تفسير سورة الواقعة

معاني القرآن للزجاج
تفسير سورة سورة الواقعة من كتاب معاني القرآن وإعرابه للزجاج المعروف بـمعاني القرآن للزجاج .
لمؤلفه الزجاج . المتوفي سنة 311 هـ

سُورَةُ الواقعة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله عزَّ وجلَّ: (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١)
يقال لكل آت كان يتوقع قد وَقَعَ، تقول: قد وقع الأمر.
كقولك قد جاء الأمر.
والواقعة ههنا الساعة والقيامة.
* * *
وقوله: (خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (٣)
المعنى أنها تخفض أهل المعاصي، وترفع أهل الطاعة.
و (خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ) القراءة بالرفع، والنصبُ جائز ولم يقرأ به إمام من القراءَ، وقد رويت عن الزِيدي صاحب أبي عمرو ابن العلاء، فمن رفع وهو الوجه.
فالمعنى هي خافضة رافعة
ومن نصب فعلى وجهين:
أحدهما " إذا وقعت الواقعة خافِضَةً رافِعةً " على الحال
ويجوز على إضمار " تقع " ويكون المعنى إذا وقعت
تقع خافضة رافعة - على الحال من تقع المضمر.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (٢)
أي لا يردها شيء كما تقول: قَدْ حَمَلَ فُلان لا يُكَذَبُ، أي لايرد حَمْلَته
شيء
و" كَاذِبَة " مصدر كقولك [عافاه] الله عافية وعَاقَبَهُ عاقبة، وكذلك كذب
كاذبة، وهذه أسماء في مَوْضِعِ المَصَادِرِ.
* * *
وقوله: (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤)
موضع " إذا " نصب.
المعنى إذا وقعت في ذلك الوقت.
ويجوز النَصْب على " تقع " (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا).
ومعنى (رُجَّتِ) حركت حركة شديدة وزلزلتْ.
* * *
(وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (٥)
(بُسَّتِ) لُتَّت وخُلِطتْ، و (بُسَّتِ) أيضاً سابتْ.
* * *
(فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (٦)
غباراً، ومثله (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا).
ومثل خُلِطتْ ولُتَّت
قول الشاعر:
لا تَخْبِزوا خَبْزاً وبُسَّا بَسَّا...
ومثل [سابت وانسابتْ] قوله:
وانْبَسَّ حَيَّاتُ الكَثِيبِ الأَهْيَلِ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (٧)
أي أصنافاً ثلاثة، يقال للأصناف التي بعضها مع بعض أزواج
كما يقال للخفين زوجان.
* * *
وقوله.: (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (٨)
رفع بالابتداء.
والمعنى وأصحاب الميمنة ما هم، أي شيء هُمْ
(وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (٩)
أي شيء هم.
وهذا اللفظ مجراه في العربية مجرى
التعَحب، ومجراه من اللَّه - عزَّ وجلَّ - في مخاطبة العباد مجرى ما يعظم به
الشأنُ عندهم..
ومثله (الحاقة ما الحاقة)، و (القارعة ما القارعة).
ومعنى (أصحاب الميمنة) أصحاب اليمين.
(وأصحاب المشامة) أصحاب الشمال.
(وأصحاب اليمين) هم أصحاب المنزلة الرفيعة.
وأصحاب الشمال هم أصحاب المنزلة الدنيئة الخسيسة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١)
معناه - واللَّه أعلم - السابقون السابقون إلى طاعة اللَّه عزَّ وجل
والتصديق بأنبيائه.
والسابقون الأول رفع بالابتداء، والثاني توكيد، ويكون
الخبر (أولئك المقربون).
ثم أخبر أين محلهم فقال: (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢)
ويجوز أن يكون السابِقُون الأول رفعاً بالابتداء.
ويكون خبره (السابقون) الثاني.
فيكون المعنى - واللَّه أعلم - السابقون إلى طاعة اللَّه السابقون إلى
رحمة اللَّه.
ويكون (أولئك المقربون) من صِفتهم.
* * *
وقوله: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤)
(ثُلَّةٌ) رفع على معنى هم (ثُلَّةٌ).
والثُّلَّة: الجماعَة، وهذا - واللَّه أعلم - معنى (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي جماعة ممن عاين الأنبياء وصدق بِهِمْ.
فالذين عاينوا جميع النبيين وصدَّقوا بِهِم أكثر ممن عاين النبي عليه السلام، وذلك قوله في قصة يونس: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (١٤٨).
هَؤلاء سوى سائر من آمن بجميع الأنبياء ممن عاينهم وصَدَّقَهُم
ويجوز أن يكون الثُّلَّة بمعنى قليل من الأولين وقليل من الآخرين.
لأن اشتقاق الثلة من القطعة.
والثل الكسر والقطع، والثُّلَّة نحو الفئة والفرقة.
* * *
وقَوْلُه: (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (١٦)
(متكئين، ومتقابلين) منصوبان على الحال، المعنى أولئك المقربون في
جنات النعيم في هذه الحال.
والسرر جمع سرير، مثل كثيب وكثب.
ومعنى " متقابلين " ينظر بعضهم إلى وجوه بعض ولاينظر في أقفاء بعض.
وصفوا مع نعمهم بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق، وصفاء المودة ومن
ذلك قوله عزَّ وجلَّ: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (٤٧).
وجاء في التفسير (موضونة) مرمولة ومعنى مرمولة منسوجة، نحو نسج
الدروع، وجاء في التفسير أنها من ذهب.
ومثل موضونة قول الأعشى.
ومن نَسْجِ داودَ مَوْضونَة... يُساقُ بها الحَيُّ عِيراً فَعِيرا
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨)
الأكواب آنية لا عُرى لها ولا خراطيم، والِإبريق ما له خرطوم وعُروة.
(وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ).
والكأس: الِإناء فيه الشراب، فإن لم يكن فيه شراب فليس بكأسِ.
وقوله: (مِنْ مَعِينٍ) معناه من خمر تجْري من العُيونِ.
* * *
وقوله: (لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (١٩)
تأويله لا ينالهم عن شربها ما يَنال أهل الدنيا من الصُّداع.
(وَلَا يُنْزِفُونَ) لا يسكرون، والنزيف السكران، وإنما قيل له نزيف ومنزوف لأنه نزف عقله.
ويقرأ (وَلَا يُنْزَفُونَ)، معناه لا ينزف شَرابُهُمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣)
بالخفض، وقرئت بالرفع، والذين قرأوها بالرفع كرهوا الخفض لأنَّهُ
عطف على قوله: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوَابٍ).
فقالوا: الحور ليس مما يطاف به، ولكن مخفوض على غير ما ذهب إليه هؤلاء لأن معنى (يطوف عليهم وِلْدَان مخلدونَ) ينعمون بهذا، وكذلك ينعمون بلحم طيرٍ وكذلك ينعمون بحورٍ عِينٍ.
ومن قرأ بالرفع فهو أحْسَن الوجهين لأن معنى (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ) بهذه الأشياء بمعنى ما قد ثبت لهم فكأنه قال: ولهم حُورٌ عِينٌ.
ومثله مما حمل على المعنى قول الشاعر:
بَادَت وغُيِّر آيهن مع البلي... إلاَّ رَواكدَ جَمْرُهُنَّ هَباءُ
ومشججٌ أما سواءُ قذا له... فبدا وغيره سَارَه المَعْزَاءُ
لأنه قال: إلَّا رَوَاكِدَ، كان المعنى بها رَوَاكِد، فَحَمَلَ ومشججٌ على
المعنى.
وقد قرئت (وحوراً عِيناً) بالنَّصْبِ على الحمل على المعنى أيضاً، لأن
المعنى يُعْطَوْن هذه الأشياءَ يُعْطَون حوراً عيناً، إلا أن هذه القراءة تخالف
المصحف الذي هو الِإمَامَ، وأهل العلم يكرهون أن يُقْرَا بِمَا يَخَالِف الِإمَامَ.
ومعنى الحور: الشديدات البياض، والعِين الكبيرات العيُونِ حِسَانها (١).
ومعنى (كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣)
أي كأمثال الدر حين يخرج من صَدَفِه وَكِنِّه.
لم يغيره الزَّمَان واختلاف أحوال الاستعْمَال وإنما يعنى بقوله:
(كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ) أي في صفائهن وتَلْألُئِهِن كصفاء الدُّرِّ وتَلَألِئِه.
* * *
وقوله: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤)
منصوب مفعول له.
المعنى يفعل بهم ذَلِكَ لِجَزاءِ أعمَالَهم.
ويجوز أن يكون (جَزَاءً) منصوباً على أنه مصدر.
لأن معنى (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ)
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿وَحُورٌ﴾ قرأ الأخَوان بجرِّ «حور عين». والباقون برفعِهما. والنخعيُّ: «وحِيرٍ عين» بقلب الواو ياءً وجرِّهما، وأُبَيٌّ وعبد الله «حُوْراً عيناً» بنصبهما. فأمَّا الجرُّ فمن أوجه، أحدها: أنه عطفٌ على ﴿جَنَّاتِ النعيم﴾ [الواقعة: ١٢] كأنه قيل: هم في جنات وفاكهة ولحمٍ وحورٍ، قاله الزمخشري. قال الشيخ: «وهذا فيه بُعْدٌ وتفكيكُ كلامٍ مرتبطٍ بعضُه ببعض، وهو فُهْمُ أعجمي». قلت: والذي ذهب إليه معنى حسنٌ جداً، وهو على حَذْفِ مضافٍ أي: وفي مقاربة حور، وهذا هو الذي عناه الزمخشري. وقد صرَّح غيرُه بتقدير هذا المضاف. الثاني: أنه معطوفٌ على «بأكواب» وذلك بتجوُّزٍ في قوله: «يطُوفُ» إذ معناه: يُنَعَّموْن فيها باكواب وبكذا وبُحور، قاله الزمخشري. الثالث: أنه معطوفٌ عليه حقيقةً، وأن الوِلْدانَ يَطُوفون عليهم بالحور أيضاً، فإن فيه لذةً لهم، طافُوا عليهم بالمأكولِ والمشروبِ والمُتَفَكَّهِ بعد المنكوحِ، وإلى هذا ذهب أبو عمرو بن العلاء وقطرب. ولا التفات إلى قولِ أبي البقاء: «عطفاً على أكواب في اللفظ دون المعنى؛ لأنَّ الحوَر لا يُطاف بها».
وأمَّا الرفعُ فمِنْ أوجهٍ أيضاً، عطفاً على «ولْدانٌ»، أي: إنَّ الحورَ يَطُفْنَ عليهم بذلك، كما الوَلائدُ في الدنيا. وقال أبو البقاء: «أي: يَطُفْنَ عليهم للتنعُّمِ لا للخدمة» قلت: / وهو للخدمةِ أبْلَغُ؛ لأنهم إذا خدمهم مثلُ أولئك، فما الظنُّ بالمَوْطوءات؟ الثاني: أَنْ يُعطفَ على الضمير المستكنِّ في «مُتَّكِئين» وسَوَّغ ذلك الفصلُ بما بينهما. الثالث: أَنْ يُعْطفَ على مبتدأ وخبر حُذِفا معاً تقديرُه: لهم هذا كلُّه وحورٌ عين، قاله الشيخ، وفيه نظر؛ لأنَّه إنما عُطِف على المبتدأ وحدَهُ، وذلك الخبرُ له ولِما عُطِف هو عليه.
الرابع: أَنْ يكونَ مبتدأً، خبرُه مضمرٌ تقديرُه: ولهم، أو فيها، أو ثَمَّ حورٌ. وقال الزمخشري «على وفيها حُوْرٌ كبيت الكتاب:
٤٢١١............................. إلاَّ رَواكدَ جَمْرُهُنَّ هَباءُ
الخامس: أن يكونَ خبراً لمبتدأ مضمر، أي: نساؤهم حورٌ، قاله أبو البقاء. وأمَّا النصبُ ففيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ بإضمارِ فِعْل، أي: يَعْطَوْن، أو يَرِثُون حُوْراً، والثاني: أن يكونَ محمولاً على معنى: يَطوف عليهم؛ لأن معناه يُعْطَوْن كذا وكذا فعطف عليه هذا. وقال مكي:»
ويجوز النصبُ على أَنْ يُحْمَلَ أيضاً على المعنى؛ لأنَّ معنى يَطوفُ وِلْدانٌ بكذا وكذا يُعْطَوْن كذا وكذا، ثم عطف حوراً على معناه «فكأنه لم يَطَّلعْ عليها قراءةً.
وأمَّا قراءةُ»
وحِيْرٍ «فلمجاورتها» عين «ولأنَّ الياءَ أخفُّ من الواو، ونظيرهُ في التغيير للمجاورة:» أَخَذَه ما قَدُم وما حَدُث «بضم دال» حَدُث «لأجل» قَدُم «وإذا أُفْرِد منه فَتَحْتَ دالَه فقط، وقوله عليه السلام:
«وربِّ السماوات ومَنْ أَظْلَلْنَ ورَبِّ الشياطين ومَنْ أَضْلَلْنَ»
وقوله عليه السلام: «أيتكنَّ صاحبةُ الجمل الأَرْبَب تَنْبَحُها كلابُ الحَوْءَب» فَكَّ «الأَرْبَبَ» لأجل «الحَوْءَب».
وقرأ قتادة «وحورُ عينٍ» بالرفع والإِضافة ل «عين» وابن مقسم بالنصب والإِضافةِ وقد تقدَّم توجيهُ الرفع والنصب. وأمَّا الإِضافةُ فمِنْ إضافة الموصوف لصفته مؤولاً. وقرأ عكرمةُ «وحَوْراءَ عَيْناءَ» بإفرادِهما على إرادةِ الجنس. وهذه القراءةُ تحتمل وجهَيْن: أحدهما: أَنْ تكونَ نصباً كقراءة أُبَيّ وعبد الله، وأن تكونَ جرَّاً، كقراءة الأخوَيْن؛ لأن هذين الاسمَيْن لا ينصرفان فهما محتملان للوجَهْين. وتقدَّم الكلام في اشتقاق العِين.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
يجازون جزاء بأعمالِهِم.
وهذا الوجه عليه أكثر النحويين.
* * *
وقوله: (إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (٢٦)
(قِيلًا) منصوب بقوله (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (٢٥) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (٢٦).
فالمعنى لا يسمعون إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا، مَنصوبٌ من جهتين
إحداهما أن يكون من نعت لـ (قِيلًا)، فيكون المعنى لا يَسْمَعون إلا قيلاً يسلم فيه من اللغو والِإثم.
والوجه الثاني أن يكونَ (سَلاَماً) منصوباً على المصدر، فيكون
المعنى لا يسمعون فيها إلا أن يَقولَ بعضهُم لبعض سَلَامًا سَلَامًا.
ودليل هذا قوله تعالى: (تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩)
المخضود: الذي قد نزع شوكه، والطلح جاء في التفسير أنه شجر
الموز، والطلح شجر أم غَيْلانَ أيضاً، وجائز أن يكون يعنى به ذلك الشجر.
لأنَّ له نَوْراً طيب الرائحة جدًّا، فخوطبوا ووعدوا بما يحبُّونَ مثله، إلا أن فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠)
معناه تام دائم.
* * *
وقوله: (وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (٣١)
يعنى به أنه ماء لا يتعبون فيه ينسكب لهم كيف يحبون.
* * *
وقوله: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (٣٥)
يعني الحورَ، أنْشِئْنَ لأولياء الله عَزَّ وجل، لَيْسَ ممن وقعت عليه ولادة.
* * *
(فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (٣٦)
لَمْ يُطْمِثْنَ.
* * *
(عُرُبًا أَتْرَابًا (٣٧)
عُرُباً، والعرب المتحببات إلى ازوَاجِهِنَ.
وقوله: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠)
معناه - واللَّه أعلم - جماعة ممن تبع النبي - ﷺ - وعاينه، وجماعة ممن آمن به وكان بعده.
* * *
وقوله: (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣)
اليحموم الشديد السواد، وقيل إنه الدخان الشديد السَّوَاد.
وقيل (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) أي من نار يعذبون بها.
ودليل هذا قوله عزَّ وجلَّ: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) إلا أنه موصوف في هذا الموضع بِشِدة السواد.
* * *
(وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦)
قيل في التفسير: الحنث الشرك، وَقيل على الِإثم العظيم، وهو - واللَّه
أعلم - الشرك والكفر بالبعث، لأن في القرآن دليل ذلك وهو
(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا) فهذا - واللَّه أعلم - إصرارهم على الحنث العظيم.
* * *
(فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥)
ويقرأ (شَرْبَ الْهِيمِ)، والشَّرْب المصدر، والشُّربُ الاسم، وقد قيل إن
الشُّرْب أيضاً مَصْدَرٌ. والهيم الِإبلُ العِطَاشُ (١).
* * *
وقوله: (هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦)
أي هذا غذاؤهم يوم الجزاء أي يوم يجازَوْنَ بأعمالهم.
* * *
وقوله: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (٥٨)
أي ما يكون منكم من المَنِيِّ الذي يكون مِنهُ الوَلَدُ، يقال: أمنى الرجل
يمني، ومَنَى يَمْنِي.
فيجوز على هذا " تَمْنُون " بفتح التاء، ولا أعلم أحداً قرأ بها، فلا تقرأنَّ بها إلا أن تثبت رواية.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿شُرْبَ الهيم﴾: قرأ نافعٌ وعاصمٌ وحمزةُ بضم الشين، وباقي السبعة بفتحِها، ومجاهد وأبو عثمان النهدي بكسرِها فقيل: الثلاثُ لغاتٌ في مصدر شَرِب، والمقيسُ منها إنما هو المفتوحُ. وقيل: المصدرُ هو المفتوحُ والمضموم والمكسورُ اسمان لِمَا يُشْرَبُ كالرِّعْي والطِّحْن. / وقال الكسائي: يُقالُ شرِبْتُ شُرباً وشَرْباً. ويروى قولُ جعفر: «أيامُ مِنى أيامُ أكلٍ وشُرْبٍ وبِعال» بفتح الشين. والشَّرْب في غيرِ هذا اسمٌ للجماعة الشاربين قال:
٤٢١٥ كأنَّه خارِجٌ من جَنْبِ صَفْحَتِهِ... سَفُّوْدُ شَرْبٍ نَسُوْهُ عند مُفْتَأَدِ
والمعنى: مثلَ شُرْبِ الهِيم. والهِيْمُ فيه أوجهٌ، أحدها: أنه جَمْعُ أَهْيمَ أو هَيْماء، وهو الجَمَلَُ والناقةُ التي أصابها الهُيامُ وهو داءٌ مُعْطِشٌ تشرب الإِبلُ منه إلى أن تموتَ أو تَسْقُمُ سُقْماً شديداً، والأصلُ: هُيْم بضمِّ الهاءِ كأَحْمر وحُمْراء وحُمْر، فقُلِبت الضمةُ كسرةً لتصِحَّ الياءُ، وذلك نحو: بِيْض في أبيض. وأُنْشد لذي الرمة:
٤٢١٦ فأصبَحْتُ كالهَيْماءِ لا الماءُ مُبْرِدٌ... صَداها ولا يَقْضي عليها هُيامُها
الثاني: أنه جمع هائِم وهائِمة من الهُيام أيضاً، إلاَّ أنَّ جَمْعَ فاعِل وفاعِلة على فُعْل قليلٌ نادرٌ نحو: بازِل وبُزْل وعائِذ وعُوْذ ومنه: العُوْذُ المَطافيل. وقيل: هو من الهُيام وهو الذَّهابُ؛ لأنَّ الجملَ إذا أصابه ذلك هامَ على وَجْهه. الثالث: أنه جمع هَيام بفتح الهاء وهو الرَّمْلُ غيرُ المتماسكِ الذي لا يُرْوَى من الماء أصلاً، فيكونُ مثلَ سَحاب وسُحُب بضمتين، ثم خُفِّف بإسكان عينه ثم كُسِرَتْ فاؤه لتصِحَّ الياء، كما فُعِلَ بالذي قبله. الرابع: أنَّه جمعُ «هُيام» بضم الهاء وهو الرَّمْل غيرُ المتماسكِ أيضاً لغةً في «الهَيام» بالفتح، حكاها ثعلب، إلاَّ أن المشهورَ الفتحُ ثم جُمع على فُعْل نحو: قُراد وقُرْد، ثم خُفِّفَ وكُسِرَتْ فاؤُه لتصِحَّ الياء والمعنى: أنَّه يُصيبهم من الجوع ما يُلجِئُهم إلى أَكْلِ الزَّقُّوم، ومن العطشِ ما يَضْطرُّهم إلى شُرْب الحميم مثلَ شُرْبِ الهِيْم. وقال الزمخشري: «فإن قلتَ: كيف صَحَّ عَطْفُ الشاربين على الشاربين، وهما لذواتٍ واحدةٍ، وصفتان متفقتان، فكان عطفاً للشيء على نفسِه؟ قلت: لَيْستا بمتفقتَيْن من حيث إنَّ كونَهم شاربين على ما هو عليه مِنْ تناهي الحرارة وقَطْع الأمعاء أمرٌ عجيبٌ، وشُرْبُهم له على ذلك كما تَشْرَب الهِيم أمرٌ عجيب أيضاً، فكانتا صفتَيْن مختلفتَيْن» انتهى يعنى قولَه: «فشاربون عليه من الحميم، فشاربون» وهو سؤالٌ حسنٌ، وجوابُه مثلُه.
وأجاب بعضُهم عنه بجواب آخر: وهو أنَّ قولَه: ﴿فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم﴾ تفسيرٌ للشُرْب قبلَه، ألا ترى أنَّ ما قبلَه يَصْلُح أن يكونَ مثلَ شُرْبِ الهيمِ ومثلَ شُرْبِ غيرِها ففَسَّره بأنه مثلُ شُرْبِ هؤلاء البهائم أو الرِّمالِ.
وفي ذلك فائدتان، إحداهما: التنبيهُ على كثرةِ شُرْبهم منه والثاني: عَدمُ جَدْوَى الشُّرْب، وأن المشروبَ لا يَنْجَعُ فيهم كما لا يَنْجَعُ في الهِيْم على التفسيرَين.
وقال الشيخ: «والفاءُ تقتضي التعقيبَ في الشُّرْبَيْنِ، وأنهم أولاً لمَّا عَطِشوا شَرِبوا من الحميم، ظَنّاً منهم أنه يُسَكِّنُ عَطَشَهُم، فازداد العطشُ بحرارةِ الحميمِ، فشربوا بعده شُرْباً لا يقع بعدَه رِيٌّ أبداً. وهو مِثْلُ شُرْبِ الهيم فهما شُربان مِنَ الحَميم لا شُرْبٌ واحدٌ، اختلفَتْ صفتاه فَعَطف. والمشروبُ مِنْه في ﴿فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم﴾ محذوفٌ لفَهْمِ المعنى تقديرُه: فشاربون منه» انتهى. والظاهرُ أنه شُرْبٌ واحدٌ بل الذي نعتقدُ هذا فقط، وكيف يُناسِبُ أَنْ تكونَ زيادتُهم العطشَ بشُرْبِه مقتضيةً لشُرْبِهم منه ثانياً؟
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
رقوله: (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (٥٩)
احتج عليهم في البعث بالقدرة على ابتداء الخلق كما قال عزَّ وجلَّ:
(وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (٦١)
أي إن أردنا أن نخلق خلقاً غيركم لم يسبقنا سابق ولا يفوتنا ذلك.
* * *
وقوله: (وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (٦١)
أي إن أردنا أن نجعل منكم القردة والخنازير لم نسبق ولَا فَاتَنا ذَلك.
* * *
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (٦٢)
أي قد علمتم ابتداء الخلق فلم أنَكرتم البعث.
ومعنى " لَوْلَا تَذَكَّرُونَ " هلَّا تذكرون.
* * *
وقوله: (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥)
أي لو جعلنا ما تزرعون حطاماً، أي أبطلناه حتى يكون متحطماً لا حنطة
فيه ولا شيء مما تَزْرَعُونَ.
(فَظَلْتُم تَفًكَّهُونَ).
أي تَنَدّمُون، ويجُوزُ فَظِلْتُم تفكهون - بكسر الظاء - (١)
* * *
وقوله: (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦)
أي يقولون قد غرمنا وذهب زرعنا، (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ).
* * *
وقوله: (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩)
وهي السحاب واحدته مُزْنَةٌ وجمعه مُزْن.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿فَظَلْتُمْ﴾: هذه قراءةُ العامَّةِ أعني فتحَ الظاء مع لامِ واحدة. وقد تقدَّم الكلامُ عليها مستوفى في طه. وأبو حيوة وأبو بكرٍ في روايةٍ بكسرِ الظاء. وعبد الله والجحدريُّ «فظَلِلْتُمْ» على الأصل بلامَيْن، أُولاهما مكسورةٌ. ورُوي عن الجحدري فتحُها، وهي لغةٌ أيضاً.
والعامةُ «تَفَكَّهون» بالهاء، ومعناه: تَنْدَمون، وحقيقتُه: تُلْقُون الفُكاهةَ عن أَنْفسِكم، ولا تُلْقَى الفُكاهةُ إلاَّ من الخِزْيِ فهو من بابِ: تَحَرَّج وتَأَثَّم وتَحَوَّب. وقيل: تَفَكَّهون: تَعْجَبون. وقيل: تَلاومون، وقيل: تَتَفَجَّعون، وهذا تفسيرٌ باللازم.
وقرأ أبو حرام العكلي «تَفَكَّنون» بالنون مثل تَتَنَدَّمون. قال ابن خالويه: «تَفَكَّهَ تَعَجَّب، وتَفَكَّن تندَّمَ». وفي الحديث: «مَثَلُ العالِمِ مَثَلُ الحَمَّة يَأْتيها البُعَداء ويترُكها القُرَباء. فبيناهُمْ إذ غار ماؤها فانتفع بها قومٌ وبقي قومٌ يَتَفَكَّنون» أي: يَتَنَدَّمون.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقوله: (لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (٧٠)
الأجاج الماء الملح الذي لا يمكن شربه ألبتَّة.
(فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ)، معناه " فَهَلَّا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١)
معناه تقدحونَ، تقول وري الزند يَرِي ورْياً، فهو وارٍ إذا انقدحت منه
النار، وأوريت النار إذا قدحتها، والعرب تقدَحُ بالزندِ والزنْدَةِ، وهذا خشب يحك بعضه على بعض فيخرجِ منه النار، فقال:
* * *
(أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (٧٣)
أي إذا رآها الرائي ذَكَرَ جهنم وما يخافه من العذاب، فذكر الله عزَّ وجلّ
واستجار به منها.
ومعنى (مَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ)، المقوي الذي ينزل بالقواء.
وهي الأرض الخالية.
فذكر اللَّه - عزَّ وجلَّ - جمع ما يدل على توحيده وما أنعم به عليهم من
خَلْقِهم، وتغذيتهم مما يأكلون ويشربون، مما يدل على قَدْرَتِهِ ووحدانيتَه.
ثم قال عزَّ وجلَّ:
* * *
(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤)
أي فبرِّئ اللَه - عزَّ وجلََّ.
[لما ذكر ما يدل على توحيده، وقدرته، وإنعامه، قال: «فسبح» أي: برِّء الله ونزّهه عما يقولون في وصفه] (١).
* * *
(فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (٧٥)
معناه أقسم، ودخلت (لَا) توكيداً كما قال عزَّ وجل:
(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ)، معناه لأن يعلم أهل الكتاب.
ومواقع النجوم مَسَاقِطُها.
كما قال - عزَّ وجلَّ - (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ).
وقيل إن مواقعِ النجومِ يعنى به نجوم القرآن، لأنه كان ينزل على النبي - ﷺ - نُجُوماً شيئاَ بَعْدَ شَيءٍ (٢)
ودليل هذا القول (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧).
* * *
وقوله: (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (٧٨)
أي مصون في السماء في اللوح المحفوظ.
(١) زيادة حكاها ابن الجوزي عن الزَّجَّاجِ. (زاد المسير. ٨/ ١٥٠).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ﴾: قرأه العامَّةُ «فلا»، لامَ ألفٍ، وفيها أوجهٌ، أحدُها: أنها حرفُ نفي، وأنَّ المنفيَّ بها محذوفٌ، وهو كلامُ الكافرِ الجاحدِ تقديرُه: فلا حُجَّةَ لِما يقولُ الكافرُ، ثم ابتدأ قَسَماً بما ذَكَر، وإليه ذهب جماعةٌ من المفسِّرين والنَّحْويين. وضُعِّفَ هذا: بأنَّ فيه حَذْفَ اسمِ «لا» وخبرِها. قال الشيخ: «ولا يجوز» ولا ينبغي؛ فإن القائلَ بذلكَ مثلُ سعيدِ بنِ جُبير تلميذِ حَبْر القرآنِ وبحرِه عبدِ اللَّهِ ابن عباس رضي الله عنهما، ويَبْعُدُ أَنْ يقولَه سعيدٌ إلاَّ بتوقيف.
الثاني: أنها زائدةٌ للتوكيدِ، مِثْلُها في قولِه تعالى: ﴿لِّئَلاَّ يَعْلَمَ﴾ [الحديد: ٢٩] والتقدير: فأُقْسِمُ، وليَعْلَمَ، وكقولِه:
٤٢٢٤............................ فلا وأَبي أعدائِها لا أَخُوْنُها
الثالث: أنَّها لامُ الابتداءِ. والأصلُ: فَلأُقْسِمُ فأُشْبِعَتْ الفتحةُ فتولَّد منها ألفٌ، كقولِه:
٤٢٢٥ أَعوذُ باللَّهِ من العَقْرابِ... قاله الشيخُ، واستشهدَ بقراءةِ هشام «أَفْئِيْدَة». قلت. وهذا ضعيفٌ جداً، واستند أيضاً لقراءةِ الحسن وعيسى/ «فَلأُقْسِمُ» بلامٍ واحدةٍ. قلت: وفي هذه القراءةِ تخريجان أحدُهما: أنَّ اللامَ لامُ الابتداءِ، وبعدَها مبتدأٌ محذوفٌ، والفعلُ خبرُه، فلمَّا حُذِفَ المبتدأُ اتصلَتْ اللامُ بخبرِه وتقديرُه: فلأَنا أٌقْسِمُ نحو: لَزيدٌ منطلقٌ، قاله الزمخشري وابن جني. والثاني: أنها لامُ القسمِ دخَلَتْ على الفعل الحالي. ويجوز أَنْ يكونَ القسم جواباً للقسمِ كقوله: ﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا﴾ [التوبة: ١٠٧] فنفسُ «ليَحْلِفُنَّ» قسمٌ جوابُه «إنْ أرَدْنَا» وهو جوابٌ لقسمٍ مقدرٍ، كذلك هذا، وهو قولُ الكوفيين: يُجيزون أَنْ يُقْسَم على فعلِ الحالِ. البصريُّون يَأْبَوْنه ويُخَرِّجون ما يُوهم ذلك على إضمار مبتدأ فيعود القسم على جملةٍ اسمية. ومنع الزمخشري أن تكونَ لامَ القسمِ قال: «لأمرَيْن، أحدهما: أنَّ حَقَّها أَنْ تُقْرَنَ بالنونِ المؤكدةِ، والإِخلالُ بها ضعيفٌ قبيحٌ. والثاني: أنَّ لأفعلنَّ في جواب القسم للاستقبالِ، وفعلُ القسمِ يجب أَنْ يكونَ للحال» وهذا كما تقدَّم أنه يرى مذهبَ البَصرْيين، ومعنى قولِه: «وفعلُ القَسَمِ يجبُ أنْ يكونَ للحال» يعني أنَّ فِعْلَ القسمِ إنشاءٌ والإِنشاءُ حالٌ. وإمَّا قولُه: «أَنْ يُقْرن بها النونُ» هذا مذهبُ البصريين. وأمَّا الكوفيون فيجيزون التعاقبَ بين اللام والنونِ نحو: واللَّهِ لأَضْرِبُ زيداً كقولِه:
٤٢٢٦ لَئِن تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكمْ... لَيَعْلَمُ ربِّي أنَّ بيتيَ واسعُ
وواللَّهِ اضربَنَّ زيداً كقولِه:
٤٢٢٧ وقتيلُ مُرَّةَ أَثْأَرَنَّ.......................................
وقد تقدَّم قريبٌ من هذه الآية في قولِه تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ﴾ [النساء: ٦٥] ولكن هناك ما لا يُمْكن القولُ به هنا كما أنَّ هنا ما لا يمكن القولُ به هناك، وسيأتي قريبٌ منه في القيامةِ في قراءةِ ابن كثير ﴿لأُقْسِمُ بيوم القيامة﴾ [القيامة: ١].
وقرأ العامَّة «بمواقِع» جمعاً، والأخَوان «بموقع» مفرداً بمعنى الجمع لأنَّه مصدرٌ فوُحِّدَ، ومواقعُها: مَساقِطُها ومَغارِبُها.
وقيل: سُقوطُها يوم تَنْكَدِرُ. وقيل: النجومُ للقرآن، ويؤيِّدُه «وإنَّه لَقَسَمٌ»، و ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ والمُقْسَمُ عليه قولُه: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ وعلى هذا فيكونُ في الكلام اعتراضان، أحدُهما: الاعتراضُ بقوله: «وإنه لَقَسَمٌ» بين القسمِ والمُقْسَم عليه، والثاني: الاعتراضُ بقولِه: «لو تعلمون» بين الصفةِ والموصوفِ. وأبى ابنُ عطية أَنْ يُجْعَلَ قولُه: «وإنَّه لَقَسَمٌ» اعتراضاً فقال: «وإنه لَقَسَمٌ» تأكيدٌ للأمرِ وتنبيهُ المُقْسَم به، وليس هذا باعتراضٍ بين الكلامَيْن، بل هذا معنىً قُصِدَ التَّهَمُّمُ به، وإنما الاعتراضُ قولُه: «لو تعلمون» قلت: وكونُه تأكيداً ومُنَبِّهاً على تعظيمِ المُقْسَمِ به لا يُنافي الاعتراضَ بل هذا معنى الاعتراضِ وفائدتُه.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقوله: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩)
يعنى به الملائكة. لا يمسه في اللوح المحفوظ إلا الملائكة.
ويقرأ " الْمُطَهِّرُونَ " وهي قليلة، ولها وجهان:
أحدهما الذين طَهَّروا أنفسهم من الذُنوبِ.
والثاني أن يكون الَّذِينَ يُطَهِّرونَ غيرهم.
* * *
وقوله: (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٨٠)
صفة لقوله (كريم)، وإن شئت كان مرفوعاً على قوله هو تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١)
أي أفبالقرآن تكذِبُونَ، والفدْهِن المدَاهِنَّ والكذاب المنافق.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢)
كانوا يقولون: مطرنا بنوء كذا، ولا ينسبون السقيا إلى اللَّه - عزَّ وجلَّ -
فقيل لهم: أتجعلون رِزقكم أي شكركم بما رزقتم التكذيبَ.
وقرئت " وتَجْعَلُونَ شكْرَكمْ أنكم أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ "
ولا ينبغي أن يقرأ بها لخلاف المصحف.
وقد قالوا إن تفسير رزقكم ههنا الشكر، ورووا أنه يقال " وتجعلون رزقي في
معنى شكري " وليس بصحيح.
إنما الكلام في قوله (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) يدل على معنى
" وتجعلون شكركم أنكم تكذَبُون "
أي تجعلون شكر رزقكم أن تقولوا: مطرنا بنوء كذا، فَتكْذِبُونَ في ذلك.
* * *
وقوله: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣)
يعنى إذا بلغت الروح الحلقوم.
* * *
(وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤)
أي أنتم يا أهل الميِّت في تلك الحال ترونه قد صار إلى أن تخرج نفسه.
* * *
(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (٨٥)
جاء في التفسير أنه لا يموت أحد حتى يعلم أهو من أهل الجنَّةِ أم من
أهل النَّارِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٨٧)
ومعناه هلَّا ترجعون الروح إن كنتم غير مَدِينين، أي غيرمَمْلوكين
مُدَبَّرين ليس لكم في الحياة والموت قدرة، فهلَّا إن كنتم كما زعمتم ومثل
قولكم الذي جاء في القرآن: (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٦٨).
كما قال (أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا).
فالمعنى إن كنتم تقدرون أن تؤخروا أجلًا فهلَّا تَرْجِعُون الروح إذا بلغت
الحلقوم، وهلَّا تدرأون عن أنفسكم الموت.
* * *
وقوله: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (٨٩)
بفتح الراء في (رَوح). ومعناه فاستراحة وبرد، (وَرَيْحَانٌ) رزق
قال الشاعر:
سلام الإله وريحانه... ورحمته وسماء دِرَرْ
ورُوِيت " فَرُوحٌ " بضم الراء، وتفسيره فحياة دائمة لا موت بعدها
(وَرَيْحَانٌ) رِزق. وجائز أن يكون ريحان ههنا تحية لأهل الجنة، وأجمع النحويون أن أصل ريحان في اللغة (رَيِّحَان) من ذوات الواو فالأصل " رَيْوِحان " فقلبت الواو
ياء وأدغمت فيها الأولى، فصارت ريحان، فخفف كما قالوا في " ميِّتٍ
ميْت، ولا يجوز في " رَيْحان " التشديد إلا على بُعْدٍ لأنه قد زيد فيه ألف ونون فخفف بحذف الياء وألزم التخفيف.
ورفعه على معنى فأما إن كان المتوفى من المقربين فله روح وَرَيْحان.
* * *
وقوله: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩١)
وقد بيَّن ما لأصحاب اليمين في أوَل السورة.
ومعنى (فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩١)
أنك ترى فيهم ما تحب من السَّلاَمةِ وقد علمت ما أُعِدَّ لهم من الجزاء.
* * *
وقوله: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣)
وُيقْرا (فَنُزْل) بالتخفيف والتثقيل.
فمعناه فغذاء من حميم وتَصْلِيَة جحِيمً).
أي إقامةً في جحيم.
فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن الجحيم ههنا للمكذبين الضالين.
* * *
وقوله: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥)
أي إن هذا الذي قصصنا عليك في هذه السورة من الأقاصيص وما أعد
اللَّه لأوليائه وأعدائه وما ذكِرَ مما يدل على وحدانيته لَيَقِين حَق اليقين، كما
تقول: " إن زيداً لعالم حق عالم، وإنه للْعَالِم حق العَالِم "
إذا بالغت في التوكيد.
* * *
وقوله: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦)
أي فَنَزِّهِ اللَّه - عزَّ وجلَّ - عن السوء، لأن معنى سبحان اللَّه تنزيه اللَّه عن
118
السوءِ. كذلك جاء عن رسول الله - ﷺ -.
وأهلُ اللغة كذلك يُفَسِّرونَه. بَرَاءة اللَّه من السوء.
وأنشَدَ سِيبَوَيْه في هذا المعنى:
أقول لما جاء في فخره... سبحان من علقمة الفاجر
أي أبرأ منه.
119
Icon