تفسير سورة القصص

فتح البيان
تفسير سورة سورة القصص من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
بسم الله الرحمان الرحيم
سورة القصص
وتسمى أيضا سورة موسى وأسماء السور توقيفية. وكذا ترتيبها وترتيب الآيات الكريمات.
وهي ثمان آية : وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء.
قال المحلي : هي مكية إلا ﴿ إن الذي فرض عليك القرآن لرادك معاد ﴾ نزلت بالجحفة وإلا ﴿ الذين آتيناهم الكتاب.. إلى.. لا نبتغي الجاهلين ﴾ انتهى. عن ابن عباس نزلت الأولى بالجحفة. فليست مكية ولا مدنية وقال مقاتل من المدني ﴿ الذين آتيناهم الخ ﴾

(طسم) الله أعلم بمراده بذلك، والكلام في فاتحة هذه السورة قد مر
في فاتحة الشعراء وغيرها، فلا نعيده.
وكذلك مر الكلام على قوله:
(تلك آيات الكتاب المبين) قال الزجاج: مبين الحق من الباطل، والحلال من الحرام، وهو من أبان بمعنى أظهر، ويقال: ابنته فأبان لازم ومتعد، أي مبين خيره وبركته.
(نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون) أي: نوحي إليك بواسطة جبريل من أمرهما متلبساً بالحق، وخص المؤمنين لأن التلاوة إنما ينتفع بها المؤمن، وقيل: نتلو عليك شيئاً من نبئهما. و (من) مزيدة على رأي الأخفش، والأولى أن تكون للبيان أو للتبعيض، ولا ملجئ إلى الحكم بزيادتها، والحق: الصدق.
(إن فرعون علا في الأرض) مستأنفة مسوقة لبيان ما أجمله من النبأ. قال المفسرون: معنى علا تكبر وتعظم وتجبر بسلطانه، والمراد بالأرض أرض مصر، وقيل: معنى (علا) ادعى الربوبية، وقيل: علا عن عبادة ربه (وجعل أهلها شيعاً) أي: فرقاً وأصنافاً في خدمته يشايعونه على ما يريد
87
ويطيعونه، قال مجاهد: فرق بينهم، وقال قتادة: يستعبد طائفة منهم، ويدع طائفة ويقتل طائفة، ويستحيي طائفة، أو فرقاً متفرقة، قد أغرى بينهم العداوة والبغضاء لئلا تتفق كلمتهم.
(يستضعف طائفة منهم) مستأنفة مسوقة لبيان حال الأهل الذين جعلهم فرقاً وأصنافاً، ويجوز أن تكون حالاً من فاعل.
(جعل) أي: جعلهم شيعاً، حال كونه مستضعفاً طائفة منهم، ويجوز أن تكون صفة لطائفة. والطائفة هم بنو إسرائيل، فإنهم عجزوا وضعفوا عن دفعه عن أنفسهم، وذلك أن بني إسرائيل لما كثروا بمصر استطالوا على الناس، وعملوا المعاصي، ولم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر فسلط الله عليهم القبط فاستضعفوهم؛ إلى أن أنجاهم الله على يد موسى عليه السلام.
(يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم) بدل من الجملة الأولى، أو مستأنفة للبيان، أو حال، أو صفة كالتي قبلها، وإنما كان فرعون يذبح أبناءهم ويترك نساءهم ويستبقيهن لأن المنجمين في ذلك العصر أخبروه أنه يذهب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل.
قال الزجاج: والعجب من حمق فرعون، فإن الكاهن الذي أخبره بذلك إن كان صادقاً عنده فما ينفع القتل؟ وإن كان كاذباً فلا معنى للقتل، وقد قيل: إنه ذبح سبعين ألفاً.
(إنه كان من المفسدين) الراسخين في الإفساد في الأرض بالمعاصي والتجبر، ولذلك اجترأ على مثل تلك الجريمة العظيمة من قتل المعصومين من أولاد الأنبياء عليهم السلام، وفيه بيان أن القتل من فعل أهل الفساد.
88
(ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض) جاء بصيغة المضارع لحكاية الحالة الماضية، واستحضار صورتها، أي: نريد أن نتفضل عليهم بإنجائهم من بأسه، بعد استضعافهم، وقال النسفي: وهو دليل لنا على مسألة الأصلح انتهى والمراد بهؤلاء بنو إسرائيل، والواو للعطف على جملة: إن
88
فرعون علا. وهذا أولى.
(ونجعلهم أئمة) أي: قادة في الخير، ودعاة إليه، يقتدى بهم، وولاة على الناس، وملوكاً فيهم، بعد أن كانوا أتباعاً مسخرين مهانين، قال علي بن أبي طالب: يعني يوسف وولده، وقال قتادة: أي ولاة الأمر، وهم بنو إسرائيل.
(ونجعلهم الوارثين) أي الذين يرثون الأرض بعد فرعون وقومه، لا الوراثة المعهودة في شرعنا، قاله قتادة، أي: نجعلهم الوارثين لملك فرعون ومساكن القبط وأملاكهم، فيكون ملك فرعون فيهم، ويسكنون مساكن قومه، وينتفعون بأملاكه وأملاكهم.
89
(ونمكن لهم في الأرض) أي نجعلهم مقتدرين عليها، وعلى أهلها، مسلطين على ذلك، يتصرفون فيها كيف شاءوا، يقال: مكن له إذا جعل له مكاناً يقعد عليه، ويتمكن فيه، أو يرقد، ثم استعير للتسلط وإطلاق الأمر، و (الأرض) أرض مصر والشام.
(وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا) الفاعل هو الله سبحانه، وقرئ (يرى) بالتحتية والفاعل فرعون، والأولى ألصق بالسياق، لأن قبلها (نريد) و (نمكن) بالنون، وأجاز الفراء: ويرى فرعون، أي ويرى الله فرعون، والرؤية بصرية، والإضافة إليهما إما للتغليب، أو أنه كان لهامان جنود مخصوصة به، وإن كان وزيراً، أو لأن جند السلطان جند وزيره، والإبصار لا يتوقف على الحياة عند أهل الحق، ولذلك قال - ﷺ - في أهل القليب: ما أنتم بأسمع منهم أو المراد رؤية طلائعه وأسبابه، وذلك حين أدركهم الغرق.
(منهم) أي: من أولئك المستضعفين (ما كانوا يحذرون) والمعنى أن الله يريهم، أو يرون هم الذي كانوا يخافون منه، ويجتهدون في دفعه من ذهاب ملكهم، وهلاكهم على يد المولود من بني إسرائيل المستضعفين والحذر التوقي من الضرر.
89
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (٨) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٩)
90
(وأوحينا إلى أم موسى) أي: ألهمناها الذي صنعت بموسى، قاله ابن عباس: وليس ذلك هو الوحي الذي يوحى إلى الرسل، وقيل: كان ذلك رؤيا في منامها، وقيل: كان ذلك بملك أرسله الله يعلمها بذلك فعلى هذا هو وحي إعلام لا إلهام، وقد أجمع العلماء على أنها لم تكن نبية وإنما كان إرسال الملك إليها عند من قال به نحو تكلم الملك للأقرع والأبرص والأعمى كما في الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما. وقد سلمت على عمران ابن حصين الملائكة، كما في الحديث الثابت في الصحيح، فلم يكن بذلك نبياً، وكان اسمها يوحانذ، وقيل: لوخا بنت هاند بن لاوي بن يعقوب، نقله القرطبي عن الثعلبي.
(أن أرضعيه) أن هي المفسرة، لأن في الوحي معنى القول، أو بأن أرضعيه قيل: أرضعته ثمانية أشهر، وقيل: أربعة، وقيل: ثلاثة، وكانت ترضعه وهو لا يبكي ولا يتحرك في حجرها، وكان الوحي برضاعه قبل ولادتها، وقيل: بعدها، وأمرها بإرضاعه مع أنها ترضعه طبعاً ليألف لبنها فلا يقبل ثدي غيرها، بعد وقوعه في يد فرعون.
(فإذا خفت عليه) من فرعون بأن يبلغ خبره إليه فيذبحه، قال ابن عباس: أن يسمع جيرانك صوته (فألقيه في اليم) وهو بحر النيل، وقد تقدم بيان الكيفية التي ألقته في اليم عليها في سورة طه (ولا تخافي) عليه الغرق والضيعة.
90
(ولا تحزني) لفراقه والخوف غم يصيب الإنسان لأمر يتوقعه في المستقبل، والحزن غم يصيبه لأمر وقع ومضى، فلا يقال ما الفرق بينهما، حتى عطف أحدهما على الآخر في الآية.
(إنا رادوه إليك) عن قريب على وجه تكون به نجاته، وتأمنين عليه، والجملة تعليل للنهي عن الخوف والحزن.
(وجاعلوه من المرسلين) الذين نرسلهم إلى العباد، وقد اشتملت هذه الآية على أمرين: أرضعيه، وألقيه، ونهيين: لا تخافي، ولا تحزني، وخبرين: إنا رادوه، وجاعلوه، وبشارتين في ضمن الخبرين، وهما الرد، والجعل المذكوران.
91
(فالتقطه آل فرعون) الفاء هي الفصيحة، والالتقاط إصابة الشيء من غير طلب، والمراد بآل فرعون هم الذين أخذوا التابوت الذي فيه موسى من البحر، والتقدير فألقته في اليم بعد ما جعلته في التابوت، فالتقطه من وجده من آل فرعون، أي أعوانه، قال الزجاج: كان فرعون من أهل فارس من اصطخر.
(ليكون لهم عدواً وحزناً) اللام لام العاقبة، ووجه ذلك أنهم إنما أخذوه ليكون لهم ولداً وقرة عين؛ لا ليكون عدواً، فكان عاقبة ذلك أنه كان لهم عدواً يقتل رجالهم، وحزناً يستعبد نساءهم، قاله المحلي وقال صاحب الكشاف: هي لام كي التي معناها التعليل، ولكن هذا المعنى وارد على طريق المجاز، لأنه لما كانت هذه العداوة نتيجة لفعلهم، وثمرة له، شبهت بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله، قرئ حزناً بفتح الحاء والزاي، وحزناً بضم الحاء وسكون الزاي، وهما لغتان كالعدم والعدم، والرشد والرشد والسقم والسقم.
(إن فرعون وهامان وجنودهما) تعليل لما قبله، أو اعتراض لقصد التأكيد (كانوا خاطئين) أي: عاصين آثمين في كل أفعالهم، وأقوالهم
91
فعوقبوا على يديه مع أنه تربى على أيديهم، فهذا أبلغ في إذلالهم، وهو مأخوذ من (١) الخطأ المقابل للصواب لأنهم لم يشعروا أنه الذي يذهب بملكهم، أو من خطا يخطو أي تجاوز الصواب.
_________
(١) لو كان من الخطأ المقابل للصواب لقال " مخطئين " أما الخاطئ فهو من باب خطئ يخطأ خطيئة وليس من باب أخطأ يخطئ خطأ وفي الأول يقول الله تعالى لا يأكله إلا الخاطئون. وفي الثاني يقول الرسول - ﷺ - رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. المطيعي.
92
(وقالت امرأة فرعون) وقد هم مع أعوانه لقتله. وهي آسية بنت مزاحم، وكانت من خيار النساء، وبنات الأنبياء، وقيل: كانت من بني إسرائيل، وقيل: كانت عمة موسى، حكاه السهيلي.
(قرة عين لي ولك) وكان قولها لهذا القول عند رؤيتها له، لما وصل إليها وأخرجته من التابوت، وخاطبت بقولها: (لا تقتلوه) فرعون ومن عنده من قومه، أو فرعون وجده على طريقة التعظيم له. وقرأ ابن مسعود (قالت امرأة فرعون لا تقتلوه قرة عين لي ولك) قيل: إنها قالت: هذا الولد أكبر من سنه، وأنت تذبح ولدان هذه السنة فدعه يكون عندي.
وقد حكى الفراء عن السدي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: إن قوله لا تقتلوه من كلام فرعون، واعترضه بكلام يرجع إلى اللفظ، ويكفي في رده ضعف إسناده، وقيل: إنها قالت لا تقتلوه، فإن الله أتى به من أرض بعيدة وليس من بني إسرائيل، ثم عللت ما قالته بالترجي منها لحصول النفع منه لهم والتبني له، فقالت:
(عسى أن ينفعنا) فنُصيب منه خيراً لأن فيه مخايل اليمن، ودلائل النفع لأهله (أو نتخذه ولداً) وكانت لا تلد فاستوهبته من فرعون، فوهبه لها (وهم لا يشعرون) أنهم على خطأ في التقاطه، وأن هلاكهم على يده فيكون حالاً من آل فرعون، وهي من كلام الله سبحانه، وقيل: هي من كلام المرأة أي وبنو إسرائيل لا يدرون أنا التقطناه وهم لا يشعرون قاله الكلبي، وهو بعيد جداً وما أحسن نظم هذا الكلام عند أصحاب المعاني والبيان.
92
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (١٢)
93
(وأصبح) أي صار (فؤاد أم موسى فارغاً) من كل شيء إلا من أمر موسى؛ كأنها لم تهتم بشيء سواه، قاله المفسرون. وقال أبو عبيدة: خالياً من ذكر كل من في الدنيا إلا من ذكر موسى، وقال الحسن، وابن إسحاق وابن زيد: فارغاً مما أوحى الله إليها من قوله: ولا تخافي ولا تحزني، وذلك لما سول الشيطان لها من غرقه وهلاكه، وقال الأخفش: فارغاً من الخوف والغم لعلمها أنه لم يغرق بسبب ما تقدم من الوحي إليها، وروي مثله عن أبي عبيدة أيضاً، وقال الكسائي: ناسياً ذاهلاً، وقيل صفراً من العقل، وقال العلاء ابن زياد: نافراً.
وقال سعيد ابن جبير: والهاً، كادت تقول واابناه من شدة الجزع.
وقال مقاتل: كادت تصيح شفقة عليه من الغرق.
وقيل: المعنى أنها لما سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والدهش.
قال النحاس: وأصح هذه الأقوال الأول والذين قالوه أعلم بكتاب الله فإذا كان فارغاً من كل شيء إلا من ذكر موسى، فهو فارغ من الوحي. وقول من قال فارغاً من الغم غلط قبيح. لأن بعده إن كادت لتبدي به، لولا أن ربطنا على قلبها، وقرئ فزعاً مكان فارغاً، من الفزع، أي خائفاً وجلاً وقرأ ابن عباس: قرعاً من قرع رأسه إذا انحسر شعره.
93
(إن كادت لتبدي به) من بدا يبدو إذا ظهر، وأبدى يبدي أي أظهر والمعنى لتظهر أمر موسى، وأنه ابنها من فرط ما دهمها من الدهش، والخوف والحزن وقيل: الضمير في (به) عائد إلى الوحي الذي أوحي إليها، والأول أولى وقال الفراء: لتبدي باسمه لضيق صدرها، وقال ابن عباس: تقول يا ابناه وقيل الباء زائدة للتأكيد، والمعنى لتبديه، كما تقول أخذت الحيل وبالحبل، وقيل المعنى لتبدي القول به.
(لولا أن ربطنا على قلبها) بالعصمة والصبر والتثبت، قال الزجاج: معنى الربط على القلب إلهام الصبر وتقويته، وجواب لولا محذوف أي لأبدت.
(لتكون من المؤمنين) أي ربطنا على قلبها لتكون من المصدقين بوعد الله وهو قوله إنا رادوه إليك قال يوسف بن الحسين: أمرت أم موسى بشيئين، ونهيت عن شيئين وبشرت بشيئين فلم ينفعها الكل حتى تولى الله حياطتها فربط على قلبها.
94
(وقالت) أم موسى (لأخته) وهي مريم، وقال الضحاك إن اسمها كاتمة وقال السهيلي كلثوم، ذكره الماوردي (قصيه) أي تتبعي أثره واعرفي خبره وانظري أين وقع؟ وإلى من صار؟ يقال قصصت الشيء إذا اتبعت أثره متعرفاً لحاله.
(فبصرت به) أي أبصرته. قال المبرد: أبصرته وبصرت به بمعنى، قرئ (بصرت) بفتح الباء وضم الصاد وقرئ بفتحها وبكسرها (عن جنب) أصله عن مكان جنب ومنه الأجنبي وقيل: المراد بقوله عن جنب عن جانب قاله ابن عباس، والمعنى أنها أبصرت إليه متجانفة مخاتلة، وقرئ عن جانب أي بصرت به مستخفية، كائنة عن جنب، أو بعيداً منها وقرئ بضمتين وبضم الجيم وسكون النون، وقال أبو عمرو بن العلاء: إن معنى عن جنب عن شوق
94
قال: وهي لغة جذام، يقولون: جنبت إليك أي اشتقت إليك.
(وهم لا يشعرون) أنها أخته؛ وأنها تقصه، وتتبع أثره، أخرج الطبراني، وابن عساكر عن أبي أمامة أن رسول الله - ﷺ - قال لخديجة: " أما شعرت أن الله زوجني مريم بنت عمران؛ وكلثوم أخت موسى، وامرأة فرعون؟ " قالت: هنيئاً لك يا رسول الله، وأخرجه ابن عساكر عن ابن رداد مرفوعاً بأطول من هذا وفي آخره أنها قالت: بالرفاء والبنين.
95
(وحرمنا عليه المراضع) جمع مرضع، وقيل: جمع مرضع، بفتح الضاد: هو الرضاع، أو موضعه وهو الثدي، أي: منعناه أن يرضع من المرضعات جعله مجازاً إما استعارة أو مرسلاً، لأن من حرم عليه شيء فقد منعه لأن الصبي ليس من أهل التكليف.
(من قبل) أي: من قبل أن نرده إلى أمه أو من قبل أن تأتيه أمه، أو من قبل قصها لأثره، قال ابن عباس: لا يؤتى بمرضع فيقبلها، وقد كانت امرأة فرعون طلبت لموسى المرضعات ليرضعنه فلم يرضع من واحدة منهن.
(فقالت) أخته لما رأت امتناعه من الرضاع وحنوهم عليه (هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم)؟ أي يضمنون لكم القيام به وإرضاعه، وهي امرأة قتل ولدها، وأحب شيء إليها أن تجد ولداً ترضعه.
(وهم له ناصحون) أي مشفقون عليه لا يقصرون في إرضاعه وتربيته، والنصح: إخلاص العمل من شائبة الفساد، وفي الكلام حذف أي: قالوا لها: من هم؟ فقالت: أمي فقيل: وهل لأمك ابن؟ قالت: نعم ابن أخي هارون، وكان ولد في السنة التي لا يقتل فيها فدلتهم على أم موسى فدفعوه إليها فقبل ثديها ورضع منه، قيل: كانوا يعطونها كل يوم ديناراً، وإنما حل لها ما تأخذه لأنه مال حربى لا أنه أجرة على إرضاع ولدها.
95
فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥)
96
(فرددناه إلى أمه كي تقر عينها) بولدها (ولا تحزن) حينئذ على فراقه (ولتعلم أن وعد الله) أي: جميع وعده ومن جملة ما وعدها بقوله إنا رادوه إليك (حق) لا خلف فيه واقع لا محالة.
(ولكن أكثرهم) أي: أكثر آل فرعون (لا يعلمون) بذلك بل كانوا في غفلة عن القدر، وسر القضاء، أو أكثر الناس لا يعلمون بذلك أو لا يعلمون أن الله وعدها بأن يرده إليها وهذه أخته وهذه أمه.
(ولما بلغ أشده) أي: نهاية القوة، وتمام العقل، وهو جمع شدة كنعمة وأنعم عند سيبويه، وقد قال ربيعة ومالك: هو الحلم لقوله تعالى: (حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً) الآية وأقصاه أربع وثلاثون سنة كما قال مجاهد وسفيان الثوري وغيرهما. وقيل الأشد ما بين الثمانية عشر إلى الثلاثين وقال ابن عباس: ثلاثاً وثلاثين سنة، وقد تقذم الكلام في بلوغ الأشد في الأنعام.
(واستوى) أي اعتدل وتم استحكامه، والاستواء من الثلاثين إلى الأربعين، فإذا زاد على الأربعين أخذ في النقصان، قاله ابن عباس وقيل: الاستواء هو بلوغ الأربعين، ويروى أنه لم يبعث نبي إلا على رأس أربعين
96
سنة، وقيل: الاستواء إشارة إلى كمال الخلقة، وقيل الأشد والاستواء بمعنى واحد، وهو ضعيف، لأن العطف يشعر بالمغايرة.
(أتيناه حكماً وعلماً) الحكم الحكمة على العموم، وقيل: النبوة وقيل: الفقه في الدين؛ والعلم الفهم قاله السدي. وقال مجاهد: الفقه، وقال ابن إسحاق: العلم بدينه ودين آبائه وقيل: كان هذا قبل النبوة، وقد تقدم بيان معنى ذلك في البقرة.
(وكذلك) أي مثل ذلك الجزاء. الذي جزينا أم موسى لما استسلمت
لأمر الله؛ وألقت ولدها في البحر، وصدقت بوعد الله (نجزي المحسنين)
على إحسانهم، والمراد العموم.
97
(ودخل المدينة) أي دخل موسى مدينة مصر الكبرى، وقيل: مدينة غيرها من مدائن مصر، وهي منف من أعمال مصر وقيل: أم خنان أو حابين على رأس فرسخين من مصر، وقيل مدينة عين شمس.
(على حين غفلة من أهلها) أي مستخفياً، قيل: لما عرف موسى ما هو عليه من الحق في دينه عاب ما عليه قوم فرعون وفشا ذلك منه، فأخافوه فخافهم، فكان لا يدخل المدينة إلا مستخفياً، قيل: كان دخوله بين العشاء والعتمة، قاله ابن عباس، وقيل: وقت القائلة أي نصف النهار، قاله ابن عباس أيضاً. وقيل: يوم عيد لهم قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم قال الضحاك: طلب أن يدخل المدينة وقت غفلة أهلها فدخل على حين علم منهم فكان منه ما حكى الله سبحانه بقوله:
(فوجد فيها رجلين يقتتلان) أي يختصمان ويتنازعان (هذا من شيعته) أي ممن شايعه على دينه، وهم بنو إسرائيل، أي إسرائيلي، وقيل هو السامري.
(وهذا من عدوه) أي من المعادين له على دينه، وهم قوم فرعون أي قبطي وهو طباخ فرعون، واسمه فاتون أو فليثون، وكان كافراً اتفاقاً. وأما
97
الإسرائيلي فقيل: كان مؤمناً وقيل: كان كافراً.
(فاستغاثه الذي من شيعته) أي طلب منه الإسرائيلي أن ينصره ويعينه على خصمه، والاستغاثة طلب الغوث (على الذي من عدوه) أي القبطي فأغاثه لأن نصر المظلوم واجب في جميع الملل، قيل: أراد القبطي أن يسخر الإسرائيلي ليحمل حطباً لمطبخ فرعون فأبى عليه، واستغاث موسى.
(فوكزه موسى) الوكز الضرب والدفع بجميع الكف، وهكذا اللكز واللهز، وقيل اللكز على اللحى والوكز على القلب. وقيل اللكز بأطراف الأصابع، والوكز بجميع الكف. وقيل بالعكس والنكز كاللكز، وقيل ضربه بعصاه، وقرأ ابن مسعود فلكزه، وحكى الثعلبي أن في مصحف عثمان فنكزه بالنون، قال الأصمعي: نكزه بالنون ضربه ودفعه. قال الجوهري: اللكز الضرب على الصدر، وقال أبو زيد: في جميع الجسد يعني أنه يقال له لكز واللهز: الضرب بجميع اليدين في الصدر ومثله عن أبي عبيدة.
(فقضى عليه) الضمير المرفوع لله، أو للوكز أو لموسى، وهو الظاهر أي قتله وكل شيء أتيت عليه وفرغت منه فقد قضيت عليه، قيل لم يقصد موسى قتل القبطي، وإنما قصد دفعه، فأتى ذلك على نفسه خطأ، فندم ودفنه في الرمل، والوكزة لا تقتل غالباً، وإنما وافقت، أجله، ولهذا:
(قال هذا من عمل الشيطان) وإنما قال بهذا القول مع أن المقتول كافر حقيق بالقتل لأنه لم يكن إذ ذاك مأموراً بقتل الكفار، وقيل: إن تلك الحالة حالة كف عن القتال لكونه مأموناً عندهم. فلم يكن له أن يغتالهم فكبر ذلك على موسى، وقيل إن الإشارة بقوله هذا إلى عمل المقتول لكونه كافراً مخالفاً لما يريده الله، وقيل: إنه إشارة إلى المقتول نفسه، يعني أنه من جند الشيطان وحزبه، ثم وصف الشيطان بقوله:
(إنه عدو مضل مبين) أي: عدو للإنسان يسعى في إضلاله ظاهر العداوة والإضلال، ثم طلب من الله سبحانه أن يغفر له ما وقع منه.
98
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠)
99
(قال رب إني ظلمت نفسي) بقتل القبطي من غير أمر (فاغفر لي فغفر) الله (له) ذلك؛ وعلم أنه غفر له بإلهام أو بغيره، ولا يلزم من هذا نبوته في هذا الوقت (إنه هو الغفور) بإقالة الزلل (الرحيم) بإزالة الخلل المتصف بهما في الأبد والأزل.
ووجه استغفاره أنه لم يكن لنبي أن يقتل حتى يؤمر، وقيل: إنه طلب المغفرة من تركه للأولى كما هو سنة المرسلين، أو أراد أني ظلمت نفسي بقتل هذا الكافر، لأن فرعون لو يعرف ذلك لقتلني به؛ وقيل: معنى فاغفر لي استر ذلك علي لا يطلع عليه فرعون، وهذا خلاف الظاهر، فإن موسى عليه السلام ما زال نادماً على ذلك خائفاً من العقوبة بسببه حتى إنه يوم القيامة عند طلب الناس الشفاعة منه يقول: إني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، كما ثبت ذلك في حديث الشفاعة الصحيح.
وقد قيل: إن هذا كان قبل النبوة، وقيل كان قبل بلوغه سن التكليف، وأنه كان إذ ذاك في اثنتي عشرة سنة: وكل هذه التأويلات البعيدة محافظة على ما تقرر من عصمة الأنبياء ولا شك أنهم معصومون عن الكبائر
99
والقتل الواقع منه لم يكن عن عمد فليس بكبيرة، لأن الوكزة في الغالب لا تقتل. وقيل: بل كان من قبيل دفع الصائل. وهو لا إثم فيه وأشار له القرطبي بقوله: وإنما أغاثه لأن نصر المظلوم دين في الملل كلها وفرض في جميع الشرائع وقيل: هو على سبيل الاتضاع لله تعالى، والاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه. وإن لم يكن هناك ذنب فهو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين.
ثم لما أجاب الله سؤاله وغفر له ما طلب منه مغفرته.
100
(قال رب بما أنعمت عليَّ) الباء للقسم وما موصولة أو مصدرية أي: أقسم بإنعامك عليَّ بالمغفرة لأتوبن قاله الزمخشري والمهدوي والماوردي. وقيل: المراد بما أنعم به عليه هو ما آتاه من الحكم والمعرفة والعلم والتوحيد، قاله القرطبي. وقال الثعلبي: أي بالمغفرة فلم تعاقبني.
وجملة (فلن أكون ظهيراً للمجرمين) كالتفسير للجواب، وكأنه أقسم بما أنعم الله عليه أن لا يظاهر مجرماً، ويجوز أن تكون الباء هي باء السببية؛ متعلقة بمحذوف أي: اعصمني بسبب ما أنعمت به عليَّ. ويكون قوله: فلن أكون ظهيراً مترتباً عليه، ويكون في ذلك استعطاف لله تعالى، وتوصل إلى إنعامه بإنعامه وأراد بمظاهرة المجرمين إما صحبة فرعون والانتظام في جملته في ظاهر الأمر أو مظاهرته على ما فيه إثم أو تكثير سواده.
قال الكسائي والفراء: ليس قوله هذا خبراً، بل هو دعاء، أي: فلا تجعلني يا رب ظهيراً لهم، وبها قرأ عبد الله. وقال الفراء: المعنى اللهم فلن أكون الخ، وقال النحاس: إن جعله من باب الخبر أوفى، وأشبه بنسق الكلام وفيه دليل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافراً، وقيل: أراد إني وإن أسأت في هذا القتل الذي لم أؤمر به فلا أترك نصرة المسلمين على المجرمين، فعلى هذا كان الإسرائيلي مؤمناً؛ ونصرة المؤمنين واجبة في جميع الأديان وقيل: لم يستثن فابتلي في اليوم الثاني، أي لم يقل فلم أكن إن شاء الله ظهيراً
100
للمجرمين، كما قال الله تعالى.
101
(فأصبح في المدينة) أي دخل في وقت الصباح في المدينة التي قتل فيها القبطي (خائفاً يترقب) المكروه أو متى يؤخذ به، أو يترقب الفرج، أو الخبر هل وصل إلى فرعون أم لا قال النسفي: وفيه دليل على أنه لا بأس بالخوف من دون الله، بخلاف ما يقوله بعض الناس أنه لا يسوغ الخوف من دون الله سبحانه، زاد القرطبي وأن الخوف لا ينافي المعرفة بالله ولا التوكل عليه.
(فإذا الذي استنصره) إذا هي الفجائية أي فإذا صاحبه الإسرائيلي الذي استغاثه (بالأمس) يقاتل قبطياً آخر أراد أن يسخره ويظلمه، كما أراد القبطي الذي قد قتله موسى بالأمس (يستصرخه) أي يستغيث به، والاستصراخ الاستغاثة، وهو من الصراخ، وذلك أن المستغيث يصوت ويصرخ في طلب الغوث.
(قال له) أي للإسرائيلي (موسى) وإليه ذهب الخازن والمحلي، أو للقبطي؛ وإليه ذهب القرطبي (إنك لغوي مبين) أي بين الغواية، وذلك أنك تقاتل من لا تقدر على مقاتلته ولا تطيقه، وقيل إنما قال له هذه المقالة لأنه تسبب بالأمس لقتل رجل، ويريد اليوم أن يتسبب لقتل آخر.
(فلما أن أراد) موسى (أن يبطش بالذي) أي القبطي الذي (هو عدو لهما) أي لموسى وللإسرائيلي حيث لم يكن على دينهما.
(قال) الإسرائيلي (يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس)؟ قال ذلك، لما سمع موسى يقول له إنك لغوي مبين، ورآه يريد أن يبطش بالقبطي، ظن أنه يريد أن يبطش به، فلما سمع القبطي ذلك أفشاه، ولم يكن قد علم أحد من أصحاب فرعون أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس حتى أفشى عليه الإسرائيلي هكذا قال جمهور المفسرين وقيل: إن القائل هو القبطي، وكان قد بلغه الخبر من جهة الإسرائيلي، وهذا هو الظاهر؛ وقد سبق ذكر
101
القبطي قبل هذا بلا فصل، لأنه هو المراد بقوله عدو لهما، ولا موجب لمخالفة الظاهر حتى يلزم منه أن المؤمن بموسى المستغيث به المرة الأولى، والمرة الأخرى هو الذي أفشى عليه.
وأيضاً أن قوله (إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض) لا يليق صدور مثله إلا من كافر، و (إن) هي النافية أي ما تريد، قال الزجاج: الجبار في اللغة الذي يتعاظم، ولا يتواضع لأمر الله، والقاتل بغير حق جبار. وقيل: الجبار الذي يفعل ما يريد، من الضرب والقتل ولا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن. وقال عكرمة: لا يكون الرجل جباراً حتى يقتل نفسين. وهو بعيد، ولا دلالة في الآية على ذلك، والراجح هو الأول الموافق باللغة.
(وما تريد أن تكون من المصلحين) بين الناس، فتدفع التخاصم بالتي هي أحسن.
102
(وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى) قيل: المراد بهذا الرجل حزقيل وهو مؤمن آل فرعون وكان ابن عم موسى، وقيل: اسمه شمعون. وقيل طالوت وقيل: سمعان، والمراد بأقصى المدينة آخرها وأبعدها، والمعنى يسرع في مشيه وأخذ طريقاً قريباً حتى سبق إلى موسى وأخبره وأنذره بما سمع.
(قال يا موسى إن الملأ) أي أشراف قوم فرعون (يأتمرون بك ليقتلوك) أي يتشاورون في قتلك ويتآمرون بسببك، وإنما سمي التشاور ائتماراً لأن كُلاًّ من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر به، قال الزجاج: يأمر بعضهم بعضاً بقتلك وهذا أقرب باللفظ والمعنى قاله الحفناوي وقال أبو عبيدة: يتشاورون فيك، قال الأزهري: ائتمر القوم وتآمروا أي أمر بعضهم بعضاً ونظيره قوله تعالى: وائتمروا بينكم بمعروف.
(فاخرج) من المدينة (إني لك من الناصحين) في الأمر بالخروج واللام للبيان لأن معمول المجرور لا يتقدم عليه.
102
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥)
103
(فخرج) موسى (منها) أي من المدينة (خائفاً يترقب) أي حال كونه خائفاً من الظالمين مترقباً لحوقهم به، وإداركهم له أو راجياً غوث الله إياه، قولان للمفسرين، وعن ابن عباس قال: خرج موسى من مصر إلى مدين وبينه وبينها ثمان ليال، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر، وخرج حافياً فما وصل إليها حتى وقع خف قدمه. وعنه قال: خرج موسى خائفاً جائعا ليس معه زاد، حتى انتهى إلى ماء مدين وهو أول ابتلاء من الله تعالى لموسى، ثم دعا ربه بأن ينجيه ممن خافه.
و (قال رب نجني من القوم الظالمين) قوم فرعون، أي خلصني منهم وادفعهم عني، وحل بيني وبينهم، واحفظني من لحوقهم.
(ولما توجه) أي قصد بوجهه (تلقاء مدين) أي نحوها، وجهتها قاصداً لها ماضياً إليها. قال الزجاج: أي سلك في الطريق التي تلقاء مدين فيها انتهى والتوجه: الإقبال على الشيء ومدين قرية شعيب، يقال: داره تلقاء دار فلان، وأصله من اللقاء ولم تكن هذه القرية داخلة تحت سلطان فرعون،
103
ولهذا خرج إليها ولكن لم يكن يعرف طريقها.
(قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) أي: يرشدني نحو الطريق المستوية إلى مدين وهو من إضافة الصفة للموصوف وكان لها ثلاث طرق، فأخذ موسى الوسطى، وجاء الطلاب في أثره فساروا في الآخريين، ذكره أبو السعود.
104
(ولما ورد ماء مدين) أي: وصل إليه وهو الماء الذي يستقون منه، والمراد بالماء هنا بئر فيها، صرح به الخازن والمحلي، فهو من باب ذكر الحال وإرادة المحل، ولفظ الورود قد يطلق على الدخول في المورد، وقد يطلق على البلوغ إليه وإن لم يدخل فيه وهو المراد هنا؛ وقد تقدم تحقيق معنى الورود في قوله: وإن منكم إلا واردها، وقيل: مدين اسم للقبيلة لا للقرية، وهي غير منصرفة على كلا التقديرين.
(وجد عليه أمة) أي: وجد على الماء جماعة كثيرة لأن التنكير للتكثير (من الناس) أي من أناس مختلفين (يسقون) مواشيهم (ووجد من دونهم) أي: من دون الناس الذين يسقون ما بينهم وبين الجهة التي جاء منها وقيل: معناه في موضع أسفل منهم قاله أبو السعود، وفي الخازن: في موضع بعيد منهم.
(امرأتين تذودان) أي تحبسان أغنامهما من الماء، حتى يفرغ الناس، ويخلو بينهما وبين الماء، وبه قال ابن عباس، وورد الذود بمعنى الطرد، أي تطردان، وقيل: تكفان الغنم عن أن تختلط بأغنام الناس، وقيل: تمنعان أغنامهما عن أن تند، وتذهب، والأول أولى لقوله:
(قال) موسى للمرأتين (ما خطبكما)؟ أي: ما شأنكما لا تسقيان غنمكما مع الناس؟ والخطب الشأن، قيل: وإنما يقال ما خطبك لمصاب أو لمضطهد أو لمن يأتي بمنكر.
(قالتا) عادتنا التأني (لا نسقي حتى يصدر الرعاء) عن الماء،
104
وينصرفوا منه حذراً من مخالطتهم، أو عجزاً عن السقي معهم، قرئ نسقي بفتح النون، وبضمها من أسقى، وقرئ يصدر من أصدر. ومن صدر يصدر لازماً: أي: يرجعون مواشيهم، والرعاء جمع راع على غير قياس؛ لأن فاعلا الوصف المعتل اللام كقاض قياسه فعله نحو قضاة ورماة خلافاً للزمخشري في أن جمعه على فعال قياس، كصيام وقيام قاله الكرخي. قرأ الجمهور: الرعاء بكسر الراء وقرئ بفتحها قال أبو الفضل: هو مصدر أقيم مقام الصفة فلذلك استوى فيه الواحد والجمع، وقرئ الرعاء بالضم اسم جمع.
(وأبونا شيخ كبير) عالي السن، وهذا من تمام كلامهما إبداء منهما للعذر في مباشرة السقي أنفسهما أي: لا يقدر أن يسقي ماشيته من الكبر؛ فلذلك احتجنا ونحن امرأتان ضعيفتان مستورتان؛ لا نقدر على مزاحمة الرجال وعلى أن نسقي الغنم لعدم وجود رجل يقوم لنا بذلك، قيل: أبوهما شعيب وقيل: هو ثيرون ابن أخي شعيب، وقيل: هو رجل ممن آمن بشعيب؛ والأول أولى.
وإنما رضي شعيب لابنتيه بسقي الماشية، لأن هذا الأمر في نفسه ليس بمحظور، والدين لا يأباه. وأما المروءة فعادات الناس في ذلك متباينة، وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر، خصوصاً إذا كانت الحالة حالة الضرورة، فلما سمع موسى كلامهما رق لهما ورحمهما.
105
(فسقى لهما) أي: سقى أغنامهما لأجلهما رغبة في المعروف وإغاثة للملهوف، قال المحلي: سقى من بئر أخرى، لقربها، رفع حجراً عنها لا يرفعه إلا عشرة أنفس انتهى (ثم) لما فرغ من السقي لهما (تولى إلى الظل) أي: انصرف إليه فجلس فيه من شدة الحر وهو جائع. قيل: كان هذا الظل ظل سمرة هنالك، وهي شجرة من شجر الطلح وفيه دليل على جواز الاستراحة في الدنيا بخلاف ما يقوله بعض المتقشفة.
105
(فقال) أي ثم قال لما أصابه من الجهد والتعب منادياً لربه (رب إني لما أنزلت إلي من خير) أي خير كان (فقير) أي محتاج إلى ذلك واللام بمعنى إلى، قال الأخفش: يقال هو فقير له واليه، قال ابن عباس لقد قال موسى رب الخ وهو أكرم خلقه عليه، ولقد افتقر إلى شق تمرة، ولقد لصق بطنه بظهره من شدة الجوع. وعنه قال: ما سأل إلا الطعام؛ وعنه قال: سأل فلقاً من الخبز يشد بها صلبه من الجوع، ويحتمل أن يريد أني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إلي من خير الدين وهو النجاة من الظالمين، لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة، قال ذلك رضاء بالبدل السني، وفرحاً بالعوض الهني، وشكراً لله الغني. وقال ابن عطاء: نظر من العبودية إلى الربوبية، وتكلم بلسان الافتقار، لما ورد على سره من الأنوار.
106
(فجاءته إحداهما) في الكلام حذف يدل عليه السياق، قال الزجاج: تقديره فذهبتا إلى أبيهما سريعتين، وكانت عادتهما الإبطاء في السقي، فحدثتاه بما كان من الرجل الذي سقى لهما، فأمر الكبرى من بنتيه وهي صفورا، وقيل: صفراء وقيل: أمر الصغرى، وهي ليا وقيل: صفيراء أن تدعوه له فجاءته، وذهب أكثر المفسرين إليه أنهما ابنتا شعيب، وقيل: هما ابنتا أخي شعيب كان قد مات، والأول أرجح وهو ظاهر القرآن.
(تمشي) كائنة (على استحياء) حالتي المشي والمجيء لا عند المجيء فقط وهذا دليل كمال إيمانها، وشرف عنصرها، لأنها كانت تدعوه إلى ضيافتها ولم تعلم أيجيبها أم لا؟ فأتته مستحيية. قال عمر بن الخطاب: جاءت مستترة بكم درعها على وجهها من الحياء، والحياء والاستحياء بالمد الحشمة والانقباض والانزواء، ويتعدى بنفسه وبالحرف، يقال: استحييته واستحييت منه.
(قالت إن أبي يدعوك) مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ماذا قالت
106
له لما جاءته فقيل قالت الخ (ليجزيك أجر ما سقيت لنا) أي جزاء سقيك لنا، فأجابها منكراً في نفسه أخذ الأجرة، وقيل أجاب لوجه الله، أو للتبرك برؤية الشيخ، لما سمع منهما أن أباهما شيخ كبير.
(فلما جاءه) أي جاء موسى شعيباً، عن أبي حازم قال: لما دخل موسى على شعيب إذا هو بالعشاء فقال له شعيب كل قال موسى أعوذ بالله؛ قال ولم ألست بجائع؟ قال بلى ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً عما سقيت لهما وأنا من أهل بيت لا نبيع شيئاًً من عمل الآخرة بملء الأرض ذهباً، قال: لا والله ولكنها عادتي. وعادة آبائي. نقري الضيف ونطعم الطعام، فجلس موسى فأكل.
(وقص عليه القصص) مصدر يسمى به المفعول أي المقصوص، يعني أخبره بجميع ما اتفق له من عند قتله القبطي إلى عند وصوله إلى ماء مدين، وعن مالك ابن أنس: أنه بلغه أن شعيباً هو الذي قص عليه القصص.
(قال) شعيب: (لا تخف نجوت من القوم الظالمين) أي فرعون وأصحابه لأن فرعون لا سلطان له على مدين، وفيه دليل على جواز العمل بخبر الواحد ولو عبداً أو أنثى، وعلى المشي مع الأجنبية مع ذلك الاحتياط والتورع وللرازي في هذا الموضع إشكالات باردة جداً لا تستحق أن تذكر في تفسير كلام الله عز وجل، والجواب عليها يظهر للمقصر فضلاً عن الكامل؛ وأسف ما جاء به أن موسى كيف أجاب الدعوة المعللة بالجزاء لما فعله من السقي، ويجاب عنه بأنه اتبع سنة الله في إجابة دعوة نبي من أنبياء الله، ولم تكن تلك الإجابة لأجل أخذ الأجر على هذا العمل، ولهذا ورد أنه لما قدم إليه الطعام قال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهباً كما مر، وفي الكشاف أن طلب الأجرة لشدة الفاقة غير منكر، ويشهد لصحته لو شئت لاتخذت عليه أجراً.
107
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧)
108
(قالت إحداهما) وهي التي جاءته (يا أبت استأجره) ليرعى لنا الغنم وفيه دليل على أن الإجازة كانت عندهم مشروعة، وقد اتفق على جوازها ومشروعيتها جميع علماء الإسلام إلا الأصم، فإنه عن سماع أداتها أصم.
(إن خير من استأجرت القوي الأمين) تعليل لما وقع منها من الإرشاد لأبيها إلى استئجار موسى، أي أنه حقيق باستئجارك له لكونه جامعاً بين خصلتي القوة والأمانة ولم يقل تستأجر مع أنه الظاهر لأنه جعله لتحققه وتجربته منزلاً منزلة ما مضى وعرف قبل.
وقد روى عن ابن عباس، وعمر: إن أباها سألها عن وصفها له بالقوة والأمانة فأجابته: أما قوته فرفعه الحجر لا يطيقه إلا عشرة رجال، وأما أمانته فقال امش خلفي وانعتي لي الطريق، فإني أكره أن تصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك، فزاده ذلك رغبة فيه، وعن ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة: بنت شعيب، وصاحب يوسف في قوله عسى أن ينفعنا، وأبو بكر في أمر عمر.
(قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين) الكبرى أو الصغرى وفيه مشروعية عرض ولي المرأة لها على الرجل، وهذه سنة ثابتة في الإسلام كما ثبت من عرض عمر لابنته حفصة على أبي بكر وعثمان، والقصة معروفة وغير
108
ذلك مما وقع في أيام الصحابة وأيام النبوة، وكذلك ما وقع من عرض المرأة لنفسها على رسول الله - ﷺ -.
قيل: زوجه الكبرى، وقال الأكثرون: إنه زوجه الصغرى منهما واسمها صفورا، وهي التي ذهبت في طلب موسى و (هاتين) يدل على أنه كان له غيرهما وقد قال البقاعي: إن له سبع بنات كما في التوراة، وهذه مواعدة منه، ولم يكن ذلك عند نكاح إذ لو كان عنداً لقال: قد أنكحتك.
(على أن تأجرني ثماني حجج) جمع حجة وهي السنة قال الفراء: يقال: على أن تجعل ثوابي أن ترعى غنمي ثماني سنين. قال المبرد: يقال أجرت داري ومملوكي غير ممدود، وممدوداً والأول أكثر، والتزوج على رعي الغنم جائز بالإجماع لأنه من باب القيام بأمر الزوجية فلا مناقضة بخلاف التزوج على الخدمة.
(فإن أتممت) ما استأجرتك عليه من الرعي (عشراً) من السنين (فمن عندك) أي تفضلاً منك وتبرعاً، لا إلزاماً مني لك وليس بواجب عليك، جعل ما زاد على الثمانية الأعوام إلى تمام عشرة أعوام، موكولاً إلى المروءة أي فهي من عندك، والظاهر أنه استدعاء عند بالأجل الأول نظراً إلى شرعنا، ويمكن كونه عقداً صحيحاً عندهم قاله الكرخي.
(وما أريد أن أشق عليك) بإلزامك إتمام العشرة الأعوام، ولا بالمناقشة في مراعاة الأوقات، واستيفاء الأعمال، واشتقاق المشقة من الشق أي شق ظنه نصفين، فتارة يقول: أطيق وتارة يقول: لا أطيق، ثم رغبة في قبول الإجازة فقال (ستجدني إن شاء الله من الصالحين) في حسن الصحبة ولطف المعاملة ولين الجانب، والوفاء بالعهد، وقيل أراد الصلاح على العموم فيدخل صلاح المعاملة في تلك الإجازة تحت الآية دخولاً أولياً، وقيد ذلك بالمشيئة تفويضاً للأمر إلى توفيق الله ومعونته، وللتبرك به لا تعليق صلاحه بمشيئته تعالى.
109
قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩)
ثم لما فرغ شعيب من كلامه قرره موسى و
110
(قال ذلك بيني وبينك) والإشارة إلى ما تعاقدا عليه (أيما الأجلين قضيت) شرطية وجوابها:
(فلا عدوان عليّ) والمراد بالأجلين الثمانية الأعوام، والعشرة الأعوام ومعنى قضيت: وفيت به، وأتممته، وفرغت منه، و (الأجلين) مخفوض بإضافة (أي) إليه و (ما) زائدة أو مخفوضة بإضافة أي إليها والأجلين بدل منها، وقرأ ابن مسعود: أي الأجلين ما قضيت، والمعنى لا ظلم عليّ بطلب الزيادة على ما قضيته من الأجلين، أي كما لا أطالب بالزيادة على الثمانية الأعوام، لا أطالب بالنقصان عن العشرة: وقيل: المعنى كما لا أطالب بالزيادة على العشرة الأعوام لا أطالب بالزيادة على الثمانية الأعوام، وهذا أظهر. وأصل العدوان تجاوز الحد في غير ما يجب، قال المبرد: وقد علم موسى أنه لا عدوان عليه في أتمهما، ولكنه جمعهما ليجعل الأقل كالأتم في الوفاء، وقرئ عدوان بضم العين وبكسرها.
(والله على ما نقول) من هذه الشروط الجارية بيننا (وكيل) أي شاهد وحفيظ فلا سبيل لأحدنا إلى الخروج عن شيء من ذلك، قيل: هو من قول موسى، وقيل: من قول شعيب، والأول أولى لوقوعه في جملة كلام موسى وتم العقد بذلك ولعل هذا كان في شرعهما، وإلا فهذه الصيغة لا تكفي عندنا في عقد النكاح، لأن الواقع من شعيب وعد بالإنكاح، والواقع من موسى ليس
110
فيه مادة التزويج، ولا الإنكاح، وأيضاً الصداق ليس راجعاً للمنكوحة بل لأبيها، هذا ما جرى عليه المحلي.
وقال غيره: إنهما عقدا عقداً بغير الصورة المذكورة هنا منهما، قال أبو السعود: ليس ما حكى عنهما في الآية تمام ما جرى بينهما من الكلام في إنشاء عقد النكاح، وعقد الإجازة وإيقاعهما، بل هو بيان لما عزما عليه واتفقا على إيقاعه حسبما يتوقف عليه مساق القصة إجمالاً من غير تعرض لبيان مواجب العقدين في تلك الشريعة تفصيلاً.
وأخرج الطبراني وغيره عن عتبة السلمي قال: كنا عند رسول الله - ﷺ - فقرأ سورة طسم حتى إذا بلغ قصة موسى قال: " إن موسى آجر نفسه ثماني سنين، أو عشراً على عفة فرجه، وطعام بطنه، فلما وفى الأجل قيل يا رسول الله أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أبرهما وأوفاهما، فلما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيهما من غنمه ما يعيشون به، فأعطاهما ما ولدت غنمه " الحديث بطوله وفيه مسلمة الدمشقي ضعفه الأئمة.
111
(فلما قضى موسى الأجل) الذي هو أكملهما وأوفاهما، وهو العشرة الأعوام، والفاء فصيحة؛ عن ابن عباس أنه سئل أي الأجلين قضى موسى؟ قال: " أكثرهما وأطيبهما أن رسول الله إذا قال فعل "، وصححه الحاكم، أقول: في قوله إذا قال رسول الله فعل نظر، فإن موسى لم يقل إنه سيقضي أكثر الأجلين، بل قال: أيما الأجلين قضيت فلا عدوان عليَّ، وقد روي عن رسول الله - ﷺ -: " إن موسى قضى أتم الأجلين " من طرق أخرج الخطيب في تاريخه عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله - ﷺ - " إذا سئلت أي الأجلين قضى موسى فقل: خيرهما وأبرهما: وإن سئلت أي المرأتين تزوج؟ فقل الصغرى منهما، وهي التي جاءت فقالت يا أبت استأجره ".
111
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: " قال لي جبريل: يا محمد إن سألك اليهود أي الأجلين قضى موسى؟ فقل: أوفاهما وإن سألوك أيهما تزوج؟ فقل الصغرى منهما " فروايات أنه قضى أتم الأجلين لها طرق يقوي بعضها بعضاً.
(و) لما تم الأجل ودنا أيام الزلفة وظهرت أنوار النبوة (سار بأهله) زوجته بإذن أبيها إلى مصر ليشتركوا معه في لطائف صنع ربه، وقيل: سار لصلة رحمه وزيارة أمه وأخيه، وهذا أولى؛ وفيه دليل على أن الرجل يذهب بأهله حيث شاء.
(آنس من جانب الطور) أي أبصر من الجهة التي تلي الطور (ناراً) وذلك أنه كان في البرية في ليلة مظلمة شديدة البرد وأخذ امرأته الطلق، وقد تقدم تفسير هذا في سورة طه مستوفى، قال ابن عباس: لما قضى موسى الأجل سار بأهله فضل الطريق، وكان في الشتاء، فرفعت له نار فلما رآها ظن أنها نار وكانت من نور الله.
(قال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر) أي لعلي أجد من يدلني على الطريق فإن لم أجد خبراً آتيكم بشهاب قبس وهو المراد بقوله (أو جذوة من النار) وهذا تقدم تفسيره أيضاً في سورة طه، وفي سورة النمل، وقرئ جذوة بكسر الجيم، وبضمها وبفتحها، وهي لغات في العود الذي في رأسه نار، هذا هو المشهور، وقيده بعضهم فقال: نار من غير لهب وقد ورد ما يقتضي وجود اللهب فيه، قال الجوهري الجذوة والجذوة الجمرة. والجمع جَذى وجَذيّ وجُذيّ، قال مجاهد: إن الجذوة قطعة من الجمر في لغة العرب، وقال أبو عبيدة: هي القطعة الغليظة من الخشب كأن في طرفها ناراً ولم تكن، وليس المراد هنا إلا ما في رأسه نار قاله السمين.
(لعلكم تصطلون) من البرد أي تستدفئون بالنار.
112
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١)
113
(فلما أتاها) أي النار التي أبصرها، وقيل: أتى الشجرة، والأول أولى لعدم الذكر للشجرة (نودي من) لابتداء الغاية (شاطئ الوادي الأيمن) صفة للشاطئ أو للوادي، وهو من اليمن وهو البركة أو من جهة اليمين المقابل لليسار بالنسبة إلى موسى، أي الذي يلي يمينه دون يساره، وشاطئ الوادي طرفه وحافته وكذا الشط والسيف والساحل كلها بمعنى، قال الراغب وجمع الشاطئ أشطاء قال ابن عباس: كان النداء من السماء الدنيا، وظاهر القرآن يخالف ما قاله رضي الله تعالى عنه.
(في البقعة) متعلق بنودي أو بمحذوف على أنه حال من الشاطئ (المباركة) بتكليم الله تعالى فيها (من الشجرة) بدل اشتمال من شاطئ الوادي لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ، وقال الجوهري: شاطئ الأودية ولا يجمع، قرأ الجمهور: البقعة بضم الباء، وقرئ بفتحها، وهي لغة حكاها أبو زيد.
عن ابن مسعود، قال: " ذكرت لي الشجرة التي أوى إليهما موسى فسرت إليها يومي وليلتي حتى صبحتها فإذا هي سمرة خضراء ترف، فصليت على النبي - ﷺ - وسلمت فأهوى إليها بعيري، وهو جائع، فأخذ منها ملآن فيه، فلاكه فلم يستطع أن يسيغه فلفظه، فصليت على النبي - ﷺ - وسلمت، ثم انصرفت " أخرجه عبد ابن حميد وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وقيل: الشجرة العناب؛ أو العوسج؛ وقيل: كانت من العليق.
113
(أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين) أن هي المفسرة أو هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن؛ وجملة النداء مفسرة له، والأول أولى قرئ: إني بكسر الهمزة على إضمار القول أو على تضمين النداء معناه، والفتح قراءة ضعيفة. قال جعفر، أبصر ناراً دلته على الأنوار لأنه رأى النور في هيئة النار، فلما دنا منها شملته أنوار القدس، وأحاطت به جلابيب الأنس فخوطب بألطف خطاب واستدعى منه أحسن جواب فصار بذلك مكلماً شريفاً أعطي ما سأل، وأمن مما خاف.
قيل: إن موسى لما رأى النار في الشجرة الخضراء علم أنه لا يقدر على الجمع بين النار وخضرة الشجرة إلا الله فعلم بذلك أن المتكلم هو الله تعالى وقيل: إن الله خلق في نفس موسى علماً ضرورياً بأن المتكلم هو الله وأن ذلك الكلام كلام الله، وذهب جماعة من المتكلمين منهم الغزالي إلى أنه سمع كلامه الأزلي النفسي بلا صوت ولا حرف، ولا دليل عليه. وقيل: غير ذلك مما لا فائدة في ذكره.
وقال في سورة طه: (إني أنا ربك) وقال في النمل (نودي أن بورك من في النار ومن حولها) وهما مخالفان لما هنا من حيث اللفظ إلا أن الجميع متوافق في المقصود وهو فتح باب الاستنباء وسوق الكلام على وجه يؤدي إليه قال الإمام: لا منافاة بين هذه الأشياء فهو تعالى ذكر الكل إلا أنه حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداء انتهى.
114
(وأن ألق عصاك) وقد تقدم تفسير هذا وما بعده في طه والنمل، وفي الكلام حذف، أي فألقاها فصارت ثعباناً فاهتزت (فلما رآها تهتز) أي: تتحرك (كأنها جان) في سرعة حركتها، مع عظم جسمها (ولى مدبراً) أي هارباً منهزماً (ولم يعقب) أي: لم يرجع فنودي:
(يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين) من أن ينالك مكروه من الحية؛ وقد تقدم تفسير جميع ما ذكر هنا مستوفى فلا نعيده وكذلك قوله:
114
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (٣٢) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧)
115
(اسلك يدك في جيبك) والسلك بالفتح، والسلوك كل منهما مصدر لسلك الشيء في الشيء أنفذه فيه، فإنه من باب قعد ونصر (تخرج بيضاء من غير سوء) فأدخلها فخرجت ولها شعاع كضوء الشمس من غير برص.
(واضمم إليك جناحك) جناح الإنسان عضده؛ ويقال لليد كلها جناح أي: اضمم إليك يديك المبسوطتين لتتقي بهما الحية، كالخائف الفزع، وقد عبر هذا المعنى بثلاث عبارات:
الأولى: اسلك يدك في جيبك.
والثانية: واضمم إليك جناحك.
والثالثة: وأدخل يدك في جيبك.
قال الزمخشري: جعل الجناح وهو اليد في أحد الموضعين مضموماً، وفي الآخر مضموماً إليه، فالمراد بالجناح المضموم اليد اليمنى، وبالجناح المضموم
115
إليه اليد اليسرى وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما جناح، ويجوز أن يراد بالضم التجلد والثبات عند انقلاب العصا ثعباناً، وقيل: كل خائف بعد موسى إذا وضع يده على صدره زال خوفه. قال الفراء: أراد بالجناح عصاه.
(من الرهب) أي من أجل الخوف، قرئ بفتح الراء والهاء وبإسكان الهاء، وبضم الراء، وإسكان الهاء؛ وقال بعض أهل المعاني: الرهب الكم بلغة حمير وبني حنيفة، وقال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول لآخر: أعطني ما في رهبك؛ فسألته عن الرهب؛ فقال: الكم، فعلى هذا يكون معناها اضمم إليك يدك وأخرجها من الكم.
(فذانك) إشارة إلى العصا واليد، قرئ بتخفيف النون، قيل: والتشديد لغة قريش، وقرئ بياء تحتية بعد نون مكسورة؛ وهي لغة هذيل، وقيل لغة تميم (برهانان) أي حجتان نيرتان، ودليلان واضحان؛ وآيتان بينتان، وسميت الحجة برهاناً لإنارتها من قولهم للمرأة البيضاء: برهونة. (من ربك) أي: كائنان منه تعالى، مرسلان أو واصلان.
(إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) متجاوزين الحد في الظلم، خارجين عن الطاعة أبلغ خروج، والجملة تعليل لما قبلها، ولما سمع موسى قول الله سبحانه هذا طلب منه سبحانه أن يقوي قلبه و
116
(قال رب إني قتلت منهم نفساً) يعني القبطي الذي وكزه فقضى عليه (فأخاف أن يقتلون) بها.
(وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا) أي: كلاماً لأنه كان في لسان موسى حبسة من وضع الجمر في فيه، كما تقدم بيانه، والفصاحة لغة الخلوص يقال: فصح اللبن، وأفصح فهو فصيح، أي: خلص من الرغوة، ومنه فصح الرجل جادت لغته، وأفصح تكلم بالعربية، وقيل: الفصيح الذي ينطق والأعجم الذي لا ينطق، وأما في اصطلاح أهل البيان ففصاحة الكلمة خلوصها عن تنافر الحروف والغرابة، ومخالفة القياس. وفصاحة الكلام خلوصه من ضعف التأليف والتعقيد.
116
(فأرسله معي ردءاً) النصب على الحال أي: عوناً والردء: المعين من أردأته إذا أعنته، يقال: فلان ردء فلان إذا كان ينصره، ويشد ظهره. وقيل: من قولهم أردى على المائة إذا زاد عليها فكأن المعنى: أرسله معي زيادة في تصديقي.
(يصدقني) بالرفع على الاستئناف، وبالجزم على جواب الأمر وقرأ أبيّ: يصدقوني، أي فرعون وملؤه، وقال ابن عباس: كي يصدقني، أي هرون ومعنى تصديقه موسى إعانته إياه بزيادة البيان في مظان الجدال، وتقرير الحجة بتوضيحها، وتزييف الشبهة، وتلخيص الدلائل بلسانه.
والجواب عن شبهات الكفار ببيانه ليثبت دعواه لا أن يقول له: صدقت، ألا ترى إلى قوله هو أفصح مني؟ وفضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لتقرير البرهان؛ لا لقوله صدقت، حبان وباقل فيه يستويان، وهذا هو الجاري مجرى التصديق كما يصدق القول بالبرهان.
(إني أخاف أن يكذبون) إذا لم يكن معي هارون لعدم انطلاق لساني بالمحاجة.
117
(قال سنشد عضدك بأخيك) هارون، وكان إذ ذاك بمصر، أي نقويك به فإن قوة الشخص بشدة اليد على مزاولة الأمور، ولذلك يعبر عنه باليد، وعن شدتها بشدة العضد، فهو مجاز مرسل على طريق إطلاق السبب وإرادة المسبب بمرتبتين، فإن شدة العضد سبب مستلزم لشدة اليد وشدة اليد مستلزمة لقوة الشخص في المرتبة الثانية.
قال الشهاب: الشد التقوية فهو إما كناية تلويحيية عن تقويته، لأن اليد تشد بشد العضد، والجملة تشتد بشد اليد، ولا مانع من الحقيقة كما توهم، أو استعارة تمثيلية، شبه حال موسى في تقويه بأخيه بحال اليد في تقويها بالعضد، ويقال في دعاء الخير شد الله عضدك، وفي ضده فت الله عضدك، قرأ الجمهور عضدك بفتح العين وضم الضاد وقرئ بضمهما وسكون الضاد، وبفتحهما.
117
(ونجعل لكما سلطاناً) أي حجة وبرهاناً أو تسلطاً وغلبة، وهيبة في قلوب الأعداء (فلا يصلون إليكما) بالأذى والسوء، ولا يقدرون على غلبتكما بالحجة (بآياتنا) أي تمنعان منهم بآياتنا أو اذهبا بآياتنا وقيل: الباء للقسم وجوابه، فلا يصلون، وما أضعف هذا القول. وقال الأخفش وابن جرير في الكلام تقديم وتأخير، أي أنتما ومن اتبعكما الغالبون بآياتنا، وأولى هذه الوجوه أولها، وفي قوله (أنتما ومن اتبعكما الغالبون) تبشير لهما؛ وتقوية لقلوبهما.
118
(فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات) واضحات الدلالة، وقد تقدم وجه إطلاق الآيات وهي جمع على العصا واليد في سورة طه، وهو أن في كل منهما آيات عديدة.
(قالوا ما هذا إلا سحر مفترى) أي مختلق مكذوب اختلقته من قبل نفسك ثم افتريته على الله، أو سحر موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر، وليس بمعجزة من عند الله، أو سحر لم يفعل قبل هذا الوقت مثله.
(وما سمعنا بهذا) الذي جئت به من دعوى النبوة أو ما سمعنا بهذا السحر (في آبائنا الأولين) أي كائناً أو واقعاً فيهم.
(وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده) يريد نفسه وإنما جاء بهذه العبارة لئلا يصرح لهم بما يريده قبل أن يوضح لهم الحجة، والله أعلم قرئ وقال بالواو وبغيرها، وكذلك هو في مصاحف أهل مكة (ومن تكون له عاقبة الدار) بالفوقية وهي أوضح من قراءتها بالتحتية، على أن اسم يكون عاقبة الدار والتذكير لوقوع الفصل، ولأنه تأنيث مجازي، والمراد بالدار هنا الدنيا، وعاقبتها هي الجنة، وإنما كانت عاقبة لها لأن الدنيا خلقت مجازاً وطريقاً إليها، أو المراد بالدار الدار الآخرة الصادقة على الجنة والنار والإضافة بمعنى في، والمعنى ومن تكون له العاقبة المحمودة في الدار الآخرة (إنه لا يفلح الظالمون) أي إن الشأن أنهم لا يفوزون بمطلب خير.
118
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (٣٩)
119
(وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري) تمسك اللعين بمجرد الدعوى الباطلة مغالطة لقومه منه، وقد كان يعلم أن ربه الله عز وجل والظاهر أنه لا يريد بإلهية نفسه كونه خالقاً للسموات والأرض وما بينهما، فإن العلم بامتناع ذلك مما لا يخفى على أحد، فالشك في ذلك يقتضي زوال العقل بالكلية، فالمخذول لعنه الله كأنه يظن أن الأفلاك والكواكب كافية في اختلاف أحوال هذا العالم السفلي، فلا حاجة إلى إثبات صانع.
قال القاضي: نفي علمه بإله غيره دون وجوده إذ لم يكن عنده ما يقتضي الجزم بعدمه. ولذلك أمر ببناء الصرح، قلت: هو رد على الزمخشري في قوله: أن المقصود بنفي العلم بالإله نفي وجوده، ويمكن التوجيه بأن يقال: الوجود وجودان، وجود ذهني ووجود خارجي والمراد في كلامه الأول.
ولا شك أنه إذا انتفى علم الإنسان بشيء انتفى وجوده في ذهنه، ولكن ربما كان هذا غير مراد للزمخشري، لأن الظاهر من كلامه الوجود الشائع عند أهل اللغة، وهو الخارجي. قال سراج الدين: غرض صاحب الكشاف أن عدم الوجود سبب لعدم العلم بالوجود في الجملة، ولا شك أنه كذلك فأطلق السبب وأريد السبب، لا أن بينهما ملازمة كلية على أنه لا كان من أقوى أسباب عدم العلم لأنه المطرد، جاز أن يطلق ويراد به الوجود، إذ لا يشترط عند علماء هذا الفن اللزوم العقلي، بل العادي والعرفي كاف أيضاً.
119
وقد يقول أحد منا: لا أعلم ذلك، أي: لو كان موجوداً لعلمته إذا قامت قرينة، وهذا استعمال شائع في عرف العرب والعجم، عند العامة والخاصة، كيف! وكان المخذول يدعي الإلهية! فالظاهر أنه من الكناية لا من المجاز والمصنف إنما ذكر معلومية انتفاء العلم لانتفاء الوجود ليبين أن انتفاء العلم من روادف انتفاء الوجود انتهى. قال الشوكاني: وهو الذي خطر ببالي أنه الجواب، لكنه عارض ذلك الخاطر إشكالات لا يتسع لها المقام انتهى.
وقد أشار أبو السعود في تفسيره إلى الجواب عن هذا الإشكال فقال: وهذا من خواص العلوم الفعلية فإنها لازمة لتحقق معلوماتها، فيلزم من انتفائها انتفاء معلوماتها، ولا كذلك العلوم الانفعالية انتهى. وقد وافق على هذا القاضي، ولاح لك عن هذا جوابان (١):
الأول: أنه ذكر نفي العلم، وأراد نفي المعلوم بطريق الكناية على الوجه الذي ذكره السراج.
الثاني: تخصيص العلم بالفعلي لا الانفعالي، كما ذكره أبو السعود والبيضاوي.
والثالث: إن يراد بالوجود الوجود في ذهن المتكلم بتلك الكلمة، وفي كل جواب من هذه الأجوبة كلام لا يلتبس على العالم بالفن قال الخفاجي وعلى كل حال فكلام القاضي لا يخلو عن ضعف، والذي غره فيه كلام صاحب الانتصاف انتهى.
قال ابن عباس: لما قال فرعون هذا القول قال جبريل: يا رب طغى عبدك فأذن لي في هلكه، فقال: يا جبريل بل هو عبدي ولن يسبقني، له أجل يجيء ذلك الأجل، فلما قال: أنا ربكم الأعلى! قال الله: يا جبريل سبقت دعوتك في عبدي، وقد جاء أوان هلاكه.
_________
(١) والأصح (ثلاث إجابات).
120
وأخرج ابن مردويه عنه قال: قال رسول الله - ﷺ - " كلمتان قالهما فرعون (ما علمت لكم من إله غيري)، وقوله (أنا ربكم الأعلى) قال: كان بينهما أربعون عاماً فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ".
ثم رجع إلى تكبره وتجبره وإيهام قومه بكمال اقتداره فقال:
(فأوقد لي يا هامان على الطين) أي اطبخ لي الطين حتى يصير آجراً أي بعد اتخاذه لبناً، عن قتادة قال: بلغني أن فرعون أول من طبخ الآجر، وبنى به. وعن ابن جريج نحوه، والنداء بـ (يا) في وسط الكلام دليل التعظيم والتجبر.
(فاجعل لي) من هذا الطين الذي توقد عليه حتى يصير آجراً (صرحاً) أي قصراً عالياً، وقيل منارة، روي أن هامان بنى صرحاً لم يبلغه بناء أحد من الخلق، وأراد الله أن يفتنهم فيه، فضرب الصرح جبريل بجناحه فقطعه ثلاث قطع وقعت قطعة على عسكر فرعون، وقطعة في البحر وقطعة في المغرب ولم يبق أحد من عماله إلا هلك.
(لعلي أطلع إلى إله موسى) أي أصعد إليه وأنظر وأقف على حاله كأنه توهم أنه لو كان هناك إله كان جسماً في السماء، يمكن الرقي إليه والاطلاع الصعود والطلوع والاطلاع واحد، يقال: طلع الجبل واطلع أي صعد.
(وإني لأظنه) أي موسى (من الكاذبين) في دعواه أن للأرض والخلق إلهاً سواه، وأنه أرسله.
121
(واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق) المراد بها أرض مصر والاستكبار التعاظم بغير استحقاق، بل بالعدوان لأنها لم تكن له حجة يدفع بها ما جاء به موسى، ولا شبهة ينصبها في مقابلة ما أظهره من المعجزات (وظنوا) أي فرعون وجنوده.
(أنهم إلينا لا يرجعون) قرئ مبنياً للمفعول وللفاعل والمراد بالرجوع البعث والمعاد.
121
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤)
122
(فأخذناه وجنوده) بعد أن عتوا في الكفر وجاوزوا الحد فيه (فنبذناهم في اليم) أي طرحناهم في البحر المالح، وهو القلزم وفي هذا تفخيم وتعظيم لشأن الأخذ واستحقاراً لمأخوذين كأنه أخذهم مع كثرتهم في كف وطرحهم في اليم، وقد تقدتم بيان الكلام في هذا.
(فانظر) يا محمد - ﷺ - (كيف كان عاقبة الظالمين)؟ حين صاروا إلى الهلاك
(وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) أي صيرناهم رؤساء متبوعين في الكافرين فكأنهم بإصرارهم على الكفر والتمادي فيه ودعائهم إلى الشرك يدعون اتباعهم إلى النار لأنهم اقتدوا بهم، وسلكوا طريقتهم تقليداً لهم، وفيه دليل على خلق أفعال العباد، وقيل: المعنى إنه يأتم بهم أي يعتبر بهم من جاء بعدهم، ويتعظ بما أصيبوا به، والأول أولى.
(ويوم القيامة لا ينصرون) أي لا ينصرهم أحد ولا يمنعهم مانع من عذاب الله.
(وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة) أي: طرداً وإبعاداً أو أمرنا العباد بلعنهم فكل من ذكرهم لعنهم، والأول أولى. وفي أبي السعود أي: لا تزال تلعنهم الملائكة؛ والمؤمنون خلفاً عن سلف.
122
(ويوم القيامة هم من المقبوحين) المبعدين، والمقبوح: المطرود المبعد وقال أبو عبيدة، وابن كيسان: معناه من المهلكين الممقوتين، وقال أبو زيد: قبح الله فلاناً قبحاً وقبوحاً أبعده من كل خير.
قال أبو عمرو: قبحت وجهه فالتخفيف بمعنى قبحت بالتشديد، وقيل: المقبوح: المشوه الخلقة أي فهم من الموسومين بعلامة منكرة كزرقة العيون وسواد الوجوه، والقبيح أيضاً عظيم الساعد، مما يلي النصف منه، إلى المرفق والعامل في يوم محذوف، يفسره (من المقبوحين) أي وقبحوا يوم القيامة وهو الأظهر، أو هو معطوف على موضع (في هذه الدنيا) أي: وأتبعناهم لعنة يوم القيامة، أو معطوف على (لعنة) على حذف مضاف أي: ولعنة يوم القيامة، والوجه الثاني أظهر.
123
(ولقد آتينا موسى الكتاب) أي التوراة (من بعد ما أهلكنا القرون الأولى) أي قوم نوح، وعاد، وثمود، وغيرهم. وقيل: من بعد ما أهلكنا فرعون وقومه، وخسفنا بقارون. والتعرض لكون إيتاء التوراة بعد إهلاك الأمم الماضية للإشعار بمسيس الحاجة الداعية إليها تمهيداً لما يعقبه من بيان الحاجة الداعية إلى إنزال القرآن على رسول الله.
فإن إهلاك القرون الأولى من موجبات اندراس معالم الشرائع، وانطماس آثارها وأحكامها المؤديين إلى اختلال نظام العالم المستدعيين للتشريع الجديد، بتقرير الأصول الباقية على ممر الدهور، وترتيب الفروع المتبدلة بتبدل العصور، وتذكير أحوال الأمم الخالية الموجبة، كأنه قيل: ولقد آتينا موسى التوراة على حين حاجة إليها.
أخرج البزار، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - ﷺ -: " ما أهلك الله قوماً؛ ولا قرناً، ولا أمة، ولا أهل قرية بعذاب من السماء منذ أنزل التوراة على وجه الأرض غير القرية التي مسخت قردة "، ألم تر إلى قوله (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما
123
أهلكنا القرون الأولى) وروي عنه موقوفاً.
(بصائر للناس) أي آتينا الكتاب لأجل أن يتبصر الناس به، أو حال كونه بصائر لهم يبصرون به الحق، و (البصائر) جمع بصيرة، وهي نور القلب، كما أن البصر نور العين (وهدى) يهتدون إليه، وينقذون أنفسهم به من الضلالة بالاهتداء به (ورحمة) من الله رحمهم بها (لعلهم يتذكرون) هذه النعم، فيشكرون الله ويؤمنون به؛ ويجيبون داعيه إلى ما فيه خير لهم ويتعظون بما فيه من المواعظ.
124
(وما كنت بجانب الغربي) هذا شروع في بيان أن إنزال القرآن واقع في بيان شدة الحاجة إليه أي وما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي، وهو المكان الواقع في شق الغرب، فيكون من باب حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه واختاره الزجاج، وقال الكلبي: بجانب الوادي الغربي، أي حيث ناجى موسى ربه.
(إذ قضينا إلى موسى الأمر) أي عهدنا إليه وكلمناه، وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون وقومه (وما كنت من الشاهدين) لذلك حتى تقف على حقيقته، وتحكيه من جهة نفسك وقيل: معنى إذ قضينا إلى موسى الأمر: إذ كلفناه وألزمناه، وقيل: أخبرناه أن أمة محمد - ﷺ - خير الأمم.
ولا يستلزم نفي كونه بجانب الغربي نفي كونه من الشاهدين لأنه يجوز أن يحضر ولا يشهد قيل: المراد بالشاهدين السبعون الذين اختارهم موسى للميقات وإذا تقرر أن الوقوف على تفاصيل تلك الأحوال لا يمكن أن يكون بالحضور عندها من نبينا محمد - ﷺ -، والمشاهدة لها منه، وانتفى بالأدلة الصحيحة أنه لم يتلق ذلك من غيره من البشر ولا علمه معلم منهم كما قدمنا تقريره تبين أنه من عند الله سبحانه بوحي منه إلى رسوله بواسطة الملك النازل بذلك، فهذا الكلام هو على طريقة (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم).
124
وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (٤٨)
125
(ولكنا أنشأنا قروناً) أي خلقنا أمماً بين زمانك يا محمد - ﷺ - وزمان موسى (فتطاول عليهم العمر) أي طالت عليهم المهلة، وتمادى عليهم الأمد، وفترت النبوة، وكانت الأخبار تخفى، فتغيرت الشرائع والأحكام، وتُنوسيَت الأديان، واندرست العلوم ووقع التحريف في كثير منها. فتركوا أمر الله ونسوا عهده.
فاقتضت الحكمة التشريع الجديد فجئنا بك رسولاً، وأوحينا إليك خبر موسى وغيره ليكون معجزة لك وتذكيراً لقومك ومثله قوله سبحانه (فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم) وقد استدل بهذا الكلام على أن الله سبحانه قد عهد إلى موسى عهوداً في محمد - ﷺ - وفي الإيمان به، فلما طال عليهم العمر، ومضت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود، وتركوا الوفاء بها.
(وما كنت ثاوياً في أهل مدين) أي مقيماً بينهم كما أقام موسى حتى تقرأ على أهل مكة خبرهم، وتقص عليهم من جهة نفسك يقال: ثوى يثوي ثواء وثوياً فهو ثاو، ومن المعلوم أن واقعة مدين كانت قبل واقعتي الطور، فمقتضى
125
الترتيب الوقوعي أن تقدم عليهما وإنما وسطت بينهما للتنبيه على أن كُلاًّ منهما برهان مستقل على أن إخباره - ﷺ - عن هذه القصص بطريق الوحي الألهي ولو روعي الترتيب الوقوعي لربما توهم أن الكل دليل واحد على ما ذكر.
(تتلو عليهم) أي: تقرأ على أهل مدين (آياتنا) وتتعلم منهم، وقيل: تذكرهم بالوعد والوعيد، وقيل: الضمير لأهل مكة، والمعنى عليه واضح، وأكثر المفسرين على الوجه الأول والجملة في محل نصب على الحال، أو خبر ثان، ويجوز أن تكون هذه الجملة هي الخبر وثاوياً حال، وجعلها الفراء مستأنفة، كأنه قيل: وها أنت تتلو على أمتك.
(ولكننا كنا مرسلين) أي: أرسلناك إلى أهل مكة، وأنزلنا عليك هذه الأخبار، ولولا ذلك ما علمتها. قال الزجاج: المعنى أنك لم تشاهد قصص الأنبياء، ولا تليت عليك، ولكننا أوحيناها إليك وقصصناها عليك.
126
(وما كنت) يا محمد (بجانب الطور) أي: بجانب الجبل المسمى بالطور (إذ نادينا) موسى لما أتى إلى الميقات مع السبعين أن خذ الكتاب بقوة وبين الإرسال وإيتاء التوراة نحو ثلاثين سنة، وقيل: المنادى هو أمة محمد - ﷺ -. قال وهب: وذلك أن موسى لما ذكر الله له فضل محمد - ﷺ - وأمته؛ قال: يا رب أرنيهم، فقال الله: إنك لن تدركهم، وإن شئت ناديتهم فأسمعتك صوتهم، قال: بلى يا رب أرنيهم فقال يا أمة محمد، فأجابوا من أصلاب آبائهم؛ فيكون معنى الآية على هذا: ما كنت يا محمد بجانب الطور إذ كلمنا موسى فنادينا أمتك، وسيأتي ما يدل على هذا ويقويه ويرجحه.
وعن أبي هريرة في الآية قال: نودوا: يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني، واستجبت لكم قبل أن تدعوني، وروي من وجه آخر عنه مرفوعاً.
وأخرج ابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل، وأبو نصر السجزي في الإبانة والديلمي عن عمرو بن عبسة قال: سألت النبي - ﷺ - عن قوله: وما
126
كنت بجانب الطور إذ نادينا، ما كان النداء؟ وما كانت الرحمة؟ قال: كتبه الله قبل أن يخلق خلقه بألفي عام، ثم وضعه على عرشه، ثم نادى: يا أمة محمد سبقت رحمتي على غضبي أعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني، فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبدي ورسولي صادقاً أدخلته الجنة.
وأخرج ابن مردويه، وأبو نعيم عن حذيفة في الآية قال: نودوا يا أمة محمد؛ ما دعوتمونا إذ استجبنا لكم، ولا سألتمونا إذ أعطيناكم.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً: " إن الله نادى يا أمة محمد أجيبوا ربكم، قال: فأجابوا، وهم في أصلاب آبائهم، وأرحام أمهاتهم؛ إلى يوم القيامة. فقالوا: لبيك أنت ربنا حقاً، ونحن عبيدك حقاً، قال: صدقتم أنا ربكم وأنتم عبيدي حقاً، قد عفوت عنكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني، فمن لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة ".
(ولكن رحمة من ربك) أي: ولكن فعلنا ذلك رحمة منا لكم، وقيل: ولكن أرسلنا بالقرآن رحمة لكم، وقيل: علمناك وقيل: عرفناك قال الأخفش: ولكن رحمناك رحمة، وقال الزجاج: أي فعلنا ذلك بك لأجل الرحمة. وقال الكسائي: ولكن كان ذلك رحمة، وقرئ رحمة بالرفع أي ولكن أنت رحمة.
(لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك) والقوم هم أهل مكة، فإنه لم يأتهم نذير ينذرهم قبله - ﷺ - في زمان الفترة، بينه وبين عيسى وهو خمسمائة وخمسون سنة أو بينه وبين إسماعيل بناء على أن دعوة موسى وعيسى كانت مختصة ببني إسرائيل (لعلهم يتذكرون) أي: يتعظون بإنذارك.
127
(ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم) (لولا) هذه هي الامتناعية وأن وما في حيزها في موضع رفع بالابتداء، أي ولولا إصابة المصيبة لهم، وجوابها محذوف، قال الزجاج: تقديره ما أرسلنا إليهم رسلاً، يعني
127
أن الحامل على إرسال الرسل إليهم هو إزاحة عللهم، فهو كقوله سبحانه (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) وقدره ابن عطية لعاجلناهم بالعقوبة ووافقه على هذا التقدير الواحدي، فقال: والمعنى لولا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة بكفرهم، قال السمين ولا معنى لهذا (فيقولوا) الفاء للسببية (ربنا لو أرسلت إلينا رسولاً) (لولا) هذه هي التحضيضية، أي: هلا أرسلت رسولاً من عندك وجوابها قوله (فنتبع آياتك) فلذلك نصب بإضمار أن.
أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - ﷺ - الهالك في الفترة يقول: رب لم يأتني كتاب ولا رسول ثم قرأ هذه الآية والمراد بالآيات: الآيات التنزيلية الظاهرة الواضحة. وإنما عطف القول على (تصيبهم) لكونه هو السبب للإرسال، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول، وكان وجوده بوجودها، جعلت العقوبة كأنها هي السبب للإرسال بواسطة القول، قاله في الكشاف، وأطال سليمان الجمل في بيان ذلك وذكر عبارة السمين، والشهاب، وغيرهما.
وقال أبو السعود: لولا قولهم هذا عند إصابة العقوبة لهم، بسبب جناياتهم، ما أرسلناك، ولكن لما كان قولهم ذلك محققاً لا محيد عنه، أرسلناك قطعاً لمعاذيرهم بالكلية (ونكون من المؤمنين) بهذه الآيات، ومعنى الآية أنا لو عذبناهم لقالوا طال العهد بالرسل، ولم يرسل الله إلينا رسولاً ويظنون أن ذلك عذر لهم، ولا عذر لهم بعد أن بلغتهم أخبار الرسل، ولكنا أكملنا الحجة وأزحنا العلة، وأتممنا البيان بإرسالك يا محمد إليهم.
128
(فلما جاءهم الحق من عندنا) أي: فلما جاء أهل مكة الحق من عند
128
الله، وهو محمد - ﷺ - وما أنزل عليه من القرآن:
(قالوا) تعنتاً منهم وجدالاً بالباطل. (ولولا) هلا (أوتي) هذا الرسول (مثل ما أوتي موسى) من الآيات كاليد، والعصا، وغيرهما، أو التوراة المنزلة عليه جملة واحدة، فأجاب الله عليهم بقوله:
(أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل) أي من قبل هذا القول، أو من قبل ظهور محمد - ﷺ -، والمعنى أنهم قد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمد حيث (قالوا ساحران تظاهرا) مستأنفة مسوقة لتقرير كفرهم وعنادهم والمراد بهما موسى ومحمد - ﷺ -، والتظاهر التعاون، أي تعاوناً على السحر.
والضمير في (أولم يكفروا) لكفار قريش، وقيل: هو لليهود، والأول أولى، فإن اليهود لا يصفون موسى بالسحر إنما يصفه بذلك كفار قريش وأمثالهم، إلا أن يراد من أنكر نبوة موسى، كفرعون وقومه فإنهم وصفوا موسى وهارون بالسحر؛ ولكنهم ليسوا من اليهود، ويمكن أن يكون الضمير لمن كفر بموسى ومن كفر بمحمد - ﷺ -، فإن الذين كفروا بموسى وصفوه بالسحر والذين كفروا بمحمد - ﷺ - وصفوه أيضًا بالسحر، وقيل المعنى: أولم يكفر اليهود في عصر محمد - ﷺ - بما أوتي موسى من قبله بالبشارة بعيسى ومحمد، قرأ الجمهور: ساحران، وقرأ الكوفيون سحران، يعنون التوراة والقرآن وقيل:
الإنجيل والقرآن، قال بالأول: الفراء، وقال بالثاني: أبو زيد، وقيل: إن
الضمير في (أولم يكفروا) لليهود وأنهم عنوا بقولهم ساحران: عيسى ومحمداً عليهما الصلاة والسلام، وقال ابن عباس في الآية هم أهل الكتاب.
(وقالوا إنا بكل كافرون) يعني بكل من موسى ومحمد أو من موسى وهارون؛ أو من موسى وعيسى، أو من عيسى ومحمد، أو بكل من التوراة والإنجيل والفرقان على اختلاف الأقوال، وفي هذه الجملة تقرير لما تقدمها من وصف النبيين بالسحر، أو من وصف الكتابين به، وتأكيد لذلك.
129
قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤)
ثم أمر الله سبحانه نبيه أن يقول لهم قولاً يظهر به عجزهم فقال:
130
(قل) لهم يا محمد إذا لم تؤمنوا بهذين الكتابين وقلتم فيهما ما قلتم: (فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما) أي: من التوراة والقرآن وأوضح وأبين وهداية الخلق (أتبعه) جواب الأمر، وقد جزمه جمهور القراء لذلك. وقرئ بالرفع على الاستئناف. أي: فإن أتيتم به فأنا أتبعه وقال الفراء: إنه على هذه القراءة صفة الكتاب.
وفي هذا الكلام تهكم بهم وفيه أيضاً دليل على أن قراءة الكوفيين أقوى من قراءة الجمهور، لأنه رجع الكلام إلى الكتابين لا إلى الرسولين (إن كنتم صادقين) فيما وصفتم به الرسولين أو الكتابين.
(فإن لم يستجيبوا لك) أي: لم يفعلوا ما كلفوا به من الإتيان بكتاب هو أهدى من الكتابين، وهذا كقوله فإن لم تفعلوا، وقيل: المعنى فإن لم يستجيبوا لك بالإيمان بما جئت به، وتعدية يستجيبوا باللام هو أحد الجائزين، وجواب الشرط (فاعلم أنما يتبعون أهواءهم) أي: آراءهم الزائغة، واستحساناتهم الزائفة، بلا حجة ولا برهان، و (أنما) أداة حصر أي
130
أنهم ليس لهم مستند في ذلك، ومتمسك يتمسكون به، وإنما لهم محض هواهم الفاسد.
(ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى)؟ الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، أي: لا أحد أضل منه، بل هو الفرد الكامل في الضلال.
(إن الله لا يهدي القوم الظالمين) لأنفسهم بالكفر وتكذيب الأنبياء والإعراض عن آيات الله.
131
(ولقد وصلنا لهم القول) قرئ بتشديد الصاد، وتخفيفها، ومعنى الآية أتبعنا بعضه بعضاً في الإنزال ليتصل التذكير، أو في النظم لتتقرر الدعوة بالحجة، والمواعظ بالمواعيد، والنصائح بالعبر، وبعثنا رسولاً بعد رسول، وقال أبو عبيدة، والأخفش: معناه أتممنا. وقال ابن عيينة والسدي: بينا وقال ابن زيد: وصلنا لهم خير الدنيا بخير الآخرة، حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا والأول أولى، وهو مأخوذ من وصل الحبال بعضها ببعض. وقال مجاهد: جعلناه أوصالاً، أي: أنواعاً من المعاني والضمير في (لهم) عائد إلى قريش، وقيل: إلى اليهود، وقيل: للجميع (لعلهم يتذكرون) فيكون التذكر سبباً لإيمانهم، مخافة أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم.
(الذين آتيناهم الكتاب من قبله) أي: من قبل القرآن، وقيل: من قبل محمد رسول الله - ﷺ -.
(هم به) أي: بالقرآن، أو بمحمد - ﷺ - (يؤمنون) أخبر سبحانه أن طائفة من بني إسرائيل آمنوا بالقرآن، كعبد الله بن سلام، وسائر من أسلم من أهل الكتاب، قيل: نزلت في ثمانين، أربعون، من نجران، واثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية من الشام، وقال ابن عباس يعني من آمن بمحمد - ﷺ - من أهل الكتاب، والأول أولى.
(وإذا يتلى) أي: القرآن: (عليهم قالوا آمنا به) أي: صدقنا به (إنه الحق) الذي نعرفه المنزل (من ربنا) استئناف لبيان ما أوجب إيمانهم به.
(إنا كنا من قبله مسلمين) أي مخلصين لله بالتوحيد، أو مؤمنين بمحمد - ﷺ - وبما جاء به لما نعلمه من ذكره في التوراة والإنجيل من التبشير به، وأنه سيبعث آخر الزمان وينزل عليه القرآن.
(أولئك) أي: الموصوفون بتلك الصفات (يؤتون أجرهم مرتين)
بإيمانهم بالكتابين منصوب على المصدر.
قال ابن عباس: نزلت في عشرة رهط، أنا أحدهم. أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - ﷺ -: " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، رجل من أهل الكتاب آمن بالكتاب الأول والآخر ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها، وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده ".
(بما صبروا) أي: بسبب صبرهم وثباتهم على الإيمان بالكتاب الأول والكتاب الآخر. وبالنبي الأول والنبي الآخر، أو بالعمل بهما أو على الإيمان بالقرآن قبل النزول وبعده أو بصبرهم على أذى المشركين، وأهل الكتاب، ومن عاداهم من أهل دينهم.
(ويدرأون بالحسنة السيئة) الدرء الدفع أي: يدفعون بالاحتمال، والكلام الحسن، ما يلاقونه من الأذى، وقيل يدفعون بالطاعة، المعصية، وقيل: بالتوبة والاستغفار، الذنوب، وقيل: بالحلم، الأذى، وقيل بشهادة أن لا إله إلا الله، الشرك.
(ومما رزقناهم ينفقون) أي: ينفقون أموالهم في الطاعات، وفيما أمر به الشرع، ثم مدحهم سبحانه بإعراضهم عن اللغو فقال:
132
وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (٥٥) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (٥٨)
133
(وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) تكرماً وتنزهاً؛ وتأدباً بآداب الشرع ومثله قوله سبحان (وإذا مروا باللغو مروا كراماً)، واللغو هنا هو ما يسمعونه من المشركين من الشتم لهم ولدينهم، والاستهزاء بهم.
(وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم) لا يلحقنا من ضرر كفركم شيء ولا يلحقكم من نفع إيماننا شيء.
(سلام عليكم) ليس المراد بهذا السلام سلام التحية، ولكن المراد به سلام المتاركة والإعراض والفراق، ومعناه أمنة لكم منا، وسلامة، لا نجاوبكم ولا نجاريكم فيما أنتم فيه، ولا نقابل لغوكم بمثله. قال الزجاج: وهذا قبل الأمر بالقتال.
(لا نبتغي الجاهلين) أي: لا نطلب صحبتهم ومخالطتهم وقال مقاتل: لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه، وقال الكلبي: لا نحب دينكم الذي أنتم عليه.
(إنك لا تهدي من أحببت) هدايته من الناس، وليس ذلك إليك (ولكن الله يهدي من يشاء) هدايته (وهو أعلم) أي عالم (بالمهتدين) أي: القابلين للهداية المستعدين لها.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث المسيب ومسلم وغيره من حديث أبي هريرة " أن هذه الآية نزلت في أبي طالب لما امتنع من الإسلام "، وقد تقدم ذلك في براءة قال الزجاج: أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي طالب.
وقد تقرر في الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فيدخل في ذلك أبو طالب دخولاً أولياً، والآية حجة على المعتزلة لأنهم يقولون: الهدى هو البيان، وقد هدى الناس أجمع ولكنهم لم يهتدوا بسوء اختيارهم فدل أن وراء البيان ما يسمى هداية وهو خلق الاهتداء وإعطاء التوفيق والقدرة.
(وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) أي: قال مشركو قريش، ومن تابعهم إن ندخل في دينك، ونعمل به يا محمد يتخطفنا العرب من مكة، وننتزع منها بسرعة ولا طاقة لنا بهما، وهذا من جملة أعذارهم الباطلة وتعللاتهم العاطلة، والتخطف في الأصل هو الانتزاع بسرعة، وقرئ نتخطف بالجزم على جواب الأمر، وبالرفع على الاستئناف، ثم رد الله ذلك عليهم رداً مصدراً باستفهام التوبيخ والتقريع، وألقمهم الحجر فقال:
(أولم نمكن لهم حرماً آمناً)؟ أي ألم نجعل لهم حرماً ذا أمن؟ أو مؤمناً يؤمن من دخله؟ قال أبو البقاء: عداه بنفسه لأنه بمعنى جعل، كما صرح بذلك في قوله " أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً " ومكن متعد بنفسه من غير أن يضمن معنى جعل، كقوله: مكناهم فيما إن مكناكم فيه؛ وإسناد الأمن إلى
134
أهل الحرم حقيقة، وإلى الحرم مجاز عقلي، ومن المعروف أنه كان تأمن فيه الظباء من الذئاب، والحمام من الحدأة، ثم وصف هذا الحرم بصفة أخرى، دافعة لما عسى يتوهم من تضررهم بانقطاع الميرة بقوله:
(يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي: تجمع إليه الثمرات على اختلاف أنواعها من الأراضي المختلفة، وتحمل إليه من الشام، ومصر، والعراق، واليمن وتساق إليه، فمعنى الكلية الكثرة على سبيل المجاز، كقوله: وأوتيت من كل شيء، قرئ يجبى بالتحتية اعتبارا بتذكير كل شيء، ووجود الحائل بين الفعل وبين (ثمرات) وأيضاً ليس تأنيث ثمرات بحقيقي. وبالفوقية اعتباراً بثمرات وقرئ ثمرات بفتحتين وبضمتين؛ جمع ثمر بضمتين. وقرئ بفتح الثاء وسكون الميم.
(رزقاً من لدنا) أي: نسوقه إليهم رزقاً من عندنا أو رازقين (ولكن أكثرهم لا يعلمون) أن ما نقوله حق لفرط جهلهم، ومزيد غفلتهم، وعدم تفكرهم في أمر معادهم، ورشادهم، لكونهم ممن طبع الله على قلبه، وجعل على بصره غشاوة.
135
(وكم أهلكنا من قرية) أي: أهل قرية كانوا في خفض عيش ودعة ورخاء، رد لقولهم: إن نتبع الهدى معك نتخطف الخ بيَّن الله بهذا أن الأمر بالعكس، وأنهم أحقاء بأن يخافوا بأس الله ولا يغتروا بالأمن الحاصل لهم فكثير من أهل القرى كان حالهم كحال هؤلاء في الأمن والخصب.
ثم (بطرت) أي: طغت وتمردت وخسرت وأشرت (معيشتها) أي في زمن حياتها، وقال الكرخي: كفرت نعمة معيشتها، أي أيام حياتها وهي ما
135
يعاش به من النبات والحيوان وغيرهما، يعني وقع منهم البطر فأهلكوا قال الزجاج البطر الطغيان عند النعمة.
وفي القاموس: البطر محركاً النشاط والأشر وقلة احتمال النعمة، والدهش والحيرة والطغيان بالنعمة، وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهة، وفعل الكل كفرح، وبطر الحق أي: تكبر عنده فلا يقبله.
قال عطاء: عاشوا في البطر؛ فأكلوا رزق الله، وعبدوا الأصنام. وقال الزجاج والمازني: معناها بطرت في معيشتها فلما حذفت (في) تعدى الفعل كقوله واختار موسى قومه، وقال الفراء: هو منصوب على التفسير كما تقول بطرك مالك، وبطرته، ونظيره قوله تعالى؛ إلا من سفه نفسه، ونصب المعارف على التمييز غير جائز عند البصريين، لأن معنى التفسير أن تكون النكرة دالة على الجنس. وقيل إن معيشتها منصوبة ببطرت على تضمينه معنى جهلت
(فتلك مساكنهم) أي منازلهم باقية الآثار يشاهدونها في الأسفار، كبلاد ثمود، وقوم شعيب وغيرهم، قد خربت بما ظلموا.
(لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً) أي: لم يسكنها أحد بعدهم إلا زمناً قليلاً كالذي يمر بها مسافراً فإنه يلبث فيها يوماً أو بعض يوم أو المعنى: لم يبق من يسكن فيها إلا أياماً قليلة لشؤم ما وقع فيها من معاصيهم، وقيل: إن الاستثناء يرجع إلى المساكن أي لم تسكن بعد هلاك أهلها إلا قليلة من المساكن وأكثرها خراب، كذا قال الفراء، وهو قول ضعيف
(وكنا نحن الوارثين) لها منهم لأنهم لم يتركوا وارثا يرث منازلهم وأموالهم، ولم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم في ديارهم وغيرها
136
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (٥٩) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢)
137
(وما كان ربك) بيان للعادة الربانية أي: ما صح، ولا استقام، وما كان، وما ثبت في حكمه الماضي، وقضائه السابق أن يكون (مهلك القرى) الكافر أهلها قبل الإنذار (حتى يبعث) ويرسل (في أمها) أي أكبرها وأعظمها (رسولاً) ينذرهم.
و (يتلو عليهم آياتنا) أي تالياً عليهم آيات الله الدالة الناطقة بما أوجبه الله عليهم، وما أعده من الثواب للمطيع، والعقاب للعاصي، ومخبراً أن العذاب سينزل بهم إذا لم يؤمنوا، وخص الأعظم منها بالبعثة إليها لأن فيها أشراف القوم وأهل الفهم والرأي، وفيها الملوك والأكابر فصارت بهذا الاعتبار كالأم لما حولها من القرى وقال الحسن: أم القرى أولها، وقيل: المراد بأم القرى هنا مكة كما في قوله: (إن أول بيت وضع للناس) الآية، والالتفات إلى نون العظمة لتربية المهابة والروعة، وقد تقدم بيان ما تضمنته هذه الآية في آخر سورة يوسف.
(وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون) معطوفة على الجملة التي قبلها والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي: وما كنا مهلكين لأهل القرى بعد أن نبعث إلى أمها رسولاً يدعوهم إلى الحق في حال من الأحوال إلا حال كونهم ظالمين قد استحقوا الإهلاك لإصرارهم على الكفر، بعد الإعذار إليهم،
137
وتأكيد الحجة عليهم، كقوله سبحانه (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون).
138
(وما أوتيتم) يا كفار مكة (من شيء) من الأشياء (فمتاع) أي فهو متاع (الحياة الدنيا) تتمتعون به مدة حياتكم، أو بعض حياتكم ثم تزولون عنه، أو يزول عنكم (وزينتها) تتزينون به أيام عيشكم، ثم يفنى وعلى كل حال فذلك إلى فناء وانقضاء.
(وما عند الله) من ثوابه وجزائه (خير) من ذلك الزائل الفاني لأنه لذة خالصة عن شوب الكدر (وأبقى) لأنه يدوم أبداً، وذلك ينقضي بسرعة.
(أفلا تعقلون) أن الباقي أفضل من الفاني وما فيه لذة خالصة غير مشوبة أفضل من اللذات المشوبة بالكدر، المنغصة بعوارض البدن والقلب قيل من لم يرجح الآخرة على الدنيا فليس بعاقل، قال الشافعي رحمه الله: من وصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف إلى المشتغلين بطاعة الله، وقرئ؛ يعقلون بالياء، والتاء على الخطاب وهي أرجح لقوله وما أوتيتم.
وأخرج مسلم والبيهقي عن أبي هريرة أن رسول الله - ﷺ - قال: " يقول الله عز وجل يا ابن آدم مرضت فلم تعدني الحديث بطوله ".
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن عبد بن عبيد بن عمير قال: يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا، وأعطش ما كانوا، وأعرى ما كانوا فمن أطعم لله عز وجل أطعمه الله ومن كسا لله عز وجل كساه الله، ومن سقى لله عز وجل سقاه الله ومن كان في رضاء الله كان الله في رضاه.
(أفمن وعدناه وعداً حسناً) بالجنة وما فيها (من النعم) التي لا تحصى (فهو لاقيه) أي مدركه ومصيبه لا محالة، فإن الله لا يخلف الميعاد ولذلك جيء بالإسمية المفيدة لتحققه، وعطف بفاء السببية، والفاء الأول لترتيب
138
إنكار التساوي بين أهل الدنيا وأهل الآخرة على ما قبلها من ظهور التفاوت بين متاعها وبين ما عند الله عز وجل.
(كمن متعناه متاع الحياة الدنيا)؟ المشوب بالأكدار المستتبع للتحسر على الانقطاع، فأعطي منه بعض ما أراد مع سرعة زواله. وتنغيصه عن قريب.
(ثم هو يوم القيامة من المحضرين) هذا معطوف على قوله: متعناه داخل معه في حيز الصلة مؤكد لإنكار التشابه ومقرر له، والمعنى ثم هذا الذي متعناه هو يوم القيامة من المحضرين النار، وتخصيص المحضرين بالذين أحضروا العذاب اقتضاه المقام. وفيه من التهويل ما لا يخفى أي ليس حالهما سواء فإن الموعود بالجنة لا بد أن يظفر بما وعد به مع أنه لا يفوته نصيبه من الدنيا، وهذا حال المؤمن.
وأما حال الكافر فإنه لم يكن معه إلا مجرد التمتع بشيء من الدنيا، يستوي فيه هو والمؤمن، وينال كل واحد منهما حظه منه؛ وهو صائر إلى النار، فهل يستويان؟
و (ثم) للتراخي في الزمان أو في الرتبة قيل: نزلت في رسول الله - ﷺ - وأبي جهل، أو في علي وحمزة وأبي جهل؛ أو في المؤمن والكافر، أو في عمار ابن ياسر والوليد بن المغيرة.
139
(ويوم يناديهم) أي اذكر يوم ينادي الله سبحانه هؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله والقصد من هذا النداء توبيخهم وتقريعهم، بأن معبوداتهم لم تنفعهم في هذا الوقت (فيقول) لهم (أين شركائي الذين) عبدتموهم من دوني، وأثبَتُّم لهم شركة في استحقاق العبادة و (كنتم تزعمون) أنهم ينصرونكم ويشفعون لكم.
139
قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (٦٦)
140
(قال الذين حق عليهم القول) أي حقت عليهم كلمة العذاب، بدخول النار وهم رؤساء الضلال، الذين اتخذوهم أرباباً من دون الله كذا قال الكلبي وقال قتادة: هم الشياطين.
(ربنا هؤلاء الذين أغوينا) أي: دعوناهم إلى الغواية، يعنون الأتباع في الكفر (أغويناهنم كما غوينا) أي: أضللناهم كما ضللنا، وآثروا الكفر على الإيمان، كما آثرنا نحن، وكنا السبب في كفرهم، فقبلوا منا، فلا فرق إذاً بين غينا وغيهم، وإن كان تسويلنا لهم داعياً إلى الكفر، فقد كان في مقابلته دعاء الله تعالى لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل، وما بعث إليهم من الرسل، وأنزل عليهم من الكتب المشحونة بالوعد والوعيد، والمواعظ والزواجر، وناهيك بذلك صارفاً عن الكفر، وداعياً إلى الإيمان.
(تبرأنا إليك) ممن أطاعنا؛ وهذا مقرر لما قبله، ولذلك لم يعطف، قال الزجاج: برئ بعضهم من بعض وصاروا أعداء، كما قال تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ). (ما كانوا إيانا يعبدون) إنما كانوا يعبدون أهواءهم. قيل: ما مصدرية،
140
أي تبرأنا إليك من عبادتهم إيانا والأول أولى.
141
(وقيل) للكفار من بني آدم تهكماً بهم وتبكيتاً لهم (ادعوا شركاءكم) أي: استغيثوا بآلهتكم التي كنتم تعبدونهم من دون الله في الدنيا لينصروكم ويدفعوا عنكم (فدعوهم) عند ذلك (فلم يستجيبوا لهم) ولا نفعوهم بوجه من وجوه النفع.
(ورأوا) أي التابع والمتبوع (العذاب) قد غشيهم (لو أنهم كانوا يهتدون) قال الزجاج جواب لو محذوف أي لأنجاهم ذلك ولم يروا العذاب، وقيل: المعنى دعوهم، وقيل: لو كانوا يهتدون في الدنيا لعلموا أن العذاب حق، وقيل: لو يهتدون بوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب، وقيل: قد آن لهم أن يهتدوا، لو كانوا يهتدون، وقيل: غير ذلك.
(ويوم يناديهم) عطف على ما قبله فسئلوا أولاً عن إشراكهم، وثانياً عن جوابهم للرسل الذين نهوهم عن ذلك كما قال: (فيقول ماذا أجبتم المرسلين) أي ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين لما بلغوا رسالاتي.
(فعميت عليهم الأنباء يومئذ) أي خفيت عليهم الحجج حتى صاروا كالعمي الذين لا يهتدون، والأصل فعموا عن الأنباء، ولكنه عكس الكلام للمبالغة والأنباء الأخبار وأنما سمى حججهم أخباراً لأنها لم تكن من الحجة في شيء وإنما هي أقاصيص وحكايات وقرئ: عميت بضم العين وتشديد الميم.
(فهم لا يتساءلون) أي لا يسأل بعضهم بعضاً عن الجواب النافع وذلك لفرط الدهشة أو لعلمهم بأن الكل سواء في الجهل، وقيل: لا يسأل بعضهم بعضاً عن الأنساب، قاله مجاهد: ولا ينطقون بحجة، ولا يدرون بما ْيجيبون لأن الله قد أعذر إليهم في الدنيا فلا يكون لهم عذر ولا حجة يوم القيامة.
141
فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (٧١)
142
(فأما من تاب) من الشرك (وآمن) وصدق بتوحيد الله (وعمل صالحاً) أي أدى الفرائض (فعسى أن يكون من المفلحين) أي الناجين بوعد الله الفائزين بمطالبهم من سعادة الدارين، وعسى وإن كانت في الأصل للرجاء فهي من الله واجب على ما هو عادة الكرام، وقيل: إن الترجي هو من قبل التائب المذكور لا من جهة الله سبحانه، أي فليتوقع الفلاح.
(وربك يخلق ما يشاء) أن يخلقه، وفيه دلالة على خلق الأفعال (ويختار) ما يشاء أن يختار، لا يسأل عما يفعل؛ وهم يسألون؛ وهذا متصل بذكر الشركاء الذين عبدوهم واختاروهم، أي: الاختيار إلى الله.
(ما كان لهم الخيرة) أي التخير، وهو كالطيرة فإنها التطير؛ اسمان يستعملان استعمال المصدر وبمعنى المتخير كقولهم: محمد خيرة الله من خلقه. وقيل: المراد من الآية أنه ليس لأحد من خلق الله أن يختار شيئاً اختياراً حقيقياً بحيث يقدم على تنفيذه بدون اختيار الله، بل الاختيار هو إلى الله عز وجل،. يختار لطاعته أو لنبوته، أو المعنى يخلق محمداً ويختار الأنصار لدينه، وقيل: اختار من النعم ضأناً، ومن الطير الحمام، ولا وجه للتخصيص. والعموم أولى.
142
وظاهر الآية نفي الاختيار عنهم رأساً، والأمر كذلك، فإن اختيار العباد مخلوق باختيار الله، منوط بدواع لا اختيار لهم فيها، وقيل: إن هذه الآية جواب عن قولهم: (لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) وقيل: جواب عن اليهود حيث قالوا: لو كان الرسول إلى محمد - ﷺ - غير جبريل لآمنا به.
قال الزجاج: الوقف على (ويختار) تام على أن (ما) نافية قال: ويجوز أن يكون (ما) في موضع نصب بـ (يختار) والمعنى ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة، والصحيح الأول لإجماعهم على الوقف، وقال ابن جرير: إن تقدير الآية ويختار لولايته الخيرة من خلقه. وهذا في غاية من الضعف، وجوز ابن عطية أن تكون (كان) تامة ويكون (لهم الخيرة) جملة مستأنفة. وهذا أيضاً بعيد جداً، ومن قال معناه ويختار للعباد ما هو خير لهم وأصلح، فهو مائل إلى الاعتزال، وقيل: إن (ما) مصدرية، أي يختار اختيارهم، والمصدر واقع موقع المفعول به، أي ويختار مختارهم، وهذا كالتفسير لكلام ابن جرير والراجح أول هذه التفاسير، ومثله قوله سبحانه: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة) وقد ثبت عنه - ﷺ - في الصحيح تعليم الاستخارة، وكيفية صلاتها ودعائها، فلا نطول بذكرها، ثم نزه سبحانه نفسه فقال:
(سبحان الله) أي تنزه تنزهاً خاصاً به، من غير أن ينازعه منازع، أو يشاركه مشارك، أو يزاحم اختياره (وتعالى كما يشركون) أي عن الذين يجعلونهم شركاء له
143
(وربك يعلم ما تكن صدورهم) أي تخفيه قلوبهم وتسره من الشرك، أو من عداوة رسول الله - ﷺ - وحسده، أو من جميع ما يخفونه مما يخالف الحق (وما يعلنون) بألسنتهم من ذلك ويظهرونه، ثم تمدح نفسه سبحانه بالوحدانية، والتفرد بالاستحقاق للحمد، فقال:
(وهو الله) أي هو المستأثر بالإلهية المختص بها، وقوله (لا إله إلا
143
هو) تقرير لذلك (له الحمد في الأولى) أي في الدنيا (والآخرة) لأنه المولى للنعم كلها عاجلها وآجلها، يحمده المؤمنون في الآخرة، كما حمدوه في الدنيا والتحميد سمة على وجه اللذة لا على المكلفة، وهو قولهم: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، الحمد لله الذي صدقنا وعده، وقيل الحمد لله رب العالمين.
(وله الحكم) أي القضاء النافذ في كل شيء، فيقضي بين عباده بما شاء من غير مشارك (وإليه) لا إلى غيره (ترجعون) بالبعث والنشور، والخروج من القبور فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
144
(قل) لأهل مكة (أرأيتم)؟ أي أخبروني (إن جعل الله عليكم الليل سرمداً بإسكان الشمس تحت الأرض، أو بتحريكها حول الأفق الغائر، والسرمد هو الدائم المستمر، من السرد، وهو المتابعة والاطراد، فالميم زائدة كما في دلامص من الدلاص، ووزنه فعمل، وقيل: إن ميمه (١) أصلية، ووزنه فعلل لا فعمل، وهو الظاهر، بين لهم سبحانه أنه مهد لهم أسباب المعيشة ليقوموا بشكر النعمة، فإنه لو كان الدهر الذي يعيشون فيه ليلاً دائماً لا نهار معه (إلى يوم القيامة) لم يتمكنوا من الحركة فيه، وطلب ما لا بد لهم منه مما يقوم به العيش من المطاعم، والمشارب، والملابس، ثم امتن عليهم فقال:
(من إله غير الله يأتيكم)؟ أي هل لكم من إله بزعمكم من الآلهة التي تعبدونها يقدر على أن يرفع هذه الظلمة الدائمة عنكم (بضياء) أي بنور تطلبون فيه المعيشة، وتبصرون فيه ما تحتاجون إليه وتصلح ثماركم، وتنمو عنده زرائعكم، وتعيش فيه دوابكم والجملة صفة أخرى لـ (إله) عليها يدور التبكيت والإلزام (أفلا تسمعون)؟ هذا الكلام سماع فهم، وقبول، وتدبر وتفكر، وهذا توبيخ لهم على أبلغ وجه، ثم لما فرغ الله من الامتنان عليهم بوجود النهار؛ امتن عليهم بوجود الليل فقال:
_________
(١) إذا كانت ميمه أصلية فيكون فعله الماضي على وزن مصدره سرمد يسرمد سرمداً.
144
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥)
145
(قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً)؟ أي: جعل جميع الدهر الذي تعيشون فيه نهاراً (إلى يوم القيامة) لا ليل معه بإسكان الشمس في وسط السماء، أو تحريكها على مدار فوق الأفق.
(من إله غير الله)؟ بزعمكم (يأتيكم بليل تسكنون) أي تستقرون (فيه) من النصب والتعب. وتستريحون مما تزاولون من طلب المعاش والكبت.
(أفلا تبصرون)؟ هذه المنفعة العظيمة إبصار متعظ متيقظ، حتى تنزجروا عما أنتم فيه من عبادة غير الله، فإذا أقروا بأنه لا يقدر على ذلك إلا الله عز وجل، فقد لزمتهم الحجة، وبطل ما يتمسكون به من الشبهة الساقطة، وإنما قرن سبحانه بالضياء قوله أفلا تسمعون؟ لأن السمع يدرك ما لا يدرك البصر، ومن درك منافعه ووصف فوائده، وقرن بالليل قوله أفلا تبصرون، لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام، ما تبصره أنت من السكون، ونحوه، البصر يدرك ما لا يدرك السمع من ذلك.
(ومن رحمته) تعالى (جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه) أي في
145
الليل (ولتبتغوا من فضله) أي في النهار بالسعي في المكاسب وفيه مدح للسعي في طلب الرزق، وهو لا ينافي التوكل (ولعلكم تشكرون) أي ولكي تشكروا نعمة الله عليكم، وهذه الآية من باب اللف والنشر، واعلم أنه وإن كان السكون في النهار ممكناً، وطلب الرزق في الليل ممكناً، وذلك عند طلوع القمر على الأرض، أو عند الاستضاءة بشيء مما له نور كالسراج، لكن ذلك قليل نادر، مخالف لما يألفه العباد فلا اعتبار به.
146
(ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون) كرر سبحانه هذا لاختلاف الحالتين، لأنهم ينادون مرة فيدعون الأصنام، وينادون أخرى فيسكتون وفي هذا التكرار أيضاً تقريع بعد تقريع وتوبيخ بعد توبيخ وإيذان بأنه لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده، أو الأول لتقرير فساد رأيهم، والثاني لبيان أنه لم يكن عن مستند وإنما هو محض تشبه وهوى.
(ونزعنا) جاء بصيغة الماضي للدلالة على التحقيق أي أخرجنا (من كل أمة) من الأمم. (شهيداً) يشهد عليهم بما قالوا، قال مجاهد: هم الأنبياء وقيل: عدول كل أمة، والأول أولى، ومثله قوله سبحانه: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ثم بين سبحانه ما يقوله لكل أمة من هذه الأمم بقوله:
(فقلنا) لهم: (هاتوا برهانكم) أي حجتكم ودليلكم بأن معي شركاء: فعند ذلك اعترفوا وخرسوا عن إقامة البرهان ولذا قال:
(فعلموا أن الحق لله) في الإلهية وأنه وحده لا شريك له (وضل عنهم ما كانوا يفترون) أي غاب عنهم غيبة الشيء الضائع، وبطل، وذهب ما كانوا يختلقون من الكذب في الدنيا بأن لله شركاء يستحقون العبادة، ثم عقب سبحانه حديث أهل الضلال بقصة قارون، لما اشتملت عليه من بديع القدرة، وعجيب الصنع فقال:
146
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧)
147
(إن قارون كان من قوم موسى) قارون على وزن فاعول اسم أعجمي، ممتنع للعجمة والعلمية. وليس بعربي مشتق من قرنت، قال الزجاج: لو كان قارون من قرنت الشيء لانصرف، قال النخعي وقتادة وغيرهما: كان ابن عم موسى، وهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي ابن يعقوب، وموسى هو ابن عمران بن قاهث. وقال ابن إسحاق: كان عم موسى لأب وأم، فجعله أخاً لعمران، وهما ابنا قاهث. وقيل: هو ابن خالة موسى، وكان يسمى: المنور، لحسن صورته، وكان من السبعين الذين اختارهم موسى للمناجاة فسمع كلام الله، قاله الرازي، ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة منه، فنافق كما نافق السامري، وخرج عن طاعة موسى وهو معنى قوله:
(فبغى) أي جاوز الحد في التجبر والتكبر، وطلب التفضل (عليهم) وأن يكونوا تحت أمره وحسد موسى على رسالته، وهارون على إمامته. وكفر بالله بعد ما آمن بهما، بسبب كثرة ماله، قال الضحاك: بغيه على بني إسرائيل: استخفافه بهم لكثرة ماله وولده، وقال قتادة: بغيه بنسبة ما آتاه الله من المال إلى نفسه لعلمه وحيلته. وقيل: كان عاملاً لفرعون على بني إسرائيل فتعدى عليهم وظلمهم. وقيل: كان بغيه بغير ذلك مما لا يناسب معنى الآية.
147
(وآتيناه من الكنوز) جمع كنز وهو المال المدخر، سميت أمواله كنوزاً لأنه كان ممتنعاً من أداء الزكاة. قال عطاء: أصاب كنزاً من كنوز يوسف، وقيل: كان يعمل الكيمياء.
(ما إن مفاتحه) (ما) موصولة صلتها (إن) وما في حيزها، ولهذا كسرت، ونقل الأخفش الصغير عن الكوفيين منع جعل الكسورة وما في حيزها صلة الذي، واستقبح ذلك منهم لوروده في الكتاب العزيز في هذا الموضع، والمفاتح جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به، وقيل: المراد بالمفاتح الخزائن، فيكون وأحدها مفتحاً بفتح الميم. وقال الواحدي: إن المفاتح الخزائن في قول أكثر المفسرين كقوله: وعنده مفاتح الغيب، قال: هو اختيار الزجاج قال: الأشبه في التفسير أن مفاتحه خزائن ماله، وقال آخرون: هي جمع مفتاح، وهو ما يفتح به الباب، فهذا قول قتادة ومجاهد.
وعن خيثمة قال: كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود الإبل كل مفتاح مثل الأصبع، كل مفتاح على خزانة على حدة، فإذا ركب حملت المفاتيح على سبعين بغلاً أغر محجل، وعنه قال: وجدت في الإنجيل أن بغال مفاتيح خزائن قارون غر محجلة ما يزيد كل مفتاح منها على أصبع لكل مفتاح كنز. قال الشوكاني: لم أجد في الإنجيل هذا الذي ذكره خيثمة.
(لتنوء بالعصبة أولي القوة) أي لتثقل بالجماعة الأقوياء يقال نأى (١) بحمله إذا نهض به مثقلاً، ويقال نأى بي الحمل أي أثقلني، والمعنى يثقلهم حمل المفاتيح، فلا يستطيعون حملها. وقال الرازي: فلا يستطيعون ضبطها لكثرتها انتهى. قال أبو عبيدة: هذا من المقلوب، والمعنى: لتنوء بها العصبة، أي تنهض بها، قال أبو زيد: نأوت بالحمل إذا نهضت به، وقال الفراء معنى تنوء بالعصبة تميلهم بثقلها، كما يقال يذهب بالبؤس، ويذهب
_________
(١) ينظر في هذين المثالين فإنه لا صلة لهما بقوله تعالى لتنوء لأنه من باب ناء ينوء لا من باب نأى ينأى أي: من باب نصر ينصر لا من باب فتح يفتح فليحرر. المطيعي.
148
البؤس، وذهبت به، وأذهبته، وجئت به، وأجأته ونؤت به، وأنأوته، اختار هذا النحاس، وبه قال كثير من السلف.
وقيل: هو مأخوذ من النأي، وهو البعد وهو بعيد. وقرئ لينوء بالتحتية أي لينوء الواحد منها، أو المذكور فحمل على المعنى أو التقدير حملها، أو ثقلها، وقيل الضمير في مفاتحه لقارون، فاكتسب المضاف من المضاف إليه التذكير، كقولهم: ذهبت أهل اليمامة قاله الزمخشري، والمراد بالعصبة الجماعة التي يتعصب بعضها لبعض، قيل: هي من الثلاثة إلى العشرة، وقيل من العشرة إلى الخمسة عشر، وقيل: ما بين العشرة إلى العشرين وقيل: من الخمسة إلى العشرة. وقيل: أربعون، وقيل: سبعون وقيل: غير ذلك. قال ابن عباس لا ترفعها العصبة من الرجال أولي القوة، والعصبة أربعون رجلاً.
(إذ قال له قومه لا تفرح) أي اذكر، والمراد بقومه هنا: هم المؤمنون من بني إسرائيل. وقال الفراء: هو موسى، وهو جمع أريد به الواحد، والمعنى لا تبطر، ولا تأشر، ولا تمرح بكثرة المال.
(إن الله لا يحب الفرحين) البطرين الأشرين، الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم، قال الزجاج: المعنى لا تفرح بالمال فإن الفرح بالمال لا يؤدي حقه. وقيل: المعنى لا تفسد، قال الزجاج: الفرحين والفارحين سواء، وقال الفراء: معنى الفرحين الذين هم في حال الفرح، والفارحين الذين يفرحون في المستقبل، وقال مجاهد: معنى لا تفرح لا تبغ، والفرحين الباغين. وقيل: معناه لا تبخل إن الله لا يحب الباخلين، وقال ابن عباس الفرحين المرحين، قيل: إنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن، وأما ْمن قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه يتركها عن قريب فلا يفرح بها.
149
(وابتغ فيما آتاك الله) أي واطلب فيما أعطاك الله من الأموال والثروة والغنى (الدار الآخرة) هي الجنة فأنفقه فيما يرضاه الله كصدقة وصلة رحم، وإطعام جائع، وكسوة عار، ونفقة على محتاج. لا في التجبر والبغي. وقرئ، واتبع.
149
(ولا تنس نصيبك من الدنيا) قال جمهور المفسرين: وهو أن يعمل في دنياه لآخرته، ونصيب الإنسان عمره وعمله الصالح، قال الزجاج: معناه لا تنس أن تعمل لآخرتك لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا الذي يعمل به لآخرته، وقال الحسن وقتادة: معناه لا تضع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال، وطلبك إياه، وهذا ألصق بمعنى النظم القرآني. وقال ابن عباس: إن تعمل فيها لآخرتك، وفسر بعضهم النصيب بالكفن، وعليه قول الشاعر:
نصيبك مما تجمع الدهر كله رداءآن تدرج فيهما وحنوط
وفسره البيضاوي بما يحتاج إليه منها، وفي الحديث: " اغتنم خمساً قبل خمس شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك " وهو مرسل. وهذا ما جرى عليه مجاهد، وابن زيد. وقيل: معناه خذ ما تحتاجه من الدنيا. وأخرج الباقي، وقيل: أمر أن يعدم الفضل ويمسك ما يغنيه.
(وأحسن كما أحسن الله إليك) الكاف للتشبيه، أي أحسن إحساناً كإحسان الله إليك، أو للتعليل، أي أحسن إلى عباد الله بما أنعم به عليك من نعم الدنيا لما أمره بالإحسان بالمال، أمره ثانياً بالإحسان مطلقاً. ويدخل فيه الإعانة بالمال والجاه، وطلاقة الوجه. وحسن اللقاء. وقيل أطع الله واعبده كما أنعم عليك، ويؤيده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما: إن جبريل سأل رسول الله - ﷺ - عن الإحسان فقال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
(ولا تبغ الفساد في الأرض) أي: لا تعمل فيها بمعاصي الله (إن الله لا يحب المفسدين) في الأرض يعني أنه يعاقبهم.
150
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (٨١)
151
(قال إنما أوتيته) أي المال (على علم عندي) قال قارون: هذه المقالة رداً على من نصحه بما تقدم. أي إنما أعطيت ما أعطيت من المال لأجل علمي. وليس تفضلاً. وهذا العلم الذي جعله سبباً لما ناله من الدنيا قيل هو علم التوراة وقيل علمه بوجوه المكاسب والزراعات، وأنواع التجارات، وقيل معرفة الكنوز والدفائن، وقيل علم الكيمياء، وقيل المعنى أن الله آتاني هذه الكنوز على علم منه باستحقاقي إياها لفضل علمه مني.
واختار هذا الزجاج، وأنكر ما عداه، ثم رد الله عليه قوله هذا فقال:
(أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً)؟ للمال ولو كان المال، أو القوة يدلان على فضيلة لما أهلكهم الله. وقيل القوة الآلات، والجمع الأعوان. وهذا الكلام خارج مخرج التقريع والتوبيخ لقارون، لأنه قد قرأ التوراة، وعلم علم القرون الأولى، وإهلاك الله سبحانه لهم، أو سمعه من حفاظ التواريخ قاله الكرخي.
(ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) أي لا يسألون سؤال استعتاب كما في قوله: ولا هم يستعتبون، وما هم من المعتبين، وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ ويحاسبون ويشدد
151
عليهم كما في قوله تعالى: فوربك لنسألنهم أجمعين، وقال مجاهد: لا تسأل الملائكة عن المجرمين لأنهم يعرفون بسيماهم، فإنهم يحشرون سود الوجوه، زرق العيون. وقال قتادة: لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم لظهورها وكثرتها، بل يدخلون النار بغير سؤال وحساب. وقيل لا يسأل مجرمو هذه الأمة عن ذنوب الأمم الخالية، أو المعنى يعترفون بها بغير سؤال وقيل: لا يسألهم الله عن كيفية ذنوبهم وكميتها إذا أراد أن يعاقبهم. قال ابن عادل: وأليق الوجوه بهذه الآية الاستعتاب.
152
(فخرج) قارون وكان خروجه يوم السبت (على قومه في زينته) أي بأتباعه الكثيرين، ركباناً متحلين بملابس الذهب والحرير، على خيول وبغال متحلية، قاله المحلي.
عن أوس بن أوس الثقفي عن النبي - ﷺ - قال: " خرج على قومه في أربعة آلاف بغل " (١). أخرجه ابن مردويه. وقد روى عن جماعة من التابعين أقوال في بيان ما خرج به على قومه من الزينة، ولا يصح منها شيء مرفوعاً، بل هي من أخبار أهل الكتاب كما عرفناك غير مرة، ولا أدري كيف إسناد هذا الحديث الذي رفعه ابن مردويه؟ فمن ظفر بكتابه فلينظر فيه. وقد ذكر المفسرون أيضاً في هذه الزينة التي خرج فيها روايات مختلفة، والمراد أنه خرج في زينة ابتهر لها من رآها، ولهذا تمنى الناظرون إليه أن يكون لهم مثلها كما حكى الله عنهم بقوله:
(قال الذين يريدون الحياة الدنيا) اختلف في هؤلاء القائلين بهذه المقالة فقيل: هم من مؤمني ذلك الوقت، تمنوا الدنيا ليتقربوا إلى الله تعالى، ولينفقوه في سبيل الخير، فتمنوا مثله لاعينه، حذراً من الحسد، وقيل: هم قوم من الكفار. (يا) للتنبيه (ليت لنا مثل ما أوتي قارون) في الدنيا (إنه لذو حظ عظيم) أي نصيب وبخت ودولة وافرة من الدنيا.
_________
(١) لا يصح مرفوعاً.
(وقال الذين أوتوا العلم) بما وعد الله في الآخرة، وهم أحبار بني إسرائيل، قالوا
152
للذين تمنوا (ويلكم) كلمة زجر منصوبة بمقدر، أي ألزمكم الله ويلكم، قاله الزمخشري، ومثله في التبيان، وأصل ويلك الدعاء بالهلاك، ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرضي.
(ثواب الله) في الآخرة بالجنة (خير لمن آمن وعمل صالحاً) مما أوتي قارون في الدنيا، لأن الثواب منافعه عظيمة، خالصة عن شوائب المضار دائمة، وهذه النعم على الضد في هذه الصفات فلا تتمنوا عرض الدنيا الزائل الذي لا يدوم، وهذا بيان للمفضل عليه.
(ولا يلقاها) أي هذه الكلمة التي تكلم بها الأحبار وقيل: الضمير يعود إلى الأعمال الصالحة، وقيل إلى الجنة، والمعنى لا يفهمها ويوقف عليها ويوفق للعمل لها (إلا الصابرون) على طاعة الله، والمصبرون أنفسهم عن الشهوات، الراضون بقضاء الله في كل ما قسم من المنافع والمضار.
153
(فخسفنا به) أي بقارون (وبداره الأرض) يقال خسف المكان يخسف خسوفاً ذهب في الأرض، وخسف به الأرض خسفاً أي غاب به فيها والمعنى أن الله غيبه، وغيب داره في الأرض.
(فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله) أي ما له جماعة يدفعون ذلك الخسف عنه (وما كان) هو في نفسه (من المنتصرين) أي من المنتقمين من موسى، أو من الممتنعين من عذاب الله يقال نصره من عدوه فانتصر، أي منعه منه فامتنع.
أخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس قال: " كان قارون ابن عم موسى، وكان يتبع العلم حتى جمع علماً، فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى وحسده، فقال له موسى: إن الله أمرني أن آخذ الزكاة فأبى، فقال إن موسى يريد أن يأكل أموالكم، جاءكم بالصلاة، وجاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحتملون أن تعطوه أموالكم؟ فقالوا: لا نحتمل! فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن أرسل إلى بغي من بغايا بني إسرائيل فنرسلها إليه
153
فترميه بأنه أرادها على نفسها، فأرسلوا إليها فقالوا لها: نعطيك جعلك على أن تشهدي على موسى أنه فجر بك! قالت: نعم فجاء قارون إلى موسى فقال: اجمع بني إسرائيل فاخبرهم بما أمرك ربك، قال نعم فجمعهم فقالوا له: ما أمرك ربك؟ قال: أمرني أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاًً. وأن تصلوا الرحم، وكذا، وكذا، وأمرني إذا زنى الرجل وقد أحصن أن يرجم، قالوا: وإن كنت أنت؟ قال: نعم، قالوا: فإنك قد زنيت، قال: أنا؟ فأرسلوا للمرأة فجاءت فقالوا: ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى: أنشدك بالله إلا ما صدقت، قالت: أما إذا أنشدتني بالله فإنهم دعوني، وجعلوا لي جعلاً على أن أقذفك بنفسي، وأنا أشهد أنك بريء، وأنك رسول الله، فخر موسى ساجداً يبكي، ويقول: يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي، فأوحى الله إليه ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض فمرها فتطيعك، فرفع رأسه فقال: خذيهم، فأخذتهم إلى أعقابهم، فجعلوا يقولون: يا موسى، يا موسى فقال: خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم، فجعلوا يقولون: يا موسى، يا موسى، فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم، فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى، فقال خذيهم فأخذتهم فغشيتهم فأوحى الله إليه: يا موسى سألك عبادي وتضرعوا إليك فلم تجبهم، وعزتي لو أنهم دعوني لأجبتهم. قال ابن عباس: وذلك قوله: فخسفنا به وبداره الأرض خسف به إلى الأرض السفلى. ذكره الخازن، والقرطبي، وغيرهما بألفاظ.
وعن النبي - ﷺ -: " من لبس ثوباً جديداً فاختال فيه خسف به من شفير جهنم، فهو يتجلجل فيها لا يبلغ قعرها، لأن قارون لبس جبة فاختال فيها فخسف الله به الأرض " رواه الحرث بن إسحاق من حديث ابن عباس وأبي هريرة بسند ضعيف جداً، قال الحافظ في الفتح: إن مقتضى هذا الحديث أن الأرض لا تأكل جسده فيمكن أن يلغز ويقال لنا: كافر لا يبلى جسده بعد الموت وهو قارون، ذكره ابن لقيمة، والتجلجل السوخ في الأرض، والتحرك والتضعضع، والجلجلة التحريك. قيل: إذا وصل قارون إلى قرار الأرض السابعة نفخ إسرافيل في الصور.
154
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (٨٦) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧)
155
(وأصبح) أي صار (الذين تمنوا مكانه) أي: منزلته ورتبته من الدنيا (بالأمس) أي منذ زمان قريب، ولم يرد خصوص اليوم الذي قبل يومه.
و (يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ) أي: يقول كل واحد منهم متندماً على ما فرط منه من التمني، قال النحاس: أحسن ما قيل في هذا ما قاله الخليل وسيبويه ويونس والكسائي: إن القوم تنبهوا فقالوا: وي، والمتندم من العرب يقول في خلال ندمه: وي، قال الجوهري: وي كلمة تعجب؛ ويقال: ويك، وقد تدخل وي على كأن المخففة والمشددة، ويكأن الله. قال الخليل: هي مفصولة تقول وي، ثم تبتدى فتقول: كأن، وقال الفراء: هي كلمة تقرير كقولك: أما نرى صنع الله وإحسانه، وقيل: هي كلمة تنبيه بمنزلة ألا، وقال قطرب: إنما هو ويلك فأسقطت لامه، وقال ابن الأعرابي والأخفش: معنى ويك أعلم، وقال القتيبي: معناها بلغة حمير رحمة لك؛ وقيل:
155
هي بمعنى ألم تر؟ وروي عن الكسائي أنه قال: هي كلمة تفجع، وقيل: معناها أظن وأقدر.
(يبسط) أي: يوسع (الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر) أي، ويضيق على من يشاء، والمعنى: ليس الأمر كما زعمنا من أن البسط ينبئ عن الكرامة، والقبض ينبىء عن الهوان، بل كل منهما بمقتضى مشيئته.
(لولا أن منّ الله علينا) برحمته بعدم إعطاء ما تمنيناه، وعصمنا من مثل ما كان عليه قارون من البطر والبغي (لخسف بنا) كما خسف به، قرئ مبنياً للفاعل وللمفعول (ويكأنه لا يفلح الكافرون) أي: لا يفوزون بمطلب من مطالبهم تأكيد لما قبله.
156
(تلك) التي سمعت بخبرها، وبلغك شأنها (الدار الآخرة) أي: الجنة والإشارة إليها القصد التعظيم لها، والتفخيم لشأنها (نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض) أي: رفعة وتكبراً على المؤمنين، وقيل: ظلماً، وقيل: استطالة على الناس، وتهاوناً بهم بالبغي.
(ولا فساداً) أي عملاً بمعاصي الله سبحانه فيها، كقتل النفس، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر أو دعاء إلى عبادة غير الله. ولم يعلق الموعد بترك العلو والفساد، ولكن بترك إرادتهما وميل القلوب إليهما، كما قال: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا، فعلق الوعيد بالركون.
وعن عمر بن عبد العزيز: أنه كان يرددها حتى قبض. وقال بعضهم: حقيقته التنفير عن متابعة فرعون وقارون متشبثاً بقوله: إن فرعون علا في الأرض، ولا تبغ الفساد في الأرض، وذِكر الفساد والعلو مُنَكَّرين في حيز النفي يدل على شمولهما لكل ما يطلق عليه أنه فساد، وأنه علو من غير تخصيص بنوع خاص؛ أما الفساد فظاهر أنه لا يجوز شيء منه كائناً ما كان وأما العلو فالممنوع منه ما كان على طريقة التكبر على الغير والتطاول على الناس؛ وليس منه طلب العلو في الحق والرياسة في الدين ولا محبة اللباس الحسن، والمركوب الحسن، والمنزل الحسن.
156
عن أبي هريرة عن رسول الله - ﷺ - في الآية قال: " التجبر في الأرض والأخذ بغير الحق "، أخرجه المحاملي والديلمي. وروى مثله عن مسلم البطين، وابن جرير، وعكرمة. وقال سعيد بن جبير بغياً في الأرض. وعن الحسن قال: هو الشرف والعلو عند ذوي سلطانهم. وأقول: إن كان ذلك للتقوى به على الحق فهو من خصال الخير لا من خصال الشر. وعن علي ابن أبي طالب قال: إن الرجل ليحب أن يكون شسع نعله أفضل من شسع نعل صاحبه فيدخل في هذه الآية.
قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكر هذه الرواية عن علي: وهذا محمول على من أحب ذلك لا بمجرد التجمل. فهذا لا بأس به، فقد ثبت أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أحب أن يكون ثوبي حسناً، ونعلي حسنة، أفمن الكبر ذلك؟ قال: " لا، إن الله جميل يحب الجمال ".
وعن علي بن أبي طالب قال: نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة، وأهل القدرة من سائر الناس، وعن ابن عباس مثله.
وعن عدي بن حاتم قال: لما دخل على النبي - ﷺ - ألقى إليه وسادة فجلس على الأرض فقال: " أشهد أنك لا تبغي علواً في الأرض ولا فساداً فأسلم " أخرجه ابن مردويه.
(والعاقبة) المحمودة (للمتقين) أي لمن اتقى عقاب الله بأداء أوامره واجتناب نواهيه، وقيل: عاقبة المتقين الجنة.
157
(من جاء) يوم القيامة متصفاً (بالحسنة) بأن كان من المؤمنين، والحسنة ما يحمد فاعلها شرعاً، وسميت حسنة لحسن وجه صاحبها عند رؤيتها في القيامة، والمراد الحسنة المقبولة الأصلية المعمولة للعبد أو ما في حكمها، كما لو تصدق عنه غيره، لا المأخوذة في نظير ظلامتهم، كما لو ضرب زيد عمراً ضربة، وكان لزيد حسنات موجودة فيؤخذ منها فيعطى لعمرو، فهذه الحسنة لا تنسب لعمرو، لا حقيقة ولا حكماً فلا تضاعف له. وخرج بالمعمولة ما لو هم بحسنة فلم يعملها لمانع، فإنها تكتب له واحدة،
157
ويجازى عليها من غير تضعيف.
(فله خير منها) وهو أن الله يجازيه بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والتضعيف خاص بهذه الأمة، وأما غير هذه الأمة من بقية الأمم فلا تضعيف لهم، والصواب دخول المضاعفة في حسنات العصاة إن كانت على وجه يتناوله القبول بأن يعملها على وجه لا رياء فيه ولا سمعة، وعدم دخولها في أعمال الكفار لأنه لا يجتمع مع الكفر طاعة مقبولة، إن لم يسلم، وإلا فتكون كالمقبولة في الإسلام، ولا تضاعف الحسنات الحاصلة بالتضعيف.
(ومن جاء بالسيئة فلا يجزى) معناه فلا يجزون فوضع (الذين عملوا السيئات) موضع الضمير لأن في إسناد عمل السيئة إليهم مكرراً فضل تهجين لحالهم، وزيادة تبغيض للسيئة إلى قلوب السامعين، والسيئة هي ما يذم فاعلها شرعاً صغيرة كانت أو كبيرة، وسميت سيئة لأن فاعلها يساء بها عند المجازاة عليها (إلا) مثل (ما كانوا يعملون) وحذف المثل، وأقيم مقامه ما كانوا الخ مبالغة في المماثلة، ومن فضله العظيم أن لا يجزي السيئة إلا بمثلها، ويجزي الحسنة بعشرة أمثالها وبسبعمائة، وقد تقدم بيان معنى هذه الآية في سورة النمل.
158
(إن الذي فرض عليك القرآن) قال المفسرون: أي أنزل عليك، وقال الزجاج: فرض عليك العمل بما يوجبه القرآن، وتقدير الكلام فرض عليك أحكام القرآن وفرائضه. وقيل: أوجب عليك تلاوته وتبليغه، والعمل بما فيه، عن علي بن حسين بن واقد قال: " أنزلت هذه الآية على رسول الله - ﷺ - بالجحفة حين خرج - ﷺ - مهاجراً إلى المدينة " فليست مكية ولا مدنية، كما مر في أول السورة (لرادك إلى معاد) قال جمهور المفسرين: أي إلى مكة وهذا أقرب التفاسير؛ وبه قال ابن عباس كما أخرجه البخاري عنه، وزاد كما أخرجك منها.
قال القتيبي: معاد الرجل بلده لأنه ينصرف فيعود إلى بلده، وقال مجاهد، وعكرمة، والزهري، والحسن: إن المعنى لرادك إلى يوم القيامة وهو
158
اختيار الزجاج، يقال بيني وبينك المعاد: أي يوم القيامة لأن الناس يعودون فيه أحياء وقال أبو مالك، وأبو صالح: لرادك إلى الجنة وبه قال أبو سعيد الخدري؛ وروي عن مجاهد. وقيل إلى معاد أي إلى الموت.
(قل ربي أعلم من جاء بالهدى) وهو النبي - ﷺ - لأنه الجائي به (ومن هو في ضلال مبين) وهم المشركون، وهذا جواب لكفار مكة لما قالوا للنبي - ﷺ - إنك في ضلال والأولى حمل الآية على العموم، وأن الله سبحانه يعلم حال كل طائفة من هاتين الطائفتين، ويجازيها بما تستحقه من خير وشر.
159
(وما كنت) قبل مجيء الرسالة إليك (ترجو) وتؤمل أن نرسلك إلى العباد، و (أن يلقى إليك الكتاب) فإنزاله عليك ليس عن ميعاد، ولا عن طلب سابق منك، وهذا تذكير له - ﷺ - بالنعم، والاستثناء في قوله: (إلا رحمة من ربك) منقطع، أي: لكن إلقاؤه عليك رحمة من ربك، أو متصل حملاً على المعنى كأنه قيل: وما ألقى إليك الكتاب إلا لأجل الرحمة من ربك والأول أولى، وبه جزم الكسائي؛ والفراء، ثم أمره الله بخمسة أشياء فقال: (فلا تكونن ظهيراً للكافرين) أي: عوناً لهم، وفيه تعريض بغيره من الأمة، وقيل: المراد لا تكونن ظهيراً لهم بمداراتهم.
(ولا يصدنك) قرئ من (١) صده يصده، ومن أصده بمعنى صده والمعنى لا يمنعنك يا محمد الكافرون، وأقوالهم، وكذبهم، وأذاهم (عن آيات الله) أي: عن تلاوتها، والعمل بها وتبليغها (بعد إذ أنزلت إليك) أي بعد إذ أنزلها الله إليك وفرضت عليك.
(وادع) الناس (إلى ربك) أي: إلى الله وإلى توحيده، والعمل بفرائضه واجتناب معاصيه (ولا تكونن من المشركين) بإعانتهم، وفيه تعريض بغيره، كما تقدم لأنه - ﷺ - لا يكون منهم بحال من الأحوال وكذلك قوله:
_________
(١) القراءة الأولى هي قراءة الجمهور أما القراءة الأخرى فهي بضم المثناة التحتية وكسر الصاد المهملة. المطيعي.
وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)
(ولا تدع مع الله إلهاً آخر) فإنه تعريض بغيره، ثم وحد سبحانه نفسهٍ ووصفها بالبقاء والدوام فقال: (لا إله إلا هو كل شيء) من الأشياء كائنا ما كان.
(هالك) في حد ذاته، لأن وجوده ليس ذاتياً، بل لاستناده إلى واجب الوجود، فهو بالقوة وبالذات معدوم حالاً، والمراد بالمعدوم ما ليس له وجود ذاتي، لأن وجوده كلا وجود، وأما حمل هالك على المستقبل فكلام ظاهري قاله الشهاب.
(إلا وجهه) أي: إلا ذاته. قال الزجاج: وجهه منصوب على الاستثناء ولو كان في غير القرآن كان مرفوعاً، بمعنى كل شيء غير وجهه هالك، وقضية الاستثناء إطلاق الشيء على الله تعالى، وهو الصحيح، لأن المستثنى داخل في المستثنى منه، وإنما جاء على عادة العرب في التعبير بالأشرف على الجملة ومن لم يطلقه عليه جعله متصلاً أيضاً، وجعل الوجه ما عمل لأجله سبحانه، فإن ثوابه باق قاله الكرخي.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: " لما نزلت كل من عليها فإن قالت الملائكة: هلك أهل الأرض فلما نزلت كل نفس ذائقة الموت، قالت الملائكة: هلك كل نفس، فلما نزلت كل شي هالك إلا وجهه قالت الملائكة: هلك أهل السماء والأرض ". وعنه قال: إلا ما أريد به وجهه، والمستثنى من الهلاك والفناء ثمانية أشياء نظمها السيوطي في قوله:
ثمانية حكم البقاء يعمها من الخلق والباقون في حيز العدم
هي العرش، والكرسي ونار، وجنة وعجب وأرواح، كذا اللوح والقلم (له الحكم) أي القضاء النافذ يقضي بما شاء ويحكم بما أراد (وإليه) أي إلى جزائه، أو إليه وحده (ترجعون) في جميع أحوالكم في الدنيا وعند البعث ليجزي المحسن بإحسانه والمسيىء بإساءته لا إلى غيره سبحانه وتعالى.
160

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة العنكبوت
(هي تسع وتسعون آية قيل: مكية كلها)
قاله: ابن عباس، وابن الزبير، والحسن، وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد وقيل: أنها مدنية كلها، وهو أحد قولي ابن عباس، وقتادة، وهو قول يحيى بن سلام.
وعن علي بن أبي طالب قال: نزلت بين مكة والمدينة وهذا قول ثابت.
وأخرج الدارقطني في السنن عن عائشة أن رسول الله - ﷺ - كان يصلي في كسوف الشمس والقمر أربع ركعات وأربع سجدات يقرأ في الركعة الأولى العنكبوت أو الروم، وفي الثانية يس.
161

بسم الله الرحمن الرحيم

الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢)
163
Icon