ﰡ
في السورة توكيد بحقيقة الآخرة ووصف لمنازل الناس فيها. وحكاية لأقوال المكذبين لها، وردّ وتحدّ وتقريع لهم، وبرهنة على عظمة الله وقدرته على بعث الناس ثانية كما خلقهم أولا وتنويه بالقرآن وخطورة شأنه.
وآيات السورة منسجمة مترابطة متوازنة مما يدل على وحدة نزولها. وفي فاتحتها ما يمكن أن يكون قرينة على صحة نزولها بعد سورة طه.
وقد روى المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيتين [٨١، ٨٢] مدنيتان. وهما منسجمتان سبكا وموضوعا مع ما قبلهما وما بعدهما مما يحمل على الشك في الرواية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ١ الى ٦]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤)وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦)
(١) الواقعة: الكلمة وصف للحادث الخطير، وهنا كناية عن يوم القيامة.
(٢) كاذبة: إما بمعنى لا كذب في وقوعها، وإما بمعنى لا مكذب لها حينما تقع، وإما بمعنى لا صارف يصرفها ولا رادّ يردّها.
(٣) خافضة رافعة: تخفض أقواما وترفع آخرين.
(٥) بست: فتتت.
(٦) هباء منبثّا: الذرات الخفيفة المنتشرة في الهواء.
الآيات مقدمة تمهيدية لما يأتي بعدها. وهي بسبيل التنويه بخطورة القيامة وتوكيد وقوعها دون كذب ولا تكذيب. وسيكون من أعلامها وهولها أن تهز الأرض هزّا شديدا وتتفتت الجبال حتى تكون كالهباء المنبثّ في الهواء.
وقد تكرر مثل هذه المقدمة والتوكيدات والأعلام في سور عديدة مرّت أمثلة منها.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٧ الى ١٠]
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠)
(١) أزواجا: أصنافا.
(٢) حرف (ما) في جملتي أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة. هو إما لأجل التنويه بالأولين والتهويل في أمر الآخرين، وإما للتعجيب في ما يكون أمرهما.
الآيات هي استمرار وتعقيب على الآيات السابقة حيث تضمنت تصنيف الناس في يوم القيامة ثلاثة أصناف: أصحاب اليمين وهم المؤمنون الناجون، وأصحاب الشمال وهم الكفار المجرمون، والسابقون أصحاب الدرجات العالية من المؤمنين. وفي الآيات التالية تفصيل لحالة كل من الأصناف.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ١١ الى ٢٦]
أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥)
مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠)
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥)
إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦)
(١) ثلة: جماعة.
(٢) موضونة: من الوضن. وهو حبك الدرع، وأريد بالكلمة التنويه بحسن صنع الأسرّة. وقيل إن الكلمة بمعنى المحبوكة أو المنسوجة بخيوط الذهب.
(٣) مخلدون: دائمون على حالهم لا يتغيرون. وقيل: مزينون بالأقراط لأن «الخلدة» تأتي بمعنى القرط على ما قاله الزمخشري.
(٤) أكواب: جمع كوب. وهو القدح الواسع الرأس بدون خرطوم.
(٥) الإبريق: الإناء الذي له خرطوم وعروة.
(٦) الكأس: القدح الممتلئ بالشراب.
(٧) معين: الماء الجاري الرقراق.
(٨) لا يصدعون: لا يحصل لهم صداع.
(٩) لا ينزفون: لا تذهب عقولهم أو لا تنزف أنوفهم وأفواههم ومخارجهم مما يحصل للسكران.
(١٠) حور عين: وصف لعيون النساء. فالحور العيون التي تبدو مكحلة أو ناصعة بياض الحدقة. والعين: ذوات العيون النجلاء الواسعة.
(١١) المكنون: المخبأ وغير المبتذل باللمس.
(١٢) لغوا: باطلا وعبثا.
(١٣) تأثيما: اللوم والتثريب والاتهام بالإثم.
الآيات استمرار للسياق. وقد تضمنت وصف مصير السابقين. فهم المقربون الذين يتنعّمون في الآخرة بالنعيم العظيم المترف الذي وصف وصفا دائما أخّاذا
تعليق على وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١)
والكلام مطلق على هوية السابقين المقربين وفي كتب التفسير أقوال عديدة في توضيح ذلك معزوة إلى أصحاب رسول الله وتابعيهم. منها أنهم الذين أسرعوا إلى الاستجابة للدعوة النبوية. والذين وصفوا بالسابقين الأولين في آية التوبة هذه وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ.. [١٠٠] ومنها أنهم كل المسارعين إلى الإيمان حالما تبلغهم الدعوة أو المسارعة في الخيرات الذين أثنت عليهم آيات سورة المؤمنون هذه ووصفتهم بالسابقين إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١) ومنها أنهم السابقون إلى إجابة الأنبياء مطلقا. والذين قالوا هذا أردفوا قولهم بالقول إن الأمم السابقة أكثر من أمة محمد ولذلك قالت الآيتان ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) والذين قالوا إنهم السابقون للاستجابة من أمة محمد أردفوا قولهم بالقول إن الذين استحقوا هذه الدرجة من بعدهم قليل. وإن هذا ما عنته الآيتان المذكورتان. وأيدوه بالحديث النبوي الذي جاء فيه «خير النّاس قرني» وهو حديث صحيح.
وإلى هذا فقد أورد ابن كثير أحاديث معزوة إلى النبي ﷺ تفيد أن أصحاب رسول الله فهموا أن ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) تعني الأمم السابقة وأن وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) تعني أمة محمد فحزنوا وتساءلوا وأن النبي طمأنهم بأنهم سوف يكونون نصف أهل الجنة.. والأحاديث لم ترد في كتب الصحاح.
والذي يتبادر لنا أن الجملة القرآنية تتحمل أكثر الأقوال بل جميعها. غير أن
وتعبير وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) يكون قد تضمن والحالة هذه تقرير صعوبة الوصول إلى مرتبة السابقين المقربين.
هذا من ناحية مدى العبارة القرآنية. ونقول بعد هذا إن الإيمان بما جاء في القرآن من المشاهد الأخروية ومنازلها واجب مع استشفاف الحكمة من ذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به. ويتبادر لنا أن من الحكمة المنطوية في وصف منازل السابقين المقربين الشائق أن يكون في ذلك حفز للمؤمنين على أن يبذلوا جهدهم في التفاني والجهاد والتزام حدود الله ليستحقوا هذه المرتبة عند الله. وفي هذا سعادة وصلاح للإنسانية والمسلمين في الدنيا بالإضافة إلى النجاة وقرة العين في الآخرة. والله تعالى أعلم.
تعليق على ما جاء في الآيات من الإطناب في وصف مجلس الشراب والطعام وهدفه
ويلفت النظر إلى وصف مجلس الشراب والطعام الأنيق في الآيات وخاصة وصف الخمر وكونه لا يحدث صداعا ولا نزيفا. وقد تكرر هذا الوصف في مناسبات أخرى، والمتبادر أن ذلك متصل برسوخ عادة معاطاة الخمر في بيئة النبي ﷺ وآثارها المكروهة، وبسبيل تقرير أن ما في الجنة من لذائذ ومتع هي خالصة مما في مثيلاتها الدنيوية من نقائص ومشاهد بغيضة ومؤلمة، تقوية للترغيب وحثّا على ترك المكروه البغيض في سبيل ما هو خالص منه. مع التنبيه على وجوب
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٢٧ الى ٤٠]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١)
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦)
عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠)
(١) سدر مخضود: سدر منزوع الشوك. والقصد وصف الجنة المعدة لأصحاب اليمين بأنها لا شوك لسدرها. والسدر هو شجر النبق.
(٢) طلح منضود. منضود بمعنى منضّد مصفوف، والطلح ثمر قيل إنه الموز حيث تكون أصابعه منضدة في العنقود.
(٣) ظل ممدود: ظل دائم لا يزول.
(٤) فرش مرفوعة: قيل إن الجملة كناية عن النساء اللاتي جاء وصفهن في الآيات التالية لهذه الآية، لأن المرأة يكنى عنها بالفراش «١» وقيل إنها بسبيل التنويه بارتفاع الفراش الذي يضطجع عليه أهل الجنة عن الأرض.
(٥) إنا أنشأناهن إنشاء: خلقناهن خلقا جديدا. والضمير عائد إلى النساء بقرينة الأوصاف التالية لهذه الآية. وجعل بعض المفسرين هذه الآية وما بعدها قرينة على كون المقصود بجملة وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) النساء. وقيل إن النساء لم يذكرن وإنما اكتفى بذكر أوصافهن لمناسبة ذكر الفرش المرفوعة التي يضطجع عليها الرجال والنساء معا.
(٦) عربا: جمع عريب بمعنى اللعوب المتحببة لزوجها.
(٧) أترابا: جمع ترب، ومعنى الكلمة في الأصل الرقيق المماثل في السنّ
والآيات استمرار للسياق. وقد احتوت تنويها بأصحاب اليمين ووصفا لمنازلهم وحياتهم ونعيمهم في الجنة بعبارة واضحة.
تعليق على منازل أصحاب اليمين
والوصف أقل روعة من الوصف الأول. والحكمة في ذلك ظاهرة متسقة مع طبائع الأشياء. فالمؤمنون في مجال العمل متفاوتون، فمنهم السابق المجلي والمستغرق المتفاني. ومنهم المقتصد المتقي بل ومنهم المقصر بعض التقصير مع حسن النية. فاقتضت حكمة التنزيل أن يعلم الناس أن لكل منهم منازل فيها رضاء الله وعطفه مع التفاوت حسب سيرهم في مجال العمل. وتعبير ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠) في صدد أصحاب اليمين ينطوي على ما هو المتبادر على تقرير كون أصحاب هذه المرتبة هم السواد الأعظم من المؤمنين في جميع الأوقات.
وهو المتسق مع طبائع الأمور.
وفي الآيات تشجيع وتطمين لأصحاب هذه المرتبة. فالله سبحانه يقبل من عباده المؤمنين عملهم الصالح مهما كان مقداره. ويرضى عنه ويثيب أصحابه.
وما قلناه في آخر تعليقنا على ما جاء في الآيات السابقة من الإطناب في وصف مجلس الشراب والطعام وهدفه نقوله هنا بتمامه فلا حاجة إلى التكرار.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٤١ الى ٤٨]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥)
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨)
(١) سموم: الريح الشديدة الحرارة واللفح.
(٣) يحموم: الدخان الشديد السواد.
(٤) لا بارد ولا كريم: يقصد بذلك وصف الظل بأنه لا يمنح برودة ولا يمنع أذى ومما قيل في معنى كريم أنه العذب.
(٥) مترفين: مرفهين منعّمين.
(٦) الحنث العظيم: الحنث هو النكث بالعهد والذنب والإثم. والمقصود من الحنث العظيم الكفر والشرك.
والآيات كذلك استمرار للكلام. وقد احتوت تقريعا للكافرين الجاحدين المشركين الذين هم أصحاب الشمال، ووصفا لمنازلهم وعذابهم بأسلوب هائل ورائع: فهم معرضون للريح الشديدة الحرارة واللفح، فإذا عمدوا إلى إطفاء حرهم بالماء فهو حميم شديد الحرارة أيضا، وإذا عمدوا إلى رواق يتراءى لهم كأنه ظل فهو ظل من يحموم دخان شديد السواد لا يمنح برودة ولا يمنع أذى الحر. وليس من شك في أن هذا الوصف مما يثير الفزع والرهبة في النفوس، وهو مما استهدفته الآيات على ما هو المتبادر بالإضافة إلى القول بوجوب الإيمان بما احتوته الآيات من المشاهد الأخروية.
ولقد احتوت الآيات بالإضافة إلى ذلك تعليلا لمصير الكفار الرهيب. فقد كانوا مستغرقين في حياة الترف مصرين على الكفر والجحود والإثم. وتكذيب ما كانوا يوعدون به من بعثهم وآبائهم بعد أن يموتوا ويصبحوا ترابا وعظاما.
والمتبادر من الآيات وخاصة الآية [٤٥] أن الكلام منصرف في الدرجة الأولى إلى الزعماء والأغنياء. فهم الذين يكونون عادة مستغرقين في حياة الترف.
وهم الذين كانوا يقودون حملة التكذيب والمناوأة لدعوة الله سبحانه.
تعليق على التنديد بالترف والمترفين
وقد يبدو من الكلام أن الترف من جملة الآثام التي يعاقب عليها أصحابها في الآخرة، وإنه لكذلك إذا كان فيه سرف وسفه واستغراق يحول بين صاحبه وبين
تعليق على تنوع أوصاف النعيم والعذاب في الآخرة
هذا، ولا بد من أن يكون تالي القرآن قد لا حظ تنوعا في وصف ثواب الآخرة وعذابها وأحداثها وأهوالها. غير أنا لا نرى في هذا ما يدعوا إلى التوهم، فمع الحقيقة الإيمانية المغيبة في البعث والحساب والثواب والعذاب ووجوب الإيمان بما أخبر به القرآن من المشاهد الأخروية فإن تكرر المواقف وتجدد المناسبات مما يقتضي أو يتحمل التنويع في أساليب الترهيب والترغيب والتبشير والإنذار حفزا للهمم ودعوة للإرعواء، ويلفت النظر إلى أن أوصاف النعيم والعذاب هي مستمدة من مألوفات الناس ومفهوماتهم في الدنيا للتقريب والتمثيل لأن الناس لا يتأثرون إلّا بما في أذهانهم من صور وما يقع تحت مشاهدتهم وحسهم وتجاربهم. وبما أن المألوفات والمفهومات في هذا الباب متنوعة فالمتبادر أن الحكمة اقتضت التنويع لتحقيق الهدف الدنيوي من الإنذار والتبشير والترهيب والترغيب.
قرينة على صحة نزول هذه السورة بعد سورة طه
ويلفت النظر إلى مظهر يمكن أن يكون قرينة على صحة نزول هذه السورة بعد سورة طه. وهو أن سورة طه انتهت بإيعاد الكفار وإنذارهم وإنظارهم إلى اليوم
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٤٩ الى ٥٦]
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣)
فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦)
(١) شجرة الزقوم: هي شجرة معروفة في الحجاز بكثرة شوكها ومرارة ثمرها.
(٢) الهيم: الإبل العطاش المريضة بداء الهيام الذي يدفعها إلى الإكثار من الشرب مع عدم الري.
في الآيات أمر للنبي ﷺ بالرد على ما حكته الآيات السابقة من أقوال الكفار التي ينكرون فيها البعث والتي هي من أسباب المصير الرهيب الذي سوف يصيرون إليه. وهي استمرار للسياق والحال هذه.
وقد احتوت توكيدا ربانيّا بأن جميع الناس من جميع الأجيال سيبعثون ويجمعون إلى موعد معلوم في علم الله، واستطرادا إنذاريّا للكفار المكذبين بما سوف يلقونه من المصير الوخيم في ذلك اليوم حيث يأكلون من شجر الزقوم حتى تمتلئ بطونهم ويشربون من الحميم كما تشرب الإبل المريضة بالهيام التي تظل تشرب ولا ترتوي.
وأوصاف العذاب الجديدة الواردة في هذه الآيات مستمدة هي الأخرى من مألوفات العرب ومفهوماتهم الذين كانوا أول من خوطب بالقرآن وكانوا موضوع الكلام وقد استهدف بها فيما استهدف تشديد الإنذار حيث كانت من أشد ما تعافه النفوس وتتأذى به.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٥٧ الى ٧٤]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١)وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١)
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤)
(١) لولا: في هذه الآيات بمعنى هلا للتنديد.
(٢) تمنون: تنزلون المني الذي هو سبب النسل.
(٣) وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون: وما نحن بمسبوقين بمعنى وما نحن بعاجزين أو وما نحن بمغلوبين، أو لا يستطيع أحد أن يسبقنا ويمنعنا عن تبديل أمثالكم وأشكالكم. وإنشائكم في حالة أو أوصاف أخرى أو أماكن أخرى لا تعلمونها.
(٤) حطاما: هشيما مفتتا.
(٥) ظلتم: ظللتم.
(٦) تفكهون: هنا بمعنى تتعجبون مما وقع وتتحسرون وتتلهفون وتقولون.
(٧) إنا لمغرمون: إنا لخاسرون أتعابنا ونفقاتنا.
(٨) المزن: السحب ومفردها مزنة.
(٩) تورون: تقدحون لأجل إيقاد النار.
(١٠) المقوين: من الإقواء وهو الخلو في الأصل، والكلمة إما بمعنى السائرين في القفر الخالي، أو الخالية بطونهم من الطعام.
فالله تعالى خلقهم فكيف لا يصدقون بأنه قادر على خلقهم مرة ثانية؟ وهل هم الذين خلقوا المني الذي هو سبب النسل! أم الله الذي قدر على الناس الموت والذي لا يستطيع أحد أن يغلبه ويسبقه ويمنعه عن تبديلهم بخلق آخر وإنشائهم على حال غير حالهم حينما يشاء وأنى شاء. ولقد عرفوا هذه القدرة الربانية واعترفوا بها فكيف نسوا ذلك ولم يتذكروه وأنكروا قدرته على بعث الخلق ثانية.
وهل هم الذين ينبتون الزرع الذي يحرثون الأرض له ويبذرون بذاره أم الله تعالى القادر على أن يجعله حطاما لا غلة فيه ولا ثمر. ولو فعل هذا لما كان منهم إلّا الحسرة والندم وندب الحظ بما أصابهم من خسارة وحرمان.
وهل هم الذين أنزلوا من الحساب الماء الذي يشربون أم الله تعالى القادر على إنزاله ملحا أجاجا، فكيف لا يشكرونه على نعمه ويعترفون بربوبيته وقدرته.
وهل هم الذين خلقوا الشجر الذي يوقدون منه النار أم الله تعالى الذي جعله نافعا للناس جميعهم حضرهم وبدوهم وبخاصة للمقوين منهم.
وقد أمرت الآية الأخيرة النبي ﷺ أو السامع المؤمن إطلاقا بتقديس الله وتنزيهه عما يقوله الكفار المكذبون جريا على الأسلوب التخاطبي المألوف حينما يصدر من أحد قول أو فعل فيه افتراء على الله أو جحود لقدرته أو سوء أدب إزاءه.
والآيات قوية في صدد ما نزلت لأجله ومستحكمة في الكفار لأنهم يعترفون بأن الله هو خالق السموات والأرض على ما حكته آيات القرآن التي منها آية الزخرف هذه وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) وآية سورة الزخرف هذه أيضا وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧).
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٧٥ الى ٨٠]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠)
المتبادر أن الآيات جاءت استطرادية أو تعقيبية لتوكيد صلة القرآن الذي يوحى به إلى النبي ﷺ والذي يتضمن تقرير ما يبلغ للناس ويوعدون به بالله تعالى حيث احتوت قسما ربانيّا بمواقع النجوم وهو قسم عظيم لو يعلم الناس أسرار كون الله بأن ما يتلى عليهم من الآيات المحتوية تلك الوعود والبراهين القاطعة على قدرة الله وعظمته وحقيقة البعث والجزاء الأخروية هو قرآن كريم منزل من ربّ العالمين في كتاب محفوظ لا يمسه إلا المطهرون.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس في صدد جملة بِمَواقِعِ النُّجُومِ أنها منازل القرآن في السماء الدنيا التي نزل إليها من أعلى واستقر فيها ثم أخذ ينزل منها منجما حسب الأحداث كما روي عن الحسن وقتادة وهما من علماء التابعين أنها منازل النجوم الحقيقة ومطالعها ومساقطها. ثم رجح القول الثاني. وهو الصواب كما هو المتبادر لنا لأن القول الأول لا يستند إلى خبر قرآني وحديث نبوي وثيق ولا تفهم له حكمة، وقد يكون متناقضا مع وقائع الأمور وطبائع الأشياء من حيث إن الأحداث التي نزل بها القرآن كانت تقع وتتجدد على ما نبهنا عليه في سياق سورة القدر. والله تعالى أعلم.
تعليق على آيات إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩)
ويلحظ أن الآيتين [٧٧، ٧٨] مماثلتان لآيتي سورة البروج بَلْ هُوَ قُرْآنٌ
(٢٢) بفارق ورود كلمتي كتاب مكنون بدل من كلمتي لوح محفوظ. وقد قال بعض المفسرين إن الكلمتين هنا تعنيان اللوح المحفوظ أيضا.
والذي يتبادر لنا أن كلمة كتاب هنا تؤيد ما أوّلنا به كلمة اللوح في سياق تفسير سورة البروج وهو علم الله الشامل. وقد صرف بعض المفسرين جملة لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ إلى الملائكة بسبيل تقرير طهارة الملائكة النازلين به. وصرفها آخرون إلى الناس بسبيل حظر مسّ صحف القرآن على غير الطاهرين. وصرفها بعضهم إلى الأنبياء والرسل من بني آدم والملائكة. وقال آخرون إنها تنطوي على تقرير كونه محفوظا عن غير المقربين من الملائكة دون سائرهم «١».
والأقوال الأولى واردة دون الأخير الذي يقتضي أن يكون في الملائكة طاهرين وغير طاهرين. وقد يستأنس على القول الأول بآيات سورة عبس هذه فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) وقد يستأنس على التالي بالتواتر الذي ينقطع من عهد النبي ﷺ في حظر مسّ المصحف على غير الطاهرين من الحدث الأكبر (الجنابة) بالإجماع والحدث الأصغر (مفسد للصوم) بغير إجماع. وفي حالة رجحان هذا القول يكون في الآية دليل على أن فصول القرآن وسورة كانت تدوّن في صحف وتحفظ في مصحف أولا فأولا. وهو ما قامت عليه الأدلة العديدة من القرآن والسنة والروايات الوثيقة.
ولقد روى الإمام مالك في الموطأ «أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله ﷺ لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن إلّا طاهر» وعقب الإمام على هذا قائلا «ولا يحمل أحد المصحف بعلاقة ولا على وسادة إلّا وهو طاهر». والحديث يؤيد ما جرى العمل عليه المتواتر منذ العهد النبوي. أما التعقيب فهو رأي اجتهادي ونراه يتحمل النظر لأن فيه مشقة على المسلمين. وقد رفع الله عنهم الحرج في الدين كما جاء في آية سورة الحج [٧٨]. والنصّ القرآني لا يتسق مع هذا القول لأنه إنما حظر مسّ القرآن مباشرة على غير المتطهرين، والله أعلم.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٨١ الى ٩٦]
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥)
فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠)
فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦)
(١) مدهنون: مكذبون له أو مترددون فيه.
(٢) تجعلون رزقكم أنكم تكذبون: تجعلون واجب شكركم على ما رزقكم الله تكذيب ما يؤكد وقوعه، أو تجعلون كل حظكم من الخير أو كل همّكم تكذيب ما يؤكد الله وقوعه.
(٣) لولا: هنا للتنديد والتحدي بمعنى هلّا.
(٤) إذا بلغت الحلقوم: إذا بلغت روح المرء حلقومه، والجملة كناية عن الاحتضار.
(٥) غير مدينين: غير مبعوثين للجزاء، أو غير مدينين في حياتكم ومماتكم لأحد أو غير مربوبين ومملوكين لأحد، على اختلاف الأقوال.
(٦) ترجعونها: الضمير عائد لروح المحتضر حينما تصل إلى الحلقوم.
(٧) روح: هنا بمعنى الراحة أو الرحمة.
الآيات استمرار للسياق. والخطاب موجه إلى الكفار المكذبين مثل الآيات السابقة.
ولقد عجزتم عن ذلك واكتفيتم بالنظر إلى صاحبكم وهو في غمرات الموت والله أقرب إليه منكم.
أما القسم الباقي من الآيات فقد احتوى استطرادا إلى ذكر مصير كل ميت.
فإذا كان من طبقة المقربين فله الروح والريحان والجنة. وإذا كان من طبقة أصحاب اليمين فله السلام والتكريم من أمثاله الذين يستقبلونه. أما إذا كان من المكذبين الضالين فمصيره ونزله النار والحميم.
وقد انتهت الآيات بتوكيد صحة هذا المصير. فهو يقينيّ لا ريب فيه. ثم بالأمر ثانية بتقديس الله تعالى وتنزيهه عمّا يقوله المكذبون الضالون. والتنويه بعظمته.
وطابع الختام بارز على هذا الفصل مما تكرر في سور أخرى، وفيه عود على بدء حيث تتشابه خاتمة السورة مع فاتحتها مما فيه صور من صور النظم القرآني كما هو المتبادر.
هذا، وفصول السورة بمجموعها صورة من صور النضال الشديد الذي كان يقع بين النبي ﷺ والكفار، وبخاصة في صدد تكذيب البعث والجزاء الأخرويين.