﴿ وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً ﴾ [ النساء : ١٦٤ ].
فالجواب : من وجهين :
أحدهما : أَنَّهُ ليس في قِصَّة إبليس ما يدلُّ على أَنَّ الله تعالى قال في تلك الأجوبة معه من غير واسطة، فلعلَّ الواسطة كانت موجودة.
الثاني : هَبْ أَنَّهُ كان من غير واسطةٍ، ولكن مكالمة بالطَّرد واللَّعن فإِنَّ الله يكلِّم خاصَّتَهُ بما يحبُّونَ من التَّقرُّب والإكرام، ويكلّم من يَهينُهُ بالطَّرْدِ واللَّعْنِ والكلام الموحش فإنه وإِن كان منهما مكالمة لكن إحداهما توجب التَّقرُّبَ والتَّشريف والإكرام، والأخرى تُوجِبُ البُعدَ، والإِهانة والطَّرد.
قوله :﴿ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾.
في نصبه ستَّةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحال.
الثاني : أَنَّهُ حالٌ على حذفِ مُضَافٍ، أي : ذوي درجاتٍ.
الثالث : أَنَّهُ مفعولٌ ثانٍ ل « رفع » على أَنَّهُ ضُمِّنَ معنى بلَّغ بعضهم درجات.
الرابع : أنه بدلُ اشتمالٍ، أي : رفع درجاتٍ بعضهم، والمعنى : على درجاتِ بعض.
الخامس : أنه مصدرٌ على معنى الفعل لا لفظه؛ لأَنَّ الدّرجة بمعنى الرَّفعة، فكأنه قيل : ورَفَع بعضهم رَفعاتٍ.
السادس : أنه على إِسْقاط الخافضِ، وذلك الخافضُ يَحْتمل أن يَكُون « عَلَى » أو « فِي »، أو « إلى » تقديره : على درجاتٍ أو في درجاتٍ أو إلى درجات، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجر انتصَبَ ما بعده.

فصل في المراد بالدَّرجات


في تلك الدَّرجات وجوهٌ :
أحدها : أَنَّ المُراد منه بيان أَنَّ مراتِب الرُّسل، ومناصبهم متفاوتة؛ وذلك لأَنَّه تعالى اتَّخَذ إبراهيم خَلِيلاً، ولم تكن هذه الفضيلة لغيره وجمع لِدَاوُد بين المُلْكِ، والنُّبوَّةِ، ولم يحصل هذا لغيره، وسخَّر لِسُليمان الجِنّ والإنس، والطير، والريح، ولم يحصل هذا لأبيه داود، وخصّ محمداً - ﷺ - بأَنَّه مبعوث إِلى الجن والإنس، وبِأَنَّ شرعه نسخ سائِرَ الشَّرائع.
الثاني : أَنَّ المراد منه المعجزات، فَإِنَّ كل واحد من الأَنبياء أوتي نوعاً آخر من المعجزات على ما يَليقُ بزمانه، فمعجزات موسى هي قلب العصا حيّة، واليد البيضاء، وفلق البحر كان كالشّبيه بما كان أهل ذلك العصر مُتقدّمين فيه، وهو السّحر. ومعجزات عيسى، وهي إِبراءُ الأَكمه، والأَبْرَص، وإِحياء الموتى كالشَّبيه بما كان أهل ذلك العصر مُتقدِّمين فيه، وهو الطِّبُّ.
ومعجزة محمد - ﷺ - وهي القرآن كانت من جنس الفصاحة، والبلاغة والخطَب، والأَشعارِ، وبالجملة فالمعجزاتُ متفاوتةٌ بالقلَّةِ والكثرة وعدم البقاء، وبالقوة وعدم القُوَّةِ.
الثالث : أن المراد بتفاوت الدّرجات ما يتعلّق بالدُّنيا من كثرة الأَتباع والأصحاب وقوَّة الدَّولة، وإذا تَأَمَّلْتَ هذه الوجوه؛ علمت أَنَّ محمداً - ﷺ - كان جامعاً لِلْكُلِّ، فمنصبه أعلى ومعجزاته أبقى، وأقوى، وقومه أكثر، ودولتُهُ أعظمُ وأوفر.
الرابع : أَنَّ المراد بقوله :﴿ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾ هو محمَّد - ﷺ -؛ لأنَّه هو المفضل على الكُلّ، وإنما قال « وَرَفَعَ بَعْضَهُم » على سبيل الرَّمْزِ، لمن فعل فعلاً عظيماً فيقال له : من فعل هذا الفعل؛ فيقول : أحدكم، أو بعضكم، ويرِيدُ به نفسهُ وذلك أفخمُ من التَّصريح به، وقد سُئِل الحُطَيئَةُ عن أَشعرِ النَّاسِ، فذكر زهيراً، والنَّابغة، ثم قال :« ولو شئت لذكرت الثَّالِث » أراد ن فسه.


الصفحة التالية