تفسير سورة سورة القصص من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير
المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير
.
لمؤلفه
محمد نسيب الرفاعي
.
المتوفي سنة 1412 هـ
ﰡ
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة. وقوله :﴿ تِلْكَ ﴾ أي هذه ﴿ آيَاتُ الكتاب المبين ﴾ أي الواضح الجلي الكاشف عن حقائق الأمور وعلم ما قد كان وما هو كائن، وقوله :﴿ نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ موسى وَفِرْعَوْنَ بالحق ﴾ أي نذكر لك الأمر على ما كان عليه كأنك تشاهد وكأنك حاضر، ثم قال تعالى ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض ﴾ أي تكبر وتجبر وطغى، ﴿ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً ﴾ أي أصنافاً قد صرف كل صنف فيما يريد من أمور دولته، وقوله تعالى :﴿ يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ ﴾ يعني بني إسرائيل، وكانوا في ذلك الوقت خيار أهل زمانهم، هذا وقد سلط عليهم هذا الملك الجبار العنيد يستعملهم في أخس الأعمال، ويقتل مع هذا أبناءهم، ويستحيي نسائهم، إهانة لهم واحتقاراً وخوفاً من أن يوجد منهم غلام يكون سبب هلاكه وذهاب دولته على يديه، فاحترز فرعون من ذلك، وأمر بقتل ذكور بني إسرائيل، ولن ينفع حذر من قدر لأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ولكل أجل كتاب، ولهذا قال تعالى :﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض ﴾ إلى قوله ﴿ يَحْذَرُونَ ﴾ وقد فعل تعالى ذلك بهم، كما قال تعالى :﴿ وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٣٧ ] إلى قوله ﴿ يَعْرِشُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٣٧ ]، وقال تعالى :﴿ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ ﴾ [ الشعراء : ٥٩ ] أراد فرعون بحوله وقوته أن ينجو من موسى، فما نفعه ذلك مع قدرة الإله العظيم الذي لا يخالف أمره ولا يغلب، بل نفذ حكمه في القدم بأن يكون هلاك فرعون على يديه، بل يكون هذا الغلام الذي احترزت من وجوده وقتلت بسببه ألوفاً من الولدان، إنما منشؤه ومرباه على فراشك، وفي دارك وغذاؤه من طعامك، وأنت تربية وتدلله وتتفداه وحتفك وهلاكك وهلاك جنودك على يديه، لتعلم أن رب السماوات العلا هو القاهر الغالب العظيم، القوي العزيز الشديد المحال الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
ذكروا أن فرعون لما أكثر من قتل ذكور بني إسرائيل، خافت القبط أن يفنى بني إسرائيل فيلون هم ما كانوا يلونه من الأعمال الشاقة، قالوا لفرعون : أنه يوشك إن استمر هذا الحال أن يموت شيوخهم، وغلمانهم يقتلون، ونساؤهم لا يمكن أن تقمن بما تقوم به رجالهم من الأعمال فيخلص إلينا ذلك. فأمر بقتل الولدان عاماً وتركهم عاماً، فولد هارون عليه السلام في السنة التي يتركون فيها الولدان، وموسى في السنة التي يقتلون فيها الولدان، وكان لفرعون ناس موكلون بذلك وقوابل يدرن على النساء، فمن رأينها قد حملت أحصوا اسمها، فإِذا كان وقت ولادتها لا يقبلها إلاّ نساء القبط، فإن ولدت المرأة جارية تركنها وذهبن، وإن ولدت غلاماً دخل أولئك الذباحون بأيديهم الشفار المرهفة فقتلوه ومضوا، قبحهم الله تعالى، فلما حملت أم موسى به عليه السلام لم يظهر عليها مخايل الحمل كغيرها ولم تفطن لها الدايات، ولكن لما وضعته ذكراً ضاقت به ذرعاً، وخافت عليه خوفاً شديداً وأحبته حباً زائداً، وكان موسى عليه السلام لا يراه أحد إلاّ أحبه، قال تعالى :﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي ﴾ [ طه : ٣٩ ] فلما ضاقت به ذرعاً ألهمت في سرها ونفث في روعها، كما قال تعالى ﴿ وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين ﴾ وذلك أنه كانت دارها على حافة النيل، فاتخذت تابوتاً ومهدت فيه مهداً، وجعلت ترضع ولدها، فإذا دخل عليها أحد ممن تخافه ذهبت فوضعته في ذلك التابوت، وسيرته في البحر وربطته بحبل عندها. فلما كان ذات يوم دخل عليها من تخافه، فذهبت فوضعته في ذلك التابوت، وأرسلته في البحر، وذهلت أن تربطه، فذهب مع الماء واحتمله حتى مر به على دار فرعون فالتقطه الجواري، فاحتملنه فذهبن به إلى امرأة فرعون ولا يدرين ما فيه، وخشين أن يفتتن عليها في فتحه دونها، فلما كشفت عنه إذا هو غلام من أحسن الخلق وأجمله وأحلاه وأبهاه؟ فأوقع الله محبته في قلبها حين نظرت إليه، وذلك لسعادتها وما أراد الله من كرامتها وشقاوة بعلها، ولهذا قال :﴿ فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾ الآية، قال محمد بن إسحاق : اللام هنا ( لام العاقبة ) لا ( لام التعليل ) لأ، هم لم يريدوا بالتقاطه ذلك، قال تعالى :﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ﴾ الآية، يعني أن فرعون لما رآه هم بقتله خوفاً من أن يكون من بني إسرائيل فشرعت امرأته ( آسية بنت مزاحم ) تخاصم عنه وتذب دونه وتحببه إلى فرعون، فقالت :﴿ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ﴾، فقال فرعون : أما لك فنعم، وأما لي فلا، فكان كذلك وهداها الله بسببه وأهلكه على يديه وقوله :﴿ عسى أَن يَنْفَعَنَا ﴾ وقد حصل لها ذلك وهداها الله به وأسكنها الجنة بسببه، وقوله :﴿ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ﴾ أي أرادت أن تتخذه ولداً وتتبناه، وذلك أنه لم يكن لها ولد منه، وقوله تعالى :﴿ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ أي لا يدرون ما أراد الله منه بالتقاطهم إياه من الحكمة العظيمة البالغة والحجة القاطعة.
يقول تعالى مخبراً عن فؤاد أم موسى حين ذهب ولدها في البحر أنه أصبح فارغاً، أي من كل شيء من أمور الدنيا إلاّ من موسى، قاله ابن عباس ومجاهد ﴿ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ﴾ : أي إن كادت من شدة وجدها وحزنها لتظهر أنه ذهب لها ولد، وتخبر بحالها لولا أن الله ثبتها وصبرها، قال الله تعالى :﴿ لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين * وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ ﴾ أي أمرت ابنتها وكانت كبيرة تعي ما يقال لها فقالت لها ﴿ قُصِّيهِ ﴾ أي اتبعي أثره وخذي خبره، وتطلبي شأنه من نواحي البلد فخرجت لذلك ﴿ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ ﴾ قال ابن عباس : عن جانب، وقال مجاهد : بصرت به عن بعيد وقال قتادة : جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده، وذلك أنه لما استقر موسى عليه السلام بدار فرعون، وأحبته امرأة الملك عرضوا عليه المراضع التي في دارهم، فلم يقبل ثدياً وأبى أن يقبل شيئاً من ذلك، فخرجوا به إلى السوق لعلهم يجدون امرأة تصلح لرضاعته، فلما رأته بأيديهم عرفته، ولم تظهر ذلك ولم يشعر بها، قال الله تعالى :﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع مِن قَبْلُ ﴾ أي تحريماً قدرياً وذلك لكرامته عند الله وصيانته له أن يرتضع غير ثدي أمه، ولأن الله سبحانه وتعالى جعل ذلك سبباً إلى رجوعه إلى أمه لترضعه وهي آمنة بعدما كانت خائفة فلما رأتهم حائرين فيمن يرضعه ﴿ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴾ ؟ قال ابن عباس : فلما قالت ذلك أخذوها وشكوا في أمرها، وقالوا لها : ما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه؟ فقالت لهم : نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في سرور الملك ورجاء منفعته فأرسلوها، فلما قالت لهم ذلك وخلصت من أذاهم ذهبوا معها إلى منزلهم، فدخلوا به على أمه، فأعطته ثديها، فالتقمه ففرحوا بذلك فرحاً شديداً وذهب البشير إلى امرأة الملك، فاستدعت أم موسى، وأحسنت إليها وأعطتها عطاء جزيلاً وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة ولكن لكونه وافق ثديها، ثم سألتها آسية أن تقيم عندها فترضعه فأبت عليها وقالت : إن لي بعلاً وأولاداً ولا أقدر على المقام عندك، ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت، فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك وأجرت عليها النفقة والصلات والإِحسان الجزيل، فرجعت أم موسى بولدها راضية مرضية، قد أبدلها الله بعد خوفها آمناً في عز وجاه ورزق دارّ، ولهذا جاء في الحديث :« مثل الذي يعمل ويحتسب في صنعته الخير كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها »، ولم يكن بين الشدة والفرج إلاّ القليل يوم وليلة، فسبحان من بيده الأمر، يجعل لمن اتقاه بعد كل هم فرجاً، وبعد كل ضيق مخرجاً، ولهذا قال تعالى :﴿ فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا ﴾ أي به ﴿ وَلاَ تَحْزَنَ ﴾ أي عليه ﴿ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ ﴾ أي فيما وعدها من رده إليها وجعله من المرسلين، وقوله تعالى :﴿ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي حكم الله في أفعاله وعواقبها المحمودة، فربما يقع الأمر كريهاً إلى النفوس وعاقبته محمودة في نفس الأمر، كما قال تعالى :﴿ فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ﴾ [ النساء : ١٩ ].
لما ذكر تعالى مبدأ أمر موسى عليه السلام، ذكر أنه لما بلغ أشده واستوى آتاه الله حكماً وعلماً، قال مجاهد : يعني النبوة ﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين ﴾، ثم ذكر تعالى سبب وصوله إلى ما كان تعالى قدره له من النبوة والتكليم في قضية قتله ذلك القبطي، الذي كان سبب خروجه من الديار المصرية إلى بلاد مدين، فقال تعالى :﴿ وَدَخَلَ المدينة على حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا ﴾ قال ابن عباس : وذلك بين المغرب والعشاء، وقال ابن المنكدر عن ابن عباس : كان ذلك نصف النهار، ﴿ فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ ﴾ أي يتضاربان ويتنازعان، ﴿ هذا مِن شِيعَتِهِ ﴾ أي إسرائيل ﴿ وهذا مِنْ عَدُوِّهِ ﴾ أي قبطي، فاستغاث الإسرائيلي بموسى عليه السلام، فوجد موسى فرصة وهي غفلة الناس فعمد إلى القبطي ﴿ فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ ﴾ قال مجاهد : فوكزه أي لعنه بجميع كفه، وقال قتادة : وكزه بعصا كانت معه فقضى عليه أي كان فيها حتفه فمات، ﴿ قَالَ ﴾ موسى ﴿ هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم * قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ﴾ أي بما جعلت لي من الجاه والعز والنعمة ﴿ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً ﴾ أي معيناً ﴿ لِّلْمُجْرِمِينَ ﴾ أي الكافرين بك، المخالفين لأمرك.
يقول تعالى مخبراً عن موسى عليه السلام لما قتل ذلك القبطي إن أصبح ﴿ فِي المدينة خَآئِفاً ﴾ أي من معرة ما فعل ﴿ يَتَرَقَّبُ ﴾ أي يتلفت ويتوقع ما يكون من هذا الأمر، فمر في بعض الطرف فإِذا ذلك الذي استنصره بالأمس على القبطي يقاتل آخر، فلما مر عليه موسى استصرخه على الآخر فقال له موسى :﴿ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ ﴾ أي ظاهر الغواية كثير الشر، ثم عزم موسى على البطش بذلك القبطي، فاعتقد الإِسرائيلي لخوره وضفعه وذلته أن موسى إنما يريد قصده لما سمعته يقول ذلك، فقال يدفع عنه نفسه ﴿ ياموسى ﴾ أتريد أن تقلني كما قتلت نفساً بالأمس؟ وذلك لأنه لم يعلم به إلاّ هو وموسى عليه السلام، فلما سمعها ذلك القبطي لقفها من فمه، ثم ذهب إلى باب فرعن وألقاها عنده فعلم فرعون بذلك، فاشتد حنقه وعزم على قتل موسى، فطلبوه فبعثوا وراءه ليحضروه لذلك.
قال تعالى :﴿ وَجَآءَ رَجُلٌ ﴾ وصفه بالرجولية لأنه خالف الطريق فسلك طريقاً أقرب من طريق الذين بعثوا وراءه فسبق إلى موسى، فقال له يا موسى ﴿ إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ ﴾ يتشاورون فيك ﴿ لِيَقْتُلُوكَ فاخرج ﴾ أي من البلد ﴿ إِنِّي لَكَ مِنَ الناصحين ﴾.
لما أخبره الرجل بما تمالأ عليه فرعون ودولته في أمره، خرج من مصر وحده ولم يألف ذلك قبله، بل كان في رفاهية ونعمة ورياسة ﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ ﴾ أي يتلفت ﴿ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين ﴾ أي من فرعون وملئه، فذكروا أن الله سبحانه وتعالى بعث إليه ملكاً فأرشده إلى الطريق ﴿ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ ﴾ أي أخذ طريقاً سالكاً فرح بذلك، ﴿ قَالَ عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل ﴾ أي الطريق الأقوم، ففعل الله به ذلك، وهداه إلى الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة، فجعله هادياً مهدياً، ﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ ﴾ أي لما وصل إلى مدين ورد ماءها، وكان لها بئر يرده رعاء الشاء ﴿ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ ﴾ أي جماعة يسقون ﴿ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امرأتين تَذُودَانِ ﴾ أي تكفكفان غنمهما أن ترد مع غنم أولئك الرعاء لئلا يؤذيا، فلما رآهما موسى عليه السلام رق لهما ورحمهما، ﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ﴾ ؟ أي ما خبركما لا تردان مع هؤلاء، ﴿ قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء ﴾ أي لا يحصل لنا سقي إلاّ بعد فراغ هؤلاء، ﴿ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾ أي فهذا الحال الملجىء لنا إلى ما ترى، قال الله تعالى :﴿ فسقى لَهُمَا ﴾ روى عمرو بن ميمون الأودي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أن موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون، قال : فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ولا يطيق رفعها إلاّ عشرة رجال، فإذا هو بأمرأتين تذودان قال : ما خطبكما؟ فحدثناه فأتى الحجر فرفعه، ثم لم ستق إلاّ ذنوباً واحداً حتى رويت الغنم، وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ تولى إِلَى الظل فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ قال ابن عباس : سار موسى من مصر إلى مدين ليس له طعام إلاّ ورق الشجر، وكان حافياً، فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه، وجلس في الظل وهو صفوة الله من خلقه، وإن بطنه للاصق بظهره من الجوع، وإن حضرة البقل لترى من داخل جوفه، وإنه لمحتاج إلى شق تمرة، وقوله :﴿ إِلَى الظل ﴾ جلس تحت شجرة، قال السدي : كانت الشجرة من شجر السمر، وقال عطاء : لما قال موسى ﴿ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ أسمع المرأة.
لما رجع المرأتان سريعاً بالغنم إلى أبيهما أنكر حالهما بسبب مجيئهما سريعاً، فسألهما عن خبرهما فقصتا عليه ما فعل موسى عليه السلام، فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها، قال الله تعالى :
﴿ فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحيآء ﴾ أي مشي الحرائر، جاءت مستترة بكم درعها، قال عمر رضي الكله عنه جاءت
﴿ تَمْشِي عَلَى استحيآء ﴾ قائلة بثوبها على وجهها ليست بسَلْفَع من النساء ولاَّجة خرَّاجة.
﴿ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ﴾ وهذا تأدب في العبارة لم تطلبه طلباً مطلقاً لئلا يوهم ريبة، بل قالت :
﴿ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ﴾ يعني لثيبك ويكافئك على سقيك لغنمنا،
﴿ فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص ﴾ أي ذكر له ما كان من أمره وما جرى له من السبب الذي خرج من أجله من بلده
﴿ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين ﴾ يقول : طب نفساً وقر عيناً فقد خرجت من مملكتهم فلا حكم لهم في بلادنا، ولهذا قال :
﴿ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين ﴾. وقد اختلف المفسرون في الرجل من هو؟ على أقوال : أحدها أنه شعيب النبي عليه السلام الذي أرسل إلى أهل مدين، وقال آخرون : بل كان ابن أخي شعيب، وقيل : رجل مؤمن من قوم شعيب، وقال آخرون : كان شعيب قبل زمان موسى عليه السلام بمدة طويلة لأنه قيل لقومه
﴿ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ ﴾ [ هود : ٨٩ ]، وعن ابن عباس قال : الذي استأجر موسى ( يثرى ) صابح مدين رواه ابن جرير، ثم قال : الصواب أن هذا لا يدرك إلاّ بخبر تجب به الحجة في ذلك. وقوله تعالى :
﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأبت استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين ﴾ أي قالت إحدى ابنتي هذا الرجل قيل : هي التي ذهبت وراء موسى عليه السلام قالت لأبيها :
﴿ ياأبت استأجره ﴾ أي لرعية هذه الغنم،
﴿ إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين ﴾ قال لها أبوها : وما علمك بذلك؟ قالت له : إنه رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلاّ عشرة رجال، وإني لما جئت معه تقدمت أمامه فقال لي : كوني من ورائي، فإذا اختلف عليَّ الطريق فاحذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأهتدي إليه. وقال ابن مسعود : أفرس الناس ثلاثة : أبو بكر حين تفرس في عمر، وصاحب يوسف حين قال أكرمي مثواه، وصاحبة موسى حين قالت :
﴿ ياأبت استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين ﴾،
﴿ قَالَ إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ ﴾ أي طلب إليه هذا الرجل الشيخ الكبير أن يرعىغنمه ويزوجه إحدى بنتيه.
وقوله تعالى :
﴿ على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ ﴾ أي على أن ترعى غنمي ثماني سنين، فإن تبرعت بزيادة سنتين فهو إليك، وإلاّ ففي الثمان كفاية،
﴿ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ أي لا أشاقك ولا أؤاذيك ولا أماريك.
1904
وفي الحديث :
« إن موسى عليه السلام آجر نفسه بعفة فرجه وطعمة بطنه »، وقوله تعالى أخباراً عن موسى عليه السلام
﴿ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ يقول : إن موسى قال لصهره الأمر على ما قلت من أنك استأجرتني على ثمان سنين، فإن أتممت عشراً فمن عندي فأنا متى فعلت أقلهما، فقد برئت من العهد وخرجت من الشرط، ولهذا قال :
﴿ أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ ﴾ أي فلا حرج عليّ، وقد دل دليل على أن موسى عليه السلام إنما فعل أكمل الأجلين وأتمهما. روى البخاري عن سعيد بن جبير قال : قال سألني يهودي من أهل الحيرة : أي الأجلين قضى موسى؟ فقلت لا أدري حتى أقدم على حبر العرب، فأسأله، فقدمت على ( ابن عباس ) رضي الله عنه فسألته، فقال : قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله صلى إذا قال فعل. وعن أبي ذر رض الله عنه
« أن النبي ﷺ سئل : أي الأجلين قضى موسى؟ قال : أوفاهما وأبرهما، قال : وإن سئلت أي المرأتين تزوج فقل الصغرى منهما »، وروى ابن جرير عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : لما دعا نبي الله موسى عليه السلام صاحبه إلى الأجل الذي كان بينهما قال له صاحبه : كل شاة ولدت على غير لونها فلك ولدها، فعمد موسى فرفع حبالاً على الماء، فلما رأت الخيال فزعت فجالت جولة، فولدن كلهن بلقاً إلاّ شاة واحدة فذهب بأولادهن كلهن ذلك العام.
1905
قد تقدم أن موسى عليه السلام قضى أتم الأجلين وأوفاهما وأبرهما وأكملهما. قوله :
﴿ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ﴾ قالوا : كان موسى قد اشتاق إلى بلاده وأهله، فعزم على زيارتهم خفية من فرعون وقومه، فتحمل بأهل وما كان معه من الغنم التي وهبها له صهره، فسلك بهم في ليلة مطيرة مظلمة باردة، فنزل منزلاً فجعل كلما أورى زنده لا يضيء شيئاً فتعجب من ذلك، فبينما هو كذلك
﴿ آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً ﴾ أي رأى ناراً تضيء على بعد
﴿ قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً ﴾ أي حتى أذهب إليها
﴿ لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ ﴾ وذلك لأنه قد أضل الطريق
﴿ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار ﴾ أي قطعة منها
﴿ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ أي تستدفئون بها من البرد، قال الله تعالى :
﴿ فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن ﴾ أي من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب، كما قال تعالى :
﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر ﴾ [ القصص : ٤٤ ] فهذا مما يرشد إلى أن موسى قصد النار إلى جهة القبلة، والجبل الغربي عن يمينه، والنار وجدها تضطرم في شجرة خضراء، في لحف الجبل مما يلي الوادي فوقف باهتاً في أمرها فناداه ربه
﴿ أَن ياموسى إني أَنَا الله رَبُّ العالمين ﴾ أي الذي يخاطبك ويكلمك هو
﴿ رَبُّ العالمين ﴾ الفعل لما يشاء، تعالى وتقدس وتنزه عن مماثلة المخلوقات، في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله، وقوله :
﴿ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ﴾ أي التي في يدك، كما في قوله تعالى :
﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى ﴾ [ طه : ١٧-١٨ ]، والمعنى : أمنا هذه عصاك التي تعرفها
﴿ أَلْقِهَا ياموسى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى ﴾ [ طه : ١٩-٢٠ ]، فعرف وتحقق أن الذي يكلمه ويخاطبه هو الذي يقول للشيء كن فيكون
﴿ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ ﴾ أي تضطرب،
﴿ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً ﴾ أي في حركاتها السريعة مع عظم خلقتها واتساع فمها، واصطكاك أنيابها بحيث لا تمر بصخرة إلاّ ابتلعتها تنحدر في فيها، تتقعقع كأنها حادرة في واد، فعند ذلك
﴿ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ﴾ أي ولم يلتفت لأن طبع البشرية ينفر من ذلك، فلما قال الله له :
﴿ ياموسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمنين ﴾ رجع فوقف في مقامه الأول، ثم قال الله تعالى :
﴿ اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء ﴾ أي إِذا أدخلت يدك في جيب درعك ثم أخرجتها فإنها تخرج تتلألأ كأنها قطعة قمر في لمعان البرق، ولهذا قال
﴿ مِنْ غَيْرِ سواء ﴾ : أي من غير برص. وقوله تعالى :
﴿ واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب ﴾ قال مجاهد : من الفزع، وقال قتادة : من الرعب مما حصل لك من خوفك من الحية، والظاهر أنه أمر عليه السلام إذا خاف من شيء أن يضم إليه جناحه من الرهب، وهو يده فإذا فعل ذلك ذهب عنه ما يجده من الخوف، وربما إذا استعمل أحد ذلك على سبيل الاقتداء فوضع يده على فؤاده، فإنه يزول عنه ما يجده.
1906
عن مجاهد قال : كان موسى عليه السلام قد ملىء قلبه رعباً من فرعون، فكان إذا رآه قال :
« اللهم إني أدرأ بك في نحره، وأعوذ بك من شره » فنزع الله ما كان في قلب موسى عليه السلام، وجعله في قلب فرعون فكان إذا رآه بال كما يبول الحمار. وقوله تعالى :
﴿ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ ﴾ يعني جعل العصا حية تسعة، وإدخاله يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء، دليلان قاطعان واضحان على قدرة الفاعل المختار، وصحة نبوة من جرى هذا الخارق على يديه، ولهذا قال تعالى :
﴿ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ﴾ أي وقومه من الرؤساء والكبراء والأتباع،
﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾ أي خارجين عن طاعة الله مخالفين لأمره ودينه.
1907
لما أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً ﴾ يعني ذلك القبطي، ﴿ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ﴾ أي إذا رأوني، ﴿ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً ﴾ وذلك أن موسى عليه السلام كان في لسانه لثغة بسبب ما كان تناول تلك الجمرة، فحصل فيه شدة في التعبير، ولهذا قال :﴿ واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي ﴾ [ طه : ٢٧-٢٨ ] ﴿ فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً ﴾ أي وزيراً ومعيناً ومقوياً لأمري، يصدقني فيما أقوله وأخبر به عن الله عزَّ وجلَّ، لأن خبر الاثنين أنجع في النفوس من خبر الواحد، ولهذا قال :﴿ إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ﴾، وقال محمد بن إسحاق :﴿ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي ﴾ أي يبين لهم غني ما أكلمهم به فإنه عني ما لا يفهمون، فلما سأل ذلك موسى، قال الله تعالى :﴿ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ﴾ أي سنقوي أمرك ونعز جانبك بأخيك، الذي سألت له أن يكون نبياً معك، كما قال في الآية الأخرى :﴿ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى ﴾ [ طه : ٣٦ ]. ولهذا قال بعض السلف : ليس أحد أعظم منه على أخيه من ( موسى ) على ( هارون ) عليهما لسلام، فإنه شفع فيه حتى جعله الله نبياً ورسولاً، ولهذا قال تعالى في حق موسى ﴿ وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً ﴾ [ الأحزاب : ٦٩ ]، وقوله تعالى :﴿ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً ﴾ أي حجة قاهرة ﴿ فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَآ ﴾ أي لا سبيل لهم إلى الوصول إلى أذاكما بسبب إبلاغكما آيات الله، كما قال تعالى :﴿ ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ﴾ [ المائدة : ٦٧ ] - إلى قوله - ﴿ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس ﴾ [ المائدة : ٦٧ ]، ولهذا أخبرهما أن العاقبة لهما ولمن اتبعهما في الدنيا والآخرة فقال تعالى :﴿ أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون ﴾، كما قال تعالى :﴿ كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [ المجادلة : ٢١ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا ﴾ [ غافر : ٥١ ] إلى آخر الآية.
يخبر تعالى عن مجيء موسى وأخيه هارون إلى فرعون وملئه، وعرضه ما آتاهما الله من المعجزات الباهرة والدلالة القاهرة، على صدقهما فيما أخبرا به عن الله عزَّ وجلَّ، من توحيده واتباع أوامره، فلما عاين فرعون وملؤه ذلك وشاهدوه وتحققوه، وأيقنوا أنه من عند الله، عدلوا بكفرهم وبغيهم إلى العناد والمباهتة، وذلك لطغيانهم وتكبرهم عن اتباع الحق، فقالوا :﴿ مَا هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى ﴾ أي مفتعل مصنوع، وأرادوا معارضته بالحيلة والجاه، وقوله :﴿ وَمَا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين ﴾ يعنون عبادة الله وحده لا شريك له، ويقولون ما رأينا أحداً من آبائنا على هذا الدين، ولم نر الناس إلاّ يشركون مع الله آهلة أخرى، فقال موسى عليه السلام مجيئاً لهم :﴿ ربي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بالهدى مِنْ عِندِهِ ﴾ يعني مني ومنكم، وسيفصل بيني وبينكم، ولهذا قال :﴿ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار ﴾ أي من النصرة والظفر والتأييد، ﴿ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون ﴾ أي المشركون بالله عزَّ وجلَّ.
يخبر تعالى عن كفر فرعون وطغيانه، وافترائه في دعواه الإِلهية لعنه الله، كما قال تعالى :﴿ فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ﴾ [ الزخرف : ٥٤ ] الآية، وذلك لأنه دعاهم إلى الاعتراف له بالإلهية، فأجابوه إلى ذلك بقلة عقولهم وسخافة أذهانهم، ولهذا قال :﴿ ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي ﴾، وقال تعالى أخباراً عنه ﴿ فَحَشَرَ فنادى * فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى ﴾ [ النازعات : ٢٣-٢٤ ] يعني أنه جمع قومه ونادى فيهم بصوته العالي مصرحاً لهم بذلك فأجابوه سامعين مطيعين، ولهذا انتقم الله تعالى منه فجعله عبرة لغيره في الدنيا والآخرة، حتى إنه واجه موسى الكليم بذلك، فقال :﴿ لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين ﴾ [ الشعراء : ٢٩ ]، وقوله :﴿ فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين فاجعل لِّي صَرْحاً لعلي أَطَّلِعُ إلى إله موسى ﴾ يعني أمر وزيره ( هامان ) مدير رعيته أو يوقد له على الطين يعني يتخذ له آجراً لبناء الصرح، وهو القصر المنيف الرفيع العالي، كما قال في الآية الأخرى :﴿ وَقَالَ فَرْعَوْنُ ياهامان ابن لِي صَرْحاً لعلي أَبْلُغُ الأسباب * أَسْبَابَ السماوات فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً ﴾ [ غافر : ٣٦-٣٧ ] الآية. وذلك لأن فرعون بنى هذا الصرح الذي لم ير في الدنيا بناء أعلى منه إنما أراد بهذا أن يظهر لرعيته تكذيب موسى فيما زعمه من دعوى إله غير فرعون، ولهذا قال :﴿ وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين ﴾ أي في قوله إن ثَمَّ رباً غيري، لا أنه كذبه في أن الله تعالى أرسله لأنه لم يكن يعترف بوجود الصانع جل وعلا، فإنه قال :﴿ وَمَا رَبُّ العالمين ﴾ [ الشعراء : ٢٣ ] ؟ وقال :﴿ لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين ﴾ [ الشعراء : ٢٩ ]، وقال :﴿ ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي ﴾ وهذا قول ابن جرير، وقوله تعالى :﴿ واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وظنوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ ﴾ أي طغوا وتجبروا وأكثروا في الأرض الفساد، واعتقدوا أنه لا قيامة ولا معاد، ﴿ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد ﴾ [ الفجر : ١٣-١٤ ]، ولهذا قال تعالى هاهنا :﴿ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم ﴾ أي إغرقناهم في البحر في صبيحة واحدة فلم يبق منهم أحد، ﴿ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار ﴾ أي لمن سلك وراءهم وأخذ بطريقتهم في تكذيب الرسل وتعطيل الصانع، ﴿ وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ ﴾ أي فاجتمعك عليهم خزي الدنيا موصولاً بذل الآخرة، كما قال تعالى :﴿ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ ﴾ [ محمد : ١٣ ]، وقوله تعالى :﴿ وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً ﴾ أي وشرع الله لعنتهم ولعنة ملكهم فرعون على ألسنة المؤمنين من عبادة المتبعين لرسله كما أنهم في الدينا ملعونين على ألسنة الأنبياء وأتباعهم كذلك، ﴿ وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ المقبوحين ﴾ قال قتادة : هذه الآية كقوله تعالى :﴿ وَأُتْبِعُواْ فِي هذه لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة بِئْسَ الرفد المرفود ﴾ [ هود : ٩٩ ].
يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله موسى الكليم، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، من إنزال التوراة عليه بعدما أهلك فرعون وملأه، وقوله تعالى :﴿ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى ﴾ يعني أنه بعد إنزال التوراة لم يعذب أمة بعامة، بل أمر المؤمنين أن يقاتلوا أعداء الله من المشركين، كما قال تعالى :﴿ وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ والمؤتفكات بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً ﴾ [ الحاقة : ٩-١٠ ]، وروى ابن جرير عن أبي سعيد الخدري قال : ما أهلك الله قوماً بعذاب من السماء ولا من الأرض بعدما أنزلت التوراة على وجه الأرض، غير أهل القرية الذين مسخوا قردة بعد موسى، ثم قرأ :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى ﴾ الآية، وقوله :﴿ بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً ﴾ أي من العمى والغي، ﴿ وَهُدًى ﴾ إلى الحق، ﴿ وَرَحْمَةً ﴾ أي إرشاداً إلى العمل الصالح، ﴿ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ أي لعل الناس يتذكرون ويهتدون بسببه.
يقول تعالى منبهاً على برهان نبوة محمد ﷺ، حيث أخبر بالغيوب الماضية خبراً كأن سامعه شاهدٌ وراءٍ لما تقدم. وهو رجل أمي لا يقرأ شيئاً من الكتب، نشأ بين قوم لا يعرفون شيئاً من ذلك، كما أنه لما أخبره عن مريم، قال تعالى :﴿ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [ آل عمران : ٤٤ ]، ولما أخبره عن نوح وإغراق قومه، قال تعالى :﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا فاصبر إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ هود : ٤٩ ] الآية. وقال بعد ذكر قصة يوسف ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أجمعوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ﴾ [ يوسف : ١٠٢ ] الآية، وقال في سورة طه :﴿ كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ ﴾ [ طه : ٩٩ ] الآية، وقال هاهنا بعدما أخبر عن قصة موسى ﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر ﴾ يعني ما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي الذي كلّم الله موسى من الشجرة على شاطىء الوادي، ﴿ وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين ﴾ لذلك، ولكن الله سبحانه وتعالى أوحى إليك ذلك، ليكون حجة وبرهاناً على قرون قد تطاول عهدها، ونسوا حجج الله عليهم، وما أوحاه إلى الأنبياء المتقدمين، وقوله تعالى :﴿ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ﴾ أي وما كنت مقيماً في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا، حين أخبرت عن نبيها شعيب وما قاله لقومه وما ردوا عليه، ﴿ وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴾ أي ولكن نحن أوحينا إليك ذلك، وأرسلنا إلى الناس رسولاً، ﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا ﴾ قيل : المراد أمة محمد، نودوا يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني وأجبتكم قبل أن تدعوني، وقال قتادة :﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا ﴾ موسى، وهذا أشبه بقوله تعالى :﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر ﴾، ثم أخبر هاهنا بصيغة أخرى أخص من ذلك وهو النداء، كما قال تعالى :﴿ وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى ﴾ [ الشعراء : ١٠ ]، وقوله تعالى :﴿ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بالواد المقدس طُوًى ﴾ [ النازعات : ١٦ ] وقال تعالى :﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور الأيمن وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ﴾ [ مريم : ٥٢ ] وقوله تعالى :﴿ ولكن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ أي ما كنت مشاهداً لشيء من ذلك، ولكن الله تعالى أوحاه إليك وأخبرك به رحمة منه بك وبالعباد بإرسالك إليهم، ﴿ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ أي لعلهم يهتدون بما جئتهم به من الله عزَّ وجلَّ، ﴿ ولولا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً ﴾ الآية، أي : وأرسلناك إليهم لتقيم عليهم الحجة؛ وينقطع عذرهم إذا جاءهم عذاب من الله بكفرهم، فيحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول ولا نذير، كما قال تعالى :﴿ أَن تقولوا إِنَّمَآ أُنزِلَ الكتاب على طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ﴾ [ الأنعام : ١٥٦ ]، وقال تعالى :﴿ يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مِّنَ الرسل أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ﴾ [ المائدة : ١٩ ] والآيات في هذه كثيرة.
يقول تعالى مخبراً عن القوم أنه لو عذبهم قبل قيام الحجة عليهم لاحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول، فلما جاءهم الحق من عنده على لسان محمد ﷺ، قالوا على وجه التعنت والعناد، والكفر والإِلحاد :
﴿ لولا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ موسى ﴾ الآية، يعنون مثل العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وتنقيص الزروع والثمار مما يضيق على أعداء الله، وكفلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى إلى غير ذلك من الآيات الباهرة، والحجج القاهرة، التي أجراها الله تعالى على يدي موسى عليه السلام، حجة وبرهاناً له على فرعون وملئه، ومع هذا كله لم ينجع في فرعون وملئه، بل كفروا بموسى وأخيه هارون، كما قالوا لهما :
﴿ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ﴾ [ يونس : ٧٨ ]، وقال تعالى :
﴿ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ المهلكين ﴾ [ المؤمنون : ٤٨ ]، ولهذا قال ها هنا :
﴿ أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ ﴾ أي أولم يكفر البشر بما أوتي موسى من تلك الآيات العظيمة،
﴿ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ﴾ أي تعاونا،
﴿ وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ﴾ أي بكل منهما كافرون، قال مجاهد : أمرت اليهود قريشاً أن يقولوا لمحمد ﷺ ذلك، فقال الله :
﴿ أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ﴾ قال : يعني موسى وهارون صلى الله عليهما وسلم
﴿ تَظَاهَرَا ﴾ أي تعاونا وتناصرا وصدق كل منهما الآخر؛ وهذا قول جيد قوي، وعن ابن عباس :
﴿ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ﴾ قال : يعنون موسى ومحمداً صلى الله عليهما وسلم وهذا رواية الحسن البصري، وأما من قرأ ( سحران تظاهرا ) فروي عن ابن عباس : يعنون التوراة والقرآن، قال السدي : يعني صدق كل واحد منهما الآخر، وقال عكرمة : يعنون التوراة والإِنجيل واختاره ابن جرير، والظاهر أنهم يعنون التوراة والقرآن لأنه قال بعده :
﴿ قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ ﴾، وكثيراً ما يقرن الله بين التوراة والقرآن، كما في قوله تعالى :
﴿ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ ﴾ [ الأنعام : ٩١ ] إلى أن قال
﴿ وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ﴾ [ الأنعام : ٩٢ ]، وقال في آخر السورة
﴿ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ ﴾ [ الأنعام : ١٥٤ ] الآية، وقال :
﴿ وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فاتبعوه واتقوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ } [ الأنعام : ١٥٥ ].
وقد علم بالضرورة لذوي الألباب، أن الله تعالى لم ينزل كتاباً من السماء فيما أنزل منن الكتب المتعددة على أنبيائه أكمل ولا أشمل ولا أفضح ولا أعظم ولا أشرف، من الكتاب الذي أنزل على محمد ﷺ، وهو القرآن، وبعده في الشرف والعظمة الكتب الذي أنزله على موسى عليه السلام، وهو الكتاب الذي قال الله فيه :
﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ﴾
1913
[ المائدة : ٤٤ ] والإِنجيل إنما أنزل متمماً للتوراة، ومحلاً لبعض ما حرم على بني إسرائيل. ولهذا قال تعالى :
﴿ قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أي فيما تدافعون به الحق وتعارضون به من الباطل، قال الله تعالى :
﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ ﴾ إي فإن لم يجيبوك عما قلت لهم ولم يتبعوا الحق
﴿ فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ ﴾ أي بلا دلليل ولا حجة،
﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله ﴾ أي بغير حجة مأخوذة من كتاب الله،
﴿ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين ﴾، وقوله تعالى :
﴿ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول ﴾ قال مجاهد : فصلنا لهم القول، وقال السدي : بيَّنا لهم القول، وقال قتادة، يقول تعالى : أخبرهم كيف صنع بمن مضى وكيف هو صانع
﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾.
1914
يخبر تعالى عن العلماء الأولياء من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالقرآن، كما قال تعالى :
﴿ الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ [ البقرة : ١٢١ ]، وقال تعالى :
﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ ﴾ [ آل عمران : ١٩٩ ]. قال سعيد بن جبير : نزلت في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي، فما قدموا على النبي ﷺ قرأ عليهم :
﴿ يس * والقرآن الحكيم ﴾ [ يس : ١-٢ ] حتى خمتها، فجعلوا يبكون وأسلموا، ونزلت فيهم هذه الآية الآخرى :
﴿ الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ﴾ يعني من قبل هذا القرآن كنا مسلمين أي موحدين مخلصين لله مستجيبين له، قال الله تعالى :
﴿ أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ ﴾ أي هؤلاء المتصفون بهذه الصفة الذين أمنوا بالكتاب الأول، ثم بالثاني، ولهذا قال :
﴿ بِمَا صَبَرُواْ ﴾ أي على اتباع الحق، فإن تجشم مثل هذا شديد على النفوس، وقد ورد في الصحيح :
« ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي، وعبد مملوك أدّى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت له أَمَة فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها »، وفي الحديث :
« من أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين، وله ما لنا وعليه ما علينا »، وقوله تعالى :
﴿ وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة ﴾ أي لا يقابلون السيء بمثله ولكن يعفون ويصفحون،
﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ أي ومن الذي رزقهم من الحلال ينفقون على خلق الله في الزكاة المفروضة، وصدقات النفل والقربات، وقوله تعالى :
﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ ﴾ أي لا يخالطون أهله ولا يعاشرونهم، بل كما قال تعالى :
﴿ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ﴾ [ الفرقان : ٧٢ ]،
﴿ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين ﴾ أي إذا سفه عليه سفيه وكلمهم بما لا يليق أعرضوا عنه، ولم يقابلوه بمثله من الكلام القبيح، ولا يصدر عنهم إلاّ كلام طبيب، وقالوا :
﴿ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين ﴾ أي لا نريد طريق الجاهلين ولا نحبها. قال محمد بن إسحاق : ثم قدم على رسول الله ﷺ وهو بمكة عشرون رجلاً أو قريب من ذلك من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد فجلسوا إليه وكلموه وساءلوه ورجال من قريش من أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مساءلة رسول الله ﷺ عما أرادوا دعاهم إلى الله تعالى، وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا الله وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا عنه اعترضهم ( أبو جهل بن هشام ) في نفر من قريش فقالوا لهم : خيبكم الله من ركب، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده، حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال، ما نعلم ركباً أحمق منكم، فقالوا لهم : سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، قال ويقال : إن النفر النصارى من أهل نجران وفيهم نزلت هذه الآيات
﴿ الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾، إلى قوله :
﴿ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين ﴾ قال : وسألت الزهري عن هذه الآيات فيمن نزلت؟ قال : ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في ( النجاشي ) وأصحابه رضي الله عنهم، والآيات اللاتي في سورة المائدة
1915
﴿ ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً ﴾ [ الآية : ٨٢ ] إلى قوله
﴿ فاكتبنا مَعَ الشاهدين ﴾ [ الآية : ٨٣ ].
1916
يقول تعالى لرسوله ﷺ : إنك يا محمد ﴿ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ أي ليس إليك ذلك، إنما عليك البلاغ والله يهدي من يشاء، كما قال تعالى :﴿ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ [ البقرة : ٢٧٢ ]، وقال تعالى :﴿ وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ يوسف : ١٠٣ ]. وقد ثبت في « الصحيحين » أنها نزلت في ( أبي طالب ) عم رسول الله ﷺ، وقد كان يحوطه وينصره، ويقوم في صفه ويحبه حباً شديداً، فلما حضرته الوفاة دعاه رسول الله ﷺ إلى الإيمان والدخول في الإِسلام، فاستمر على ما كان عليه من الكفر، ولله الحكمة التامة، روى الزهري عن المسيب بن حزن المخزومي رضي الله عنه قال :« لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله ﷺ، فوجد عنده ( أبا جهل بن هشام ) و ( عبد الله بن أبي أُمية بن المغيرة ) فقال رسول الله ﷺ :» يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله «، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله ﷺ يعرضها عليه ويعودان عليه بتلك المقالة، حتى كان آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلاّ الله، فقال رسول الله ﷺ :» والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك « » فأنزل الله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى ﴾ [ التوبة : ١١٣ ]، وأنزل في أبي طالب :﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾، وعن أبي هريرة قال :« لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله ﷺ فقال :» يا عماه قل لا إله إلاّ الله أ شهد لك بها يوم القيامة « فقال : لولا أن تعيرني بها قريش يقولون ما حمله عليه إلاّ جزع الموت لأقررت بها عينك، لا أقولها إلاّ لأقر بها عينك، فأنزل الله تعالى :﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين ﴾ ».
وقوله تعالى :﴿ وقالوا إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ ﴾ يقول تعالى مخبراً عن اعتذار بعض الكفار في عدم اتباع الهدى حيث قالوا لرسول الله ﷺ :﴿ إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ ﴾ أن نخشى أن اتبعنا ما جئت به من الهدى وخالفنا من حولنا من أحياء العرب المشركين، أن يقصدونا بالأذى والمحابة، ويتخطفونا أينما كنا، قال الله تعالى مجيباً لهم :﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً ﴾ يعني هذا الذي اعتذروا به كذب وباطل، لأن الله تعالى جعلهم في بلد أمين، وحرم معظم آمن من وضع، فكيف يكون هذا الحرم آمناً لهم في حال كفرهم وشركهم. ولا يكون آمناً لهم وقد أسلموا وتابعوا الحق؟ وقوله تعالى :﴿ يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ أي من سائر الثمار مما حوله من الطائف وغيره، وكذلك المتاجر والأمتعة ﴿ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا ﴾ أي من عندنا ﴿ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ ولهذا قالوا ما قالوا.
يقول تعالى معرّضاً بأهل مكة :﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ﴾ أي طغت وأشرت، وكفرت نعمة الله فيما أنعم به عليهم من الأرزاق، كما قال :﴿ وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ ﴾ [ النحل : ١١٢ ] إلى قوله ﴿ فَأَخَذَهُمُ العذاب وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [ النحل : ١١٣ ]، ولهذا قال تعالى :﴿ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ أي دثرت ديارهم فلا ترى إلاّ مساكنهم، وقوله تعالى :﴿ وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين ﴾ أي رجعت خراباً ليس في أحد، ثم قال تعالى مخبراًعن عدله، وأنه لا يهلك أحداً ظالماً له، وإنما بعد قيام الحجة عليهم، ولهذا قال :﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا ﴾ وهي مكة ﴿ رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ﴾ فيه دلالة على أن النبي الأمي رسول إلى جميع القرى من عرب وأعاجم، كما قال تعالى :﴿ لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ [ الشورى : ٧ ]، وقال تعالى :﴿ قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ﴾ [ الأعراف : ١٥٨ ]، وتمام الدليل قوله تعالى :﴿ وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً ﴾ [ الإِسراء : ٥٨ ] الآية، فأخبر تعالى أنه سيهلك كل قرية قبل يوم القيامة، وقد قال تعالى :﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [ الإِسراء : ١٥ ] فجعل تعالى بعثة النبي الأمي شاملة لجميع القرى لأنه مبعوث إلى أمها وأصلها التي ترجع إليها، وثبت في « الصحيحين » عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال :« بعثت إلى الأحمر والأسود » ولهذا ختم به النبوة والرسالة، فلا نبي بعده ولا رسول، بل شرعه باق بقاء الليل والنهار إلى يوم القيامة، وقيل المراد بقوله :﴿ حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً ﴾ أي أصلها وعظيمتها كأمهات الرساتيق والأقاليم.
يقول تعالى مخبراً عن حقارة الدنيا وما فيها من الزينة الدنيئة والزهرة الفانية، بالنسبة إلى ما أعده الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة، من النعيم العظيم المقيم، كما قال تعالى :﴿ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ ﴾ [ النحل : ٩٦ ]، وقال :﴿ وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ ﴾ [ آل عمران : ١٩٨ ]، وقال :﴿ وَمَا الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ مَتَاعٌ ﴾ [ الرعد : ٢٦ ]، وقال رسول الله ﷺ :« والله ما الحياة الدنيا في الآخرة إلاّ كما يغمس أحدكم أصبعه في اليوم فلينظر ماذا يرجع إليه »، وقوله تعالى :﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ ؟ أي أفلا يعقل من يقدم الدنيا على الآخرة، وقوله تعالى :﴿ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحياة الدنيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين ﴾، يقول تعالى : أفمن هو مؤمن مصدق بما وعده الله على صالح الأعمال من الثواب، كمن هو كافر مكذب بلقاء الله ووعده ووعيده فهو ممتع في الحياة الدنيا أياماً قلائل ﴿ ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين ﴾ ؟ قال مجاهد : من المعذبين، وهذا كقوله تعالى :﴿ وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المحضرين ﴾ [ الصافات : ٥٧ ]، وقال تعالى :﴿ وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ﴾ [ الصافات : ١٥٨ ].
يقول تعالى مخبراً عما يوبخ به المشركين يوم القيامة حيث يناديهم فيقول :﴿ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ ؟ يعني : أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدنيا، من الأصنام والأنداد هل ينصرونكم أو ينتصرون؟ وهذا على سبيل التقريع والتهديد كما قال تعالى :﴿ وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ [ الأنعام : ٩٤ ]، وقوله :﴿ قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول ﴾ يعني الشياطين والمردة والدعاة إلى الكفر ﴿ رَبَّنَا هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ﴾ فشهدوا عليهم أنهم أغووهم فاتبعوهم، ثم تبرأوا من عبادتهم، كما قال تعالى :﴿ كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ﴾ [ مريم : ٨٢ ]، وقال تعالى :﴿ وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ [ الأحقاف : ٦ ]، وقال الخليل عليه السلام لقومه ﴿ ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ﴾ [ العنكبوت : ٢٥ ] الآية، وقال الله تعالى :﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا ﴾ [ البقرة : ١٦٦ ] الآية، ولهذا قال :﴿ وَقِيلَ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ﴾ أي ليخلصوكم مما أنتم فيه كما كنتم ترجون منهم في الدار الدنيا، ﴿ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ العذاب ﴾، أي وتيقنوا أنهم صائرون إلى النار لا محالة، وقوله :﴿ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ ﴾ أي فودُّوا حين عاينوا العذاب لو أنهم كانوا من المهتدين في الدنيا، وهذا كقوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الذين زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً * وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً ﴾ [ الكهف : ٥٢٥٣ ]، وقوله :﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين ﴾ النداء الأول سؤال عن التوحيد، وهذا عن إثبات النبوات، ماذا كان جوابكم للمرسلين إليكم، وكيف كان حالكم معهم؟ وهذا كما يسأل العبد في قبره : من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ فأما المؤمن فيشهد أنه لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأما الكافر فيقول : هاه هاه لا أدري، ولهذا لا جواب له يوم القيامة غير السكوت، لأن من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً، ولهذا قال تعالى :﴿ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبآء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ ﴾ قال مجاهد : فعميت عليهم الحجج فهم لا يتساءلون بالأنساب، وقوله :﴿ فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾ أي في الدنيا ﴿ فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين ﴾ أي يوم القيامة، و ( عسى ) من الله موجبة، فإن هذا واقع بفضل الله ومنته لا محالة.
يخبر تعالى أنه المنفرد بالخلق والإختيار، وأنه ليس له في ذلك منازع ولا معقب، قال تعالى :﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ ﴾ أي ما يشاء، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فالأمور كلها خيرها وشرها بيده ومرجعها إليه، وقوله :﴿ مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة ﴾ نفي على أصح القولين، كقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [ الأحزاب : ٣٦ ]، ولهذا قال :﴿ سُبْحَانَ الله وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ أي من الأصنام والأنداد التي لا تخلق ولا تختار شيئاً، ثم قال تعالى :﴿ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ أي يعلم ما تكن الضمائر، وما تنطوي عليه السرائر، كما يعلم ما تبديه الظواهر من سائر الخلائق ﴿ سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باليل وَسَارِبٌ بالنهار ﴾ [ الرعد : ١٠ ]، وقوله :﴿ وَهُوَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ ﴾ أي هو المنفرد بالإلهية، فلا معبود سواه، كما لا رب سواه، ﴿ لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة ﴾ أي في جميع ما يفعله هو المحمود عليه بعدله وحكمته، ﴿ وَلَهُ الحكم ﴾ أي الذي لا معقب له لقهره وغلبته وحكمته ورحمته، ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ أي جميعكم يوم القيامة، فيجزي كل عامل بعمله من خير وشر، ولا يخفى عليه منهم خافية في سائر الأعمال.
يقول تعالى ممتناً على عباده بما سخر لهم من الليل والنهار اللذين لا قوام لهم بدونهما، وبين أنه لو جعل الليل دائماً عليهم سرمداً إلى يوم القيامة لأضر ذلك بهم، ولسئمته النفوس، ولهذا قال تعالى :﴿ مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ ﴾ أي تبصرون به وتستأنسون بسببه ﴿ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ ﴾ ؟ ثم أخبر تعالى أنه لو جعل النهار ﴿ سَرْمَداً ﴾ أي دائماً مستمراً إلى يوم القيامة لأضر ذلك بهم، ولتعبت الأبدان وكلّت من كثرة الحركات والأشغال، ولهذا قال تعالى :﴿ مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ﴾ ؟ أي تستريحون من حركاتكم وأشغالكم، ﴿ أَفلاَ تُبْصِرُونَ * وَمِن رَّحْمَتِهِ ﴾ أي بكم ﴿ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار ﴾ أي خلق هذا وذا ﴿ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ ﴾ أي الليل، ﴿ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ أي في النهار بالأسفار والترحال والحركات والأشغال، وقوله :﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ أي تشكرون الله بأنواع العبادات في الليل والنهار، ومن فاته شيء بالليل استدركه بالنهار، أو بالنهار استدركه بالليل، كما قال تعالى :﴿ وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً ﴾ [ الفرقان : ٦٢ ] والآيات في هذا كثيرة.
وهذا أيضاً نداء ثان على سبيل التوبيخ والتقريع لمن عبد الله إلهاً آخر، يناديهم الرب تعالى على رؤوس الأشهاد فيقول :﴿ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ أي في دار الدنيا، ﴿ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ﴾ قال مجاهد : يعني رسولاً، ﴿ فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ﴾ أي على صحة ما ادعيتموه من أن لله شركاء ﴿ فعلموا أَنَّ الحق لِلَّهِ ﴾ أي لا إله غيره فلم ينطقوا ولم يحيروا جواباً، ﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ أي ذهبوا فلم ينفعوهم.
عن ابن عباس قال في قوله تعالى :﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى ﴾ قال : كان ابن عمه، وقال ابن جريج : هو قارون بن يصهب بن قاهث، وموسى بن عمران بن قاهث، وزعم محمد بن إسحاق أن قارون كان عم موسى بن عمران عليه السلام، وأكثر أهل العلم على أنه كان بان عمه والله أعلم، وقال قتادة : كنا نحدث أنه كان ابن عم موسى، وكان يسمى المنور لحسن صوته بالتوراة، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري، فأهلكه البغي لكثرة ماله، وقوله :﴿ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز ﴾ أي الأموال ﴿ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة ﴾ أي ليثقل حملها الفِئام من الناس لكثرتها، قال الأعمش : كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود، كل مفتاح على خزانة على حدته، فإذا ركب حملت على ستين بغلاً أغر محجلاً، وقيل غير ذلك والله أعلم، وقوله :﴿ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين ﴾ أي وعظه فيما هو فيه صالحو قومه، فقالوا على سبيل النصح الإِرشاد : لا تفرح بما أنت فيه، يعنون لا تبطر بما أنت فيه من المال ﴿ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين ﴾ قال ابن عباس : يعني المرحين، وقال مجاهد : يعني الأشرين البطرين، الذين لا يشركون الله على ما أعطاهم، وقوله :﴿ وابتغ فِيمَآ آتَاكَ الله الدار الآخرة وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا ﴾ أي استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك، والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة، ﴿ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا ﴾ أي مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، فآت كل ذي حق حقه، ﴿ وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ ﴾ أي أحسن إلى خلقه كما أحسن هو إليك، ﴿ وَلاَ تَبْغِ الفساد فِي الأرض ﴾ أي لا تكن همتك بما أنت فيه أن تفسد به في الأرض وتسيء إلى خلق الله ﴿ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين ﴾.
يقول تعالى مخبراً عن جواب قارون لقومه حين نصحوه وأرشدوه إلى الخير ﴿ قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي ﴾ أي أنا لا أفتقر إلى ما تقولون، فإن الله تعالى إنما أعطاني هذا المال لعلمه بأني استحقه ولمحبته لي، فتقديره إنما أعطيته لعلم الله فيَّ أني أهل له، وهذا كقوله تعالى :﴿ فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ ﴾ [ الزمر : ٤٩ ] أي على علم من الله بي، وقد روي عن بعضهم أنه أراد ﴿ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي ﴾ أي أنه كان يعاني علم الكيمياء وهذا القول ضعيف لأن علم الكيمياء في نفسه علم باطل، لأن قلب الأعيان لا يقدر أحد عليه إلاّ الله عزَّ وجلَّ، وقال بعضهم : إن قارون كان يعرف الاسم الأعظم فدعا الله به فتمول بسببه، والصحيح المعنى الأول، ولهذا قال الله تعالى راداً عليه فيما ادعاه من اعتناء الله به فيما أعطاه من المال ﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً ﴾ ؟ أي قد كان من هو أكثر منه مالاً، وما كان ذلك عن محبة منا له، وقد أهلكهم الله مع ذلك بكفرهم وعدم شكرهم، ولهذا قال :﴿ وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون ﴾ أي لكثرة ذنوبهم، قال قتادة ﴿ على عِلْمٍ عندي ﴾ على خيرٍ عندي، وقال السدي : على علم أني أهل لذلك، وقد أجاد في تفسير هذه الآية الإمام عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فإنه قال في قوله :﴿ قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي ﴾ قال : لولا رضا الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا المال، وقرأ :﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً ﴾ الآية، وهكذا يقول من قلَّ علمه إذا رأى من وسع الله عليه، لولا أنه يستحق ذلك لما أعطي.
يقول الله تعالى مخبراً عن قارون أنه خرج ذات يوم على قومه، في زينة عظيمة وتجمل باهر، فلما رآه من يريد الحياة الدنيا ويميل إلى زخارفها وزينتها، تمنوا أن لو كان لهم مثل الذي أعطي قالوا ﴿ ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ أي ذو حظ وافر من الدنيا، فلما سمع مقالتهم أهل العلم النافع قالوا لهم ﴿ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾ أي جزاء الله لعباده المؤمنين الصالحين في الدار الآخرة خير مما ترون. كما في الحديث الصحيح :« يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر واقرأوا إن شئتم :﴿ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ »، وقوله :﴿ وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصابرون ﴾ قال السدي : ولا يُلَقَّى الجنة إلاّ الصابرون، كأنه جعل ذلك من تمام كلام الذين أوتوا العلم، وقال ابن جرير : ولا يلقى هذه الكلمة إلاّ الصابرون عن محبة الدنيا الراغبون في الدار الآخرة، وكأنه جعل ذلك مقطوعاً من كلام أولئك وجعله من كلام الله عزَّ وجلَّ وإخباره بذلك.
لما ذكر تعالى اختيال قارون في زينته وفخره على قومه وبغيه عليهم، عقّب ذلك بأنه خسف به وبداره الأرض، كما ثبت في الصحيح عند البخاري أن رسول الله ﷺ قال :« بينما رجل يجر إزاره إذ خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة »، وروى الإِمام أحمد عن أبي سعيد قال : قال رسول الله ﷺ :« بينما رجل ممن كان قبلكم خرج في بردين أخضرين يختال فيهما أمر الله الأرض فأخذته فإنه ليتجلجل فيها إلى يوم القيامة » وقد ذكر أن هلاك قارون كان من دعوة موسى نبي الله عليه السلام، وقيل : إن قارون لما خرج على قومه في زينته تلك وهو راكب على البغال الشهب وعليه وعلى خدمه ثياب الأرجوان المصبغة، فمر في محفله ذلك على مجلس نبي الله موسى عليه السلام وهو يذكرهم بأيام الله، فلما رأى الناس قارون انصرفت وجوههم نحوه ينظرون إلى ما هو فيه، فدعاه موسى عليه السلام وقال : ما حملك على ما صنعت؟ فقال : يا موسى أما لئن كنت فضلت عليّ بالنبوة فلقد فضلت عليك بالدنيا، فاستوت بهم الأرض، وعن ابن عباس اقل : خسف بهم إلى الأرض السابعة، وقال قتادة : ذكرلنا أنه يخسف بهم كل يوم قامة فهم يتجلجلون فيها إلى يوم القيامة، وقوله تعالى :﴿ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله وَمَا كَانَ مِنَ المنتصرين ﴾ أي ما أغنى عنه ماله ولا جمعه ولا خدمه وحشمه، ولا دفعوا عنه نقمة الله وعذابه ونكاله، ولا كان هو في نفسه منتصراً لنفسه فلا ناصر له من نفسه ولا من غيره، وقوله تعالى :﴿ وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بالأمس ﴾ أي الذين لما رأوه في زينته : قالوا ﴿ ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [ القصص : ٧٩ ] فلما خسف به أصبحوا يقولون ﴿ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ﴾ أي ليس المال بدالٍّ على رضا الله عن صاحبه، فإن الله يعطي ويمنع، ويضيق ويوسع، ويخفض ويرفع، وهذا كما في الحديث المرفوع عن ابن مسعود :« إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم، وإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإِيمان إلا من يحب »، ﴿ لولا أَن مَّنَّ الله عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ﴾ أي لولا لطف الله بنا وإحسانه إلينا لخسف بنا كما خسف به لأنا وددنا أن نكون مثله، ﴿ وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون ﴾ يعنون أنه كان كافراً ولا يفلح الكافرون عند الله لا في الدنيا ولا في الآخرة، وقد اختلف في معنى قوله هاهنا ﴿ وَيْكَأَنَّهُ ﴾ فقال بعضهم : معناه ويلك اعلم أن، ولكن خفف فقيل ويك، ودل فتح أن على حذف اعلم، وهذا القول ضعه ابن جرير، والظاهر أنه قوي، ولا يشكل على ذلك إلاّ كتابتها في المصاحف متصلة ويكأن، والكتابة أمر وضعي اصطلاحي والمرجع إلى اللفظ العرب والله أعلم. وقيل : معناها ﴿ وَيْكَأَنَّهُ ﴾ أي ألم تر أن، قاله قتادة : وقيل معناها وي كأن ففصلها، وجعل حرف وي للتعجب أو للتنبيه، وكأن بمعنى أظن وأحتسب. قال ابن جرير : وأقوى الأقوال في هذا قول إنها بمعنىألم تر أن، والله أعلم.
يخبر تعالى أن الدار الآخرة ونعيمها المقيم الذي لا يحول ولا يزول، جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين، الذي لا يريدون ﴿ عُلُوّاً فِي الأرض ﴾ أي ترفعاً على خلق الله وتعاظماً عليهم وتجبراً بهم ولا فساداً فيهم، قال عكرمة : العلو : التجبر، وقال سعيد بن جبير : العلو البغي، وقال سفيان الثوري : العلو في الأرض التكبر بغير حق، والفساد أخذ المال بغير حق، وقال بن جرير ﴿ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض ﴾ تعظماً وتجبراً، ﴿ وَلاَ فَسَاداً ﴾ عملاً بالمعاصي. وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال :« إنه أوحي إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد عن أحد، ولا يبغي أحد على أحد » وأما إذا أحب ذلك لمجرد التجمل فهذا لا بأس به، فقد ثبت « أن رجلاً قال : يا رسول الله إني أحب أن يكون ردائي حسناً ونعلي حسنة أفمن الكبر ذلك؟ فقال :» لا، إن الله جميل يجب الجمال « »، وقال تعالى :﴿ مَن جَآءَ بالحسنة ﴾ أي يوم القيامة ﴿ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا ﴾ أي ثواب الله خير من حسنة العبد فكيف والله يضاعفه أضعافاً كثيرة وهذا مقام الفضل، ثم قال :﴿ وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يُجْزَى الذين عَمِلُواْ السيئات إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾، كما قال في الآية الأخرى :﴿ وَمَن جَآءَ بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ النمل : ٩٠ ] وهذا مقام الفضل والعدل.
يقول تعالى آمراً رسوله صلوات الله وسلامه عليه ببلاغ الرسالة وتلاوة القرآن على الناس، ومخبراً له بأنه سيرده إلى معاد وهو يوم القيامة فيسأله عما استرعاه من أعباء النبوة، ولهذا قال تعالى :
﴿ إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن ﴾ أي افترض عليك أداءه إلى الناس
﴿ لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ ﴾ أي إلى يوم القيامة فيسألك عن ذلك، كما قال تعالى
﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين ﴾ [ الأعراف : ٦ ]، وقال تعالى :
﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ ﴾ [ المائدة : ١٠٩ ] وقال :
﴿ وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء ﴾ [ الزمر : ٦٩ ]، وقال ابن عباس :
﴿ لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ ﴾ يقول : لرادك إلى الجنة ثم سائلك عن القرآن، وقال مجاهد : يحييك يوم القيامة، وقال الحسن البصري : إي الله إن له لمعاداً فيبعثه الله يوم القيامة ثم يدخله الجنة. وقد روي عن ابن عباس غير ذلك كما قال البخاري في التفسير عن ابن عباس
﴿ لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ ﴾ قال : إلى مكة. وهكذا رواه العوفي عن ابن عباس
﴿ لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ ﴾ أي لرادك إلى مكة كما أخرجك منها، وقال محمد بن إسحاق عن مجاهد في قوله
﴿ لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ ﴾ : إلى مولدك بمكة، وعن الضحاك قال : لما خرج النبي ﷺ من مكة فبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة، فأنزل الله عليه :
﴿ إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ ﴾ إلى مكة، وهذا من كلام الضحاك يقتضي أن هذه الآية مدنية وإن كان مجموع السورة مكياً، والله أعلم.
ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن ابن عباس فسر ذلك تارة برجوعه إلى مكة وهو الفتح الذي هو عند ابن عباس أمارة على اقتراب أجل النبي ﷺ، كما فسر ابن عباس سورة
﴿ إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح ﴾ [ النصر : ١ ] أنه أجل رسول الله ﷺ نعي إليه، ولهذا فسر ابن عباس تارة أخرى قوله :
﴿ لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ ﴾ بالموت، وتارة بيوم القيامة الذي هو بعد الموت، وتارة بالجنة التي هي جزاؤه ومصيره على أداء رسالة الله، وإبلاغها إلى الثقلين الإنس والجن، ولأنه أكمل خلق الله وأفصح خلق الله وأشرف خلق الله على الإِطلاق، وقوله تعالى :
﴿ قُل ربي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بالهدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ أي قل لمن خالفك وكذبك يا محمد من قومك من المشركين ومن تبعهم على كفرهم قل : ربي أعلم بالمهتدي منكم ومني، وستعلمون لمن تكون له عاقبة الدار ولمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة، ثم قال تعالى مذكراً لنبيه نعمته العظيمة عليه وعلى العباد إذ أرسله إليهم :
﴿ وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب ﴾ أي ما كنت تظن قبل إنزال الوحي إليك أن الوحي ينزل عليك،
﴿ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ أي إنما أنزل الوحي عليك من الله من رحمته بك وبالعباد بسببك، فإذا منحك بهذه النعمة العظيمة
﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً ﴾ أي معيناً
﴿ لِّلْكَافِرِينَ ﴾ ولكن فارقهم ونابذهم وخالفهم،
﴿ وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ الله بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ ﴾ أي لا تتأثر لمخالفتهم لك وصدهم الناس عن طريقكم، فإن الله معلٍ كلمتك، ومؤيد دينك، ومظهر ما أرسلك به على سائر الأديان، ولهذا قال :
﴿ وادع إلى رَبِّكَ ﴾ أي إلى عبادة ربك وحده لا شريك له
﴿ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين ﴾.
1929
وقوله تعالى :
﴿ وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ لاَ إله إِلاَّ هُوَ ﴾ أي لا تليق العبادة إلاّ له ولا تنبغي الإليهة إلاّ لعظمته، وقوله :
﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾ إخبارٌ بأنه الدائم الباقي الحي القيوم الذي تموت الخلائق ولا يموت، كما قال تعالى :
﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام ﴾ [ الرحمن : ٢٦-٢٧ ] فعبر بالوجه عن الذات، وهكذا قوله هاهنا :
﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾ أي إلاّ إياه، وقد ثبت في الصحيح :
« أصدق كلمة قالها الشاعر لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل »
وقال مجاهد والثوري في قوله :
﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾ أي إلاّ ما أريد به وجهه، وهذا القول لا ينافي القول الأول، فإن هذا إخيار عن كل الأعمال بأنها باطلة، إلاّ ما أريد به وجه الله تعالى من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة، والقول مقتضاه أن كل الذوات فانية وزائلة إلاّ ذاته تعالى وتقدس، فإنه الأول والآخر الذي هو قبل كل شيء وبعد كل شيء، وكان ابن عمر إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة فيقف على بابها فينادي بصوت حزين : فيقول أين أهلك؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول :
﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾، وقوله :
﴿ لَهُ الحكم ﴾ أي الملك والتصرف ولا معقب لحكمه
﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ أي يوم معادكم فيجزيكم بأعمالكم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
1930