تفسير سورة القصص

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة القصص من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية إلا قوله تعالى :﴿ أنّ الذي فرض ﴾. الآية نزلت بالجحفة ﴿ وإلا الذين آتيناهم الكتاب ﴾ إلى ﴿ لا نبتغي الجاهلين ﴾ وهي سبع أو ثمان وثمانون آية، وألف وأربعمائة وإحدى وأربعون كلمة وخمسة آلاف وثمانمائة حرف.
وتسمى سورة موسى عليه السلام لاشتمالها على قصّته فقط من حين ولد إلى أن أهلك الله تعالى فرعون وخُسف بقارون، كما سميت سورة نوح وسورة يوسف لاشتمالهما على قصتهما، ولا يقال سميت بذلك لذكر القصص فيها في قوله تعالى :﴿ فلما جاءه وقص عليه القصص ﴾ لأنّ سورة يوسف فيها ذكر القصص مرّتين الأولى :﴿ نقصّ عليك أحسن القصص ﴾ ( يوسف : ٤ ) والثانية : قوله تعالى :﴿ لقد كان في قصصهم ﴾ ( يوسف : ١١١ ) فكانت سورة يوسف أولى بهذا الاسم، وأيضاً فكانت سورة هود أولى بهذا الاسم، لأنه ذكر فيها قصص سبعة أنبياء وهذه ليس فيها إلا قصة واحدة فكان ينبغي العكس وأن تسمى سورة هود القصص وهذه سورة موسى.

﴿ بسم الله ﴾ الذي اختص بالكبرياء والعظمة ﴿ الرحمان ﴾ الذي عمّ بنعمه أهل الإيمان والكفران ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص بنعمه بعد البعث أهل الإيمان.
﴿ طسم ﴾ تقدّم الكلام على أوائل السور أوّل البقرة.
﴿ تلك ﴾ أي : هذه الآيات العالية الشأن ﴿ آيات الكتاب ﴾ أي : المنزل على قلبك الجامع لجميع المصالح الدنيوية والأخروية والإضافة بمعنى من ﴿ المبين ﴾ أي : المظهر الحق من الباطل.
﴿ نتلو ﴾ أي : نقص قصاً متتابعاً متوالياً بعضه في إثر بعض ﴿ عليك ﴾ بواسطة جبريل عليه السلام ﴿ من نبأ ﴾ أي : خبر ﴿ موسى وفرعون بالحق ﴾ أي : بالصدق الذي يطابقه الواقع.
تنبيه : يجوز أن يكون مفعول نتلو محذوفاً دلت عليه صفته وهي من نبأ موسى، تقديره نتلو عليك شيئاً من نبأ موسى، ويجوز أن تكون من مزيدة على رأي الأخفش أي : نتلو عليك نبأ موسى، وبالحق يجوز أن يكون حالاً من فاعل نتلو ومن مفعوله أي : نتلو عليك بعض خبرهما ملتبسين أو ملتبساً بالحق، ثم نبه على أن هذا البيان كما سبق إنما ينفع أولي الإذعان بقوله تعالى :﴿ لقوم يؤمنون ﴾ فغيرهم لا ينتفع بذلك.
ولما كان كأنه قيل ما المقصود من هذا ؟ قال :﴿ إنّ فرعون ﴾ ملك مصر الذي ادّعى الإلهية ﴿ علا ﴾ أي : بادعاء الإلهية وتجبره على عباد الله وقهره لهم ﴿ في الأرض ﴾ أي : أرض مصر وإطلاقها يدل على تعظيمها وأنها كجميع الأرض لاشتمالها على ما قل أن يشتمل عليه غيرها ﴿ وجعل ﴾ أي : بما جعلنا له من نفوذ الكلمة ﴿ أهلها ﴾ أي : أهل الأرض المرادة ﴿ شيعاً ﴾ أي : فرقاً تتبع كل فرقة شيئاً يتبعونه على ما يريد ويطيعونه لا يملك أحد منهم أن يكون عتيقه، أو أصنافاً في استخدامه يسخر صنفاً في بناء، وصنفاً في حفر، وصنفاً في حرث، ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية، أو فرقاً مختلفة قد أغرى بينهم العداوة والبغضاء وهم بنو إسرائيل والقبط.
وقوله تعالى ﴿ يستضعف طائفة منهم ﴾ يجوز فيه ثلاثة أوجه أن يكون حالاً من فاعل جعل أي : جعلهم كذلك حالة كونه مستضعفاً طائفة منهم، وأن يكون صفة لشيعاً وأن يكون استئنافاً بياناً لحال الأهل الذين جعلهم فرقاً وأصنافاً وهم بنو إسرائيل الذين كانت حياة جميع أهل مصر على يدي واحد منهم وهو يوسف عليه السلام وفعل معهم من الخير ما لم يفعله والد مع ولده ومع ذلك كافؤوه في أولاده وأولاد إخوته بأن استعبدوهم ثم ما كفاهم ذلك حتى ساؤهم على يدي العنيد سوء العذاب، قال البقاعي : وهذا حال الغرباء بينهم قديماً وحديثاً ثم بين الاستضعاف بقوله تعالى ﴿ يذبح أبناءهم ﴾ أي : عند الولادة وكَّل بذلك أناساً ينظرون كلما ولدت امرأة ذكراً ذبحوه وسبب ذلك أن كاهناً قال له سيولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكك على يديه فولد تلك الليلة اثنا عشر غلاماً فقتلهم، وبقي هذا العذاب في بني إسرائيل سنين كثيرة وكان ذلك من غاية حمق فرعون فإنه إن صدق الكاهن لم يدفع القتل الكائن وإن كذب فما وجه القتل ﴿ ويستحيي نساءهم ﴾ أي : يريد حياة الإناث فلا يذبحهنّ، وقال السدي : إنّ فرعون رأى في منامه ناراً أقبلت من بيت المقدس إلى مصر فأحرقت القبط دون بني إسرائيل فسأل عن رؤياه فقيل له : يخرج من هذا البلد من بني إسرائيل رجل يكون هلاك مصر على يديه فأمر بقتل الذكور، وقيل : إنّ الأنبياء عليهم السلام الذين كانوا قبل موسى عليه السلام بشروا بمجيئه فسمع فرعون ذلك فأمر بذبح بني إسرائيل.
﴿ إنه ﴾ أي : فرعون ﴿ كان من المفسدين ﴾ فلذلك اجترأ على قتل خلق كثير من أولاد الأنبياء لتخيل فاسد، قال وهب : ذبح فرعون في طلب موسى سبعين ألفاً من بني إسرائيل.
وقوله تعالى :﴿ ونريد أن نمن ﴾ عطف على قوله :﴿ إنّ فرعون علا في الأرض ﴾ لأنها نظيرة تلك في وقوعها تفسيراً لنبأ موسى وفرعون وقصصاً له، ونريد حكاية حال ماضية أي : نعطي بقدرتنا وعلمنا ما يكون جديراً أن نمن به ﴿ على الذين استضعفوا ﴾ أي : حصل استضعافهم وأهانهم بهذا الفعل الشنيع ولم يراقب فيهم مولاهم ﴿ في الأرض ﴾ أي : أرض مصر فذلوا وأهينوا، ونريهم في أنفسهم وأعدائهم فوق ما يحبون وفوق ما يأملون ﴿ ونجعلهم أئمة ﴾ أي : مقدّمين في الدين والدنيا علماء يدعون إلى الجنة عكس ما يأتي من عاقبة آل فرعون، وقال مجاهد : دعاة إلى الخير، وقال قتادة : ولاة وملوكاً، لقوله تعالى :﴿ وجعلكم ملوكاً ﴾ ( المائدة : ٢٠ ) وقيل : يقتدى بهم في الخير ﴿ ونجعلهم ﴾ أي : بعظمتنا وقدرتنا ﴿ الوارثين ﴾ أي : لملك مصر لا ينازعهم فيه أحد من القبط يخلفونهم في مساكنهم.
﴿ ونمكن ﴾ أي : نوقع التمكين ﴿ لهم في الأرض ﴾ أي : كلها لاسيما أرض مصر والشام بإهلاك أعدائهم وتأبيد ملكهم وتأييدهم بكلمة الله، ثم بالأنبياء من بعده صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بحيث يسلطهم بسببهم على من سواهم بما يؤيدهم به من الملائكة ويظهر لهم من الخوارق ﴿ ونري ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ فرعون ﴾ أي : الذي كان هذا الاستضعاف منه ﴿ وهامان ﴾ وزيره ﴿ وجنودهما ﴾ أي : الذين كانا يتوصلان بهم إلى ما يريد أنه من الفساد فيقوى كل منهم بالآخر في الأرض فعلوا وطغوا، وقوله تعالى ﴿ منهم ﴾ أي : المستضعفين متعلق بنري أو بنريد لا بيحذرون، لأنّ ما بعد الموصول لا يعمل فيما قبله ﴿ ما كانوا يحذرون ﴾ أي : من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم.
وقرأ حمزة والكسائي : ويري بالياء مفتوحة وفتح الراء مع الإمالة وسكون الياء بعد الراء ورفع فرعون وهامان وجنودهما مضارع رأى مسند إلى فرعون وما عطف عليه فلذلك رفعوا، وقرأ الباقون : بالنون مضمومة وكسر الراء وفتح الياء بعدها ونصب الأسماء الثلاثة مضارع أرى فلذلك نصب فرعون وما عطف عليه مفعولاً أوّل وما كانوا هو الثاني.
ثم ذكر تعالى أوّل نعمة منّ بها على الذين استضعفوا بقوله تعالى :﴿ وأوحينا ﴾ أي : وحي إلهام أو منام ﴿ إلى أمّ موسى ﴾ لا وحي نبوّة، قال قتادة : قذفنا في قلبها واسمها يوحا وهي بنت لاوي بن يعقوب، وهذا هو الذي أمضينا في قضائنا أن يُسمى بهذا الاسم وأن يكون هلاك فرعون وزوال ملكه على يده بعد أن ولدته وخافت أن يذبحه الذابحون ﴿ أن أرضعيه ﴾ ما كنت آمنة عليه ولم يشعر بولادته غير أخته، قيل أرضعته ثمانية أشهر، وقيل : أربعة أشهر، وقيل : ثلاثة أشهر كانت ترضعه في حجرها وهو لا يبكي ولا يتحرّك، وقد روي أنها أرضعته ثلاثة أشهر في تابوت من برديّ مطليّ من داخله بالقار ﴿ فإذا خفت عليه ﴾ أي : منهم أن يصيح فيسمع فيذبح ﴿ فألقيه ﴾ أي : بعد أن تضعيه في شيء يقيه من الماء ﴿ في اليمّ ﴾ وهو البحر ولكن أراد هنا النيل ﴿ ولا تخافي ﴾ أي : لا يتجدد لك خوف أصلاً من أن يغرق أو يموت من ترك الرضاع ﴿ ولا تحزني ﴾ أي : ولا يوجد لك حزن لوقوع فراقه، فإن قيل ما المراد بالخوفين حتى أوجب أحدهما ونهى عن الآخر ؟ أجيب : بأنّ الخوف الأوّل هو الخوف عليه من القتل لأنه كان إذا صاح خافت عليه أن يسمع الجيران صوته فينمُّوا عليه، وأما الثاني، فالخوف من الغرق ومن الضياع ومن الوقوع في بعض العيون المبعوثة من قبل فرعون في تطلب الولدان وغير ذلك من المخاوف، فإن قيل ما الفرق بين الخوف والحزن ؟.
أجيب : بأنّ الخوف غم يلحق الإنسان لمتوقع، والحزن غم يلحقه لواقع، وهو فراقه والأخطار به فنيهت عنهما جميعاً وأومنت بالوحي لها ووعدت ما يسليها ويطمئن قلبها ويملؤها غبطة وسروراً.
وهو ردّه إليها كما قال تعالى :﴿ إنا رادّوه إليك ﴾ فأزال مقتضى الخوف والحزن ثم زادها بشرى وأيّ بشرى بقوله تعالى :﴿ وجاعلوه من المرسلين ﴾ أي : الذين هم خلاصة المخلوقين، وروى عطاء والضحاك عن ابن عباس قال :«إنّ بني إسرائيل لما كثروا بمصر استطالوا على الناس وعملوا بالمعاصي ولم يأمروا بمعروف ولم ينهوا عن منكر فسلط الله عليهم القبط فأضعفوهم إلى أن أنجاهم الله تعالى على يد نبيه وكليمه ».
قال ابن عباس : إنّ أم موسى لما تقاربت ولادتها وكانت قابلة من القوابل التي وكلهنّ فرعون بحبالى بني إسرائيل مصافية لأم موسى فلما ضربها الطلق أرسلت إليها فقالت قد نزل بي ما نزل فلينفعني حبك إياي اليوم قال فعالجت قبالها فلما أن وقع موسى عليه السلام بالأرض هالها نور بين عيني موسى فارتعش كل مفصل منها ودخل حب موسى قلبها، ثم قالت لها يا هذه ما جئت إليك حين دعوتني إلا ومن ورائي قتل مولودك ولكن وجدت لابنك هذا حباً شديداً ما وجدت حب شيء مثل حبه فاحفظي ابنك فإني أراه هو عدوّنا فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون فجاؤوا إلى بابها ليدخلوا على أمّ موسى فقالت أخته : يا أماه هذا الحرس بالباب فلفت موسى في خرقة ووضعته في التنور وهو مسجور وطاش عقلها فلم تعقل ما تصنع قال فدخلوا فإذا التنور مسجور وأمّ موسى لم يتغير لها لون فقالوا ما أدخل عليك القابلة فقالت هي مصافية لي دخلت عليّ زائرة فخرجوا من عندها فرجع إليها عقلها فقالت لأخت موسى فأين الصبي قالت لا أدري فسمعت بكاء الصبي من التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله تعالى النار عليه برداً وسلاماً فاحتملته.
قال : ثم إنّ أمّ موسى لما رأت إلحاح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها فقذف الله تعالى في نفسها أن تتخذ له تابوتاً صغيراً فقال لها النجار : ما تصنعين بهذا التابوت قالت : ابن لي أخبؤه في هذا التابوت وكرهت الكذب قال ولم تقل أخشى عليه كيد فرعون فلما اشترت التابوت وحملته انطلقت، انطلق النجار إلى الذباحين ليخبرهم بأمر موسى عليه السلام فلما همّ بالكلام أمسك الله تعالى لسانه فلم يطق الكلام وجعل يشير بيديه فلم يدر ما يقول فلما أعياهم أمره قال كبيرهم اضربوه فضربوه وأخرجوه فلما أتى النجار إلى موضعه ردّ الله تعالى لسانه فتكلم فانطلق أيضاً يريد الأمناء فأتاهم ليخبرهم فأخذ الله تعالى لسانه وبصره فلم يطق الكلام ولم يبصر شيئاً فضربوه وأخرجوه فوقع في واد يهوي فيه فجعل لله عليه إن ردّ لسانه وبصره أن لا يدل عليه وأن يكون معه يحفظه حيثما كان فعرف الله تعالى منه الصدق فردّ عليه لسانه وبصره فخرّ لله ساجداً فقال يا رب دلني على هذا العبد الصالح فدل عليه فخرج من الوادي وآمن به وصدّقه وعلم أنّ ذلك من الله عز وجل.
وقال وهب بن منبه : لما حملت أم موسى بموسى كتمت أمرها عن جميع الناس فلم يطلع على حبلها أحد من خلق الله وذلك شيء ستره الله لما أراد أن يمنّ به على بني إسرائيل فلما كانت السنة التي يذبح فيها بعث فرعون القوابل وتقدّم إليهنّ وفتشن تفتيشاً لم يفتش قبل ذلك وحملت أمّ موسى فلم تكبر بطنها ولم يتغير لونها ولم يظهر لبنها وكانت القوابل لا يتعرّضن لها فلما كانت الليلة التي ولد فيها ولدته ولا رقيب عليها ولا قابلة ولم يطلع عليها أحد إلا أخته مريم فلما خافت عليه عملت له تابوتاً مطبقاً ثم ألقته في البحر ليلاً.
﴿ فالتقطه ﴾ بالتابوت صبيحة الليل ﴿ آل ﴾ أي : أعوان ﴿ فرعون ﴾ فوضعوه بين يديه، قال ابن عباس وغيره : كان لفرعون يومئذ بنت ولم يكن له ولد غيرها وكانت من أكرم الناس عليه وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى فرعون وكان بها برص شديد وكان فرعون قد جمع لها أطباء مصر والسحرة فنظروا في أمرها فقالوا له أيها الملك لا تبرأ إلا من قبل البحر يوجد فيه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك، وذلك في يوم كذا وساعة كذا حين تشرق الشمس فلما كان يوم الاثنين غدا فرعون إلى مجلس له على شفير النيل ومعه امرأته آسية بنت مزاحم وأقبلت ابنة فرعون في جواريها حتى جلست على شاطئ النيل مع جواريها تلاعبهنّ وتنضح الماء على وجوههنّ إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج فقال فرعون إنّ هذا لشيء في البحر قد تعلق بالشجر فائتوني به فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نوراً لم يره غيرها فعالجته ففتحت الباب فإذا هي بصبي صغير في مهده وإذا نور بين عينيه وقد جعل الله تعالى رزقه في إبهامه يمصه لبناً فألقى الله تعالى لموسى المحبة في قلب آسية وأحبه فرعون وعطف عليه وأقبلت بنت فرعون فلما أخرجوا الصبي من التابوت عمدت بنت فرعون إلى ما يسيل من ريقه فلطخت به برصها فبرأت فقبلته وضمته إلى صدرها فقالت الغواة من قوم فرعون أيها الملك إنا نظنّ أنّ ذلك المولود الذي تحذر منه من بني إسرائيل هو هذا، رمي به في البحر فرقاً منك فاقتله فهمّ فرعون بقتله فقالت آسية قرّة عين لي ولك واستوهبت موسى من فرعون وكانت لا تلد فوهبه لها، وقال فرعون أما أنا فلا حاجة لي فيه.
وفي حديث قال رسول صلى الله عليه وسلم :«لو قال يومئذ هو قرّة عين لي كما هو لك لهداه الله كما هداها » قال الزمخشري : وهذا على سبيل الفرض والتقدير أي : لو كان غير مطبوع على قلبه كآسية لقال مثل قولها ولأسلم كما أسلمت هذا إن صح الحديث تأويله والله أعلم بصحته انتهى، ثم قال لآسية ما تسميه قالت سميته موسى لأنا وجدناه في الماء والشجر فمو هو الماء وسى هو الشجر فذلك قوله تعالى :﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً ﴾ أي : يطول خوفهم منه بمخالفته لهم في دينهم وحملهم على الحق وقتل رجالهم ﴿ وحزنا ﴾ أي : بزوال ملكهم لأنه يظهر فيهم الآيات التي يهلك الله تعالى بها من يشاء منهم ويستعبد نساءهم ثم يظفر بهم حتى يهلكهم الله تعالى بالغرق على يده إهلاك نفس واحدة فيعم الحزن والنواح أهل ذلك الإقليم كله. تنبيه : في هذه اللام الوجهان المشهوران أحدهما : أنها للعلة المجازية دون الحقيقية لأنهم لم يكن داعيهم إلا الالتقاط أن يكون لهم عدوّاً وحزناً ولكن المحبة والتبني غير أنّ ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له وثمرته شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله وهو الإكرام الذي هو نتيجة المجيء والتأدّب الذي هو ثمرة الضرب ليتأدّب، وتحريره أنّ هذه اللام حكمها حكم الأسد حيث استعيرت لما يشبه التعليل كما استعير الأسد لمن يشبه الأسد، والثاني : أنها للعاقبة والصيرورة لأنهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدوّاً وحزنا ولكن صار عاقبة أمره إلى ذلك.
وقرأ حمزة والكسائي : بضمّ الحاء وسكون الزاي، والباقون بفتحهما وهما لغتان بمعنى واحد كالعدم والعدم، ثم بين تعالى أنّ هذا الفعل لا يفعله إلا أحمق مقهور أو مغفل مخذول لا يكاد يصيب بقوله تعالى :﴿ إنّ فرعون وهامان ﴾ وزيره ﴿ وجنودهما ﴾ أي : كلهم على طبع واحد ﴿ كانوا خاطئين ﴾ أي : في كل شيء فلا بدع منهم أن قتلوا ألوفاً لأجله ثم أخذوه يربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون، أو مذنبين فعاقبهم الله تعالى بما ربى عدوّهم على أيديهم.
وقال وهب : لما وضع التابوت بين يدي فرعون فتحه فوجد فيه موسى فلما نظر إليه قال كيف أخطأ هذا الغلام الذبح وكان فرعون قد استنكح امرأة من بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم وكانت من خيار النساء ومن بنات الأنبياء عليهم السلام وكانت أماً للمساكين ترحمهم وتتصدّق عليهم وهي المذكورة في قوله تعالى :﴿ وقالت امرأة فرعون ﴾ أي : له وهي قاعدة لجنبه هذا الوليد أكبر من ابن سنة وإنما أمرت أن تذبح الولدان لهذه السنة فدعه ﴿ قرّة عين لي ﴾ أي : به ﴿ ولك ﴾ أي : يا فرعون لأنهما لما رأياه أخرج من التابوت أحباه، وروي أنها قالت إنه أتانا من أرض أخرى ليس من بني إسرائيل. ولما أثبتت له أنه ممن تقرّ به العيون قالت ﴿ لا تقتلوه ﴾ أي : لا أنت بنفسك ولا أحد ممن تأمره بذلك، ثم عللت ذلك واستأنفت بقولها ﴿ عسى أن ينفعنا ﴾ ولو كان له أبوان معروفان فإنّ فيه مخايل اليمن ودلائل النفع وذلك لما رأت من النور بين عينيه وارتضاعه من إبهامه لبناً وبرئه البرصاء بريقه ﴿ أو نتخذه ولداً ﴾ أي : إذا كان لم يعرف له أبوان فيكون نفعه أكثر فإنه أهل لأن تتشرّف به الملوك.
تنبيه : التاء في قرّة عين مجرورة، وقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء، والباقون بالتاء وهي خبر مبتدأ مضمر أي : هو قرّة عين، والعامّة من القراء والمفسرين وأهل العلم على ذلك.
ونقل ابن الأنباري بسنده إلى ابن عباس أنه وقف على لا، أي : هو قرّة عين لي فقط ولك لا أي : ليس هو لك قرّة عين ثم يبتدئ بقوله تقتلوه، وقال ابن عادل : وهذا لا ينبغي أن يصح عنه وكيف يبقى تقتلوه من غير نون رفع ولا مقتض لحذفها فلذلك قال الفراء : هو لحن.
وقوله تعالى ﴿ وهم لا يشعرون ﴾ جملة حالية من كلام الله تعالى أي : لا شعور لهم أصلاً لأنّ من لا يكون له علم إلا باكتساب فكيف إذا كان مطبوعاً على قلبه وإذا كانوا كذلك فلا شعور لهم بما يؤول إليه أمرهم معه من الأمور الهائلة المؤدّية إلى هلاك المفسدين، وقيل : إنّ ذلك من كلام امرأة فرعون كأنها لما رأت ملأه أشاروا بقتله قالت له افعل أنت ما أقول لك وقومك لا يشعرون أنا التقطناه.
قال الكلبي ولما أخبر الله تعالى عن حال من لقيه أخبر عن حال من فارقه بقوله تعالى :﴿ وأصبح ﴾ أي : عقب الليلة التي حصل فيها فراقه ﴿ فؤاد أمّ موسى ﴾ أي : قلبها الذي زاد احتراقه شوقاً وخوفاً وحزناً وهذا يدل على أنها ألقته ليلاً، واختلف في معنى قوله ﴿ فارغاً ﴾ فقال أكثر المفسرين : خالياً من كل همّ إلا من همّ موسى عليه السلام، وقال الحسن : أي : ناسياً للوحي الذي أوحاه الله تعالى إليها حين أمرها أن تلقيه في البحر ولا تخاف ولا تحزن والعهد الذي عهد أن يرده إليها ويجعله من المرسلين فجاءها الشيطان وقال : كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجره وثوابه وتوليت أنت قتله فألقيتيه في البحر وأغرقتيه.
وقال الزمخشري : أي : صفراً من العقل والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها لما دهمها من فرط الجزع والدهش ونحوه قوله تعالى :﴿ وأفئدتهم هواء ﴾ ( إبراهيم : ٤٣ ) أي : جوف لا عقول فيها وذلك أنّ القلوب مراكز العقول ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ فتكون لهم قلوب يعقلون بها ﴾ ( الحج : ٤٦ ).
وقوله تعالى :﴿ إن ﴾ هي المخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي : إنها ﴿ كادت ﴾ أي : قاربت ﴿ لتبدي ﴾ أي : يقع منها الإظهار لكل ما كان من أمره مصرّحة ﴿ به ﴾ أي : بأمر موسى عليه السلام من أنه ولدها، وقال عكرمة : عن ابن عباس كادت تقول وا إبناه، وقال مقاتل لما رأت التابوت يرفعه موج ويضعه آخر خشيت عليه الغرق فكادت تصيح من شفقتها، وقال الكلبي : كادت تظهر أنه ابنها حين سمعت الناس يقولون لموسى بعدما شب موسى بن فرعون فشق عليها فكادت تقول هو ابني، وقيل إنّ الهاء عائدة إلى الوحي أي : كادت لتبدي بالوحي الذي أوحى الله تعالى إليها أن يردّه عليها وجواب. ﴿ لولا أن ربطنا ﴾ محذوف أي : لا بدت به كقوله تعالى :﴿ وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه ﴾ ( يوسف : ٢٤ ) والمعنى لولا أن ربطنا ﴿ على قلبها ﴾ بالعصمة والصبر والتثبت وقوله تعالى ﴿ لتكون من المؤمنين ﴾ متعلق بربطنا أي : من المصدقين بوعد الله تعالى وهو قوله تعالى :﴿ إنا رادوه إليك ﴾.
ثم أخبر تعالى عن فعلها في تعرّف خبره بعد أن أخبر عن كتمها بقوله تعالى :﴿ وقالت ﴾ أي : أمّه ﴿ لأخته ﴾ أي : بعد أن أصبحت على تلك الحالة قد خفي عليها أمره ﴿ قصيه ﴾ أي : اتبعي أثره وتشممي خبره براً وبحراً ففعلت ﴿ فبصرت ﴾ أي : أبصرت ﴿ به عن جنب ﴾ أي : مكان بعيد اختلاساً ﴿ وهم لا يشعرون ﴾ جملة حالية ومتعلق الشعور محذوف أي : أنها أخته وأنها ترقبه بل هم في غاية الغفلة التي هي في غاية البعد عن رتبة الإلهية أو أنها تقصه، أو أنه سيكون لهم عدوّاً وحزناً.
ثم ذكر تعالى أخذ الأسباب في ردّه بقوله تعالى :﴿ وحرّمنا ﴾ أي : منعنا بعظمتنا ﴿ عليه المراضع ﴾ جمع مرضعة وهي من تكتري للإرضاع من الأجانب أي : حكمنا بمنعه من الارتضاع منهنّ فاستعير التحريم للمنع لأنه منع فيه رحمة، قال الرازي في اللوامع : تحريم منع لا تحريم شرع ﴿ من قبل ﴾ أي : من قبل أن تأمر أمّه أخته بما أمرتها به، أو قبل قصها أثره أو قبل ولادته في حكمنا وقضائنا وهو أنه تعالى غير طبعه عن لبن سائر النساء فلذلك لم يرتضع أو أحدث في لبنهنّ طعماً ينفر عنه طبعه أو وضع في لبن أمّه لذة تعوّد بها فكان يكره لبن غيرها، فلما رأت أخت موسى التي أرسلتها أمّه في طلبه أنه لا يقبل ثدي امرأة وفي القصة أنّ موسى مكث ثمان ليال لا يقبل ثدياً ويصيح فقالوا لها هل عندك مرضعة تدلينا عليها لعله يقبل ثديها، قال ابن عباس : أنّ امرأة فرعون كان همها من الدنيا أن تجد له مرضعة فكلما أتوه بمرضعة لم يأخذ ثديها، فدنت أخته منه بعد نظرها له ﴿ فقالت ﴾ لما رأتهم في غاية الاهتمام برضاعه ﴿ هل ﴾ لكم حاجة في أني ﴿ أدلكم على أهل بيت ﴾ ولم تقل على امرأة لتوسع دائرة النظر ﴿ يكفلونه لكم ﴾ أي : يأخذونه ويتولونه ويقومون بجميع مصالحه من الرضاع وغيره لأجلكم ثم أبعدت التهمة عن نفسها فقالت هي امرأة قتل ولدها فأحب شيء إليها أن تجد صغيراً ترضعه ثم زادتهم رغبة بقولها ﴿ وهم له ناصحون ﴾ أي : ثابت نصحهم له لا يغشونه نوعاً من الغش، قال البغوي : والنصح ضدّ الغش وهو تصفية العمل من شوائب الفساد، قال السدي : لما قالت ذلك أخذوها وقالوا قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله فقالت ما أعرفه وقالت إنما أردت وهم للملك ناصحون فتخلصت منهم بذلك.
قال ابن عادل : وهذا يسمى عند أهل البيان الكلام الموجه، ومثله لما سئل بعضهم وكان بين أقوام بعضهم يحبّ علياً دون غيره وبعضهم يحبّ أبا بكر وبعضهم عمر وبعضهم عثمان رضي الله تعالى عنهم، فقيل له أيهم أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من كانت ابنته تحته، وقيل : لما تفرسوا أنها عرفته قالت إنما قلت هذا رغبة في سرور الملك واتصالنا به وقيل إنها : لما قالت ذلك قالوا لها من ؟ فقالت أمي قالوا ولأمك ابن قالت نعم هارون وكان ولد في سنة لا يقتل فيها قالوا صدقت فائتينا بها فانطلقت إلى أمها فأخبرتها بحال ابنها وجاءت بها إليهم فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها وجعل يمصه حتى امتلأ جنباه رياً فقالوا أقيمي عندنا فقالت لا أقدر على فراق بيتي إن رضيتم أن أكفله في بيتي وإلا فلا حاجة لي به وأظهرت الزهد فيه نفياً للتهمة فرضوا بذلك فرجعت به إلى بيتها فذلك قوله تعالى :﴿ فرددناه إلى أمّه ﴾.
﴿ فرددناه إلى أمّه ﴾ ثم علله بقوله تعالى :﴿ كي تقرّ عينها ﴾ أي : تبرد وتستقرّ، وأصل قرّة العين من القرّ وهو البرد أي : بردت ونامت بخلاف سخنت عينه يقال أقرّ الله تعالى عينك من الفرح وأسخنها من الحزن فلهذا قالوا دمعة الفرح باردة ودمعة الحزن حارّة هذا قول الأصمعي، قال أبو تمام :
فأما عيون العاشقين فأسخنت وأما عيون الشامتين فقرت
وقال أبو العباس : ليس كما قال الأصمعيّ بل كل دمع حارّ فمعنى أقرّ الله تعالى عينك صادفت سروراً فنامت وذهب سهرها وصادفت ما يرضيك أي : بلغك الله أقصى أملك حتى تقرّ عينك من النظر إلى غيره استغناء ورضا بما في يديك ﴿ ولا ﴾ أي : وكي لا ﴿ تحزن ﴾ أي : بفراقه ﴿ ولتعلم ﴾ أي : علماً هو عين اليقين كما كانت عالمة به علم اليقين وعلم شهادة كما كانت عالمة به علم غيب ﴿ أن وعد الله ﴾ أي : الأمر الذي وعدها به الذي له الكمال كله في حفظه وإرساله ﴿ حق ﴾ أي : هو في غاية الثبات في مطابقة الواقع ﴿ ولكن أكثرهم ﴾ أي : أكثر آل فرعون وغيرهم ﴿ لا يعلمون ﴾ أنّ وعد الله حق فيرتابون فيه أولا يعلمون أنّ الله وعدها ردّه إليها، قال الضحاك : لما قبل ثديها قال هامان إنك لأمه قالت : لا قال : فما له قبل ثديك من بين النسوة قالت أيها الملك إني امرأة طيبة الريح حلوة اللبن فما شم ريحي صبي إلا أقبل على ثديي قالوا صدقت فلم يبق أحد من آل فرعون إلا أهدى إليها وأتحفها بالذهب والجوهر وأجرى عليها أجرها.
قال السدي : وكانوا يدفعون إليها كل يوم ديناراً، فإن قيل : كيف حل لها أن تأخذ الأجر على إرضاع ولدها منه ؟ أجيب : بأنها ما كانت تأخذه على أنه أجر على الرضاع ولكنه مال حربي كانت تأخذه على الاستباحة فمكث عندها إلى أن فطمته واستمرّ عند فرعون يأكل من مأكوله ويشرب من مائه ويلبس من ملبوسه إلى أن كمل كما قال تعالى حكاية عنه في سورة الشعراء ﴿ ألم نربّك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين ﴾ ( الشعراء : ١٨ ).
﴿ ولما بلغ أشدّه ﴾ وهو ثلاثون سنة أو وثلاث كما قال مجاهد : وغيره ﴿ واستوى ﴾ أي : بلغ أربعين سنة كما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقيل : اعتدل في السنّ وتم استحكامه بانتهاء شبابه وهو من العمر ما بين إحدى وعشرين سنة إلى اثنتين وأربعين ﴿ آتيناه ﴾ أي : ابتداء من غير اكتساب أصلاً، خرقاً للعادة أسوة إخوانه من الأنبياء ﴿ حكماً ﴾ أي : عملاً محكماً بالعلم ﴿ وعلماً ﴾ أي : فقهاً في الدين تهيئة لنبوّته وإرصاداً لرسالته، وقيل : المراد بالعلم علم التوراة والحكم السنة، قال الزمخشري : وحكمة الأنبياء سنتهم قال الله تعالى ﴿ واذكرن ما يتلى في بيوتكنّ من آيات الله والحكمة ﴾ ( الأحزاب، ٣٤ )، وقيل : معناه آتيناه سيرة الحكماء العلماء وسمتهم قبل البعث فكان لا يفعل فعلاً يستجهل فيه.
قال البقاعي : واختار الله تعالى هذا السن للإرسال ليكون من جملة الخوارق لأنّ به يكون ابتداء الانتكاس الذي قال الله تعالى فيه :﴿ ومن نعمّره ﴾ ( يس : ٦٨ ) أي : إلى إكمال سنّ الشباب ﴿ ننكّسه في الخلق ﴾ ( يس : ٦٨ ) أي : نوقفه فلا يزداد بعد ذلك في قواه الظاهرة ولا الباطنة شيء أو لا يوجد فيه غريزة لم تكن موجودة أصلاً عشر سنين ثم يأخذ في النقصان هذه عادة الله في جميع بني آدم إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنهم في حدّ الوقوف يؤتون من بحار العلوم ما يقصر عنه الوصف بغير اكتساب بل غريزة يغرزها الله تعالى فيهم حينئذ ويؤتون من قوّة الأبدان أيضاً بمقدار ذلك ففي انتكاس غيرهم يكون نموهم وكذا من ألحقه الله تعالى بهم من صالحي أتباعهم كما قال تعالى :﴿ وكذلك ﴾ أي : مثل هذا الجزاء العظيم ﴿ نجزي المحسنين ﴾ أي : كلهم على إحسانهم.
ولما أخبر تعالى بتهيئته للنبوّة أخبر بما هو سبب لهجرته وكأنها سنة بعد إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى :﴿ ودخل ﴾ أي : موسى عليه السلام ﴿ المدينة ﴾ قال السدي : هي مدينة منف من أرض مصر، وقال مقاتل : كانت قرية تدعى جابين على رأس فرسخين من مصر، وقيل : مدينة عين شمس، وقيل : غير ذلك ﴿ على حين غفلة من أهلها ﴾ وهو وقت القائلة واشتغال الناس بالقيلولة، وقال محمد بن كعب القرظي : دخلها فيما بين المغرب والعشاء، وقيل : يوم عيد لهم وهم مشتغلون فيه بلهوهم، وقيل : لما شب وعقل أخذ يتكلم بالحق وينكر عليهم فأخافوه فلا يدخل قرية إلا على تغفل واختلف في السبب الذي من أجله دخل المدينة في هذا الوقت.
قال السدي : وذلك أن موسى كان يسمى ابن فرعون فكان يركب مراكب فرعون ويلبس مثل ملابسه فركب فرعون يوماً وليس عنده موسى فلما جاء موسى قيل له إن فرعون قد ركب فركب في أثره فأدركه المقيل بأرض منف فدخلها نصف النهار وليس في طرقها أحد.
وقال ابن إسحاق : كان لموسى شيعة من بني إسرائيل يسمعون منه ويقتدون برأيه فلما عرف ما هو عليه من الحق رأى فراق فرعون وقومه فخالفهم في دينهم فأخافوه فكان لا يدخل قرية إلا خائفاً مستخفياً، وقال ابن زيد : ولما علا موسى فرعون بالعصا في صغره فأراد فرعون قتله فقالت امرأته هو صغير فترك قتله وأمر بإخراجه من مدينته فلم يدخل عليهم إلا بعد أن كبر وبلغ أشدّه ﴿ فوجد فيها ﴾ أي : المدينة ﴿ رجلين يقتتلان ﴾ أي : يفعلان مقدّمات القتل مع الملازمة من الضرب والخنق وهما إسرائيلي وقبطيّ، ولهذا قال تعالى مجيباً لمن كان يسأل عنهما وهو ينظر إليهما ﴿ هذا من شيعته ﴾ أي : من بني إسرائيل ﴿ وهذا من عدوه ﴾ أي : من القبط، قال مقاتل : كانا كافرين إلا أن أحدهما من القبط والآخر من بني إسرائيل لقول موسى عليه السلام ﴿ إنك لغويّ مبين ﴾ والمشهور أن الإسرائيلي كان مسلماً قيل إنه السامريّ والقبطي طباخ فرعون فكان القبطي يسخر الإسرائيلي ليحمل الحطب إلى المطبخ، وقال سعيد بن جبير : عن ابن عباس لما بلغ موسى أشدّه لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم حتى امتنعوا كل الامتناع وكان بنو إسرائيل عزُّوا لمكان موسى لكونه ربيب الملك مع أن مرضعته منهم لا يظنون أن سبب ذلك إلا الإرضاع ﴿ فاستغاثه ﴾ أي : طلب منه ﴿ الذي من شيعته ﴾ أن يغيثه ﴿ على الذي من عدوّه ﴾ فغضب موسى عليه السلام واشتدّ غضبه وقال للفرعوني خل سبيله فقال : إنما أخذته ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك فنازعه فقال الفرعوني لقد هممت أن أحمله عليك وكان موسى عليه السلام قد أوتي بسطة في الخلق وشدّة في القوّة والبطش ﴿ فوكزه موسى ﴾ أي : دفعه بجمع كفه، والفرق بين الوكز واللكز : أنّ الأوّل : بجمع الكف والثاني : بأطراف الأصابع، وقيل : بالعكس، وقيل اللكز في الصدر والوكز في الظهر ﴿ فقضى ﴾ أي : فأوقع القضاء الذي هو القضاء على الحقيقة وهو الموت الذي لا ينجو منه مخلوق ﴿ عليه ﴾ فقتله وفرغ منه، وكل شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه وخفي هذا على الناس لما هم فيه من الغفلة فلم يشعر به أحد فندم موسى عليه السلام عليه ولم يكن قصده القتل فدفنه في الرمل.
﴿ قال هذا ﴾ أي : قتله ﴿ من عمل الشيطان ﴾ أي : لأني لم أومر به على الخصوص ولم يكن من قصدي وإن كان المقتول كافراً حربياً، ثم أخبر عن حال الشيطان ليحذر منه بقوله ﴿ إنه عدوّ ﴾ فينبغي الحذر منه ﴿ مضلّ ﴾ لا يقود إلى خير أصلاً ﴿ مبين ﴾ أي : عداوته وإضلاله في غاية البيان ما في شيء منهما خفاء.
ولما لم يكن في قتله إلا الندم لعدم إذن خاص ﴿ قال رب ﴾ أي : أيها المحسن إليّ ﴿ إني ظلمت نفسي ﴾ أي : بالإقدام على ما لم تأمرني به بالخصوص وإن كان مباحاً ﴿ فاغفر لي ﴾ أي : امحُ هذه الهفوة عينها وأثرها ﴿ لي ﴾ أي : لأجلي لا تؤاخذني ﴿ فغفر ﴾ أي : أوقع المحو لذلك كما سأل إكراماً ﴿ له إنه هو ﴾ أي : وحده ﴿ الغفور ﴾ أي : البالغ في صفة الستر لكل من يريد ﴿ الرحيم ﴾ أي : العظيم الرحمة بالإحسان بالتوفيق إلى الأفعال المرضية لمقام الإلهية ولأجل أن هذه صفته ردّه إلى فرعون وقومه حين أرسله إليهم فلم يقدروا على مؤاخذته بذلك بقصاص ولا غيره بعد أن نجا منهم قبل إرساله على غير قياس.
ثم شكر ربه على هذه النعمة التي أنعم بها عليه بأن ﴿ قال رب ﴾ أي : أيها المحسن إليّ ﴿ بما أنعمت عليّ ﴾ أي : بسبب إنعامك عليّ بالمغفرة ﴿ فلن أكون ﴾ أي : إن عصمتني ﴿ ظهيراً ﴾ أي : عوناً وعشيراً وخليطاً ﴿ للمجرمين ﴾ قال ابن عباس : للكافرين وهو إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته وتكسيره سواده حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون، وإما مظاهرة من تؤل مظاهرته إلى الجرم والإثم كما في مظاهرة الإسرائيلي المؤدّية إلى القتل الذي لم يؤمر به وهذا نحو قوله تعالى :﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ﴾ ( هود : ١١٣ ) وعن عطاء أن رجلاً قال له إنّ أخي يضرب بقلمه ولا يعدو رزقه قال فمن الرأس يعني من يكتب له قال خالد بن عبد الله القسري قال فأين قول موسى وتلا هذه الآية.
وفي الحديث :«ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأشباه الظلمة حتى من لاق لهم دواة أو برى لهم قلماً فيجمعون في تابوت من حديد فيرمي بهم في جهنم » وقول ابن عباس يدل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى عليه السلام كان كافراً وهو قول مقاتل : وقال قتادة : أني لا أعين بعدها على خطيئة، وقيل : بما أنعمت عليّ من القوة فلن أستعملها إلا في مظاهرة أوليائك وأهل طاعتك والإيمان بك، قال ابن عباس : لم يستثن أي : لم يقل فلن أكون إن شاء الله تعالى فابتلي به في اليوم الثاني كما قال تعالى :﴿ فأصبح في المدينة خائفاً ﴾.
﴿ فأصبح في المدينة ﴾ أي : التي قتل القتيل فيها ﴿ خائفاً ﴾ أي : بسبب قتله له ﴿ يترقب ﴾ أي : ينتظر ما يناله من جهة القتيل، قال البغويّ : والترقب انتظار المكروه، وقال الكلبيّ : ينتظر متى يؤخذ به ﴿ فإذا ﴾ أي : ففجأه ﴿ الذي استنصره ﴾ أي : طلب نصرته من شيعته ﴿ بالأمس ﴾ أي : اليوم الذي يلي يوم الاستصراخ ﴿ يستصرخه ﴾ أي : يطلب أن يزيل ما يصرخ بسببه من الضر من قبطيّ آخر كان يظلمه، فكأنه قيل : فما قال له موسى بعدما أوقعه فيما يكره فقيل ﴿ قال له ﴾ أي : لهذا المستصرخ ﴿ موسى إنك لغويّ ﴾ أي : صاحب ضلال بالغ ﴿ مبين ﴾ أي : واضح الضلال غير خفيه لكون ما وقع بالأمس لم يكفك عن الخصومة لمن لا تطيقه وإن كنت مظلوماً ثم دنا منهما لينصره.
﴿ فلما أن أراد ﴾ أي : شاء فإن مزيدة ﴿ أن يبطش ﴾ أي : موسى عليه السلام ﴿ بالذي هو عدوّ لهما ﴾ أي : لموسى والإسرائيلي لأنه لم يكن على دينهما ولأنّ القبط كانوا أعداء بني إسرائيل بأن يأخذه بعنف وسطوة لخلاص الإسرائيلي منه ﴿ قال ﴾ أي : الإسرائيلي الغويّ لأجل ما رأى من غضبه وتكليمه له ظاناً أنه يريد البطش به ﴿ يا موسى ﴾ ناصاً عليه باسمه ﴿ أتريد أن تقتلني ﴾ أي : اليوم وأنا من شيعتك ﴿ كما قتلت نفساً بالأمس ﴾ أي : من شيعة أعدائنا والذي يدل على أن الإسرائيلي هو الذي قال له هذا الكلام السياق، وعليه الأكثرون، لأنه لم يعلم بقتل القبطي غير الإسرائيلي، وقيل : إنما قال موسى للفرعوني ﴿ إنك لغويّ مبين ﴾ بظلمك ويناسبه قوله ﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ تريد إلا أن تكون جباراً ﴾ أي : قاهراً عالياً فلا يليق ذلك إلا بقول الكافر، أو أن الإسرائيلي لما ظن قتله قال ذلك، وقد قيل في الإسرائيلي أنه كان كافراً، قال أبو حيان وشأن الجبار أن يقتل بغير حق ﴿ في الأرض ﴾ أي : التي تكون بها فلا يكون فوقك أحد ﴿ وما تريد ﴾ أي : تتخذ ذلك إرادة ﴿ أن تكون ﴾ أي : كوناً هو لك كالجبلة ﴿ من المصلحين ﴾ أي : الغريقين في الصلاح فإنّ الصلح بين الناس لا يصل إلى القتل على هذه الصورة فلما سمع القبطيّ هذا ترك الإسرائيلي وكان القبط لما قتل ذلك القبطي ظنوا في بني إسرائيل فأغروا فرعون بهم وقالوا إنّ بني إسرائيل قتلوا منا رجلاً فخذ لنا بحقنا فقال ابغوا لي قاتله ومن يشهد عليه فإن الملك وإن كان صفوة مع قومه لا يستقيم له أن يقضي بغير بينة ولا تثبت فلما قال هذا الغوي هذه المقالة علم القبطي أن موسى عليه السلام هو الذي قتل الفرعوني فانطلق إلى فرعون فأخبره بذلك فأمر فرعون بقتل موسى.
قال ابن عباس : فلما أرسل فرعون الذباحين لقتل موسى أخذوا الطريق الأعظم.
﴿ وجاء رجل ﴾ أي : ممن يحب موسى عليه السلام واختلف في اسمه فقيل حزقيل مؤمن آل فرعون، وقيل شمعون وقيل شمعان، وكان ابن عمّ فرعون ﴿ من أقصى المدينة ﴾ أي : أبعدها مكاناً ﴿ يسعى ﴾ أي : يسرع في مشيه فأخذ طريقاً قريباً حتى سبق إلى موسى فأخبره وأنذره حتى أخذ طريقاً آخر، فكأنه قيل فما قال الرجل له ؟ فقيل :
﴿ قال ﴾ منادياً لموسى تعطفاً وإزالة للبس ﴿ يا موسى إنّ الملأ ﴾ أي : أشراف القبط الذين في أيديهم الحلّ والعقد لأنّ لهم القدرة على الأمر والنهي ﴿ يأتمرون بك ﴾ أي : يتشاورون في شأنك ﴿ ليقتلوك ﴾ حتى وصل حالهم في تشاورهم إلى أن كلاً منهم يأمر الآخر ويأتمر بأمره لأنهم سمعوا أنك قتلت صاحبهم ﴿ فاخرج ﴾ أي : من هذه المدينة ثم علل ذلك بقوله على سبيل التأكيد ليزيل ما يطرقه من احتمال عدم القتل لكونه عزيزاً عند الملك ﴿ إني لك من الناصحين ﴾ أي : العريقين في نصحك.
﴿ فخرج ﴾ أي : موسى عليه السلام مبادراً ﴿ منها ﴾ أي : المدينة لما علم صدق قوله مما تحققه من القرائن حال كونه ﴿ خائفاً ﴾ على نفسه من آل فرعون ﴿ يترقب ﴾ أي : يكثر الإلتفات بإدارة رقبته في الجهات ينظر هل يتبعه أحد ثم دعا الله تعالى بأن ﴿ قال رب ﴾ أي : أيها المحسن إليّ بالنجاة وغير ذلك من وجوه البر ﴿ نجني ﴾ أي : خلصني ﴿ من القوم الظالمين ﴾ أي : الذين يضعون الأمور في غير مواضعها فيقتلون من لا يستحق القتل مع قوتهم فاستجاب الله تعالى دعاءه فوفقه لسلوك الطريق الأعظم نحو مدين فكان ذلك سبب نجاته، وذلك أنّ الذين انتدبوا إليه قطعوا بأنه لا يسلك الطريق الأكبر جرياً على عادة الخائفين الهاربين، وفي القصة أن فرعون لما بعث في طلبه قال اركبوا ثنيات الطريق فانبثوا فيما ظنوه يميناً وشمالاً ففاتهم.
﴿ ولما توجه ﴾ أي : أقبل بوجهه قاصداً ﴿ تلقاء ﴾ أي : الطريق الذي يلاقي سالكه أرض ﴿ مدين ﴾ قال ابن عباس : خرج وما قصد مدين ولكنه سلم نفسه إلى الله تعالى ومشى من غير معرفة فهداه الله تعالى إلى مدين، وقيل : وقع في نفسه أن بينهم وبينه قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم وكان من بني إسرائيل سميت البلدة باسمه فخرج ولم يكن له علم بالطريق بل اعتمد على فضل الله تعالى، وقيل جاءه جبريل عليه السلام وعلمه الطريق، قال ابن اسحق : خرج من مصر إلى مدين خائفاً بلا زاد ولا ظهر وبينهما مسيرة ثمانية أيام ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر ﴿ قال عسى ﴾ أي : جدير وحقيق ﴿ ربي ﴾ أي : المحسن إليّ ﴿ أن يهديني سواء ﴾ أي : أعدل ووسط ﴿ السبيل ﴾ أي : الطريق الذي يطلعني الله تعالى عليها من غير اعوجاج وقال ذلك قبل أن يعرف الطريق إليها، قيل : فلما دعا جاءه ملك بيده عنزة فانطلق به إلى مدين، قال المفسرون : خرج موسى من مصر ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر والبقل حتى ترى خضرته في بطنه وما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه، قال ابن عباس : وهو أوّل ابتلاء من الله تعالى لموسى عليه السلام.
﴿ ولما ورد ﴾ أي : وصل ﴿ ماء مدين ﴾ وهو بئر كان يسقي منها الرعاة مواشيهم ﴿ وجد عليه ﴾ أي : الماء ﴿ أمّة ﴾ أي : جماعة كثيرة ﴿ من الناس ﴾ مختلفين ﴿ يسقون ﴾ أي : مواشيهم ﴿ ووجد من دونهم ﴾ أي : في مكان سواهم أسفل من مكانهم ﴿ امرأتين ﴾ عبر بذلك لما جعل لهما سبحانه من المروءة ومكارم الأخلاق كما يعلمه من أمعن النظر فيما يذكر عنهما ﴿ تذودان ﴾ أي : تحبسان وتمنعان أغنامهما إذا فزعت من العطش إلى الماء حتى يفرغ الناس ويخلو لهما البئر، وقال الحسن : تكفان الغنم لئلا تختلط بغنم الناس، وقال قتادة : تكفان الناس عن أغنامهما، وقيل : لئلا يختلطن بالرجال، وقيل كانتا تذودان عن وجوههما نظر الناظرين لتسترهما، وقيل غير ذلك فكأنه قيل فما قال موسى لهما قيل ﴿ قال ﴾ لهما رحمة لهما ﴿ ما خطبكما ﴾ أي : ما شأنكما لا تسقيان مواشيكما مع
الناس ﴿ قالتا لا نسقي ﴾ أي : مواشينا وحذف للعلم به ﴿ حتى يصدر ﴾ أي : ينصرف ويرجع ﴿ الرعاء ﴾ أي : عن الماء خوف الزحام فنسقي، وقرأ أبو عمرو وابن عامر : بفتح الياء وضم الدال، والباقون : بضم الياء وكسر الدال مضارع أصدر يعدى بالهمزة.
تنبيه : المفعول محذوف أي : يصدرون مواشيهم والرعاء جمع راع مثل تاجر وتجار، أي : نحن امرأتان لا يليق أن نزاحم الرجال فإذا صدروا سقينا مواشينا ما أفضلت مواشيهم في الحوض ﴿ وأبونا شيخ كبير ﴾ أي : لا يستطيع لكبره أن يسقى فاضطررنا إلى ما ترى.
تنبيه : اختلف في أبيهما، فقال مجاهد والضحاك والسدي والحسن : أبوهما هو شعيب النبيّ عليه السلام وإنه عاش عمراً طويلاً بعد هلاك قومه حتى أدركه موسى عليه السلام وتزوّج بابنته، وقال وهب وسعيد بن جبير : هو يثرون ابن أخي شعيب وكان شعيب قد مات قبل ذلك بعدما كف بصره فدفن بين المقام وزمزم، وقيل : رجل ممن آمن بشعيب قالوا فلما سمع موسى قولهما رحمهما فاقتلع صخرة من رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس، وقال ابن إسحاق : أنّ موسى زاحم القوم ونحاهم عن رأس البئر فسقى غنم المرأتين، ويروى أن القوم لما رجعوا بأغنامهم غطوا رأس البئر بحجر لا يرفعه إلا عشرة نفر، وقيل : أربعون، وقيل : مائة فجاء موسى ورفع الحجر وحده وسقى غنم المرأتين ويقال : إنه سألهم دلوا من ماء فأعطوه دلوهم وقالوا اسق بها وكانت لا ينزعها إلا أربعون فاستقى بها وصبها في الحوض ودعا فيه بالبركة فروى منه جميع الغنم، فإن قيل كيف ساغ لنبيّ الله تعالى شعيب أن يرضى لابنتيه الرعي بالماشية ؟.
أجيب : بأن الناس اختلفوا فيه هل هو شعيب أو غيره، وإذا قلنا أنه هو كما عليه الأكثر فليس ذلك بمحظور فلا يأباه الدين، والناس مختلفون في ذلك بحسب المروءة وعادتهم فيها متباينة وأحوال العرب والبدو تباين أحوال العجم والحضر لاسيما إذا دعت إلى ذلك ضرورة.
﴿ فسقى ﴾ أي : موسى عليه السلام ﴿ لهما ﴾ والمفعول محذوف أي : غنمهما لما علم ضرورتهما انتهازاً لفرصة الأجر وكرم الخلق في مساعدة الضعيف مع ما به من النصب والجوع وسقوط خف القدم ولكنه رحمهما وأغاثهما وكفاهما أمر السقي في مثل تلك الزحمة بقوّة قلبه وقوّة ساعده وما آتاه الله تعالى من الفضل في متانة الفطرة ورصانة الجبلِّة ﴿ ثم تولى ﴾ أي : انصرف جاعلاً ظهره يلي ما كان يليه وجهه ﴿ إلى الظل ﴾ أي : ظل سمرة فجلس في ظلها ليقيل ويستريح مقبلاً على الخالق بعدما قضى من نصيحة الخلائق وهو جائع، قال الضحاك : لبث سبعة أيام لم يذق طعاماً إلا بقل الأرض ﴿ فقال رب إني ﴾ وأكد الافتقار بالالصاق باللام دون إلى بقوله ﴿ لما أنزلت إليّ من خير ﴾ قليل أو كثير غث أو سمين ﴿ فقير ﴾ أي : محتاج سائل.
تنبيه :﴿ لما أنزلت ﴾ متعلق بفقير قال الزمخشري عدَّى فقير باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب ويحتمل إني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إليّ من خير الدين وهو النجاة من الظالمين وليس في الشكوى إلى الغنى المطلق نقص، قال ابن عباس سأل الله تعالى فلقة خبز يقيم بها صلبه، وقال الباقر : لقد قالها وإنه لمحتاج إلى شق تمرة، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : لقد قال موسى ذلك وهو أكرم خلقه عليه وإنه كان قد بلغ به من الضر أن اخضرّ بطنه من أكل البقل وضعف حتى لصق بطنه الشريف بظهره وإنما قال ذلك في نفسه مع ربه وهو اللائق به، وقيل رفع به صوته لاستماع المرأتين وطلب الطعام وهذا لا يليق بموسى عليه السلام فانظر إلى هذا النبيّ عليه السلام وهو خلاصة ذلك الزمان ليكون لك في ذلك أسوة وتجعله إماماً وقدوة وتقول ما لقي الأنبياء والصالحون من الضيق والأهوال في سجن الحياة الدنيا صوناً لهم منها وإكراماً من ربهم عنها رفعة لدرجاتهم واستهانة لها وإن ظنه الجاهل المغرور على غير ذلك وفي القصة ترغيب في الخير وحث على المعاونة على البرّ وبعث على بذل المعروف مع الجهد.
فلما رجعتا إلى أبيهما سريعاً قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما ما أعجلكما قالتا : وجدنا رجلاً صالحاً رحيماً فسقى لنا أغنامنا فقال لإحداهما اذهبي فادعيه لي ﴿ فجاءته إحداهما ﴾ ممتثلة أمر أبيها وقوله ﴿ تمشي ﴾ حال، وقوله ﴿ على استحياء ﴾ حال أخرى، أي : مستحيية إما من جاءته وإما من تمشي قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : ليست بسلفع من النساء خراجة ولاجة ولكن جاءته مستترة وضعت كمّ درعها على وجهها استحياء ثم استأنف الإخبار بما تشوّف إليه السامع بقوله تعالى :﴿ قالت ﴾ وأكدت إعلاماً بما لأبيها من الرغبة إلى لقائه ﴿ إن أبي ﴾ وصورت حاله بالمضارع بقولها ﴿ يدعوك ليجزيك ﴾ أي : يعطيك مكافأة لك لأن المكافأة من شيم الكرام ﴿ أجر ما سقيت لنا ﴾ أي : مواشينا، قال ابن إسحاق : اسم الكبرى صفوراً والصغرى لبنى، وقيل ليا، وقال غيره : صفرا وصفيرا، وقال الضحاك : صافورا، وقال الأكثرون : التي جاءت لموسى الكبرى، وقال الكلبيّ هي الصغرى، قال الرازي وليس في القرآن دلالة على شيء من هذه التفاصيل.
فإن قيل : في الآية إشكالات إحداها : كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يعمل بقول امرأة وأن يمشي معها وهي أجنبية فإن ذلك يورث التهمة العظيمة وقال صلى الله عليه وسلم :«اتقوا مواضع التهم »، وثانيها : أنه سقى أغنامهما تقرّبا إلى الله تعالى فكيف يليق به أخذ الأجرة عليه وذلك غير جائز في الشريعة، وثالثها : أنه عرف فقرهما وفقر أبيهما وأنه عليه السلام كان في نهاية القوّة بحيث يمكنه الكسب بأقل سعي فكيف يليق بمروءة مثله طلب الأجرة على ذلك القدر من الشيخ الفاني الفقير والمرأة الفقيرة، ورابعها : كيف يليق بالنبيّ شعيب عليه السلام أن يبعث ابنته الشابة إلى رجل شاب قبل العلم بكون الرجل عفيفاً أو فاسقاً ؟.
أجيب عن الأوّل : بأن الخبر يعمل فيه بقول المرأة فإن الخبر يعمل فيه بقول الواحد حرّاً كان أو عبداً ذكرا كان أو أنثى وهي ما كانت مخبرة إلا عن أبيها وأما المشي مع المرأة بعد الاحتياط والتورّع فلا بأس به، وعن الثاني : بأن المرأة لما قالت ذلك لموسى عليه السلام ما ذهب إليهم طلباً للأجرة بل للتبرّك بذلك الشيخ الكبير، لما روي أنه لما دخل على شعيب عليه السلام إذا هو بالعشاء مهيئاً فقال اجلس يا شاب فتعش فقال موسى أعوذ بالله فقال شعيب ولم ذلك ألست بجائع قال بلى ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيت لهما وأنا من أهل بيت لا نطلب على عمل من أعمال الآخرة عوضاً من الدنيا، وفي رواية لا نبيع ديننا بدنيانا ولا نأخذ بالمعروف ثمناً، فقال له شعيب لا والله يا شاب ولكنها عادتي وعادت آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى عليه السلام فأكل، وأيضاً فليس بمنكر أن الجوع قد بلغ إلى حيث ما كان يطيق يحمله ففعل ذلك اضطراراً وهو الجواب عن الثالث فإن الضرورات تبيح المحظورات، وعن الرابع : بأن شعيباً عليه السلام كان يعلم طهارة ابنته وبرائتها إما بوحي أو بغيره فكان يأمن عليها قال عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه : فقام يمشي والجارية أمامه فهبت الريح فوصفت ردفها فكره موسى عليه السلام أن يرى ذلك منها فقال لها امشي خلفي أو قال موسى أني من عنصر إبراهيم فكوني خلفي حتى لا يرفع الريح ثيابك فأرى ما لا يحلّ، وفي رواية كوني خلفي ودليني على الطريق برمي الحصا لأن صوت المرأة عورة.
فإن قيل : لِمْ خشى موسى عليه السلام أن يكون ذلك أجرة له على عمله ولم يكره مع الخضر عليه السلام ذلك حين قال لو شئت لتخذت عليه أجراً ؟ أجيب : بأن أخذ الأجرة على الصدقة لا يجوز، وأما الاستئجار ابتداء فغير مكروه ﴿ فلما جاءه ﴾ أي : موسى شعيباً ﴿ وقص ﴾ أي : موسى عليه السلام ﴿ عليه ﴾ أي : شعيب عليه السلام ﴿ القصص ﴾ أي : حدّثه حديثه مع فرعون وآله في كفرهم وطغيانهم وإذلالهم لعباد الله تعالى.
( تنبيه ) : القصص مصدر كالعلل سمى به المقصوص، قال الضحاك : قال : له من أنت يا عبد الله، قال : أنا موسى بن عمران بن يصهر بن قاهت بن لاوي بن يعقوب عليه السلام وذكر له جميع أمره من لدن ولادته وأمر القوابل والمراضع والقذف في اليم وقتل القبطي وأنهم يطلبونه ليقتلوه. ثم إن شعيباً عليه السلام أمنه بأن :﴿ قال ﴾ له ﴿ لا تخف نجوت من القوم الظالمين ﴾ أي : فإن فرعون لا سلطان له بأرضنا، فإن قيل : إن المفسرين قالوا إن فرعون يوم ركب خلف موسى ركب في ألف ألف وستمائة ألف والملك الذي هذا شأنه كيف يعقل أن لا يكون في ملكه قرية على بعد ثمانية أيام ؟ أجيب : بأن هذا ليس بمحال وإن كان نادراً ولما أمنه واطمأن.
﴿ قالت إحداهما ﴾ أي : المرأتين وهي التي دعته إلى أبيها مشيرة بالنداء بأداة البعد إلى استصغارها لنفسها وجلالة أبيها ﴿ يا أبت استأجره ﴾ أي : اتخذه أجيراً ليرعى أغنامنا ﴿ إن خير مَنْ استأجرت القويّ الأمين ﴾ أي : خير من استعملت من قوي على العمل لشيء من الأشياء وأداء الأمانة، قال أبو حيان : وقولها قول حكيم جامع لا يزاد عليه لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان أعني الكفاية والأمانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتم مرادك وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل والحكمة أن تقول استأجره لقوّته وأمانته، وإنما جعل خير من استأجرت اسماً والقويّ الأمين خبراً مع أن العكس أولى لأنّ العناية هي سبب التقديم، وقد صدقت حتى جعل لها ما هو أحق بأن يكون خبراً اسماً، وورود الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أنه أمر قد جرب وعرف.
وعن ابن عباس : أن شعيباً اختطفته الغيرة فقال وما علمك بقوّته وأمانته فذكرت إقلال الحجر ونزع الدلو وإنه صوّب أي : خفض رأسه حين بلغته رسالة أبيها إليه وأمرها بالمشي خلفه، وعن ابن مسعود أفرس الناس ثلاثة بنت شعيب وصاحب يوسف في قوله ﴿ عسى أن ينفعنا ﴾ وأبو بكر في عمر.
ولما أعلمته ابنته بذلك ﴿ قال ﴾ لموسى عليه السلام عند ذلك ﴿ إني أريد ﴾ يا موسى والتأكيد لأن الغريب قلما يرغب فيه أوّل ما يقدم لاسيما من الرؤساء أتم الرغبة ﴿ أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين ﴾ أي : الحاضرتين اللتين سقيت لهما ليتأمّلهما فينظر من يقع اختياره عليه منهما ليعقد له عليها، قال أكثر المفسرين إنه زوجه الصغرى منهما وهي التي ذهبت لطلب موسى واسمها صفورا على خلاف تقدّم في اسمها، وقوله ﴿ هاتين ﴾ فيه دليل على أنه كان له غيرهما وقوله ﴿ على أن تأجرني ثماني حجج ﴾ إما من أجرته إذا كنت له أجيراً كقولك أبوته إذا كنت له أباً، وثماني حجج ظرفه، أي : ترعى غنمي ثماني حجج، وإما من أجرته كذا إذا أثبته إياه قاله الفراء أي : تجعل ثوابي من تزويجها أي : تجعل أجري على ذلك وثوابي ثماني حجج، تقول العرب أجرك الله يأجرك أي : أثابك، ومنه تعزية رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أجركم الله ورحمكم » وثماني حجج مفعول به، ومعناه رعية ثماني حجج، فإن قيل : كيف صح أن ينكحه إحدى ابنتيه من غير تمييز ؟ أجيب : بأن ذلك لم يكن عقداً ولكن مواعدة ومواصفة أمر قد عزم عليه، ولو كان عقداً لقال أنكحتك ولم يقل : إني أريد أن أنكحك، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك، والحجج، السنون وإحدها حجة ﴿ فإن أتممت عشراً ﴾ أي : عشر سنين وقوله ﴿ فمن عندك ﴾ يجوز أن يكون في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره فهي من عندك، أو نصب أي : فقد زدتها من عندك أو تفضلت بها من عندك، وليس ذلك بواجب عليك.
تنبيه : هذا اللفظ يدل على أن العقد وقع على أقلّ الأجلين والزيادة كالتبرّع فالعقد وقع على معين، ودلت الآية على أن العمل قد يكون مهراً كالمال وعلى أن عقد النكاح لا يفسد بالشروط التي لا يوجبها العقد إن كان وقع شرط هذه الزيادة في العقد. ولما ذكر له ذلك أراد أن يعلمه أن الأمر بعد الشرط بينهما على المسامحة فقال ﴿ وما أريد أن أشق عليك ﴾ أي : أدخل عليك مشقة بمناقشة ومراعاة أوقات ولا في إتمام عشر ولا غير ذلك، ثم أكد معنى المساهلة بقوله ﴿ ستجدني ﴾ وفتح الياء نافع عند الوصل، والباقون بسكونها، ثم استثنى على قاعدة : أنبياء الله وأوليائه في المراقبة على سبيل التبرك بقوله ﴿ إن شاء الله ﴾ أي : الذي له جميع الأمر ﴿ من الصالحين ﴾ قال عمر : أي : في حسن الصحبة والوفاء بما قلت، أي : وكل ما تريد من كل خير، وقيل : أراد الصلاح على العموم، فإن قيل : كيف ينعقد العقد بهذا الشرط ولو قلت أنت طالق إن شاء الله لم تطلق ؟ أجيب : بأن هذا إنما يختلف بالشرائع أو أن ذلك ذكر للتبرك.
﴿ قال ﴾ أي : موسى عليه السلام ﴿ ذلك ﴾ أي : الذي ذكرته وعاهدتني فيه وشارطتني عليه ﴿ بيني وبينك ﴾ أي : قائم بيننا جميعاً لا يخرج كلانا عنه لا أنا عما شرطت علي ولا أنت عما شرطت على نفسك.
تنبيه : ذلك مبتدأ، والظرف خبره، وأضيفت بين لمفرد لتكرّرها، وعطفت بالواو، ولو قلت : المال لزيد فعمرو لم يجز، والأصل ذلك بيننا كما مرّ ففرق بالعطف، ثم فسر ذلك بقوله ﴿ أيما ﴾ أي : أيّ ﴿ الأجلين ﴾ فما : زائدة ﴿ قضيت ﴾ أي : فرغت أطولهما الذي هو العشر أو أقصرهما الذي هو الثمان ﴿ فلا عدوان ﴾ أي : اعتداء بسبب ذلك لك ولا لأحد ﴿ عليّ ﴾ في طلب أكثر منه لأنه كما لا تجب الزيادة على العشر لا تجب الزيادة على الثمان.
فإن قيل : تصوّر العدوان إنما هو في أحد الأجلين الذي هو أقصر وهو المطالبة بتتمة العشر فما معنى تعليق العدوان بهما جميعاً ؟ أجيب : بأنّ معناه كما أني إن طولبت بالزيادة على العشر كان عدواناً لا شك فيه فكذلك إن طولبت بالزيادة على الثمان أراد بذلك تقرير أمر الخيار وأنه ثابت مستقرّ وأنّ الأجلين على السواء إما هذا وإما هذا من غير تفاوت بينهما في القضاء، وأمّا التتمة فموكلة إلى رأيي إن شئت أتيت بها وإلا لم أجبر عليها، وكأنه أشار بنفي صيغة المبالغة إلى أنه لا يؤاخذ لسعة صدره وطهارة أخلاقه بمطلق العدوان ﴿ والله ﴾ أي : الملك الأعظم ﴿ على ما نقول ﴾ أي : كله في هذا الوقت وغيره ﴿ وكيل ﴾ قال ابن عباس ومقاتل : شهيد فيما بيني وبينك، وقيل : حفيظ، وعن سعيد بن جبير قال : سألني يهودي من أهل الحيرة أيّ الأجلين قضى موسى ؟ فقلت : لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله فقدمت فسألت ابن عباس فقال : قضى أكثرهما.
وروي عن أبي ذرّ مرفوعاً إذا سئلت أي الأجلين قضى موسى فقل : خيرهما، وإذا سئلت فأي المرأتين تزوّج فقل الصغرى منهما وهي التي جاءت فقالت يا أبت استأجره فتزوّج صغراهما وقضى أوفاهما، وقال وهب : أنكحه الكبرى، وروي عن شدّاد بن أوس مرفوعاً بكى شعيب عليه السلام حتى عمي فردّ الله تعالى عليه بصره ثم بكى حتى عمي فردّ الله تعالى عليه بصره ثم بكى حتى عمي فردّ الله تعالى عليه بصره وقال له : ما هذا البكاء أشوقاً إلى الجنة أم خوفاً من النار ؟ قال لا يا ربّ ولكن شوقاً إلى لقائك فأوحى الله تعالى إليه إن يكن ذلك فهنيأ لك يا شعيب لذلك أخدمتك موسى كليمي. ولما تم العقد بينهما أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه.
واختلفوا في تلك العصا ؟ فقال عكرمة : خرج بها آدم من الجنة فأخذها جبريل بعد موت آدم فكانت معه حتى لقي بها موسى ليلاً فدفعها إليه، وقال آخرون كانت من آس الجنة حملها آدم من الجنة فتوارثها الأنبياء وكان لا يأخذها غير نبيّ إلا أكلته فصارت من آدم إلى نوح ثم إلى إبراهيم حتى وصلت إلى شعيب وكانت عصيّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عنده فأعطاها موسى، وقال السدي : كانت تلك العصا استودعها إياه ملك في صورة رجل فأمر ابنته أن تأتيه بعصا فدخلت فأخذت العصا فأتت بها فلما رآها شعيب قال لها ردّي هذه العصا وأتيه بغيرها فدخلت فألقتها وأرادت أن تأخذ غيرها فلا يقع في يدها إلا هي حتى فعلت ذلك ثلاث مرّات فأعطاها موسى فأخذها موسى معه، ثم إنّ الشيخ ندم فقال : كانت وديعة فذهب في أثره فطلب أن يردّ العصا فأبى موسى أن يعطيه وقال : هي عصاي فرضيا أن يجعلا بينهما أوّل رجل يلقاهما فلقيهما ملك في صورة رجل فحكم أن تطرح العصا فمن حملها فهي له فطرح موسى العصا فعالجها الشيخ فلم يطقها فأخذها موسى بيده فرفعها فتركها له الشيخ.
وروي أنّ شعيباً عليه السلام كان عنده عصيّ الأنبياء فقال لموسى بالليل ادخل ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصيّ فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة ولم تزل الأنبياء تتوارثها حتى وقعت إلى شعيب فمسها وكان مكفوفاً فضنّ أي : بخل بها فقال غيرها فما وقع في يده إلا هي سبع مرّات فعلم أنّ له شأناً.
وعن الحسن ما كانت إلا عصا من الشجر اعترضها اعتراضاً، وعن الكلبي الشجرة التي منها نودي موسى شجرة العوسج ومنها كانت عصاه. ولما أصبح قال له شعيب إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك فإن الكلأ وإن كان بها كثيراً إلا أنّ فيها تنيناً أخشاه عليك فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفها فمشى على أثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله فنام فإذا بالتنين قد أقبل فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى دامية فلما أبصرها دامية والتنين مقتولاً ارتاح لذلك. ولما رجع إلى شعيب مس الغنم فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن فأخبره موسى ففرح وعلم أنّ لموسى والعصا شأناً.
﴿ فلما قضى موسى الأجل ﴾ أي : أتمه وفرغ منه وزوّجه ابنته، قال مجاهد مكث بعد ذلك عند صهره عشراً أخرى فأقام عنده عشرين سنة، ثم إنّ شعيباً عليه السلام أراد أن يجازي موسى على رعيته إكراماً له وصلة لابنته فقال له إني وهبت لك من الجداء التي تضعها أغنامي هذه السنة كل أبلق وبلقاء فأوحى الله تعالى إلى موسى في المنام أن اضرب بعصاك الماء الذي في مستقى الأغنام قال فضرب موسى بعصاه الماء ثم سقى الأغنام منه فما أخطأت واحدة منها إلا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء فعلم شعيب أنّ ذلك رزق ساقه الله عز وجلّ إلى موسى وامرأته فوفى له بشرطه وسلم الأغنام إليه، ثم إنّ موسى استأذنه في العود إلى مصر فأذن له فخرج ﴿ وسار بأهله ﴾ أي : امرأته راجعاً إلى أقاربه بمصر ﴿ آنس ﴾ أي : أبصر من بعيد ﴿ من جانب الطور ﴾ اسم جبل ﴿ ناراً ﴾ آنسته رؤيتها وكان في البرية في ليلة مظلمة شديدة البرد وأخذ امرأته الطلق حينئذ ﴿ قال لأهله امكثوا ﴾ أي : ههنا، وقرأ حمزة في الوصل بضم الهاء قبل همزة الوصل، وعبر موسى عليه السلام بضمير الذكور فلعل كان معه بنون فغلبهم على امرأته، وقد ذكرت غير ذلك في السورة التي قبل هذه، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لاستبعاد أن يكون في ذلك المكان القفر وفي ذلك الوقت الشديد البرد ناراً ﴿ إني آنست ناراً ﴾ فتح الياء نافع وابن كثير وأبو عمرو، وسكنها الباقون، كأنه قيل فماذا تعلم بها فقال معبراً بالترجي لأنه أليق بالتواضع ﴿ لعلى آتيكم منها ﴾ أي : من عندها ﴿ بخبر ﴾ أي : عن الطريق لأنه كان قد أخطأها ﴿ أو جذوة ﴾ أي : قطعة وشعلة ﴿ من النار ﴾ وقال قتادة ومقاتل : هو العود الذي احترق بعضه.
تنبيه : من النار صفة لجذوة ولا يجوز تعلقها بآتيكم كما تعلق به منها لأنّ هذه النار هي النار المذكورة، والعرب إذا قدمت نكرة وأرادت إعادتها أعادتها مضمرة أو معرفة بأل العهدية وقد جمع الأمرين هنا، وقرأ عاصم بفتح الجيم وحمزة بضمها، والباقون بالكسر وكلها لغات وجمعها جذى. ثم استأنف قوله ﴿ لعلكم تصطلون ﴾ أي : لتكونوا على رجاء من أن تقربوا من النار فتعطفوا عليها للتدفؤ، وهذا دليل على أنّ الوقت كان شتاء.
﴿ فلما أتاها ﴾ أي : النار، وبنى ﴿ نودي ﴾ للمفعول لأنّ آخر الكلام يدلّ دلالة واضحة على أنّ المنادي هو الله تعالى ولما كان نداؤه تعالى لا يشبه نداء غيره بل يكون من جميع الجوانب ومع ذلك قد يكون لبعض المواضع مزيد شرف بوصف من الأوصاف إمّا بأن يكون أوّل السماع منه أو غيره ذلك أو يكون باعتبار موسى عليه السلام قال ﴿ من شاطئ الواد ﴾ فمِنْ : لابتداء الغاية، وقوله تعالى ﴿ الأيمن ﴾ صفة للشاطئ أو للوادي، والأيمن من اليمن وهو البركة أو من اليمين المعادل لليسار من العضوين ومعناه على هذا بالنسبة إلى موسى أي : الذي يلي يمينك دون يسارك، والشاطئ ضفة الوادي والنهر أي : حافته وطرفه وكذا الشط والسيف والساحل كلها بمعنى، وجمع الشاطئ أشطأ قاله الراغب وشاطأ فلاناً ماشيته سار بها على الشاطئ، وقوله تعالى ﴿ في البقعة المباركة ﴾ متعلق بنودي أو بمحذوف على أنه حال من الشاطئ ومعنى المباركة جعلها الله تعالى مباركة لأنّ الله تعالى كلم موسى عليه السلام هناك وبعثه نبياً، وقال عطاء : يريد المقدسة وقوله تعالى :﴿ من الشجرة ﴾ بدل من شاطئ الوادي بإعادة الجار بدل اشتمال لأنّ الشجرة كانت ثابتة على الشاطئ، قال البقاعي : ولعلّ الشجرة كانت كبيرة فلما وصل إليها دخل النور من طرفها إلى وسطها فدخلها وراءه بحيث توسطها فسمع وهو فيها الكلام من الله تعالى حقيقة وهو المتكلم سبحانه وتعالى لا الشجرة.
قال القشيري : وحصل الإجماع على أنه عليه السلام سمع تلك الليلة كلام الله تعالى ولو كان ذلك نداء الشجرة لكان المتكلم الشجرة وقال التفتازانيّ في شرح المقاصد إنّ اختيار حجة الإسلام أنه سمع كلامه الأزليّ بلا صوت ولا حرف كما ترى ذاته في الآخرة بلاكمّ ولا كيف.
واختلف في الشجرة ما هي ؟ فقال ابن مسعود : كانت سمرة خضراء، وقال قتادة ومقاتل والكلبي : كانت عوسجة، وقال وهب : من العليق، وعن ابن عباس أنها العناب، ثم ذكر المنادى به بقوله تعالى :﴿ أن يا موسى ﴾ فأَنْ هي مفسرة لا مخففة ﴿ إنّي أنا الله ﴾ أي : المستجمع للأسماء الحسنى والصفات العليا، وفتح الياء نافع وابن كثير وأبو عمرو وسكنها الباقون ثم وصف نفسه سبحانه تعالى بقوله ﴿ رب العالمين ﴾ أي : خالق الخلائق أجمعين ومربيهم، قال البيضاوي : هذا وإن خالف ما في طه والنمل في اللفظ فهو طبقه في المقصود انتهى، وقال ابن عادل : واعلم أنه تعالى قال في سورة النمل ﴿ نودي أن بورك من في النار ومن حولها ﴾ ( النمل : ٨ ) وقال ههنا ﴿ إني أنا الله رب العالمين ﴾ وقال في سورة طه ﴿ إني أنا ربك ﴾ ولا منافاة بين هذه الأشياء فهو تعالى ذكر الكل إلا أنه تعالى حكى في كل سورة ما اشتمل عليه ذلك النداء.
ثم إنّ الله تعالى أمره أن يلقي عصاه ليريه آية بقوله تعالى :﴿ وأن ألق عصاك ﴾ أي : لأريك فيها آية فألقاها فصارت في الحال حية عظيمة وهي مع عظمها في غاية الخفة ﴿ فلما رآها ﴾ أي : العصا ﴿ تهتز ﴾ أي : تتحرّك كأنها في سرعتها وخفتها ﴿ جانّ ﴾ أي : حية صغيرة ﴿ ولى مدبراً ﴾ خوفاً منها ولم يلتفت إلى جهتها وهو معنى قوله تعالى ﴿ ولم يعقب ﴾ أي : موسى عليه السلام وذلك كناية عن شدّة التصميم على الهرب والإسراع فيه خوفاً من الإدراك في الطلب فقيل له ﴿ يا موسى أقبل ﴾ أي : التفت وتقدّم إليها ﴿ ولا تخف ﴾ ثم أكد له الأمر لما الآدميُّ مجبول عليه من النفرة وإن اعتقد صحة الخبر بقوله تعالى :﴿ إنك من الآمنين ﴾ أي : العريقين في الأمن كعادة إخوانك من المرسلين فإنه لا يخاف لديّ المرسلون.
ثم زاد طمأنينة بقوله تعالى :﴿ اسلك ﴾ أي : ادخل على الاستقامة مع الخفة والرشاقة ﴿ يدك في جيبك ﴾ أي : القطع الذي في ثوبك وهو الذي يخرج منه الرأس أو هو الكم كما يدخل السلك وهو الخيط الذي ينظم فيه الدرّ ﴿ تخرج بيضاء ﴾ بياضاً عظيماً يكون له شأن خارق للعادات ﴿ من غير سوء ﴾ أي : عيب من أثر الحريق الذي عجز فرعون عن مداواته أو غيره فخرجت ولها شعاع كشعاع الشمس يعشي البصر.
تنبيه : قد ذكر هذا المعنى بثلاث عبارات إحداها هذه وثانيتها :﴿ واضمم يدك إلى جناحك ﴾ ( طه : ٢٢ ) وثالثتها :﴿ وأدخل يدك في جيبك ﴾ ( النمل، ١٢ ).
﴿ واضمم إليك جناحك ﴾ أي : يديك المبسوطتين تتقي بهما الحية كالخائف الفزع بإدخال اليمنى تحت عضد اليسرى وبالعكس، أو بإدخالهما في الجيب فيكون تكريراً لغرضٍ آخر وهو أن يكون ذلك في وجه العدو أظهر جراءة ومبدأ لظهور معجزة ويجوز أن يراد بالضم التجلد والثبات عند انقلاب العصا حية استعارة من حال الطائر لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما وإذا أمن واطمأن ضمهما إليه، ومنه ما يحكي عن عمر بن عبد العزيز : أن كاتباً له كان يكتب بين يديه فانفلتت منه فلتة ريح فخجل وانكسر فقام وضرب بقلمه الأرض فقال له عمر : خذ قلمك واضمم إليك جناحك وليفرخ روعك فإني ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي.
ومعنى قوله تعالى ﴿ من الرهب ﴾ من أجل الرهب أي : إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك تجلداً وضبطاً لنفسك، جعل الرهب الذي كان يصيبه سبباً وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه، قال الفراء : أراد بالجناح العصا ومعناه اضمم إليك عصاك، قال البغويّ : وقيل الرهب الكمّ بلغة حمير، قال الأصمعي : سمعت بعض الأعراب يقول أعطني ما في رهبك أي : في كمك ومعناه اضمم إليك يدك وأخرجها من الكمّ لأنه تناول العصا ويده في كمه انتهى، قال الزمخشريّ معترضاً هذا القول : ومن بدع التفاسير أن الرهب الكمّ بلغة حمير وأنهم يقولون أعطني ما في رهبك وليت شعري كيف صحته في اللغة وهل سمع من الأثبات الثقات الذين ترضى عربيتهم ثم ليت شعري كيف وقعه في الآية وكيف تطبيقه المفصل كسائر كلمات التنزيل على أن موسى عليه السلام ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة من صوف لا كمين لها انتهى.
ويحتمل أن يكون لها كمّ قصير فمن نفى نظر إلى قصره ومن أثبت نظر إلى أصله وحينئذٍ لا تعارض، وفي البغوي عن ابن عباس : إن الله تعالى أمره أن يضم يده إلى صدره ليذهب عنه الروع وما ناله من الخوف عند معاينة الحية وقال : وما من خائف بعد موسى عليه السلام إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه، وقال مجاهد : وكل من فزع فضمّ جناحه إليه ذهب عنه الفزع، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الراء والهاء وحفص بفتح الراء وسكون الهاء، والباقون بضمّ الراء وسكون الهاء، والكل لغات.
ولما تم كونه آية بانقلابها إلى البياض ثم رجوعها إلى لونها قال الله تعالى :﴿ فذانك ﴾ أي : العصا واليد البيضاء، وشدد ابن كثير وأبو عمرو النون، وخففها الباقون ﴿ برهانان ﴾ أي : سلطانان وحجتان قاهرتان مرسلان ﴿ من ربك ﴾ أي : المحسن إليك لا يقدر على مثلهما غيره ﴿ إلى فرعون وملإيه ﴾ أي : وأنت مرسل بهما إليهم كلما أردت ذلك وجدته لا أنهما يكونان لك هنا في هذه الحضرة فقط، فإن قيل لم سميت الحجة برهاناً ؟ أجيب : بأنّ ذلك لبياضها وإنارتها من قولهم للمرأة البيضاء برهرهة بتكرير العين واللام معاً والدليل على زيادة النون قولهم أبره الرجل إذا جاء بالبرهان ونظيره تسميتهم إياها سلطاناً من السليط وهو الزيت لإنارتها.
ثم علل الإرسال إليهم على وجه إظهار الآيات لهم واستمرارها بقوله :﴿ إنهم كانوا ﴾ أي : جبلة وطبعاً ﴿ قوماً ﴾ أي : أقوياء ﴿ فاسقين ﴾ أي : خارجين عن الطاعة فكانوا أحقاء أن يرسل إليهم.
ولما قال تعالى :﴿ فذانك برهانان ﴾ إلى آخره تضمن ذلك أن يذهب موسى بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه فعند ذلك طلب من يعينه بأن ﴿ قال رب ﴾ أي : أيها المحسن إليّ ﴿ إني قتلت منهم نفّساً ﴾ هو القبطي السابق وأنت تعلم أني ما خرجت إلا هارباً منهم لأجلها ﴿ فأخاف ﴾ إن بدأتهم بمثل ذلك ﴿ أن يقتلون ﴾ به لوحدتي وغربتي وثقل لساني في إقامة الحجج فأخاف أن يفوت المقصود بقتلي ولا يحمي من ذلك إلا أنت وإنّ لساني فيه عقدة.
﴿ وأخي هارون هو أفصح مني لساناً ﴾ أي : من جهة اللسان للعقدة التي كانت حصلت له من وضع الجمرة في فيه وهو طفل في كفالة فرعون، وقيل كانت من أصل الخلقة والفصاحةُ لغةً الخلوص ومنه فصح اللبن خلص من رغوته وفصح الرجل جادت لغته، وأفصح تكلم بالعربية ﴿ فأرسله ﴾ أي : بسبب ذلك ﴿ معي رِدْءَاً ﴾ أي : معيناً من ردأت فلاناً بكذا أي : جعلته له قوّة وعاضداً وردأت الحائط إذا دعمته بخشب أو كبش يدفعه أن يسقط، وقرأ نافع بنقل حركة الهمزة إلى الدال وحذف الهمزة، والباقون بسكون الدال وتنوين الهمزة بعدها. ولما كان له عليه من العطف والشفقة ما يقصر الوصف عنه نبه على ذلك بإجابة السؤال بقوله ﴿ يصدّقني ﴾ أي : بأن يخلص بفصاحته ما قلته ويبينه ويقيم الأدلة عليه حتى يصير كالشمس وضوحاً فيكون مع تصديقه لي بنفسه سبباً في تصديق غيره لي.
وقرأ عاصم وحمزة بضم القاف على الاستئناف أو الصفة لردءاً والباقون بالسكون جواباً للأمر، قال الرازي : ليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له صدقت أو يقول للناس صدق موسى وإنما هو أن يخلص بلسانه الفصيح وجوب الدلائل ويجيب عن الشبهات ويجادل به الكفار فهذا هو التصديق المفيد، وفائدة الفصاحة إنما تظهر في ذلك لا في مجرّد قوله صدقت، قال السدي : نبيان وآيتان أقوى من نبي واحد وآية واحدة وهذا ظاهر من جهة العادة وأما من جهة الدلالة فلا فرق بين معجز ومعجزين، ثم علل سؤاله هذا بقوله ﴿ إني أخاف أن يكذبون ﴾ أي : فرعون وقومه ولساني لا يطاوعني عند المحاجة.
﴿ قال ﴾ الله تعالى له مجيباً لسؤاله ﴿ سنشدّ عضدك ﴾ أي : أمرك ﴿ بأخيك ﴾ أي : سنقويك ونعينك به ﴿ ونجعل لكما سلطاناً ﴾ أي : ظهوراً عظيماً وغلبة لهم بالحجج والهيبة لأجل ما ذكرت من الخوف ﴿ فلا ﴾ أي : فتسبب عن ذلك أنهم لا ﴿ يصلون إليكما ﴾ بنوع من أنواع الغلبة ﴿ بآياتنا ﴾ أي : نجعل ذلك بسبب ما يظهر على أيديكما من الآيات العظيمة بنسبتها إلينا ولذلك كانت النتيجة ﴿ أنتما ومن اتبعكما ﴾ من قومكما وغيرهم ﴿ الغالبون ﴾ أي : لا غيركم وهذا يدل على أنّ فرعون لم يصل إلى السحرة بشيء مما هددهم به لأنهم من أكبر الأتباع الباذلين أنفسهم في الله تعالى وليس في القرآن ما يدل على أنه فعل بهم ما أوعدهم به.
قال البقاعي : وكأنه حذف أمرهم هنا لأنه في بيان أمر فرعون وجنوده بدليل ما كرّر من ذكرهم وقد كشفت العاقبة عن أنّ السحرة ليسوا من جنوده بل من حزب الله تعالى وجنده، ومع ذلك فقد أشار إليهم بهذه الآية والتي بعدها. اه ولما كان التقدير فأتاهم كما أمره الله تعالى وعاضده أخوه كما أخبر الله تعالى ودعاهم إلى الله تعالى وأظهرا ما أمرا به من الآيات بنى عليه مبيناً بالفاء سرعة امتثاله.
﴿ فلما جاءهم ﴾ أي : فرعون وقومه ولما كانت رسالة هارون عليه السلام إنما هي تأييد لموسى عليه السلام أشار إلى ذلك بالتصريح باسم الجائي بقوله تعالى :﴿ موسى بآياتنا ﴾ أي : التي أمرناه بها الدالة على جميع الآيات للتساوي في خرق العادة حال كونها ﴿ بينات ﴾ أي : في غاية الوضوح ﴿ قالوا ﴾ أي : فرعون وقومه ﴿ ما هذا ﴾ أي : الذي أظهرته من الآيات ﴿ إلا سحر مفترى ﴾ أي : مختلق لا أنه معجزة من عند الله ثم ضموا إليه ما يدل على جهلهم وهو قولهم ﴿ وما سمعنا ﴾ أي : ما حدّثنا ﴿ بهذا ﴾ أي : الذي تدعونا إليه وتقوله من الرسالة عن الله تعالى ﴿ في آبائنا ﴾ وأشاروا إلى البدعة التي أضلت كثيراً من الخلق وهي تحكيم عوائد التقليد لاسيما عند تقادمها على القواطع في قولهم ﴿ الأولين ﴾ وقد كذبوا وافتروا لقد سمعوا بذلك على أيام يوسف عليه السلام.
وما بالعهد من قدم ***. . . . . . . . . . . . . . . .
﴿ فقد قال لهم الذي آمن ﴾ يا قوم أني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب إلى قوله ﴿ ولقد جاءكم موسى بالبينات ﴾ ( البقرة، ٩٢ )
﴿ و ﴾ لما كذبوه وهم الكاذبون ﴿ قال ﴾ لهم ﴿ موسى ربي ﴾ أي : المحسن إليّ ﴿ أعلم ﴾ أي : عالم ﴿ بمن جاء بالهدى ﴾ أي : الذي أذن الله تعالى فيه وهو حق في نفسه ﴿ من عنده ﴾ فيعلم أني محق وأنتم مبطلون، وقرأ ابن كثير بغير واوٍ قبل القاف لأنه قاله جواباً لمقالهم، والباقون بالواو لأنّ المراد حكاية القولين ليوازن الناظر بينهما ليميز صحيحهما من فاسدهما ﴿ ومن تكون له ﴾ أي : لكونه منصوراً مؤيداً ﴿ عاقبة الدار ﴾ أي : الراحة والسكن والاستقرار، فإن قيل : العاقبة المحمودة والمذمومة كلتاهما يصح أن تسميا عاقبة الدار لأنّ الدنيا إما أن تكون خاتمتها بخير أو بشر فلم اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمها بالشرّ ؟.
أجيب : بأنّ الله تعالى قد وضع الدنيا مجازاً إلى الآخرة وأراد بعباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير، وما خلقهم إلا لأجله ليبلغوا خاتمة الخير وأما عاقبة السوء فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تخويف الفجار، وقرأ حمزة والكسائيّ بالياء على التذكير، والباقون بالتاء على التأنيث، ثم علل ذلك بما أجرى الله تعالى به عادته فقال معلماً بأنّ المخذول هو الكاذب إشارة إلى أنه الغالب لكون الله تعالى معه مؤكداً لما استقرّ في الأنفس من أنّ القويّ لا يغلبه الضعيف ﴿ إنه لا يفلح ﴾ أي : لا يظفر ولا يفوز ﴿ الظالمون ﴾ أي : الكافرون الذين يمشون كما يمشي من هو في الظلام بغير دليل.
﴿ وقال فرعون ﴾ جواباً لهذا الترغيب والترهيب ﴿ يا أيها الملأ ﴾ أي : الأشراف معظماً لهم استجلاباً لقلوبهم ﴿ ما علمت لكم من إله غيري ﴾ فتضمن كلامه نفي إلهية غيره وإثبات إلهية نفسه فكأنه قال : ما لكم من إله إلا أنا كما قال الله تعالى :﴿ قل أتنبّئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ﴾ ( يونس : ١٨ ) أي : بما ليس فيهنّ وذلك أنّ العلم تابع للموجود لا يتعلق به إلا على ما هو عليه فإذا كان الشيء معدوماً لم يتعلق به موجود فمن ثم كان انتفاء العلم بوجوده انتفاء لوجوده، فعبر عن انتفاء وجوده بانتفاء العلم بوجوده، ويجوز أن يكون على ظاهره وأنّ إلهاً غير معلوم عنده ولكنه مظنون بدليل قوله ﴿ وأني لأظنه من الكاذبين ﴾ وإذا ظنه كاذباً في إثباته إلهاً غيره ولم يعلمه كاذباً فقد ظنّ أنّ في الوجود إلهاً غيره ولو لم يكن المخذول ظاناً ظناً كاليقين بل عالماً بصحة قول موسى لقول موسى له :﴿ لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر ﴾ ( الإسراء، ١٠٢ ) ثم تسبب عن جهله قوله لوزيره معلماً له صنعة الآجر لأنه أوّل من عمله، قال عمر رضي الله تعالى عنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر ما علمت أنّ أحداً بنى بالآجر غير فرعون ﴿ فأوقد لي ﴾ وأضاف الإيقاد إليه إعلاماً بأنه لا بدّ منه ﴿ يا هامان ﴾ وهو وزيره ﴿ على الطين ﴾ أي : المتخذ لبناً ليصير آجراً، ثم تسبب عن الإيقاد قوله ﴿ فاجعل لي ﴾ أي : منه ﴿ صرحاً ﴾ أي : قصراً عالياً، وقيل : منارة، وقال الزجاج : هو كل بناء متسع مرتفع ﴿ لعلي أطلع ﴾ أي : أتكلف الطلوع ﴿ إلى إله موسى ﴾ أي : الذي يدعو إليه فإنه ليس في الأرض أحد بهذا الوصف الذي ذكره فأنا أطلبه في السماء موهماً لهم أنه مما يمكن الوصول إليه وهو قاطع بخلاف ذلك ولكنه يقصد المدافعة من وقت إلى وقت.
قال أهل السير : لما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح جمع العمال والفعلة حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء ومن يطبخ الآجر والجص وينجر الخشب ويضرب المسامير فرفعوه وشيدوه حتى ارتفع ارتفاعاً لم يبلغه بنيان أحد من الخلق أراد الله تعالى أن يفتنهم فيه فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه فأمر بنشابه فضرب بها نحو السماء فردّت إليه وهي ملطخة دماً فقال : قد قتلت إله موسى وكان فرعون يصعد على البراذين فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام فضرب الصرح بجناحه فقطعه ثلاث قطع فوقع منها قطعة على عسكر فرعون فقتلت منهم ألف ألف رجل، ووقعت قطعة في البحر، وقطعة في المغرب ولم يبق أحد ممن عمل فيه بشيء إلا هلك ثم زادهم شكاً بقوله مؤكداً لأجل رفع ما استقرّ في الأنفس من صدق موسى عليه السلام ﴿ وإني لأظنه ﴾ أي : موسى عليه السلام ﴿ من الكاذبين ﴾ أي : دأبه ذلك وفرعون هو الذي قد لبس وكذب ووصف أصدق أهل ذلك الزمان بصفة نفسه العريقة في العدوان.
﴿ واستكبر ﴾ أي : أوجد الكبر بغاية الرغبة فيه ﴿ هو ﴾ بقوله هذا الذي صدّهم به عن السبيل ﴿ وجنوده ﴾ بإعراضهم لشدّة رغبتهم في الكبر على الحق والاتباع للباطل ﴿ في الأرض ﴾ أي : أرض مصر قال البقاعي : ولعله عرّفها إشارة إلى أنه لو قدر على ذلك في غيرها فعل ﴿ بغير الحق ﴾ أي : بغير استحقاق قال البقاعي : والتعبير بالتعريف يدل على أنّ التعظيم بنوع من الحق ليس بكبر وإن كانت صورته كذلك وأما تكبره سبحانه فهو بالحق كله قال صلى الله عليه وسلم فيما حكاه عن ربه :«الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار » ﴿ وظنوا ﴾ أي : فرعون وجنوده ظناً بنوا عليه اعتقادهم في أصل الدين الذي لا يكون إلا بقاطع ﴿ أنهم إلينا ﴾ أي : إلى حكمنا خاصة الذي يظهر عند انقطاع الأسباب ﴿ لا يرجعون ﴾ بالنشور، وقرأ نافع وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الجيم والباقون بضمّ الياء وفتح الجيم.
ولما تسبب عن ذلك إهلاكهم قال تعالى :﴿ فأخذناه وجنوده ﴾ كلهم أخذ قهر ونقمة وذلك علينا هيِّن وأشار تعالى إلى احتقارهم بقوله تعالى :﴿ فنبذناهم ﴾ أي : طرحناهم ﴿ في اليم ﴾ أي : البحر المالح فغرقوا فكانوا على كثرتهم وقوّتهم كحصيات صغار قذفها الرامي الشديد الدرء من يده في البحر ونحو ذلك قوله تعالى :﴿ وجعلنا فيها رواسي شامخات ﴾ ( المرسلات، ٢٧ ) وقوله تعالى ﴿ وحمّلت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ﴾ ( الحاقة : ١٤ ).
ولما تسبب عن هذه الآيات من العلوم ما لا تحيط به الفهوم قال تعالى :﴿ فانظر ﴾ أي : أيها المعتبر بالآيات الناظر فيها نظر اعتبار ﴿ كيف كان عاقبة ﴾ أي : آخر أمر ﴿ الظالمين ﴾ حيث صاروا إلى الهلاك فحذِّر قومك عن مثلها وفي هذا إشارة إلى أنّ كل ظالم تكون عاقبته هكذا إن صابره المظلوم المحق ورابطه ﴿ حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين ﴾ ( يونس، ١٠٩ ).
ولما كان :«من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة » قال الله تعالى :﴿ وجعلناهم ﴾ أي : في الدنيا ﴿ أئمة ﴾ أي : قدوة للضلال بالحمل على الإضلال، وقيل بالتسمية كقوله تعالى ﴿ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثاً ﴾ ( الزخرف : ١٩ ) أو بمنع الألطاف الصارفة عنه ﴿ يدعون ﴾ أي : يوجدون الدعاء لمن اغتر بحالهم فضل بضلالهم ﴿ إلى النار ﴾ أي : إلى موجباتها من الكفر والمعاصي، وأمّا أئمة الحق فإنما يدعون إلى موجبات الجنة من فعل الطاعات والنهي عن المنكرات : جعلنا الله تعالى وأحبابنا معهم بمحمد وآله. ولما كان الغالب من حال الأئمة النصرة وقد أخبر عن خذلانهم في الدنيا قال تعالى :﴿ ويوم القيامة ﴾ أي : الذي هو يوم التغابن ﴿ لا ينصرون ﴾ أي : لا يكون لهم نوع نصرة تدفع العذاب عنهم.
﴿ وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ﴾ أي : طرداً عن الرحمة ودعاء عليهم بذلك من كل من سمع خبرهم بلسانه إن خالفهم أو بفعله الذي يكون عليهم مثل وزره إن وافقهم، وإنما قال الله تعالى :﴿ الدنيا ﴾ ولم يقل الحياة، قال البقاعي : لأنّ السياق لتحقير أمرهم ودناءة شأنهم.
﴿ ويوم القيامة هم ﴾ أي : خاصة ومن شاكلهم ﴿ من المقبوحين ﴾ أي : المبعدين أيضاً المخزيين مع قبح الوجوه والأشكال والشناعة في الأقوال والأفعال والأحوال من القبح الذي هو ضد الحسن من قولهم : قبح الله العدو أبعده عن كل خير، وقال أبو عبيدة : من المهلكين، قال البقاعي : فيا ليت شعري أي صراحة بعد هذا في أنّ فرعون عدوّ الله في الآخرة كما كان عدوّ الله في الدنيا فلعنة الله على من يقول إنه مات مؤمناً وأنه لا صراحة في القرآن بأنه من أهل النار وعلى من يشك في كفره بعدما ارتكبه من جلي أمره انتهى، وقد قدّمت الكلام في سورة يونس على قول فرعون ﴿ وأنا من المسلمين ﴾ ( يونس : ٩٠ ).
ثم إنه تعالى أخبر عن أساس إمامة بني إسرائيل مقسماً عليه مع الافتتاح بحرف التوقع بقوله :﴿ ولقد آتينا ﴾ أي : بما لنا من الجلال والكمال ﴿ موسى الكتاب ﴾ أي : التوراة الجامعة للهدى والخير في الدارين، قال أبو حيان : وهو أوّل كتاب نزلت فيه الفرائض والأحكام.
﴿ من بعدما أهلكنا القرون الأولى ﴾ أي : من قوم نوح إلى قوم فرعون وقوله تعالى ﴿ بصائر للناس ﴾ حال من الكتاب جمع بصيرة وهي نور القلب أي : أنوار القلوب فيبصر بها الحقائق ويميز بين الحق والباطل كما أنّ البصر نور العين الذي تبصر به ﴿ وهدى ﴾ أي : للعامل بها إلى كل خير ﴿ ورحمة ﴾ أي : نعمة هنيئة شريفة لأنها قائدة إليهما. ولما ذكر حالها ذكر حالهم بعد إنزالها بقوله تعالى :﴿ لعلهم يتذكرون ﴾ أي : ليكون حالهم حال من يرجى تذكره.
ثم إنّ الله تعالى خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى :﴿ وما كنت ﴾ أي : يا أفضل الخلق ﴿ بجانب الغربي ﴾ قال قتادة : بجانب الجبل الغربي، وقال الكلبي : بجانب الوادي الغربي أي : الوادي من الطور الذي رأى موسى عليه السلام فيه النار وهو ما يلي البحر من جهة الغرب على يمين المتوجه إلى ناحية مكة المشرّفة من ناحية مصر فناداه فيه العزيز الجبار وهو ذو طوى ﴿ إذ ﴾ أي : حين ﴿ قضينا ﴾ أي : أوحينا ﴿ إلى موسى الأمر ﴾ أي : أمر الرسالة إلى فرعون وقومه وما يريد أن يفعل من ذلك في أوّله وأثنائه وآخره مجملاً فكان كل ما أخبرنا به مطابقاً تفصيله لإجماله ﴿ وما كنت ﴾ أي : بوجه من الوجوه ﴿ من الشاهدين ﴾ لتفاصيل ذلك الأمر الذي أجملناه لموسى عليه السلام حتى تخبر به كله على هذا الوجه الذي آتيناك به في هذه الأساليب المعجزة.
ولا شك أنّ معرفتك لذلك من قبيل الأخبار عن المغيَّبات التي لا تعرف إلا بالوحي ولذلك استدرك عنه بقوله تعالى :﴿ ولكنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ أنشأنا ﴾ بعدما أهلكنا أهل ذلك الزمان الذين علموا هذه الأمور بالمشاهدة وهم السبعون المختارون للميقات أو بالإخبار كلهم ﴿ قروناً ﴾ أي : أمما كثيرة بعد موسى عليه السلام ﴿ فتطاول ﴾ أي : بمروره وعلوه ﴿ عليهم العمر ﴾ أي : ولكنا أوحينا إليك أنا أنشأنا قروناً مختلفة بعد موسى عليه السلام فتطاولت عليهم المدد فنسوا العهود واندرست العلوم وانقطع الوحي فحذف المستدرك وهو أوحينا وأقام سببه وهو الإنشاء مقامه على عادة الله تعالى في اختصاراته فهذا الاستدراك شبيه بالاستداركين بعده، فإن قيل : ما الفائدة في إعادة قوله تعالى :﴿ وما كنت من الشاهدين ﴾ بعد قوله :﴿ وما كنت بجانب الغربي ﴾ لأنه ثبت بذلك أنه لم يكن شاهداً لأنّ الشاهد لا بدّ أن يكون حاضراً ؟ أجيب : بأنّ ابن عباس قال : التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت ما شاهدت تلك الوقائع فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ولا يرى.
وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم، وحمزة والكسائي بضمّ الهاء والميم، وحمزة في الوقف بضمّ الهاء وسكون الميم، والباقون في الوصل بكسر الهاء وضمّ الميم. ولما نفى العلم عن ذلك بطريق الشهود نفي سبب العلم بذلك بقوله تعالى :﴿ وما كنت ثاوياً ﴾ أي : مقيماً إقامة طويلة مع الملازمة بمدين ﴿ في أهل مدين ﴾ أي : قوم شعيب عليه السلام كمقام موسى وشعيب فيهم ﴿ تتلوا ﴾ أي : تقرأ ﴿ عليهم ﴾ تعلماً منهم ﴿ آياتنا ﴾ العظيمة التي منها قصتهما لتكون ممن يهتم بأمور الوحي ويتعرّف دقيق أخباره فيكون خبرهم وخبر موسى عليه السلام معك ﴿ ولكنا كنا مرسلين ﴾ إياك رسولاً وأنزلنا عليك كتاباً فيه هذه الأخبار تتلوها عليهم ولولا ذلك ما علمتها ولم تخبرهم بها.
﴿ وما كنت بجانب الطور ﴾ أي : بناحية الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام ﴿ إذ ﴾ أي : حين ﴿ نادينا ﴾ أي : أوقعنا النداء لموسى عليه السلام فأعطيناه التوراة وأخبرناه بما لا يمكن الاطلاع عليه إلا من قبلنا أو من قبله، ومن المشهور أنك لم تطلع على شيء من ذلك من قبله لأنك ما خالطت أحداً ممن حمل تلك الأخبار عن موسى عليه السلام ولا أحداً حملها ممن حملها عنه ولكن كان ذلك إليك منا، وهو معنى قوله تعالى ﴿ ولكن ﴾ أي : أنزلنا ما أردنا وأرسلناك به ﴿ رحمة من ربك ﴾ لك خصوصاً وللخلق عموماً.
وقيل : إذ نادينا موسى خذ الكتاب بقوّة، وقال وهب : قال موسى يا رب أرني محمداً قال : إنك لن تصل إلى ذلك وإن شئت ناديت أمّته وأسمعتك صوتهم قال : بلى يا رب فقال الله تعالى : يا أمّة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم، وقال أبو زرعة : نادى يا أمّة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني، وروي عن ابن عباس ورفعه بعضهم : قال الله تعالى يا أمّة محمد فأجابوه من أصلاب الآباء وأرحام الأمّهات لبيك اللهمّ لبيك إن الحمد لله والنعمة لك والملك لا شريك لك، قال الله تعالى يا أمّة محمد إنّ رحمتي سبقت غضبي وعفوي عقابي قد أعطيتكم قبل أن تسألوني وقد أجبتكم من قبل أن تدعوني وقد غفرت لكم من قبل أن تستغفروني من جاء يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً عبدي ورسولي دخل الجنة وإن كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر.
تنبيه : قال البيضاوي : لعل المراد به أي : بقوله تعالى :﴿ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ﴾ ( القصص : ٤٦ ) وقت ما أعطاه التوراة وبالأول أي : قوله تعالى :﴿ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا ﴾ حيث استنبأناه لأنهما المذكوران في القصة وقوله تعالى ﴿ لتنذر ﴾ أي : لتحذر تحذيراً كثيراً ﴿ قوماً ﴾ أي : أهل قوّة ونجدة ليس بهم عائق عن أعمال الخير العظيمة إلا الإعراض عنك، وهم العرب ومن في ذلك الزمان من الخلق يتعلق بالفعل المحذوف ﴿ ما أتاهم ﴾ وعمم النفي بزيادة الجار في قوله تعالى :﴿ من نذير ﴾ وزيادة الجار في قوله تعالى ﴿ من قبلك ﴾ يدل على الزمن القريب وهو زمن الفترة بينه وبين عيسى عليهما الصلاة والسلام وهو خمسمائة وخمسون سنة ونحو هذا قوله تعالى :﴿ لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم ﴾ ( يس : ٦ ) وقيل : ليس المراد زمن الفترة بل ما بينه وبين إسماعيل عليهما السلام على أنّ دعوة موسى وعيسى كانت مختصة ببني إسرائيل وما حولهم ﴿ لعلهم يتذكرون ﴾ أي : يتعظون.
﴿ ولولا أن تصيبهم ﴾ أي : في وقت من الأوقات ﴿ مصيبة ﴾ أي : عظيمة ﴿ بما قدّمت أيديهم ﴾ أي : من المعاصي التي قضينا بأنها مما لا يعفى عنها ﴿ فيقولوا ربنا ﴾ أي : أيها المحسن إلينا ﴿ لولا ﴾ أي : هلا ولم لا ﴿ أرسلت إلينا ﴾ أي : على وجه التشريف لنا لنكون على علم بأنا ممن يعتني الملك الأعلى به ﴿ رسولاً ﴾ وأجاب التحضيض الذي شبهوه بالأمر ليكون كل منهما باعثاً على الفعل بقوله تعالى :﴿ فنتّبع ﴾ أي : فيتسبب عن إرسال رسولك أن نتبع ﴿ آياتك ونكون ﴾ أي : كوناً هو في غاية الرسوخ ﴿ من المؤمنين ﴾ أي : المصدقين لك في كل ما أتى به عنك رسولك.
تنبيه ( لولا ) الأولى : امتناعية وجوابها محذوف تقديره كما قال الزجاج ما أرسلنا إليهم رسولاً يعني أنّ الحامل على إرسال الرسل إزاحة عللهم بهذا القول فهو كقوله تعالى :﴿ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾ ( النساء : ١٦٥ ) والثانية : تحضيضية ونتبع جوابها كما مرّ فلذلك أضمر أن، فإن قيل : كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول لدخول حرف الامتناع عليها دونه ؟.
أجيب : بأنّ القول هو المقصود بأن يكون سبباً للإرسال ولكنّ العقوبة لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها جعلت العقوبة كأنها سبب للإرسال بواسطة القول فأدخلت عليها ( لولا ) وجيء بالقول معطوفاً عليها بالفاء المعطية معنى السببية ويؤول معناه إلى قولك ولولا قولهم هذا إذا أصابتهم مصيبة لما أرسلنا ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة وهي أنهم لو لم يعاقبوا مثلاً على كفرهم وقد عاينوا ما ألجؤا به إلى العلم اليقيني ببطلان دينهم لم يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولاً بل إنما يقولون إذا نالهم العقاب، وإنما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم عز وجل وفي هذا من الشهادة القوية على استحكام كفرهم ورسوخه فيهم ما لا يخفي وهو كقوله تعالى :﴿ ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه ﴾ ( الأنعام : ٢٨ ).
ولما كان التقدير ولكنا أرسلناك بالحق لقطع حجتهم هذه بنى عليه ﴿ فلما جاءهم ﴾ أي : أهل مكة ﴿ الحق ﴾ أي : الذي هو أعم من الكتاب والسنة وما يقاس عليهما وهو في نفسه جدير بأن يقبل لكونه في الذروة العليا من الثبات فكيف وهو ﴿ من عندنا ﴾ على ما لنا من العظمة وهو على لسانك وأنت أعظم الخلق ﴿ قالوا ﴾ أي : أهل الدعوة من العرب وغيرهم تعنتا وكفراً به ﴿ لولا ﴾ أي : هلا ولم لا ﴿ أوتي ﴾ أي : هذا الآتي بما يزعم أنه الحق من الآيات ﴿ مثل ما أوتي موسى ﴾ من الآيات كاليد البيضاء والعصا وغيرهما من كون الكتاب أنزل عليه جملة واحدة قال الله تعالى :﴿ أو لم يكفروا ﴾ أي : العرب ومن بلغته الدعوة من بني إسرائيل ومن كان مثلهم في البشرية والعقل في زمن موسى ﴿ بما أوتي موسى ﴾ عليه السلام من قبل أي : من قبل مجيء الحق على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ولما كان كأنه قد قيل ما كان كفرهم به قيل ﴿ قالوا ﴾ أي : فرعون وقومه ومن كفر من بني إسرائيل ﴿ ساحران ﴾ أي : موسى وأخوه عليهما السلام ﴿ تظاهرا ﴾ أي : أعان كل منهما صاحبه على سحره حتى صار سحرهما معجزاً فغلبا جميع السحرة وتظاهر الساحرين من تظاهر السحرين على قراءة الكوفيين بكسر السين وسكون الحاء، وقرأ الباقون بفتح السين وكسر الحاء وألف بينهما.
تنبيه : يجوز أن يكون الضمير لمحمد وموسى عليهما الصلاة والسلام، قال البقاعي : وهو أقرب وذلك لأنه روي أن قريشاً جاءت إلى اليهود فسألوهم عن محمد صلى الله عليه وسلم فأخبروهم أنّ نعته في كتابهم فقالوا هذه المقالة فيكون الكلام استئنافاً لجواب من كأنه قال : ما كان كفرهم بهما ؟ فقيل قالوا أي : العرب : الرجلان ساحران أو الكتابان ساحران ظاهر أحدهما الآخر مع علم كل ذي لب أنّ هذا القول زيف لأنه لو كان شرط إعجاز السحر التظاهر لكان سحر فرعون أعجز إعجازاً لأنه تظاهر عليه جميع سحرة بلاد مصر وعجزوا عن معارضة ما أظهر موسى عليه السلام من آياته كالعصا، وأمّا محمد صلى الله عليه وسلم فقد دعا أهل الأرض من الجنّ والأنس إلى معارضة كتابه وأخبرهم أنهم عاجزون ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً فعجزوا عن آخرهم.
ولما تضمن قولهم ذلك الكفر صرّحوا به ﴿ وقالوا ﴾ أي : كفار قريش ﴿ إنا بكل ﴾ أي : من الساحرين أو السحرين اللذين تظاهرا بهما وهما ما أتيا به من عند الله ﴿ كافرون ﴾ جراءة على الله تعالى وتكبراً على الحق.
ثم قال الله تعالى :﴿ قل ﴾ أي : لهم إلزاماً إن كنتم صادقين في أني ساحر وكتابي سحر وكذلك موسى عليه السلام ﴿ فأتوا بكتاب من عند الله ﴾ أي : الملك العلي الأعلى ﴿ هو ﴾ أي : الذي تأتون به ﴿ أهدى منهما ﴾ أي : من الكتابين وقوله ﴿ أتبعه ﴾ أي : وأتركهما جواب الأمر وهو فأتوا ﴿ إن كنتم ﴾ أي : أيها الكفار ﴿ صادقين ﴾ أي : في أنا ساحران فأتوا بما ألزمتكم به، قال البيضاوي : وهذا من الشروط التي يراد بها الإلزام والتبكيت ولعل مجيء حرف الشك للتهكم بهم.
﴿ فإن لم يستجيبوا لك ﴾ أي : دعاءك إلى الكتاب الأهدى فحذف المفعول للعلم به ولأن فعل الاستجابة يتعدّى بنفسه إلى الدعاء وباللام إلى الداعي فإذا عدي إليه حذف الدعاء غالباً كقول القائل :
وداعٍ دعا يا من يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وداعٍ ( أي : ورب داع ).
الشاهد في يستجبه حيث عدّاه إلى الداعي وحذف الدعاء والتقدير فلم يستجب دعاءه ﴿ فاعلم ﴾ أنت ﴿ أنما يتبعون ﴾ أي : بغاية جهدهم فيما هم عليه من الكفر والتكذيب ﴿ أهواءَهم ﴾ أي : دائماً وأكثر الهوى مخالف للهدى فهم ضالون غير مهتدين بل هم أضلّ الناس وذلك معنى قوله تعالى :﴿ ومن أضلّ ممن اتبع ﴾ أي : بغاية جهده ﴿ هواه ﴾ أي : لا أحد أضل منه فهو استفهام بمعنى النفي وقوله تعالى :﴿ بغير هدى من الله ﴾ في موضع الحال للتوكيد والتقييد فإن هوى النفس قد يوافق الهدى ﴿ إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ أي : وإن كانوا أقوى الناس لاتباعهم أهواءهم.
﴿ ولقد وصلنا ﴾ قال ابن عباس : بيّنا، وقال الفراء : أنزلنا آيات القرآن يتبع بعضها بعضاً ﴿ لهم ﴾ أي : خاصة فكان تخصيصهم بذلك منّة عظيمة يجب عليهم شكرها ﴿ القول ﴾ أي : القرآن، قال مقاتل : بيَّنا لكفار مكة بما في القرآن من أخبار الأمم الخالية كيف عذبوا بتكذيبهم وقال ابن زيد : وصلنا لهم خير الدنيا بخير الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا ﴿ لعلهم يتذكرون ﴾ أي : ليكون حالهم حال من يرجى لهم أن يرجعوا إلى عقولهم فيجدوا فيما طبع فيها ما يذكرهم بالحق.
ثم كأنه قيل هل تذكر منهم أحد ؟ قيل نعم أهل الكتاب الذين هم أهله حقاً تذكروا وذلك معنى قوله تعالى :﴿ الذين آتيناهم الكتاب من قبله ﴾ أي : قبل القرآن أو قبل محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ هم به ﴾ أي : بما تقدّم ﴿ يؤمنون ﴾ أيضاً : نزل في جماعة أسلموا من اليهود عبد الله بن سلام وأصحابه، وقال مقاتل هم أهل الإنجيل الذين قدموا من الحبشة وآمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وقال سعيد بن جبير هم أربعون رجلاً قدموا مع جعفر من الحبشة على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة قالوا له يا نبيّ الله إنّ لنا أموالاً فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا بها المسلمين فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين فنزل فيهم ذلك إلى قوله تعالى :﴿ ومما رزقناهم ينفقون ﴾ وعن ابن عباس : نزلت في ثمانين من أهل الكتاب أربعون من نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من الشام.
ثم وصفهم الله تعالى بقوله تعالى :﴿ وإذا يتلى ﴾ أي : تتجدّد تلاوة القرآن ﴿ عليهم قالوا ﴾ أي : مبادرين لذلك ﴿ آمنا به ﴾ ثم عللوا ذلك بقولهم ﴿ إنه الحق ﴾ أي : الكامل الذي ليس وراءه إلا الباطل مع كونه ﴿ من ربنا ﴾ أي : المحسن إلينا ثم عللوا مبادرتهم بقولهم ﴿ إنا كنا من قبله ﴾ أي : القرآن ﴿ مسلمين ﴾ أي : منقادين غاية الانقياد مخلصين لله بالتوحيد مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه نبيّ حق.
﴿ أولئك ﴾ أي : العالو الرتبة ﴿ يؤتون أجرهم مرّتين ﴾ أي : لإيمانهم به غيباً وشهادة أي : بالكتاب الأوّل ثم بالكتاب الثاني ﴿ بما صبروا ﴾ أي : بسبب صبرهم على دينهم، وقال مجاهد : نزلت في قوم من أهل الكتاب أسلموا فأؤذوا، وعن أبي بردة عن أبي موسى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن أدبها ثم أعتقها وتزوّجها، ورجل كان من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعبد أحسن عبادة الله تعالى ونصح لسيده » ولما كان الصبر لا يتم إلا بالاتصاف بالمحاسن والانخلاع من المساوي قال تعالى عاطفاً على يؤمنون مشيراً إلى تجديد هذه الأفعال كل حين ﴿ ويدرؤن ﴾ أي : يدفعون ﴿ بالحسنة ﴾ من الأقوال والأفعال ﴿ السيئة ﴾ أي : فيمحونها بها، وقال ابن عباس : يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك، وقال مقاتل : يدفعون بها ما سمعوا من الأذى والشتم من المشركين أي : بالصفح والعفو. ﴿ ومما رزقناهم ﴾ أي : بعظمتنا لا بحول منهم ولا قوّة قليلاً كان أو كثيراً ﴿ ينفقون ﴾ أي : يتصدّقون معتمدين في الخلف على الذي رزقه.
ولما ذكر الله أنّ السماح بما تضنّ النفوس به من فضول الأموال من أمارات الإيمان أتبعه أنّ خزن ما تبذله الأنفس من فضول الأقوال من علامات العرفان بقوله تعالى :﴿ وإذا سمعوا اللغو ﴾ أي : ما لا ينفع في دين ولا دنيا من شتم وتكذيب وتعيير ونحوه ﴿ أعرضوا عنه ﴾ تكرّماً عن الخنا، وقيل اللغو : القبيح من القول ؛ وذلك أنّ المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون لهم تباً لكم تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم ﴿ وقالوا ﴾ وعظاً وتسميعاً لقائله ﴿ لنا ﴾ خاصة ﴿ أعمالنا ﴾ لا تثابون على شيء منها ولا تعاقبون ﴿ ولكم ﴾ أي : خاصة ﴿ أعمالكم ﴾ لا نطالب بشيء منها فنحن لا نشتغل بالرد عليكم ﴿ سلام عليكم ﴾ متاركة لهم وتوديعاً ودعاء لهم بالسلامة عما هم فيه، لا سلام تحية وإكرام، ونظير ذلك ﴿ وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ﴾ ( الفرقان، ٦٣ ) ثم أكد ذلك تعالى بقوله تعالى : حاكياً عنهم ﴿ لا نبتغي ﴾ أي : لا نكلف أنفسنا أن نطلب ﴿ الجاهلين ﴾ أي : لا نريد شيئاً من أموالهم وأقوالهم أو غير ذلك من خلالهم، وقيل لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه قيل نسخ ذلك بالأمر بالقتال وهو بعيد لأنّ ترك المسافهة مندوب إليه وإن كان القتال واجباً.
ونزل في حرصه صلى الله عليه وسلم على إيمان عمه أبي طالب ﴿ إنك لا تهدي من أحببت ﴾ أي : نفسه أو هدايته بخلق الإيمان في قلبه. روى سعيد بن المسيب عن أبيه أنه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ؛ فقال :« أي عمّ ؛ قل لا إله إلا الله ؛ كلمة أحاجّ لك بها عند الله ». فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب ! فلم يزل صلى الله عليه وسلم يعرضها ويصدانه بتلك الكلمة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عن ذلك ». فأنزل الله تعالى :﴿ ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ﴾ ( التوبة : ١١٣ ). وأنزل الله تعالى في أبي طالب ؛ فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ﴾ الآية.
وفي مسلم عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره بالتوحيد ؛ فقال له : لولا أن تعيرني قريش - تقول إنما حمله على ذلك الجزع - لأقررت بها عينك. فأنزل الله تعالى الآية. وروي أنّ أبا طالب قال عند موته : يا معشر بني هاشم ؛ أطيعوا محمداً وصدّقوه تفلحوا وترشدوا ؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :«يا عمّ ؛ تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك ! ». قال : فما تريد يا ابن أخي ؟ قال :« أريد منك كلمة واحدة ؛ فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا ؛ تقول لا إله إلا الله، أشهد لك بها عند الله ». قال : يا ابن أخي ؛ قد علمت أنك صادق ؛ ولكني أكره أن يقال جزع عند الموت. ولولا أن يكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة وسبة بعدي لقلتها، ولأقررت بها عينك عند الفراق لما أرى من شدّة وجدك ونصيحتك، ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ : عبد المطلب وعبد مناف. فإن قيل قال الله تعالى في هذه الآية :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ﴾، وقال تعالى في آية أخرى :﴿ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ﴾ ( الشورى : ٥٢ )، أجيب : بأنه لا تنافي بينهما ؛ فإن الذي أثبته وأضافه إليه الدعوة، والذي نفى عنه هداية التوفيق وشرح الصدور ؛ وهو نور يقذف في القلب فيحيا به القلب ؛ كما قال تعالى :﴿ أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس ﴾ ( الأنعام : ١٢٢ ). ﴿ وهو أعلم ﴾ أي : عالم ﴿ بالمهتدين ﴾ أي : الذين قد هيأهم لتطلب الهدى عند خلقه لهم سواء كانوا من أهل الكتاب أم من العرب أقارب كانوا أم أباعد.
ثم حكى الله تعالى عن كفار قريش شبهة تتعلق بأحوال الدنيا بقوله تعالى :﴿ وقالوا إن نتبع الهدى ﴾ أي : الإسلام فنوحد الله تعالى من غير إشراك ﴿ معك ﴾ وأنت على ما أنت عليه من مخالفة الناس ﴿ نتخطف ﴾ أي : من أيّ خاطف أرادنا لأنا نصير قليلاً في كثير من غير نصير ﴿ من أرضنا ﴾ كما تتخطف العصافير لمخالفة كافة العرب لنا وليس لنا نسبة إلى كثرتهم ولا قوّتهم فيسرعوا إلينا فيتخطفونا، أي : يتقصدون خطفنا واحداً واحداً فإنه لا طاقة لنا على إدامة الاجتماع وأن لا يشذ بعضنا عن بعض.
قال المبرد : والخطف الانتزاع بسرعة نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا لنعلم أن الذي تقوله حق ولكنا إن اتبعناك على دينك وخالفنا العرب بذلك وإنما نحن أكلة رأس خفنا أن تخرجنا العرب من أرضنا مكة، ثم ردّ الله تعالى عليهم هذه الشبهة وألقمهم الحجر بقوله تعالى :﴿ أو لم نمكن ﴾ أي : غاية التمكين ﴿ لهم ﴾ أي : في أوطانهم ومحلّ سكناهم بما لنا من القدرة ﴿ حرماً آمنا ﴾ أي : ذا أمن يأمن فيه كل خائف حتى الطير من كواسرها والوحش من جوارحها حتى إن سيل الحلّ لا يدخل الحرم بل إذا وصل إليه عدل عنه، وروي أنّ مكة كانت في الجاهلية لا يعرضها ظلم ولا بغي ولا يبغي فيها أحد إلا أخرجته وكان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه فيها فلا يهيجه ولا يتعرّض له بسوء، وروى الأزرقي في تاريخ مكة عن حويطب بن عبد العزى قال : كان في الكعبة حلق يدخل الخائف يده فيها فلا يريبه أحد فجاء خائف ليدخل يده فاجتذبه رجل فشلت يده فلقد رأيته في الإسلام وإنه لأشلّ.
وعن ابن عباس قال : أخذ رجل ذود ابن عمّ له فأصابه في الحرم فقال : ذودي فقال اللص : كذبت قال فاحلف فحلف عند المقام فقام ربّ الذود بين الركن والمقام باسطاً يديه يدعو فما برح مقامه يدعو حتى ذهب عقل اللص وجعل يصيح بمكة مالي ولفلان رب الذود فبلغ ذلك عبد المطلب فجمع الذود ودفعه إلى المظلوم فخرج به وبقي الآخر حتى وقع من جبل فتردّى فأكلته السباع.
وعن ابن جريج : أنّ غير قريش من العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا إن أعارتهم قريش ثياباً فجاءت امرأة لها جمال فطافت عريانة فرآها رجل فأعجبته فدخل فطاف إلى جنبها فأدنى عضده من عضدها فالتزقت عضده بعضدها فخرجا من المسجد هاربين فزعين على وجوههما لما أصابهما من العقوبة فلقيهما شيخ من قريش فأفتاهما أن يعودا إلى المكان الذي أصابا فيه الذنب فيدعوان ويخلصان أن لا يعودا فعادا ودعوا وأخلصا النية فافترقت أعضادهما فذهب كل واحد منهما في ناحية.
وعن عبد العزيز بن رواد أنّ قوماً انتهوا إلى ذي طوى فإذا ظبي قد دنا منهم فأخذ رجل منهم بقائمة من قوائمه فقال له أصحابه : ويحك أرسله فجعل يضحك وأبى أن يرسله فبعر الظبي وبال ثم أرسله فناموا في القائلة ثم انتبهوا فإذا بحية متطوّقة على بطن الرجل الذي أخذ الظبي فلم تنزل الحية عنه حتى كان منه من الحدث مثل ما كان من الظبي.
وعن مجاهد قال : دخل قوم مكة تجاراً من الشام في الجاهلية فنزلوا ذا طوى فاختبزوا ملة لهم ولم يكن معهم إدام فرمى رجل منهم ظبية من ظباء الحرم وهي حولهم ترعى فقاموا إليها فسلخوها وطبخوها ليأتدموا بها فبينما قدرهم على النار يغلي لحمه إذ خرجت من تحت القدر عنق من النار عظيمة فأحرقت القوم جميعاً ولم تحرق ثيابهم ولا أمتعتهم.
وعن أيوب بن موسى أنّ امرأة في الجاهلية كان معها ابن عمّ لها صغير فقالت له : يا بني إني أغيب عنك وإني أخاف أن يظلمك أحد فإن جاءك ظالم بعدي فإنّ لله بمكة بيتاً سيمنعك فجاءه رجل فاسترقه فلما رأى الغلام البيت عرفه بالصفة فنزل يشتد حتى تعلق بالبيت فجاءه سيده فمدّ يده إليه ليأخذه فيبست يده فمدّ الأخرى فيبست فاستفتى فأفتي أن ينحر عن كل واحدة من يديه بدنة ففعل فأطلقت يداه وترك الغلام وخلى سبيله.
وعن أبي ربيع بن سالم الكلاعي أنّ رجلاً من كنانة بن هذيل ظلم ابن عمّ له فخوّفه بالدعاء في الحرم فقال هذه ناقتي فلانة اركبها فاذهب إليه فاجتهد في الدعاء في الحرم فجاء في الحرم في الشهر الحرام فقال اللهمّ إني أدعوك جاهداً مضطرّاً على ابن عمي فلان ترميه بداء لا دواء له ثم انصرف فوجد ابن عمه قد رمي في بطنه فصار مثل الزق فما زال ينتفخ حتى انشق.
وعن عمر رضي الله عنه أنه سأل رجلاً من بني سليم عن ذهاب بصره فقال يا أمير المؤمنين كنا بني ضبعاء عشرة وكان لنا ابن عمّ فكنا نظلمه فكان يذكرنا الله والرحم فلما رأى أنا لا نكف عنه انتهى إلى الحرم في الأشهر الحرم فجعل يرفع يديه ويقول :
لا همّ أدعوك دعاء جاهداً اقتل بني ضبعاء إلا واحداً
ثم اضرب الرجل ودعه قاعداً أعمى إذا قيد يعيي القائداً
قال فمات أخوتي التسعة في تسعة أشهر في كل شهر واحد وبقيت أنا فعميت ورماني الله عز وجل في رجلي فليس يلائمني قائد فقال عمر رضى الله تعالى عنه جعل الله هذا في الجاهلية إذ لا دين حرمة حرمها وشرفها ليرجع الناس عن انتهاك ما حرم مخافة تعجيل العقوبة فلما جاء الدين صار التوعد للساعة ويستجيب الله تعالى لمن يشاء فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين وإنما أكثرت من هذه الحكايات ليكون الداخل للحرم على حذر فإنّ الله تعالى حماه ومكَّن أهله في الحرم الذي أمنَّه بحرمة البيت وأمن قطانه بحرمته وكانت العرب في الجاهلية حولهم يتغاورون ويتناجدون وهم آمنون في حرمهم لا يخافون وبحرمة البيت هم قارّون بواد غير ذي زرع والثمرات والأرزاق تجبى إليهم كما قال تعالى :﴿ يجبى ﴾ أي : يجمع ويحمل ﴿ إليه ﴾ أي : خاصة دون غيره من جزيرة العرب ﴿ ثمرات كل شيء ﴾ من النبات الذي بأرض العرب من ثمر البلاد الحارة كالبسر والرطب والنبق، والباردة كالعنب والتفاح والرمّان والخوخ، فإذا خولهم الله تعالى ما خوّلهم من الأمن والرزق بحرمة البيت وحدها وهم كفرة عبدة أصنام فكيف يستقيم أن يعرّضهم للخوف والتخطف ويسلبهم الأمن إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام وإسناد الأمن إلى أهل الحرم حقيقة وإلى الحرم مجاز.
تنبيه : معنى الكلية هنا الكثرة كقوله تعالى :﴿ وأوتيت من كل شيء ﴾ ( النمل : ٢٣ )
ولكن في تعبيره بالمضارع وما بعده إشارة إلى الاستمرار وأنه يأتي إليه بعد ذلك من كل ما في الأرض من المال ما لم يخطر لأحد منهم في بال، وقرأ نافع بالتاء الفوقية، والباقون بالياء التحتية، وأمال حمزة والكسائي محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح، ثم إنه تعالى بين أنّ الرزق من عنده بقوله تعالى :﴿ رزقاً من لدنا ﴾ أي : فلا صنع لأحد فيه بل هو محض تفضل.
تنبيه : انتصاب رزقاً على المصدر من معنى يجبى أو الحال من ثمرات لتخصيصها بالإضافة كما تنصب عن النكرة المخصصة وإن جعلته اسماً للمرزوق انتصب على الحال من ثمرات ﴿ ولكن أكثرهم ﴾ أي : أهل مكة وغيرهم ممن لا هداية له ﴿ لا يعلمون ﴾ أي : ليس لهم قابلية للعلم حتى يعلموا أنا نحن الفاعلون لذلك بل هم جهلة لا يتفطنون له ولا يتفكرون ليعلموا، وقيل : إنه متعلق بقوله تعالى :﴿ من لدنا ﴾ أي : قليل منهم يتدبرون فيعلمون أنّ ذلك رزق من عند الله إذ لو علموا لما خافوا غيره.
ثم بين تعالى أنّ الأمر بالعكس فإنهم أحقِّاء بأن يخافوا من بأس الله تعالى على ما هم عليه بقوله تعالى :﴿ وكم أهلكنا من قرية ﴾ أي : من أهل قرية وأشار إلى سبب الإهلاك بقوله تعالى :﴿ بطرت معيشتها ﴾ أي : وقع منها البطر في زمن عيشها الرخيّ الواسع فكان حالهم كحالكم في الأمن وإدرار الرزق فلما بطروا معيشتهم أهلكناهم، ومعنى بطرهم لها قال عطاء : أنهم أكلوا رزق الله وعبدوا غيره، وقيل : البطر سوء احتمال الغنى وهو أن لا يحفظ حق الله تعالى فيه.
تنبيه : انتصاب معيشتها إما بحذف الجار واتصال الفعل كما في قوله تعالى :﴿ واختار موسى قومه ﴾ ( الأعراف : ١٥٥ ) أو بتقدير حذف ظرف الزمان وأصله بطرت أيام معيشتها، وإما بتضمين بطرت معنى كفرت أو خسرت، أو على التمييز، أو على التشبيه بالمفعول به وهو قريب من سفه نفسه ﴿ فتلك مساكنهم ﴾ خاوية ﴿ لم تسكن من بعدهم ﴾ بعد أن طال ما تعالوا فيها ونمَّقوها وزخرفوها وزفوا فيها الأبكار وفرحوا بالأعمال الكبار ﴿ إلا ﴾ سكوناً ﴿ قليلاً ﴾ قال ابن عباس : لم يسكنها إلا المسافرون ومارّوا الطريق يوماً أو ساعة من ليل أو نهار ثم تصير يباباً موحشة كالقفار بعد أن كانت متمنعة الفناء ببيض الصفاح وسمر القنا، قال الزمخشري : ويحتمل أنّ شؤم معاصي المهلكين بقي في أثره ديارهم فكل من سكنها من أعقابهم لم يبق فيها إلا قليلاً ﴿ وكنا ﴾ أي : أزلاً وأبداً ﴿ نحن ﴾ لا غيرنا ﴿ الوارثين ﴾ منهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرّف تصرّفهم في ديارهم وسائر متصرّفاتهم قال القائل :
تتخلف الآثار عن أصحابها حيناً ويدركها الفناء فتتبع
﴿ وما كان ربك ﴾ أي : المحسن إليك بالإحسان بإرسالك إلى الناس ﴿ مهلك القرى ﴾ أي : هذا الجنس كله بجرم وإن عظم ﴿ حتى يبعث في أمّها ﴾ أي : أعظمها وأشرفها ﴿ رسولاً ﴾ لأنّ غيرها تبع لها ولم يشترط كونه من أمها فقد كان عيسى عليه السلام من الناصرة وبعث إلى بيت المقدس ﴿ يتلوا عليهم ﴾ أي : أهل القرى كلهم ﴿ آياتنا ﴾ الدالة على ما ينبغي لنا من الحكمة وبما لها من الإعجاز على نفوذ الكلمة وباهر العظمة إلزاماً للحجة وقطعاً للمعذرة لئلا يقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً، ولذلك لما أردنا عموم الخلق بالرسالة جعلنا الرسول وهو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء من أم القرى كلها وهي مكة البلد الحرام ﴿ وما كنا مهلكي القرى ﴾ أي : كلها بعد الإرسال ﴿ إلا وأهلها ظالمون ﴾ أي : عريقون في الظلم بالعصيان بترك ثمرات الإيمان وتكذيب الرسل.
﴿ وما أوتيتم من شيء ﴾ أي : من أسباب الدنيا ﴿ فمتاع ﴾ أي : فهو متاع ﴿ الحياة الدنيا ﴾ تتمتعون بها أيام حياتكم وليس يعود نفعه إلى غيرها فهو آيل إلى فساد وإن طال زمن التمتع به ﴿ وزينتها ﴾ أي : فهو زينة الحياة الدنيا التي هي كلها فضلاً عن زينتها إلى فناء فليست هي ولا شيء بأزلي ولا أبدي ﴿ وما عند الله ﴾ أي : الملك الأعلى وهو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ﴿ خير ﴾ على تقدير مشاركة ما في الدنيا له فالخيرية في ظنكم لأنّ الذي عنده أطيب وأكثر وأشهى وأزهى ﴿ و ﴾ هو مع ذلك كله ﴿ أبقى ﴾ لأنه وإن شارك متاع الدنيا في أنه لم يكن أزلياً فهو أبدي وهذا جواب عن شبههم فإنهم قالوا تركنا الدين لئلا تفوتنا الدنيا فبين تعالى أنّ ذلك خطأ عظيم لأنّ ما عند الله خير وأبقى من وجهين : الأوّل : أنّ المنافع هناك أعظم، والثاني : أنها خالصة عن الشوائب ومنافع الدنيا مشوبة بالمضار بل المضار فيها أكثر، وأما أنها أبقى فلأنها دائمة غير منقطعة ومن قابل المتناهي بغير المتناهي كان عدماً فظهر بهذا أنّ منافع الدنيا لا نسبة لها إلى منافع الآخرة فلا جرم نبه على ذلك بقوله تعالى :﴿ أفلا يعقلون ﴾ أنّ الباقي خير من الفاني فيستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير فمن لم يرجِّح منافع الآخرة على منافع الدنيا فإنه يكون خارجاً عن حدّ العقل، قال ابن عادل ورحم الله الشافعيّ حيث قال : من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله تعالى لأنّ أعقل الناس من أعطى القليل وأخذ الكثير وما هم إلا المشتغلون بالطاعة، فكأنه رحمه الله تعالى إنما أخذه من هذه الآية انتهى، وقرأ أبو عمرو بالياء وهو أبلغ في الموعظة لاشتماله على الالتفات للإعراض به عن خطابهم، والباقون بالتاء على الخطاب جرياً على ما تقدّم.
﴿ أفمن وعدناه ﴾ على عظمتنا في الغنى والقدرة والصدق ﴿ وعداً حسناً ﴾ لا شيء أحسن منه في موافقته للأمنية وبقائه وهو الجنة فإن حسن الوعد بحسن الموعود ولذلك سمى الله تعالى الجنة بالحسنى ﴿ فهو لاقيه ﴾ أي : مدركه لامتناع الخلف في وعده ولذلك عطفه بالفاء المعطية معنى السببية ﴿ كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ﴾ أي : الذي هو مشوب بالآلام مكدر بالمتاعب مستعقب للتحسر على الانقطاع، وعن ابن عباس أن الله تعالى خلق الدنيا وجعل أهلها ثلاثة أصناف : المؤمن والمنافق والكافر فالمؤمن يتزوّد والمنافق يتزين والكافر يتمتع ﴿ ثم هو ﴾ مع ذلك كله ﴿ يوم القيامة ﴾ الذي هو يوم التغابن من خسر فيه لم يربح أصلاً ﴿ من المحضرين ﴾ أي : المقهورين على الحضور إلى مكان يود لو افتدى منه بملء الأرض ذهباً لم يقبل منه، قال قتادة يحضره المؤمن والكافر، قال مجاهد : نزلت في النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي جهل، وقال محمد بن كعب نزلت في حمزة وعلي وفي أبي جهل، وقال السدّي : نزلت في عمار والوليد بن المغيرة.
تنبيه : ثم لتراخي حال الإحضار عن حال التمتع في الزمان أو الرتبة، وقرأ ثم هو قالون والكسائي بسكون الهاء، والباقون بالضم.
﴿ ويوم ﴾ أي : واذكر يوم ﴿ يناديهم ﴾ أي : ينادي الله هؤلاء الذين يضلون الناس ويصدّون عن سبيل الله ﴿ فيقول ﴾ أي : الله تعالى ﴿ أين شركائي ﴾ من الأوثان وغيرهم ثم بين أنهم لا يستحقون هذا الاسم بقوله تعالى :﴿ الذين كنتم ﴾ أي : كوناً عريقين فيه ﴿ تزعمون ﴾ أنها تشفع ليدفعوا عنكم وعن أنفسهم فيخلصكم من هذا الذي نزل بكم.
تنبيه : تزعمون مفعولاه محذوفان أي : تزعمونهم شركائي.
﴿ قال الذي حق ﴾ أي : ثبت ووجب ﴿ عليهم القول ﴾ أي : بدخول النار وهم رؤوس الضلالة وهو قوله تعالى :﴿ لأملأن جهنم من الجِنّة والناس أجمعين ﴾ ( هود، ١١٩ ) وغيره من آيات الوعيد وقولهم ﴿ ربنا هؤلاء ﴾ إشارة للإتباع ﴿ الذين أغوينا ﴾ أي : أوقعنا الإغواء وهو الإضلال بهم صفته والعائد حذف وقولهم ﴿ أغويناهم ﴾ أي : فغووا باختيارهم ﴿ كما غوينا ﴾ أي : نحن فهؤلاء مبتدأ والذين أغوينا صفته والراجع إلى الموصول محذوف وأغويناهم الخبر والكاف صفة مصدر محذوف تقديره أغويناهم فغووا غياً مثل ما غوينا يعنون أنا لم نغو إلا باختيارنا لا أنّ فوقنا مغوين أغوونا بقسر منهم وإلجاء، أو دعونا إلى الغي وسوّلوه لنا فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم لأنّ إغواءنا لهم لم يكن إلا وسوسة وتسويلاً لا قسراً وإلجاء فلا فرق إذاً بين غينا وغيهم وإن كان تسويلنا لهم داعياً إلى الكفر فقد كان في مقابلته دعاء الله تعالى لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل وبما بعث إليهم من الرسل وأنزل إليهم من الكتب المشحونة بالوعد والوعيد والمواعظ والزواجر وناهيك بذلك صارفاً عن الكفر وداعياً إلى الإيمان، وهذا معنى ما حكاه الله تعالى عن الشيطان :﴿ إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ﴾ ( إبراهيم، ٢٢ ).
تنبيه : اعترض أبو علي على الزمخشريّ في هذا الإعراب بأن الخبر ليس فيه زيادة فائدة على ما في صفته، فإن قلت قد وصل الخبر بقوله كما غوينا وفيه زيادة قلت الزيادة بالظرف لا تصيِّره أصلاً في الجملة لأنّ الظروف فضلات، ثم إنه أعرب هو هؤلاء مبتدأ والذين أغوينا خبره وأغويناهم مستأنف، وأجاب أبو البقاء وغيره بأن الظروف قد تلزم كقولك زيد عمرو قائم في داره ثم أشاروا بقولهم ﴿ تبرأنا إليك ﴾ أي : من أمورهم إلى أنه لا لوم علينا في الحقيقة بسببهم فهو تقرير للجملة الأولى ولهذا خلت عن العاطف وعلى تقدير إغوائنا لهم ﴿ ما كانوا إيانا ﴾ أي : خاصة ﴿ يعبدون ﴾ بل كانوا يعبدون الأوثان بما زينت لهم أهواؤهم وإن كان لنا فيه نوع دعاء إليه وحث عليه فأقل ما نريد أن يوزع العذاب على من كان سبباً في ذلك، وقيل ما مصدرية متصلة بتبرأنا أي : تبرأنا من عبادتهم إيانا.
ولما لم يلتفت إلى هذا الكلام منهم بل عدّ عدماً لأنه لا طائل تحته أشير إلى الإعراض عنه لأنه لا يستحق جواباً كما قيل رب قول جوابه السكوت، بقوله تعالى :﴿ وقيل ﴾ أي : ثانياً للأتباع تهكماً بهم وإظهاراً لعجزهم الملزوم لتحيرهم وعظم تأسفهم وذكر ذلك بصيغة المجهول للاستهانة بهم وأنهم من الذل والصغار بحيث يجيبون كل آمر كائناً من كان ﴿ ادعوا ﴾ أي : كلكم ﴿ شركاءكم ﴾ أي : الذين ادعيتم جهلاً شركتهم ليدفعوا عنكم العذاب ﴿ فدعوهم ﴾ تعللاً بما لا يغني وتمسكاً بما يتحقق أنه لا يجدي لفرط الغلبة واستيلاء الحيرة والدهشة ﴿ فلم يستجيبوا لهم ﴾ أي : لم يجيبوهم لعجزهم عن الإجابة والنصرة، قال ابن عادل : والأقرب أنّ هذا على سبيل التقريع لأنهم يعلمون أنه لا فائدة في دعائهم ﴿ ورأوا ﴾ أي : هم ﴿ العذاب ﴾ عالمين بأنه مواقعهم لا مانع له عنهم فكان الحال حينئذ مقتضياً لأن يقال من كل من يهواهم ﴿ لو أنهم كانوا يهتدون ﴾ أي : تحصل منهم هداية ساعة من الدهر تأسفاً على أمرهم وتمنياً لخلاصهم ولو أن ذلك كان في طاقتهم وجواب لو محذوف أي : لنجوا من العذاب ولما رأوه أصلاً، قال الضحاك ومقاتل : يعني المتبوع والتابع يرون العذاب ولو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما أبصروه في الآخرة.
﴿ ويوم يناديهم ﴾ أي : الله تعالى وهم بحيث يسمعهم الداعي وينفذهم البصر قد برزوا لله جميعاً من كان منهم عاصياً ومن كان منهم مطيعاً في صعيد واحد قد أخذنا بأنفاسهم الزحام وتراكب الأقدام على الأقدام وألجمهم العرق وعمهم الغرق ﴿ فيقول ماذا ﴾ أي : أوضحوا وعينوا جوابكم الذي ﴿ أجبتم المرسلين ﴾ إليكم.
تنبيه : ويوم معطوف على الأوّل فإنه تعالى يسأل عن إشراكهم به ثم تكذيبهم الأنبياء.
ولما لم يكن لهم قدم صدق ولا سابق حق بما أتتهم الرسل به من الحجج لم يكن لهم جواب إلا السكوت وهو المراد بقوله تعالى :﴿ فعميت ﴾ أي : خفيت وأظلمت ﴿ عليهم الأنباء ﴾ أي : الأخبار المنجية ﴿ يومئذ ﴾ التي هي من العظمة بحيث يحق لها في ذلك اليوم أن تذكر.
تنبيه : الأصل فعموا عن الأنباء لكنه عكس مبالغة ودلالة على أن ما يحضر الذهن إنما يفيض ويرد عليه من خارج وإذا أخطأه لم يكن له حيلة إلى استحضاره وإذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام في ذلك اليوم يفوِّضون إلى علم الله تعالى فما ظنك بالضلال فلهذا قال تعالى :﴿ فهم لا يتساءلون ﴾ أي : لا يسأل بعضهم بعضاً عن الجواب لفرط الدهشة أو للعلم بأنه مثله هذا حال من أصر على كفره.
﴿ فأما من تاب ﴾ عنه وقوله تعالى :﴿ وآمن ﴾ تصريح بما علم التزاماً فإن الكفر والإيمان ضدّان لا يمكن ترك أحدهما إلا بأخذ الآخر وقوله تعالى :﴿ وعمل صالحاً ﴾ لأجل أن يكون مصدقاً لدعواه باللسان ﴿ فعسى ﴾ إذا فعل ذلك ﴿ أن يكون من المفلحين ﴾ عند الله وعسى تحقيق على عادة الكرام، أو ترجّ من التائب بمعنى فليتوقع أن يفلح.
ولما كان كأنه قيل ما لأهل القسم الأوّل لا يتوخون النجاة من ضيق ذلك البلاء إلى رحب هذا الرجاء وكان الجواب ربك منعهم من ذلك، وما له لم يقطع لهذا القسم بالفلاح كما قطع لأهل القسم الأوّل بالشقاء كان الجواب ﴿ وربك يخلق ما يشاء ويختار ﴾ لا موجب عليه ولا مانع له ﴿ ما كان لهم الخيرة ﴾ أي : أن يفعلوا يفعل لهم كل ما يختارونه.
تنبيه : الخيرة بمعنى التخير كالطيرة بمعنى التطير، وظاهره نفي الاختيار عنهم رأساً، قال البيضاوي والأمر كذلك عند التحقيق فإن اختيار العبيد مخلوق منوط بدواع لا اختيار لهم فيها، وقال الرازي في اللوامع : وفيه دليل على أنّ العبد في اختياره غير مختار فلهذا أهل الرضا حطوا الرحال بين يدي ربهم وسلموا الأمور إليه بصفاء التفويض يعني فإن أمرهم أو نهاهم بادروا وإن أصابهم سهام المصائب العظام صابروا وإن أعزهم أعزوا أنفسهم وأكرموا وإن أذلهم رضوا وسلموا فلا يرضيهم إلا ما يرضيه ولا يريدون إلا ما يريده فيمضيه، قال القائل :
وقف الهوى لي حيث أنت فليس لي متأخر عنه ولا متقدّم
أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمني اللوّم
وأهنتني فأهنت نفسي صاغراً ما من يهون عليك ممن يكرم
وقيل : ما موصولة مفعول ليختار والراجع محذوف، والمعنى ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة أي : الخير والصلاح ﴿ سبحان الله ﴾ تنزيهاً له أن يزاحمه أحد أو ينازع اختياره ﴿ وتعالى ﴾ أي : علا علواً لا تبلغ العقول توجيه كنه مداه ﴿ عما يشركون ﴾ أي : عن إشراكهم أو مشاركة ما يشاركونه به.
ولما كانت القدرة لا تتم إلا بالعلم قال تعالى :﴿ وربك ﴾ أي : المحسن إليك المتولي أمر تربيتك ﴿ يعلم ما تكنّ ﴾ أي : تخفي وتستر ﴿ صدورهم ﴾ من كونهم يؤمنون على تقدير أن تأتيهم آيات مثل آيات موسى عليه السلام، أو لا يؤمنون ومن كون ما أظهر من أظهر الإيمان بلسانه خالصاً أو مشوباً، ومن كونهم يخفون عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم ﴿ وما يعلنون ﴾ أي : يظهرون من ذلك كل ذلك لديه سواء فلا يكون لهم مراد إلا يخلقه، فإن قيل : هلا اكتفى بقوله تعالى :﴿ ما تكنّ صدورهم ﴾ عن قوله :﴿ وما يعلنون ﴾ أجيب : بأنّ علم الخفي لا يستلزم علم الجليّ إما لبعد أو لغط أو اختلاط أصوات يمنع تمييز بعضه عن بعض أو غير ذلك.
ولما كان علمه تعالى بذلك إنما هو لكونه إلهاً واحداً فرداً صمداً وكان غيره لا يعلم من علمه إلا ما علمه قال تعالى :﴿ وهو الله ﴾ أي : المستأثر بالإلهية الذي لا سميّ له الذي لا يحيط الواصفون بكنه عظمته، ثم شرح معنى الاسم الأعظم بقوله تعالى :﴿ لا إله إلا هو ﴾ وهذا تنبيه على كونه قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات منزهاً عن النقائص والآفات، ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿ له ﴾ أي : وحده ﴿ الحمد ﴾ أي : الإحاطة بأوصاف الكمال ﴿ في الأولى والآخرة ﴾ لأنه المولي للنعم كلها عاجلها وآجلها يحمده المؤمنون في الآخرة كما حمدوه في الدنيا، فإن قيل : الحمد في الدنيا ظاهر فما الحمد في الآخرة ؟ أجيب : بأنهم يحمدونه بقولهم ﴿ الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ﴾ ( فاطر : ٣٤ ) ﴿ الحمد لله الذي صدقنا وعده ﴾ ( الزمر : ٧٤ ) ﴿ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ﴾ ( يونس : ١٠ ) والتوحيد هناك على وجه اللذة لا الكلفة، وفي الحديث «يلهمون التسبيح والتقديس » ﴿ وله الحكم ﴾ أي : القضاء النافذ في كل شيء وقال ابن عباس : حكم لأهل الطاعة بالمغفرة ولأهل المعصية بالشقاء ﴿ وإليه ﴾ لا إلى غيره ﴿ ترجعون ﴾ أي : بأيسر أمر يوم النفخ في الصور لبعثرة ما في القبور، بالبعث والنشور مع أنكم الآن راجعون في جميع أحكامكم إليه، ومقصورون عليه إن شاء أمضاها وإن أراد ردّها ولواها ففي الآية غاية التقوية لقلوب المطيعين ونهاية الزجر والردع للمتمردين.
ثم بين سبحانه وتعالى بعض ما يجب أن يحمد عليه مما لا يقدر عليه سواه بقوله تعالى :﴿ قل ﴾ أي : يا أفضل الخلق لأهل مكة ﴿ أرأيتم ﴾ أي : أخبروني ﴿ إن جعل الله ﴾ أي : الملك الأعلى ﴿ عليكم الليل ﴾ أي : الذي به اعتدال حرّ النهار ﴿ سرمداً ﴾ أي : دائماً ﴿ إلى يوم القيامة ﴾ لا نهار معه ﴿ من إله غير الله ﴾ أي : العظيم الشأن الذي لا كفء له ﴿ يأتيكم بضياء ﴾ أي : بنهار تطلبون فيه المعيشة ﴿ أفلا تسمعون ﴾ أي : ما يقال لكم سماع إصغاء وتدبر.
﴿ قل أرأيتم إن جعل الله ﴾ أي : الذي له الأمر كله ﴿ عليكم النهار ﴾ أي : الذي توازن حرارته برطوبة الليل فيتمّ بها صلاح النبات وغير ذلك من جميع المقدّرات ﴿ سرمداً ﴾ أي : دائماً ﴿ إلى يوم القيامة ﴾ لا ليل فيه ﴿ من إله غير الله ﴾ أي : الجليل الذي ليس له مثل ﴿ يأتيكم بليل ﴾ أي : ينشأ منه ظلام ﴿ تسكنون فيه ﴾ استراحة عن متاعب الأشغال، فإن قيل هلا قيل بنهار تتصرفون فيه كما قيل بليل تسكنون فيه ؟ أجيب : بأنه تعالى ذكر الضياء وهو ضوء الشمس لأنّ المنافع التي تتعلق به متكاثرة ليس التصرف في المعايش وحده والظلام ليس بتلك المنزلة ومن ثمّ قرن بالضياء ﴿ أفلا تسمعون ﴾ لأن السمع يدرك ما لا يدرك البصر من ذلك منافعه ووصف فوائده وقرن بالليل ﴿ أفلا تبصرون ﴾ لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون، قال البقاعي : فالآية من الاحتباك ذكر الضياء أولاً دليلاً على حذف الظلام ثانياً والليل والسكون ثانياً دليلاً على حذف النهار والانتشار أوّلاً.
ولما كان التقدير ومن رحمته جعل لكم السمع والأبصار لتتدبروا آياته وتبصروا في مصنوعاته عطف عليه ﴿ ومن رحمته ﴾ أي : التي وسعت كل شيء لا من غيرها من خوف أو رجاء أو تعلق غرض من الأغراض ﴿ جعل لكم الليل والنهار ﴾ آيتين عظيمتين دبر فيها وبهما جميع مصالحكم فجعل آية الليل ﴿ لتسكنوا فيه ﴾ فلا تسعوا فيه لمعاشكم ﴿ و ﴾ جعل آية النهار مبصرة ﴿ لتبتغوا من فضله ﴾ بأن تسعوا في معاشكم بجهدكم، قال البقاعي : فالآية من الاحتباك ذكر أوّلاً السكون دليلاً على حذف السعي في المعاش ثانياً وذكر الابتغاء من فضله ثانياً دليلاً على حذف عدم السعي في المعاش أوّلاً ﴿ ولعلكم تشكرون ﴾ أي : وليكون حالكم حال من يرجى منه الشكر لما يتجدد لكم من تقلبهما من النعم المتوالية التي لا يحصرها إلا خالقها، وأما الآخرة فلما كانت غير مبنية على الأسباب وكانت الجنة لا تعب فيها بوجه كان لا حاجة فيها لليل.
﴿ ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ﴾ تقريع بعد تقريع للإشعار بأنه لا شيء أجلب لغضب الله تعالى من الإشراك به كما أنه لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده، اللهمّ فكما أدخلتنا في أهل توحيدك فأدخلنا في الناجين من وعيدك ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم يا أرحم الراحمين، ويحتمل أن يكون الأوّل لتقرير فساد رأيهم والثاني لبيان أنه لم يكن عن سند وإنما كان محض تَشَهِّ وهوى، أو أنه ذكر الثاني كما قال الجلال المحلي ليبنى عليه.
﴿ ونزعنا ﴾ أي : أخرجنا وأفردنا بقوّة وسطوة ﴿ من كل أمة شهيداً ﴾ أي : وهو رسولهم يشهد عليهم بما قالوه ﴿ فقلنا ﴾ أي : فتسبب عن ذلك أن قلنا للأمم ﴿ هاتوا برهانكم ﴾ أي : دليلكم القطعي الذي فزعتم في الدنيا إليه وعوّلتم في شرككم عليه كما هو شأن ذوي العقول أنهم لا يبنون شيئاً على غير أساس ﴿ فعلموا ﴾ أي : بسبب هذا السؤال لمَّا اضطروا ولم يجدوا لهم سنداً ﴿ أن الحق ﴾ في الإلهية ﴿ لله ﴾ أي : الملك الذي له الأمر كله لا يشاركه فيه أحد ﴿ وضل عنهم ﴾ أي : غاب غيبة الضائع ﴿ ما كانوا يفترون ﴾ أي : يقولونه قول الكاذب المتعمد للكذب لكونه لا دليل عليه ولا شبهة للغلط فيه.
﴿ إن قارون ﴾ ويسمى في التوراة تورح ﴿ كان من قوم موسى ﴾ قال أكثر المفسرين كان ابن عمه لأنّ قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب وموسى بن عمران بن قاهث بن لاوي وقال ابن إسحاق كان قارون عم موسى فكان أخا عمران وهما ابنا يصهر ولم يكن في بني إسرائيل ؟ اقرأ للتوراة من قارون ولكنه نافق كما نافق السامريّ وكان يسمى النور لحسن صورته.
وعن ابن عباس : كان ابن خالته ﴿ فبغى عليهم ﴾ أي : تجاوز الحدّ في احتقارهم بما خوّلناه فيه، قيل كان عاملاً لفرعون على بني إسرائيل وكان يبغي عليهم ويظلمهم، وقال قتادة : بغى عليهم بكثرة المال ولم يرع لهم حق الإيمان بل استخف بالفقراء.
وقال الضحاك : بغى عليهم بالشرك، وقال شهر بن حوشب زاد في طول ثيابه شبراً، روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جرّ ثوبه خيلاء »، وقال القفال : طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده، وقال ابن عباس تكبر عليهم وتجبر، وقال الكلبيّ حسد هارون عليه السلام على الحبورة.
روي أهل الأخبار : أن قارون كان أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون وأجملهم وأغناهم وكان حسن الصوت فبغى وطغى وكان أوّل طغيانه وعصيانه أنّ الله تعالى أوحى إلى موسى أن يأمر قومه أن يعلقوا في أرديتهم خيوطاً أربعة في كل طرف خيطاً أخضر كلون السماء يذكرون إذا نظروا إليها السماء ويعلمون أني منزل منها كلامي فقال موسى : عليه السلام يا رب افلا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضراً فإنّ بني إسرائيل تحقر هذه الخيوط، فقال الله تعالى : يا موسى إنّ الصغير من أمري ليس بصغير فإن لم يطيعوني في الأمر الصغير لم يطيعوني في الأمر الكبير فدعاهم موسى عليه السلام وقال : إنّ الله تعالى يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطاً خضراً كلون السماء لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها ففعل بنو إسرائيل ما أمرهم به واستكبر قارون ولم يفعل وقال إنما يفعل هذا الأرباب بعبيدهم لكي يتميزوا عن غيرهم وكان هذا بدء عصيانه وبغيه. ولما قطع الله تعالى لبني إسرائيل البحر وأغرق فرعون جعل الحبورة لهارون عليه الصلاة والسلام فحصلت له النبوّة والحبورة وكان له القربان والذبح وكان لموسى عليه السلام الرسالة فوجد قارون لذلك في نفسه وقال يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ولست في شيء لا أصبر أنا على هذا فقال موسى : عليه السلام والله ما صنعت ذلك لهارون بل الله تعالى جعلها له فقال قارون : والله لا أصدقك حتى تريني بيانه فجمع موسى عليه السلام رؤساء بني إسرائيل وأمرهم أن يجيء كل رجل منهم بعصا فجاؤوا بها فحزمها وألقاها موسى عليه السلام في قبة له كان يعبد الله تعالى فيها وكان ذلك بأمر الله تعالى ودعا موسى عليه السلام أن يريهم بيان ذلك فباتوا يحرسون عصيهم فأصبحت عصا هارون عليه السلام وقد اهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز فقال موسى عليه السلام لقارون : ألا ترى ما صنع لهارون ؟ عليه السلام فقال : والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر فاعتزل قارون ومعه ناس كثير، وولي هارون عليه السلام الحبورة وهي رياسة الذبح والقربان وكانت بنو إسرائيل يأتون بهداياهم إلى هارون عليه السلام فيضعها في المذبح وتنزل نار من السماء فتأكلها، واعتزل قارون بأتباعه وكان كثير المال والتبع من بني إسرائيل فكان لا يأتي موسى عليه السلام ولا يجالسه، وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم :«أن قارون كان من السبعين المختارة الذين سمعوا كلام الله تعالى » ولما ذكر الله تعالى بغيه ذكر سببه الحقيقي بقوله تعالى :﴿ وأتيناه من الكنوز ﴾ أي : الأموال المدفونة المذخورة فضلاً عن الظاهرة التي هي بصدد الإنفاق منها لما عساه يعرض من المهمات ﴿ ما ﴾ أي : الذي أوتي شيء كثير لا يدخل تحت حصر حتى ﴿ إنّ مفاتحه ﴾ أي : مفاتح الأغلاق التي هو مدفون فيها وراء أبوابها ﴿ لتنوء ﴾ أي : تميل بجهد ومشقة بثقلها ﴿ بالعصبة ﴾ أي : الجماعة الكثيرة التي تعصب أي : يقوي بعضهم بعضاً ﴿ أولى ﴾ أي : أصحاب ﴿ القوّة ﴾ أي : تميلهم من أثقالها إياهم. تنبيه : في المبالغة بالتعبير بالكنوز والمفاتيح والنوء والعصبة الموصوفة ما يدل على أنه أوتي من ذلك ما لم يؤته أحد ممن هو في عداده وكل ذلك مما تستبعده العقول فلذلك وقع التأكيد.
واختلفوا في عدد العصبة : فقال مجاهد ما بين العشرة إلى خمسة عشر، وقال الضحاك عن ابن عباس ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقال قتادة : ما بين العشرة إلى الأربعين، وقيل أربعون رجلاً، وقيل سبعون وروي عن ابن عباس قال : كان يحمل مفاتيحه أربعون رجلاً، أقوى ما يكون من الرجال.
وقال جرير عن منصور عن خيثمة قال : وجدت في الإنجيل أن مفاتح خزائن قارون وقر ستين بغلاً ما يزيد فيها مفتاح على أصبع لكل مفتاح كنز، ويقال : كان قارون أينما ذهب يحمل معه مفاتيح كنوزه وكانت من حديد فلما أثقلت عليه جعلت من خشب فثقلت فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلاً، وفي الباء في بالعصبة : وجهان أنها للتعدية كالهمزة ولا قلب في الكلام والمعنى لتنئ المفاتح العصبة الأقوياء كما تقول أجأته وجئت به وأذهبته وذهبت به، والثاني : قال أبو عبيدة : إن في الكلام قلباً والأصل لتنوء العصبة بالمفاتح أي : لتنهض بها كقولهم عرضت الناقة على الحوض.
ولما ذكر الله تعالى بغيه ذكر وقته بقوله تعالى :﴿ إذا قال له قومه ﴾ أي : من بني إسرائيل ﴿ لا تفرح ﴾ أي : بكثرة المال فرح بطر فإن الفرح بالعرض الزائل يدل على الركون إليه وذلك يدل على نسيان الآخرة وعلى غاية الجهل وقلة التأمل بالعواقب، قال ابن عباس : كان فرحه ذلك شركاً لأنه ما كان يخاف معه عقوبة الله عز وجل ﴿ إنّ الله ﴾ أي : الذي له صفات الكمال ﴿ لا يحب ﴾ أي : لا يعامل معاملة المحب ﴿ الفرحين ﴾ أي : البطرين الأشرين الراسخين في الفرح بما يفني الذين لا يشكرون الله تعالى بما أعطاهم فإن فرحهم يدل على سقوط الهمم كما قال تعالى :﴿ ولا تفرحوا بما آتاكم ﴾ ( الحديد، ٢٣ ) وقال القائل في ذلك :
ولست بمفراح إذا الدهر سرني ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال آخر :
أشدّ الغم عندي في سرور *** تيقن عنه صاحبه انتقالا
فلا يفرح بالدنيا إلا من رضى بها واطمأن، فأما من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه مفارق ما فيه عن قريب لم تحدّثه نفسه بالفرح.
﴿ وابتغ ﴾ أي : اطلب طلباً تحمد نفسك فيه ﴿ فيما آتاك الله ﴾ أي : الملك الذي الأمر كله بيده من الغنى والثروة ﴿ الدار الآخرة ﴾ بأن تقوم بشكر الله فيما أنعم الله عليك وتنفقه في رضا الله تعالى فيجازيك بالجنة ﴿ ولا تنس ﴾ أي : ولا تترك ﴿ نصيبك من الدنيا ﴾ قال مجاهد : لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة حتى تنجو من العذاب لأنّ حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا أن يعمل للآخرة، وقال السدّيّ : بالصدقة وصلة الرحم.
وقال عليّ رضي الله تعالى عنه وكرم الله وجهه لا تنسى صحتك وقوّتك وشبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة، روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته ومن الشبيبة قبل الكبر ومن الحياة قبل الموت فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة والنار »، وعن ميمون الأزدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه «اغتنم خمساً قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك »، وقال الحسن : أمر أن يقدّم الفضل ويمسك ما يغنيه، وقال منصور بن زادان : قوتك وقوت أهلك ﴿ وأحسن ﴾ أي : أوقع الإحسان بدفع المال إلى المحاويج والإنفاق في جميع الطاعات ويدخل في ذلك الإعانة بالجاه وطلاقة الوجه وحسن اللقاء وحسن الذكر ﴿ كما أحسن الله ﴾ الجامع لصفات الكمال ﴿ إليك ﴾ بأن تعطي عطاء من لا يخاف الفقر كما أوسع الله عليك ﴿ ولا تبغ ﴾ أي : ولا ترد إرادة ما، ﴿ الفساد في الأرض ﴾ بتقتير ولا تبذير ولا تكبر على عباد الله تعالى ولا تحقير، ثم أتبع ذلك علته مؤكداً لأنّ أكثر المفسدين يبسط لهم في الدنيا وأكثر الناس يستبعد أن يبسط فيها لغير محبوب فقيل ﴿ إن الله ﴾ أي : العالم بكل شيء القدير على كل شيء ﴿ لا يحب المفسدين ﴾ أي : لا يعاملهم معاملة من يحبه، وقيل إن القائل له هذا موسى عليه السلام، وقيل مؤمنو قومه.
وكيف كان فقد جمع في هذا الوعظ ما فيه مزيد لكنه أبى أن يقبل بل زاد عليه كفر النعمة بأن ﴿ قال ﴾ أي : قارون في الجواب ﴿ إنما أوتيته ﴾ أي : هذا المال ﴿ على علم ﴾ حاصل ﴿ عندي ﴾ فإنه كان أعلم بني إسرائيل بالتوراة أي : فرآني له أهلاً ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره، وقيل هو علم الكيمياء، وقال سعيد بن المسيب : كان موسى يعلم الكيمياء فعلَّم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلَّم كالب بن يوفنا ثلثه وعلَّم قارون ثلثه فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان ذلك سبب أمواله، وقيل على علم عندي بالتصرف في التجارات والزراعات وأنواع المكاسب، ثم أجاب الله تعالى : عن كلامه بقوله تعالى :﴿ أو لم يعلم أنّ الله ﴾ أي : بما له من صفات الجلال والعظمة والكمال ﴿ قد أهلك ﴾ وقوله تعالى :﴿ من قبله من القرون ﴾ فيه تنبيه على أنه لم يتعظ مع مشاهدته للمهلكين الموصوفين مع قرب الزمان وبعده وقوله تعالى :﴿ من هو أشدّ منه قوة ﴾ أي : في البدن والمعاني من العلم وغيره والأنصار والخدم ﴿ وأكثر جمعاً ﴾ في المال والرجال آخرهم فرعون الذي شاهده في ملكه وحقق أمره يوم هلكه فيه تعجيب وتوبيخ على اغتراره بقوّته وكثرة ماله مع علمه بذلك لأنه قرأ في التوراة وكان أعلمهم بها وسمعه من حفاظ التواريخ واختلف في معنى قوله عز وجل :﴿ ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ﴾ فقال قتادة : يدخلون النار بغير سؤال ولا حساب، وقال مجاهد لا تسأل الملائكة عنهم لأنهم يعرفونهم بسيماهم وقال الحسن : لا يسألون سؤال استعلام وإنما يسألون سؤال توبيخ وتقريع، وقيل : المراد أنّ الله تعالى إذا عاقب المجرمين فلا حاجة به إلى سؤالهم عن كيفية ذنوبهم وكميتها لأنه تعالى عالم بكل المعلومات فلا حاجة إلى السؤال، فإن قيل : كيف الجمع بين هذا وبين قوله تعالى :﴿ فوربك لنسألنهم أجمعين ( ٩٢ ) عما كانوا يعملون ﴾ ( الحجر : ٩٢ ٩٣ ) أجيب : بحمل ذلك على وقتين، وقال أبو مسلم : السؤال قد يكون للمحاسبة وقد يكون للتوبيخ والتقريع وقد يكون للاستعتاب، قال ابن عادل : وأليق الوجوه بهذه الآية الاستعتاب لقوله تعالى :﴿ ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون ﴾ ( النحل، ٨٤ ) ﴿ هذا يوم لا ينطقون ( ٣٥ ) ولا يُؤذن لهم فيعتذرون ﴾ ( المرسلات : ٣٥، ٣٦ ).
﴿ فخرج ﴾ أي : فتسبب عن تجبره واغتراره بماله أن خرج ﴿ على قومه ﴾ أي : الذين نصحوه في الاقتصاد في شأنه والإكثار في الجود على إخوانه وقوله تعالى :﴿ في زينته ﴾ فيه دليل على أنه خرج بأظهر زينته وأكملها وليس في القرآن إلا هذا القدر.
والناس ذكروا وجوهاً مختلفة : فقال إبراهيم النخعي : أنه خرج هو وقومه في ثياب حمر وصفر، وقال ابن زيد : في تسعين ألفاً عليهم المعصفرات وقال مقاتل : خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب عليه الأرجوان ومعه أربعة آلاف فارس عليهم وعلى دوابهم الأرجوان ومعه ثلثمائة جارية بيض عليهنّ الحلي والثياب الحمر على البغال ولما كان كأنه قبل ماذا قال قومه له ؟ قيل :﴿ قال الذين يريدون الحياة الدنيا ﴾ منهم لسفول هممهم وقصور نظرهم على الفاني لكونهم أهل جهل وإن كان قولهم من باب الغبطة لا من باب الحسد الذي هو تمنى زوال نعمة المحسود ﴿ يا ليت لنا ﴾ أي : نتمنى تمنياً عظيماً أن نؤتى من أيّ مؤت كان وعلى أيّ وصف كان ﴿ مثل ما أوتي قارون ﴾ أي : من هذه الزينة وما تسبب عنه من العلم حتى لا نزال أصحاب أموال، ثم عظموها بقولهم مؤكدين لعلمهم أن ثم من يريد ينكر عليهم ﴿ إنه لذو حظ ﴾ أي : نصيب وبخت من الدنيا ﴿ عظيم ﴾ بما أوتيه من العلم الذي كان سبباً له إلى جمع هذا المال وهؤلاء الراغبون يحتمل أن يكونوا من الكفار وأن يكونوا من المسلمين الذين يحبون الدنيا.
ودل على جهلهم وفضل العلم الرباني وحقارة ما أوتي قارون من المال والعلم الظاهر الذي أدى إلى اتباعه قوله تعالى :﴿ وقال الذين أوتوا العلم ﴾ وهم أهل الدين قال ابن عباس : رضي الله تعالى عنهما يعني الأحبار من بني إسرائيل، وقال مقاتل : أوتوا العلم بما وعد الله في الآخرة فقالوا للذين تمنوا ﴿ ويلكم ﴾ ويل : أصله الدعاء بالهلاك ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما يضر، وهو منصوب بمحذوف أي : ألزمكم الله ويلكم ﴿ ثواب الله ﴾ أي : الجليل العظيم ﴿ خير ﴾ أي : من هذا الحطام الذي أوتيه قارون في الدنيا بل من الدنيا وما فيها ومن فاته الخير حل به الويل، ثم بينوا مستحقه تعظيماً له وترغيباً للسامع في حاله بقولهم ﴿ لمن آمن وعمل ﴾ تصديقاً لإيمانه ﴿ صالحاً ﴾ ثم بين تعالى عظمة هذه النصيحة وعلو قدرها بقوله تعالى :﴿ ولا يلقاها ﴾ أي : هذه النصيحة التي قالها أهل العلم وهي الزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله أو الجنة المثاب بها ﴿ إلا الصابرون ﴾ أي : على أداء الطاعات والاحتراز عن المحرّمات وعلى الرضا بقضاء الله في كل ما قسم من المنافع والمضار الذين صار الصبر لهم خلقاً.
ولما تسبب عن نظره هذا الذي أوصله إلى الكفر بربه أخذه بالعذاب أشار إلى ذلك بقوله سبحانه وتعالى :﴿ فخسفنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ به وبداره الأرض ﴾ روي أنه كان يؤذي موسى عليه الصلاة والسلام كل وقت وهو يداريه للقرابة التي بينهما وهو يؤذيه كل وقت ولا يزيد إلا عتواً وتجبراً ومعاداة لموسى حتى بنى داراً وجعل بابها من الذهب وضرب على جدرانها صفائح الذهب وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون فيطعمهم الطعام ويضاحكونه.
قال ابن عباس : نزلت الزكاة على موسى عليه السلام فأتاه قارون فصالحه عن كل ألف دينار بدينار، وعن كل ألف درهم بدرهم، وعن كل ألف شاة بشاة، فلم تسمح بذلك نفسه فجمع بني إسرائيل وقال لهم : إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا : أنت كبيرنا فأمرنا بما شئت قال : آمركم أن تجيئوا بفلانة البغي فنجعل لها جعلاً حتى تقذف موسى بنفسها فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل ورفضوه فدعاها فجعل لها قارون ألف درهم، وقيل ألف دينار، وقيل : طشتاً من ذهب، وقيل : قال لها : إني أمونك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غداً إذا حضر بنو إسرائيل فلما كان من الغد وكان يوم عيد لهم قام موسى عليه السلام خطيباً فقال : من سرق قطعناه ومن زنى غير محصن جلدناه ومن زنى محصناً رجمناه فقال له قارون : ولو كنت أنت قال : ولو كنت أنا قال إن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة قال : ادعها فإن قالت فهو كما قالت فلما أن جاءت قال : لها موسى يا فلانة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء فعظم عليها وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة إلا صدقت فتداركها الله تعالى بالتوفيق وقالت في نفسها أحدث اليوم توبة أفضل من أن أوذي رسول الله فقالت : لا كذبوا ولكن جعل لي قارون جعلاً على أن أرميك بنفسي فخرّ موسى ساجداً يبكي ويقول : اللهم إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى الله تعالى إليه إني أمرت الأرض أن تطيعك فمرها بما شئت فقال موسى عليه السلام : يا بني إسرائيل إنّ الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلبث مكانه ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا ولم يبق مع قارون إلا رجلان ثم قال موسى : يا أرض خذيهم فأخذت الأرض بأقدامهم، وفي رواية كان على فراشه وسريره فأخذته حتى غيبت سريره ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى الركب ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق وقارون وصاحباه في كل ذلك يتضرعون إلى موسى
ويناشده قارون بالله والرحم، حتى روي أنه ناشده سبعين مرّة وموسى في كل ذلك لا يلتفت إليه لشدّة غضبه ثم قال : يا أرض خذيهم فانطبقت عليهم الأرض فأوحى الله تعالى إليه ما أغلظ قلبك استغاث بك سبعين مرة فلم ترحمه وعزتي وجلالي لو دعاني مرة واحدة لأجبته، وفي بعض الآثار لا أجعل الأرض بعدك طوعاً لأحد، قال قتادة : خسف به فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة قال : وأصبح بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم إن موسى إنما دعا على قارون ليستبدّ بداره وكنوزه فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وبأمواله، فإياكم يا أمة هذا النبيّ أن تردوا ما أتاكم به من الرحمة فتهلكوا، وإن كنتم أقرب الناس إليه فإن قارون كان من أقارب موسى عليه السلام فإن الأنبياء عليهم السلام كما أنهم لا يوجدون الهدى في قلوب العدا فكذلك لا يمنعونهم من الردى ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ﴿ فما ﴾ فتسبب عنه أنه ما ﴿ كان له ﴾ أي : لقارون، وأكد النفي لما استقر في الأذهان أن الأكابر منصورون بزيادة الجار في قوله تعالى :﴿ من فئة ﴾ أي : أعوان وأصل الفئة الجماعة من الطير كأنها سميت بذلك لكثرة رجوعها وسرعتها إلى المكان الذي ذهبت منه ﴿ ينصرونه من دون الله ﴾ أي : غيره بأن يمنعوا عنه الهلاك ﴿ وما كان من المنتصرين ﴾ أي : الممتنعين منه من قولهم نصره من عدوه فانتصر إذا منعه منه فامتنع.
ولما خسف به واستبصر الجهال الذين هم كالبهائم لا يرون إلا المحسوسات ذكر حالهم بقوله :﴿ وأصبح ﴾ أي : وصار ولكنه ذكره لمقابلة المساء ﴿ الذين تمنوا ﴾ أي : أرادوا إرادة عظيمة بغاية الشفقة أن يكونوا ﴿ مكانه ﴾ أي : تكون حاله ومنزلته في الدنيا لهم ﴿ بالأمس ﴾ أي : الزمان الماضي القريب وإن لم يكن يلي يومهم الذي هم فيه فالأمس قد يذكر ولا يراد به اليوم الذي قبل يومك ولكن الوقت المستقرب على طريق الاستعارة ﴿ يقولون ويكأنّ الله يبسط ﴾ أي : يوسع ﴿ الرزق لمن يشاء من عباده ﴾ بحسب مشيئته وحكمته لا لكرامته عليه ﴿ ويقدر ﴾ أي : يضيق على من يشاء لا لهوان من يضيق عليه بل لحكمته وقضائه ابتلاء منه وفتنة و«وي » اسم فعل بمعنى أعجب أي : أتى والكاف بمعنى اللام، وهذه الكلمة والتي بعدها متصلة بإجماع المصاحف.
واختلف القراء في الوقف فالكسائي وقف على الياء قبل الكاف، ووقف أبو عمرو على الكاف، ووقف الباقون على النون وعلى الهاء، وحمزة يسهل الهمزة في الوقف على أصله، وأما الوصل فلا خلاف فيه بينهم ولما لاح لهم من واقعته أن الرزق إنما هو بيد الله اتبعوه ما دل على أنهم اعتقدوا أيضاً أن الله قادر على ما يريد من غير الرزق كما هو قادر على الرزق من قولهم ﴿ لولا أن منّ الله ﴾ أي : تفضل الملك الأعظم ﴿ علينا ﴾ بجوده ولم يعطنا ما تمنيناه من الكنوز على مثل حاله ﴿ لخسف بنا ﴾ مثل ما خسف به ﴿ ويكأنه لا يفلح الكافرون ﴾ لنعمة الله تعالى كقارون والمكذبين لرسله وبما وعد لهم من ثواب الآخرة.
وقوله تعالى :﴿ تلك الدار الآخرة ﴾ إشارة تعظيم وتفخيم لشأنها أي : تلك الدار التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها، وتلك مبتدأ والدار صفته والخبر ﴿ نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ﴾ بالبغي ﴿ ولا فساداً ﴾ بعمل المعاصي فلم يعلق تعالى الوعد بترك العلو والفساد ولكن بترك، إرادتهما وميل القلوب إليهما كما قال تعالى :﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ﴾ ( هود، ١١٣ ) فعلق الوعيد بالركون، وعن علي رضي الله تعالى عنه أن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها، وعن الفضيل أنه قرأها ثم قال ذهبت الأماني ههنا، وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه أنه كان يرددها حتى قبض، قال الزمخشري : ومن الطماع من يجعل العلو لفرعون والفساد لقارون متعلقاً بقوله تعالى :﴿ إن فرعون علا في الأرض ﴾ وبقوله تعالى :﴿ ولا تبغ الفساد في الأرض ﴾ فيقول من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة ولا يتدبر قوله تعالى ﴿ والعاقبة ﴾ أي : المحمودة ﴿ للمتقين ﴾ أي : عقاب الله تعالى بعمل طاعته كما تدبره علي والفضيل وعمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنهم.
ولما بيَّن تعالى أن الدار الآخرة ليست لمن يريد علواً في الأرض ولا فساداً بل هي للمتقين بين بعد ذلك ما يحصل فقال تعالى :﴿ من جاء بالحسنة فله خير منها ﴾ من عشرة أضعاف إلى سبعين إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يحيط به إلا الله تعالى ﴿ ومن جاء بالسيئة ﴾ وهي ما نهى الله تعالى عنه ومنه إخافة المؤمنين ﴿ فلا يجزى ﴾ أي : من أيّ جاز وأظهر ما في هذا الفعل من الضمير العائد على من بقوله تعالى :﴿ الذين عملوا السيئآت ﴾ تصويراً لحالهم وتقبيحاً لهم وتنفيراً من عملها ﴿ إلا ﴾ جزاء ﴿ ما كانوا يعملون ﴾ أي : مثله وهذا من فضل الله العظيم وكرمه الواسع أن لا يجزي السيئة إلا بمثلها ويجزي الحسنة بأكثر منها كما مرّ، فإن قيل قال تعالى :﴿ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ﴾ ( الإسراء : ٧ ) كرر ذكر الإحسان واكتفى في ذكر الإساءة بمرة واحدة فما السبب في ذلك ؟.
أجيب : بأن هذا المقام مقام ترغيب في الدار الآخرة فكانت المبالغة في النهي عن المعصية مبالغة في الدعوة إلى الآخرة، وأما الآية الأخرى فهي شرح حالهم فكانت المبالغة في ذكر محاسنهم أولى، فإن قيل : كيف أنه تعالى لا يجزي السيئة إلا بمثلها مع أن المتكلم بكلمة الكفر إذا مات في الحال عذب أبد الآباد ؟ أجيب : بأنه كان على عزم أنه لو عاش أبداً لقال ذلك فعومل بمقتضى عزمه.
﴿ إن الذي فرض ﴾ أي : أنزل ﴿ عليك القرآن ﴾ قاله أكثر المفسرين، وقال عطاء : أوجب عليك العمل بالقرآن، وقال أبو عليّ : فرض عليك أحكامه وفرائضه ﴿ لرادّك إلى معاد ﴾ أي : معاد ليس لغيرك من البشر وهو المقام المحمود الذي وعدك أن يبعثك فيه وتنكير المعاد لذلك، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس يعني إلى الموت، وقال الزهري وعكرمة : إلى يوم القيامة، وقيل إلى الجنة.
وروى العوفي عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما يعني إلى مكة وهو قول مجاهد، وقال القتيبي : معاد الرجل بلده ينصرف ثم يعود إلى بلده وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خرج من الغار مهاجراً إلى المدينة سار في غير الطريق مخافة الطلب فلما أمن ورجع إلى الطريق ونزل الجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق إلى مكة اشتاق إليها فأتاه جبريل عليه السلام فقال : اشتقت إلى بلدك ومولدك قال : نعم قال : فإنّ الله تعالى يقول :﴿ إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد ﴾ قال الرازي : وهذا أقرب لأنّ ظاهر المعاد أنه كان فيه وفارقه وحصل له العود إليه وذلك لا يليق إلا بمكة وإن كان سائر الوجوه محتملاً لكن ذلك أقرب، قال أهل التحقيق : وهذا آخر مما يدل على نبوته لأنه أخبر عن الغيب ووقع كما أخبر فيكون معجزاً ونزل جواباً لقول كفار مكة إنك لفي ضلال مبين ﴿ قل ﴾ أي : للمشركين ﴿ ربي أعلم من جاء بالهدى ﴾ وما يستحقه من الثواب في المعاد يعني نفسه ﴿ ومن هو في ضلال مبين ﴾ يعنيهم وما يستحقونه من العذاب في معادهم فهو الجائي بالهدى وهم في الضلال.
تنبيه : من جاء منصوب بمضمر أي : يعلم أو بأعلم إن جعلناها بمعنى عالم وأعملناها إعماله.
﴿ وما كنت ترجو ﴾ أي : في سالف الدهر بحال من الأحوال ﴿ أن يلقى ﴾ أي : ينزل على وجه لم تقدر على رده ﴿ إليك الكتاب ﴾ أي : يوحى إليك القرآن، قال البيضاوي أي : سيردك إلى معاد كما ألقى إليك الكتاب وما كنت ترجوه وهو ظاهر على أن المراد بالمعاد مكة وقوله تعالى :﴿ إلا رحمة ﴾ استثناء منقطع أي : لكن ألقى إليك الكتاب رحمة ﴿ من ربك ﴾ أي : فأعطاك القرآن، وقيل : متصل قال الزمخشري : هذا كلام محمول على المعنى كأنه قيل وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمة فيكون استثناء من الأحوال أو من المفعول له ﴿ فلا تكونن ظهيراً ﴾ أي : معيناً ﴿ للكافرين ﴾ على دينهم الذي دعوك إليه، قال مقاتل : وذلك حين دعي إلى دين آبائه، فذكره الله تعالى نعمه ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه.
﴿ ولا يصدنك عن آيات الله ﴾ أي : قراءتها والعمل بها ﴿ بعد إذ أنزلت إليك ﴾ أي : لا ترجع إليهم في ذلك ﴿ وادع ﴾ أي : أوجد الدعاء ﴿ إلى ربك ﴾ أي : إلى عبادته وتوحيده ﴿ ولا تكونن من المشكرين ﴾ أي : بإعانتهم، ولم يؤثر الجازم في الفعل لبنائه بخلافه في يصدنك فإنه حذف منه نون الرفع إذ أصله يصدوننك حذفت نون الرفع للجازم ثم حذفت الواو لالتقاء الساكنين.
﴿ ولا تدع ﴾ أي : تعبد ﴿ مع الله ﴾ أي : الجامع لجميع صفات الكمال ﴿ إلهاً آخر ﴾ فإن قيل : هذا وما قبله لا يقع منه صلى الله عليه وسلم فما فائدة ذلك النهي ؟ أجيب : بأنه ذكر للتهييج وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم أو أن الخطاب وإن كان معه لكن المراد غيره كما في قوله تعالى :﴿ لئن أشركت ليحبطن عملك ﴾ ( الزمر : ٦٥ )
ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿ لا إله إلا هو ﴾ أي : لا نافع ولا ضار ولا معطى ولا مانع إلا هو كقوله تعالى :﴿ رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً ﴾ ( المزمل : ٩ ) فلا يجوز اتخاذ إله سواه، ثم علل وحدانيته بقوله تعالى :﴿ كل شيء هالك إلا وجهه ﴾ أي : ذاته فإنّ الوجه يعبر به عن الذات، قال أبو العالية : إلا ما أريد به وجهه، وقيل : إلا ملكه، واختلفوا في قوله تعالى :﴿ هالك ﴾ فمن الناس من فسر الهلاك بإخراجه عن كونه منتفعاً به بالإماتة أو بتفريق الأجزاء وإن كانت أجزاؤه باقية فإنه يقال هلك الثوب وهلك المتاع ولا يريدون به فناء أجزائه بل خروجه عن كونه منتفعاً به، ومنهم من قال : معنى كونه هالكاً كونه قابلاً للهلاك في ذاته فإن كل ما عداه تعالى ممكن الوجود قابل للعدم فكان قابلاً للهلاك فأطلق عليه اسم الهالك نظراً إلى هذا الوجه وعلى هذا يحمل قول النسفي في بحر الكلام سبعة لا تفنى : العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار بأهلهما من ملائكة العذاب والحور العين والأرواح ﴿ له الحكم ﴾ أي : القضاء النافذ في الخلق ﴿ وإليه ﴾ وحده ﴿ ترجعون ﴾ أي : في جميع أحوالكم في الدنيا وبالنشور من القبور للجزاء في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم، وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشريّ من قوله صلى الله عليه وسلم :«من قرأ سورة طسم القصص كان له من الأجر بعدد من صدّق بموسى وكذب ولم يبق ملك في السماوات والأرض إلا شهد له يوم القيامة أنه كان صادقاً »، حديث موضوع.
Icon