرتها) "إعراب القرآن" ٣/ ٣٢٨.
(١) عند تفسيره للآية (٨٢) من سورة هود. قال: النضد: وضع الشيء بعضه على بعض، وقال قتادة: المنضود المصفوف، وقال الربيع: هو الذي نضد بعضه على بعض.
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١٠٤، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٢.
(٣) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص ٤٤٨.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٣٥، و"تفسير مقاتل" ١٣٨ أ.
(٥) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٥٠.
(٦) البيت في "ديوان لبيد" ص ٢٧، و"جامع البيان" ٢٧/ ١٠٤، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٠٩.
(٧) قلت: بل المؤلف رحمه الله هو الذي وهم، فقد ورد في الحديث الصحيح: "إن في =
٣١ - قوله تعالى: ﴿وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ﴾ السكب: صب الماء، يقال. سكبت الماء فهو مسكوب، وانسكب الماء وسكب فهو منسكب ساكب سكوبًا، فالسكب واقع والسكوب مطاوع (١).
قال الكلبي: مصبوب يجري الليل والنهار لا ينقطع عنهم (٢)، وبيانه ما قال أبو إسحاق: أنه ماء لا يتعبون فيه ينسكب لهم كيف يحبون (٣).
قال عطاء: يريد بحارًا حصباؤها الياقوت الأحمر، وحمأها المسك الأذفر، وترابها الكافور (٤).
٣٢ - ﴿وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ﴾ يعني ألوان فواكه الجنة.
قوله تعالى: ﴿لَا مَقْطُوعَةٍ﴾ قال ابن عباس: لا تنقطع إذا جنيت (٥). وهذا كما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يقطع من ثمار الجنة إلا أبدل الله
= الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، وأقرءوا إن شئتم ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ ". انظر: "صحيح البخاري" التفسير، سورة الواقعة ٦/ ١٨٣، و"مسلم"، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ٤/ ٢١٧٥ وغيرها من الأحاديث الدالة على هذا المعنى.
(١) انظر: "اللسان" ٢/ ١٦٨ (سكب).
(٢) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٣٤، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٠٩.
(٣) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١١٢.
(٤) لم أجده. ولعله أراد به الحديث الذي رواه الترمذي وفيه: (قلت: الجنة ما بناؤها. قال: لبنة فضة، ولبنة ذهب، ومِلاَطُها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران). "سنن الترمذي"، في صفة الجنة، باب ما جاء في صفة الجنة ونعيمها ٤/ ٥٨٠، وتقدم عن ابن عباس في صفة حصباء العيون في الجنة، نحوه.
(٥) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٣، و"زاد المسير" ٨/ ١٤١.
232
مكانها ضعفين" (١)
﴿وَلَا مَمْنُوعَةٍ﴾ قال ابن عباس: ولا يمتنع من أحد أراد أخذها (٢). وقال الكلبي: لا مقطوعة تنقطع في حين ولا ممنوعة وهي التي ينظر إليها ولا تذاق (٣).
قال ابن قتيبة: يعني أنها غير محظورة عليها كما يحظر على بساتين الدنيا فينظر الناظر إلى ثمارها ولا يصل إليها (٤)، ويجوز أن يكون المعنى أنها غير مقطوعة بالأزمان، ولا ممنوعة بالأثمان، لا يتوصل إليها إلا بالثمن يدل على هذا ما روي عن ابن شوذب (٥) أنه قال: مررت بالحجاج ابن فرافصة (٦) وهو واقف على أصحاب الفاكهة، فقلت ما يقيمك هاهنا؟
(١) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٢/ ٥٦ أ، وفي "مجمع الزوائد" ١٠/ ٤١٤ (إن الرجل إذا نزع ئمرة من الجنة عادت مكانها أخرى). رواه الطبراني والبزار، ورجال الطبراني وأحد إسنادي البزار ثقات.
(٢) انظر: "الوسيط" ٤/ ٣٣٤، و "معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٣.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ٤/ ٢٣٥، و"معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٢٥.
(٤) انظر: "تفسير غريب القرآن" (٤٤٩).
(٥) عبد الله بن شوذب الخراساني، أبو عبد الرحمن، صدوق عابد، نزيل بيت المقدس، روى عن الحسن وطبقته، وكان كثير العلم، جليل القدر. عاش سبعين سنة، وتوفي سنة (١٥٦ هـ).
انظر: "سير أعلام النبلاء" ٧/ ٩٢، و"البداية والنهاية" ١٠/ ١١٥، و"ميزان الاعتدال" ٢/ ٤٤٠، و"العبر" ١/ ١٧٣، و"التاريخ الكبير" ٣/ ١٧.
(٦) الحجاج بن فرافصة الباهلي البصري، صدوق، عابد، يهم، أسند عن أنس وغيره، من السادسة.
انظر: "التقريب" ١/ ١٥٤، و"التاريخ الكبير" ١/ ٣٧٥، و"صفة الصفوة" ٣/ ٣٣٥.
233
قال: انظر إلى هذه المقطوعة الممنوعة (١).
٣٤ - قوله تعالى: ﴿وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ﴾ الفرش جمع فراش، وهو ما ينام عليه، مرفوعة على الأسرة وهو قول علي -رضي الله عنه-، ومقاتل قال: فوق السرر (٢)، وجماعة المفسرين قالوا: بعضها فوق بعض فهي مرفوعة أي عالية (٣)، ويدل على صحة هذا التفسير ما روى الخدري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: ﴿وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ﴾ قال: "ارتفاعها كما بين السماء والأرض" (٤).
وروى القاسم عن أبي أمامة (٥) قال: "لو طرح فراش من أعلاها إلى أسفلها لهوى سبعين خريفًا" (٦).
وقال أهل المعاني (٧): المراد بالفرش هاهنا: النساء، والعرب تكني عن المرأة بالفراش والإزار واللباس، ومنه قوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٧].
(١) انظر: "صفة الصفوة" ٣/ ٣٣٦.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٨ أ، و"زاد المسير" ٨/ ١٤١، و"فتح القدير" ٥/ ١٥٣.
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١٠٦، و"زاد المسير" ٨/ ١٤١، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٩٠.
(٤) رواه الترمذي في "سننه"، كتاب: صفة الجنة، باب: ما جاء في صفة ثياب أهل الجنة ٤/ ٥٨٦، وفي كتاب: التفسير، باب: ومن سورة الواقعة ٥/ ٣٧٤، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلى من حديث رشدين بن سعد. قال ابن كثير في "تفسيره" ٤/ ٢٩١: وهو المصري، وهو ضعيف. ورواه ابن جرير في "تفسيره" ٢٧/ ١٠٦، عن أبي غريب عن رشدين بن سعد.
(٥) النساء.
(٦) قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه جعفر بن الزبير الحنفي، وهو ضعيف. "مجمع الزوائد" ٧/ ١٢٠. وذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٢/ ٥٦ أ، عن أبي أمامة بدون سند.
(٧) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ١٦٦، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢١٠.
ومعنى ﴿مَرْفُوعَةٍ﴾ أنهن رفعن بالجمال والفضل على نساء الدنيا، فهن مرتفعات في عقولهن وحسنهن وكمالهن، واحتجوا على هذا القول بقوله:
٣٥ - ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً﴾ فعادت الكناية إليهن ولم يجر لهن ذكر، فبان أن المراد بالفرش النسوة.
وعلى القول الأول كنى عنهن وإن لم يجر لهن ذكر؛ لأن الفرش محل النساء فاكتفى بذكر الفرش (١).
قال قتادة، وسعيد بن جبير: خلقناهن خلقًا جديدًا (٢). وقال ابن عباس: يريد النساء الآدميات (٣)، وقال الكلبي، ومقاتل: يعني نساء أهل الدنيا العجز الشمط يقول خلقناهن بعد الهرم والكبر وبعد الخلق الأول في الدنيا (٤).
ويؤكد هذا التفسير ما روى أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "هن عجائزكن العمش الرمص" (٥)، وذكر مقاتل قولاً آخر هو اختيار الزجاج، وهو أنه يعني الحور العين التي ذكرهن. قيل: أنشأهن الله -عَزَّ وَجَلَّ- لأوليائه لم يقع عليهم ولادة (٦).
٣٧ - ثم نعتهن فقال: ﴿عُرُبًا﴾ جمع عروب وهن المتحببات إلى أزواجهن. قال ابن الأعرابي: العروب من النساء: المطيعة لزوجها المتحببة
(١) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص ٤٤٩.
(٢) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٧١، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٣.
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١٠٧، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٩١.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٣٥، و"تفسير مقاتل" ١٣٨ أ.
(٥) رواه ابن جرير في "تفسيره" ٢٧/ ١٠٧، والترمذي في "سننه"، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة الواقعة ٥/ ٣٧٥ وابن أبي حاتم: "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٩١، وقال الترمذي: غريب، وموسى ويزيد ضعيفان.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٨ أ، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١١٢.
235
إليه، وقال أبو عبيدة: العروب الحسنة التبعل (١)، وقال المبرد: العاشقة لزوجها، وأنشد (٢):
وفي الخروج عروب غير فاحشةٍ ريا الروادف يغشى دونها البصر
وفيه قراءتان التثقيل والتخفيف (٣) وهما جائزان مطردان في جمع فعول.
وذكر المفسرون في تفسير العرب: العواشق المتحببات الغنجات (٤) المتعشقات الغلمات الشَّكِلات المغنوجات كل ذلك من ألفاظهم (٥).
قوله تعالي: ﴿أَتْرَابًا﴾ أي أمثالاً. يقال: هما تربان (٦) والمفسرون يقولون أقرانًا مستويات على سن واحد، وميلاد واحد، بنات ثلاث وثلاثين (٧).
(١) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٥١.
(٢) البيت للبيد كما في "الديوان" ص ٥٦، و"مجاز القرآن" ٢/ ٢٥١، و"القرطبي" ١٧/ ٢١١، والحروج جمع حرج وهو مركب للنساء والرجال ليس له رأس. "اللسان" ١/ ٥٩٩ (حرج). وانظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ٣٦٠، و"اللسان" ٢/ ٧٢٥ (عرب).
(٣) قرأ حمزة، وخلف، وأبو بكر ﴿عُرُبًا﴾ ساكنة الراء. وقرأ الباقون ﴿عُرُبًا﴾ بضمها. انظر: "حجة القراءات" ص ٦٩٦، و"الحجة" للقراء السبعة ٦/ ٢٣٧ - ٢٥٨، و"النشر" ٢/ ٢١٦، و"الإتحاف" ص ٤٠٨.
(٤) امرأة غَنجة: حسنة الدل، وغُنْجُها وغُناجُها: شكلها. وقيل: الغُنْجُ: ملاحة العين والغليمة هي المرأة المقبلة على زوجها في النكاح. الشكلة: يأتي بمعنى غنجة وهو حسن دل المرأة وشكلها.
انظر: "اللسان" ٢/ ٣٤٨، ١٠١١، ١٠٢٢ (غنج، غلم، شكل).
(٥) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٤٨، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٧١، و"جامع البيان" ٢٧/ ١٠٧ - ١٠٨.
(٦) انظر: "المفردات" ص ٧٣ (تراب).
(٧) قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وغيرهم. انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٣٥ - ٣٣٦، و"تفسير مجاهد" ٢/ ٦٤٨، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٧١، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٩٢.
236
٣٨ - قوله تعالى: ﴿لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾ قال ابن عباس: يريد أنشأناهن لأصحاب اليمين (١). وقال مقاتل: يقول: هذا الذي ذكرنا لأصحاب اليمين (٢)، وهو قول الكلبي. قال المفسرون: الحور العين للسابقين والعرب الأتراب لأصحاب اليمين (٣).
ثم أخبر عنهم فقال:
٣٩ - قوله تعالى: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ﴾ أي هم ثلة من المؤمنين الذين كانوا قبل مؤمني هذه الأمة.
٤٠ - ﴿وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ﴾ من مؤمني هذه الأمة فمن آدم إلينا ثلة ومنا ثلة (٤).
وهذا يروى مرفوعًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من آدم إلينا ثلة ومني إلى القيامة ثلة ولا يستتمها إلا سودان من رعاة الإبل ممن قال لا إله إلا الله" (٥). وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء (٦)، ومقاتل.
قال مقاتل: فأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- أكثر أهل الجنة، واحتج بما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أهل الجنة عشرون ومائة صف، أمتي من ذلك ثمانون صفًّا وأربعون صفًّا من سائر الناس" (٧).
(١) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٤، "معاني القرآن" ١٧/ ٢١١.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٨ أ.
(٣) انظر: "الجامع" للقرطبي ١٧/ ٢١١.
(٤) بهذا قال الحسن ومجاهد. انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١٥٩، و"أضواء البيان" ٧/ ٧٧٠ - ٧٧١ حيث رجح ما قاله الكلبي وعطاء ومقاتل في السابقين، وما ذكره المؤلف هنا في أصحاب اليمين.
(٥) أخرجه الثعلبي ١٢/ ٥٨ أ، بسياق أطول مما هنا، والبغوي ٤/ ٢٨٤.
(٦) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٣٥، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٤.
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٨ أ - ب، والحديث أخرجه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب صفة أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- ٢/ ١٤٣٣، والترمذي في صفة الجنة، باب ما جاء في صفة أهل الجنة ٤/ ٥٨٩ وقال هذا. حديث حسن، وعبد الرزاق في "تفسيره" ٢/ ٢٧١.
ومذهب جماعة من المفسرين أن الثلتين جميعًا من هذه الأمة ثلة من سابقيها وثلة من متأخريها، وهذا قول أبي العالية، ومجاهد، والضحاك (١) ويدلس على هذا ما روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في الثلتين: "هما جميعًا من أمتي" (٢).
وهذا القول هو اختيار أبي إسحاق، قال: معناه جماعة ممن تبع النبي -صلى الله عليه وسلم- وآمن به وعاينه، وجماعة ممن آمن به وكان بعده (٣).
وذكر الفراء في ارتفاع قوله: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ﴾ وجهين:
أحدهما: الاستئناف على معنى: هم ثلة.
والآخر: أن تكون مرفوعة بقوله: ﴿لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾ ويكون المعنى لأصحاب اليمين ثلتان: ثلة من هؤلاء وثلة من هؤلاء، والمعنى: هم فرقتان، فرقة من هؤلاء، وفرقة من هؤلاء (٤).
٤١ - ثم ذكر أصحاب الشمال ومنازلهم فقال: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ﴾ قال عطاء عن ابن عباس: يريد الذين يعطون كتبهم بشمائلهم (٥).
(١) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٣٥، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٥.
(٢) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ١١٨ - ١١٩، وعن أبي بكرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ﴾ قال: جميعهما من هذه الأمة. رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح غير علي بن زيد، وهو ثقة سيء الحفظ. وقال السيوطي في "الدر" ٦/ ١٥٩: أخرجه الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن عدي، وابن مردويه، بسند ضعيف عن ابن عباس.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١١٣.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٢٦.
(٥) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢١٣.
٤٢ - ﴿فِي سَمُومٍ﴾ أي في حر النار، وذكرنا تفسير السموم عند قوله: ﴿مِنْ نَارِ السَّمُومِ﴾ [الحجر: ٢٧] (١)، وقوله: ﴿وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ﴾ [الطور: ٢٧].
وقوله: ﴿وَحَمِيمٍ﴾ قال الكلبي: يعني ماءً حارًّا شديدًا يغلي (٢).
٤٣ - وقوله: ﴿وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ﴾ اليحموم يفعول من الأحم، وهو الأسود، والعرب تقول أسود يحموم إذا كان شديد السواد (٣).
وأنشد أبو عبيدة فقال:
دَعْ ذا فَكَمْ مِنْ حالكٍ يَحْموم (٤)
وكان للنعمان بن المنذر (٥) فرس شديد السواد يسمى يحمومًا، وهو الذي ذكره الأعشى في قوله:
(١) ومما قال في تفسيرها: اختلفوا في معنى السموم، فقال ابن عباس في رواية الكلبي: هي نار لا دخان لها. وقال آخرون: من نار الريح الحارة، وهو قول ابن مسعود. والسموم في اللغة الريح الحارة تكون بالنهار، وقد تكون بالليل. قيل سميت سمومًا لدخولها بلطفها في مسام البدن.
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٣٦، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢١٣.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ١٣، و"اللسان" ١/ ٧٢٥ (حمم).
(٤) البيت للصبّاح بن عمرو الهزاني، وعجزه:
ساقِطة أرواقُه بهيم
وقد ورد منسوبًا في "اللسان" ١/ ٧٢٨ (حمم) ولم أجده عند أبي عبيدة كما ذكر المؤلف.
(٥) النعمان بن المنذر بن المنذر بن امرئ القيس، ملك الحيرة، وكان يكى أبا قابوس، وهو صاحب النابغة، قتل عبيد بن الأبرص وغيره من الشعراء. وكانت نهاية النعمان أن حبسه كسرى واسمه (أبرويز) بساباط ثم ألقي تحت أرجل الفيلة فوطئته حتى مات. انظر: "المعارف" ص ٦٤٩ - ٦٥٠
ويأمر لليحموم كل عشية بقت وتعليق فقد كاد يسنق (١)
والمفسرون جميعًا قالوا في اليحموم أنه دخان جهنم (٢)، والمعنى أنهم في ظل من دخان جهنم.
ثم نعت ذلك الظل فقال:
٤٤ - ﴿لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ﴾ قال أبو عبيدة: جره على الأول (٣).
قال الفراء: وجه الكلام أن يكون خفضًا متبغا لما قبله، كقوله تعالى: ﴿زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾ [النور: ٣٥] وكذلك قوله: ﴿وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ﴾ [الواقعة: ٢٣، ٣٣] قال: وقد يستأنف بلا فيرفع كما قال (٤):
وتريك وجهًا كالصحيفة (٥) لا ظمآنُ مختلجٌ ولا جَهِمُ
قال ابن عباس: يريد لا بارد المدخل ولا كريم المنظر (٦).
(١) البيت في "ديوان الأعشى" ص ١١٩، و"تهذيب اللغة" ٤/ ١٩، و"اللسان" ١/ ٧٢٨ (حمم)، ٢/ ٢١٩ (سنق).
والقتُّ: الفصفصة، يكون رطبًا ويكون يابسًا واحدتها قتة "اللسان" ٢/ ١٠٤٤ (فتت).
والسنق: البشم. يقال: شرب الفصيل حتى سنق، وهي التخمة والشبع "اللسان" ٢/ ٢١٩ (سنق)، والتعليق ما تعلقه الدواب من الشعير ونحوه.
(٢) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٤٩، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٧٢، و"جامع البيان" ٢٧/ ١١٠ - ١١١.
(٣) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٥١.
(٤) انظر: البيت للمخبل، كما في "اللسان" ١/ ٨٧٦ (خلج)، و"المفضليات" ص ١١٥.
(٥) في (ك): (كالود بله).
(٦) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٣٦، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٦.
وقال مقاتل: لا بارد المقيل ولا حسن المنزل (١).
قال الفراء: والعرب تجعل الكريم تابعًا لكل شيء نفت عنه فعلاً تنوي به الذم تقول ما هو بسمين ولا بكريم، وما هذه الدار بواسعة ولا كريمة (٢).
ثم ذكر أعمال أهل النار التي أوجبت لهم هذا فقال:
٤٥ - ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ﴾ يعني كانوا في الدنيا منعمين متكبرين، قال مقاتل: يعني متجبرين في ترك أمر الله (٣) وتفسير الترف قد تقدم (٤).
٤٦ - ﴿وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ﴾ قال الليث: الحنث: الذنب (٥) العظيم، وتقول العرب: بلغ الغلام الحنث، إذا بلغ مبلغًا جَرَى عليه القلم بالمعصية والطاعة، والحنث: الرجوع في اليمين وهو أن لا يبرها (٦)، وأكثر المفسرين قالوا في الحنث هاهنا: إنه الشرك. قال مقاتل: يعني الذنب الكبير وهو الشرك (٧)، ونحو ذلك قال قتادة ومجاهد والسدي (٨)، وهو قول ابن عباس في رواية عطاء والكلبي قال: كانوا لا يتوبون عن الشرك ولا
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٨ ب.
(٢) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ١٢٧.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٨ ب، و"الوسيط" ٤/ ٢٣٦، ولفظهما (منعمين) بدل (متجبرين).
(٤) عند تفسيره الآية (١١٦) من سورة هود. قال: الترف: النعمة، وصبي مترف إذا كان منعم البدن، والمترف الذي أبطرته النعمة وسعة العيش.
انظر: "البسيط" ٣/ ٤٩ ب.
(٥) في (ك): (النعب) والصواب ما أثبته.
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٤٨٠ (حنث).
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٨ ب.
(٨) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١١٢، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٧٢، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٩٥.
يستغفرون (١).
وقال الشعبي: الحنث العظيم اليمين الغموس (٢)، وشرح أبو بكر الأصم (٣) هذا فقال: إنهم كانوا يقسمون أن لا بعث، وأن الأصنام أندادُ الله وكانوا يقيمون عليه، فذلك حنثهم (٤)، واختاره الزجاح فقال: ودليل ذلك قوله: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ﴾ [النحل: ٣٨] فهذا -والله أعلم- إصرارهم على الحنث العظيم (٥)، ويدل على هذا ما ذكر الله تعالى من إنكارهم البعث وهو قوله: ﴿وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا﴾ الآية.
٥٥ - وما بعدها ظاهر إلى قوله: ﴿فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ﴾ وقرئ شرب بضم الشين (٦) فقال الزجاج: الشَّرب المصدر، والشُّرب الاسم، قال: وقد قيل: إن الشرب أيضًا المصدر (٧). واختار أبو عبيد الفتح، وادعى أنه لغة النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال لأيام التشريق: "إنها أيام أكل وشَرب" (٨).
(١) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٣٦ - ٣٣٧.
(٢) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٦، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢١٣.
(٣) أبو بكر الأصم، شيخ المعتزلة. كان دينًا وقورًا صبورًا على الفقر، له تفسير، وكتاب "خلق القرآن"، وكتاب "الحجة والرسل". مات سنة ٢٠١ هـ انظر: "سير أعلام النبلاء" ٩/ ٤٠٢، و"الفهرست" ص ٢١٤.
(٤) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢١٣.
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١١٣.
(٦) قرأ نافع وعاصم وحمزة وأبو جعفر: ﴿شُرْبَ﴾ بضم الشين، والباقون بفتحها. انظر: "حجة القراءات" ص ٦٩٦، و"النشر" ٢/ ٣٨٣، و"الإتحاف" ص ٤٠٨.
(٧) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١١٣.
(٨) "صحيح مسلم": كتاب: الصيام، باب: تحريم صوم أيام التشريق ٢/ ٨٠٠، و"مسند أحمد" ٤/ ١٥٢.
242
قال المبرد: هذا كلام هائل لا يجترأ عليه إلا باليقين، وأكثر الرواية "أكل وشُرب" بالضم، والضم والفتح معروفان عند أهل اللغة أما الفتح فهو على أصل المصدر، والضم اسم للمصدر، والمعنى في ذلك واحد، تقول شغل شَغلا والاسم شُغلِ، وضعف ضَعفًا والاسم الضُعف وكذلك الفَقر والفُقر (١).
وأما ﴿الْهِيمِ﴾ فأكثر المفسرين على أنه الإبل العطاش، وهو قول مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير (٢)، ومنهم من ذكر السبب في عطشها، قال عكرمة: هي الإبل المراض ألا تراها تمص الماء مصًا ولا تروى (٣).
وقال ابن عباس في رواية عطاء: هي الإبل التي بها الهيام لا تروى (٤)، وقال في رواية أبي صالح: يعني شرب الإبل الظماء (٥) إذا أخذها الداء فلا تكاد تروى (٦)، ونحو هذا ذكر مقاتل (٧).
قال الفراء: الهيم الإبل التي يصيبها داء فلا تروى من الماء واحدها
(١) انظر: "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٧٠٢ - ٧٠٣، و"الحجة" للقراء السبعة ٦/ ٢٦٠،
و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٣٣٥ - ٣٣٩، و"تهذيب اللغة" ١١/ ٣٥٢ (شرب).
(٢) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٤٩، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٧٢، و"جامع البيان" ٢٧/ ١١٣.
وروى ابن عباس وعكرمة والضحاك، وانظر: "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٩٥.
(٣) انظر: "جامع البيان" ١٣/ ١٢٧، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٦.
(٤) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٣٦.
(٥) في (ك): (العظماء) والصواب ما أثبته.
(٦) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١١٣.
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٩ أ.
243
أهيم (١) والأنثى هيماء، قال: ومن العرب من يقول هائم، والأنثى هائمة، ثم يجمعونه على هيم كما قالوا: عائط (٢)، وعوط (٣)، وحائل وحول، إلا أن الضمة تركت في هيم لئلا تصير الياء واوًا (٤).
وقال شمر في حديث ابن عمر رضي الله: (إن رجلاً باع منه إبلاً هيما) (٥) قال شمر: قال بعضهم: الهيم العطاش الظِّماء، ويقال هي المراض التي تمص الماء مصًّا ولا تروى.
قال الأصمعي: الهيام داء شبيه بالحمى تسخن عليها جلودها يعني الإبل وقيل إنها لا تروى إذا كانت كذلك (٦)، وهو في قول لبيد (٧):
أجزت على معازفها بشعثٍ وأطلاحٍ من المهري هيم
وقال الضحاك والكلبي: الهيم السهلة من الرملة (٨)، وهو قول ابن
(١) في (ك): (الهيم) والصواب ما أثبته.
(٢) العائط: هي التي لم تحمل سنين من غير عقم.
(٣) كذا في (ك). وفي "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٢٨، وفي "اللسان" (هيم) عن الفراء: (عيط) وكلاهما صواب. قال في "اللسان" ٢/ ٩٢٩ (عوط) قال الكسائي: إذا لم تحمل الناقة أول سنة يطرقها الفحل فهي عائط وحائل، فإذا لم تحمل السنة المقبلة أيضًا فهي عائط عُوط وعوطط، زاد الجوهري: عائط عيط.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ١٢٨.
(٥) هذا جزء من حديث رواه البخاري في "صحيحه"، كتاب: البيوع، باب: شراء الإبل الهيم أو الأجرب ٣/ ٨٢ وفيه: (فجاءه، فقال: إن شريكي باعك إبلاً هيمًا ولم يعرفك..) الحديث.
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" ٦/ ٤٦٧، و"اللسان" ٣/ ٨٥٨ (هيم).
(٧) "ديوانه" ص ١٨٥.
(٨) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٣٨، و"جامع البيان" ٢٧/ ١١٣، و"تفسير ابن عيينة" ص ٣٣٣، و"معالم النزيل" ٤/ ٢٨٦، وزاد نسبته لابن عيينة.
244
عباس في رواية عمرو بن في ينار: قال يعني هيام الأرض (١).
قال الليث: الهيام من الرمل ما كان ترابًا دقاقًا يابسًا، ومنه قول لبيد:
بعجوب أنقاءٍ يميل هيامها (٢)
قال مقاتل: يلقى على أهل النار العطش فيشربون كشرب الهيم.
٥٦ - قوله تعالى: ﴿هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ﴾ قال مقاتل: يعني الذي ذكر من الزقوم والشراب (٣)، وقال الكلبي: هذا نزلهم يعني طعامهم وشرابهم (٤).
وقال الزجاج: هذا غذاؤهم يوم يجازون بأعمالهم (٥)، وروي عن أبي عمرو (٦) (نُزُلْهُمْ) مخففًا وهما لغتان (٧)، مثل الشغُل والشغْل، والعنُق
(١) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢١٥، و"روح المعاني" ٢٧/ ١٤٦.
(٢) انظر: "ديوانه" ص ١٧٢، و"تهذيب اللغة" ٦/ ٤٦٧، و"اللسان" ٣/ ٨٥٨ (هيم)، و"المنصف" ٣/ ٥٢، و"شرح المعلقات" للزوزني ص ٨٤، والبيت ورد في معلقة لبيد وصدره:
تجتاف أصلاً قالصًا متنبذًا
ومعناه أن البقر يستتر من البرد والمطر بأغصان الشجر ولا تقيها البرد والمطر لتقلصها، وتنهال كثبان الرمل عليها مع ذلك.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٩ أ.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٣٨.
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١١٣.
(٦) قرأ الجمهور ﴿نُزُلُهُمْ﴾ بضم الزاي، وقرأ ابن محيصن وخارجة عن نافع، ونعيم ومحبوب وأبو زيد وهارون وعصمة وعباس كلهم عن أبي عمرو ﴿نُزْلُهُمْ﴾ بسكون الزاي. انظر: "الكشاف" ٤/ ٦٠، و"الجامع" للقرطبي ١٧/ ٢١٥، و"البحر المحيط" ٨/ ٢١٠.
(٧) انظر: "اللسان" ٣/ ٦١٩ (نزل).
والعنْق. وتفسير النزاع قد ذكرناه في مواضع (١).
٥٧ - ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ﴾.
ثم احتج عليهم في البعث بقوله: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ﴾ قال مقاتل: خلقناكم ولم تكونوا شيئًا وأنتم تعلمون ذلك (٢) (فَلَوْلَا) فهلا (تُصَدِّقُونَ) بالبعث، ثم أخبر عن صنعه ليعتبروا فقال:
٥٨ - قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ﴾ ما تقذفون وتصبون في أرحام النساء من النطف، وذكرنا الكلام في الإمناء عند قوله: ﴿مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى﴾ [النجم: ٤٦].
٥٩ - ﴿أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ﴾ ما تمنون بشرًا ﴿أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾ احتج عليهم في البعث بالقدرة على ابتداء الخلق.
٦٠ - قوله تعالى: ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ﴾ وقرأ ابن كثير: (قَدَرْنَا) مخففًا وهما لغتان قدرت الشيء وقدرته (٣)، ويدل عليه قوله (٤):
ومفرهةٍ عنسٍ قدرت لساقها فخرَّت كما تتابع الريحُ بالقفل
(١) عند تفسيره الآية (١٩٨) من سورة آل عمران. قال: النزاع ما يهيئ للضيف أو لقوم إذا نزلوا موضعًا، ويقال أقمت لهم نزلهم أي أقمت لهم غذاءهم وما يصلح معه أن ينزلوا عليه.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٩ أ.
(٣) قرأ ابن كثير ﴿قَدَرْنَا﴾ بتخفيف الدال، والباقون بتشديدها.
انظر: "حجة القراءات" ص ٦٩٦، و"النشر" ٢/ ٣٨٣، و"الإتحاف" ص ٤٠٨.
(٤) البيت لأبي ذؤيب الهذلي. انظر: "ديوان الهذليين" ١/ ٣٨، ورواية ديوان الهذليين (لرجلها) بدل (ساقها)، و"الحجة" ٥/ ٤٨.
والمفرهة: الناقة التي تجيء بأولاد فوارة. والعنس: الصلبة الشديدة. قدرت: هيأت. القفل: ما جف من ورق الشجر.
246
المعنى: قدررت ضربي لساقها فضربتها فخرت. قال ابن عباس: يريد الآجال (١). قال مقاتل: فمنكم من يموت كبيرًا ومنكم من يموت صغيرًا وشابًا وشيخًا (٢)، وقال الضحاك: تقديره أنه جعل أهل السماء وأهل الأرض فيه سواء شريفهم ووضيعهم (٣)، وعلى هذا يكون معنى (قَدَّرْنَا) قضيناه.
قوله تعالى: ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ يريد لا يفوتني شيء أريده، ولا يمتنع مني أحد. وهذه الآية متصلة بما بعدها وهو قوله تعالى: ﴿عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ﴾ وعلى من صلة معنى مسبوقين لا من صلة اللفظ، لا يقال: سبقته على كذا، إنما يقال: إلى كذا، ولكن يقال: غلبته على كذا، ويكون مثل سبقته إليه. قال المفسرون: على أن نأتي بخلق مثلكم بدلاً منكم (٤).
قال أبو إسحاق (٥): أي إن أردنا أن نخلق خلقًا غيركم لم يسبقنا سابق ولا يفوتنا ذلك (٦).
قوله تعالى: ﴿وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد في غير حليتكم (٧) إلى ما أسمج (٨) منها (٩).
(١) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٣٨.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٩ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٧.
(٣) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٣٧، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٩٥.
(٤) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١١٣، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٧.
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١١٤.
(٦) (ذلك) ساقطة من (ك) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١١٤.
(٧) كذا في (ك): ولعلها (خلقتكم).
(٨) سَمُجَ الشيء: قبح يسمج سماجة إذا لم يكن فيه ملاحة. "اللسان" ٢/ ١٩٧ (سمج).
(٩) لم أجده.
247
وقال مقاتل: ونخلقكم في سوى خلقكم مما لا تعلمون من الصور (١)، من أي خلق شئنا، ونحو هذا قال مجاهد والسدي (٢)، وقال الحسن: نبدل صفاتكم ونجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بمن كان قبلكم (٣).
وهذه الأقوال كلها تدل على المسخ، وعلى أنه لو شاء أن يبدلهم بأمثالهم من بني آدم قدر، ولو شاء أن يمسخهم في غير صورتهم قدر.
وقال أبو إسحاق: إن أردنا أن نجعل منكم القردة والخنازير لم نسبق ولا فاتنا ذلك (٤).
وقال بعض أهل المعاني: هذا على النشأة الثانية يكونها الله في وقت لا يعلمه العباد ولا يعلمون كيفيته كما علموا الإنشاء الأول من جهة التناسل (٥)، ويكون التقدير على هذا وما نحن بمسبوقين على أن ننشئكم في وقت لا تعلمون يعني وقت البعث، وتكون هذه الآية متصلة بما بعدها وهو قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى﴾ يعني لا تعلمون ذلك ولقد علمتم هذه كيف كانت وهذا الوجه اختيار الحسين بن الفضل (٦).
قوله: ﴿فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ﴾ والمعنى: قد علمتم ابتداء الخلق حين خلق من نطفة وعلقة ومضغة فلم تنكرون البعث، وروي مرفوعًا: "عجبًا كل العجب
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٩ أ.
(٢) قال مجاهد: (في أي خلق شئنا). انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١١٤.
(٣) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٧، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٣١٧.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١١٤.
(٥) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢١٧.
(٦) لم أقف عليه.
248
للمكذب بالنشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى، وعجبًا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور" (١).
٦٣، ٦٤ - قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ قال الكلبي: ما تعملون في الأرض (٢).
وقال غيره: ما تلقون في الأرض من البذور (٣)، وذكرنا معنى الحرث فيما تقدم (٤).
﴿أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ﴾ قال الكلبي ومقالَل: تنبتونه أم نحن المنبتون (٥)، قال المبرد: يقال زرعه الله أنماه، ومنه يقال للصبي زرعة الله (٦).
٦٥ - ﴿لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ﴾ أي: لجعلنا ما تحرثون ﴿حُطَامًا﴾ قال عطاء: تبنًا لا قمح فيه (٧). وقال مقاتل: هالكًا (٨). قال أبو عبيدة: الحطام والهشيم والرفات واحد (٩).
(١) لم أجد هذا الحديث.
(٢) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٣٧.
(٣) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٧، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢١٧.
(٤) عند تفسيره الآية (٧١) من سورة البقرة، ومما قال: الحرث: كل موضع ذللته من الأرض ليزرع فيه، ويقال له عند غرسه وبذره إلى حيث بلغ حرث. فمعنى الحرث الأرض المهيأة للزرع، ومنه قوله: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٣] على التشبيه بالأرض التي قد هيأت للزرع. انظر: "البسيط" ٣/ ١٥٥٩ بتحقيق الفوزان.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٣٩، و"تفسير مقاتل" ١٣٩ أ.
(٦) انظر: "اللسان" ٢/ ٢٥ (زرع).
(٧) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٧، و"زاد المسير" ٨/ ١٤٨.
(٨) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٩ أ، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢١٨.
(٩) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٥١.
249
وقال أبو إسحاق: أي أبطلناه حتى يكون متحطمًا لا حنطة فيه ولا شيء مما تزرعون هذا كلامه (١). وتلخيص المعنى أن الله يقول: لو نشاء لجعلنا ما تحرثون كلأً يصير بعد يبسه حطامًا متكسرًا لا حنطة فيه، وكل ما نبت من الأرض حطام غير الحب، فإنه صلب لا يتحطم وسائره بعد الهيح حطام (٢).
قوله تعالى: ﴿فَظَلْتُمْ﴾ ذكرنا الكلام فيه عند قوله: ﴿الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا﴾ [طه: ٩٧] (٣).
﴿تَفَكَّهُونَ﴾ أي تندمون قاله عكرمة والحسن وقتادة (٤)، وقال عطاء والكلبي ومقاتل ومجاهد: تعجبون (٥).
قال الفراء (٦): تفكهون: تتعجبون مما نزل بكم في زرعكم، قال:
(١) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٤٤.
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٩ (حطم).
(٣) ومما قال عند تفسيره لهذه الآية: ظلت أصله ظللت. قال الزجاج: ولكن اللام حذفت لثقل التضعيف والكسر، والعرب تفعل ذلك كثيرًا... وظلَّ نهاره يفعل كذا، وكذا يظل ظلا وظلولاً وظللت أنا، وظَلْتْ وظِلْتُ. لا يقال ذلك إلا في النهار لكنه قد سمع بعض الشعر ظَل ليله. ومنه قوله تعالى: ﴿فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ﴾. وانظر: "اللسان" ٢/ ٦٤٧ (ظلل).
(٤) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٧٢، و"جامع البيان" ٢٧/ ١١٤، و"الوسيط" ٤/ ٢٣٨، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢١٩.
(٥) انظر: "الجامع البيان" ٢٧/ ١١٤، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٧، ولم أقف عليه في تفسيري مجاهد ومقاتل.
(٦) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ١٢٨.
250
ويقال معناه تندمون وكذلك تفكنون (١) وهي لغة لعكل (٢).
قال اللحياني: أزد شنوءه يقولون: تفكهون، وتميم تقول: تفكنون. وقال ابن الأعرابي: تفكهت وتفكنت أي تندمت وأنشد لرؤبة فقال (٣):
أما جزاء العارف المستيقن عندك إلا حاجة التفكَّن
وقال الكسائي وأبو عمرو: هو التلهف على ما فات (٤)، والمعنى في الآية: تتلهفون على ما فاتكم، وعلى هذا يتوجه قول من قال تفجعون وتحزنون (٥).
٦٦ - قوله تعالي: ﴿إِنَّا لَمُغْرَمُونَ﴾ قال الزجاج وغيره: أي وتقولون: إنا لمغرمون فحذف القول، ومعنى المغرم الذي ذهب ماله بغير عوض (٦).
قال أبو إسحاق: يقولون إنا قد غرمنا وذهب زرعنا (٧) يعني: غرمنا
(١) وقول المؤلف (وكذلك تفكنون وهي لغة لعكل) ليست في معاني الفراء المطبوعة، وهي في "التهذيب" منسوبة له.
(٢) عُكَل بطن من طابخة من العدنانية، وعكل اسم امرأة حضنت بني عوف بن وائل فغلبت عليهم وسموا باسمها، من قراهم الشقراء والأشيقر. انظر: "معجم قبائل العرب" ٢/ ٨٠٤، و (تفكنون) قرأ بها أبو حزام. انظر: "الكشاف" ٤/ ٦٠، و"البحر المحيط" ٨/ ٢١١، و"روح المعاني" ٢٧/ ١٤٨.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ١٠/ ٢٨٠، و"اللسان" ٢/ ١١٢١ (فكن).
والبيت في "ديوانه" ص ١٦١، المراجع السابقة.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" نفسه، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٧، و"فتح القدير" ٥/ ١٥٧.
(٥) قاله مجاهد، وفسر ابن كيسان التفكه بالحزن. انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٧، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢١٩، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٩٦.
(٦) قاله الضحاك وابن كيسان. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٢٠، و"فتح القدير" ٥/ ١٥٧.
(٧) انظر: "معاني الزجاج" ٥/ ١١٤.
251
الحب الذي بذرناه فذهب في غير عوض هذا الذي ذكرنا هو الأصل.
قال أبو عبيدة والفراء: لمعذبون (١)، وهو قول ابن عباس وقتادة (٢)، وهذا معنى كأنهم ذهبوا إلى أنهم عذبوا بذهاب أموالهم.
وقال عكرمة ومجاهد ومقاتل: لمولع بنا (٣)، والمعنى لمولع بنا الشر من قولهم: أغرم فلان بفلانة إذا أولع بها، ومنه الغرام وهو الشر اللازم وقد تقدم تفسيره (٤). ويدل على القول الأول (٥) قوله تعالى: ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ أي حرمنا ما كنا نطلبه من الريع في الزرع.
وما بعد هذا ظاهر ومفسر فيما تقدم إلى قوله: ﴿الَّتِي تُورُونَ﴾ قال الكسائي: أوْرَيْتُ النار وقد ورَتْ ووَرِيَتْ (٦).
وقال أبو إسحاق: ورَى الزَّندُ يَرِيَ فهو وارٍ إذا انقدحت منه النار، وأوريت النار إذا قدحتها (٧)، وقال الكلبي والمبرد: أورى القادح إذا أتى بالنار. قال الأعشى (٨):
(١) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٥١، و"معاني القرآن" ٣/ ١٢٩.
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٣٩، و"جامع البيان" ٢٧/ ١١٥، وهو اختيار ابن جرير.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٩ أ، و"جامع البيان" ٢٧/ ١١٥.
(٤) عند تفسيره الآية (٦٥) من سورة الفرقان. ومما قال: والغَرامُ: اللازمُ من العذاب، والشرُّ الدائم، والبلاءُ والحبُّ والعشق وما لا يستطاع أن يتفصَّى منه، ويروى أن الغريم إنما سمي غريمًا لأنه يطلب حقه ويلح حتى يقتضيه، فمعنى غرامًا ملحًا دائمًا. وانظر: "اللسان" ٢/ ٩٨١ (غرم).
(٥) وهو قول الضحاك وابن كيسان والزجاج.
(٦) انظر: "اللسان" ٣/ ٩١٦ (وري).
(٧) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١١٥.
(٨) "ديوانه" ص ٨٤، وروايته: =
252
ولو بتَّ تقدحُ في ظلمةٍ صفاةً بنبعٍ لأوريت نارا
يقول أنت ميمون الطائر فلو التمست الشيء من حيث لا يوجد لوجدته. قال أبو عبيدة: تورون: تستخرجون (١). وقال الكلبي: تقدحون (٢). وقال مقاتل: توقدون (٣).
قوله تعالى: (شَجَرَتَهَا) قال المفسرون: يعني التي تقدح منها وهي المرخ والعفار (٤).
قال المبرد: وهما شجرتان يوريان النار وهما رطبان، ولذلك قال الأعشى (٥):
وزندك خير زناد الملوك صادف منهنَّ مرخًا عفارًا
وتقول العرب للرجل إذا كان معاملته سهلاً غير ملتوٍ ولا مماطلٍ: أرخ يديك واسترخ إن الزناد من مرخ (٦).
قوله تعالى: ﴿نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً﴾ قال عطاء: موعظة ليتعظ بها المؤمن (٧).
= ولو رُمت في ليلة قادحًا حصاة بنبع لأوْريت نارا
(١) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٥٢.
(٢) انظر:"تنوير المقباس" ٥/ ٣٣٩.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٩ أ.
(٤) قال الأزهري: وهما شجرتان فيهما نار ليس في غيرهما من الشجر، ويسوّى من أغصانهما الزناد فيقتدح بها. "تهذيب اللغة" ٢/ ٣٥١ (عفر).
(٥) الديوان ص ٨٤، وروايته:
زنادك خير زناد الملوك خالط منهن مرخ عفارا
"الخزانة" ٧/ ٢٥٠.
(٦) انظر: "اللسان" ٣/ ٤٦٣ (مرخ) ونسب تفسير المثل لابن الأعرابي.
(٧) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٣٨، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٨، و"فتح القدير" ٥/ ١٥٨.
253
وقال الكلبي: عظة في الدنيا من نار جهنم (١)، وقال عكرمة، ومجاهد ومقاتل: جعلنا هذه النار تذكرة للنار الكبرى (٢).
قال أبو إسحاق: أي إذا رآها الرائي ذكر جهنم وما يخافه من العذاب فذكر الله عز وجل واستجار به منها (٣).
قوله تعالى: ﴿وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ﴾ قال الفراء، والزجاج: المقوي الذي ينزل بالقواء وهي الأرض الخالية (٤)، وكل من نزل بها من مسافر مار أو مقيم بها فهو مقو.
قال الليث: أقوَى القومُ إذا وقعوا في قيً من الأرض (٥).
قال ابن عباس: يريد ينتفع بها أهل البوادي والأسفار (٦).
وقال الكلبي: منفعة للمسافرين النازلين في الأرض القيّ (٧).
وقال مقاتل: يقول: ومنافع لمن كان بأرض في ومنهم الأعراب (٨)، ونحو هذا قال الحسن والضحاك (٩). وعلى هذا القول خص المسافر بالانتفاع بها؛ لأن منفعته بها أكثر من منفعة المقيم، وذلك أن أهل البوادي
(١) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٤٠.
(٢) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٥١، و"تفسير مقاتل" ١٣٩ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٨.
(٣) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١١٥.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٢٩، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١١٥.
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" ٩/ ٣٦٩ (قوى).
(٦) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٤٠، و"الوسيط" ٤/ ٢٣٨.
(٧) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٨، و"فتح القدير" ٥/ ١٥٨.
(٨) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٩ أ.
(٩) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١١٦، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٨، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٢١.
254
لابد (١) لهم من النار يوقدونها ليلاً لتهرب منهم السباع، وفي كثير من حوائجهم.
وقال أبو عبيدة: المقوي الذي لا زاد معه ولا مال، وهذا من قولهم أقوت الدار، أي: خلت (٢)، فالمقوي الخالي من الزاد. وهذا قول الربيع، والسدي. قالا: يعني المرملين المقترين الذين لا زاد معهم فهؤلاء يوقدون النار ويشتون بها لحوم الصيد ولابد لهم منها، وهذه رواية العوفي عن ابن عباس (٣).
وفي المقوين قول ثالث، وهو قول عكرمة، ومجاهد، قالا: للمقوين أي للمستمتعين بها من الناس أجمعين (٤) المسافرين والحاضرين يستضيئون بها في الظلمة ويصطلون من البرد وينتفعون بها في الطبخ والخبز (٥).
وعلى هذا المقوي من الأضداد. ويقال للفقير: مقوٍ لخلوه من المال، وللغني: مقو لقوته على ما يريد، يقال أقوى الرجل إذا صار إلى حالة القوة، ذكر ذلك قطرب وغيره (٦). والمعنى ومتاعًا للأغنياء والفقراء وذلك
(١) في (ك): (بدل).
(٢) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٥٢.
(٣) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٢٢.
(٤) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٥١، و"جامع البيان" ٢٧/ ١١٦.
(٥) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٢٢.
قال ابن كثير في "تفسيره" ٤/ ٢٩٧: وهذا التفسير أعم من غيره، فإن الحاضر والبادي من غني وفقير، الجميع محتاجون إليها للطبخ، والاصطلاء، والإضاءة، وغير ذلك من المنافع.
(٦) انظر: "الأضداد" لقطرب ص ٩٢، و"الأضداد" للأصمعي والسجستاني ٤، ١٢٤، ٢٧٩، ٦٣٨، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٨، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٢٢، ورواه ثعلب عن ابن الأعرابي. انظر: "تهذيب اللغة" ٦/ ٣٦٩ (قوى).
255
أنه لا غني بأحد عنها.
قال أبو إسحاق: ذكر الله عز وجل في هذه السورة ما يدل على توحيده وما أنعم به عليهم من خلقهم وتغذيتهم مما يأكلون ويشربون، ثم قال:
٧٤ - قوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ أي فبرئ الله عز وجل مما يقولون في وصفه (١).
٧٥ - قوله: ﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾ أكثر أهل العلم على أن (لا) صلة. المعنى: فأقسم (٢)، وزيادة (لا) كثير في الكلام والتنزيل.
وذهب أهل المعاني (٣) إلى أن (لا) (٤) هاهنا رد لقولهم في القرآن إنه سحر وشعر وكهانة، فرد الله ذلك بقوله: ﴿فَلَا﴾، ثم استأنف القسم على أنه قرآن كريم، ومثل هذا قوله: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ﴾ [النساء: ٦٥] (٥).
وقد مر قوله تعالى: ﴿بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ وقرئ (بِمَوقِعِ) (٦).
قال أبو عبيد: والتي نختار الجماع؛ لأنها في التفسير منازل القرآن حين نزل نجومًا. قال: وبعضهم يتأولها مغائب الكواكب حين تسقط فأي
(١) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١١٥.
(٢) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٥٢، و"الكشاف" ٤/ ٦١، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٩، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٢٣.
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١١٧، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٩، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٢٣.
(٤) (لا) ساقطة من (ك).
(٥) هذا القول نسبه المفسرون للفراء ولسعيد بن جبير. قال أبو حيان: ولا يجوز؛ لأن في ذلك حذف اسم لا وخبرها، وليس جواباً لسائل سأل فيحتمل ذلك نحو قوله: لا: لمن قال: هل من رجل في الدار. "البحر المحيط" ٨/ ٢١٣.
(٦) قرأ حمزة والكسائي وخلف (بموقع) على واحد. وقرأ الباقون ﴿بِمَوَاقِعِ﴾ جماعة. انظر: "حجة القراءات" ص ٦٩٧، و"النشر" ٢/ ٣٨٣، و"الإتحاف" ص ٤٠٩.
256
الوجهين كان فالجماع أولى (١).
وقال المبرد: (موقع) هاهنا مصدر، فهو يصلح للقليل والكثير والواحد والجمع (٢)، كما تقول: عجبت من ضرب القوم، ومن علم القوم فالواحد ينبئ عن الجميع.
وقال أبو علي: المصادر وسائر الأجناس إذا اختلفت جاز جمعها، كما قال عز من قائل: ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ﴾ فجمع للاختلاف وقال ﴿لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان: ١٩]، فأفرد لما كان الجميع ضربًا واحداً، فمن قال: ﴿بموقع النجوم﴾ فأفرد؛ فلأنه اسم جنس، ومن جمع فلاختلاف ذلك، فأما قول الشاعر (٣):
كأن مَتْنَيْه من النفي مواقع الطير على الصفىِّ
فليس اسم المصدر وإنما هو موضع فجمع؛ لأن المعنى على الجمع، وإنما شبه مواضع بمواضع (٤).
وأما التفسير فقال عطاء عن ابن عباس: يريد: أُقسِم بنزول القرآن، وهو قول الكلبي ومقاتل وسعيد بن جبير وقتادة (٥).
(١) لم أقف عليه.
(٢) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٣٩، و"فتح القدير" ٥/ ١٦٠.
(٣) البيت للأخيل الطائي كما في "اللسان" ٢/ ٤٥٥ (صفا)، و"الجمهرة" ٣/ ١٥٣، و"مجالس ثعلب" ١/ ٢٠٧، و"الحيوان" ٢/ ٣٣٩، و"الخصائص" ٢/ ١١، و"المنصف" ٣/ ٧٢، والبيت يصف ساقياً ويشبه الماء لما جف على ظهره وابيض بذرق الطائر، والصفي جمع الصفا، والصفا جمع الصفاة، وهي الحجر الصلد الضخم الأملس.
(٤) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٦٣.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٤٠، و"تفسير مجاهد" ٢/ ٦٥١، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٧٣، و"تفسير مقاتل" ١٣٩ ب، و"جامع البيان" ٢٧/ ١١٧.
257
وذكرنا معنى النجوم في نزول القرآن عند قوله: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ [النجم: ١]، وذهب جماعة من المفسرين (١) إلى أن مواقع النجوم معناها مغارب النجوم ومساقطها، وهو قول أبي عبيدة قال: والله تعالى له أن يقسم بما شاء من خلقه وليس للعباد أن يحلفوا إلا به، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ﴾ [المعارج: ٤٠] (٢).
وقال الحسن: يعني انكدارها وانتثارها (٣)، وهذا على قراءة من قرأ: ﴿بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ لأنه مصدر يريد بوقوعها سقوطها من السماء عند انكدارها، ويجوز الجمع أيضًا لإضافته إلى النجوم ولكل نجم وقوع.
٧٦ - ثم أخبر عن عظم هذا القسم فقال، قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ قال الفراء والزجاج: هذا يدل على أن المراد بمواقع النجوم نزول القرآن (٤)، والضمير في (إِنَّهُ) يعود على القسم، ودل عليه قوله: ﴿أُقْسِمُ﴾، والمعنى: وأن القسم بمواقع النجوم لقسم عظيم لو تعلمون عظمه لانتفعتم بذلك.
وقال أبو علي الفارسي: التقدير في: ﴿لَوْ تَعْلَمُونَ﴾ ما علموا، كما تقول: لو قمت أي: قم (٥).
(١) وهو قول قتادة وغيره.
انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٢٣، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٩٨، وهو اختيار ابن جرير. "جامع البيان" ٢٧/ ١١٧.
(٢) من الآية (٤٠) من سورة المعارج. والذي في "مجاز القرآن" ٢/ ٢٥٢. قوله: (فأقسم بمواقع النجوم، ومواقعها مساقطها ومغايبها).
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١١٧، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٩.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٢٩، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١١٥.
(٥) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ١٨٩.
وزعم أبو الحسن أن الماضي في هذا المعنى أكثر من المضارع.
والآية اعتراض بين المقسم والمقسم عليه لأن التقدير: فأقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم.
وقوله: (لَّوْ تَعْلَمُونَ) اعتراض أيضًا بين الصفة والموصوف من الجملة التي هي اعتراض (١).
ثم ذكر المقسم عليه بقوله: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ) أي إن الكتاب الذي أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- لقرآن كريم. قال الكلبي: حسن كريم على ربه (٢).
وقال مقاتل: كرمه الله وأعزه لأنه كلامه (٣).
وقال أهل المعاني (٤): القرآن الكريم الذي من شأنه يعطي الخير الكثير بالدلائل التي تؤدي إلى الحق في الدين.
وقال الأزهري: الكرمُ اسم جامع لما يُحمد، والله كريم حميد الفعال.
٧٧ - و ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧)﴾ أي قرآن يحمد لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة (٥).
٧٨ - قوله: ﴿فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ قال جماعة المفسرين: يريد في اللوح المحفوظ.
قال الكلبي: مكنون من الشياطين (٦).
(١) انظر: "الكشاف" ٤/ ٦٢، و"البحر المحيط" ٨/ ٢١٤، و"فتح القدير" ٥/ ١٦٠.
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٤٠.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٩ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٩.
(٤) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٩، و"فتح القدير" ٥/ ١٦٠.
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" ١٠/ ٢٣٤ (كرم).
(٦) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٨٩.
وقال مقاتل: مستور من خلقه عند الله في اللوح المحفوظ (١).
وقال أبو إسحاق: أي مصون في السماء (٢).
وقال مجاهد: في كتاب مكنون لا يصيبه تراب، ولا غبار (٣).
٧٩ - قوله: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ أكثر المفسرين على أن الكناية في قوله (لا يمسه) تعود إلى الكتاب المكنون، وهو اللوح المحفوظ.
والمطهرون هم الملائكة، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، وباذان، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، والضحاك، والكلبي، وقتادة، ومقاتل (٤)، قالوا: المطهرون الملائكة طهروا من الشرك والذنوب والأحداث والنجاسات، فالذي في السماء لا يمسه إلا المطهرون، وأما كتابنا فيمسه الطاهر وغير الطاهر، وهو اختيار الفراء والزجاج، قالا: لا يمس ذلك اللوح المحفوظ إلا الملائكة (٥).
والمعنى على هذا القول أن النسخة التي في السماء من القرآن مكنون مصون لا يصل إليه أحد، ولا يمسه إلا الملائكة الذين وصفوا بالطهارة، ومذهب الفقهاء (٦) في هذه الآية أن الضمير في قوله: (لَّا يَمَسُّهُ) يعود إلى
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٩ ب.
(٢) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١١٥.
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١١٨.
(٤) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٥٢، و"تفسير مقاتل" ١٣٩ ب، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٧٣، و"جامع البيان" ٢٧/ ١١٨ - ١١٩.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٣٠، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١١٦.
(٦) قال الجصاص: (إن حمل اللفظ - أي قوله تعالى ﴿لَا يَمَسُّهُ﴾ على حقيقة الخبر =
260
القرآن، والمراد بالقرآن المصحف لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "نهى أن يُسافر بالقرآن إلى أرض العدو" (١). يعني المصحف، والمراد بقوله: (الْمُطَهَّرُونَ) أي من الأحداث والجنابات، وقالوا: قوله: (لا يَمَسُّهُ) خبر في معنى النهي ومنعوا بهذه الآية الجنب والحائض والمحدث من مس المصحف وحمله، وإن كان بعلاّقة أو في غلاف، وهذا قول محمد بن علي، وعطاء، وطاووس، وسالم، والقاسم، وعبد الرحمن بن الأسود، وإبراهيم، وسفيان، ومذهب مالك، والشافعي (٢).
= فالأولى أن يكون المراد القرآن الذي عند الله والمطهرون الملائكة، وإن حمل على النهي -وإن كان في صورة الخبر- كان عمومًا فينا وهذا أولى..) "أحكام القرآن" ٣/ ٤١٦، وانظر: "سنن سعيد بن منصور" ٢/ ٣٤٦.
(١) الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه"، كتاب: الجهاد، باب: السفر بالمصاحف إلى أرض العدو ٤/ ٦٨، ومسلم في كتاب: الإمارة، باب: النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار ٣/ ١٤٩٠، وأبو داود في "سننه"، كتاب: الجهاد، باب: في المصحف يسافر به إلى أرض العدو ٢/ ٤٩٥، وأحمد في "المسند" ٢/ ٦ ولفظ البخاري: "... عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو".
(٢) قال ابن قدامة: (ولا يمس المصحف إلا طاهر، يعني طاهرًا من الحدثين جميعًا. روى عن ابن عمر والحسن وعطاء وطاوس...) ولا نعلم مخالفًا لهم إلا داود، أي الظاهري، قال: ويجوز حمله بعلاقته، وهذا قول أبي حنيفة، وروى ذلك عن الحسن، وعطاء، وطاوس، والشعبي، والقاسم، وأبي وائل، والحكم، وحماد. ومنع منه الأوزاعي، ومالك، والشافعي.
انظر: "المدونة" ١/ ١٠٧، و"المغني" ١/ ٢٠٢ - ٢٠٣، و"المحلى" ١/ ٨١ - ٨٤. قلت: وبهذا يتبين أن الواحدي -رحمه الله- عمم القول بمنع حمله بعلاقة مع أن منهم من جوز ذلك والله أعلم.
261
٨٠ - قوله تعالى: ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قال أبو إسحاق: تنزيل صفة لقوله: ﴿لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ وعلى هذا المراد بالمصدر المفعول، والمعني منزل كقولهم: ضَرْب الأمير ونَسْج اليمن، قال: ويجوز أن يكون مرفوعًا على: هو تنزيل من رب العالمين (١)، قال الكلبي: يعني القرآن تنزيل من رب العالمين على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (٢).
٨١ - قوله تعالى: ﴿أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد ﴿أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ﴾ القرآن يا أهل مكة ﴿أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ﴾ قال تكفرون وتكذبون (٣).
وقال مقاتل: تكفرون (٤).
وقال الكلبي: تكذبون أنه ليس كما قال لكم وأنه لا جنة ولا نار ولا بعث (٥).
قال أبو عبيدة: المدهن والمداهن واحد (٦)، وقال الفراء: مدهنون مكذبون، ويقال: كافرون (٧).
وقال الزجاج: أي أفبالقرآن تكذبون، قال: والمدهن والمداهن الكذاب المنافق (٨).
(١) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١١٦.
(٢) انظر: "تنوير" المقباس" ٥/ ٣٤٠، و"الوسيط" ٤/ ٢٤٠.
(٣) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٤٠، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٠.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٩ ب، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٢٧.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٤١.
(٦) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٥٢.
(٧) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ١٣٠.
(٨) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١١٦.
وقال ابن الأعرابي: ﴿مُدْهِنُونَ﴾ منافقون والإدهان والمداهنة اللين والمصانعة، وهو أن يسر خلاف ما يظهر، والمدهن الذي يجري في الباطن على خلاف الظاهر (١). هذا أصل معناه في اللغة.
ثم قيل للمكذب مدهن، وإن صرح بالتكذيب والكفر، ويجوز أن يكون هذا خطابًا لمن آمن بالقرآن ظاهرًا وأسر الكفر به، وهذا معنى الإدهان والمداهنة.
قال المؤرج: المدهن المنافق الذي يلين جانبه ليخفي كفره (٢).
٨٢ - قوله تعالى: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ قال ابن عباس وجماعة المفسرين: تجعلون شكركم أنكم تكذبون بنعمة الله عليكم فتقولون سقينا بنوء كذا (٣).
قال أبو إسحاق: كانوا يقولون مطرنا بنوء كذا، ولا ينسبون السقيا إلى الله عز وجل فقيل لهم: أتجعلون رزقكم أي شكركم بما رزقتم التكذيب (٤).
وقال أبو علي الفارسي: أي وتجعلون رزقكم الذي رزقكموه أي شكر رزقكم -فحذف المضاف- أن تكذبوا بذلك الرزق أنه من الله وأن تنسبوه إلى غيره فتقولوا مطرنا بنوء كذا.
(١) انظر: "اللسان" ١/ ١٠٢٨ (دهن).
(٢) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٢٧، و"فتح القدير" ٥/ ١٦١.
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١١٩، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٠.
روى البخاري في كتاب: الاستسقاء: باب قول الله تعالى ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ ٢/ ٤١، قال ابن عباس: شكركم. ورواه ابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس. انظر: "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٩٩، و"تفسير ابن عباس ومروياته" للحميدي ٢/ ٨٦٣ - ٨٦٤.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١١٦.
263
ويجوز أن يكون المعنى أن تكذبوا بما جاء به التنزيل في قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا﴾ [ق: ٩] إلى قوله: ﴿رِزْقًا لِلْعِبَادِ﴾ [ق: ١١]، وقوله: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ)﴾ [البقرة: ٢٢] فذكر أنه أنزل الماء ورزق به العباد الثمار، فمن نسب الإنزال إلى النجم فقد كذب برزق الله وكذب بما جاء به القرآن (١).
والمعنى: أتجعلون بدل الشكر التكذيب.
وروي عن عاصم ﴿أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ خفيفة (٢) أي تنسبون هذا الرزق إلى غير الله، وقال الأزهري: معنى الآية وتجعلون شكر (٣) رزقكم الذي رزقكم الله التكذيب بأنه من عند الله الرزق، وتجعلون الرزق من عند غير الله (٤)، وذلك كفر، فأما من جعل الرزق من عند الله وجعل النجم وقتًا وقته الله للغيث، ولم يجعله المغيث الرزق رجوت أن لا يكون مكذبًا، والله أعلم.
وقال ابن إسحاق في بعض أماليه: من قال مطرنا بنوء كذا ومراده أنا مطرنا في وقت طلوع نجم كذا ولم يقصد إلى فعل النجم فذلك والله أعلم جائز، كما جاء عن عمر -رضي الله عنه- أنه استسقى بالمصلى ثم نادى العباس: كم (٥) بقي من نوء الثريا؟ فقال: إن العلماء بها يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعًا بعد وقوعها، فوالله ما مضت تلك السبعة حتى غيث
(١) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٦٤ - ٢٦٥.
(٢) وهي قراءة المفضل عن عاصم، ويحيى بن وثاب، (تَكْذبون) خفيفة منصوبة التاء. انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٦٤، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٣٠.
(٣) (ك): (شكر) ساقطة من (ك)، وزيادتها من "تهذيب اللغة".
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" ٨/ ٤٣٠ (رزق).
(٥) كذا في (ك) وصوابها: (فقال: يا عباس يا عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كم...).
264
الناس (١).
وإنما أراد عمر: كم بقي من الوقت الذي جرت به العادة أنه إذا تم أتى الله بالمطر.
هذا الذي ذكرنا هو قول جماعة المفسرين (٢).
وقال الحسن: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ﴾ أي حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون قال: وخسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلا التكذيب به (٣).
٨٣ - ثم احتج عليهم بقوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ﴾ يقول فهلا إذا بلغت الروح أو النفس الحلقوم عند الموت.
٨٤ - ﴿وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ﴾ يجوز أن يكون خطاباً للذين بلغت روحهم الحلقوم، وهم الذين أسرفوا على الموت (٤)، ويجوز أن يكون خطاباً لأهل الميت والذين يحضرونه عند السياق (٥).
(١) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" ٢٧/ ١٢٠، وذكره القرطبي في "جامعه" ١٧/ ٢٣٠، وابن كثير في "تفسيره" ٤/ ٢٩٩.
(٢) قال ابن كثير: وهذا محمول على السؤال عن الوقت الذي أجرى الله فيه العادة بإنزال المطر، لا أن ذلك النوء مؤثر بنفسه في نزول المطر، فإن هذا هو المنهي عن اعتقاده.
ومما نقل القرطبي في "تفسيره" ١٧/ ٢٢٩: عن الشافعي -رحمه الله- قوله: لا أحب أحدًا أن يقول: مطرنا بنوء كذا وكذا، وإن كان النوء عندنا الوقت المخلوق لا يضر ولا ينفع، ولا يمطر ولا يحبس شيئًا من المطر، والذي أحب أن يقول: مطرنا وقت كذا كما نقول: مطرنا شهر كذا.
(٣) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٧٣، و"جامع البيان" ٢٧/ ١٢٠.
(٤) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٣١.
(٥) وبهذا قال عامة المفسرين. انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١٢٠، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٠٠.
قوله: (تَنظُرُونَ) قال مقاتل: إلى أمري وسلطاني (١).
وقال عطاء: إلى ما كنتم تكذبون به (٢)، يعني العذاب.
وقال الكلبي: تنظرون إليه متى تخرج نفسه (٣).
قال أبو إسحاق: أي أنتم يا أهل الميت في تلك الحالة ترونه قد صار إلى أن تخرج نفسه (٤).
وقال صاحب النظم: معنى (تَنظُرُونَ) هاهنا لا يمكنكم الدفع ولا تملكون شيئًا (٥)، كما قال تأبط شرًّا:
فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا به كدحةً والموت خزيانُ ينظر (٦)
وقوله: ينظر هاهنا، معناه: لا يقدر على شيء.
٨٥ - قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ﴾ أي بالعلم والقدرة والرؤية وذلك أن الله تعالى يراه من غير مسافة بينه وبينه فهو أقرب إليه من كل من يراه بمسافة بينه وبينه (٧). ﴿وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ﴾ أي لا تعلمون ذلك. وهذا خطاب للكفار، هذا قول أهل المعاني.
وقال المفسرون: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ﴾ يعني ملك الموت وأعوانه (٨).
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٩ ب.
(٢) لم أجده.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٤١، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٠.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١١٦.
(٥) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٤١، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٠.
(٦) (ينظر) ساقطة من (ك).
والبيت ورد في "ديوانه" ص ٢٨٤، و"الحماسة" لأبي تمام ١/ ٧٢.
(٧) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٩١، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٣١.
(٨) انظر: "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٠٠، و"فتح القدير" ٥/ ١٦١.
والمعنى: ورسلنا القابضون روحه أقرب إليه منكم، ولكن لا تبصرون أولئك الذين حضروه لقبض الروح.
٨٦ - قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ﴾ قال أكثر المفسرين: غير محاسبين وهو قول عطاء، وسعيد بن جبير، ومجاهد، ومقاتل (١).
وقال الكلبي: غير مملوكين (٢).
وقال أبو عبيدة: غير مجزيين (٣). واختار الفراء والزجاج غير مملوكين (٤)، والمدينة: الأمة المملوكة.
وأنشد أبو عبيدة للأخطل (٥):
ربت فربا في كرمها ابن مدينةٍ يزلُّ على مسحاته يتركَّلُ
٨٧ - قوله تعالى: ﴿تَرْجِعُونَهَا﴾ أي تردون تلك النفس التي بلغت الحلقوم.
قال الفراء: وأجيب ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ﴾ و ﴿فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ﴾ بجواب واحد، وهو قوله: ﴿تَرْجِعُونَهَا﴾، قال: ومثله قوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة: ٣٨]، أجيبتا بجواب واحد
(١) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٥٣، و"تفسير مقاتل" ١٣٩ ب، و"جامع البيان" ٢٧/ ١٢١، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٩١.
(٢) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٩١، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٣١.
(٣) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٥٢.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٣١، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١١٧.
(٥) انظر: "ديوانه" ١/ ١٩، و"اللسان" ١/ ١٠٤٣ (دين)، "المنصف" ١/ ٣١٢.
والتركل: هو وضع القدم على المسحاة للمبالغة في الحفر. "اللسان" ١/ ١٢١٨ (ركل).
وهما جزاءان (١).
وقال صاحب النظم: قوله: ﴿تَرْجِعُونَهَا﴾ جواب لقوله: ﴿فَلَوْلَا﴾ المتقدمة والمتأخرة على تأويل: فلولا إذا بلغت النفس الحلقوم ترجعونها أي تردونها إلى موضعها إن كنتم غير محاسبين ولا مجزيين كما تزعمون، يقول: إن كان الأمر كما تقولون أنه لا بعث ولا حساب ولا جزاء ولا إله يقوم بذلك، فهلَّا تردون نفسًا ممن يعز عليكم إذا بلغت الحلقوم؟ وإذا لم يمكنكم في ذلك حيلة بوجه من الوجوه فلم لا يدلكم ذلك على أن الأمر إلى غيركم وهو الله عز وجل (٢).
وقال أبو إسحاق: معناه هلا ترجعون الروح إن كنتم غير مدينين، أي: غير مملوكين مدبَّرين ليس لكم في الحياة والموت قدرة، فهلا إن كنتم كما زعمتم في مثل قولكم الذي جاء في القرآن: ﴿لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ [آل عمران: ١٦٨] ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ [آل عمران: ١٥٦] أي إن كنتم تقدرون أن تؤخروا أجلًا فهلا ترجعون الروح إذا بلغت الحلقوم وهلا تردون عن أنفسكم الموت (٣).
ولما دل بما ذكر على أنهم محاسبون ومجزيون ومملوكون، ذكر طبقات الخلق عند الموت والحشرجة.
٨٨ - قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ إن كان هذا الذي بلغت روحه الحلقوم من المقربين عند الله في الدرجات والتفضيل (فَرَوْحٌ) أي:
(١) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ١٣٠.
(٢) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٤١ - ٢٤٢، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٩١، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٣٢.
(٣) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١١٧.
فله روح وهو الراحة والاستراحة، قاله ابن عباس والكلبي وقتادة والضحاك (١).
وقال مجاهد: الروح الفرح (٢).
قوله: ﴿وَرَيْحَانٌ﴾ قالوا: يعني الرزق في الجنة (٣)، وذكرنا الريحان بمعنى الرزق في قوله: ﴿ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ﴾ [الرحمن: ١٢].
وقال الحسن وأبو العالية: هو ريحاننا هذا يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمه (٤).
٩٠، ٩١ - ﴿وَأَمَّا إِنْ كَانَ﴾ أي المتوفى ﴿مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾. قال مقاتل: سلم الله لهم أمرهم يتجاوز عن سيئاتهم ويقبل حسناتهم (٥).
وقال الكلبي: يسلم عليك أهل الجنة، وقال أيضًا: يقول السلام لك (٦)، قال الزجاج: أي أنك ترى فيهم ما تحب من السلام وقد علمت ما أعد لهم من الجزاء (٧).
(١) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٤١، و"تفسير مقاتل" ١٤٠ أ، و"جامع البيان" ٢٧/ ١٢٢.
(٢) انظر: "الدر" ٦/ ١٦٦، و"فتح القدير" ٥/ ١٦٢.
(٣) قاله مجاهد، وابن جبير، ومقاتل.
انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٥٣، و"تفسير مقاتل" ١٤٠ أ، و"جامع البيان" ٢٧/ ١٢٢.
(٤) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١٢٢، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٩١. وقال ابن كثير ٤/ ٣٠٠ بعد ذكره للأقوال: (وكل هذه الأقوال متقاربة صحيحة فإن من مات مقربًا حصل له جميع ذلك من الرحمة والراحة والاستراحة والفرح والسرور والرزق الحسن).
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٠ أ.
(٦) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٤٢، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٩١.
(٧) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١١٨.
وقال الفراء: سلم لك أنهم (١) من أصحاب اليمين، وحذف أنهم (٢) من الكلام كما تقول: أنت مصدق مسافر عن قليل إذا كان قد قال إني مسافر عن قليل (٣)، والمعنى: أنت مصدق أنك مسافر فألقيت أن.
٩٢ - ﴿وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ﴾ بالبعث ﴿الضَّالِّينَ﴾ عن الهدى.
٩٣ - ﴿فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ﴾ أي فالذي يعد له حميم جهنم.
٩٤ - ﴿وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾ أي إدخال نار عظيمة يقال: أصلاه النار، أي: جعله يصلاها ويقاسي حرها، والمصدر هاهنا مضاف إلى المفعول كما تقول لفلان إكرام وإعطاء مال، أي: يعطي المال، كذلك هاهنا يصلى الجحيم (٤)، كما قال: ﴿وَيَصْلَى سَعِيرًا (١٢)﴾ [الانشقاق: ١٢] في قراءة من شدد (٥).
٩٥ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾ قال مقاتل: إن هذا الذي ذكر للمقربين وأصحاب اليمين وللمكذبين لهو حق اليقين لا شك فيه (٦).
وقال أبو إسحاق: أي هذا الذي قصصنا عليك في هذه السورة من الأقاصيص وما أعد الله لأوليائه وأعدائه وما ذكر مما يدل على وحدانيته
(١) في المعاني: (أنك، أن).
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١٢٢، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٩١.
(٣) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ١٣١.
(٤) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٣٤، و"فتح القدير" ٥/ ١٦٢.
(٥) قرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، والكسائي ﴿وَيَصْلَى﴾ بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام، وقرأ الباقون بفتح الياء وسكون الصاد وتخفيف اللام.
انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٣٩٠، و"حجة القراءات" ص ٧٥٦، و"النشر" ٢/ ٣٩٩، و"الإتحاف" ص ٤٣٦.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٠ أ.
ليقين (١).
ومعنى (حَقُّ اليَقِينِ) حق الأمر اليقين عند الأخفش والبصريين (٢)، وعند الكوفيين هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه (٣).
وقال أبو إسحاق: هذا كما تقول إن زيدًا لعالم، وإنه للعالم حق العالم إذا بالغت في التوكيد (٤).
٩٦ - قوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ قال أبو إسحاق: فنزّه الله عَزَّ وَجَلَّ عن السوء.
والباء يجب أن تكون زيادة للتوكيد (٥)، والاسم يكون بمعنى الذات والنفس كأنه قيل: سبح ونزه ربك العظيم. والله أعلم بالصواب.
(١) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١١٨.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٧٠٣، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٣٤.
(٣) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٣٤٧، و"البحر المحيط" ٨/ ٢١٦.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١١٨.
(٥) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٣٤ - ٢٣٥.
وقال الشوكاني في "تفسيره" ٥/ ١٦٢، والباء متعلقة بمحذوف: أي فسبح ملتبسًا باسم ربك للتبرك به، وقيل: المعنى: فصل بذكر ربك، وقيل الباء زائدة، والاسم بمعنى الذات. وقيل: هي للتعدية؛ لأن سبح يتعدى بنفسه تارة ويتعدى بالحرف أخرى، والأول أولى.
271
سورة الحديد
273
Icon