وهذا لا حاجةَ إليه، بل التسبب فيها ظاهرٌ؛ تسبب عن قولهم :﴿ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ ﴾ طلبهم وقاية النار.
وقيل : هي لترتيب السؤالِ على ما تضمنه ﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ من معنى الفعل، أي : سبحانك فقنا. وأبْعَد مَنْ ذَهَب إلى أنها للترتيب على ما تضمنه النداء.

فصل


قالتِ المعتزلةُ : دلَّتْ هذه الآيةُ على أنَّ كلَّ ما يفعله الله تعالى، فهو إنما يفعله لغرض الإحسان إلى العبيد، ولأجل الحكمة، والمراد منها رعاية مصالح العباد، قالوا : لأنه لو لم يخلق السمواتِ والأرضَ لغرض كان خلقهما باطلاً، وذلك ضد هذه الآية، قالوا : وقوله :﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ تنزيهٌ له عن خَلْقِه لهما باطلاً.
وأجابَ الواحدي : بأنّ الباطل هو الذاهبُ الزائلُ؛ الذي لا يكون له قوةٌ ولا صلابةٌ ولا بقاءٌ، وخَلْق السمواتِ والأرض مُحْكَمٌ، مُتْقَنٌ، ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتِ فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ ﴾ [ الملك : ٣ ] ؟ وقوله :﴿ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ﴾ [ النبأ : ١٢ ]. فكان المرادُ من قوله :﴿ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ﴾ هذا المعنى، لا ما ذكره المعتزلة.
فإن قيل : هذا الوجهُ مدفوعٌ بوجوهٍ :
الأول : لو كان المرادُ بالباطلِ : الرخو، المتلاشي؛ لكان قوله :﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ تنزيهاً لهُ أنْ يخلق مثل الخلق، وذلك باطلٌ.
الثاني : أنه إنما يحسن وصل قوله :﴿ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ به إذا حملناه على المعنى الذي ذكرناه؛ لأن التقدير : ما خلقته باطلاً بغير حكمةٍ، بل خلقته بحكمةٍ عظيمةٍ. فعلى قولنا يحسن النظم، وعلى قولكم بشدة التركيب لم يحسن النَّظمُ.
الثالثُ : أنه -تعالى- ذكر هذا في آيةٍ أخْرى، فقال :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ ﴾ [ ص : ٢٧ ] وقال في آية أخرى :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بالحق ﴾ [ الدخان : ٣٨- ٣٩ ] وقال :﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى الله الملك الحق ﴾ [ المؤمنون : ١١٥ و ١١٦ ]. أي : فتعالى الملك الحقُّ على أنْ يكونَ خلقه عَبَثاً، وإذا لم يكن عبثاً فامتناعُ كونِهِ باطلاً أولَى.
فالجواب : أنّ بديهةَ العقلِ شاهدةٌ بأنّ الموجودَ إما واجبٌ لذاته، وإما ممكن لذاته، وشاهدة بانّ كلَّ ممكنٍ لذاته فإنه لا بد وأن ينتهي في رجحانه إلى الواجب لذاته، وإذا كان كذلك وجب أن يكونَ الخير والشر بقضاء اللهِ، وإذا كان كذلك امتنع أن يكونَ المرادُ من الآية تعليلُ أفعالِ اللهِ -تعالى- بالمصالح وأما قوله : لو كان كذلك لكان قوله :﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ تنزيهاً عن فعل ما لا شدة فيه ولا صلابة، وذلك باطلٌ، فجوابُهُ : لِمَ لا يجوز أن يكون المرادُ : ربنا ما خلقت هذا رخواً فاسدَ التركيب، بل خلقته صلباً محكماً؟ وقوله :﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ معناه : أنك إن خلقت السمواتِ والأرضَ صلبةً، شديدةً، باقيةً، فأنت منزهٌ عن الاحتياج إليه والانتفاع به.


الصفحة التالية