أو عذاب يناسب كفره وعصيانه.
بعد ذلك بينت الآيات مظاهر نعم الله تعالى، وآثار قدرته في بديع صنعه في خلق الإنسان، والزرع، وإنزال الماء من الغمام. وما أودعه الله في الشجر من النار التي تخرج منه، وما تقتضيه هذه الآثار الباهرة من تعظيم العلي القدير وتقديسه.
ثم يقسم الله تعالى ذلك القسَم العظيم بمواقع النجوم، ﴿ إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون، تنزيل من رب العالمين ﴾ ليدل على مكانة القرآن الكريم، وما يستحقه من تعظيم وتقديس. ثم نعى على الكفار سوء صنيعهم من جحودهم وكفرهم بدلا من أن يشكروا الله تعالى على إيجادهم وخلق كل شيء لهم. ثم جاء الكلام بعد ذلك بإجمال ما فصّلته الآيات عن الأصناف الثلاثة وما ينتظر كل صنف من نعيم أو جحيم.
وخُتمت السورة بتأكيد أن كل ما جاء فيها هو اليقين الصادق، والحق الثابت، وأمرت الرسول الكريم والمؤمنين بقوله تعالى :﴿ فسبح باسم ربك العظيم ﴾ وكان ختامها مسك الختام.
ﰡ
كاذبة : كذب.
فلا يستطيع أحدٌ أن يكذِّب بها، لأن قيامها حقٌّ لا شُبهة فيه.
ويومئذ تُزلزل الأرضُ، ويضطرب الكون، وتحِلّ بالعالم أهوالٌ وكوارث.
وتتفتت الجبال.
وتصير كالهَباء المتطاير في غير أماكنها.
والناس في ذلك اليوم ثلاثة أصناف.
أصحاب الميمنة الذين يأخذون كتبَهم بأيمانهم ويكونون في أسعدِ حال.
وأصحابُ المشأمة وهم الذين كفروا ويأخذون كتبهم بشِمالهم.
والطبقة الثالثة، وهم السابقون إلى الخيرات في الدنيا، يرتقون إلى الدرجات العليا في الآخرة.
وأولئك هم المقرّبون عند الله.
وهؤلاء المقرّبون جماعة كثيرة من الأمم السابقة وأنبيائهم.
يجلسون على سُرر منسوجة بالجواهر النفيسة.
ويدور عليهم للخدمة وِلدانٌ مخلَّدون
أباريق : واحدها إبريق، معروف.
وكأس من مَعين : إناء من شراب الجنة.
بأكوابٍ وأباريقَ مملوءة مما لذّ وطاب من شراب الجنة، وبكأس مملوءة خمراً من عيونٍ جارية.
ولا ينزفون : لا تذهب عقولهم.
لا يصيبهم من شُربها صداعٌ يصرفهم عنها، ولا تذهب بعقولهم.
وعندهم نساءٌ حورٌ عين في منتهى الجمال.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي : وحورٍ عين بالجر. والباقون : بالرفع.
كأمثال اللؤلؤ المصون في صَدفِهِ..
تأثيماً : ما يستوجب الإثم.
وهم يعيشون في الجنّة في أحسن حالٍ لا يسمعون فيها كلاماً لا ينفع، ولا حديثا يأثم سامعه.
مخضود : لا شوك فيه.
ويذكر أنهم في جنات الخلد حيث يوجد شجر السِدر الذي يحمل النبق وهو بلا شوك.
منضود : منسق.
وفيها شجر الموز المنسق ﴿ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ ﴾.
وفيها ظلٌّ ممدود لا يَغيب،
وماءٌ مسكوبٌ في آنيتهم حيث شاءوه.
وفُرُشٌ منضّدة مرتفعة ناعمة مريحة.
أترابا : متساويات في السن.
محبَّبات إلى أزواجهن، لطيفاتٍ مطيعات، متقاربات في السن.
قراءات :
قرأ حمزة وأبو بكر : عربا بضم العين وإسكان الراء. والباقون : عربا : بضم العين والراء وهما لغتان.
فهم في ريح حارة تشوي الوجوه، وماءٍ متناهٍ في الحرارة،
وفي ظلٍ من دخانٍ حارّ شديد السواد.
والسبب في ذلك :﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ ﴾ مسرِفين في الاستمتاع بنعيم الدنيا.
وكانوا يصرّون على الشِرك بالله، ويحلفون بأنه لن يُبعث من يموت. كما جاء في سورة النحل الآية ٣٨ ﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ ﴾
في ذلك اليوم المعلوم.
ستأكلون في جهنّم من شجرةِ الزقّوم التي وصفها الله تعالى في سورة الصافّات بقوله :﴿ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين ﴾ [ الصافات : ٦٤، ٦٥ ]،
كما تشرب الإبلُ المصابةُ بمرض العطَش فلا تروى أبدا.
قراءات :
قرأ عاصم ونافع وابن عامر وحمزة : شُرب الهيم بضم الشين. والباقون : شَرب الهيم بفتح الشين. وهما لغتان.
وكل ما ذكر فهو ضيافتهم يوم الدِّين على سبيل التهكّم بهم، لأن قوله تعالى ﴿ هذا نُزُلُهُمْ ﴾، معناه : هذا ما يهيّأ لضيافتهم. وفي هذا توبيخٌ لهم وتهكم بهم.
نحنُ خَلقناكم من عَدَمٍ، فهلاّ تصدّقون وتقرّون بقدرتنا على إعادتكم ثانية يوم القيامة ! ؟.
أفرأيتم هذا المَنِيَّ الذي تقذِفونه في الأرحام.
نحن قضَيْنا بينكم بالموت، وجعلْنا لِموتكم وقتاً معيّناً، وما نحنُ بمسبوقين
ولا عاجزين.
قراءات :
قرأ ابن كثير : نحن قدَرنا بينكم الموت، بفتح الدال من غير تشديد. والباقون : قدرنا بالتشديد.
عن أن نُذْهِبكم ونأتيَ بأشباهكم من الخلق، ﴿ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ في الأطوار والأحوال.
فلولا تذكّرون : فهلا تتذكرون.
ثم ذكر دليلاً آخر على البعث فقال :
﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾
لقد علمتم أن الله أنشأكم النشأةَ الأولى من العَدَم، فهلاّ تتذكّرون أنّ مَن قَدَرَ على خلْقكم من البداية لهو أقدَر على أن يأتيَ النشأةَ الأخرى لكم !
تفكّهون : تتعجبون.
إن في قُدرَتنا لو نشاء لصيَّرنا هذا النباتَ هشيماً يابساً متكسرا.
﴿ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴾
لظللتم تتعجّبون من سوءِ ما أصابه وما نزل بكم.
وتقولون إنا لمعذَّبون.
قراءات :
قرأ أبو بكر : أإنا لمغرمون على الاستفهام. والباقون : إنا لمغرمون على الخبر.
أأنتم أنزلتموه من السحاب أم نحن المنزلون له رحمةً بكم ؟
وهذا من أكبر الأدلة على قدرة الإله وعظمته، فقد حاول الإنسان استمطار السّحُب صناعياً إلا أن هذه المحاولاتِ لا تزال مجردَ تجاربَ، وعلى نطاق ضيق جدا، مع وجوب توافر بعض الظروف الملائمة طبيعيا.
فلولا تشكرون : فهلاّ تشكرون.
إننا لو نشاءُ لجعلْنا هذا الماءَ العذبَ مالحاً لا يمكن شربه، فهلاّ تشكرون الله على هذه النعمة وعلى أن جعله عذباً سائغا ! ؟.
أفرأيتم النارَ التي توقدونها.
متاعا : منفعة.
للمقْوين : للفقراء الذين ينزلون بالقفر، أقوى الرجلُ : افتقر، ونزل بالقفر، ونفد طعامه. ويقال للمسافرين والمستمتعين : المقوون أيضا.
نحن جعلنا هذه النار تذكرةً وتبصِرة لكم تذكّركم بالبعث لتعلموا أن من أخرجَ من الشجر الأخضر ناراً قادرٌ على إعادة الحياة مرة أخرى. ولقد جعلنا في النار منفعةً لمن ينزلون في المفاوز والصحارى من المسافرين، ولمن يحتاج إليها في كل مكان.. فاذكروا ذلك واعتبروا منه.
ولا تحصى.
مواقع النجوم : مَداراتها ومراكزها.
بعد ذِكر الأدلة على الألوهية والخلْق والبعث والجزاء جاء بذِكر الأدلة على النبوة وصدق القرآن الكريم. وقد أقسم الله تعالى على هذا بما يشاهدونه من مواقع النجوم، وإن هذا القسَم لعظيم حقا، لأن هذا الكون وما فيه شيء كبير
لا نعلم عنه إلا القليل القليل. ويقول الفلكيون : إن من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدة بلايين، ما يمكن رؤيته بالعين المجردة، ومنها ما لا يرى إلا بالمكبّرات، وقد يكون أكبر من شمسنا بآلاف المرات ولكننا لبعده الشاسع
لا نراه. وهي تسبح في هذا الفلك الواسع الذي لا نعلم عنه شيئا. والبحث في هذا واسع جدا.
وهو مصون في اللوح المحفوظ.
لا يمسّ هذا اللوح ولا يطلع عليه غير المقربين من الملائكة.
لقد فسر بعضُهم هذه الآية بأنه لا يَمَسُّ القرآن من كان مُحْدِثا، واختلف العلماء في ذلك، فقال جمهور العلماء لا يجوز أن يمسّ أحدٌ القرآن إلا إذا كان متطهّرا، وقال عدد من العلماء بالجواز.
وبعد أن ذكر مزاياه، وأنه من لدن عليم خبير ذكر أنه لا ينبغي التهاون في أوامره ونواهيه، ويجب التمسك به فقال :﴿ أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ ﴾.
أتتهاونون بالقرآن وتُعرضون عنه، وتمالئون من تكلّم فيه بما لا يليق به، وتكذّبون ما يقصه عليكم من شأن الآخرة، وما يقرره لكم من أمور العقيدة !
فماذا أنتم فاعلون إذا بلغت روحُ أحدكم الحلقوم في حال النزاع عند الموت.
فلو كان الأمر كما تقولون : إنه لا بعثٌ ولا حسابٌ ولا جزاء، وأنكم غيرُ مدينين لا تحاسَبون ولا تجزون.
فأما إن كان المتوفَّى من الذين عملوا صالحاً وكان من المقربين السابقين.
ريحان : راحة الروح.
فمآلُه راحةٌ واطمئنان لنفسه، ورحمةٌ من الله ورزقٌ طيب في جنات النعيم.
ومآله دخول الجحيم.
إن هذا الذي ذُكر في هذه السورة الكريمة لهو الحقُّ الصادق الثابت الذي لا شكَّ فيه.