تفسير سورة الواقعة

التفسير القيم
تفسير سورة سورة الواقعة من كتاب التفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

أعاد الضمير إلى النساء، ولم يجر لهن ذكر ؛ لأن الفرش دلت عليهن، إذ هي محلهم، وقيل : الفرش في قوله :﴿ وفرش مرفوعة ﴾ [ الواقعة : ٣٤ ] كناية عن النساء، كما يكنى عنهن بالقوارير و الأزر وغيرها، ولكن قوله :﴿ مرفوعة ﴾ يأبى هذا إلا أن يقال : المراد رفعة القدر، وقد تقدم تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للفرش وارتفاعها. فالصواب : أنها الفرش نفسها، ودلت على النساء لأنها محلهن غالبا.
قال قتادة وسعيد بن جبير : خلقناهن خلقا جديدا.
وقال ابن عباس : يريد نساء الآدميات.
وقال الكلبي، ومقاتل : يعني نساء أهل الدنيا العجز الشمط. يقول الله تعالى : خلقناهن بعد الكبر والهرم وبعد الخلق الأول في الدنيا.
ويؤيد هذا التفسير : حديث أنس رضي الله عنه المرفوع :«هن عجائزكم العمش الرمص » رواه الثوري عن موسى بن عبيدة عن يزيد الرقاشي عنه.
ويؤيده ما رواه يحيى الحماني حدثنا ابن إدريس عن ليث عن مجاهد عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها، وعندها عجوز. فقال صلى الله عليه وسلم :«من هذه ؟ » فقالت : إحدى خالاتي، فقال :«إما إنه لا يدخل الجنة العجوز »، فدخل على العجوز من ذلك ما شاء الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«إنا أنشأناهن إنشاء خلقا آخر، يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا، وأول من يكسى إبراهيم خليل الله، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ إنا أنشاناهن إنشاء ﴾.
قال آدم بن أبي إياس : حدثنا شيبان عن الزهري عن جابر الجعفي عن يزيد بن مرة عن سلمة بن يزيد رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله :﴿ إنا أنشأناهن إنشاء ﴾ «يعني الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا ».
قال آدم : وحدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لا يدخل الجنة العجز »، فبكت عجوز، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخبروها أنها يومئذ ليست بعجوز، إنها يومئذ شابة. إن الله عز وجل يقول :﴿ إنا أنشأناهن إنشاء ﴾.
وقال ابن أبي شيبة : حدثنا احمد بن طارق حدثنا مسعدة بن اليسع حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد ابن المسيب عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أتته عجوز من الأنصار، فقالت يا رسول الله، ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم :«إن الجنة لا يدخلها عجوز ». فذهب نبي الله صلى الله عليه وسلم، فصلى ؛ ثم رجع إلى عائشة فقالت عائشة : لقد لقيت من كلمتك مشقة وشدة. فقال صلى الله عليه وسلم :«إن ذلك كذلك، إن الله تعالى إذا أدخلهن الجنة حولهن أبكارا ».
وذكر مقاتل قولا آخر، وهو اختيار الزجاج : أنهن الحور العين التي ذكرهن قبل، أنشأهن الله عز وجل لأوليائهم لهم يقع عليهن ولادة.
والظاهر : أن المراد أنشأهن الله تعالى في الجنة إنشاء. ويدل عليه وجوه :
أحدها : انه قد قال في حق السابقين ﴿ يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب - إلى قوله - كأمثال اللؤلؤ المكنون ﴾ [ الواقعة : ١٧. ٢٣ ] فذكر سردهم، وآنيتهم، وشرابهم، وفاكهتهم، وطعامهم، وأزواجهم والحور العين، ثم ذكر أصحاب الميمنة، وطعامهم، وشرابهم، وفراشهم، ونساءهم. والظاهر أنهن مثل نساء من قبلهم، خلقن في الجنة.
الثاني : أنه سبحانه قال :﴿ إنا أنشأناهن إنشاء ﴾ وهذا ظاهر : أنه إنشاء أول لا ثان. لأنه سبحانه حيث يريد الإنشاء الثاني يقيده بذلك كقوله :﴿ وأن عليه النشأة الأخرى ﴾ [ الندم : ٤٧ ] وقوله :﴿ ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون ﴾ [ الواقعة : ٦٢ ].
الثالث : إن الخطاب بقوله :﴿ وكنتم أزواجا ثلاثة ﴾ [ الواقعة : ٧ ] إلى آخره : للذكور والإناث. والنشأة الثانية أيضا عامة للنوعين.
وقوله :﴿ إنا أنشأناهن إنشاء ﴾ ظاهره اختصاصهن بهذا الإنشاء.
وتأمل تأكيده بالمصدر. والحديث لا يدل على اختصاص العجائز المذكورات بهذا الوصف، بل يدل على مشاركتهن للحور العين في هذه الصفات المذكورة. فلا يتوهم انفراد الحور العين عنهن بما ذكر من الصفات، بل هي أحق به منهن فالإنشاء واقع على الصنفين. والله اعلم.
وقوله :﴿ عربا ﴾ جمع «عروب ». وهن المتحببات إلى إزواجهن. قال ابن الأعرابي : العروب من النساء : المطيعة لزوجها، المتحببة إليه.
وقال أبو عبيدة : العروب الحسنة التبعل.
قلت : يريد حسن موافقتها وملاطفتها لزوجها عند الجماع.
وقال المبرد : هي العاشقة لزوجها. . . وأنشد للبيد :
وفي الحدوج عروب غير فاحشة ريا الروادف يعشى دونها البصر
وذكر المفسرون في تفسير العرب : أنهن العواشق، المتحببات، الغنجات، الشكلات، المتعشقات، الغلمات، المغنوجات. كل ذلك من ألفاظهم.
وقال البخاري في صحيحه ﴿ عربا ﴾ مثقلة، واحدها : عروب، مثل صبور وصبر : وتسميها أهل مكة «العربة »، وأهل المدينة :«الغنجة ». وأهل العراق :«الشَّكِلة ». والعرب : والمتحببات إلى أزواجهن - هكذا ذكره في «كتاب بدء الخلق ».
وقال في كتاب التفسير في سورة الواقعة «عربا » مثقلة – أي مضمونة الراء -واحدها عروب. مثل صبور وصبر. تسميها أهل مكة : العربة، وأهل المدينة : الغنجة، وأهل العراق : الشكلة.
قلت : فجمع سبحانه بين حسن صورتها وحسن عشرتها. وهذا غاية ما يطلب من النساء، وبه تكمل لذة الرجل بهن.
وفي قوله :﴿ لم يطمثهن انس قبلهم ولا جان ﴾ [ الرحمن : ٥٦ ] إعلام بكمال اللذة بهن. فإن لذة الرجل بالمرأة التي لم يطأها سواه لها فضل على لذته بغيرها. وكذلك هي أيضا.
اللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال - مثلا - له حقيقة متميزة متحصلة، فاستحقق أن يوضع له لفظ يدل عليه ؛ لأنه شيء موجود في اللسان، مسموع بالآذان، فاللفظ المؤلف من همزة الوصل والسين والميم : عبارة عن اللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال، مثلا.
واللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال : عبارة عن الشخص الموجود في الأعيان والأذهان.
وهو المسمى والمعنى. واللفظ الدال عليه، الذي هو الزاي والياء والدال : هو الاسم.
وهذا اللفظ أيضا قد صار مسمى، من حيث كان لفظ الهمزة والسين والميم : عبارة عنه.
فقد بان لك أن ( الاسم ) في أصل الوضع ليس هو المسمى. ولهذا تقول : سميت هذا الشخص بهذا الاسم، كما تقول : حليته بهذه الحلية. والحلية غير المحلى، فكذلك الاسم غير المسمى. صرح بذلك سيبويه، وأخطأ من نسب إليه غير هذا. وادعى أن مذهبه : اتحادهما.
والذي غر من ادعى ذلك : قوله : الأفعال أمثلة، أخذت من لفظ أحداث الاسماء. وهذا لا يعارض نصه قبل هذا. فإنه نص على أن الاسم غير المسمى. فقال :«الكلم اسم، وفعل، وحرف » فقد صرح بأن الاسم كلمة، فكيف تكون الكلمة هي المسمى، والمسمى شخص ؟ ثم قال بعد هذا : تقول سميت زيدا بهذا الاسم، كما تقول : علمته بهذه العلامة.
وفي كتابه قريب من ألف موضع : أن الاسم هو اللفظ الدال على المسمى. ومتى ذكر الخفض أو النصب، أو التنوين، أو اللام، أو جميع ما يلحق الاسم من زيادة ونقصان، وتصغير وتكسير، وإعراب وبناء - فذلك كله من عوارض الاسم : لا تعلق لشيء من ذلك بالمسمى أصلا.
وما قال نحوي قط ولا عربي : أن الاسم هو المسمى. ويقولون : أجل مسمى، ولا يقولون أجل اسم. ويقولون : مسمى هذا الاسم كذا. ولا يقول أحد : اسم هذا الاسم كذا ويقولون : هذا الرجل مسمى بزيد. ولا يقولون : هذا الرجل اسم زيد. ويقولون : بسم الله، ولا يقولون : بمسمى الله.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لي خمسة أسماء » ولا يصح أن يقال : لي خمس مسميات.
وقال :«فتسموا باسمي » ولا يصح أن يقال : تسموا بمسمياتي.
وقال صلى الله عليه وسلم :«ولله تسعة وتسعون اسما » ولا يصح أن يقال : تسعة وتسعون مسمى.
وإذا ظهر الفرق بين الاسم والمسمى. بقيت هاهنا التسمية. وهي التي اعتبرها من قال : باتحاد الاسم المسمى. والتسمية : عبارة عن فعل المسمى ووضعه الاسم للمسمى، كما أن التحلية : عبارة عن فعل المحلي، ووضعه الحلية على المحلى.
فهنا ثلاث حقائق :( اسم، ومسمى، وتسمية )، كحلية، ومحلى، وتحلية، وعلامة ومعلم، وتعليم ولا سبيل إلى جعل لفظين منها مترادفين على معنى واحد، لتباين حقائقهما. وإذا جعلت الاسم هو المسمى : بطل واحد من هذه الحقائق الثلاثة ولا بد ).
فإن قيل : فحلوا لنا شبه من قال : باتحادهما ليتم الدليل. فإنكم أقمتم الدليل فعليكم الجواب عن المعارض.
فمنها : أن الله وحده هو الخالق، وما سواه مخلوق. فلو كانت أسماؤه غيره لكانت مخلوقة. وللزم أن لا يكون له اسم في الأزل، ولا صفة. لأن أسماءه صفات. وهذا هو السؤال الأعظم، الذي قاد متكلمي الإثبات إلى أن يقولوا : الاسم هو المسمى. فما عندكم في دفعه ؟
والجواب : أن منشأ الغلط في هذا الباب من إطلاق ألفاظ مجملة محتملة لمعنيين. صحيح وباطل. فلا ينفصل النزاع إلا بتفصيل تلك المعاني، وتنزيل ألفاظها عليها. ولا ريب أن الله تبارك وتعالى لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال المشتقة أسماؤه منها. فلم يزل بأسمائه وصفاته : رب واحد، وإله واحد، له الأسماء الحسنى والصفات العلا. وأسماؤه وصفاته داخلة في مسمى اسمه، وإن كان لا يطلق على الصفة أنها إله يخلق ويرزق. فليست صفاته وأسماؤه غيره. وليست هي نفس الإله،
وبلاء القوم من لفظة «الغير » فإنه يراد بهما معنيين :
أحدهما : المغاير لتلك الذات المسماة بالله. وكل ما غاير الله مغايرة محضة بهذا الاعتبار. فلا يكون إلا مخلوقا.
ويراد بها : مغايرة الصفة للذات إذا خرجت عنها. فإذا قيل : علم الله، وكلام الله غيره : وعنى أنه غير الذات المجردة عن العلم، والكلام : كان المعنى صحيحا. ولكن الإطلاق باطل.
وإذا أريد : أن العلم والكلام مغاير لحقيقته المختصة التي امتاز بها عن غيره : كان باطلا لفظا ومعنى.
وبهذا أجاب أهل السنة المعتزلة القائلين بخلق القرآن، وقالوا : كلامه تعالى داخل في مسمى اسمه. ف«الله » اسم الذات الموصوفة بصفات الكمال. ومن تلك الصفات : صفة الكلام، كما أن علمه وقدرته وحياته، وسمعه وبصره : غير مخلوقة. وإذا كان القرآن كلامه، وهو صفة من صفاته. فهو متضمن لأسمائه الحسنى. فإذا كان القرآن غير مخلوق، ولا يقال : إنه غير الله، فكيف يقال : إن بعض ما تضمنه - وهو أسماؤه
- مخلوقة، وهي غيره ؟
فقد حصحص الحق بحمد الله وانحسم الإشكال، وأن أسماءه الحسنى التي في القرآن من كلامه. وكلامه غير مخلوق. ولا يقال : هو غيره، ولا هو هو.
وهذا المذهب مخالف لمذهب المعتزلة الذين يقولون : أسماؤه تعالى غيره. وهي مخلوقة، ولمذهب من رد عليهم ممن يقول : اسمه نفس ذاته، لا غيره.
وبالتفصيل تزول الشبه ويتبين الصواب والحمد لله.
حجة ثانية لهم : قالوا : قال تبارك وتعالى :﴿ تبارك اسم ربك ﴾ [ الرحمن : ٧٨ ] و﴿ اذكر اسم ربك ﴾ [ المزمل : ٨ ] و﴿ سبح اسم ربك الأعلى ﴾ [ الأعلى : ١ ].
وهذه الحجة عليهم في الحقيقة لا لهم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم امتثل هذا الأمر، وقال ( سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي العظيم ) ولو كان الأمر كما زعموا لقال : سبحان اسم ربي العظيم.
ثم إن الأمة كلهم لا يجوز لأحد منهم أن يقول : عبدت اسم ربي، ولا سجدت لاسم ربي، ولا ركعت لاسم ربي، ولا باسم ربي ارحمني. وهذا يدل على أن الأشياء متعلقة بالمسمى، لا بالاسم.
وأما الجواب عن تعلق الذكر والتسبيح المأمور به : ب«الاسم » فقد قيل فيه : إن التعظيم والتنزيه إذا وجب للمعظم فقد تعظم ما هو من سببه، ومتعلق به، كما يقال : سلام على الحضرة العالية، والباب السامي، والمجلس الكريم، ونحوه.
وهذا جواب غير مرض لوجهين :
أحدهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفهم هذا المعنى، وإنما قال ( سبحان ربي ) فلم يعرج على ما ذكرتموه.
الثاني : أنه يلزمه أن يطلق على الاسم التكبير والتحميد والتهليل، وسائر ما يطلق على المسمى، فيقال : الحمد لاسم الله. ولا إله إلا اسم الله، ونحوه. وهذا مما لم يقله أحد.
بل الجواب الصحيح : أن الذكر الحقيقي محله القلب، لأنه ضد النسيان. والتسبيح نوع من الذكر. فلو أطلق الذكر والتسبيح لما فهم منه إلا ذلك، دون اللفظ باللسان. والله تعالى أراد من عباده الأمرين جميعا، ولم يقبل الإيمان وعقد الإسلام إلا باقترانهما واجتماعهما.
فصار معنى الآيتين : سبح ربك بقلبك ولسانك. واذكر ربك بقلبك ولسانك. فأقحم الاسم تنبيها على هذا المعنى. حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان لأن ذكر القلب متعلقه المسمى المدلول عليه بالاسم، دون ما سواه. والذكر باللسان : متعلقه اللفظ مع مدلوله. لأن اللفظ لا يراد لنفسه. فلا يتوهم أحد أن اللفظ هو المسبح، دون ما يدل عليه من المعنى.
وعبر لي شيخنا أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه عن هذا المعنى بعبارة لطيفة وجيزة، فقال : المعنى سبح ناطقا باسم ربك، متكلما به. وكذا سبح اسم ربك : المعنى : سبح ربك ذاكرا اسمه.
وهذه الفائدة تساوي رحلة، لكن لمن يعرف قدرها. فالحمد لله المنان بفضله ونسأله تمام نعمته.
حجة ثالثة لهم : قالوا : قال تعالى :﴿ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها ﴾ [ يوسف : ٤ ] وإنما عبدوا مسمياتها.
والجواب : أنه كما قلتم : إنهم إنما عبدوا المسميات، ولكن من أجل أنهم نحلوها أسماء باطلة، كاللات والعزى، وهي مجرد أسماء كاذبة باطلة، لا مسمى لها في الحقيقة. فإنهم سموها آلهة. وعبدوها لاعتقادهم حقيقة الإلهية لها. وليس لها من الإلهية إلا مجرد الأسماء، لا حقيقة المسمى. فما عبدوا إلا أسماء لا حقائق لمسمياتها. وهذا كمن سمى قشور البصل لحما، وأكلها، فيقال له : ما أكلت من اللحم إلا اسمه لا مسماه. وكمن سمى التراب خبزا، وأكله. يقال : ما أكلت إلا اسم الخبز، بل هذا النفي أبلغ في نفي الإلهية عن آلهتهم. فإنه لا حقيقة لإلهيتها بوجه. وما الحكمة ثم إلا مجرد الاسم.
فتأمل هذه الفائدة الشريفة في كلامه تعالى.
فإن قيل : فما الفائدة في دخول الباء في قوله ( فسبح باسم ربك العظيم ) ولم تدخل في قوله ( سبح اسم ربك الأعلى ) ؟
قيل : التسبيح يراد به التنزيه والذكر المجرد، دون معنى آخر. ويراد به مع ذلك الصلاة وهو ذكر وتنزيه مع عمل. ولهذا تسمى الصلاة «تسبيحا ». فإذا أريد التسبيح المجرد، فلا معنى للباء. لأنه لا يتعدى بحرف جر، لا تقول : سبحت بالله. وإذا أردت المقرون بالفعل، وهو الصلاة، أدخلت الباء، تنبيها على ذلك المراد، كأنك قلت : سبح مفتتحا باسم ربك، أو ناطقا باسم ربك، كما تقول : صل مفتتحا، أو ناطقا باسمه، ولهذا السر - والله أعلم - دخلت اللام في قوله تعالى :( سبح لله ما في السموات والأرض ) والمراد التسبيح الذي هو السجود والخضوع والطاعة، ولم يقل في موضع سبح الله ما في السموات والأرض كما قال تعالى :﴿ ولله يسجد من في السموات والأرض ﴾ [ الرعد : ١٥ ].
وتأمل قوله تعالى :﴿ إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ﴾ [ الأعراف : ٢٠٦ ] فكيف قال :( ويسبحونه ) لما ذكر السجود باسمه الخاص، فصار التسبيح : ذكرهم له، وتنزيههم إياه.
الصحيح في الآية : أن المراد به : الصحف التي بأيدي الملائكة لوجوه عديدة :
منها : أنه وصفه بأنه ﴿ مكنون ﴾، والمكنون : المستور عن العيون، وهذا إنما هو في الصحف التي بأيدي الملائكة.
ومنها : أنه قال :﴿ لا يمسه إلا المطهرون ﴾ وهم الملائكة، ولو أراد المؤمنين المتوضئين لقال : لا يمسه إلا المتطهرون، كما قال تعالى :﴿ إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ﴾ [ البقرة : ٢٢٢ ] فالملائكة مطهرون، والمؤمنون المتوضئون متطهرون.
ومنها : أن هذا إخبار ولو كان نهيا لقال : لا يمسسه بالجزم والأصل في الخبر : أن يكون خبرا صورة ومعنى.
ومنها : أن هذا رد على من قال : إن الشيطان جاء بهذا القرآن، فأخبر تعالى أنه ﴿ في كتاب مكنون ﴾ لا تناله الشياطين، ولا وصول لها إليه، كما قال تعالى في آية الشعراء :﴿ وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغي لهم وما يستطيعون * إنهم عن السمع لمعزولون ﴾ [ الشعراء : ٢١٠. ٢١٢ ] وإنما تناله الأرواح المطهرة، وهم الملائكة.
ومنها : أن هذا نظير الآية التي في سورة عبس به :﴿ فمن شاء ذكره * في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة * كرام بررة ﴾ [ عبس : ١٢. ١٦ ].
قال الإمام مالك في «موطئه » : أحسن ما سمعت في تفسير قوله :﴿ لا يمسه إلا المطهرون ﴾ أنها مثل هذه الآية التي في سورة عبس.
ومنها : أن الآية مكية، من سورة مكية، تتضمن تقرير التوحيد، والنبوة والمعاد، وإثبات الصانع، والرد على الكفار، وهذا المعني أليق بالمقصود من فرع عملي، وهو حكم مس المحدث المصحف.
ومنها : أنه لو أريد به الكتاب الذي بأيدي الناس لم يكن في الإقسام على ذلك بهذا القسم العظيم كثير فائدة، إذ من المعلوم أن كل كلام فهو قابل لأن يكون في كتاب، حقا أو باطلا، بخلاف ما إذا وقع القسم على أنه في كتاب مصون مستور عن العيون عند الله، لا يصل إليه شيطان، ولا ينال منه ولا يمسه إلا الأرواح الطاهرة الزكية.
فهذا المعنى أليق وأجل وأخلق بالآية وأولى بلا شك.
فسمعت شيخ الإسلام، ابن تيمية قدس الله روحه يقول : لكن تدل الآية بإشارتها على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر. لأنه إذا كانت تلك الصحف لا يمسها إلا المطهرون لكرامتها على الله. فهذه الصحف أولى أن لا يمسها إلا طاهر.
Icon