قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾ ؛ أكلُ المالِ بالباطلِ على وجهين ؛ أحدُهما : أخذهُ على وجهِ الظُّلم بالغصب والخيانة وشهادةِ الزُّور واليمينِ الفاجرة ؛ والثانِي : أخذهُ من جهات محظورةٍ مع رضاءِ صاحبه ؛ مثل القمار وأجرةِ الغناء والملاهي والنائحةِ وثَمن الخمر والخنْزير والرِّبا وأشباهِ ذلك. ومعنى الآيةِ : ولا يأكلُ بعضكم أموالَ بعضٍ بالباطل ؛ أي من غيرِ الوجهِ الذي أباحهُ الله تعالى. وأصلُ الباطل : الشيءُ الذاهبُ الزائل ؛ يقال : بَطَلَ يَبْطُلُ بُطُولاً وَبُطْلاَناً ؛ إذا ذهبَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ ﴾ ؛ أي ولا تظهروا حجَّتكم للحكام بالباطل، فيحكمُ الحاكم في الظاهرِ مع عِلْمِ المحكوم له أنه غير مستحقٍّ في الباطنِ. وأصلُ الإدلاء : هو إرسالهُ الدلوَ في البئر ؛ يقال : أدلَى دلوهُ ؛ إذا أرسَلها، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ فَأَدْلَى دَلْوَهُ ﴾[يوسف : ١٩] ودلاَّها يَدْلُوهَا ؛ إذا أخرجَها ثم جعل كلَّ إلقاءِ قولٍ أو فعلٍ إدْلاءً، ومنه قِيْلَ للمحتجِّ بدعواهُ : أدلَى بحجَّته ؛ لأن الحجَّةَ سببُ وصولهِ إلى دعواهُ كالدلوِ سببُ وصوله إلى الماءِ.
واختلف النحاةُ في مَحَلِّ قولهِ :﴿ وَتُدْلُواْ بِهَا ﴾ قال بعضُهم : الجزم لتَكَرُّر حرف النهي ؛ أي لا تأكلوا ولا تدلوا وكذلك هو في حرف أُبَي بإثبات (لاَ). وقيل : هو نصبٌ على الظَّرفِ كقول الشاعرِ : لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ عَارٌ عَلَيكَ إنْ فَعَلْتَ عَظِيمُوَقَِيْلَ : نُصِبَ بإضمار (إنْ) المخفَّفة. وقال الأخفشُ :(نُصِبَ عَلَى الْجَوَاب بالْوَاو).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ أي لتأكلوا طائفةً من أموالِ الناس بالظلم والجور وأنتم تعلمون أنكم مبطلونَ في دعواكم. قال ابنُ عباس :(هَذَا فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ مَالٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيْهِ بَيِّنَةٌ ؛ فَيَجْحَدُ الْمَالَ وَيُخَاصِمُهُمْ فِيْهِ إلَى الْحُكَّامِ ؛ وَهُوَ يَعْرِفُ أنَّ الْحَقَّ عَلَيْهِ وَيَعْلَمُ أنَّهُ إثْمٌ أكْلُ حَرَامٍ). وقال مجاهدُ :(مَعْنَى الآيَةِ : لاَ تُخَاصِمْ وَأَنْتَ ظَالِمٌ). وقال الحسنُ :(هُوَ أنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ عَلَى صَاحِبهِ حَقٌّ ؛ فَإذَا طَالَبَهُ بهِ دَعَاهُ إلَى الْحَاكِمِ ؛ فَيَحْلِفُ لَهُ وَيَذْهَبُ بحَقِّهِ). وقال الكلبيُّ :(هُوَ أنْ يُقِيْمَ شَهَادَةَ الزُّور). وقال شُريح لبعض الخصومِ :(إنِّي أقْضِي لَكَ وَأنَا أظُنُّكَ ظَالِماً ؛ وَلاَ يَسَعُنِي إلاَّ أنْ أقْضِيَ بمَا يَحْضُرُنِي مِنَ الْبَيِّنَةِ ؛ وَإنَّ قَضَائِي لاَ يُحِلُّ لَكَ حَرَاماً).
وعن أبي هريرةَ ؛ قال : قال رسولُ الله ﷺ :" إنَّمَا أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ يَكُونُ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بشَيْءٍ مِنْ مَالِ أخِيْهِ فَإنَّمَا أقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ ".


الصفحة التالية