البحث الرابع : قوله :﴿تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ يدل على أن هذا الكلام مستكره جداً عند العقل ؛ كأنه يقول : هذا الذي يقولونه لا يحكم به عقلهم وفكرهم ألبتة لكونه في غاية الفساد والبطلان، فكأنه شيء يجري به لسانهم على سبيل التقليد، لأنهم مع أنها قولهم عقولهم وفكرهم تأباها وتنفر عنها ثم قال تعالى :﴿إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا﴾ ومعناه ظاهر، واعلم أن الناس قد اختلفوا في حقيقة الكذب.
فعندنا أنه الخبر الذي لا يطابق المخبر عنه سواء اعتقد المخبر أنه مطابق أم لا ؟ ومن الناس من قال شرط كونه كذباً أن لا يطابق المخبر عنه مع علم قائله بأنه غير مطابق، وهذا القيد عندنا باطل، والدليل عليه هذه الآية فإنه تعالى وصف قولهم بإثبات الولد لله بكونه كذباً، مع أن الكثير منهم يقول ذلك، ولا يعلم كونه باطلاً، فعلمنا أن كل خبر لا يطابق المخبر عنه فهو كذب سواء علم القائل بكونه مطابقاً أو لم يعلم، ثم قال تعالى :﴿فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ على ءاثارهم إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً﴾ وفيه مباحث :
البحث الأول : المقصود منه أن يقال للرسول : لا يعظم حزنك وأسفك بسبب كفرهم فإنا بعثناك منذراً ومبشراً فأما تحصيل الإيمان في قلوبهم فلا قدرة لك عليه.
والغرض تسلية الرسول ﷺ عنه.
البحث الثاني : قال الليث : بخع الرجل نفسه إذا قتلها غيظاً من شدة وجده بالشيء.
وقال الأخفش والفراء أصل البخع الجهد.
يقال : بخعت لك نفسي أي جهدتها، وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت عمر فقالت : بخع الأرض أي جهدها حتى أخذ ما فيها من أموال الملوك.
وقال الكسائي : بخعت الأرض بالزراعة إذا جعلتها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة وبخع الرجل نفسه إذا نهكها وعلى هذا معنى :﴿باخع نَّفْسَكَ﴾ أي ناهكها وجاهدها حتى تهلكها ولكن أهل التأويل كلهم قالوا : قاتل نفسك ومهلكها والأصل ما ذكرناه، هكذا قال الواحدي.